البداية والنهاية، ط. دار الفكر

 [المجلد السابع]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سنة ثلاث عشرة من الهجرة
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالصِّدِّيقُ عَازِمٌ عَلَى جَمْعِ الْجُنُودِ لِيَبْعَثَهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَرْجِعِهِ من الحج عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ 9: 123. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ 9: 29 الآية.
وَاقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ جَمَعَ الْمُسْلِمِينَ لِغَزْوِ الشَّامِ- وَذَلِكَ عَامَ تَبُوكَ- حَتَّى وَصَلَهَا فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَجَهْدٍ، فرجع عامه ذلك، ثم بعث قبل موته أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَوْلَاهُ لِيَغْزُوَ تُخُومَ الشَّامِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا فَرَغَ الصِّدِّيقُ مِنْ أَمْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بَسَطَ يَمِينَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى الشَّامِ كَمَا بَعَثَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَشَرَعَ فِي جَمْعِ الْأُمَرَاءِ فِي أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى صَدَقَاتِ قُضَاعَةَ مَعَهُ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ فِيهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَسْتَنْفِرُهُ إِلَى الشَّامِ: «إِنِّي كُنْتُ قَدْ رَدَدْتُكَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي وَلَّاكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً، وَسَمَّاهُ لَكَ أُخْرَى، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنْ أُفَرِّغَكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فِي حَيَاتِكَ وَمَعَادِكَ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ أَحَبَّ إِلَيْكَ» فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنِّي سَهْمٌ من سهام الإسلام، وأنت عبد اللَّهِ الرَّامِي بِهَا، وَالْجَامِعُ لَهَا، فَانْظُرْ أَشَدَّهَا وَأَخْشَاهَا فَارْمِ بِي فِيهَا. وَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ بن عقبة

(7/2)


بمثل ذلك ورد عليه مثله، وأقبلا بعد ما اسْتَخْلَفَا فِي عَمَلِهِمَا، إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَدِمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ مِنَ الْيَمَنِ فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَعَلَيْهِ جُبَّةُ دِيبَاجٍ، فَلَمَّا رَآهَا عُمَرُ عليه أمر من هناك من الناس بتحريقها عَنْهُ، فَغَضِبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ وَقَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: يَا أَبَا الْحَسَنِ! أَغُلِبْتُمْ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَنِ الْإِمْرَةِ؟ فَقَالَ له على: أمغالبة تراها أو خِلَافَةً؟ فَقَالَ لَا يُغَالِبُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ أَوْلَى مِنْكُمْ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاكَ، وَاللَّهِ لَا تَزَالُ كَاذِبًا تَخُوضُ فِيمَا قُلْتَ ثُمَّ لَا تَضُرُّ إِلَّا نَفْسَكَ. وَأَبْلَغَهَا عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَتَأَثَّرْ لَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَلَمَّا اجْتَمَعَ عِنْدَ الصِّدِّيقِ مِنَ الْجُيُوشِ مَا أَرَادَ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الْجِهَادِ فَقَالَ: أَلَا لِكُلِّ أَمْرٍ جَوَامِعُ، فَمَنْ بَلَغَهَا فَهِيَ حَسْبُهُ، وَمَنْ عَمِلَ للَّه كَفَاهُ اللَّهُ، عَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَالْقَصْدِ فَإِنَّ الْقَصْدَ أَبْلَغُ، أَلَا إِنَّهُ لَا دِينَ لِأَحَدٍ لَا إِيمَانَ لَهُ، وَلَا إيمان لمن لا خشية لَهُ، وَلَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ أَنْ يُخَصَّ بِهِ، هِيَ النجاة التي دل الله عليها، إذ نجى بِهَا مِنَ الْخِزْيِ، وَأَلْحَقَ بِهَا الْكَرَامَةَ.
ثُمَّ شَرَعَ الصِّدِّيقُ فِي تَوْلِيَةِ الْأُمَرَاءِ وَعَقْدِ الْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ، فَيُقَالُ إِنْ أَوَّلَ لِوَاءٍ عَقَدَهُ لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَثَنَاهُ عَنْهُ وَذَكَّرَهُ بِمَا قَالَ. فَلَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ الصِّدِّيقُ كَمَا تَأَثَّرَ بِهِ عُمَرُ، بَلْ عَزَلَهُ عَنِ الشَّامِ وَوَلَّاهُ أَرْضَ «تَيْمَاءَ» يَكُونُ بِهَا فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَمْرُهُ. ثُمَّ عَقَدَ لِوَاءَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَمَعَهُ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَمَعَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَشْبَاهُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ مَاشِيًا يُوصِيهِ بِمَا اعْتَمَدَهُ فِي حَرْبِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَ لَهُ دِمَشْقَ. وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ عَلَى جُنْدٍ آخَرَ، وَخَرَجَ مَعَهُ مَاشِيًا يُوصِيهِ، وَجَعَلَ لَهُ نِيَابَةَ حِمْصَ. وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَمَعَهُ جُنْدٌ آخَرُ وَجَعَلَهُ عَلَى فِلَسْطِينَ. وَأَمَرَ كُلَّ أَمِيرٍ أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِ الْآخَرِ، لِمَا لَحَظَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ. وَكَانَ الصِّدِّيقُ اقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِنَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ حِينَ قَالَ لِبَنِيهِ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ 12: 67. فَكَانَ سُلُوكُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى تَبُوكَ. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ شُيُوخِهِ قَالُوا: وَكَانَ بَعْثُ أَبِي بَكْرٍ هَذِهِ الْجُيُوشَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَاشِيًا وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَاكِبًا فَجَعَلَ، يُوصِيهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أُقْرِئُكَ السَّلَامَ وأستودعك الله، ثم انصرف ومضى يزيد وأجدّ السير. ثم تبعه شرحبيل بن حَسَنَةَ، ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ مَدَدًا لَهُمَا، فَسَلَكُوا غير ذَلِكَ الطَّرِيقَ. وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى نزل العرمات مِنْ أَرْضِ الشَّامِ. وَيُقَالُ إِنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ نَزَلَ الْبَلْقَاءَ أَوَّلًا. وَنَزَلَ شُرَحْبِيلُ بِالْأُرْدُنِّ، وَيُقَالُ بِبُصْرَى. وَنَزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِالْجَابِيَةِ. وَجَعَلَ الصِّدِّيقُ يُمِدُّهُمْ بِالْجُيُوشِ، وَأَمَرَ كُلَّ

(7/3)


وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْضَافَ إِلَى مَنْ أَحَبَّ مِنَ الْأُمَرَاءِ. وَيُقَالُ إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا مر بأرض الْبَلْقَاءِ قَاتَلَهُمْ حَتَّى صَالَحُوهُ وَكَانَ أَوَّلَ صُلْحٍ وَقَعَ بِالشَّامِ.
وَيُقَالُ إِنَّ أَوَّلَ حَرْبٍ وَقَعَ بِالشَّامِ أَنَّ الرُّومَ اجْتَمَعُوا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ العرية من أرض فلسطين، فوجه اليهم أَبَا أُمَامَةَ فِي سَرِيَّةٍ فَقَتَلَهُمْ وَغَنِمَ مِنْهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ بِطْرِيقًا عَظِيمًا. ثُمَّ كَانَتْ بَعْدَ هذه وقعة مرج الصفراء اسْتُشْهِدَ فِيهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَيُقَالُ إِنَّ الَّذِي اسْتُشْهِدَ في مرج الصفراء ابن الخالد بْنِ سَعِيدٍ، وَأَمَّا هُوَ فَفَرَّ حَتَّى انْحَازَ إِلَى أَرْضِ الْحِجَازِ فاللَّه أَعْلَمُ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَمَّا انْتَهَى خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ إِلَى تَيْمَاءَ اجْتَمَعَ لَهُ جُنُودٌ مِنَ الرُّومِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ نَصَارَى العرب، من غيرا، وَتَنُوخَ، وَبَنِي كَلْبٍ، وَسَلِيحٍ، وَلَخْمٍ وَجُذَامَ، وَغَسَّانَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُمْ تَفَرَّقُوا عَنْهُ وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الإسلام، وبعث إلى الصديق بعلمه بِمَا وَقَعَ مِنَ الْفَتْحِ، فَأَمَرَهُ الصِّدِّيقُ أَنْ يتقدم ولا يحجم، وأمده بالوليد بن عتبة وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَجَمَاعَةٍ، فَسَارَ إِلَى قريب من إيلياء فَالْتَقَى هُوَ وَأَمِيرٌ مَنِ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ ماهان فكسره، ولجأ ماهان إِلَى دِمَشْقَ، فَلَحِقَهُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَبَادَرَ الجيوش إلى لحوق دمشق وطلب الحظوة، فوصلوا إلى مرج الصفراء فانطوت عليه مسالح ماهان وأخذوا عليهم الطريق، وزحف ماهان فَفَرَّ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، فَلَمْ يَرِدْ إِلَى ذِي الْمَرْوَةِ. وَاسْتَحْوَذَ الرُّومُ عَلَى جَيْشِهِمْ إِلَّا مَنْ فَرَّ عَلَى الْخَيْلِ، وَثَبَتَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَقَدْ تَقَهْقَرَ عَنِ الشَّامِ قَرِيبًا وَبَقِيَ رِدْءًا لِمَنْ نَفَرَ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ شُرَحْبِيلُ بن حَسَنَةَ مِنَ الْعِرَاقِ مِنْ عِنْدِ خَالِدِ بْنِ الوليد إلى الصديق، فأمره على جيشه وَبَعَثَهُ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ بِخَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ بِذِي الْمَرْوَةِ، أَخَذَ جُمْهُورَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ هَرَبُوا مَعَهُ إِلَى ذِي الْمَرْوَةِ. ثُمَّ اجْتَمَعَ عِنْدَ الصِّدِّيقِ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَرْسَلَهُ وَرَاءَ أَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَلَمَّا مَرَّ بِخَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ أَخَذَ مَنْ كَانَ بَقِيَ مَعَهُ بِذِي الْمَرْوَةِ إِلَى الشَّامِ. ثُمَّ أَذِنَ الصِّدِّيقُ لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ فِي الدُّخُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ:
كَانَ عُمَرُ أَعْلَمَ بِخَالِدٍ.
وَقْعَةُ الْيَرْمُوكِ
عَلَى مَا ذَكَرَهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبْلَ فَتْحِ دِمَشْقَ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَأَمَّا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ نقل عن يزيد بن أبي عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ وَابْنِ لَهِيعَةَ وَاللَّيْثِ وَأَبِي مَعْشَرٍ أَنَّهَا كَانَتْ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ دِمَشْقَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ. وَقَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْيَرْمُوكِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَهَذَا هو المحفوظ و [أما] ما قَالَهُ سَيْفٌ مِنْ أَنَّهَا قَبْلَ فَتْحِ دِمَشْقَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ فَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ.

(7/4)


قُلْتُ: وَهَذَا ذِكْرُ سِيَاقِ سَيْفٍ وَغَيْرِهِ عَلَى ما أورده ابن جرير وغيره. قال: وَلَمَّا تَوَجَّهَتْ هَذِهِ الْجُيُوشُ نَحْوَ الشَّامِ أَفْزَعَ ذَلِكَ الرُّومَ وَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا، وَكَتَبُوا إِلَى هِرَقْلَ يُعْلِمُونَهُ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ. فَيُقَالُ إنه كان يومئذ بمحص، ويقال: كَانَ حَجَّ عَامَهُ ذَلِكَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ الْخَبَرُ. قَالَ لَهُمْ: وَيَحَكُمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ دِينٍ جَدِيدٍ، وَإِنَّهُمْ لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِهِمْ، فَأَطِيعُونِي وَصَالِحُوهُمْ بِمَا تُصَالِحُونَهُمْ عَلَى نِصْفِ خَرَاجِ الشَّامِ وَيَبْقَى لَكُمْ جِبَالُ الرُّومِ، وَإِنْ أَنْتُمْ أَبَيْتُمْ ذَلِكَ أَخَذُوا مِنْكُمُ الشَّامَ وَضَيَّقُوا عَلَيْكُمْ جِبَالَ الرُّومِ. فَنَخَرُوا مِنْ ذَلِكَ نَخْرَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ كَمَا هِيَ عَادَاتُهُمْ فِي قِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ وَالرَّأْيِ بِالْحَرْبِ وَالنُّصْرَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. فَعِنْدَ ذَلِكَ سَارَ إِلَى حِمْصَ، وَأَمَرَ هِرَقْلُ بِخُرُوجِ الْجُيُوشِ الرُّومِيَّةِ صُحْبَةَ الْأُمَرَاءِ، فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ أَمِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَيْشٌ كثيف، فبعث إلى عمرو بن العاص أخا له لِأَبَوَيْهِ «تَذَارِقَ» فِي تِسْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ. وبعث جرجه بن بوذيها إِلَى نَاحِيَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَعَسْكَرَ بإزائه في خمسين ألفا أو ستين ألفا. وبعث الدراقص إلى شرحبيل بن حسنة.
وبعث اللقيقار ويقال القيقلان- قال ابن إسحاق وهو خصى هرقل نَسْطُورِسَ- فِي سِتِّينَ أَلْفًا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ. وَقَالَتِ الرُّومُ: وَاللَّهِ لَنَشْغَلَنَّ أَبَا بَكْرٍ عَنْ أَنْ يُورِدَ الْخُيُولَ إِلَى أَرْضِنَا. وَجَمِيعُ عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا سِوَى الْجَيْشِ الَّذِي مَعَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ. وَكَانَ وَاقِفًا فِي طَرَفِ الشَّامِ رِدْءًا لِلنَّاسِ- فِي سِتَّةِ آلَافٍ- فَكَتَبَ الْأُمَرَاءُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يُعْلِمُونَهُمَا بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ العظيم، فكتب إليهم أن اجتمعوا وكونوا جندا واحدا والقوا جنود المشركين، فأنتم أنصار اللَّهِ وَاللَّهُ نَاصِرٌ مَنْ نَصَرَهُ، وَخَاذِلٌ مَنْ كَفَرَهُ، وَلَنْ يُؤْتَى مِثْلُكُمْ عَنْ قِلَّةٍ، وَلَكِنْ مِنْ تِلْقَاءِ الذُّنُوبِ فَاحْتَرِسُوا مِنْهَا، وَلْيُصَلِّ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِأَصْحَابِهِ. وَقَالَ الصِّدِّيقُ: وَاللَّهِ لَأَشْغَلَنَّ النصارى عن وساوس الشيطان يخالد بْنِ الْوَلِيدِ. وَبَعَثَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْعِرَاقِ لِيَقْدَمَ إِلَى الشَّامِ فَيَكُونَ الْأَمِيرَ عَلَى مَنْ بِهِ، فَإِذَا فَرَغَ عَادَ إِلَى عَمَلِهِ بِالْعِرَاقِ، فَكَانَ مَا سَنَذْكُرُهُ. وَلَمَّا بَلَغَ هِرَقْلَ مَا أَمَرَ بِهِ الصِّدِّيقُ أُمَرَاءَهُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، بَعَثَ إِلَى أُمَرَائِهِ أَنْ يَجْتَمِعُوا أَيْضًا وَأَنْ يَنْزِلُوا بِالْجَيْشِ مَنْزِلًا وَاسِعَ الْعَطَنِ، وَاسِعَ الْمَطْرَدِ، ضَيِّقَ الْمَهْرَبِ، وعلى الناس أخوه بندارق، وعلى المقدمة جرجه، وعلى المجنبتين ماهان والدراقص، وعلى البحر القيقلان.
وقال محمد بن عائد عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَعَلَيْهِمْ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالرُّومُ كَانُوا عِشْرِينَ وَمِائَةَ ألف عليهم ماهان وَسُقْلَابُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ.
وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أن سقلاب الخصى كَانَ عَلَى الرُّومِ يَوْمَئِذٍ فِي مِائَةِ أَلْفٍ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ جَرَجَةُ- مِنْ أَرْمِينِيَّةَ- فِي اثْنَيْ عشر ألفا، ومن المستعربة اثنى عَشَرَ أَلْفًا عَلَيْهِمْ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ: وَالْمُسْلِمُونَ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى قَاتَلَتِ النِّسَاءُ مِنْ وَرَائِهِمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ. وقال الوليد

(7/5)


عَنْ صَفْوَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ: بعث هرقل مائتي ألف عليهم ماهان الْأَرْمَنِيُّ. قَالَ سَيْفٌ: فَسَارَتِ الرُّومُ فَنَزَلُوا الْوَاقُوصَةَ قَرِيبًا مِنَ الْيَرْمُوكِ، وَصَارَ الْوَادِي خَنْدَقًا عَلَيْهِمْ. وَبَعَثَ الصَّحَابَةُ إِلَى الصِّدِّيقِ يَسْتَمِدُّونَهُ وَيُعْلِمُونَهُ بِمَا اجْتَمَعَ مِنْ جَيْشِ الرُّومِ بِالْيَرْمُوكِ، فَكَتَبَ الصِّدِّيقُ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَلَى الْعِرَاقِ وَأَنْ يَقْفِلَ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ فَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَيْهِمْ. فَاسْتَنَابَ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ عَلَى الْعِرَاقِ وسار خالد مسرعا في تسعة آلاف وخمسمائة، وَدَلِيلُهُ رَافِعُ بْنُ عُمَيْرَةَ الطَّائِيُّ، فَأَخَذَ بِهِ على السماق حَتَّى انْتَهَى إِلَى قُرَاقِرَ، وَسَلَكَ بِهِ أَرَاضِيَ لَمْ يَسْلُكْهَا قَبْلَهُ أَحَدٌ، فَاجْتَابَ الْبَرَارِيَّ وَالْقِفَارَ، وَقَطَعَ الْأَوْدِيَةِ، وَتَصَعَّدَ عَلَى الْجِبَالِ، وَسَارَ فِي غَيْرِ مَهْيَعٍ، وَجَعَلَ رَافِعٌ يَدُلُّهُمْ فِي مَسِيرِهِمْ على الطريق وهو في مفاوز معطشة، وَعَطَّشَ النُّوقَ وَسَقَاهَا الْمَاءَ عَلَلًا بَعْدَ نَهَلٍ، وقطع مشافرها وكعمها حتى لا تحتز رحل أَدْبَارَهَا، وَاسْتَاقَهَا مَعَهُ، فَلَمَّا فَقَدُوا الْمَاءَ نَحَرَهَا فَشَرِبُوا مَا فِي أَجْوَافِهَا مِنَ الْمَاءِ، وَيُقَالُ بَلْ سَقَاهُ الْخَيْلَ وَشَرِبُوا مَا كَانَتْ تَحْمِلُهُ مِنَ الْمَاءِ وَأَكَلُوا لُحُومَهَا. وَوَصَلَ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَخَرَجَ عَلَى الرُّومِ من ناحية تدمر فصالح أهل تدمر وأركه، وَلَمَّا مَرَّ بِعَذْرَاءَ أَبَاحَهَا وَغَنِمَ لِغَسَّانَ أَمْوَالًا عَظِيمَةً وَخَرَجَ مِنْ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَنَاةِ بُصْرَى فَوَجَدَ الصَّحَابَةَ تحاربها فَصَالَحَهُ صَاحِبُهَا وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَدِينَةٍ فُتِحَتْ مَنِ الشَّامِ وللَّه الْحَمْدُ.
وَبَعَثَ خَالِدٌ بِأَخْمَاسِ مَا غَنِمَ مِنْ غَسَّانَ مَعَ بِلَالِ بن الحرث الْمُزَنِيِّ إِلَى الصِّدِّيقِ ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ وَأَبُو عبيدة ومرثد وَشُرَحْبِيلُ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- وَقَدْ قَصَدَهُ الروم بأرض العربا من المعور- فَكَانَتْ وَاقِعَةُ أَجْنَادِينَ. وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسِيرِهِمْ هَذَا مَعَ خَالِدٍ:
للَّه عينا رافع أنى اهتدى ... قرفون من قراقر إلى شوى
خمسا إذا ما ساره الْجَيْشُ بَكَى ... مَا سَارَهَا قَبْلَكَ إِنْسِيٌّ أَرَى
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْمَسِيرِ: إِنْ أَنْتَ أَصْبَحَتْ عِنْدَ الشَّجَرَةِ الْفُلَانِيَّةِ نَجَوْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْهَا هَلَكْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، فَسَارَ خَالِدٌ بِمَنْ مَعَهُ وَسَرَوْا سَرْوَةً عَظِيمَةً فَأَصْبَحُوا عِنْدَهَا، فَقَالَ خَالِدٌ: عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى. فَأَرْسَلَهَا مَثَلًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا رَضِيَ الله عنه. ويقول غَيْرُ ابْنِ إِسْحَاقَ كَسَيْفِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي نحيف وَغَيْرِهِمَا فِي تَكْمِيلِ السِّيَاقِ الْأَوَّلِ:
حِينَ اجْتَمَعَتِ الرُّومُ مَعَ أُمَرَائِهَا بِالْوَاقُوصَةِ وَانْتَقَلَ الصَّحَابَةُ مِنْ مَنْزِلِهِمُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنَ الرُّومِ فِي طَرِيقِهِمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ طَرِيقٌ غَيْرُهُ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَبْشِرُوا أَيُّهَا النَّاسُ، فَقَدْ حُصِرَتْ وَاللَّهِ الرُّومُ، وَقَلَّمَا جَاءَ مَحْصُورٌ بِخَيْرٍ. وَيُقَالُ إِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اجْتَمَعُوا لِلْمَشُورَةِ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَسِيرِ إِلَى الرُّومِ، جَلَسَ الْأُمَرَاءُ لِذَلِكَ فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أُعَمَّرُ حَتَّى أُدْرِكَ

