البداية والنهاية، ط. دار الفكر
سَنَةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ
النَّبَوِيَّةِ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَجُيُوشُ الصِّدِّيقِ وَأُمَرَاؤُهُ
الَّذِينَ بَعَثَهُمْ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ جَوَّالُونَ فِي
الْبِلَادِ يَمِينًا وَشِمَالًا، لِتَمْهِيدِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ
وَقِتَالِ الطُّغَاةِ مِنَ الْأَنَامِ، حَتَّى رُدَّ شَارِدُ الدِّينِ
بَعْدَ ذَهَابِهِ، وَرَجَعَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، وَتَمَهَّدَتْ
جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، وَصَارَ الْبَعِيدُ الْأَقْصَى كَالْقَرِيبِ
الْأَدْنَى، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ السِّيَرِ
وَالتَّوَارِيخِ: إِنَّ وَقْعَةَ الْيَمَامَةِ كَانَتْ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي
أَوَاخِرِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ
ابْتِدَاءَهَا كَانَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَانْتِهَاءَهَا
وَقَعَ في هذه السنة الآتية، وعلى هذا القول يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرُوا
فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ
قُتِلُوا فِي الْمَاضِيَةِ، وَمُبَادَرَةً إِلَى اسْتِيفَاءِ
تَرَاجِمِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُذْكَرُوا مَعَ مَنْ قُتِلَ بِالشَّامِ
وَالْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ
وَقْعَةَ جواثا وَعُمَانَ وَمَهْرَةَ وَمَا كَانَ مِنَ الْوَقَائِعِ
الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا إِنَّمَا كَانَتْ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْ
عشرة وفيها كان قتل الملوك الأربعة حمد ومحرس وأبضعة ومشرحا،
وَأُخْتُهُمْ الْعَمَرَّدَةُ الَّذِينَ وَرَدَ الْحَدِيثُ فِي مُسْنَدِ
أَحْمَدَ بِلَعْنِهِمْ. وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُمْ زِيَادُ بْنُ لبيد
الأنصاري.
بَعْثُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْعِرَاقِ
لَمَّا فَرَغَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنَ الْيَمَامَةِ، بَعَثَ
إِلَيْهِ الصِّدِّيقُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَنْ يَبْدَأَ
بِفَرْجِ الْهِنْدِ، وَهِيَ الْأُبُلَّةُ، وَيَأْتِي الْعِرَاقَ مِنْ
أَعَالِيهَا، وَأَنْ يَتَأَلَّفَ النَّاسَ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ أَجَابُوا وَإِلَّا أَخَذَ منهم الجزية
فان امتنعوا عن ذلك قاتلهم، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُكْرِهَ أَحَدًا
عَلَى الْمَسِيرِ مَعَهُ، وَلَا يَسْتَعِينَ بِمَنِ ارْتَدَّ عَنِ
الْإِسْلَامِ وإن كان عَادَ إِلَيْهِ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ
كُلَّ امْرِئٍ مَرَّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَشَرَعَ أَبُو بَكْرٍ
فِي تَجْهِيزِ السَّرَايَا وَالْبُعُوثِ وَالْجُيُوشِ إِمْدَادًا
لِخَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ اخْتُلِفَ فِي
خَالِدٍ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: مَضَى مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ مِنَ
الْيَمَامَةِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: رَجَعَ مِنَ
الْيَمَامَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ سَارَ إِلَى الْعِرَاقِ مِنَ
الْمَدِينَةِ فَمَرَّ عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى
الْحِيرَةِ. قُلْتُ:
وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ
بِإِسْنَادِهِ أَنَّ خَالِدًا تَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ فِي
الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، فَجَعَلَ طَرِيقَهُ
الْبَصْرَةَ وَفِيهَا قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ
الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ. وَقَالَ محمد بن
(6/342)
إِسْحَاقَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ:
إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ إِلَى خَالِدٍ أَنْ يَسِيرَ إِلَى
الْعِرَاقِ فَمَضَى خَالِدٌ يُرِيدُ الْعِرَاقَ حَتَّى نَزَلَ
بِقُرَيَّاتٍ مِنَ السَّوَادِ يُقَالُ لَهَا بَانِقْيَا وَبَارُوسْمَا،
وَصَاحِبُهَا جَابَانُ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا. قُلْتُ: وَقَدْ قَتَلَ
مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الصُّلْحِ خَلْقًا كَثِيرًا. وَكَانَ
الصُّلْحُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ دِينَارٍ، فِي رَجَبٍ،
وَكَانَ الَّذِي صَالَحَهُ بُصْبُهْرَى بْنُ صَلُوبَا، وَيُقَالُ
صَلُوبَا بْنُ بُصْبُهْرَى، فَقَبِلَ مِنْهُمْ خَالِدٌ وَكَتَبَ لَهُمْ
كِتَابًا، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى نَزَلَ الْحِيرَةَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ
أَشْرَافُهَا مَعَ قَبِيصَةَ بْنِ إِيَاسِ بْنِ حَيَّةَ الطَّائِيِّ
وَكَانَ أَمَّرَهُ عَلَيْهَا كِسْرَى بَعْدَ النُّعْمَانِ بْنِ
الْمُنْذِرِ فَقَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ
وَإِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَيْهِ فَأَنْتُمْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ لَكُمْ مَا لَهُمْ وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ
أَبَيْتُمْ فَالْجِزْيَةُ فأن أبيتم فَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِأَقْوَامٍ
هُمْ أَحْرَصُ عَلَى الْمَوْتِ مِنْكُمْ عَلَى الْحَيَاةِ،
جَاهَدْنَاكُمْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.
فَقَالَ لَهُ قَبِيصَةُ: مَا لَنَا بحر بك مِنْ حَاجَةٍ بَلْ نُقِيمُ
عَلَى دِينِنَا وَنُعْطِيكُمُ الْجِزْيَةَ. فَقَالَ لَهُمْ خَالِدٌ:
تَبًّا لَكُمْ إِنَّ الْكُفْرَ فَلَاةٌ مُضِلَّةٌ، فَأَحْمَقُ
الْعَرَبِ مَنْ سَلَكَهَا، فلقيه رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَرَبِيٌّ
وَالْآخَرُ أَعْجَمِيٌّ فَتَرَكَهُ [1] وَاسْتَدَلَّ بِالْعَجَمِيِّ،
ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى تِسْعِينَ أَلْفًا، وَفِي رِوَايَةٍ مِائَتَيْ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَكَانَتْ أَوَّلَ جِزْيَةٍ أُخِذَتْ مِنَ الْعِرَاقِ
وَحُمِلَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ هِيَ وَالْقُرَيَّاتُ قَبْلَهَا الَّتِي
صَالَحَ عَلَيْهَا ابْنُ صَلُوبَا. قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ مَعَ نَائِبِ
كِسْرَى عَلَى الحيرة ممن وفد إلى خالد عمرو بن عبد المسيح بن حبان
بْنِ بُقَيْلَةَ [2] ، وَكَانَ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَقَالَ لَهُ
خَالِدٌ:
مِنْ أَيْنَ أَثَرُكَ؟ قَالَ: مِنْ ظَهْرِ أَبِي، قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ
خَرَجْتَ؟ قَالَ: مِنْ بَطْنِ أُمِّي، قَالَ: وَيَحَكَ عَلَى أَيِّ شيء
أنت؟ قال: على الأرض، قال: ويحك وَفِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ؟ قَالَ: فِي
ثِيَابِي، قَالَ: وَيَحَكَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ؟ قَالَ: على
الأرض، قال: ويحك وَفِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ؟ قَالَ: فِي ثِيَابِي،
قَالَ: وَيَحَكَ تَعْقِلُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَأُقَيِّدُ، قَالَ: إِنَّمَا
أَسْأَلُكَ، قَالَ: وَأَنَا أُجِيبُكَ، قَالَ: أَسِلْمٌ أَنْتَ أَمْ
حَرْبٌ؟ قَالَ:
بَلْ سِلْمٌ، قَالَ: فَمَا هَذِهِ الْحُصُونُ الَّتِي أَرَى؟ قَالَ:
بَنَيْنَاهَا لِلسَّفِيهِ نَحْبِسُهُ حَتَّى يَجِيءَ الْحَلِيمُ
فَيَنْهَاهُ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْجِزْيَةِ
أَوِ الْقِتَالِ، فَأَجَابُوا إِلَى الْجِزْيَةِ بِتِسْعِينَ أَوْ
مِائَتَيْ أَلْفٍ كما تقدم ثم بعث خالد ابن الْوَلِيدِ كِتَابًا إِلَى
أُمَرَاءِ كِسْرَى بِالْمَدَائِنِ وَمَرَازِبَتِهِ وَوُزَرَائِهِ،
كَمَا قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ عَنْ
مَجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَقْرَأَنِي بَنُو بُقَيْلَةَ
كِتَابَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إلى أهل المدائن: من خالد ابن
الْوَلِيدِ إِلَى مَرَازِبَةِ أَهْلِ فَارِسَ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ
اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَالْحَمْدُ للَّه الّذي فضّ خدمكم
وسلب ملككم ووهّن كيدكم، وان مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ
قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فذلكم الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ مَا
لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا، أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا جَاءَكُمْ
كِتَابِي فَابْعَثُوا إلى بالرّهن واعتقدوا منى الذمة، وإلا فو الّذي
لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ قَوْمًا يُحِبُّونَ
الموت كما تحبون أنتم الحياة. فلما قرءوا الْكِتَابَ أَخَذُوا
يَتَعَجَّبُونَ. وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عن طليحة الأعلم عن
المغيرة بن عيينة- وَكَانَ قَاضِي أَهْلِ الْكُوفَةِ- قَالَ: فَرَّقَ
خَالِدٌ مَخْرَجَهُ مِنَ الْيَمَامَةِ إِلَى الْعِرَاقِ جُنْدَهُ
ثَلَاثَ فرق، ولم يحملهم على طريق
__________
[1] كذا بالأصل.