(7/6)


قَوْمًا يَجْتَمِعُونَ لِحَرْبٍ وَلَا أَحْضُرُهُمْ، ثُمَّ أَشَارَ أَنْ يَتَجَزَّأَ الْجَيْشُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَيَسِيرُ ثُلْثُهُ فَيَنْزِلُونَ تُجَاهَ الرُّومِ، ثُمَّ تَسِيرُ الْأَثْقَالُ وَالذَّرَارِيُّ فِي الثُّلْثِ الْآخَرِ، وَيَتَأَخَّرُ خَالِدٌ بِالثُّلْثِ الْآخِرِ حَتَّى إِذَا وَصَلَتِ الْأَثْقَالُ إِلَى أُولَئِكَ سَارَ بَعَدَهُمْ وَنَزَلُوا فِي مَكَانٍ تَكُونُ الْبَرِّيَّةُ مِنْ وراء ظهورهم لتصل إِلَيْهِمُ الْبُرُدُ وَالْمَدَدُ. فَامْتَثَلُوا مَا أَشَارَ بِهِ وَنِعْمَ الرَّأْيُ هُوَ.
وَذَكَرَ الْوَلِيدُ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الرُّومَ نَزَلُوا فِيمَا بَيْنَ دَيْرِ أَيُّوبَ وَالْيَرْمُوكَ، وَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَأَذْرِعَاتُ خَلْفَهُمْ لِيَصِلَ إِلَيْهِمُ الْمَدَدُ مِنَ الْمَدِينَةِ.
ويقال إن خالدا إنما قدم عليهم بعد ما نزل الصحابة تجاه الروم بعد ما صَابَرُوهُمْ وَحَاصَرُوهُمْ شَهْرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِكَمَالِهِ، فَلَمَّا انْسَلَخَ وَأَمْكَنَ الْقِتَالُ [1] لِقِلَّةِ الْمَاءِ بَعَثُوا إِلَى الصِّدِّيقِ يَسْتَمِدُّونَهُ فَقَالَ: خَالِدٌ لَهَا، فَبَعَثَ إِلَى خَالِدٍ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَعِنْدَ وصول خالد إليهم أقبل ماهان مَدَدًا لِلرُّومِ وَمَعَهُ الْقَسَاقِسَةُ، وَالشَّمَامِسَةُ وَالرُّهْبَانُ يَحُثُّونَهُمْ وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ لِنَصْرِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَتَكَامَلَ جيش الروم أربعون ومائتا ألف ثمانون ألفا مسلسل بالحديد والحبال، وثمانون ألفا فارس، وثمانون ألفا راجل. قال سيف وَقِيلَ بَلْ كَانَ الَّذِينَ تَسَلْسَلُوا كُلُّ عَشَرَةٍ سِلْسِلَةٍ لِئَلَّا يَفِرُّوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فاللَّه أَعْلَمُ.
قَالَ سَيْفٌ وَقَدِمَ عِكْرِمَةُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ فَتَكَامَلَ جَيْشُ الصَّحَابَةِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا إِلَى الْأَرْبَعِينَ أَلْفًا.
وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالْمَدَائِنِيِّ أَيْضًا أَنَّ وَقْعَةَ أَجْنَادِينَ قَبْلَ وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ وكانت وقعة أَجْنَادِينَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَقُتِلَ بِهَا بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُزِمَ الرُّومُ وَقُتِلَ أَمِيرُهُمُ الْقَيْقَلَانُ. وَكَانَ قد بعث رجلا من نصارى العرب يحبس لَهُ أَمْرَ الصَّحَابَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ قَالَ:
وَجَدْتُ قَوْمًا رُهْبَانًا بِاللَّيْلِ فُرْسَانًا بِالنَّهَارِ، وَاللَّهِ لو سرق فيهم ابن ملكهم لقطعوه، أَوْ زَنَى لَرَجَمُوهُ.
فَقَالَ لَهُ الْقَيْقَلَانُ: وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا. وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ فِي سِيَاقِهِ:
وَوَجَدَ خَالِدٌ الْجُيُوشَ مُتَفَرِّقَةً فَجَيْشُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ نَاحِيَةً، وَجَيْشُ يَزِيدَ وَشُرَحْبِيلَ نَاحِيَةً.
فَقَامَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ خَطِيبًا. فَأَمَرَهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ وَتَصَافُّوا مَعَ عَدُوِّهِمْ فِي أَوَّلِ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَقَامَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ، لَا يَنْبَغِي فِيهِ الْفَخْرُ وَلَا الْبَغْيُ، أَخْلِصُوا جِهَادَكُمْ وَأَرِيدُوا اللَّهَ بِعَمَلِكُمْ، وإن هذا يوم له ما بعده لو رَدَدْنَاهُمُ الْيَوْمَ إِلَى خَنْدَقِهِمْ فَلَا نَزَالُ نَرُدُّهُمْ، وَإِنْ هَزَمُونَا لَا نُفْلِحُ بَعْدَهَا أَبَدًا، فَتَعَالَوْا فَلْنَتَعَاوَرِ الْإِمَارَةَ فَلْيَكُنْ عَلَيْهَا بَعْضُنَا الْيَوْمَ وَالْآخَرُ غَدًا وَالْآخَرُ بَعْدَ غَدٍ، حَتَّى يَتَأَمَّرَ كُلُّكُمْ، وَدَعُونِي الْيَوْمَ أَلِيكُمْ، فَأَمَّرُوهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْأَمْرَ يَطُولُ جِدًّا فَخَرَجَتِ الرُّومُ فِي تعبئة لم
__________
[1] كذا في النسختين، الحلبية والمصرية، والظاهر أن فيه سقطا.

(7/7)


ير مثلها قبلها قَطُّ وَخَرَجَ خَالِدٌ فِي تَعْبِئَةٍ لَمْ تُعَبِّهَا الْعَرَبُ قَبْلَ ذَلِكَ. فَخَرَجَ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ كُرْدُوسًا إِلَى الْأَرْبَعِينَ كُلُّ كُرْدُوسٍ أَلْفُ رَجُلٍ عَلَيْهِمْ أَمِيرٌ، وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ فِي الْقَلْبِ، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَمَعَهُ شُرَحْبِيلَ بن حَسَنَةَ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ. وَأَمَّرَ عَلَى كُلِّ كُرْدُوسٍ أَمِيرًا، وَعَلَى الطَّلَائِعِ قباب بْنَ أَشْيَمَ، وَعَلَى الْأَقْبَاضِ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالْقَاضِي يَوْمَئِذٍ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَقَاصُّهُمُ الَّذِي يَعِظُهُمْ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَقَارِئُهُمِ الَّذِي يَدُورُ عَلَى النَّاسِ فَيَقْرَأُ سُورَةَ الْأَنْفَالِ وَآيَاتِ الْجِهَادِ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ. وذكر إسحاق بن يسار بِإِسْنَادِهِ أَنَّ أُمَرَاءَ الْأَرْبَاعِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا أَرْبَعَةً، أبو عُبَيْدَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَشُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَخَرَجَ النَّاسُ عَلَى رَايَاتِهِمْ وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَلَى الميسرة نفاثة بن أسامة الكناني، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة بن أَبِي وَقَّاصِ، وَعَلَى الْخَيَّالَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ الْمُشِيرُ فِي الْحَرْبِ الَّذِي يَصْدُرُ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَنْ رَأْيِهِ. وَلَمَّا أَقْبَلَتِ الرُّومُ فِي خُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا قَدْ سَدَّتْ أَقْطَارَ تِلْكَ الْبُقْعَةِ سَهْلِهَا وَوَعْرِهَا كَأَنَّهُمْ غَمَامَةٌ سَوْدَاءُ يَصِيحُونَ بِأَصْوَاتٍ مُرْتَفِعَةٍ وَرُهْبَانُهُمْ يَتْلُونَ الْإِنْجِيلَ وَيُحِثُّونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَكَانَ خَالِدٌ فِي الْخَيْلِ بَيْنَ يَدَيِ الْجَيْشِ فَسَاقَ بِفَرَسِهِ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالَ لَهُ: إني مشير بأمر، فقال: قل ما أمرك الله أسمع لك وأطيع. فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ حَمْلَةٍ عَظِيمَةٍ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا، وَإِنِّي أَخْشَى عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أُفَرِّقَ الْخَيْلَ فِرْقَتَيْنِ وَأَجْعَلَهَا وَرَاءِ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ حَتَّى إِذَا صَدَمُوهُمْ كَانُوا لهم ردءا فنأتيهم مِنْ وَرَائِهِمْ. فَقَالَ: لَهُ نِعْمَ مَا رَأَيْتَ. فَكَانَ خَالِدٌ فِي أَحَدِ الْخَيَلِينَ مِنْ وَرَاءِ الْمَيْمَنَةِ وَجَعَلَ قَيْسَ بْنَ هُبَيْرَةَ فِي الْخَيْلِ الْأُخْرَى وَأَمَرَ أَبَا عُبَيْدَةَ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْقَلْبِ إِلَى وَرَاءِ الْجَيْشِ كُلِّهِ لِكَيْ إِذَا رآه المنهزم استحى مِنْهُ وَرَجَعَ إِلَى الْقِتَالِ، فَجَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ مكانه في القلب سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ أَحَدَ الْعَشْرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَسَاقَ خَالِدٌ إِلَى النِّسَاءِ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ وَمَعَهُنَّ عَدَدٌ مِنَ السُّيُوفِ وَغَيْرِهَا، فَقَالَ لَهُنَّ: مَنْ رَأَيْتُمُوهُ مُولِّيًا فَاقْتُلْنَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَوْقِفِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَبَارَزَ الْفَرِيقَانِ وَعَظَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ انْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اصْبِرُوا فَإِنَّ الصَّبْرَ مَنْجَاةٌ مِنَ الْكُفْرِ وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ وَمَدْحَضَةٌ لِلْعَارِ، وَلَا تَبْرَحُوا مَصَافَّكُمْ، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدءوهم بالقتال وشرعوا الرِّمَاحَ وَاسْتَتِرُوا بِالدَّرَقِ وَالْزَمُوا الصَّمْتَ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي أَنْفُسِكُمْ حَتَّى آمُرَكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالُوا: وَخَرَجَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى النَّاسِ فَجَعَلَ يُذَكِّرُهُمْ وَيَقُولُ يَا أهل القرآن، ومتحفظى الْكِتَابِ وَأَنْصَارَ الْهُدَى وَالْحَقِّ، إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ لَا تُنَالُ وَجَنَّتَهُ لَا تُدْخَلُ بِالْأَمَانِيِّ، وَلَا يُؤْتِي اللَّهُ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ الْوَاسِعَةَ إِلَّا الصَّادِقَ الْمُصَدِّقَ أَلَمْ تَسْمَعُوا لِقَوْلِ اللَّهِ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ

(7/8)


الَّذِينَ من قَبْلِهِمْ 24: 55 الآية. فَاسْتَحْيُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ مِنْ رَبِّكُمْ أَنْ يَرَاكُمْ فُرَّارًا مِنْ عَدُّوِّكُمْ وَأَنْتُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَلَيْسَ لَكُمْ مُلْتَحَدٌ مِنْ دُونِهِ وَلَا عِزٌّ بِغَيْرِهِ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، فَإِذَا حَمَلُوا عَلَيْكُمْ فَأَمْهِلُوهُمْ حَتَّى إِذَا رَكِبُوا أطراف الاسنة فثبوا إليهم وثبة الأسد، فو الّذي يَرْضَى الصِّدْقَ وَيُثِيبُ عَلَيْهِ وَيَمْقُتُ الْكَذِبَ وَيَجْزِي بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا، لَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيَفْتَحُونَهَا كَفْرًا كَفْرًا وَقَصْرًا قَصْرًا، فَلَا يَهُولَنَّكُمْ جُمُوعُهُمْ وَلَا عَدَدُهُمْ، فَإِنَّكُمْ لَوْ صَدَقْتُمُوهُمُ الشَّدَّ تَطَايَرُوا تَطَايُرَ أَوْلَادِ الْحَجَلِ.
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْتُمُ الْعَرَبُ وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي دَارِ الْعَجَمِ مُنْقَطِعِينَ عَنِ الْأَهْلِ نَائِينَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْدَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَاللَّهِ أَصْبَحْتُمْ بِإِزَاءِ عَدُوٍّ كَثِيرٍ عَدَدُهُ، شَدِيدٌ عَلَيْكُمْ حَنَقُهُ، وَقَدْ وَتِرْتُمُوهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَبِلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَاللَّهِ لَا يُنَجِّيكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَلَا يُبْلَغُ بِكُمْ رِضْوَانَ اللَّهِ غَدًا إِلَّا بِصِدْقِ اللِّقَاءِ وَالصَّبْرِ فِي الْمَوَاطِنِ الْمَكْرُوهَةِ، أَلَا وَإِنَّهَا سُنَّةٌ لَازِمَةٌ وَإِنَّ الْأَرْضَ وَرَاءَكُمْ، بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ صَحَارَى وَبَرَارِيُّ، لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا مَعْقِلٌ وَلَا مَعْدِلٌ إِلَّا الصَّبْرُ وَرَجَاءُ مَا وَعَدَ اللَّهُ فَهُوَ خَيْرُ مُعَوَّلٍ، فَامْتَنِعُوا بِسُيُوفِكُمْ وَتَعَاوَنُوا وَلْتَكُنْ هِيَ الْحُصُونُ.
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى النِّسَاءِ فَوَصَّاهُنَّ ثُمَّ عَادَ فَنَادَى: يَا مَعَاشِرَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ حَضَرَ مَا تَرَوْنَ فَهَذَا رسول الله وَالْجَنَّةُ أَمَامَكُمْ، وَالشَّيْطَانُ وَالنَّارُ خَلْفَكُمْ. ثُمَّ سَارَ إِلَى مَوْقِفِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ وَعَظَ النَّاسَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا فَجَعَلَ يَقُولُ: سَارِعُوا إِلَى الْحُورِ الْعِينِ وَجِوَارِ رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، مَا أَنْتُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فِي موطن بأحب إِلَيْهِ مِنْكُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ، أَلَا وَإِنَّ لِلصَّابِرِينَ فَضْلَهُمْ. قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ شُيُوخِهِ: إِنَّهُمْ قَالُوا كَانَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ أَلْفُ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ مِائَةٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ. وَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَقِفُ عَلَى كُلِّ كُرْدُوسٍ وَيَقُولُ: اللَّهَ اللَّهَ إِنَّكُمْ دَارَةُ الْعَرَبِ وَأَنْصَارُ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّهُمْ دَارَةُ الرُّومِ وَأَنْصَارُ الشِّرْكِ، اللَّهمّ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِكَ، اللَّهمّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ عَلَى عِبَادِكَ. قَالُوا: وَلَمَّا أَقْبَلَ خَالِدٌ مِنَ الْعِرَاقِ قَالَ رَجُلٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ:
مَا أَكْثَرَ الرُّومَ وَأَقَلَّ الْمُسْلِمِينَ!! فَقَالَ خَالِدٌ: وَيْلَكَ، أَتُخَوِّفُنِي بِالرُّومِ؟ إِنَّمَا تَكْثُرُ الْجُنُودُ بِالنَّصْرِ، وَتَقِلُّ بِالْخِذْلَانِ لَا بِعَدَدِ الرِّجَالِ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أن الأشقر برأ من توجعه، وَأَنَّهُمْ أَضْعَفُوا فِي الْعَدَدِ- وَكَانَ فَرَسُهُ قَدْ حفا وَاشْتَكَى فِي مَجِيئِهِ مِنَ الْعِرَاقِ- وَلَمَّا تَقَارَبَ النَّاسُ تَقَدَّمَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَمَعَهُمَا ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، وَنَادَوْا: إِنَّمَا نُرِيدُ أَمِيرَكُمْ لِنَجْتَمِعَ بِهِ، فَأُذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ عَلَى تَذَارِقَ، وَإِذَا هُوَ جَالَسٌ فِي خَيْمَةٍ مِنْ حَرِيرٍ. فَقَالَ الصَّحَابَةُ:
لَا نَسْتَحِلُّ دُخُولَهَا، فَأَمَرَ لَهُمْ بِفُرُشٍ بُسُطٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالُوا: وَلَا نَجْلِسُ عَلَى هَذِهِ. فَجَلَسَ مَعَهُمْ حيث

(7/9)


أَحَبُّوا وَتَرَاضَوْا عَلَى الصُّلْحِ، وَرَجَعَ عَنْهُمُ الصَّحَابَةُ بعد ما دَعَوْهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمْ يَتِمَّ ذلك.
وذكر الوليد بن مسلم أن ماهان طَلَبَ خَالِدًا لِيَبْرُزَ إِلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فيجتمعا في مصلحة لهم.
فقال ماهان: إِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَا أَخْرَجَكُمْ مِنْ بِلَادِكُمُ الْجَهْدَ وَالْجُوعَ، فَهَلُمُّوا إِلَى أَنْ أُعْطِيَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَكِسْوَةً وَطَعَامًا وَتَرْجِعُونَ إِلَى بِلَادِكُمْ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ بَعَثْنَا لَكُمْ بِمِثْلِهَا.
فَقَالَ خَالِدٌ: إِنَّهُ لَمْ يُخْرِجْنَا مِنْ بِلَادِنَا مَا ذَكَرْتَ، غَيْرَ أَنَّا قَوْمٌ نَشْرَبُ الدِّمَاءَ، وَأَنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّهُ لَا دَمَ أَطْيَبُ مِنْ دَمِ الرُّومِ، فَجِئْنَا لذلك. فقال أصحاب ماهان: هَذَا وَاللَّهِ مَا كُنَّا نُحَدَّثُ بِهِ عَنِ الْعَرَبِ.
قَالُوا ثُمَّ تَقَدَّمَ خَالِدٌ إِلَى عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَالْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو- وَهُمَا عَلَى مُجَنِّبَتَيِ الْقَلْبِ- أَنْ يُنْشِئَا الْقِتَالَ، فَبَدَرَا يَرْتَجِزَانِ وَدَعَوْا إِلَى الْبِرَازِ، وَتَنَازَلَ الْأَبْطَالُ، وَتَجَاوَلُوا وَحَمِيَ الْحَرْبُ وَقَامَتْ عَلَى سَاقٍ.
هَذَا وَخَالِدٌ مع كُرْدُوسٌ مِنَ الْحُمَاةِ الشُّجْعَانِ الْأَبْطَالِ بَيْنَ يَدَيِ الصُّفُوفِ، وَالْأَبْطَالُ يَتَصَاوَلُونَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَنْظُرُ وَيَبْعَثُ إِلَى كُلِّ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِمَا يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ، وَيُدَبِّرُ أَمْرَ الحرب أتم تدبير.
وقال إسحاق بن بشير عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ قُدَمَاءِ مشايخ دمشق، قالوا: ثم زحف ماهان فَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ معاذ بن جبل، وعلى الميسرة قباب بن أشيم الكناني، وعلى الرجالة هاشم بن عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَخَرَجَ النَّاسُ عَلَى رَايَاتِهِمْ، وَسَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ يَقُولُ: عِبَادَ اللَّهِ انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معاشر الْمُسْلِمِينَ اصْبِرُوا فَإِنَّ الصَّبْرَ مَنْجَاةٌ مِنَ الْكُفْرِ، وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ، وَمَدْحَضَةٌ لِلْعَارِ، وَلَا تَبْرَحُوا مَصَافَّكُمْ، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدءوهم بِالْقِتَالِ، وَأَشْرِعُوا الرِّمَاحَ، وَاسْتَتِرُوا بِالدَّرَقِ، وَالْزَمُوا الصَّمْتَ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَخَرَجَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَجَعَلَ يُذَكِّرُهُمْ، وَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، وَمُسْتَحْفِظِي الْكِتَابِ، وَأَنْصَارَ الْهُدَى وَالْحَقِّ، إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ لَا تُنَالُ، وَجَنَّتَهُ لَا تُدْخَلُ بِالْأَمَانِيِّ، وَلَا يُؤْتِي اللَّهُ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ الْوَاسِعَةَ إِلَّا للصادق الْمُصَدِّقَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ 24: 55 إلى آخر الآية؟ فَاسْتَحْيُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ مِنْ رَبِّكُمْ أَنْ يَرَاكُمْ فُرَّارًا مِنْ عَدُّوِّكُمْ، وَأَنْتُمْ فِي قَبْضَتِهِ، وَلَيْسَ لَكُمْ مُلْتَحَدٌ مِنْ دُونِهِ. وَسَارَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي النَّاسِ وَهُوَ يَقُولُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ غضوا الأبصار واجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، فَإِذَا حَمَلُوا عَلَيْكُمْ فَأَمْهِلُوهُمْ حَتَّى إِذَا رَكِبُوا أطراف الأسنة فثبوا وثبة الأسد، فو الّذي يَرْضَى الصِّدْقَ وَيُثِيبُ عَلَيْهِ، وَيَمْقُتُ الْكَذِبَ وَيَجْزِي الْإِحْسَانَ إِحْسَانًا. لَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيَفْتَحُونَهَا كَفْرًا كَفْرًا وَقَصْرًا قَصْرًا، فَلَا يَهُولَنَّكُمْ جُمُوعُهُمْ وَلَا عَدَدُهُمْ، فَإِنَّكُمْ لَوْ صَدَقْتُمُوهُمُ الشَّدَّ لَتَطَايَرُوا تَطَايُرَ أَوْلَادِ الْحَجَلِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو سُفْيَانَ فَأَحْسَنَ وَحَثَّ عَلَى الْقِتَالِ فَأَبْلَغَ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ. ثُمَّ قَالَ حِينَ تَوَاجَهَ النَّاسُ: يَا معشر أهل

(7/10)


الْإِسْلَامِ حَضَرَ مَا تَرَوْنَ، فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ وَالْجَنَّةُ أَمَامَكُمْ، وَالشَّيْطَانُ وَالنَّارُ خَلْفَكُمْ، وَحَرَّضَ أَبُو سُفْيَانَ النِّسَاءَ فَقَالَ: مَنْ رَأَيْتُنَّهُ فَارًّا فَاضْرِبْنَهُ بِهَذِهِ الْأَحْجَارِ وَالْعِصِيِّ حَتَّى يَرْجِعَ.
وَأَشَارَ خَالِدٌ أَنْ يَقِفَ فِي الْقَلْبِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَنْ يَكُونَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ لِيَرُدَّ الْمُنْهَزِمَ. وَقَسَمَ خَالِدٌ الْخَيْلَ قِسْمَيْنِ فَجَعَلَ فِرْقَةً وَرَاءَ الْمَيْمَنَةِ، وَفِرْقَةً وَرَاءَ الْمَيْسَرَةِ، لِئَلَّا يَفِرَّ النَّاسُ وَلِيَكُونُوا رِدْءًا لَهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ. فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: افْعَلْ مَا أَرَاكَ اللَّهُ، وَامْتَثَلُوا مَا أَشَارَ بِهِ خَالِدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَقْبَلَتِ الرُّومُ رَافِعَةً صُلْبَانَهَا وَلَهُمْ أَصْوَاتٌ مُزْعِجَةٌ كَالرَّعْدِ، وَالْقَسَاقِسَةُ وَالْبَطَارِقَةُ تُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَهُمْ فِي عَدَدٍ وَعُدَدٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، فاللَّه الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَقَدْ كَانَ فِيمَنْ شَهِدَ الْيَرْمُوكَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مَنْ هُنَاكَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ النَّاسِ وَشُجْعَانِهِمْ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَبْطَالِ يَوْمَئِذٍ فَقَالُوا: أَلَا تَحْمِلُ فَنَحْمِلَ مَعَكَ؟
فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَا تَثْبُتُونَ، فَقَالُوا: بَلَى! فَحَمَلَ وَحَمَلُوا فَلَمَّا وَاجَهُوا صُفُوفَ الرُّومِ أَحْجَمُوا وَأَقْدَمَ هُوَ فَاخْتَرَقَ صُفُوفَ الرُّومِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَعَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ. ثُمَّ جَاءُوا إِلَيْهِ مَرَّةً ثَانِيَةً فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ فِي الْأُولَى، وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ جُرْحَيْنِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ جُرْحٌ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي صَحِيحِهِ. وَجَعَلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ كَلَّمَا سَمِعَ أَصْوَاتَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ يَقُولُ: اللَّهمّ زَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ، وَأَرْعِبْ قُلُوبَهُمْ: وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا السَّكِينَةَ، وَأَلْزِمْنَا كلمة التقوى، وحبب إلينا اللقاء، وأرضنا بالقضاء. وخرج ماهان فأمر صاحب الميسرة وهو الدبريجان، وَكَانَ عَدُوُّ اللَّهِ مُتَنَسِّكًا فِيهِمْ، فَحَمَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَفِيهَا الْأَزْدُ وَمَذْحِجٌ وَحَضْرَمَوْتُ وَخَوْلَانُ، فَثَبَتُوا حَتَّى صَدَقُوا [1] أَعْدَاءَ اللَّهِ، ثُمَّ رَكِبَهُمْ مِنَ الرُّومِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ. فَزَالَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَيْمَنَةِ إلى ناحية القلب، وانكشف طائفة من الناس إلى العسكر، وثبت صور من المسلمين عظيم يقاتلون تحت راياتهم، وانكشف زُبَيْدٌ.
ثُمَّ تَنَادَوْا فَتَرَاجَعُوا وَحَمَلُوا حَتَّى نَهْنَهُوا مَنْ أَمَامَهُمْ مِنَ الرُّومِ وَأَشْغَلُوهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ مَنِ انْكَشَفَ مِنَ النَّاسِ، وَاسْتَقْبَلَ النِّسَاءُ مَنِ انْهَزَمَ مِنْ سَرَعَانِ النَّاسِ يَضْرِبْنَهُمْ بِالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ وَجَعَلَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ تَقُولُ:
يَا هَارِبًا عَنْ نِسْوَةٍ تَقِيَّاتْ ... فَعَنْ قَلِيلٍ مَا تَرَى سبيات
ولا حصيات وَلَا رَضِيَّاتْ
قَالَ: فَتَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ. وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْغَسَّانِيِّ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ: قَاتَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِنَ وَأَفِرُّ مِنْكُمُ الْيَوْمَ؟ ثُمَّ نَادَى:
مَنْ يُبَايِعُ عَلَى الْمَوْتِ؟ فَبَايَعَهُ عَمُّهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ
__________
[1] كذا في النسخ. ولعله صدوا.

(7/11)


وَفُرْسَانِهِمْ، فَقَاتَلُوا قُدَّامَ فُسْطَاطِ خَالِدٍ حَتَّى أُثْبِتُوا جَمِيعًا جِرَاحًا، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ مِنْهُمْ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ لَمَّا صُرِعُوا مِنَ الْجِرَاحِ اسْتَسْقَوْا مَاءً فَجِيءَ إِلَيْهِمْ بِشَرْبَةِ مَاءٍ فَلَمَّا قُرِّبَتْ إِلَى أَحَدِهِمْ نَظَرَ إِلَيْهِ الْآخَرُ فَقَالَ: ادْفَعْهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا دُفِعَتْ إِلَيْهِ نَظَرَ إِلَيْهِ الآخر فقال: ادفعها إليه، فتدافعوها كلهم مِنْ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ حَتَّى مَاتُوا جَمِيعًا وَلَمْ يَشْرَبْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَيُقَالُ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا رَجُلٌ جَاءَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ تَهَيَّأْتُ لِأَمْرِي فَهَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، تقرئه عَنِّي السَّلَامَ وَتَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا. قَالَ: فتقدم هذا الرجل حَتَّى قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالُوا: وَثَبَتَ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى رَايَتِهِمْ حَتَّى صَارَتِ الرُّومُ تَدُورُ كأنّها الرحا. فلم تر يوم اليرموك (إلا) مخا سَاقِطًا، وَمِعْصَمًا نَادِرًا، وَكَفًّا طَائِرَةً مِنْ ذَلِكَ الْمَوْطِنِ. ثُمَّ حَمَلَ خَالِدٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْخَيَّالَةِ عَلَى الْمَيْسَرَةِ الَّتِي حَمَلَتْ عَلَى مَيْمَنَةِ المسلمين فأزالوهم إلى القلب فقتل من الروم فِي حَمْلَتِهِ هَذِهِ سِتَّةَ آلَافٍ مِنْهُمْ ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنَ الصَّبْرِ وَالْجَلَدِ غَيْرَ مَا رَأَيْتُمْ، وَإِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ يَمْنَحَكُمُ اللَّهُ أَكْتَافَهُمْ. ثُمَّ اعْتَرَضَهُمْ فَحَمَلَ بِمِائَةِ فَارِسٍ مَعَهُ عَلَى نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ فَمَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ حَتَّى انْفَضَّ جَمْعُهُمْ، وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَانْكَشَفُوا وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْهُمْ.
قَالُوا: وَبَيْنَمَا هُمْ فِي جَوْلَةِ الْحَرْبِ وَحَوْمَةِ الْوَغَى وَالْأَبْطَالُ يَتَصَاوَلُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، إِذْ قَدِمَ الْبَرِيدُ مِنْ نَحْوِ الْحِجَازِ فَدُفِعَ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ لَهُ: مَا الْخَبَرُ؟ فَقَالَ لَهُ- فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ-: إِنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ الله عنه قد توفى واستخلف عمر، واستناب عَلَى الْجُيُوشِ أَبَا عُبَيْدَةَ عَامِرَ بْنَ الْجَرَّاحِ. فَأَسَرَّهَا خَالِدٌ وَلَمْ يُبْدِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ لِئَلَّا يَحْصُلَ ضَعْفٌ وَوَهَنٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَقَالَ لَهُ وَالنَّاسُ يَسْمَعُونَ: أَحْسَنْتَ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْكِتَابَ فَوَضَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ وَاشْتَغَلَ بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَالْمُقَاتِلَةِ، وَأَوْقَفَ الرَّسُولَ الَّذِي جاء بالكتاب- وهو منجمة بْنُ زُنَيْمٍ- إِلَى جَانِبِهِ. كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَسَانِيدِهِ.
قَالُوا وَخَرَجَ جَرَجَةُ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ مِنَ الصَّفِّ وَاسْتَدْعَى خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فجاء إليه حتى اختلفت أعتاق فَرَسَيْهِمَا، فَقَالَ جَرَجَةُ: يَا خَالِدُ أَخْبِرْنِي فَاصْدُقْنِي وَلَا تَكْذِبْنِي، فَإِنَّ الْحُرَّ لَا يَكْذِبُ، وَلَا تُخَادِعْنِي فَإِنَّ الْكَرِيمَ لَا يُخَادِعُ الْمُسْتَرْسِلَ باللَّه، هَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ سَيْفًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَعْطَاكَهُ فَلَا تَسُلُّهُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا هزمتهم؟ قال: لا! قال: فيم سُمِّيتَ سَيْفَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ فينا نبيه فَدَعَانَا فَنَفَرْنَا مِنْهُ وَنَأَيْنَا عَنْهُ جَمِيعًا، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَنَا صَدَّقَهُ وَتَابَعَهُ، وَبَعْضَنَا كَذَّبَهُ وَبَاعَدَهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ كَذَّبَهُ وَبَاعَدَهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ بِقُلُوبِنَا وَنَوَاصِينَا فَهَدَانَا بِهِ وَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ لِي: أَنْتَ سَيْفٌ مِنْ

(7/12)


سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَدَعَا لِي بِالنَّصْرِ، فَسُمِّيتُ سَيْفَ اللَّهِ بِذَلِكَ فَأَنَا مِنْ أَشَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
فَقَالَ جَرْجَةُ: يا خالد إلى ما تَدْعُونَ؟ قَالَ: إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَالْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَمَنْ لَمْ يُجِبْكُمْ؟ قَالَ: فَالْجِزْيَةُ وَنَمْنَعُهُمْ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا قَالَ: نُؤْذِنُهُ بِالْحَرْبِ ثُمَّ نُقَاتِلُهُ. قَالَ: فَمَا مَنْزِلَةُ مَنْ يُجِيبُكُمْ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْيَوْمَ؟ قَالَ مَنْزِلَتُنَا وَاحِدَةٌ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا، شَرِيفُنَا وَوَضِيعُنَا وَأَوَّلُنَا وَآخِرُنَا. قَالَ جَرَجَةُ: فَلِمَنْ دَخَلَ فِيكُمُ الْيَوْمَ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ مَا لَكَمَ مِنَ الْأَجْرِ وَالذُّخْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَأَفْضَلُ. قَالَ: وَكَيْفَ يُسَاوِيكُمْ وَقَدْ سَبَقْتُمُوهُ؟ فَقَالَ خَالِدٌ: إِنَّا قبلنا هذا الأمر عنوة وبايعنا نبينا وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا تَأْتِيهِ أَخْبَارُ السَّمَاءِ ويخبرنا بالكتاب وَيُرِينَا الْآيَاتِ، وَحُقَّ لِمَنْ رَأَى مَا رَأَيْنَا، وَسَمِعَ مَا سَمِعْنَا أَنْ يُسْلِمَ وَيُبَايِعَ، وَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ لَمْ تَرَوْا مَا رَأَيْنَا، وَلَمْ تَسْمَعُوا مَا سَمِعْنَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْحُجَجِ، فَمَنْ دَخَلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْكُمْ بِحَقِيقَةٍ وَنِيَّةٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنَّا؟ فَقَالَ جَرَجَةُ: باللَّه لَقَدْ صَدَقْتَنِي ولم تخادعني؟ قال: تاللَّه لَقَدْ صَدَقْتُكَ وَإِنَّ اللَّهَ وَلِيُّ مَا سَأَلَتْ عَنْهُ. فَعِنْدَ ذَلِكَ قَلَبَ جَرَجَةُ التُّرْسَ وَمَالَ مَعَ خَالِدٍ وَقَالَ: عَلِّمْنِي الْإِسْلَامَ، فَمَالَ بِهِ خالد إلى فسطاطه فسنّ عَلَيْهِ قِرْبَةً مِنْ مَاءٍ ثُمَّ صَلَّى بِهِ رَكْعَتَيْنِ. وَحَمَلَتِ الرُّومُ مَعَ انْقِلَابِهِ إِلَى خَالِدٍ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا مِنْهُ حَمْلَةٌ فَأَزَالُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ إِلَّا الْمُحَامِيَةَ عَلَيْهِمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أبى جهل والحرث بْنُ هِشَامٍ. فَرَكِبَ خَالِدٌ وَجَرَجَةُ مَعَهُ وَالرُّومُ خِلَالَ الْمُسْلِمِينَ، فَتَنَادَى النَّاسُ وَثَابُوا وَتَرَاجَعَتِ الرُّومُ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ وَزَحَفَ خَالِدٌ بِالْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَصَافَحُوا بِالسُّيُوفِ فَضَرَبَ فِيهِمْ خَالِدٌ وَجَرَجَةُ مِنْ لَدُنِ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ إِلَى جُنُوحِ الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ. وَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَصَلَاةَ الْعَصْرِ إِيمَاءً، وَأُصِيبَ جَرَجَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمْ يُصَلِّ للَّه إِلَّا تِلْكَ الرَّكْعَتَيْنِ مَعَ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وضعضعت الرُّومُ عِنْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ نَهَدَ خَالِدٌ بِالْقَلْبِ حَتَّى صَارَ فِي وَسَطِ خُيُولِ الرُّومِ، فَعِنْدَ ذلك هربت خيالتهم، وأسندت بِهِمْ فِي تِلْكَ الصَّحْرَاءِ، وَأَفْرَجَ الْمُسْلِمُونَ بِخُيُولِهِمْ حتى ذهبوا. وأخر الناس صلاتي العشاءين حتى استقر الفتح، وعمد خالد إلى رحل الرُّومِ وَهُمُ الرَّجَّالَةُ فَفَصَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ حَتَّى صَارُوا كَأَنَّهُمْ حَائِطٌ قَدْ هُدِمَ ثُمَّ تَبِعُوا مَنْ فَرَّ مِنَ الْخَيَّالَةِ وَاقْتَحَمَ خَالِدٌ عَلَيْهِمْ خَنْدَقَهُمْ، وَجَاءَ الرُّومُ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ إِلَى الْوَاقُوصَةِ، فَجَعَلَ الَّذِينَ تَسَلْسَلُوا وَقَيَّدُوا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ إِذَا سَقَطَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَقَطَ الَّذِينَ مَعَهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: فَسَقَطَ فِيهَا وَقُتِلَ عِنْدَهَا مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا سِوَى مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ. وَقَدْ قَاتَلَ نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الرُّومِ، وَكُنَّ يَضْرِبْنَ مَنِ انْهَزَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُلْنَ:
أَيْنَ تَذْهَبُونَ وَتَدَعُونَنَا لِلْعُلُوجِ؟ فَإِذَا زَجَرْنَهُمْ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ نَفْسَهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْقِتَالِ.
قَالَ وَتَجَلَّلَ الْقَيْقَلَانُ وَأَشْرَافٌ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الرُّومِ بِبَرَانِسِهِمْ وَقَالُوا: إِذَا لَمْ نَقْدِرْ عَلَى نَصْرِ دِينِ

(7/13)