[2] في تاريخ الطبري: عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة.
(6/343)
وَاحِدَةٍ، فَسَرَّحَ الْمُثَنَّى قَبْلَهُ
بِيَوْمَيْنِ وَدَلِيلُهُ ظَفَرٌ، وَسَرَّحَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ
وَعَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو، وَدَلِيلَاهُمَا مَالِكُ بْنُ عَبَّادٍ
وَسَالِمُ بْنُ نَصْرٍ، أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بِيَوْمٍ،
وَخَرَجَ خَالِدٌ- يَعْنِي فِي آخِرِهِمْ- وَدَلِيلُهُ رَافِعٌ
فَوَاعَدَهُمْ جَمِيعًا الْحَفِيرَ لِيَجْتَمِعُوا بِهِ، وَيُصَادِمُوا
عَدُوَّهُمْ، وَكَانَ فَرْجُ الْهِنْدِ أعظم فروج فارس بأسا وأشدها
شوكة، وكان صاحبه يحارب فِي الْبَرِّ وَالْهِنْدَ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ
هُرْمُزُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ فَبَعَثَ هُرْمُزُ بِكِتَابِ
خَالِدٍ إِلَى شِيرَى بْنِ كِسْرَى، وَأَرْدَشِيرَ بْنِ شِيرَى،
وَجَمَعَ هُرْمُزُ، وَهُوَ نَائِبُ كِسْرَى جُمُوعًا كَثِيرَةً وَسَارَ
بِهِمْ إِلَى كَاظِمَةَ، وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ قُبَاذُ وأنوشجان-
وهما من بيت الملك- وقد تفرق الْجَيْشُ فِي السَّلَاسِلِ لِئَلَّا
يَفِرُّوا، وَكَانَ هُرْمُزُ هَذَا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ طَوِيَّةً
وَأَشَدِّهِمْ كُفْرًا، وَكَانَ شَرِيفًا فِي الْفُرْسِ وَكَانَ
الرَّجُلُ كُلَّمَا ازْدَادَ شَرَفًا زَادَ فِي حِلْيَتِهِ، فَكَانَتْ
قَلَنْسُوَةُ هرمز بمائة ألف، وقدم خالد بمن مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ
وَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا فنزل تجاههم على غير ماء فشكى
أصحابه ذلك، فقال: جالد وهم حَتَّى تُجْلُوهُمْ عَنِ الْمَاءِ، فَإِنَّ
اللَّهَ جَاعِلُ الْمَاءِ لِأَصْبَرِ الطَّائِفَتَيْنِ، فَلَمَّا
اسْتَقَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ الْمَنْزِلُ وَهُمْ رُكْبَانٌ عَلَى
خُيُولِهِمْ، بَعَثَ اللَّهُ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْهُمْ حَتَّى صَارَ
لَهُمْ غُدْرَانٌ مِنْ مَاءٍ. فَقَوِيَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ،
وَفَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا تواجه الصفان وتقاتل الفريقان،
ترجل هرمز ودعا إلى النزال، فَتَرَجَّلَ خَالِدٌ وَتَقَدَّمَ إِلَى
هُرْمُزَ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ وَاحْتَضَنَهُ خَالِدٌ، وَجَاءَتْ
حَامِيَةُ هُرْمُزَ فَمَا شَغَلَهُ عَنْ قَتْلِهِ، وَحَمَلَ
الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى حَامِيَةِ هُرْمُزَ فَأَنَامُوهُمْ،
وَانْهَزَمَ أَهْلُ فَارِسَ وَرَكِبَ المسلمون أكتافهم إلى الليل
واستحوذ المسلمون وخالد عَلَى أَمْتِعَتِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ فَبَلَغَ
وِقْرَ أَلْفِ بَعِيرٍ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ ذَاتَ
السَّلَاسِلِ لِكَثْرَةِ مَنْ سُلْسِلَ بِهَا مِنْ فُرْسَانِ فَارِسَ،
وَأَفْلَتَ قُبَاذُ وَأَنُوشَجَانُ وَلَمَّا رَجَعَ الطَّلَبُ نَادَى
مُنَادِي خَالِدٍ بِالرَّحِيلِ فَسَارَ بِالنَّاسِ وَتَبِعَتْهُ
الْأَثْقَالُ حَتَّى نَزَلَ بِمَوْضِعِ الْجِسْرِ الْأَعْظَمِ مِنَ
الْبَصْرَةِ الْيَوْمَ، وَبَعَثَ بالفتح والبشارة والخمس، مع زر ابن
كُلَيْبٍ، إِلَى الصِّدِّيقِ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِفِيلٍ، فَلَمَّا رَآهُ
نِسْوَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَعَلْنَ يَقُلْنَ أَمِنْ خَلْقِ اللَّهِ
هَذَا أَمْ شَيْءٌ مَصْنُوعٌ؟ فَرَدَّهُ الصِّدِّيقُ مَعَ زِرٍّ،
وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ إِلَى خَالِدٍ،
فَنَفَّلَهُ سَلْبَ هُرْمُزَ، وَكَانَتْ قَلَنْسُوَتُهُ بِمِائَةِ
أَلْفٍ، وَكَانَتْ مُرَصَّعَةً بِالْجَوْهَرِ وَبَعَثَ خَالِدٌ
الْأُمَرَاءَ يَمِينًا وَشِمَالًا يُحَاصِرُونَ حُصُونًا هُنَالِكَ
فَفَتَحُوهَا عَنْوَةً وَصُلْحًا، وَأَخَذُوا مِنْهَا أَمْوَالًا
جَمَّةً، وَلَمْ يَكُنْ خَالِدٌ يَتَعَرَّضُ لِلْفَلَّاحِينَ- مَنْ لم
يقاتل منهم- ولا أولادهم بَلْ لِلْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ
ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ الْمَذَارِ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَيُقَالُ لَهَا: وَقْعَةُ الثَّنْيِ، وَهُوَ النَّهْرُ، قَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ وَيَوْمَئِذٍ قَالَ النَّاسُ، صَفَرُ الْأَصْفَارِ، فِيهِ
يُقْتَلُ كُلُّ جَبَّارٍ، عَلَى مَجْمَعِ الْأَنْهَارِ. وكان سببها أن
هرمزا كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَرْدَشِيرَ وَشِيرَى، بِقَدُومِ
خَالِدٍ نَحْوَهُ مِنَ الْيَمَامَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ كِسْرَى
بِمَدَدٍ مَعَ أَمِيرٍ يُقَالُ لَهُ: قَارَنُ بْنُ قِرْيَانِسَ، فَلَمْ
يَصِلْ إِلَى هُرْمُزَ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَ خَالِدٍ مَا
تَقَدَّمَ وَفَرَّ مَنْ فَرَّ مِنَ الْفُرْسِ، فَتَلَقَّاهُمْ قَارَنُ،
فَالْتَفُّوا عَلَيْهِ فَتَذَامَرُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى الْعَوْدِ
إِلَى خَالِدٍ، فَسَارُوا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: الْمَذَارُ،
وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْ قَارَنَ قُبَاذُ وَأَنُوشَجَانُ، فَلَمَّا
انْتَهَى
(6/344)
الْخَبَرُ إِلَى خَالِدٍ، قَسَمَ مَا كَانَ
مَعَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ غَنِيمَةً يَوْمَ ذَاتِ السَّلَاسِلِ
وَأَرْسَلَ إِلَى الصِّدِّيقِ بِخَبَرِهِ مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ
عُقْبَةَ، وَسَارَ خَالِدٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ حَتَّى
نَزَلَ عَلَى الْمَذَارِ، وَهُوَ عَلَى تَعْبِئَتِهِ، فَاقْتَتَلُوا
قِتَالَ حَنَقٍ وَحَفِيظَةٍ، وَخَرَجَ قَارَنُ يَدْعُو إِلَى
الْبِرَازِ فَبَرَزَ إِلَيْهِ خَالِدٌ وَابْتَدَرَهُ الشُّجْعَانُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ فَقَتَلَ مَعْقِلُ بْنُ الْأَعْشَى بْنِ النباش قارنا،
وَقَتَلَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ قُبَاذَ، وَقَتَلَ عَاصِمٌ
أَنُوشَجَانَ، وَفَّرَّتِ الْفُرْسُ وَرَكِبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي
ظُهُورِهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثِينَ أَلْفًا
وَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الْأَنْهَارِ وَالْمِيَاهِ، وَأَقَامَ
خَالِدٌ بِالْمَذَارِ وَسَلَّمَ الْأَسْلَابَ إِلَى مَنْ قَتَلَ،
وَكَانَ قَارَنُ قَدِ انْتَهَى شَرَفُهُ فِي أَبْنَاءِ فَارِسَ
وَجَمَعَ بَقِيَّةَ الْغَنِيمَةِ وَخَمَّسَهَا، وَبَعَثَ بِالْخُمُسِ
وَالْفَتْحِ وَالْبِشَارَةِ إِلَى الصِّدِّيقِ، مَعَ سَعِيدِ بْنِ
النُّعْمَانِ، أَخِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَقَامَ خَالِدٌ
هُنَاكَ حَتَّى قَسَمَ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ وَسَبَى ذَرَارِيَّ
مَنْ حصره مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، دُونَ الْفَلَّاحِينَ فَإِنَّهُ
أَقَرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ وَكَانَ فِي هَذَا السَّبْيِ حَبِيبٌ أَبُو
الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا وَمَافِنَّةُ مَوْلَى
عُثْمَانَ وَأَبُو زِيَادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثُمَّ
أَمَّرَ عَلَى الْجُنْدِ سَعِيدَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَلَى
الْجِزْيَةِ سويد ابن مُقَرِّنٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْزِلَ الْحَفِيرَ
لِيَجْبِيَ إِلَيْهِ الأموال وأقام خالد يتجسس الْأَخْبَارَ عَنِ
الْأَعْدَاءِ ثُمَّ كَانَ أَمْرُ الْوَلَجَةِ فِي صَفَرٍ أَيْضًا مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
لَمَّا انْتَهَى الخبر بما كان بالمذار من قبل قَارَنَ وَأَصْحَابِهِ
إِلَى أَرْدَشِيرَ وَهُوَ مَلِكُ الْفُرْسِ يَوْمَئِذٍ، بَعَثَ
أَمِيرًا شُجَاعًا يُقَالُ لَهُ الْأَنْدَرْزَغَرُ، وَكَانَ مِنْ
أَبْنَاءِ السَّوَادِ وُلِدَ بِالْمَدَائِنِ وَنَشَأَ بِهَا
وَأَمَدَّهُ بِجَيْشٍ آخَرَ مَعَ أَمِيرٍ يُقَالُ لَهُ بَهْمَنُ
جَاذَوَيْهِ، فَسَارُوا حَتَّى بَلَغُوا مَكَانًا يُقَالُ لَهُ:
الْوَلَجَةُ، فَسَمِعَ بِهِمْ خَالِدٌ فَسَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْجُنُودِ وَوَصَّى مَنِ اسْتَخْلَفَهُ هناك بالحذر وقلة الغفلة،
فنازل أندرزغر ومن ناشب مَعَهُ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ بِالْوَلَجَةِ،
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهُ، حَتَّى
ظَنَّ الْفَرِيقَانِ أَنَّ الصَّبْرَ قَدْ فَرَغَ، وَاسْتَبْطَأَ
كَمِينَهُ الَّذِي كَانَ قَدْ أَرْصَدَهُمْ وَرَاءَهُ فِي
مَوْضِعَيْنِ، فَمَا كان إلا يسيرا حتى خرج الكمينان من هاهنا ومن
هاهنا، فَفَرَّتْ صُفُوفُ الْأَعَاجِمِ فَأَخَذَهُمْ خَالِدٌ مِنْ
أَمَامِهِمْ وَالْكَمِينَانِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَلَمْ يَعْرِفْ رَجُلٌ
مِنْهُمْ مَقْتَلَ صَاحَبِهِ، وَهَرَبَ الْأَنْدَرْزَغَرُ مِنَ
الْوَقْعَةِ فَمَاتَ عَطَشًا، وَقَامَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ خَطِيبًا
فَرَغَّبَهُمْ فِي بِلَادِ الْأَعَاجِمِ وَزَهَّدَهُمْ فِي بِلَادِ
الْعَرَبِ وقال: ألا ترون ما هاهنا مِنَ الْأَطْعِمَاتِ؟ وباللَّه لَوْ
لَمْ يَلْزَمْنَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالدُّعَاءُ إِلَى
الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا الْمَعَاشُ لَكَانَ الرَّأْيُ أَنْ
نُقَاتِلَ عَلَى هَذَا الرِّيفِ حَتَّى نَكُونَ أَوْلَى بِهِ،
وَنُوَلِّيَ الْجُوعَ وَالْإِقْلَالَ مَنْ تَوَلَّاهُ مِمَّنِ
اثَّاقَلَ عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ خَمَّسَ الْغَنِيمَةَ،
وَقَسَمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَبَعَثَ
الْخُمُسَ إِلَى الصِّدِّيقِ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْ ذَرَارِيِّ
الْمُقَاتِلَةِ، وَأَقَرَّ الْفَلَّاحِينَ بِالْجِزْيَةِ وَقَالَ
سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عَمْرٍو عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: بَارَزَ
خَالِدٌ يَوْمَ الْوَلَجَةِ رَجُلًا مِنَ الْأَعَاجِمِ يَعْدِلُ
بِأَلْفِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ اتَّكَأَ عَلَيْهِ وَأُتِيَ
بِغَدَائِهِ فأكله وهو متكئ عليه بين الصفين
(6/345)
ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ أُلَّيْسٍ فِي
صَفَرٍ أَيْضًا وَذَلِكَ أَنَّ خَالِدًا كَانَ قَدْ قَتَلَ يَوْمَ
الْوَلَجَةِ طَائِفَةً مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، مِنْ نَصَارَى
الْعَرَبِ مِمَّنْ كَانَ مَعَ الْفُرْسِ، فَاجْتَمَعَ عَشَائِرُهُمْ
وَأَشَدُّهُمْ حَنَقًا عَبْدُ الْأَسْوَدِ الْعِجْلِيُّ، وَكَانَ قَدْ
قُتِلَ لَهُ ابْنٌ بِالْأَمْسِ، فَكَاتَبُوا الْأَعَاجِمَ فأرسل إليهم
أردشير جيشا، فَاجْتَمَعُوا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: أُلَّيْسٍ،
فَبَيْنَمَا هُمْ قَدْ نَصَبُوا لَهُمْ سِمَاطًا فِيهِ طَعَامٌ
يُرِيدُونَ أَكْلَهُ، إِذْ غَافَلَهُمْ خَالِدٌ بِجَيْشِهِ، فَلَمَّا
رَأَوْهُ أَشَارَ مَنْ أَشَارَ مِنْهُمْ بِأَكْلِ الطَّعَامِ وَعَدَمِ
الاعتناء بخالد، وقال أمير كسرى: بَلْ نَنْهَضُ إِلَيْهِ، فَلَمْ
يَسْمَعُوا مِنْهُ. فَلَمَّا نَزَلَ خَالِدٌ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ
جَيْشِهِ وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ لِشُجْعَانِ مَنْ هُنَالِكَ مِنَ
الْأَعْرَابِ: أين فلان، أين فلان؟ فكلهم تلكئوا عَنْهُ إِلَّا رَجُلًا
يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ، مِنْ بَنِي جِذْرَةَ، فَإِنَّهُ
بَرَزَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ مَا
جَرَّأَكَ عَلَيَّ مِنْ بَيْنِهِمْ وَلَيْسَ فِيكَ وَفَاءٌ؟ فَضَرَبَهُ
فَقَتَلَهُ. وَنَفَرَتِ الْأَعَاجِمُ عَنِ الطَّعَامِ وَقَامُوا إِلَى
السِّلَاحِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، وَالْمُشْرِكُونَ
يَرْقُبُونَ قُدُومَ بَهْمَنَ مَدَدًا مِنْ جِهَةِ الْمَلِكِ
إِلَيْهِمْ، فَهُمْ فِي قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ وَكَلَبٍ فِي الْقِتَالِ.
وَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ صَبْرًا بَلِيغًا، وَقَالَ خَالِدٌ: اللَّهمّ
لَكَ عَلَيَّ إِنْ مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ أَنْ لَا أَسْتَبْقِيَ
مِنْهُمْ أَحَدًا أَقْدِرُ عَلَيْهِ حَتَّى أُجْرِيَ نَهْرَهُمْ
بِدِمَائِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَنَحَ
الْمُسْلِمِينَ أَكْتَافَهُمْ فَنَادَى مُنَادِي خَالِدٍ: الْأَسْرَ،
الْأَسْرَ، لَا تَقْتُلُوا إِلَّا مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْأَسْرِ،
فَأَقْبَلَتِ الْخُيُولُ بِهِمْ أَفْوَاجًا يُسَاقُونَ سَوْقًا، وَقَدْ
وَكَّلَ بِهِمْ رِجَالًا يَضْرِبُونَ أَعْنَاقَهُمْ في النهر، ففعل ذلك
بهم يَوْمًا وَلَيْلَةً وَيَطْلُبُهُمْ فِي الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ
الْغَدِ، وَكُلَّمَا حَضَرَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ فِي
النَّهْرِ، وَقَدْ صَرَفَ مَاءَ النَّهْرِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ: إِنَّ النَّهْرَ لَا يَجْرِي
بِدِمَائِهِمْ حَتَّى تُرْسِلَ الْمَاءَ على الدم فيجري معه فتبر
بيمينك، فَأَرْسَلَهُ فَسَالَ النَّهْرُ دَمًا عَبِيطًا، فَلِذَلِكَ
سُمِّيَ نَهْرَ الدَّمِ إِلَى الْيَوْمِ، فَدَارَتِ الطَّوَاحِينُ
بِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِالدَّمِ الْعَبِيطِ مَا كَفَى
الْعَسْكَرَ بِكَمَالِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَبَلَغَ عَدَدُ
الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا، وَلَمَّا هَزَمَ خَالِدٌ الْجَيْشَ
وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ مِنَ النَّاسِ، عَدَلَ خَالِدٌ إِلَى الطَّعَامِ
الَّذِي كَانُوا قَدْ وَضَعُوهُ لِيَأْكُلُوهُ فَقَالَ
لِلْمُسْلِمِينَ: هَذَا نَفَلٌ فَانْزِلُوا فَكُلُوا، فَنَزَلَ
النَّاسُ فَأَكَلُوا عشاء.