النَّصْرَانِيَّةِ فَلْنَمُتْ عَلَى دِينِهِمْ. فَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ. قَالُوا: وَقُتِلَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنْهُمْ عِكْرِمَةُ وَابْنُهُ عَمْرٌو، وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأُثْبِتَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ وَضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ وَعَمْرُو بْنُ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ، وَحَقَّقَ اللَّهُ رُؤْيَا أَبِيهِ يَوْمَ اليمامة. وقد أتلف فِي هَذَا الْيَوْمِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ انْهَزَمَ عمرو ابن الْعَاصِ فِي أَرْبَعَةٍ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى النِّسَاءِ ثُمَّ رَجَعُوا حِينَ زَجَرَهُمُ النِّسَاءُ، وَانْكَشَفَ شُرَحْبِيلُ بن حَسَنَةَ وَأَصْحَابُهُ ثُمَّ تَرَاجَعُوا حِينَ وَعَظَهُمُ الْأَمِيرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ 9: 111 الآية.
وَثَبَتَ يَوْمَئِذٍ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ مَرَّ بِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالصَّبْرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ رَجُلٌ بِهَذَا الْوَادِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مَحْفُوفًا بِالْقِتَالِ، فَكَيْفَ بِكَ وَبِأَشْبَاهِكَ الَّذِينَ وُلُّوا أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ؟! أُولَئِكَ أَحَقُّ النَّاسِ بِالصَّبْرِ وَالنَّصِيحَةِ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا بُنَيَّ وَلَا يَكُونَنَّ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ بَأَرْغَبَ فِي الْأَجْرِ وَالصَّبْرِ فِي الْحَرْبِ وَلَا أَجْرَأَ عَلَى عَدُوِّ الْإِسْلَامِ مِنْكَ. فَقَالَ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَاتَلَ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا وَكَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْقَلْبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: هَدَأَتِ الْأَصْوَاتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَسَمِعْنَا صَوْتًا يَكَادُ يَمْلَأُ الْعَسْكَرَ يَقُولُ: يَا نَصْرَ اللَّهِ اقْتَرِبْ، الثَّبَاتَ الثَّبَاتَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: فَنَظَرْنَا فَإِذَا هُوَ أَبُو سُفْيَانَ تَحْتَ رَايَةِ ابْنِهِ يَزِيدَ. وَأَكْمَلَ خَالِدٌ ليلته في خيمة تدارق أَخِي هِرَقْلَ- وَهُوَ أَمِيرُ الرُّومِ كُلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ- هَرَبَ فِيمَنْ هَرَبَ، وَبَاتَتِ الْخُيُولُ تَجُولُ نَحْوَ خَيْمَةِ خَالِدٍ يَقْتُلُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنَ الروم حتى أصبحوا، وقتل تدارق وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ سُرَادِقًا وَثَلَاثُونَ رُوَاقًا مِنْ دِيبَاجٍ بِمَا فِيهَا مِنَ الْفُرُشِ وَالْحَرِيرِ، فَلَمَّا كان الصباح حازوا ما كان لك مِنَ الْغَنَائِمِ. وَمَا فَرِحُوا بِمَا وَجَدُوا بِقَدْرِ حُزْنِهِمْ عَلَى الصِّدِّيقِ حِينَ أَعْلَمَهُمْ خَالِدٌ بِذَلِكَ وَلَكِنْ عَوَّضَهُمُ اللَّهُ بِالْفَارُوقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ خَالِدٌ حِينَ عَزَّى الْمُسْلِمِينَ فِي الصِّدِّيقِ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي قَضَى عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْمَوْتِ، وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عُمَرَ، وَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي وَلَّى عُمَرَ وَكَانَ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَأَلْزَمَنِي حُبَّهُ.
وَقَدِ اتَّبَعَ خَالِدٌ مَنِ انْهَزَمَ مِنَ الرُّومِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا فَقَالُوا: نَحْنُ عَلَى عَهْدِنَا وَصُلْحِنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ اتَّبَعَهُمْ إِلَى ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ سَاقَ وَرَاءَهُمْ إِلَى حِمْصَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا فَصَالَحَهُمْ كَمَا صَالَحَ أَهْلُ دِمَشْقَ. وَبَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ وَرَاءَهُمْ أَيْضًا فَسَاقَ حَتَّى وَصَلَ مَلَطْيَةَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا وَرَجَعَ. فَلَمَّا بَلَغَ هِرَقْلَ ذَلِكَ بَعَثَ إِلَى مُقَاتِلِيهَا فَحَضَرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَمَرَ بِمَلَطْيَةَ فَحُرِقَتْ وَانْتَهَتِ الرُّومُ مُنْهَزِمَةً إِلَى هِرَقْلَ وَهُوَ بِحِمْصَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي آثَارِهِمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ وَيَغْنَمُونَ. فَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى هِرَقْلَ ارْتَحَلَ مِنْ حِمْصَ وَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَّسَ بِهَا وَقَالَ

(7/14)


هِرَقْلُ: أَمَّا الشَّامُ فَلَا شَامَ، وَوَيْلٌ لِلرُّومِ مِنَ الْمَوْلُودِ الْمَشْئُومِ.
وَمِمَّا قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي يَوْمِ الْيَرْمُوكِ قَوْلُ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو:
أَلَمْ تَرَنَا عَلَى الْيَرْمُوكِ فُزْنَا ... كَمَا فُزْنَا بأيام العراق
وعذراء المدائن قد فتحنا ... ومرج الصفر ... على العتاق
فَتَحْنَا قَبْلَهَا بُصْرَى وَكَانَتْ ... مُحَرَّمَةَ الْجَنَابِ لَدَى النعاق
قَتَلْنَا مَنْ أَقَامَ لَنَا وَفِينَا ... نِهَابُهُمُ بِأَسْيَافٍ رِقَاقِ
قَتَلْنَا الرُّومَ حَتَّى مَا تُسَاوِي ... عَلَى اليرموك معروق الوراق
فضضنا جمعهم لما استجالوا ... عَلَى الْوَاقُوصِ بِالْبُتْرِ الرِّقَاقِ
غَدَاةَ تَهَافَتُوا فِيهَا فَصَارُوا ... إِلَى أَمْرٍ يُعَضِّلُ بِالذَّوَاقِ
وَقَالَ الْأَسْوَدُ بن مقرن التَّمِيمِيُّ:
وَكَمْ قَدْ أَغَرْنَا غَارَةً بَعْدَ غَارَةٍ ... يوما وَيَوْمًا قَدْ كَشَفْنَا أَهَاوِلَهْ
وَلَوْلَا رِجَالٌ كَانَ عشو غَنِيمَةٍ ... لَدَى مَأْقَطٍ رَجَّتْ عَلَيْنَا أَوَائِلُهْ
لَقِينَاهُمُ الْيَرْمُوكَ لَمَّا تَضَايَقَتْ ... بِمَنْ حَلَّ بِالْيَرْمُوكِ مِنْهُ حمائله
فلا يعد من مِنَّا هِرَقْلُ كَتَائِبًا ... إِذَا رَامَهَا رَامَ الَّذِي لَا يُحَاوِلُهْ
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
الْقَوْمُ لَخْمٌ وَجُذَامٌ فِي الْحَرِبْ ... وَنَحْنُ وَالرُّومُ بِمَرْجٍ نضطرب
فإن يعودوا بها لا نصطحب ... بل نعصب الفرار بالضرب الكرب
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ الْمَالِكِيُّ فِي الْمُجَالَسَةِ: ثنا أبو إسماعيل الترمذي ثنا أبو مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَثْبُتُ لَهُمُ الْعَدُوُّ فُوَاقَ نَاقَةٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَقَالَ هِرَقْلُ وَهُوَ عَلَى أَنْطَاكِيَةَ لَمَّا قَدِمَتْ مُنْهَزِمَةُ الرُّومِ: وَيَلَكُمُ أَخْبِرُونِي عَنْ هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بَشَرًا مِثْلَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَأَنْتُمْ أَكْثَرُ أَمْ هُمْ؟ قَالُوا: بَلْ نَحْنُ أَكْثَرُ مِنْهُمْ أَضْعَافًا فِي كُلِّ مَوْطِنٍ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ تنهزمون؟ فَقَالَ شَيْخٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ اللَّيْلَ وَيَصُومُونَ النَّهَارَ، وَيُوفُونَ بِالْعَهْدِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَتَنَاصَفُونَ بَيْنَهُمْ، وَمِنْ أَجْلِ أَنَّا نَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَنَزْنِي، وَنَرْكَبُ الْحَرَامَ، وننقض العهد، ونغصب ونظلم ونأمر بالسخط وَنَنْهَى عَمَّا يُرْضِي اللَّهَ وَنُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ. فَقَالَ: أَنْتَ صَدَقْتَنِي.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى الْغَسَّانِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ قَوْمِهِ قَالَا:
لَمَّا نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ بِنَاحِيَةِ الْأُرْدُنِّ، تَحَدَّثْنَا بَيْنَنَا أَنَّ دِمَشْقَ سَتُحَاصَرُ فَذَهَبْنَا نَتَسَوَّقُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ،

(7/15)


فبينا نحن فيها إذا أَرْسَلَ إِلَيْنَا بِطْرِيقُهَا فَجِئْنَاهُ فَقَالَ: أَنْتُمَا مِنَ الْعَرَبِ؟ قُلْنَا نَعَمْ! قَالَ: وَعَلَى النَّصْرَانِيَّةِ؟
قُلْنَا: نَعَمْ. فَقَالَ: لِيَذْهَبْ أَحَدُكُمَا فَلْيَتَجَسَّسْ لَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَرَأْيِهِمْ، وَلِيَثْبُتِ الْآخَرُ عَلَى مَتَاعِ صَاحِبِهِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ أَحَدُنَا، فَلَبِثَ مَلِيًّا ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ رِجَالٍ دِقَاقْ يركبون خيولا عتاقا، أَمَّا اللَّيْلُ فَرُهْبَانْ، وَأَمَّا النَّهَارُ فَفُرْسَانْ، يَرِيشُونَ النَّبْلَ وَيَبْرُونَهَا، وَيُثَقِّفُونَ الْقَنَا، لَوْ حَدَّثْتَ جَلِيسَكَ حَدِيثًا مَا فَهِمَهُ عَنْكَ لِمَا عَلَا مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ. قَالَ فَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: أَتَاكُمْ مِنْهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَكُمْ به.
انتقال إمرة الشام من خالد بن الوليد إلى أبي عبيدة فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ وَذَلِكَ بَعْدَ وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ
وَصَيْرُورَةِ الْإِمْرَةِ بِالشَّامِ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَوَّلَ مَنْ سُمِّيَ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ.
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَرِيدَ قَدِمَ بِمَوْتِ الصِّدِّيقِ وَالْمُسْلِمُونَ مُصَافُّو الرُّومِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ. وَأَنَّ خَالِدًا كَتَمَ ذَلِكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَقَعَ وَهَنٌ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَجْلَى لَهُمُ الْأَمْرَ وَقَالَ مَا قَالَ، ثُمَّ شَرَعَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي جَمْعِ الغنيمة وتخميسها، وبعث بالفتح والخمس مع قباب بْنِ أَشْيَمَ إِلَى الْحِجَازِ، ثُمَّ نُودِيَ بِالرَّحِيلِ إِلَى دِمَشْقَ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا مَرْجَ الصُّفَّرِ، وَبَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَلِيعَةً أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ وَمَعَهُ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَسِرْتُ فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أمرت الآخر [1] فكمن هناك وسرت أَنَا وَحْدِي حَتَّى جِئْتُ بَابَ الْبَلَدِ، وَهُوَ مُغْلَقٌ فِي اللَّيْلِ وَلَيْسَ هُنَاكَ أَحَدٌ، فَنَزَلْتُ وَغَرَزْتُ رُمْحِي بِالْأَرْضِ وَنَزَعْتُ لِجَامَ فَرَسِي، وَعَلَّقْتُ عَلَيْهِ مِخْلَاتَهُ وَنَمْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ قُمْتُ فَتَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْتُ الْفَجْرَ، فَإِذَا بَابُ الْمَدِينَةِ يُقَعْقِعُ فَلَمَّا فُتِحَ حَمَلْتُ عَلَى الْبَوَّابِ فَطَعَنْتُهُ بِالرُّمْحِ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ وَالطَّلَبُ وَرَائِي فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي فِي الطَّرِيقِ مِنْ أَصْحَابِي ظَنُّوا أَنَّهُ كَمِينٌ فَرَجَعُوا عَنِّي، ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَخَذْنَا الْآخَرَ وَجِئْتُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ، فَأَقَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَنْتَظِرُ كِتَابَ عُمَرَ فِيمَا يَعْتَمِدُهُ مِنْ أَمْرِ دِمَشْقَ، فَجَاءَهُ الْكِتَابُ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا، فَسَارُوا إِلَيْهَا حَتَّى أَحَاطُوا بِهَا. وَاسْتَخْلَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الْيَرْمُوكِ بَشِيرَ بْنَ كَعْبٍ فِي خَيْلٍ هُنَاكَ.
وَقْعَةٌ جَرَتْ بِالْعِرَاقِ بَعْدَ مَجِيءِ خَالِدٍ إِلَى الشَّامِ
وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ اجْتَمَعُوا بَعْدَ مَقْتَلِ مَلِكِهِمْ وَابْنِهِ عَلَى تَمْلِيكِ شَهْرِيَارَ بْنِ أَرْدَشِيرَ بْنِ شَهْرِيَارَ وَاسْتَغْنَمُوا غَيْبَةَ خَالِدٍ عَنْهُمْ فَبَعَثُوا إِلَى نَائِبِهِ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ جَيْشًا كَثِيفًا نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ عَلَيْهِمْ هُرْمُزُ بن حادويه، وَكَتَبَ شَهْرِيَارُ إِلَى الْمُثَنَّى: إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ جُنْدًا مِنْ وَحْشِ أَهْلِ فَارِسَ إِنَّمَا هُمْ رُعَاةُ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلَسْتُ أُقَاتِلُكَ إِلَّا بِهِمْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُثَنَّى: مِنَ الْمُثَنَّى إِلَى شهريار
__________
[1] كذا في الأصلين ولعل فيه سقطا.

(7/16)


إِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ إِمَّا بَاغٍ فَذَلِكَ شَرٌّ لَكَ وَخَيْرٌ لَنَا، وَإِمَّا كَاذِبٌ فَأَعْظَمُ الْكَاذِبِينَ عُقُوبَةً وَفَضِيحَةً عِنْدَ اللَّهِ فِي النَّاسِ الْمُلُوكُ، وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّنَا عَلَيْهِ الرَّأْيُ فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِمْ، فَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي رَدَّ كَيْدَكُمْ إِلَى رُعَاةِ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ. قَالَ: فَجَزِعَ أَهْلُ فَارِسَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَامُوا شَهْرِيَارَ عَلَى كِتَابِهِ إِلَيْهِ وَاسْتَهْجَنُوا رَأْيَهُ. وَسَارَ الْمُثَنَّى مِنَ الْحَرَّةِ إِلَى بَابِلَ، وَلَمَّا الْتَقَى الْمُثَنَّى وَجَيْشَهُمْ بِمَكَانٍ عِنْدَ عُدْوَةِ الصَّرَاةِ الْأُولَى، اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، وَأَرْسَلَ الْفُرْسُ فِيلًا بَيْنَ صُفُوفِ الْخَيْلِ لِيُفَرِّقَ خُيُولَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ فَقَتَلَهُ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ فَحَمَلُوا، فَلَمْ تَكُنْ إِلَّا هَزِيمَةُ الْفُرْسِ فَقَتَلُوهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَغَنِمُوا مِنْهُمْ مَالًا عَظِيمًا، وَفَّرَتِ الْفُرْسُ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمَدَائِنِ فِي شَرِّ حَالَةٍ، وَوَجَدُوا الْمَلِكَ قَدْ مَاتَ فَمَلَّكُوا عَلَيْهِمُ ابْنَةَ كِسْرَى «بُورَانَ بِنْتَ أَبَرْوِيزَ» فَأَقَامَتِ العدل، وأحسنت السيرة، فأقامت سنة وسبع شُهُورٍ، ثُمَّ مَاتَتْ، فَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ أُخْتَهَا «آزَرْمِيدُخْتَ زَنَانَ» فَلَمْ يَنْتَظِمْ لَهُمْ أَمْرٌ، فَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ «سَابُورَ بْنَ شَهْرِيَارَ» ، وَجَعَلُوا أَمْرَهُ إِلَى الْفَرُّخْزَاذِ بْنِ الْبِنْدَوَانِ فَزَوَّجَهُ سَابُورُ بِابْنَةِ كِسْرَى «آزَرْمِيدُخْتَ» فَكَرِهَتْ ذَلِكَ وَقَالَتْ: إِنَّمَا هَذَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِنَا. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ عُرْسِهَا عَلَيْهِ هَمُّوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى سَابُورَ فَقَتَلُوهُ أَيْضًا، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ وَهِيَ «آزَرْمِيدُخْتُ» ابْنَةُ كِسْرَى. وَلَعِبَتْ فَارِسُ بِمُلْكِهَا لَعِبًا كَثِيرًا، وَآخِرُ مَا اسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنْ مَلَّكُوا امْرَأَةً وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» . وَفِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَقُولُ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ السَّعْدِيُّ، وَكَانَ قَدْ هَاجَرَ لِمُهَاجَرَةِ حَلِيلَةٍ لَهُ حَتَّى شَهِدَ وَقْعَةَ بَابِلَ هَذِهِ، فَلَمَّا آيَسَتْهُ رَجَعَ إِلَى الْبَادِيَةِ وَقَالَ:
هَلْ حَبْلُ خَوْلَةَ بَعْدَ الْبَيْنِ مَوْصُولُ ... أَمْ أَنْتَ عَنْهَا بَعِيدُ الدَّارِ مَشْغُولُ
وَلِلْأَحِبَّةِ أَيَّامٌ تَذَكَّرُهَا ... وَلِلنَّوَى قَبْلَ يَوْمِ الْبَيْنِ تَأْوِيلُ
حَلَّتْ خُوَيْلَةُ فِي حَيٍّ عَهِدْتُهُمُ ... دُونَ الْمَدِينَةِ فِيهَا الدِّيكُ وَالْفِيلُ
يُقَارِعُونَ رُءُوسَ الْعُجْمِ ضَاحِيَةً ... مِنْهُمْ فَوَارِسُ لَا عُزْلٌ وَلَا مِيلُ
وَقَدْ قَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي شِعْرِهِ يَذْكُرُ قَتْلَ الْمُثَنَّى ذَلِكَ الْفِيلَ:
وَبَيْتُ الْمُثَنَّى قَاتِلِ الْفِيلِ عَنْوَةً ... بِبَابِلَ إِذْ فِي فَارِسٍ مُلْكُ بَابِلِ
ثُمَّ إِنَّ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ اسْتَبْطَأَ أَخْبَارَ الصِّدِّيقِ لِتَشَاغُلِهِ بِأَهْلِ الشَّامِ، وَمَا فِيهِ مِنْ حَرْبِ الْيَرْمُوكِ الْمُتَقَدِّمِ ذَكَرُهُ، فَسَارَ الْمُثَنَّى بنفسه إِلَى الصِّدِّيقِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الْعِرَاقِ بَشِيرَ بْنَ الْخَصَاصِيَةِ، وَعَلَى الْمَسَالِحِ سَعِيدَ بْنَ مُرَّةَ الْعِجْلِيَّ، فَلَمَّا انْتَهَى الْمُثَنَّى إِلَى الْمَدِينَةِ وَجَدَ الصِّدِّيقَ فِي آخِرِ مَرَضِ الْمَوْتِ. وَقَدْ عَهِدَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخِطَابِ، وَلَمَّا رَأَى الصِّدِّيقُ الْمُثَنَّى قال لعمر: إذا أنامت فلا نمسين حتى تندب

(7/17)


النَّاسَ لِحَرْبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ الْمُثَنَّى، وَإِذَا فتح الله على أمرائنا بِالشَّامِ فَارْدُدْ أَصْحَابَ خَالِدٍ إِلَى الْعِرَاقِ فَإِنَّهُمْ. أَعْلَمُ بِحَرْبِهِ.
فَلَمَّا مَاتَ الصِّدِّيقُ نَدَبَ عُمَرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجِهَادِ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ لِقِلَّةِ مَنْ بَقِيَ فِيهِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ بَعْدَ خَالِدِ بْنِ الوليد، فانتدب خلقا وأمر عليهم أبا عبيدة بْنَ مَسْعُودٍ، وَكَانَ شَابًّا شُجَاعًا، خَبِيرًا بِالْحَرْبِ وَالْمَكِيدَةِ. وَهَذَا آخِرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِخَبَرِ الْعِرَاقِ إِلَى آخَرِ أَيَّامِ الصِّدِّيقِ وَأَوَّلِ دَوْلَةِ الْفَارُوقِ.
خِلَافَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
كَانَتْ وَفَاةُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ عَشِيَّةً، وَقِيلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَدُفِنَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَذَلِكَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ بَعْدَ مَرَضٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُصَلِّي عَنْهُ فِيهَا بِالْمُسْلِمِينَ، وَفِي أَثْنَاءِ هَذَا الْمَرَضِ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخِطَابِ، وَكَانَ الَّذِي كَتَبَ الْعَهْدَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانِ، وَقُرِئَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَقَرُّوا بِهِ وَسَمِعُوا لَهُ وَأَطَاعُوا، فَكَانَتْ خِلَافَةُ الصِّدِّيقِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً، لِلسِّنِّ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي التُّرْبَةِ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَاةِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي قَطَنٍ عَمْرِو بْنِ الهيثم عن ربيع بن حسان الصَّائِغِ. قَالَ: كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ أَبِي بَكْرٍ «نِعْمَ الْقَادِرُ اللَّهُ» . وَهَذَا غَرِيبٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَةَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسِيرَتَهُ وَأَيَّامَهُ وَمَا رَوَى مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي مُجَلَّدٍ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَتَمَّ الْقِيَامِ الْفَارُوقُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَقِيلَ غَيْرُهُ كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَسِيرَتِهِ الَّتِي أَفْرَدْنَاهَا فِي مُجَلَّدٍ، وَمَسْنَدِهِ وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ مُرَتَّبًا عَلَى الْأَبْوَابِ فِي مُجَلَّدٍ آخَرَ وللَّه الْحَمْدُ.
وَقَدْ كَتَبَ بِوَفَاةِ الصِّدِّيقِ إِلَى أُمَرَاءِ الشَّامِ مَعَ شداد بن أوس، ومحمد بن جريح، فَوَصَلَا وَالنَّاسُ مُصَافُّونَ جُيُوشَ الرُّومِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ أَمَّرَ عُمَرُ عَلَى الْجُيُوشِ أبا عبيدة حين ولاه وَعَزَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ. وَذَكَرَ سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا عَزَلَ خَالِدًا لِكَلَامٍ بَلَغَهُ عَنْهُ، وَلِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، وَمَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ فِي حَرْبِهِ. فَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ كَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ عَزَلَ خَالِدًا، وَقَالَ: لَا يَلِي لِي عَمَلًا أَبَدًا. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ إِنْ أَكْذَبَ خَالِدٌ نَفْسَهُ فَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُكْذِبْ نَفْسَهُ فَهُوَ مَعْزُولٌ، فَانْزِعْ عِمَامَتَهُ عَنْ رَأْسِهِ وَقَاسِمْهُ مَالَهُ نِصْفَيْنِ. فَلَمَّا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَلِكَ لِخَالِدٍ قَالَ لَهُ خَالِدٌ: أَمْهِلْنِي حَتَّى أَسْتَشِيرَ أُخْتِي، فَذَهَبَ إِلَى أُخْتِهِ فَاطِمَةَ- وَكَانَتْ تَحْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ- فَاسْتَشَارَهَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ عُمَرَ لَا يحبك أبدا، وإنه سيعزلك وإن كذبت بنفسك. فَقَالَ لَهَا: صَدَقَتِ وَاللَّهِ. فَقَاسَمَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ حتى أخذ [إحدى] نعليه وترك له الآخرة،

(7/18)


وَخَالِدٌ يَقُولُ سَمْعًا وَطَاعَةً لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ أنه قال: أَوَّلَ كِتَابٍ كَتَبَهُ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ حِينَ وَلَّاهُ وَعَزَلَ خَالِدًا أَنْ قَالَ: «وَأُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَبْقَى وَيَفْنَى مَا سِوَاهُ، الَّذِي هَدَانَا مِنَ الضَّلَالَةِ، وَأَخْرَجَنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى جُنْدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقُمْ بِأَمْرِهِمُ الَّذِي يَحِقُّ عَلَيْكَ، لا تقدم المسلمين هَلَكَةٍ رَجَاءَ غَنِيمَةٍ، وَلَا تُنْزِلْهُمْ مَنْزِلًا قَبْلَ أَنْ تَسْتَرِيدَهُ لَهُمْ وَتَعْلَمَ كَيْفَ مَأْتَاهُ، وَلَا تبعث سرية إلّا في كنف مِنَ النَّاسِ، وَإِيَّاكَ وَإِلْقَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْهَلَكَةِ، وَقَدْ أَبْلَاكَ اللَّهُ بِي وَأَبْلَانِي بِكَ، فَغُضَّ بَصَرَكَ عَنِ الدُّنْيَا، وَأَلْهِ قَلْبَكَ عَنْهَا، وَإِيَّاكَ أَنْ تُهْلِكَكَ كَمَا أَهْلَكَتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَقَدْ رَأَيْتَ مَصَارِعَهُمْ. وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى دِمَشْقَ» ، وكان بعد ما بَلَغَهُ الْخَبَرُ بِفَتْحِ الْيَرْمُوكِ وَجَاءَتْهُ بِهِ الْبِشَارَةُ، وَحُمِلَ الْخُمُسُ إِلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أن الصحابة قاتلوا بعد اليرموك أجنادين ثُمَّ بِفِحْلٍ مِنْ أَرْضِ الْغَوْرِ قَرِيبًا مِنْ بَيْسَانَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الرَّدْغَةُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لكثرة ما لقوا من الأوحال فِيهَا، فَأَغْلَقُوهَا عَلَيْهِمْ، وَأَحَاطَ بِهَا الصَّحَابَةُ. قَالَ: وَحِينَئِذٍ جَاءَتِ الْإِمَارَةُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ جِهَةِ عُمَرَ وَعُزِلَ خَالِدٌ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ مَجِيءِ الْإِمَارَةِ لِأَبِي عُبَيْدَةَ فِي حصار دمشق هو المشهور.
ذِكْرُ فَتَحِ دِمَشْقَ
قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ لَمَّا ارْتَحَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنَ الْيَرْمُوكِ فَنَزَلَ بِالْجُنُودِ عَلَى مَرْجِ الصُّفَّرِ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى حصار دمشق إذا أتاه الخبر بقدوم مددهم مِنْ حِمْصَ، وَجَاءَهُ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الرُّومِ بِفِحْلٍ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَهُوَ لَا يَدْرِي بِأَيِّ الْأَمْرَيْنِ يَبْدَأُ. فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَجَاءَ الْجَوَابُ أَنِ ابْدَأْ بِدِمَشْقَ فَإِنَّهَا حِصْنُ الشَّامِ وَبَيْتُ مَمْلَكَتِهِمْ، فَانْهَدْ لَهَا وَاشْغَلُوا عَنْكُمْ أَهْلَ فِحْلٍ بِخُيُولٍ تَكُونُ تِلْقَاءَهُمْ، فَإِنْ فَتَحَهَا اللَّهُ قَبْلَ دِمَشْقَ فَذَلِكَ الَّذِي نُحِبُّ، وَإِنْ فُتِحَتْ دِمَشْقُ قَبْلَهَا فَسِرْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ وَاسْتَخْلِفْ عَلَى دمشق، فإذا فتح الله عليكم فحل فَسِرْ أَنْتَ وَخَالِدٌ إِلَى حِمْصَ وَاتْرُكْ عَمْرًا وَشُرَحْبِيلَ عَلَى الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ.
قَالَ: فَسَرَّحَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى فِحْلٍ عَشَرَةَ أُمَرَاءَ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ خَمْسَةُ أُمَرَاءَ وَعَلَى الْجَمِيعِ عُمَارَةُ بْنُ مخشى الصحابي، فَسَارُوا مِنْ مَرْجِ الصُّفَّرِ إِلَى فِحْلٍ فَوَجَدُوا الروم لك قَرِيبًا مِنْ ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَقَدْ أَرْسَلُوا الْمِيَاهَ حَوْلَهُمْ حَتَّى أَرْدَغَتِ الْأَرْضُ فَسَمَّوْا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الرَّدْغَةَ، وَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ أَوَّلَ حِصْنٍ فُتِحَ قَبِلَ دِمَشْقَ عَلَى مَا سَيَأْتِي تفصيله. وَبَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ جَيْشًا يَكُونُ بَيْنَ دِمَشْقَ وَبَيْنَ فِلَسْطِينَ، وَبَعَثَ ذَا الْكَلَاعِ فِي جَيْشٍ يَكُونُ بَيْنَ دِمَشْقَ وَبَيْنَ حِمْصَ، لِيَرُدَّ مَنْ يَرِدُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَدَدِ مِنْ جِهَةِ هِرَقْلَ. ثُمَّ سَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ مَرْجِ الصُّفَّرِ قَاصِدًا دِمَشْقَ، وَقَدْ جَعَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ

(7/19)


فِي الْقَلْبِ وَرَكِبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي الْمُجَنِّبَتَيْنِ، وَعَلَى الْخَيْلِ عِيَاضُ بْنُ غنم، وعلى الرجالة شرحبيل بن حسنة، فقدموا دمشق وعليها نسطاس بن نسطوس، فَنَزَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى الْبَابِ الشَّرْقِيِّ وَإِلَيْهِ بَابُ كَيْسَانَ أَيْضًا، وَنَزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ الْكَبِيرِ، وَنَزَلَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ، وَنَزَلَ عمرو بن العاص وشرحبيل بن حَسَنَةَ عَلَى بَقِيَّةِ أَبْوَابِ الْبَلَدِ وَنَصَبُوا الْمَجَانِيقَ وَالدَّبَّابَاتِ، وَقَدْ أَرْصَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَبَا الدَّرْدَاءِ عَلَى جَيْشٍ بِبَرْزَةَ يَكُونُونَ رِدْءًا لَهُ، وَكَذَا الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ حِمْصَ وَحَاصَرُوهَا حِصَارًا شَدِيدًا سَبْعِينَ لَيْلَةً، وَقِيلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا فاللَّه أَعْلَمُ. وَأَهْلُ دِمَشْقَ مُمْتَنِعُونَ مِنْهُمْ غَايَةَ الِامْتِنَاعِ، وَيُرْسِلُونَ إِلَى مَلِكِهِمْ هِرَقْلَ- وَهُوَ مُقِيمٌ بِحِمْصَ- يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْمَدَدَ فَلَا يُمْكِنُ وُصُولُ الْمَدَدِ إِلَيْهِمْ مِنْ ذِي الْكَلَاعِ، الَّذِي قَدْ أَرْصَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ دِمَشْقَ وَبَيْنَ حِمْصَ- عَنْ دِمَشْقَ لَيْلَةً- فَلَمَّا أَيْقَنَ أَهْلُ دِمَشْقَ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مَدَدٌ أَبْلَسُوا وَفَشِلُوا وَضَعُفُوا، وَقَوِيَ الْمُسْلِمُونَ وَاشْتَدَّ حِصَارُهُمْ، وَجَاءَ فَصْلُ الشِّتَاءِ وَاشْتَدَّ الْبَرْدُ وَعَسُرَ الْحَالُ وَعَسُرَ القتال، فقدر الله الكبير المتعال، ذُو الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ، أَنْ وُلِدَ لِبِطْرِيقِ دِمَشْقَ مَوْلُودٌ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَسَقَاهُمْ بَعْدَهُ شَرَابًا. وَبَاتُوا عِنْدَهُ فِي وَلِيمَتِهِ قَدْ أَكَلُوا وَشَرِبُوا وَتَعِبُوا فَنَامُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ، وَاشْتَغَلُوا عَنْ أَمَاكِنِهِمْ، وَفَطِنَ لِذَلِكَ أَمِيرُ الْحَرْبِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَنَامُ وَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا يَنَامُ، بَلْ مُرَاصِدٌ لَهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَهُ عُيُونٌ وَقُصَّادٌ يَرْفَعُونَ إِلَيْهِ أَحْوَالَ الْمُقَاتِلَةِ صَبَاحًا وَمَسَاءً. فَلَمَّا رَأَى خَمْدَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ عَلَى السُّورِ أَحَدٌ كَانَ قَدْ أَعَدَّ سَلَالِيمَ مِنْ حِبَالٍ فَجَاءَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الصَّنَادِيدِ الْأَبْطَالِ، مِثْلَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَمَذْعُورِ بْنِ عَدِيٍّ، وَقَدْ أَحْضَرَ جَيْشَهُ عِنْدَ الْبَابِ وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا سَمِعْتُمْ تَكْبِيرَنَا فَوْقَ السُّورِ فَارْقَوْا إِلَيْنَا. ثُمَّ نَهَدَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَقَطَعُوا الْخَنْدَقَ سِبَاحَةً بِقِرَبٍ في أعناقهم، فنصبوا تلك السلام وَأَثْبَتُوا أَعَالِيهَا بِالشُّرُفَاتِ، وَأَكَّدُوا أَسَافِلَهَا خَارِجَ الْخَنْدَقِ، وَصَعِدُوا فِيهَا، فَلَمَّا اسْتَوَوْا عَلَى السُّورِ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ، وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ فَصَعِدُوا فِي تِلْكَ السَّلَالِمِ وَانْحَدَرَ خَالِدٌ وَأَصْحَابُهُ الشُّجْعَانُ مِنَ السُّورِ إِلَى الْبَوَّابِينَ فَقَتَلُوهُمْ، وَقَطَعَ خَالِدٌ وَأَصْحَابُهُ أَغَالِيقَ الباب بالسيوف وفتحوا الباب عنوة، فَدَخَلَ الْجَيْشُ الْخَالِدِيُّ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ. وَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ الْبَلَدِ التَّكْبِيرَ ثَارُوا وَذَهَبَ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى أَمَاكِنِهِمْ مِنَ السُّورِ، لَا يَدْرُونَ مَا الْخَبَرُ، فَجَعَلَ كُلَّمَا قَدِمَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ قَتَلَهُ أَصْحَابُ خَالِدٍ، وَدَخَلَ خالد البلد عَنْوَةً فَقَتَلَ مَنْ وَجَدَهُ.
وَذَهَبَ أَهْلُ كُلِّ بَابٍ فَسَأَلُوا مِنْ أَمِيرِهِمُ الَّذِي عِنْدَ الْبَابِ مِنْ خَارِجٍ الصُّلْحَ- وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ دَعَوْهُمْ إِلَى الْمُشَاطَرَةِ فَيَأْبَوْنَ عَلَيْهِمْ- فَلَمَّا دَعَوْهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَجَابُوهُمْ. وَلَمْ يَعْلَمْ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ مَا صَنَعَ خَالِدٌ. وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَبَابٍ فَوَجَدُوا خَالِدًا وَهُوَ يَقْتُلُ مَنْ وَجَدَهُ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا قَدْ أَمَّنَّاهُمْ، فَقَالَ: إِنِّي فَتَحْتُهَا عَنْوَةً. وَالْتَقَتَ الْأُمَرَاءُ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ عِنْدَ كَنِيسَةِ الْمِقْسِلَّاطِ بِالْقُرْبِ مِنْ

(7/20)


دَرْبِ الرَّيْحَانِ الْيَوْمَ. هَكَذَا ذَكَرَهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ خَالِدًا فَتَحَ الْبَابَ قَسْرًا.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الَّذِي فَتَحَهَا عَنْوَةً أَبُو عُبَيْدَةَ وَقِيلَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَخَالِدٌ صَالَحَ أَهْلَ الْبَلَدِ فَعَكَسُوا الْمَشْهُورَ الْمَعْرُوفَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فَقَالَ قَائِلُونَ هِيَ صُلْحٌ- يَعْنِي عَلَى مَا صَالَحَهُمُ الْأَمِيرُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ-. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ عَنْوَةٌ، لِأَنَّ خَالِدًا افْتَتَحَهَا بِالسَّيْفِ أَوَّلًا كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا أَحَسُّوا بذلك ذهبوا إلى بقية الأمراء ومعهم أبو عبيدة فصالحوهم، فأنفقوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ جَعَلُوا نِصْفَهَا صُلْحًا وَنِصْفَهَا عَنْوَةً، فَمَلَكَ أَهْلُهَا نِصْفَ مَا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ وَأُقِرُّوا عَلَيْهِ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ الصَّحَابَةِ عَلَى النِّصْفِ.
وَيُقَوِّي هَذَا مَا ذَكَرَهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُصَالِحُوهُمْ عَلَى الْمُشَاطَرَةِ فَيَأْبَوْنَ، فَلَمَّا أَحَسُّوا بِالْيَأْسِ أَنَابُوا، إِلَى مَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ دَعَوْهُمْ إليه فبادروا إلى إجابتهم. ولم تعلم الصَّحَابَةُ بِمَا كَانَ مِنْ خَالِدٍ إِلَيْهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِهَذَا أَخَذَ الصَّحَابَةُ نِصْفَ الْكَنِيسَةِ الْعُظْمَى الَّتِي كَانَتْ بِدِمَشْقَ وَتُعْرَفُ «بِكَنِيسَةِ يُوحَنَّا» فَاتَّخَذُوا الجانب الشرقي منها مسجدا، وأبقوا لهم نصفها الْغَرْبِيَّ كَنِيسَةً، وَقَدْ أَبْقَوْا لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَنِيسَةً أُخْرَى مَعَ نِصْفِ الْكَنِيسَةِ المعروفة «بيوحنا» ، وهي جَامِعُ دِمَشْقَ الْيَوْمَ. وَقَدْ كَتَبَ لَهُمْ بِذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ كِتَابًا، وَكَتَبَ فِيهِ شَهَادَتَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَيَزِيدُ وَشُرَحْبِيلُ: إِحْدَاهَا كَنِيسَةُ الْمِقْسِلَّاطِ الَّتِي اجْتَمَعَ عِنْدَهَا أُمَرَاءُ الصَّحَابَةِ، وَكَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى ظَهْرِ السُّوقِ الْكَبِيرِ، وهذه القناطير الْمُشَاهَدَةُ فِي سُوقِ الصَّابُونِيِّينَ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَنَاطِرِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهَا، ثُمَّ بَادَتْ فِيمَا بَعْدُ وَأُخِذَتْ حِجَارَتُهَا فِي الْعِمَارَاتِ. الثَّانِيَةُ: كَنِيسَةٌ كَانَتْ فِي رَأْسِ دَرْبِ الْقُرَشِيِّينَ وَكَانَتْ صَغِيرَةً، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَبَعْضُهَا بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ وَقَدْ تَشَعَّثَتْ. الثَّالِثَةُ: كَانَتْ بِدَارِ الْبِطِّيخِ الْعَتِيقَةِ. قُلْتُ: وَهِيَ دَاخِلُ الْبَلَدِ بِقُرْبِ الْكُوشَكِ، وَأَظُنُّهَا هِيَ الْمَسْجِدُ الَّذِي قِبَلَ هَذَا الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهَا خَرِبَتْ مِنْ دَهْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: كَانَتْ بِدَرْبِ بَنِي نَصْرٍ بَيْنَ دَرْبِ الْحَبَّالِينَ وَدَرْبِ التَّمِيمِيِّ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ أَدْرَكْتُ بَعْضَ بُنْيَانِهَا، وَقَدْ خَرِبَ أَكْثَرُهَا. الْخَامِسَةُ:
كَنِيسَةُ بُولِصَ، قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَكَانَتْ غَرْبِيَّ الْقَيْسَارِيَّةِ الْفَخْرِيَّةِ وَقَدْ أَدْرَكْتُ مِنْ بُنْيَانِهَا بَعْضَ أَسَاسِ الْحَنْيَةِ. السَّادِسَةُ: كَانَتْ فِي مَوْضِعِ دَارِ الْوَكَالَةِ وَتُعَرَفُ الْيَوْمَ بِكَنِيسَةِ الْقَلَانِسِيِّينَ. قُلْتُ:
وَالْقَلَانِسِيِّينَ هي الحواحين الْيَوْمَ. السَّابِعَةُ: الَّتِي بِدَرْبِ السَّقِيلِ الْيَوْمَ وَتُعْرَفُ بِكَنِيسَةِ حُمَيْدِ بْنِ دُرَّةَ سَابِقًا، لِأَنَّ هَذَا الدَّرْبَ كَانَ إِقْطَاعًا لَهُ وَهُوَ حُمَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُسَاحِقٍ الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ، وَدُرَّةُ أُمُّهُ، وهي درة ابنة هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَأَبُوهَا خَالُ مُعَاوِيَةَ. وَكَانَ قَدْ أُقْطِعُ هَذَا الدَّرْبَ فَنُسِبَتْ هَذِهِ الْكَنِيسَةُ إِلَيْهِ، وَكَانَ مُسَلِمًا، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمُ الْيَوْمَ سِوَاهَا، وَقَدْ خَرِبَ أَكْثَرُهَا. وَلِلْيَعْقُوبِيَّةِ منهم كنيسة