وقد جعل الأعاجم على طعامهم مرققا كَثِيرًا فَجَعَلَ مَنْ يَرَاهُ مِنْ
أَهْلِ الْبَادِيَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ يَقُولُونَ:
مَا هَذِهِ الرُّقَعُ؟ يَحْسَبُونَهَا ثِيَابًا، فَيَقُولُ لَهُمْ مَنْ
يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ أهل الأرياف والمدن: أما سمعتم رقيق الْعَيْشِ؟
قَالُوا: بَلَى، قَالُوا: فَهَذَا رَقِيقُ الْعَيْشِ، فَسَمَّوْهُ
يَوْمَئِذٍ رُقَاقًا، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ العود
وَقَدْ قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ
الشَّعْبِيِّ عَمَّنْ حَدَّثَ عَنْ خَالِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفل الناس يوم خيبر الخبز والبطيخ
وَالشِّوَاءَ وَمَا أَكَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ غَيْرَ مُتَأَثِّلِيهِ
وَكَانَ كُلُّ مَنْ قُتِلَ بِهَذِهِ الْوَقْعَةِ يَوْمَ أُلَّيْسٍ مِنْ
بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا أَمْغِيشَيَا، فَعَدَلَ إِلَيْهَا خَالِدٌ
وَأَمَرَ بِخَرَابِهَا وَاسْتَوْلَى عَلَى مَا بها، فوجدوا بها
مَغْنَمًا عَظِيمًا، فَقَسَمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَأَصَابَ
الْفَارِسُ بَعْدَ النَّفْلِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ غَيْرَ مَا
تَهَيَّأَ لَهُ مِمَّا قَبْلَهُ.
وَبَعَثَ خَالِدٌ إِلَى الصِّدِّيقِ بِالْبِشَارَةِ وَالْفَتْحِ
وَالْخُمُسِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسَّبْيِ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ
جَنْدَلٌ مِنْ
(6/346)
بَنِي عِجْلٍ، وَكَانَ دَلِيلًا صَارِمًا،
فَلَمَّا بَلَّغَ الصِّدِّيقَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ،
أَثْنَى عَلَيْهِ وَأَجَازَهُ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ، وَقَالَ
الصِّدِّيقُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ أَسَدَكُمْ قَدْ عَدَا عَلَى
الْأَسَدِ [فغلبه على خراذيله] ، عجزت النساء أن يلدن مِثْلَ خَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ. ثُمَّ جَرَتْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ لِخَالِدٍ فِي
أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ يُمَلُّ سَمَاعُهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا
يَكِلُّ وَلَا يَمَلُّ ولا يهن ولا يحزن، بل كلما لَهُ فِي قُوَّةٍ
وَصَرَامَةٍ وَشِدَّةٍ وَشَهَامَةٍ، وَمِثْلُ هذا إنما خلقه الله
عِزًّا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَذُلًّا لِلْكُفْرِ وَشَتَاتَ
شَمْلِهِ.
فصل
ثم سار خالد فنزل الخورنق والسدير وبالنجف وبث سراياه هاهنا وهاهنا،
يُحَاصِرُونَ الْحُصُونَ مِنَ الْحِيرَةِ وَيَسْتَنْزِلُونَ أَهْلَهَا
قَسْرًا وقهرا، وصلحا ويسرا، وكان في جملة ما نَزَلَ بِالصُّلْحِ
قَوْمٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ فِيهِمُ ابْنُ بُقَيْلَةَ
الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، وَكَتَبَ لِأَهْلِ الْحِيرَةِ كتاب أمان،
فكان الّذي راوده عليه عمرو بن عبد المسيح ابن نقيلة وَوَجَدَ خَالِدٌ
مَعَهُ كِيسًا، فَقَالَ: مَا فِي هَذَا؟ - وَفَتَحَهُ خَالِدٌ فَوَجَدَ
فِيهِ شَيْئًا-، فَقَالَ ابْنُ بُقَيْلَةَ: هُوَ سُمُّ سَاعَةٍ،
فَقَالَ: وَلِمَ اسْتَصْحَبْتَهُ مَعَكَ؟ فَقَالَ حَتَّى إِذَا
رَأَيْتُ مَكْرُوهًا فِي قَوْمِي أَكَلْتُهُ فَالْمَوْتُ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَأَخَذَهُ خَالِدٌ فِي يَدِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ
لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى أَجَلِهَا، ثُمَّ قَالَ:
بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ، رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ،
الَّذِي لَيْسَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ دَاءٌ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
قَالَ: وَأَهْوَى إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ لِيَمْنَعُوهُ مِنْهُ
فَبَادَرَهُمْ فَابْتَلَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ بُقَيْلَةَ
قَالَ: وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَتَمْلِكُنَّ مَا أَرَدْتُمْ
مَا دَامَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الْحِيرَةِ
فَقَالَ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ أَوْضَحَ إِقْبَالًا مِنْ هَذَا، ثُمَّ
دَعَاهُمْ وَسَأَلُوا خَالِدًا الصُّلْحَ فَصَالَحَهُمْ وَكَتَبَ
لَهُمْ كِتَابًا بِالصُّلْحِ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ
أَلْفِ دِرْهَمٍ عَاجِلَةً، وَلَمْ يَكُنْ صَالَحَهُمْ حَتَّى
سَلَّمُوا كَرَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَسِيحِ إِلَى رَجُلٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ شُوَيْلٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُصُورَ الْحِيرَةِ
كَأَنَّ شُرَفَهَا أَنْيَابُ الْكِلَابِ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ هَبْ لِيَ ابْنَةَ بُقَيْلَةَ، فَقَالَ: هِيَ لَكَ، فَلَمَّا
فُتِحَتِ ادَّعَاهَا شُوَيْلٌ وَشَهِدَ لَهُ اثْنَانِ مِنَ
الصَّحَابَةِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ وَقَالُوا:
مَا تُرِيدُ إِلَى امْرَأَةٍ ابْنَةِ ثَمَانِينَ سَنَةً؟ فَقَالَتْ
لِقَوْمِهَا: ادْفَعُونِي إِلَيْهِ فَإِنِّي سَأَفْتَدِي مِنْهُ،
وَإِنَّهُ قَدْ رَآنِي وَأَنَا شَابَّةٌ، فَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ
فَلَمَّا خَلَا بِهَا قَالَتْ:
ما تريد إلى امرأة بنت ثَمَانِينَ سَنَةً؟ وَأَنَا أَفْتَدِي مِنْكَ
فَاحْكُمْ بِمَا أَرَدْتَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَفْدِيكِ بِأَقَلَّ
مِنْ عَشْرِ مِائَةٍ فَاسْتَكْثَرَتْهَا خَدِيعَةً مِنْهَا، ثُمَّ
أَتَتْ قَوْمَهَا فَأَحْضَرُوا لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَامَهُ
النَّاسُ وَقَالُوا:
لَوْ طَلَبْتَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ لَدَفَعُوهَا إِلَيْكَ،
فَقَالَ: وَهَلْ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنْ عَشْرِ مِائَةٍ؟ وَذَهَبَ إِلَى
خَالِدٍ وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْثَرَ الْعَدَدِ، فَقَالَ
خَالِدٌ: أَرَدْتَ أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ، وَإِنَّا
نَحْكُمُ بِظَاهِرِ قَوْلِكَ، ونيتك عند الله، كاذبا أنت أَمْ صَادِقًا
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ
الشَّعْبِيِّ:
لَمَّا افْتَتَحَ خَالِدٌ الْحِيرَةَ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ
بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وقد قال عمرو بن القعقاع فِي هَذِهِ
الْأَيَّامِ
(6/347)
وَمَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا
وَأَيَّامِ الرِّدَّةِ:
سَقَى اللَّهُ قَتْلَى بِالْفُرَاتِ مُقِيمَةً ... وَأُخْرَى
بِأَثْبَاجِ النِّجَافِ الْكَوَانِفِ
وَنَحْنُ وَطِئْنَا بِالْكَوَاظِمِ هُرْمُزًا ... وَبِالثِّنْيِ
قَرْنَيْ قَارَنٍ بَالْجَوَارِفِ
وَيَوْمَ أَحَطْنَا بِالْقُصُورِ تَتَابَعَتْ ... عَلَى الْحِيرَةِ
الرَّوْحَاءُ إِحْدَى الْمَصَارِفِ
حَطَطْنَاهُمُ مِنْهَا وَقَدْ كَانَ عَرْشُهُمْ ... يَمِيلُ بِهِمْ
فِعْلَ الْجَبَانِ الْمُخَالِفِ
رَمَيْنَا عَلَيْهِمْ بِالْقَبُولِ وَقَدْ رَأَوْا ... غَبُوقَ
الْمَنَايَا حَوْلَ تِلْكَ الْمَحَارِفِ
صَبِيحَةَ قَالُوا نَحْنُ قَوْمٌ تَنَزَّلُوا ... إِلَى الرِّيفِ مِنْ
أَرْضِ الْعُرَيْبِ الْمَقَانِفِ
وَقَدْ قَدِمَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ عَلَى خَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ بَعْدَ الْوَقَعَاتِ
الْمُتَعَدِّدَةِ، وَالْغَنَائِمِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَلَمْ
يَحْضُرْ شَيْئًا مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ
الصِّدِّيقُ مَعَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ إِلَى الشَّامِ،
فَاسْتَأْذَنَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الصِّدِّيقِ
لِيَجْمَعَ لَهُ قَوْمَهُ مِنْ بَجِيلَةَ فَيَكُونُوا مَعَهُ، فَلَمَّا
قَدِمَ عَلَى الصِّدِّيقِ فَسَأَلَهُ ذَلِكَ غَضِبَ الصِّدِّيقُ
وَقَالَ: أَتَيْتَنِي لِتَشْغَلَنِي عَمَّا هُوَ أَرْضَى للَّه مِنَ
الَّذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ، ثُمَّ سَيَّرَهُ الصِّدِّيقُ إِلَى
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِالْعِرَاقِ قَالَ سَيْفٌ بِأَسَانِيدِهِ:
ثُمَّ جَاءَ ابْنُ صَلُوبَا فَصَالَحَ خَالِدًا عَلَى بَانِقْيَا وبسما
وَمَا حَوْلَ ذَلِكَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَجَاءَهُ
دَهَاقِينُ تِلْكَ الْبِلَادِ فَصَالَحُوهُ عَلَى بُلْدَانِهِمْ
وأهاليهم كما صالح أهل الْحِيرَةِ، وَاتَّفَقَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ
الَّتِي كَانَ قَدْ تَمَكَّنَ بِأَطْرَافِ الْعِرَاقِ وَاسْتَحْوَذَ
عَلَى الْحِيرَةِ وَتِلْكَ الْبُلْدَانِ وَأَوْقَعَ بِأَهْلِ أُلَّيْسٍ
وَالثِّنْيِ وَمَا بعدها بفارس ومن ناشب مَعَهُمْ مَا أَوْقَعَ مِنَ
الْقَتْلِ الْفَظِيعِ فِي فُرْسَانِهِمْ، أَنْ عَدَتْ فَارِسُ عَلَى
مَلِكِهِمُ الْأَكْبَرِ أردشير وابنه شيرين فقتلوهما وقتلوا كل من ينسب
إليهما، وبقيت الفرس حائرين فيمن يولوه أَمْرَهُمْ، وَاخْتَلَفُوا
فِيمَا بَيْنَهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَدْ جَهَّزُوا جُيُوشًا تَكُونُ
حَائِلَةً بَيْنَ خَالِدٍ وَبَيْنَ الْمَدَائِنِ الَّتِي فِيهَا
إِيوَانُ كِسْرَى وَسَرِيرُ مَمْلَكَتِهِ، فَحِينَئِذٍ كَتَبَ خَالِدٌ
إِلَى مَنْ هُنَالِكَ مِنَ المرازبة والأمراء والدولة يدعوهم إلى الله
وإلى الدخول إلى دِينِ الْإِسْلَامِ لِيَثْبُتَ مُلْكُهُمْ عَلَيْهِمْ،
وَإِلَّا فَلْيَدْفَعُوا الْجِزْيَةَ وَإِلَّا فَلْيَعْلَمُوا
وَلْيَسْتَعِدُّوا لِقُدُومِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْمٍ يُحِبُّونَ
الْمَوْتَ كَمَا يُحِبُّونَ هُمُ الْحَيَاةَ، فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ
مِنْ جُرْأَةِ خَالِدٍ وَشَجَاعَتِهِ، وَيَسْخَرُونَ مِنْ ذلك لحماقتهم
ورعونتهم فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ أَقَامَ خَالِدٌ هُنَالِكَ بَعْدَ
صُلْحِ الْحِيرَةِ سَنَةً يَتَرَدَّدُ فِي بِلَادِ فَارِسَ ها هنا
وهاهنا، وَيُوقِعُ بِأَهْلِهَا مِنَ الْبَأْسِ الشَّدِيدِ،
وَالسَّطْوَةِ الْبَاهِرَةِ، مَا يُبْهِرُ الْأَبْصَارَ لِمَنْ شَاهَدَ
ذَلِكَ وَيُشَنِّفُ أَسْمَاعَ مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ وَيُحَيِّرُ
الْعُقُولَ لِمَنْ تدبره.
فَتْحُ خَالِدٍ لِلْأَنْبَارِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْغَزْوَةُ ذَاتَ
الْعُيُونِ
رَكِبَ خَالِدٌ فِي جُيُوشِهِ فَسَارَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى
الْأَنْبَارِ وَعَلَيْهَا رَجُلٌ مِنْ أَعْقَلِ الْفُرْسِ
وَأَسْوَدِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، يُقَالُ لَهُ شِيرْزَاذُ، فَأَحَاطَ
بِهَا خَالِدٌ وَعَلَيْهَا خَنْدَقٌ وَحَوْلَهُ أَعْرَابٌ مِنْ
قَوْمِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَاجْتَمَعَ
(6/348)
مَعَهُمْ أَهْلُ أَرْضِهِمْ، فَمَانَعُوا
خَالِدًا أَنْ يَصِلَ إِلَى الْخَنْدَقِ فَضَرَبَ مَعَهُمْ رَأْسًا،
وَلَمَّا تَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ أَمَرَ خَالِدٌ أَصْحَابَهُ
فَرَشَقُوهُمْ بِالنِّبَالِ حَتَّى فَقَئُوا مِنْهُمْ أَلْفَ عَيْنٍ،
فَتَصَايَحَ النَّاسُ: ذَهَبَتْ عيون أهل الأنبار، وسميت هَذِهِ
الْغَزْوَةُ ذَاتَ الْعُيُونِ، فَرَاسَلَ شِيرْزَاذُ خَالِدًا فِي
الصُّلْحِ، فَاشْتَرَطَ خَالِدٌ أُمُورًا امْتَنَعَ شِيرْزَاذُ مِنْ
قَبُولِهَا، فَتَقَدَّمَ خَالِدٌ إِلَى الْخَنْدَقِ فَاسْتَدْعَى
برذايا الْأَمْوَالِ مِنَ الْإِبِلِ فَذَبَحَهَا حَتَّى رَدَمَ
الْخَنْدَقَ بِهَا وَجَازَ هُوَ وَأَصْحَابَهُ فَوْقَهَا، فَلَمَّا
رَأَى شِيرْزَاذُ ذَلِكَ أَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ عَلَى الشُّرُوطِ
الَّتِي اشْتَرَطَهَا خَالِدٌ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى
مَأْمَنِهِ فَوَفَّى لَهُ خَالِدٌ بِذَلِكَ، وَخَرَجَ شِيرْزَاذُ مِنَ
الْأَنْبَارِ وَتَسَلَّمَهَا خَالِدٌ، فَنَزَلَهَا وَاطْمَأَنَّ بِهَا،
وَتَعَلَّمَ الصَّحَابَةُ مِمَّنْ بِهَا مِنَ الْعَرَبِ الْكِتَابَةَ
الْعَرَبِيَّةَ، وَكَانَ أُولَئِكَ الْعَرَبُ قَدْ تَعَلَّمُوهَا مِنْ
عَرَبٍ قَبْلَهُمْ وَهُمْ بَنُو إِيَادٍ، كَانُوا بِهَا فِي زَمَانِ
بُخْتَ نَصَّرَ حِينَ أَبَاحَ الْعِرَاقَ لِلْعَرَبِ، وَأَنْشَدُوا
خَالِدًا قَوْلَ بَعْضِ إِيَادٍ يَمْتَدِحُ قومه:
قومي إياد لو أنهم أمم ... ولو أَقَامُوا فَتُهْزَلَ النَّعَمُ
قَوْمٌ لَهُمْ بَاحَةُ الْعِرَاقِ إِذَا ... سَارُوا جَمِيعًا
وَاللَّوْحُ وَالْقَلَمُ
ثُمَّ صَالَحَ خَالِدٌ أَهْلَ الْبَوَازِيجِ وَكَلْوَاذَى، قَالَ:
ثُمَّ نَقَضَ أَهْلُ الْأَنْبَارِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ عَهْدَهُمْ لَمَّا
اضْطَرَبَتْ بَعْضُ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى عَهْدِهِ سِوَى
البوازيج وبانقيا. قال سيف عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سِيَاهٍ عَنْ
حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أهل السواد
عهد قبل الوقعة، الا بنو صَلُوبَا وَهُمْ أَهْلُ الْحِيرَةِ
وَكَلْوَاذَى وَقُرًى مِنْ قرى الفرات، غدروا حتى دعوا إلى الذمة بعد
ما غَدَرُوا. وَقَالَ سَيْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ: قلت للشعبى:
أخذ السواد عنوة وَكُلُّ أَرْضٍ إِلَّا بَعْضَ الْقِلَاعِ
وَالْحُصُونِ؟ قَالَ: بَعْضٌ صَالِحٌ وَبَعْضٌ غَالِبٌ. قُلْتُ: فَهَلْ
لِأَهْلِ السواد ذمة اعتقدوها قبل الحرب؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ
لَمَّا دُعُوا وَرَضُوا بِالْخَرَاجِ وَأُخِذَ مِنْهُمْ صَارُوا
ذِمَّةً.