(7/21)


دَاخِلَ بَابِ تُومَا بَيْنَ رَحْبَةِ خَالِدٍ- وَهُوَ خَالِدُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ- وَبَيْنَ دَرْبِ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ، وَهِيَ الْكَنِيسَةُ الثَّامِنَةُ، وَكَانَتْ لِلْيَعْقُوبِيِّينِ كَنِيسَةٌ أُخْرَى فيما بين درب التنوى وَسُوقِ عَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: قَدْ بَقِيَ مِنْ بِنَائِهَا بَعْضُهُ، وَقَدْ خَرِبَتْ مُنْذُ دَهْرٍ. وَهَى الْكَنِيسَةُ التَّاسِعَةُ وَأَمَّا الْعَاشِرَةُ فَهِيَ الْكَنِيسَةُ الْمُصَلَّبَةُ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى الْيَوْمِ بَيْنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ وَبَابِ تُومَا بِقُرْبِ النَّيْبَطُنِ عِنْدَ السُّورِ. وَالنَّاسُ الْيَوْمَ يَقُولُونَ النيطون. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ:
وَقَدْ خَرِبَ أَكْثَرُهَا هَكَذَا قَالَ. وَقَدْ خَرِبَتْ هَذِهِ الْكَنِيسَةُ وَهُدِمَتْ فِي أَيَّامِ صَلَاحِ الدِّينِ فَاتِحِ الْقُدْسِ بَعْدَ الثَّمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ بَعْدِ مَوْتِ الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: كَنِيسَةُ مَرْيَمَ دَاخِلَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَهَى مِنْ أَكْبَرِ مَا بَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ. قُلْتُ: ثُمَّ خَرِبَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِدَهْرٍ فِي أَيَّامِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ رُكْنِ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْبُنْدِقْدَارِيِّ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ الثانية عشر: كَنِيسَةُ الْيَهُودِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمِ الْيَوْمَ فِي حَارَتِهِمْ، ومحلها معروف بالقرب من الجبر وَتُسَمِّيهِ النَّاسُ الْيَوْمَ بُسْتَانَ الْقِطِّ وَكَانَتْ لَهُمْ كَنِيسَةٌ فِي دَرْبِ الْبَلَاغَةِ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي الْعَهْدِ فَهُدِمَتْ فِيمَا بَعْدُ وَجُعِلَ مَكَانَهَا المسجد المعروف بمسجد ابن السهروردي، وَالنَّاسُ الْيَوْمَ يَقُولُونَ دَرْبُ الشَّاذُورِيِّ.
قُلْتُ: وَقَدْ أُخْرِبَتْ لَهُمْ كَنِيسَةٌ كَانُوا قَدْ أَحْدَثُوهَا لَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ لَا ابْنُ عَسَاكِرَ وَلَا غَيْرُهُ، وَكَانَ إِخْرَابُهَا فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ لِذِكْرِ كَنِيسَةِ السَّامِرَةِ بِمَرَّةٍ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَمِمَّا أَحْدَثَ- يَعْنِي النَّصَارَى- كنيسة بناها أبو جعفر المنصور بنى قطيطا في الفريق عند قناة صالح قريبا من دازبها وارمن الْيَوْمَ [1] ، وَقَدْ أُخْرِبَتْ فِيمَا بَعْدُ وَجُعِلَتْ مَسْجِدًا يعرف بمسجد الجنيق وَهُوَ مَسْجِدُ أَبِي الْيَمَنِ. قَالَ وَمِمَّا أُحْدِثَ كنيستا العباد إحداهما عند دار ابن الماشلي وَقَدْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا. وَالْأُخْرَى الَّتِي فِي رَأْسِ دَرْبِ النَّقَّاشِينَ وَقَدْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا.
انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: وَظَاهِرُ سِيَاقِ سَيْفَ بْنَ عُمَرَ يَقْتَضِي أَنَّ فَتْحَ دِمَشْقَ وَقَعَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَلَكِنْ نَصَّ سَيْفٌ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهَا فُتِحَتْ فِي نِصْفِ رجب سنة أربع عشرة. كذا حَكَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَائِذٍ الْقُرَشِيِّ الدِّمَشْقِيِّ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مسلم عن عثمان بن حصين بن غلاق عَنْ يَزِيدَ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: فُتِحَتْ دِمَشْقُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَرَوَاهُ دُحَيْمٌ عَنِ الْوَلِيدِ. قَالَ: سَمِعْتُ أَشْيَاخًا يَقُولُونَ إِنَّ دِمَشْقَ فُتِحَتْ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَمَعْمَرٌ وَالْأُمَوِيُّ وَحَكَاهُ عَنْ مَشَايِخِهِ وَابْنُ الْكَلْبِيِّ وخليفة بن خياط وأبو عبيدة الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، أَنَّ فَتْحَ دِمَشْقَ كَانَ في سنة
__________
[1] هكذا في الأصلين من قوله كنيسة بناها إلى قوله وارمن اليوم ولم يظهر لنا المعنى.

(7/22)


أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَزَادَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَالْأُمَوِيُّ: وَكَانَتِ الْيَرْمُوكُ بَعْدَهَا بِسَنَةٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ فَتْحُهَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَقَالَ خَلِيفَةُ: حَاصَرَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَتَمَّ الصُّلْحُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ. وَقَالَ الْأُمَوِيُّ فِي مُغَازِيهِ: كَانَتْ وَقْعَةُ أَجْنَادِينَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَوَقْعَةُ فِحْلٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ- يَعْنِي وَوَقْعَةُ دِمَشْقَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ- وَقَالَ دُحَيْمٌ عَنِ الْوَلِيدِ: حَدَّثَنِي الْأُمَوِيُّ أَنَّ وَقْعَةَ فِحْلٍ وَأَجْنَادِينَ كَانَتْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ مَضَى الْمُسْلِمُونَ إِلَى دِمَشْقَ فَنَزَلُوا عَلَيْهَا فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ يَعْنِي فَفَتَحُوهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَكَانَتِ الْيَرْمُوكُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقَدِمَ عُمَرُ إِلَى بيت المقدس سنة ست عشرة.
فصل
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دِمَشْقَ هَلْ فُتِحَتْ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً؟ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْتَقَرَّ أَمْرُهَا عَلَى الصُّلْحِ، لِأَنَّهُمْ شَكُّوا فِي الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْآخَرِ أَفُتِحَتْ عَنْوَةً ثُمَّ عَدَلَ الرُّومُ إلى المصالحة، أو فتحت صلحا، أو اتفق الِاسْتِيلَاءُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ قَسْرًا؟ فَلَمَّا شَكُّوا فِي ذَلِكَ جَعَلُوهَا صُلْحًا احْتِيَاطًا.
وَقِيلَ بَلْ جُعِلَ نِصْفُهَا صُلْحًا وَنِصْفُهَا عَنْوَةً، وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ يَظْهَرُ مِنْ صُنْعِ الصَّحَابَةِ فِي الْكَنِيسَةِ الْعُظْمَى الَّتِي كَانَتْ أَكْبَرَ مَعَابِدِهِمْ حِينَ أَخَذُوا نِصْفَهَا وَتَرَكُوا لَهُمْ نَصْفَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ هُوَ الَّذِي كَتَبَ لَهُمْ كِتَابَ الصُّلْحِ، وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَبُ وَالْأَشْهَرُ، فَإِنَّ خَالِدًا كَانَ قَدْ عُزِلَ عَنِ الْإِمْرَةِ، وَقِيلَ بَلِ الَّذِي كَتَبَ لَهُمُ الصُّلْحَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَكِنْ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ أَبُو حُذَيْفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ أَنَّ الصِّدِّيقَ تُوُفِّيَ قَبْلَ فَتْحِ دِمَشْقَ، وَأَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يُعَزِّيهِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي الصِّدِّيقِ، وَأَنَّهُ قَدِ اسْتَنَابَهُ عَلَى مَنْ بِالشَّامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَشِيرَ خَالِدًا فِي الْحَرْبِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ كَتَمَهُ مِنْ خَالِدٍ حَتَّى فُتِحَتْ دِمَشْقُ بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْلِمَنِي حِينَ جَاءَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَلَيْكَ حَرْبَكَ، وَمَا سُلْطَانُ الدُّنْيَا أُرِيدُ، وَلَا لِلدُّنْيَا أَعْمَلُ، وَمَا تَرَى سَيَصِيرُ إِلَى زَوَالٍ وَانْقِطَاعٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ إِخْوَانٌ وَمَا يَضُرُّ الرَّجُلَ أَنْ يليه أخوه في دينه ودنياه.
ومن أعجب ما يذكر هاهنا مَا رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ: حَدَّثَنَا هشام بن عمار ثنا عبد الملك ابن مُحَمَّدٍ ثَنَا رَاشِدُ بْنُ دَاوُدَ الصَّنْعَانِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ الصَّنْعَانِيُّ شَرَاحِيلُ بْنُ مَرْثَدٍ، قَالَ: بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَبَعَثَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ إلى الشام، فذكر الراويّ فقال خَالِدٍ لِأَهْلِ الْيَمَامَةِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتَخْلَفَ عُمَرَ فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إِلَى الشَّامِ فَقَدِمَ دِمَشْقَ فَاسْتَمَدَّ أَبُو عُبَيْدَةَ عُمَرَ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِ، فَذَكَرَ مسير

(7/23)


خَالِدٍ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا فَإِنَّ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الَّذِي بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الشَّامِ، وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ يَقَدَمَ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ لِيَكُونَ مَدَدًا لِمَنْ بِهِ وَأَمِيرًا عَلَيْهِمْ، فَفَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى يَدَيْهِ جَمِيعَ الشَّامِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ: قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا افْتَتَحُوا مَدِينَةَ دِمَشْقَ بَعَثُوا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَافِدًا إِلَى أَبِي بَكْرٍ بَشِيرًا بِالْفَتْحِ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ قَدْ تُوُفِّيَ وَاسْتَخْلَفَ عُمَرَ بْنَ الْخِطَابِ فَأَعْظَمَ أَنْ يَتَأَمَّرَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ فَوَلَّاهُ جَمَاعَةَ النَّاسِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِمَنْ بَعَثْنَاهُ بَرِيدًا فَقَدِمَ عَلَيْنَا أَمِيرًا، وَقَدْ رَوَى اللَّيْثُ وَابْنُ لَهِيعَةَ وحيوة بن شريح ومفضل بن فضالة وعمر بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ بَعَثَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بَرِيدًا بِفَتْحِ دِمَشْقَ قَالَ: فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لِي: مُنْذُ كَمْ لَمْ تَنْزِعْ خُفَّيْكَ؟ فَقُلْتُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهَذَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ: أَصَبْتَ السُّنَّةَ.
قَالَ اللَّيْثُ: وَبِهِ نَأْخُذُ، يَعْنِي أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلْمُسَافِرِ لَا يَتَأَقَّتْ، بَلْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا مَا شَاءَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَ هَذَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ فِي تَأْقِيتِ الْمَسْحِ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْبَرِيدِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ لَا يَتَأَقَّتُ، وَفِيمَا عَدَاهُ يَتَأَقَّتُ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ وَحَدِيثِ على والله أعلم.
فصل
ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْبِقَاعِ فَفَتَحَهُ بِالسَّيْفِ. وَبَعَثَ سَرِيَّةً فَالْتَقَوْا مَعَ الرُّومِ بِعَيْنِ مَيْسَنُونَ، وَعَلَى الرُّومِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ «سِنَانٌ» تَحَدَّرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَقَبَةِ بَيْرُوتَ فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّهَدَاءِ فَكَانُوا يُسَمُّونَ «عَيْنَ مَيْسَنُونَ» عَيْنَ الشُّهَدَاءِ. وَاسْتَخْلَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى دِمَشْقَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَمَا وَعَدَهُ بِهَا الصِّدِّيقُ. وَبَعَثَ يَزِيدُ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ إِلَى تَدْمُرَ فِي سَرِيَّةٍ لِيُمَهِّدُوا أَمْرَهَا. وَبَعَثَ أَبَا الزهراء القشيري إلى البثينة وَحَوْرَانَ فَصَالَحَ أَهْلَهَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: افْتَتَحَ خَالِدٌ دِمَشْقَ صُلْحًا، وَهَكَذَا سَائِرُ مُدُنِ الشَّامِ كَانَتْ صُلْحًا دون أرضيها. فَعَلَى يَدَيْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَشُرَحْبِيلَ بن حَسَنَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: أخبرنى غير واحد من شيوخ دمشق بَيْنَمَا هُمْ عَلَى حِصَارِ دِمَشْقَ إِذْ أَقْبَلَتْ خيل من

(7/24)


عَقَبَةِ السَّلَمِيَّةِ مُخَمَّرَةٌ بِالْحَرِيرِ فَثَارَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَالْتَقَوْا فِيمَا بَيْنَ بَيْتِ لَهْيَا وَالْعَقَبَةِ الَّتِي أَقْبَلُوا مِنْهَا، فَهَزَمُوهُمْ وَطَرَدُوهُمْ إِلَى أَبْوَابِ حِمْصَ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ حِمْصَ ذَلِكَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ فَتَحُوا دِمَشْقَ فَقَالَ لَهُمْ أَهْلُ حِمْصَ إِنَّا نُصَالِحُكُمْ عَلَى مَا صَالَحْتُمْ عَلَيْهِ أَهْلَ دِمَشْقَ فَفَعَلُوا.
وَقَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ افتتح شرحبيل بن حَسَنَةَ الْأُرْدُنَّ كُلَّهَا عَنْوَةً مَا خَلَا طَبَرِيَّةَ فَإِنَّ أَهْلَهَا صَالَحُوهُ. وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ. وَقَالَا بَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ خَالِدًا فَغَلَبَ عَلَى أَرْضِ الْبِقَاعِ وَصَالَحَهُ أَهَلُ بَعْلَبَكَّ وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْصَافِ مَنَازِلِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَوَضْعِ الْخَرَاجِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ وَفِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فُتِحَتْ حِمْصُ وَبَعْلَبَكُّ صُلْحًا عَلَى يَدَيْ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ قَالَ خَلِيفَةُ وَيُقَالُ في سنة خمس عشرة
وقعة فحل [1]
وقد ذكرها كثير من العلماء السِّيَرِ قَبْلَ فَتْحِ دِمَشْقَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ فَتْحِ دِمَشْقَ وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ سِيَاقَ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ يَزِيدَ بْنِ أسيد الغساني وأبى حارثة القيسي قَالَا: خَلَّفَ النَّاسُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ في خيله في دمشق وسار نَحْوَ فِحْلٍ وَعَلَى النَّاسِ الَّذِينَ هُمْ بِالْغَوْرِ شرحبيل بن حَسَنَةَ وَسَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَدْ جَعَلَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى الْمَيْسَرَةِ، وَعَلَى الْخَيْلِ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ فَوَصَلُوا إِلَى فِحْلٍ وَهِيَ بَلْدَةٌ بالغور وقد انحاز الروم إلى بسان، وأرسلوا مياه تلك الأراضي على ما لك مِنَ الْأَرَاضِي فَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَرْسَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عُمَرَ يُخْبِرُونَهُ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُصَابَرَةِ عَدُوِّهِمْ وَمَا صَنَعَهُ الرُّومُ مِنْ تِلْكَ الْمَكِيدَةِ، إِلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي عَيْشٍ رغيد ومدد كبير، وَهُمْ عَلَى أُهْبَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَأَمِيرُ هَذَا الحرب شرحبيل بن حَسَنَةَ وَهُوَ لَا يَبِيتُ وَلَا يُصْبِحُ إِلَّا عَلَى تَعْبِئَةٍ.
وَظَنَّ الرُّومُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى غِرَّةٍ، فَرَكِبُوا فِي بَعْضِ اللَّيَالِي لِيُبَيِّتُوهُمْ، وَعَلَى الرُّومِ سِقْلَابُ بْنُ مِخْرَاقَ، فَهَجَمُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَنَهَضُوا إِلَيْهِمْ نَهْضَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُمْ عَلَى أُهْبَةٍ دَائِمًا، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى الصَّبَاحِ وَذَلِكَ الْيَوْمَ بِكَمَالِهِ إِلَى اللَّيْلِ. فَلَمَّا أَظْلَمَ اللَّيْلُ فَرَّ الرُّومُ وَقُتِلَ أَمِيرُهُمْ سِقْلَابُ وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَهُمْ وَأَسْلَمَتْهُمْ هَزِيمَتُهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْوَحْلِ الَّذِي كَانُوا قَدْ كَادُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ فَغَرَّقَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، وقتل منهم المسلمين بِأَطْرَافِ الرِّمَاحِ مَا قَارَبَ الثَّمَانِينَ أَلْفًا لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَغَنِمُوا مِنْهُمْ شَيْئًا كثيرا وما لا جزيلا. وانصرف أبو عبيدة وخالد بن مَعَهُمَا مِنَ الْجُيُوشِ نَحْوَ حِمْصَ كَمَا أَمَرَ أمير المؤمنين عمر ابن الْخِطَابِ. وَاسْتَخْلَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الْأُرْدُنِّ شُرَحْبِيلَ بن حَسَنَةَ، فَسَارَ شُرَحْبِيلُ وَمَعَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَحَاصَرَ بَيْسَانَ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى مِثْلِ مَا صَالَحَتْ عليه
__________
[1] بكسر الفاء. وقيل والحاء. والصحيح تسكينها.