وَقْعَةُ عَيْنِ التَّمْرِ
لَمَّا اسْتَقَلَّ خَالِدٌ بِالْأَنْبَارِ اسْتَنَابَ عَلَيْهَا
الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ، وَقَصَدَ عَيْنَ التَّمْرِ وَبِهَا
يَوْمَئِذٍ مِهْرَانُ بْنُ بَهْرَامَ جُوبِينَ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ من
العرب، وَحَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ طَوَائِفُ مِنَ النَّمِرِ
وَتَغْلِبَ وَإِيَادٍ وَمَنْ لَاقَاهُمْ وَعَلَيْهِمْ عَقَّةُ بْنُ
أَبِي عَقَّةَ، فَلَمَّا دَنَا خَالِدٌ قَالَ عَقَّةُ لِمِهْرَانَ:
إِنَّ الْعَرَبَ أَعْلَمُ بِقِتَالِ الْعَرَبِ، فَدَعْنَا وَخَالِدًا،
فَقَالَ لَهُ: دُونَكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَإِنِ احْتَجْتُمْ إِلَيْنَا
أَعَنَّاكُمْ، فَلَامَتِ الْعَجَمُ أَمِيرَهُمْ عَلَى هَذَا، فَقَالَ:
دَعُوهُمْ فَإِنْ غَلَبُوا خَالِدًا فَهُوَ لَكُمْ، وَإِنْ غُلِبُوا
قَاتَلْنَا خَالِدًا وَقَدْ ضَعُفُوا وَنَحْنُ أَقْوِيَاءُ،
فَاعْتَرَفُوا لَهُ بِفَضْلِ الرَّأْيِ عَلَيْهِمْ، وَسَارَ خَالِدٌ
وَتَلَقَّاهُ عَقَّةُ فَلَمَّا تَوَاجَهُوا قَالَ خَالِدٌ
لِمُجَنِّبَتَيْهِ: احْفَظُوا مَكَانَكُمْ فَإِنِّي حَامِلٌ، وَأَمَرَ
حُمَاتَهُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ وَرَائِهِ، وَحَمَلَ عَلَى عَقَّةَ
وَهُوَ يُسَوِّي الصُّفُوفَ فَاحْتَضَنَهُ وَأَسَرَهُ وَانْهَزَمَ
جَيْشُ عَقَّةَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ فَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْأَسْرَ،
وَقَصَدَ خَالِدٌ حِصْنَ عَيْنِ التَّمْرِ، فَلَمَّا بَلَغَ مِهْرَانَ
هزيمة
(6/349)
عَقَّةَ وَجَيْشِهِ، نَزَلَ مِنَ الْحِصْنِ
وَهَرَبَ وَتَرَكَهُ، وَرَجَعَتْ فُلَّالُ نَصَارَى الْأَعْرَابِ إِلَى
الْحِصْنِ فَوَجَدُوهُ مفتوحا فدخلوه واحتموا به، فجاء خالد وأحاط بهم
وَحَاصَرَهُمْ أَشَدَّ الْحِصَارِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ سَأَلُوهُ
الصلح فأبى إلا أن ينزلوا على حكم خالد، فنزلوا على حكمه فَجُعِلُوا
فِي السَّلَاسِلِ وَتَسَلَّمَ الْحِصْنَ ثُمَّ أَمَرَ فَضُرِبَتْ
عُنُقُ عَقَّةَ وَمَنْ كَانَ أُسِرَ مَعَهُ وَالَّذِينَ نَزَلُوا عَلَى
حُكْمِهِ أَيْضًا أَجْمَعِينَ، وَغَنِمَ جميع ما فِي ذَلِكَ الْحِصْنِ،
وَوَجَدَ فِي الْكَنِيسَةِ الَّتِي بِهِ أَرْبَعِينَ غُلَامًا
يَتَعَلَّمُونَ الْإِنْجِيلَ وَعَلَيْهِمْ بَابٌ مُغْلَقٌ، فَكَسَرَهُ
خَالِدٌ وَفَرَّقَهُمْ فِي الْأُمَرَاءِ وَأَهْلِ الغناء، وكان
حُمْرَانُ صَارَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنَ الْخُمُسِ،
وَمِنْهُمْ سِيرِينُ وَالِدُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَخَذَهُ أَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ. وَجَمَاعَةٌ آخَرُونَ مِنَ الموالي المشاهير أراد بِهِمْ
وَبِذَرَارِيِّهِمْ خَيْرًا. وَلَمَّا قَدِمَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ
عَلَى الصِّدِّيقِ بِالْخُمُسِ رَدَّهُ الصِّدِّيقُ إِلَى عِيَاضِ بْنِ
غَنْمٍ مَدَدًا لَهُ وَهُوَ مُحَاصِرٌ دُومَةَ الْجَنْدَلِ فَلَمَّا
قَدِمَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْعِرَاقِ يُحَاصِرُ
قَوْمًا، وَهُمْ قَدْ أَخَذُوا عَلَيْهِ الطُّرُقَ فَهُوَ مَحْصُورٌ
أَيْضًا، فَقَالَ عِيَاضٌ لِلْوَلِيدِ: إِنَّ بَعْضَ الرَّأْيِ خَيْرٌ
مِنْ جَيْشٍ كَثِيفٍ، مَاذَا تَرَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَقَالَ لَهُ
الْوَلِيدُ:
اكْتُبْ إِلَى خَالِدٍ يُمِدُّكَ بِجَيْشٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ يَسْتَمِدُّهُ، فَقَدِمَ كتابه على خالد عقب وَقْعَةِ عَيْنِ
التَّمْرِ وَهُوَ يَسْتَغِيثُ بِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: مِنْ خَالِدٍ
إِلَى عِيَاضٍ، إِيَّاكَ أُرِيدُ.
لَبِّثْ قَلِيلًا تَأْتِكَ الْحَلَائِبُ ... يَحْمِلْنَ آسَادًا
عَلَيْهَا الْقَاشِبُ
كَتَائِبٌ تَتْبَعُهَا كَتَائِبُ.
خَبَرُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ
لَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ مِنْ عَيْنِ التَّمْرِ قَصَدَ إِلَى دُومَةِ
الْجَنْدَلِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَيْنِ التَّمْرِ عُوَيْمِرَ بْنَ
الْكَاهِنِ الْأَسْلَمِيَّ، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ دُومَةِ
الْجَنْدَلِ بِمَسِيرِهِ إِلَيْهِمْ، بَعَثُوا إِلَى أَحْزَابِهِمْ
مِنْ بَهْرَاءَ وَتَنُوخَ وَكَلْبٍ وَغَسَّانَ وَالضَّجَاعِمِ،
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِمْ وَعَلَى غَسَّانَ وَتَنُوخَ ابْنُ
الْأَيْهَمِ، وَعَلَى الضَّجَاعِمِ ابْنُ الْحِدْرِجَانِ، وَجِمَاعُ
النَّاسِ بِدُومَةَ إِلَى رَجُلَيْنِ أُكَيْدِرِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، وَالْجُودِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، فَاخْتَلَفَا فَقَالَ
أُكَيْدِرٌ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بخالد، لا أحد أيمن طائر مِنْهُ
فِي حَرْبٍ وَلَا أَحَدُّ مِنْهُ وَلَا يَرَى وَجْهَ خَالِدٍ قَوْمٌ
أَبَدًا، قَلُّوا أَمْ كَثُرُوا إِلَّا انْهَزَمُوا عَنْهُ،
فَأَطِيعُونِي وَصَالِحُوا الْقَوْمَ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ:
لَنْ أُمَالِئَكُمْ عَلَى حَرْبِ خَالِدٍ وَفَارَقَهُمْ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِ خَالِدٌ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو فَعَارَضَهُ فَأَخَذَهُ،
فَلَمَّا أَتَى بِهِ خَالِدًا أَمَرَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَأَخَذَ مَا
كَانَ مَعَهُ، ثُمَّ تَوَاجَهَ خَالِدٌ وَأَهْلُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ
وَعَلَيْهِمُ الْجُودِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ، وَكُلُّ قَبِيلَةٍ مَعَ
أَمِيرِهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، وَجَعَلَ خَالِدٌ دُومَةَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ جَيْشِ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ، وَافْتَرَقَ جَيْشُ الْأَعْرَابِ
فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةً نَحْوَ خَالِدٍ، وَفِرْقَةً نَحْوَ عِيَاضٍ،
وَحَمَلَ خَالِدٌ عَلَى مَنْ قِبَلَهُ، وَحَمَلَ عِيَاضٌ عَلَى
أُولَئِكَ، فَأَسَرَ خَالِدٌ الْجُودِيَّ، وَأَسَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ
حَابِسٍ وَدِيعَةَ، وَفَّرَتِ الْأَعْرَابُ إِلَى الْحِصْنِ فملئوه
وَبَقِيَ مِنْهُمْ خَلْقٌ ضَاقَ عَنْهُمْ، فَعَطَفَتْ بَنُو تَمِيمٍ
عَلَى مَنْ هُوَ خَارِجَ الْحِصْنِ فَأَعْطَوْهُمْ مِيرَةً فَنَجَا
بَعْضُهُمْ، وَجَاءَ خَالِدٌ فَضَرَبَ أَعْنَاقَ مَنْ وَجَدَهُ خَارِجَ
الْحِصْنِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِ الْجُودِيِّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ
مِنَ
(6/350)
الْأُسَارَى، إِلَّا أُسَارَى بَنِي كَلْبٍ
فَإِنَّ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَبَنِي
تَمِيمٍ أَجَارُوهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: مَا لِي وما لكم
أَتَحْفَظُونَ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتُضَيِّعُونَ أَمْرَ
الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ له عاصم بن عمرو: أتحسدونهم العافية وتحوّذونهم
الشَّيْطَانِ، ثُمَّ أَطَافَ خَالِدٌ بِالْبَابِ فَلَمْ يَزَلْ عَنْهُ
حَتَّى اقْتَلَعَهُ، وَاقْتَحَمُوا الْحِصْنَ فَقَتَلُوا مَنْ فيه من
المقاتلة، وسبوا الذراري فبايعوهم بَيْنَهُمْ فِيمَنْ يَزِيدُ،
وَاشْتَرَى خَالِدٌ يَوْمَئِذٍ ابْنَةَ الْجُودِيِّ، وَكَانَتْ
مَوْصُوفَةً بِالْجَمَالِ، وَأَقَامَ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ وَرَدَّ
الْأَقْرَعَ إِلَى الْأَنْبَارِ، ثُمَّ رَجَعَ خَالِدٌ إِلَى
الْحِيرَةِ، فَتَلَقَّاهُ أَهْلُهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ
بِالتَّقْلِيسِ، فَسَمِعَ رَجُلًا مِنْهُمْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: مُرَّ
بنا فهذا يوم فرح الشر.
خبر وقعتي الحصيد والمضيّح
قَالَ سَيْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهْلَّبِ قَالُوا: وكان
خَالِدٌ أَقَامَ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ فَظَنَّ الْأَعَاجِمُ بِهِ
وَكَاتَبُوا عَرَبَ الْجَزِيرَةِ فَاجْتَمَعُوا لِحَرْبِهِ، وَقَصَدُوا
الْأَنْبَارَ يُرِيدُونَ انْتِزَاعَهَا مِنَ الزِّبْرِقَانِ، وَهُوَ
نَائِبُ خَالِدٍ عَلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الزِّبْرِقَانَ
كَتَبَ إِلَى القعقاع بن عمرو نائب خالد على الحيرة، فبعث القعقاع أعبد
ابن فَدَكِيٍّ السَّعْدِيَّ وَأَمَرَهُ بِالْحُصَيْدِ وَبَعَثَ
عُرْوَةَ بْنَ أبى الْجَعْدِ الْبَارِقِيَّ وَأَمَرَهُ بِالْخَنَافِسِ،
وَرَجَعَ خَالِدٌ مِنْ دُومَةَ إِلَى الْحِيرَةِ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى
مُصَادَمَةِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ مَحَلَّةِ كِسْرَى، لَكِنَّهُ
يَكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذَنْ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ، وَشَغَلَهُ مَا قَدِ اجْتَمَعَ مِنْ جُيُوشِ الْأَعَاجِمِ
مَعَ نَصَارَى الْأَعْرَابِ يُرِيدُونَ حَرْبَهُ، فَبَعَثَ
الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو أَمِيرًا عَلَى النَّاسِ، فَالْتَقَوْا
بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْحُصَيْدُ، وَعَلَى الْعَجَمِ رَجُلٌ
مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ رُوزَبَهْ، وَأَمَدَّهُ أَمِيرٌ آخَرُ يُقَالُ
لَهُ زَرْمِهْرُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَهُزِمَ
الْمُشْرِكُونَ فَقَتَلَ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَقَتَلَ الْقَعْقَاعُ بِيَدِهِ زَرْمِهْرَ، وَقَتَلَ رَجُلٌ يُقَالُ
لَهُ عِصْمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ رُوزَبَهْ، وَغَنِمَ
الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ مِنَ
الْعَجَمِ، فلجئوا إِلَى مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ خَنَافِسُ، فَسَارَ
إِلَيْهِمْ أَبُو لَيْلَى بْنُ فَدَكِيٍّ السَّعْدِيُّ، فَلَمَّا
أَحَسُّوا بذلك ساروا إلى المضيح، فَلَمَّا اسْتَقَرُّوا بِهَا بِمَنْ
مَعَهُمْ مِنَ الْأَعَاجِمِ والأعارب قَصَدَهُمْ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ، وَقَسَّمَ الْجَيْشَ
ثَلَاثَ فِرَقٍ، وَأَغَارَ عَلَيْهِمْ لَيْلًا وَهُمْ نَائِمُونَ
فَأَنَامَهُمْ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ فَمَا
شُبِّهُوا إِلَّا بِغَنَمٍ مُصَرَّعَةٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: انْتَهَيْنَا فِي هَذِهِ الْغَارَةِ
إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ حُرْقُوصُ بْنُ النُّعْمَانِ النَّمَرِيُّ،
وَحَوْلَهُ بَنُوهُ وَبَنَاتُهُ وَامْرَأَتُهُ، وَقَدْ وَضَعَ لَهُمْ
جفنة من خمر وهم يقولون: أَحَدَ يَشْرَبُ هَذِهِ السَّاعَةَ وَهَذِهِ
جُيُوشُ خَالِدٍ قَدْ أَقْبَلَتْ؟ فَقَالَ لَهُمُ: اشْرَبُوا شُرْبَ
وَدَاعٍ فَمَا أَرَى أَنْ تَشْرَبُوا خَمْرًا بَعْدَهَا، فَشَرِبُوا
وجعل يقول:
ألا يا اسقيانى قبل نائرة الْفَجْرِ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا قَرِيبٌ
وَلَا نَدْرِي
الْقَصِيدَةَ إِلَى آخِرِهَا، قَالَ: فَهَجَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ
فَضَرَبَ رَجُلٌ رَأْسَهُ فَإِذَا هُوَ فِي جَفْنَتِهِ، وَأُخِذَتْ
(6/351)
بَنُوهُ وَبَنَاتُهُ وَامْرَأَتُهُ، وَقَدْ
قُتِلَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ رَجُلَانِ كَانَا قَدْ أَسْلَمَا
وَمَعَهُمَا كِتَابٌ مِنَ الصِّدِّيقِ بِالْأَمَانِ وَلَمْ يَعْلَمْ
بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَهُمَا عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ أَبِي رِهْمِ
بْنِ قِرْوَاشٍ، قَتَلَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ،
وَالْآخَرُ لَبِيدُ بْنُ جَرِيرٍ، قَتَلَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ،
فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُمَا الصِّدِّيقَ وَدَاهُمَا، وَبَعَثَ
بِالْوَصَاةِ بِأَوْلَادِهِمَا، وَتَكَلَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخِطَابِ
فِي خَالِدٍ بِسَبَبِهِمَا، كَمَا تَكَلَّمَ فِيهِ بِسَبَبِ مَالِكِ
بْنِ نُوَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ الصِّدِّيقُ: كَذَلِكَ يَلْقَى مَنْ
يساكن أَهْلَ الْحَرْبِ فِي دِيَارِهِمْ، أَيِ الذَّنْبُ لَهُمَا فِي
مُجَاوَرَتِهِمَا الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ «أَنَا
بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مَنْ سَاكَنَ الْمُشْرِكَ في داره» وفي الحديث
الآخر «لا ترى نَارُهُمَا» أَيْ لَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ
وَالْمُشْرِكُونَ فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ
الثِّنْيِ وَالزُّمَيْلِ وَقَدْ بَيَّتُوهُمْ فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ
هُنَالِكَ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالْأَعَاجِمِ فَلَمْ يُفْلِتُ مِنْهُمْ
أَحَدٌ وَلَا انبعث بخبر، ثُمَّ بَعَثَ خَالِدٌ بِالْخُمُسِ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالسَّبْيِ إِلَى الصِّدِّيقِ، وَقَدِ اشْتَرَى عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ هَذَا السَّبْيِ جَارِيَةً مِنَ الْعَرَبِ
وَهِيَ ابْنَةُ رَبِيعَةَ بْنِ بُجَيْرٍ التَّغْلِبِيِّ،
فَاسْتَوْلَدَهَا عُمَرَ وَرُقَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ.
وَقْعَةُ الْفِرَاضِ
ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَقْعَةِ
الْفِرَاضِ وَهِيَ تُخُومُ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ،
فَأَقَامَ هُنَالِكَ شَهْرَ رَمَضَانَ مُفْطِرًا لِشُغْلِهِ
بِالْأَعْدَاءِ، وَلَمَّا بَلَغَ الرُّومَ أَمْرُ خَالِدٍ وَمَصِيرُهُ
إِلَى قُرْبِ بِلَادِهِمْ، حَمُوا وَغَضِبُوا وَجَمَعُوا جموعا كثيرة،
واستمدوا تغلب وإياد والتمر، ثُمَّ نَاهَدُوا خَالِدًا فَحَالَتِ
الْفُرَاتُ بَيْنَهُمْ فَقَالَتِ الرُّومُ لِخَالِدٍ: اعْبُرْ
إِلَيْنَا، وَقَالَ خَالِدٌ لِلرُّومِ: بَلِ اعْبُرُوا أَنْتُمْ،
فَعَبَرَتِ الرُّومُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِلنِّصْفِ مِنْ ذِي
الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ
قِتَالًا عَظِيمًا بَلِيغًا، ثُمَّ هَزَمَ الله جموع الروم وتمكن
المسلمون من اقتفائهم، فَقُتِلَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ مِائَةُ
أَلْفٍ، وَأَقَامَ خَالِدٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْفِرَاضِ عَشَرَةَ
أَيَّامٍ ثُمَّ أَذِنَ بِالْقُفُولِ إِلَى الْحِيرَةِ، لِخَمْسٍ
بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، وَأَمَرَ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو أَنْ
يَسِيرَ فِي الْمُقَدِّمَةِ وَأَمَرَ شَجَرَةَ بْنَ الْأَعَزِّ أَنْ
يَسِيرَ فِي السَّاقَةِ، وَأَظْهَرَ خَالِدٌ أَنَّهُ يَسِيرُ فِي
السَّاقَةِ، وَسَارَ خَالِدٌ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَصَدَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَسَارَ إلى مكة في طريق لم يسلك قبله
قط، ويأتى لَهُ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ يَقَعْ لِغَيْرِهِ، فَجَعَلَ
يَسِيرُ مُعْتَسِفًا عَلَى غَيْرِ جَادَّةٍ، حَتَّى انتهى إلى مكة
فأدرك الحج هذه السنة، ثم عاد فأدرك أمر السَّاقَةِ قَبْلَ أَنْ
يَصِلُوا إِلَى الْحِيرَةِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ بِحَجِّ خَالِدٍ
هَذِهِ السَّنَةَ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ كَانَ
مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بِذَلِكَ أَيْضًا
إِلَّا بعد ما رَجَعَ أَهْلُ الْحَجِّ مِنَ الْمَوْسِمِ، فَبَعَثَ
يَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي مُفَارَقَتِهِ الْجَيْشَ وَكَانَتْ عُقُوبَتَهُ
عِنْدَهُ أَنْ صَرَفَهُ مِنْ غَزْوِ الْعِرَاقِ إِلَى غَزْوِ الشَّامِ،
وَقَالَ لَهُ فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِ: يَقُولُ لَهُ: وَإِنَّ
الْجُمُوعَ لَمْ تَشْجُ بِعَوْنِ اللَّهِ شجيك، فليهنئك أَبَا
سُلَيْمَانَ النِّيَّةُ وَالْحُظْوَةُ، فَأَتْمِمْ يُتَمِّمِ اللَّهُ
لَكَ، وَلَا يَدْخُلَنَّكَ عُجْبٌ فَتَخْسَرَ وَتُخْذَلَ، وَإِيَّاكَ
أَنْ تُدِلَّ بِعَمَلٍ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ الْمَنُّ وهو ولى الجزاء.