(7/25)


دِمَشْقُ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيهِمْ وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو الْأَعْوَرِ السَّلَمِيُّ بِأَهْلِ طَبَرِيَّةَ سواء
فَصْلٌ فِيمَا وَقَعَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ المدة من القتال
وقد قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ لَمَّا سَارَ خَالِدٌ مِنَ الْعِرَاقِ بِمَنْ صَحِبَهُ إِلَى الشَّامِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ سَارَ بِتِسْعَةِ آلَافٍ، وَقِيلَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَقِيلَ بِسَبْعِمِائَةٍ وَقِيلَ بِأَقَلَّ، إِلَّا أَنَّهُمْ صَنَادِيدُ جَيْشِ الْعِرَاقِ، فَأَقَامَ الْمُثَنَّى بِمَنْ بَقِيَ فَاسْتَقَلَّ عَدَدَهُمْ وَخَافَ مِنْ سَطْوَةِ الْفُرْسِ لَوْلَا اشْتِغَالُهُمْ بِتَبْدِيلِ مُلُوكِهِمْ وَمَلِكَاتِهِمْ، وَاسْتَبْطَأَ الْمُثَنَّى خَبَرَ الصِّدِّيقِ فَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَجْدَ الصِّدِّيقَ فِي السِّيَاقِ، فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِ الْعِرَاقِ، فَأَوْصَى الصِّدِّيقُ عُمَرَ أَنْ يَنْدُبَ النَّاسَ لِقِتَالِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَلَمَّا مَاتَ الصِّدِّيقُ وَدُفِنَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ أَصْبَحَ عُمَرُ فَنَدَبَ النَّاسَ وَحَثَّهُمْ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَحَرَّضَهُمْ وَرَغَّبَهُمْ فِي الثَّوَابِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَكْرَهُونَ قِتَالَ الْفُرْسِ لِقُوَّةِ سَطْوَتِهِمْ، وَشِدَّةِ قِتَالِهِمْ. ثُمَّ نَدَبَهُمْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ وَتَكَلَّمَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ فَأَحْسَنَ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْ خَالِدٍ من معظم أرض العراق، وما لهم لك مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْلَاكِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالزَّادِ، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ كَانَ أَوَّلَ مَنِ انْتَدَبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أبو عبيد بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الْإِجَابَةِ، وَأَمَرَ عُمَرُ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَمَّرَ عَلَى الْجَمِيعِ أَبَا عُبَيْدٍ هَذَا وَلَمْ يَكُنْ صَحَابِيًّا، فَقِيلَ لِعُمَرَ: هَلَّا أَمَرْتَ عَلَيْهِمْ رجلا من الصحابة؟ فقال: إنما أومر أَوَّلَ مَنِ اسْتَجَابَ، إِنَّكُمْ إِنَّمَا سَبَقْتُمُ النَّاسَ بِنُصْرَةِ هَذَا الدِّينِ، وَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَجَابَ قَبْلَكُمْ. ثُمَّ دَعَاهُ فَوَصَّاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَأَمَرَهُ، أَنْ يَسْتَشِيرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (وَأَنْ يَسْتَشِيرَ سَلِيطَ بْنَ قَيْسٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ بَاشَرَ الْحُرُوبَ) [1] فَسَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَرْضِ الْعِرَاقِ (وَهُمْ سَبْعَةُ آلَافِ رَجُلٍ) [2] وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ كَانَ بِالْعِرَاقِ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَ خَالِدٍ إِلَى الْعِرَاقِ (فَجَهَّزَ عَشَرَةَ آلَافٍ عَلَيْهِمْ هاشم ابن عُتْبَةَ وَأَرْسَلَ عُمَرُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ إِلَى الْعِرَاقِ فَقَدِمَ الْكُوفَةَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا فَوَاقَعَ هِرَقْرَانَ الْمَدَارَ فَقَتَلَهُ وَانْهَزَمَ جَيْشُهُ وَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ فِي دِجْلَةَ) [3] فَلَمَّا وَصَلَ النَّاسُ إِلَى الْعِرَاقِ وَجَدُوا الْفُرْسَ مُضْطَرِبِينَ فِي مُلْكِهِمْ، وَآخِرُ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ أَنْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ «بُورَانَ» بِنْتَ كِسْرَى بعد ما قَتَلُوا الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا «آزَرْمِيدُخْتَ» وَفَوَّضَتْ بُورَانُ أَمْرَ الْمُلْكِ عَشْرَ سِنِينَ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يقال له رستم بن فرخزاد عَلَى أَنْ يَقُومَ بِأَمْرِ الْحَرْبِ، ثُمَّ يَصِيرُ الْمُلْكُ إِلَى آلِ كِسْرَى فَقَبِلَ ذَلِكَ. وَكَانَ رُسْتُمُ هَذَا مُنَجِّمًا يَعْرِفُ النُّجُومَ وَعِلْمَهَا جَيِّدًا، فَقِيلَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ يَعْنُونَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَتِمُّ لك فقال: الطمع وحب الشرف
__________
[1، 2، 3] نقص في النسخة المصرية.

(7/26)


وَقْعَةُ النَّمَارِقِ
بَعَثَ رُسْتُمُ أَمِيرًا يُقَالُ لَهُ «جابان» وعلى مجنبتيه رجلان يقال لأحدهما «حشنس ماه» ويقال للآخر «مردان شاه» وهو خصى أَمِيرِ حَاجِبِ الْفُرْسِ، فَالْتَقَوْا مَعَ أَبِي عُبَيْدٍ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ النَّمَارِقُ، - بَيْنَ الْحِيرَةِ وَالْقَادِسِيَّةِ- وَعَلَى الْخَيْلِ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عمرو بن الهيثم فاقتتلوا لك قِتَالًا شَدِيدًا وَهَزَمَ اللَّهُ الْفُرْسَ وَأُسِرَ جَابَانُ وَمَرْدَانْ شَاهْ. فَأَمَّا مَرْدَانْ شَاهْ فَإِنَّهُ قَتَلَهُ الَّذِي أَسَرَهُ، وَأَمَّا جَابَانُ فَإِنَّهُ خَدَعَ الَّذِي أَسَرَهُ حَتَّى أَطْلَقَهُ فَأَمْسَكَهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَبَوْا أَنْ يُطْلِقُوهُ، وَقَالُوا إِنَّ هَذَا هُوَ الْأَمِيرُ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى أَبِي عُبَيْدٍ فَقَالُوا اقْتُلْهُ فَإِنَّهُ الْأَمِيرُ فَقَالَ وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرَ فَإِنِّي لَا أَقْتُلُهُ. وَقَدْ أَمَّنَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ رَكِبَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي آثَارِ مَنِ انْهَزَمَ منهم وقد لجئوا إِلَى مَدِينَةِ كَسْكَرَ الَّتِي لِابْنِ خَالَةِ كِسْرَى وَاسْمُهُ نَرْسِي فَوَازَرَهُمْ نَرْسِي عَلَى قِتَالِ أَبِي عُبَيْدٍ فَقَهَرَهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَنِمَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا وَأَطْعِمَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، وللَّه الْحَمْدُ. وَبَعَثَ بِخُمُسِ مَا غَنِمَ مِنَ الْمَالِ وَالطَّعَامِ إِلَى عُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
لَعَمْرِي وَمَا عُمْرِي عَلَيَّ بِهَيِّنٍ ... لَقَدْ صُبِّحَتْ بِالْخِزْيِ أَهْلُ النَّمَارِقِ
بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْوَ رَبِّهِمْ ... يَجُوسُونَهُمْ مَا بين درنا وَبَارِقِ
قَتَلْنَاهُمْ مَا بَيْنَ مَرْجِ مُسَلِّحٍ ... وَبَيْنَ الهوانى من طريق التدارق
فالتقوا بمكان بين كسكر والسفاطية وَعَلَى مَيْمَنَةِ نَرْسِي وَمَيْسَرَتِهِ ابْنَا خَالِهِ بِنَدَوَيْهِ وبيرويه أولاد نظام وكان رستم قد جهز الجيوش مع الجالينوس فَلَمَّا بَلَغَ أَبُو عُبَيْدٍ ذَلِكَ أَعْجَلَ نَرْسِي بِالْقِتَالِ قَبْلَ وُصُولِهِمْ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَانْهَزَمَتِ الفرس وهرب نرسى والجالينوس إِلَى الْمَدَائِنِ بَعْدَ وَقْعَةٍ جَرَتْ مِنْ أَبِي عبيد مع الجالينوس بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ بَارُوسْمَا فَبَعَثَ أَبُو عُبَيْدٍ المثنى بن حارثة وسرايا أخر إلى متاخم تلك الناحية كنهرجور وَنَحْوِهَا فَفَتَحَهَا صُلْحًا وَقَهْرًا وَضَرَبُوا الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ وَغَنِمُوا الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَكَسَرُوا الجالينوس الَّذِي جَاءَ لِنُصْرَةِ جَابَانَ وَغَنِمُوا جَيْشَهُ وَأَمْوَالَهُ وَكَرَّ هَارِبًا إِلَى قَوْمِهِ حَقِيرًا ذَلِيلًا.
وَقْعَةُ جسر أبى عبيد الَّتِي قُتِلَ فِيهَا أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ منهم
ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 لما رجع الجالينوس هَارِبًا مِمَّا لَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَذَامَرَتِ الْفُرْسُ بَيْنَهُمْ وَاجْتَمَعُوا إِلَى رُسْتُمَ فَأَرْسَلَ جَيْشًا كَثِيفًا عليهم ذا الحاجب «بهمس حادويه» وَأَعْطَاهُ رَايَةَ أَفْرِيدُونَ وَتُسَمَّى دِرَفْشَ كَابْيَانَ وَكَانَتِ الْفُرْسُ تَتَيَمَّنُ بِهَا. وَحَمَلُوا مَعَهُمْ رَايَةَ كِسْرَى وَكَانَتْ مِنْ جُلُودِ النُّمُورِ عَرْضُهَا ثَمَانِيَةُ أَذْرُعٍ.
فَوَصَلُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمُ النَّهْرُ وَعَلَيْهِ جِسْرٌ فَأَرْسَلُوا: إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا وَإِمَّا أَنْ نُعْبُرَ إِلَيْكُمْ.
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ لِأَمِيرِهِمْ أَبِي عُبَيْدٍ أأمرهم فليعبروهم إِلَيْنَا. فَقَالَ مَا هُمْ بِأَجْرَأَ عَلَى الْمَوْتِ مِنَّا. ثُمَّ اقْتَحَمَ

(7/27)


إليهم فاجتمعوا في مكان ضيق لك فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ وَالْمُسْلِمُونَ فِي نَحْوٍ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ وَقَدْ جَاءَتِ الفرس معهم بأفيلة كثيرة عليها الجلاجل، قَائِمَةً لِتَذْعَرَ خُيُولَ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلُوا كُلَّمَا حَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَرَّتْ خُيُولُهُمْ مِنَ الْفِيَلَةِ وَمِمَّا تَسْمَعُ مِنَ الْجَلَاجِلِ الَّتِي عَلَيْهَا وَلَا يَثْبُتُ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ عَلَى قَسْرٍ. وَإِذَا حَمَلَ المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم عل الْفِيَلَةِ وَرَشَقَتْهُمُ الْفُرْسُ بِالنَّبْلِ، فَنَالُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مَعَ ذَلِكَ سِتَّةَ آلَافٍ. وَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوا الْفِيَلَةَ أَوَّلًا، فَاحْتَوَشُوهَا فَقَتَلُوهَا عَنْ آخِرِهَا، وَقَدْ قَدَّمَتِ الْفُرْسُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِيلًا عَظِيمًا أَبْيَضَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ فَضَرْبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَ زَلُّومَهُ فَحَمِيَ الْفِيلُ، وَصَاحَ صَيْحَةً هَائِلَةً وَحَمَلَ فتخبطه برجليه فَقَتَلَهُ وَوَقَفَ فَوْقَهُ فَحَمَلَ عَلَى الْفِيلِ خَلِيفَةُ أَبِي عُبَيْدٍ الَّذِي كَانَ أَوْصَى أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا بَعْدَهُ فَقُتِلَ، ثُمَّ آخَرُ ثُمَّ آخَرُ حَتَّى قُتِلَ سَبْعَةٌ مِنْ ثَقِيفٍ كَانَ قَدْ نَصَّ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ بِمُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ أَيْضًا. وَقَدْ كَانَتْ دَوْمَةُ امْرَأَةُ أَبِي عُبَيْدٍ رَأَتْ مَنَامًا يَدُلُّ عَلَى مَا وَقَعَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وَهَنُوا عِنْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ إِلَّا الظَّفَرُ بالفرس، وضعف أمرهم، وذهب ريحهم، وولوا مدبرين، وساقت الفرس خلفهم فقتلوا بَشَرًا كَثِيرًا، وَانْكَشَفَ النَّاسُ فَكَانَ أَمْرًا بَلِيغًا وَجَاءُوا إِلَى الْجِسْرِ فَمَرَّ بَعْضُ النَّاسِ. ثُمَّ انْكَسَرَ الْجِسْرُ فَتَحَكَّمَ فِيمَنْ وَرَاءَهُ الْفُرْسُ فَقَتَلُوا من المسلمين وغرق في الفراة نحوا من أربعة آلاف. ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 وَسَارَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ فَوَقَفَ عِنْدَ الْجِسْرِ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ، وَكَانَ النَّاسُ لَمَّا انْهَزَمُوا جَعَلَ بَعْضُهُمْ يُلْقِي بِنَفْسِهِ فِي الْفُرَاتِ فَيَغْرَقُ، فَنَادَى الْمُثَنَّى. أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى هِينَتِكُمْ فَإِنِّي وَاقِفٌ عَلَى فَمِ الْجِسْرِ لَا أَجُوزُهُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ أحد هاهنا، فَلَمَّا عَدَّى النَّاسُ إِلَى النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى سَارَ الْمُثَنَّى فَنَزَلَ بِهِمْ أَوَّلَ مَنْزِلٍ، وَقَامَ يَحْرُسُهُمْ هُوَ وَشُجْعَانُ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ جُرِحَ أَكْثَرُهُمْ وَأُثْخِنُوا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ذَهَبَ فِي الْبَرِّيَّةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مَذْعُورًا، وَذَهَبَ بِالْخَبَرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيِّ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَجَدَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا وَرَاءَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ؟ فَقَالَ: أَتَاكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَيْهِ الْمِنْبَرُ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ سِرًّا، وَيُقَالُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ بِخَبَرِ النَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْحُصَيْنِ الحطمى فاللَّه أعلم.
قال سيف بن عمرو كانت هَذِهِ الْوَقْعَةُ فِي شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثَ [عَشْرَةَ] بَعْدَ الْيَرْمُوكِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا فاللَّه أَعْلَمُ، وَتَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ فَرَّ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ يُؤَنِّبْ عُمَرُ الناس بل قال أنا فيئكم وَأَشْغَلَ اللَّهُ الْمَجُوسَ بِأَمْرِ مَلِكِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدَائِنِ عَدَوْا عَلَى رُسْتُمَ فَخَلَعُوهُ ثُمَّ وَلَّوْهُ وَأَضَافُوا إِلَيْهِ الْفَيْرُزَانَ، وَاخْتَلَفُوا عَلَى فِرْقَتَيْنِ، فَرَكِبَ الْفُرْسُ إِلَى الْمَدَائِنِ وَلَحِقَهُمُ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَعَارَضَهُ أَمِيرَانِ مِنْ أُمَرَائِهِمْ فِي جَيْشِهِمْ، فَأَسَرُهُمَا وَأَسَرَ مَعَهُمَا بشرا كثيرا

(7/28)


فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ. ثُمَّ أَرْسَلَ الْمُثَنَّى إِلَى مَنْ بِالْعِرَاقِ مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَمِدُّهُمْ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ بِالْأَمْدَادِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِمَدَدٍ كَثِيرٍ فِيهِمْ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، فِي قَوْمِهِ بَجِيلَةَ بِكَمَالِهَا، وَغَيْرُهُ مِنْ سَادَاتِ المسلمين حتى كثر جيشه.
وقعة البويت الَّتِي اقْتَصَّ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْفُرْسِ
فَلَمَّا سمع بذلك أمراء الفرس، وبكثرة جُيُوشِ الْمُثَنَّى، بَعَثُوا إِلَيْهِ جَيْشًا آخَرَ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مِهْرَانُ فَتَوَافَوْا هُمْ وَإِيَّاهُمْ بمكان يقال له «البويت» قَرِيبٌ مِنْ مَكَانِ الْكُوفَةِ الْيَوْمَ وَبَيْنَهُمَا الْفُرَاتُ.
فَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا، أَوْ نُعْبَرَ إِلَيْكُمْ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ اعْبُرُوا إِلَيْنَا. فَعَبَرَتِ الْفُرْسُ إِلَيْهِمْ فَتَوَاقَفُوا، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. فَعَزَمَ الْمُثَنَّى عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْفِطْرِ فَأَفْطَرُوا عَنْ آخِرِهِمْ لِيَكُونَ أَقْوَى لَهُمْ، وَعَبَّى الْجَيْشَ، وَجَعَلَ يَمُرُّ عَلَى كُلِّ رَايَةٍ مِنْ رَايَاتِ الْأُمَرَاءِ عَلَى الْقَبَائِلِ وَيَعِظُهُمْ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ والصبر والصمت. وَفِي الْقَوْمِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ فِي بَجِيلَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْمُثَنَّى لَهُمْ: إِنِّي مُكَبِّرٌ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ فَتَهَيَّئُوا، فَإِذَا كَبَّرْتُ الرَّابِعَةَ فَاحْمِلُوا. فَقَابَلُوا قَوْلَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْقَبُولِ. فَلَمَّا كَبَّرَ أَوَّلَ تَكْبِيرَةٍ عَاجَلَتْهُمُ الْفُرْسُ فَحَمَلُوا حَتَّى غَالَقُوهُمْ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَرَأَى الْمُثَنَّى فِي بَعْضِ صُفُوفِهِ خَلَلًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَجُلًا يَقُولُ: الْأَمِيرُ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ ويقول لكم: لا تفضحوا العرب الْيَوْمَ فَاعْتَدَلُوا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ- وَهُمْ بَنُو عِجْلٍ- أَعْجَبَهُ وَضَحِكَ. وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَادَاتِكُمْ، انْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ. وَجَعَلَ الْمُثَنَّى وَالْمُسْلِمُونَ يَدْعُونَ اللَّهَ بِالظَّفَرِ وَالنَّصْرِ. فَلَمَّا طَالَتْ مُدَّةُ الْحَرْبِ جَمَعَ الْمُثَنَّى جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ الْأَبْطَالِ يَحْمُونَ ظَهْرَهُ، وَحَمَلَ عَلَى مِهْرَانَ فَأَزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ حَتَّى دَخَلَ الْمَيْمَنَةَ، وَحَمَلَ غُلَامٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ نَصْرَانِيٌّ فَقَتَلَ مِهْرَانَ وَرَكِبَ فَرَسَهُ. كَذَا ذَكَرَهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بَلْ حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُنْذِرُ بْنُ حَسَّانَ بْنِ ضِرَارٍ الضَّبِّيُّ فَطَعَنَهُ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَاخْتَصَمَا فِي سَلْبِهِ، فَأَخَذَ جَرِيرٌ السِّلَاحَ وَأَخَذَ الْمُنْذِرُ مِنْطَقَتَهُ. وَهَرَبَتِ الْمَجُوسُ وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أكتافهم يفصلونهم فصلا. وَسَبَقَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ إِلَى الْجِسْرِ فَوَقَفَ عَلَيْهِ لِيَمْنَعَ الْفُرْسَ مِنَ الْجَوَازِ عَلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ. فَرَكِبُوا أَكْتَافَهُمْ بَقِيَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وتلك الليلة، ومن أبعد إِلَى اللَّيْلِ فَيُقَالُ إِنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ وَغَرِقَ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَالًا جَزِيلًا وَطَعَامًا كَثِيرًا، وَبَعَثُوا بِالْبِشَارَةِ وَالْأَخْمَاسِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ قُتِلَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَشْرٌ كَثِيرٌ أَيْضًا. وَذَلَّتْ لِهَذِهِ الْوَقْعَةِ رِقَابُ الْفُرْسِ وَتَمَكَّنَ الصَّحَابَةُ مِنَ الْغَارَاتِ فِي بِلَادِهِمْ فِيمَا بَيْنَ الْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ فَغَنِمُوا شَيْئًا عَظِيمًا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ. وَجَرَتْ أُمُورٌ يطول ذكرها بعد يوم البويت وكانت هذه الواقعة بِالْعِرَاقِ نَظِيرَ الْيَرْمُوكِ بِالشَّامِ. وَقَدْ قَالَ الْأَعْوَرُ الشَّنِّيُّ الْعَبْدِيُّ فِي ذَلِكَ: -

(7/29)