(6/352)
فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ
فِيهَا أَمَرَ الصِّدِّيقُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أن يجمع القرآن من
اللحاف وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا
اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي الْقُرَّاءِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ كَمَا
ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَفِيهَا تَزَوَّجَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِأُمَامَةَ بِنْتِ زَيْنَبُ بِنْتُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ مِنْ أَبِي
الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْأُمَوِيِّ، وَقَدْ
تُوُفِّيَ أَبُوهَا فِي هَذَا الْعَامِ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُهَا فِي
الصَّلَاةِ فَيَضَعُهَا إِذَا سَجَدَ وَيَرْفَعُهَا إِذَا قَامَ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ، وَكَانَ لَهَا
مُحِبًّا وَبِهَا مُعْجَبًا، وَكَانَ لَا يَمْنَعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ
إِلَى الصَّلَاةِ وَيَكْرَهُ خُرُوجَهَا، فَجَلَسَ لَهَا ذَاتَ
لَيْلَةٍ فِي الطَّرِيقِ فِي ظُلْمَةٍ فَلَمَّا مَرَّتْ ضَرَبَ
بِيَدِهِ عَلَى عَجُزِهَا، فَرَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا وَلَمْ
تَخْرُجْ بَعْدَ ذلك، وقد كانت قبله تحت زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ،
فِيمَا قِيلَ، فَقُتِلَ عَنْهَا، وكانت قبل زيد تحت عبد الله ابن أَبِي
بَكْرٍ فَقُتِلَ عَنْهَا، وَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ
الزُّبَيْرُ، فَلَمَّا قُتِلَ خَطَبَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
فَقَالَتْ:
إِنِّي أَرْغَبُ بِكَ عن الموت، وامتنعت عن التزوج حَتَّى مَاتَتْ،
وَفِيهَا اشْتَرَى عُمَرُ مَوْلَاهُ أَسْلَمَ ثُمَّ صَارَ مِنْهُ أَنْ
كَانَ أَحَدَ سَادَاتِ التَّابِعِينَ، وَابْنُهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ
أَحَدُ الثِّقَاتِ الرُّفَعَاءِ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ. رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ
الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ مَوْلَى
الْحُرَقَةِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، عَنْ أَبِي مَاجِدَةَ،
قَالَ: حَجَّ بِنَا أَبُو بَكْرٍ فِي خِلَافَتِهِ سَنَةَ ثِنْتَيْ
عَشْرَةَ، فَذَكَرَ حَدِيثًا فِي الْقِصَاصِ مِنْ قَطْعِ الْأُذُنِ،
وَأَنَّ عُمَرَ حَكَمَ فِي ذَلِكَ بِأَمْرِ الصِّدِّيقِ. قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَمْ يَحُجَّ أَبُو بَكْرٍ فِي
خِلَافَتِهِ، وَإِنَّهُ بَعَثَ عَلَى الْمَوْسِمِ سَنَةَ ثِنْتَيْ
عَشْرَةَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَوْ عَبْدَ الرحمن بن عوف.
فَصْلٌ فِيمَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
قَدْ قِيلَ إِنَّ وَقْعَةَ الْيَمَامَةِ وَمَا بَعْدَهَا كَانَتْ في
سنة ثنتى عشرة، فليذكر هاهنا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَنَةِ
إِحْدَى عَشْرَةَ مَنْ قُتِلَ بِالْيَمَامَةِ وَمَا بَعْدَهَا،
وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ ما ذكرناه.
بَشِيرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْخَزْرَجِيُّ
وَالِدُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ،
وَبَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ
مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ الصِّدِّيقَ يَوْمَ
السَّقِيفَةِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَشَهِدَ مَعَ خَالِدٍ حُرُوبَهُ
إِلَى أَنْ قُتِلَ بِعَيْنِ التَّمْرِ رَضِيَ الله عنه. وروى لَهُ
النَّسَائِيُّ حَدِيثَ النُّحْلِ. وَالصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ الليثي
أخو محكم بْنِ جَثَّامَةَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هاجر وكان نزل
وَدَّانَ وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ.
أَبُو مَرْثَدٍ الغنوي
واسمه معاذ بْنُ الْحُصَيْنِ وَيُقَالُ ابْنُ حُصَيْنِ بْنِ يَرْبُوعِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ خَرَشَةَ بْنِ سعد بن طريف بن خيلان
بْنِ غَنْمِ بْنِ غَنِيِّ بْنِ أَعْصُرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ
غيلان بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ أَبُو مَرْثَدٍ
(6/353)
الْغَنَوِيُّ، شَهِدَ هُوَ وَابْنُهُ
مَرْثَدٌ بَدْرًا، وَلَمْ يَشْهَدْهَا رَجُلٌ هُوَ وَابْنُهُ
سِوَاهُمَا، وَاسْتُشْهِدَ ابْنُهُ مَرْثَدٌ يَوْمَ الرَّجِيعِ كَمَا
تَقَدَّمَ، وَابْنُ ابْنِهِ أُنَيْسُ بْنُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي
مَرْثَدٍ لَهُ صُحْبَةٌ أَيْضًا، شَهِدَ الْفَتْحَ وَحُنَيْنًا وَكَانَ
عَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
أَوْطَاسٍ فَهُمْ ثَلَاثَةٌ نَسَقًا، وَقَدْ كَانَ أَبُو مرثد حليفا
للعباس بن عبد المطلب، وروى لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُصَلُّوا
إِلَى القبور ولا تجلسوا إليها، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ سَنَةَ
ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، زَادَ غَيْرُهُ بِالشَّامِ، وَزَادَ غَيْرُهُ عَنْ
سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ رَجُلًا طَوِيلًا كَثِيرَ الشَّعْرِ،
قُلْتُ: وَفِي قِبْلِيِّ دِمَشْقَ قَبْرٌ يُعَرَفُ بِقَبْرِ كَثِيرٍ،
وَالَّذِي قَرَأْتُهُ عَلَى قَبْرِهِ هَذَا قَبْرُ كَنَّازِ بْنِ
الْحُصَيْنِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَرَأَيْتُ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ رَوْحًا وَجَلَالَةً،
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي
تَارِيخِ الشَّامِ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الربيع
ابن عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْعَبْشَمِيُّ زَوْجُ أَكْبَرَ بَنَاتِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ، وَكَانَ
مُحْسِنًا إِلَيْهَا وَمُحِبًّا لَهَا، وَلَمَّا أمره المسلمون
بِطَلَاقِهَا حِينَ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَكَانَ ابْنَ أُخْتِ خَدِيجَةَ
بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَاسْمُ أُمِّهِ هَالَةُ، وَيُقَالُ هِنْدُ بِنْتُ
خُوَيْلِدٍ وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: لَقِيطٌ، وَهُوَ
الْأَشْهَرُ، وَقِيلَ: مُهَشِّمٌ وَقِيلَ: هُشَيْمٌ، وَقَدْ شَهِدَ
بَدْرًا مِنْ نَاحِيَةِ الْكُفَّارِ فَأُسِرَ، فَجَاءَ أَخُوهُ عَمْرُو
بْنُ الرَّبِيعِ لِيُفَادِيَهُ وأحضر معه في الْفِدَاءَ قِلَادَةً
كَانَتْ خَدِيجَةُ أَخْرَجَتْهَا مَعَ ابْنَتِهَا زَيْنَبَ حِينَ
تَزَوَّجَ أَبُو الْعَاصِ بِهَا، فَلَمَّا رآها رسول الله رَقَّ لَهَا
رِقَّةً شَدِيدَةً وَأَطْلَقَهُ بِسَبَبِهَا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ
أَنْ يَبْعَثَ لَهُ زَيْنَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَفَّى لَهُ
بِذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ أَبُو الْعَاصِ عَلَى كُفْرِهِ بِمَكَّةَ إِلَى
قُبَيْلِ الْفَتْحِ بِقَلِيلٍ، فَخَرَجَ فِي تِجَارَةٍ لِقُرَيْشٍ
فَاعْتَرَضَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي سَرِيَّةٍ فَقَتَلُوا
جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَنِمُوا الْعِيرَ، وَفَرَّ أَبُو
الْعَاصِ هَارِبًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَاسْتَجَارَ بِامْرَأَتِهِ
زَيْنَبَ فَأَجَارَتْهُ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ جِوَارَهَا،
وَرَدَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ أَمْوَالِ قُرَيْشٍ، فَرَجَعَ
بِهَا أَبُو الْعَاصِ إِلَيْهِمْ، فرد كُلَّ مَالٍ إِلَى صَاحِبِهِ،
ثُمَّ تَشَهَّدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ،
وَرَدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
زَيْنَبَ بِالنِّكَاحِ الأول وكان بين فراقها له وبين اجتماعهاست
سِنِينَ وَذَلِكَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ تَحْرِيمِ
الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ،
وَقِيلَ إِنَّمَا رَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فاللَّه
أَعْلَمُ وَقَدْ وُلِدَ لَهُ مِنْ زَيْنَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
الْعَاصِ، وَخَرَجَ مَعَ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ حِينَ بَعَثَهُ
إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُثْنِي عَلَيْهِ
خَيْرًا فِي صَهَارَتِهِ، ويقول: حدثني فصدقني وواعدني فوفانى، وَقَدْ
تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ. وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِابْنَتِهِ
أُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي الْعَاصِ، بَعْدَ وَفَاةِ خَالَتِهَا
فَاطِمَةَ، وَمَا أَدْرِي هَلْ كان ذلك قبل وفاة أبى العاص أو بعده
فاللَّه أعلم
(تم الجزء السادس من البداية والنهاية ويليه الجزء السابع وأوله سنة
ثلاث عشرة من الهجرة النبويّة، نسأل الله التوفيق والإعانة على
إتمامه.)
(6/354)
|