هَاجَتْ لِأَعْوَرَ دَارُ الْحَيِّ أَحْزَانَا ... وَاسْتَبْدَلَتْ بَعْدَ عبد القيس حسانا
وَقَدْ أَرَانَا بِهَا وَالشَّمْلُ مُجْتَمِعٌ ... إِذْ بِالنُّخَيْلَةِ قَتْلَى جُنْدِ مِهْرَانَا
إِذْ كَانَ سَارَ الْمُثَنَّى بِالْخُيُولِ لَهُمْ ... فَقَتَّلَ الزَّحْفَ مِنْ فُرْسٍ وَجِيلَانَا
سَمَا لِمِهْرَانَ وَالْجَيْشِ الَّذِي مَعَهُ ... حَتَّى أَبَادَهُمُ مثنى ووحدانا [1]
فصل
ثُمَّ بَعَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيَّ أَحَدَ الْعَشَرَةِ فِي سِتَّةِ آلَافٍ أَمِيرًا عَلَى الْعِرَاقِ، وَكَتَبَ إِلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ أَنْ يَكُونَا تَبَعًا لَهُ وَأَنْ يَسْمَعَا لَهُ وَيُطِيعَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْعِرَاقِ كَانَا مَعَهُ، وَكَانَا قَدْ تَنَازَعَا الْإِمْرَةَ، فَالْمُثَنَّى يَقُولُ لجرير: إنما بعثك أمير المؤمنين مددا إلى. وَيَقُولُ جَرِيرٌ: إِنَّمَا بَعَثَنِي أَمِيرًا عَلَيْكَ. فَلَمَّا قدم سعد على أمر الْعِرَاقِ انْقَطَعَ نِزَاعُهُمَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَتُوُفِّيَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ: كَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَعْثَ عُمَرَ سَعْدًا إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ أَرْبَعَ عشرة كما سيأتي.
ذِكْرُ اجْتِمَاعِ الْفُرْسِ عَلَى يَزْدَجِرْدَ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ وَاضْطِرَابِهِمْ ثُمَّ اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ
كَانَ شِيِرِينُ قَدْ اجمع آلَ كِسْرَى فِي الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ وَأَمَرَ بِقَتْلِ ذكر انهم كُلِّهِمْ، وَكَانَتْ أُمُّ يَزْدَجِرْدَ فِيهِمْ وَمَعَهَا ابْنُهَا وهو صغير، فواعدت أخواله فجاءوا وأخذوه منها وذهبوا به إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ يَوْمَ البويت وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ كَمَا ذَكَرْنَا، وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَهُمْ وَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَخْذِ بُلْدَانِهِمْ، وَمَحَالِّهِمْ وَأَقَالِيمِهِمْ. ثُمَّ سَمِعُوا بِقُدُومِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مِنْ جِهَةِ عُمَرَ، اجْتَمَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَأَحْضَرُوا الْأَمِيرَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ فِيهِمْ وَهُمَا رُسْتُمُ وَالْفَيْرُزَانُ فَتَذَامَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَتَوَاصَوْا وَقَالُوا لَهُمَا لَئِنْ لَمْ تَقُومَا بِالْحَرْبِ كَمَا يَنْبَغِي لَنَقْتُلَنَّكُمَا وَنَشْتَفِي بِكُمَا. ثُمَّ رَأَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا خَلْفَ نِسَاءِ كِسْرَى مِنْ كُلِّ فَجٍّ وَمِنْ كُلِّ بُقْعَةٍ، فَمَنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ مِنْ آلِ كِسْرَى مَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ. فَجَعَلُوا إِذَا أَتَوْا بِالْمَرْأَةِ عَاقَبُوهَا هَلْ لَهَا وَلَدٌ وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ خَوْفًا عَلَى وَلَدِهَا إِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ، فَلَمْ يَزَالُوا حَتَّى دُلُّوا عَلَى أُمِّ يَزْدَجِرْدَ، فَأَحْضَرُوهَا وَأَحْضَرُوا وَلَدَهَا فَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ ولد شهريار بن كسرى وعزلوا بوران واستوثقت الْمَمَالِكُ لَهُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَفَرِحُوا بِهِ، وَقَامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالنَّصْرِ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ فيهم وقويت شكوتهم بِهِ، وَبَعَثُوا إِلَى الْأَقَالِيمِ وَالرَّسَاتِيقِ فَخَلَعُوا الطَّاعَةَ لِلصَّحَابَةِ وَنَقَضُوا عُهُودَهُمْ وَذِمَمَهُمْ، وَبَعَثَ الصَّحَابَةُ إِلَى عُمَرَ بِالْخَبَرِ، فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ أَنْ يَتَبَرَّزُوا مِنْ بين ظهرانيهم
__________
[1] من منتصف السطر الثالث والعشرين من صفحة 28 إلى هنا زيادة من النسخة المصرية

(7/30)


وَلْيَكُونُوا عَلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ حَوْلَهُمْ عَلَى الْمِيَاهِ، وَأَنْ تَكُونَ كُلُّ قَبِيلَةٍ تَنْظُرُ إِلَى الْأُخْرَى بِحَيْثُ إِذَا حَدَثَ حَدَثٌ عَلَى قَبِيلَةٍ لَا يَخْفَى أَمْرُهَا عَلَى جِيرَانِهِمْ. وَتَفَاقَمَ الْحَالُ جِدًّا، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقِيلَ بَلْ حَجَّ بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَلَمْ يَحُجَّ عُمَرُ هَذِهِ السَّنَةَ والله أعلم.
ذِكْرُ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنَ الْحَوَادِثِ إِجْمَالًا، وَمَنْ توفى مِنَ الْأَعْيَانِ كَانَتْ فِيهَا وَقَائِعُ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهَا بِبِلَادِ الْعِرَاقِ عَلَى يَدَيْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فُتِحَتْ فِيهَا الْحِيرَةُ وَالْأَنْبَارُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَمْصَارِ، وَفِيهَا سَارَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْيَرْمُوكِ فِي قَوْلِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ وَاخْتِيَارِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقُتِلَ بِهَا مَنْ قُتِلَ مِنَ الْأَعْيَانِ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ وتراجمهم ورضى اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصديق. وَقَدْ أَفْرَدْنَا سِيرَتَهُ فِي مُجَلَّدٍ وللَّه الْحَمْدُ. وَفِيهَا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا فَوَلَّى قَضَاءَ الْمَدِينَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتَنَابَ عَلَى الشَّامِ أَبَا عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ الْفِهْرِيَّ، وَعَزَلَ عَنْهَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيَّ، وَأَبْقَاهُ عَلَى شُورَى الْحَرْبِ. وَفِيهَا فُتِحَتْ بُصْرَى صُلْحًا وَهِيَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ فُتِحَتْ مَنِ الشَّامِ، وَفِيهَا فُتِحَتْ دِمَشْقُ فِي قَوْلِ سَيْفٍ وَغَيْرِهِ كَمَا قَدَّمْنَا وَاسْتُنِيبَ فِيهَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَهَا مِنْ أُمَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ فِحْلٍ مِنْ أَرْضِ الْغَوْرِ وَقُتِلَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ فَقُتِلَ فِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَمِيرُهُمْ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَهُوَ وَالِدُ صَفِيَّةَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَوَالِدُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ كَذَّابِ ثَقِيفٍ وَقَدْ كَانَ نَائِبًا عَلَى الْعِرَاقِ فِي بَعْضِ وَقَعَاتِ الْعِرَاقِ كَمَا سَيَأْتِي. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ فِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَقَدْ كَانَ نَائِبًا عَلَى الْعِرَاقِ اسْتَخْلَفَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حِينَ سَارَ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ شَهِدَ مَوَاقِفَ مَشْهُورَةً وَلَهُ أَيَّامٌ مَذْكُورَةٌ ولا سيما يوم البويت بَعْدَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ قُتِلَ فِيهِ مِنَ الْفُرْسِ وَغَرِقَ بِالْفُرَاتِ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ بَقِيَ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ بَلْ حَجَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. وَفِيهَا اسْتَنْفَرَ عُمَرُ قَبَائِلَ الْعَرَبِ لِغَزْوِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ فَأَقْبَلُوا مِنْ كُلِّ النَّوَاحِي فَرَمَى بِهِمُ الشَّامَ وَالْعِرَاقَ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ أَجْنَادِينَ فِي قول ابن إسحاق يوم السبت لثلاث مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا. وَكَذَا عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ فيما بين الرملة وبين جسرين وَعَلَى الرُّومِ الْقَيْقَلَانُ وَأَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا فِي قَوْلٍ فَقُتِلَ الْقَيْقَلَانُ وَانْهَزَمَتِ الرُّومُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ

(7/31)


وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَخَوَاهُ خَالِدٌ وَعَمْرٌو، وَنُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّحَّامِ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّانِ، وَضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَمُّهُ سَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، وَهَبَّارُ بْنُ سُفْيَانَ، وَصَخْرُ بْنُ نَصْرٍ، وَتَمِيمٌ وَسَعِيدٌ ابْنَا الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ طُلَيْبُ بن عمرو وَأُمُّهُ أَرْوَى بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثِينَ سَنَةً فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِوَايَةٌ وَكَانَ مِمَّنْ صَبَرَ يَوْمَ حُنَيْنٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ مَرْجِ الصُّفَّرِ فِي قَوْلِ خَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ وَذَلِكَ لِثِنْتَيْ عِشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى وَأَمِيرُ النَّاسِ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ وَقِيلَ إِنَّمَا قُتِلَ أَخُوهُ عَمْرٌو وَقِيلَ ابْنُهُ فاللَّه أَعْلَمُ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَمِيرُ الرُّومِ قَلْقَطَ فَقُتِلَ مِنَ الرُّومِ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى جَرَتْ طَاحُونٌ هُنَاكَ مِنْ دِمَائِهِمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ وَقْعَةَ مَرْجِ الصُّفَّرِ فِي أَوَّلِ سنة أربع عشرة كما سيأتي.
ذِكْرُ الْمُتَوَفَّيْنَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
مُرَتَّبِينَ عَلَى الْحُرُوفِ كَمَا ذَكَرَهُمْ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي تَارِيخِهِ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ الْأُمَوِيُّ أَبُو الْوَلِيدِ الْمَكِّيُّ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ. وهو الّذي أجار عثمان ابن عَفَّانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ لِأَدَاءِ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَسْلَمَ بَعْدَ مَرْجِعِ أَخَوَيْهِ مَنِ الْحَبَشَةِ. خَالِدٌ، وَعَمْرٌو، فَدَعَوَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَجَابَهُمَا. وَسَارُوا فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ تِسْعٍ عَلَى الْبَحْرِينِ وَقُتِلَ بِأَجْنَادِينَ أَنَسَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ قُتِلَ بِبَدْرٍ فِيمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ شَهِدَ أُحُدًا وَأَنَّهُ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ زَمَانًا. قَالَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَنَّ أَنَسَةَ مَاتَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا مَسْرُوحٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ كَانَ يَأْذَنُ لِلنَّاسِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمِيمُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ السهمي وأخوه قيس صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ هَاجَرَا إِلَى الْحَبَشَةِ وَقُتِلَا بِأَجْنَادِينَ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ. قُتِلَ بِأَجْنَادِينَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الْأُمَوِيُّ، مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، مِمَّنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَأَقَامَ بِهَا بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ عَلَى صَنْعَاءَ مِنْ جِهَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَرَهُ الصِّدِّيقُ عَلَى بَعْضِ الْفُتُوحَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ قُتِلَ يَوْمَ مَرْجِ الصُّفَّرِ فِي قَوْلٍ، وَقِيلَ بَلْ هَرَبَ فَلَمْ يُمَكِّنْهُ الصِّدِّيقُ مِنْ دُخُولِ الْمَدِينَةِ تَعْزِيرًا لَهُ، فَأَقَامَ شَهْرًا فِي بَعْضِ ظَوَاهِرِهَا حَتَّى أَذِنَ لَهُ. وَيُقَالُ إِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ أَسْلَمَ وَقَالَ رَأَيْتُ لَهُ حِينَ قَتَلْتُهُ نُورًا سَاطِعًا إِلَى السَّمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ أبى خزيمة. ويقال حارثة بْنِ حَزِيمَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ

(7/32)


طَرِيفِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ سَيِّدُهُمُ، أَبُو ثَابِتٍ، وَيُقَالُ أَبُو قَيْسٍ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ كَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا فِي قَوْلِ عُرْوَةَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَالْبُخَارِيِّ وَابْنِ مَاكُولَا. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَتْ مع على وراية الأنصار مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قُلْتُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا كَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمْ يَشْهَدْهَا لِأَنَّهُ نَهْسَتُهُ حَيَّةٌ فَشَغَلَتْهُ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ تَجَهَّزَ لَهَا، فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَشَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا.
وَكَذَا قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ. وَكَانَتْ لَهُ جَفْنَةٌ تَدُورُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ دَارَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ بِلَحْمٍ وَثَرِيدٍ، أَوْ لَبَنٍ وَخُبْزٍ، أَوْ خُبْزٍ بسمن أَوْ بِخَلٍّ وَزَيْتٍ، وَكَانَ يُنَادِي عِنْدَ أُطُمِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ لِمَنْ أَرَادَ الْقِرَى.
وَكَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ بِالْعَرَبِيِّ، وَالرَّمْيِ وَالسِّبَاحَةِ، وَكَانَ يُسَمَّى مَنْ أَحْسَنَ ذَلِكَ كَامِلًا. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَةِ الصِّدِّيقِ حَتَّى خَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَمَاتَ بِقَرْيَةٍ مِنْ حَوْرَانَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْمَدَائِنِيُّ وَخَلِيفَةُ. قَالَ: وَقِيلَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ. وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ. وَقَالَ الفلاس وابن بكر سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ قُلْتُ: أَمَّا بَيْعَةُ الصِّدِّيقِ فَقَدْ رُوِّينَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَلَّمَ لِلصَّدِيقِ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخُلَفَاءَ مِنْ قُرَيْشٍ. وَأَمَّا مَوْتُهُ بِأَرْضِ الشَّامِ فَمُحَقَّقٌ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بِحَوْرَانَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَدِينَةٍ فُتِحَتْ من الشام بصرى، وبها توفى سعد ابن عُبَادَةَ. وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا أَنَّهُ دُفِنَ بِقَرْيَةٍ مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ، يُقَالُ لَهَا «الْمَنِيحَةُ» وَبِهَا قَبْرٌ مَشْهُورٌ بِهِ. وَلَمْ أَرَ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ تَعَرَّضَ لِذَكَرِ هَذَا الْقَبْرِ فِي تَرْجَمَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فاللَّه أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ عَبْدُ الْبَرِّ: وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ وُجِدَ مَيِّتًا فِي مُغْتَسَلِهِ، وَقَدِ اخْضَرَّ جَسَدُهُ وَلَمْ يَشْعُرُوا بِمَوْتِهِ حَتَّى سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ:
قَتَلْنَا سَيِّدَ الخزرج سعد بن عباده رميناه بسهم فلم يخطئ فُؤَادَهْ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عَطَاءً (يَقُولُ) سَمِعْتُ أَنَّ الْجِنَّ قَالُوا فِي سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ. لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ، وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ غَيْرَةً، مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً إِلَّا بِكْرًا، وَلَا طَلَّقَ امْرَأَةً فَتَجَاسَرَ أَحَدٌ أَنْ يَخْطِبَهَا بَعْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ فَأَمَرَاهُ أَنْ يُدْخِلَ هَذَا مَعَهُمْ، فَقَالَ إِنِّي لَا أُغَيِّرُ مَا صَنَعَ سَعْدٌ وَلَكِنَّ نَصِيبِي لِهَذَا الْوَلَدِ سَلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، أَخُو أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ،

(7/33)


أَسْلَمَ سَلَمَةُ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ فَلَمَّا رَجَعَ مِنْهَا حَبَسَهُ أَخُوهُ وَأَجَاعَهُ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لَهُ فِي الْقُنُوتِ وَلِجَمَاعَةٍ مَعَهُ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ. ثُمَّ انْسَلَّ فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ مَعَهُ بِهَا، وَقَدْ شَهِدَ أَجْنَادِينَ وَقُتِلَ بِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ الْأَسَدِيُّ، كَانَ مِنَ الْفُرْسَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَالْأَبْطَالِ الْمَذْكُورِينَ، لَهُ مَوَاقِفٌ مَشْهُودَةٌ، وَأَحْوَالٌ مَحْمُودَةٌ. ذَكَرَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّهُ قُتِلَ بِأَجْنَادِينَ. لَهُ حَدِيثٌ فِي اسْتِحْبَابِ إِبْقَاءِ شَيْءٍ مِنَ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ عِنْدَ الحلب طليب ابن عمير بن وهب بن كثير بن هند بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيِّ الْعَبْدِيِّ، أُمُّهُ أَرْوَى بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ، وَشَهِدَ بَدْرًا. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ وَالزَّبِيرُ بْنُ بَكَّارٍ. وَيُقَالُ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ مُشْرِكًا، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَهُ طُلَيْبٌ بَلَحْيِ جَمَلٍ فَشَجَّهُ. اسْتُشْهِدَ طُلَيْبٌ بِأَجْنَادِينَ وَقَدْ شَاخَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ الْقُرَشِيِّ الْهَاشِمِيِّ، ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ الْأَبْطَالِ الْمَذْكُورِينَ وَالشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، قتل يوم أجنادين بعد ما قَتَلَ عَشَرَةً مِنَ الرُّومِ مُبَارَزَةً كُلُّهُمْ بِطَارِقَةٌ أَبْطَالٌ. وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ يَوْمَئِذٍ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ قُتِلَ بِأَجْنَادِينَ. وَلَيْسَ هَذَا الرَّجُلُ مَعْرُوفًا عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ. قِيلَ إِنَّهُ قُتِلَ بِأَجْنَادِينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَأَخَّرَ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ الْأُمَوِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمِيرُ مَكَّةَ نِيَابَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهَا عَامَ الْفَتْحِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ عِشْرُونَ سَنَةً، فَحَجَّ بِالنَّاسِ عَامَئِذٍ، وَاسْتَنَابَهُ عليها أبو بكر بعده عليه السلام. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ، قِيلَ يَوْمَ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ عَمْرُو بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ أَبُو عُثْمَانَ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ، كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ كأبيه، ثم أسلم عام الفتح بعد ما فَرَّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْحَقِّ. وَاسْتَعْمَلَهُ الصِّدِّيقُ عَلَى عُمَانَ حِينَ ارْتَدُّوا فَظَفِرَ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ قَدِمَ الشَّامَ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى بَعْضِ الْكَرَادِيسِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ ذنب بعد ما أَسْلَمَ. وَكَانَ يُقَبِّلُ الْمُصْحَفَ وَيَبْكِي وَيَقُولُ:
كَلَامُ رَبِّي كَلَامُ رَبِّي. احْتَجَّ بِهَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ تَقْبِيلِ الْمُصْحَفِ وَمَشْرُوعِيَّتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
كَانَ عِكْرِمَةُ مَحْمُودَ الْبَلَاءِ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ عروة: قتل بأجنادين. وقال غيره: باليرموك بعد ما وُجِدَ بِهِ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَأَخَّرَ إِلَى سَنَةِ ثماني عشرة نعيم بن عبد الله بن النَّحَّامُ أَحَدُ بَنِي عَدِيٍّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا قَبْلَ عُمَرَ وَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ هِجْرَةٌ إِلَى مَا بَعْدِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ بِرٌّ بِأَقَارِبِهِ، فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: أَقِمْ عِنْدَنَا عَلَى أي دين شئت، فو الله لَا يَتَعَرَّضُكَ أَحَدٌ إِلَّا ذَهَبَتْ أَنْفُسُنَا دُونَكَ. اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أَجْنَادِينَ وَقِيلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ أَسَدٍ أَبُو الْأَسْوَدِ الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ،

(7/34)


هَذَا الرَّجُلُ كَانَ قَدْ طَعَنَ رَاحِلَةَ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى أَسْقَطَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقُتِلَ بِأَجْنَادِينَ رَضِيَ اللَّهُ عنه هبار بن سفيان بن عبد الأسود المخزومي ابن أخى أم سَلَمَةَ. أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ أَجْنَادِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَخُو عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ» وَقَدْ أَسْلَمَ هِشَامٌ قَبْلَ عَمْرٍو، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْهَا احْتَبَسَ بِمَكَّةَ. ثُمَّ هَاجَرَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ الصِّدِّيقُ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، وَكَانَ مِنَ الْفُرْسَانِ.
وَقُتِلَ بِأَجْنَادِينَ، وَقِيلَ بِالْيَرْمُوكِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَقَدَّمَ وَلَهُ تَرْجَمَةٌ مُفْرَدَةٌ وللَّه الْحَمْدُ.