الدرر في اختصار المغازي والسير

غزوة أحد:
فأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بعد قدومه من بحران جمادى الآخرة، ورجبا، وشعبان، ورمضان، فغزته كفار قريش في شوال سنة ثلاث، وقد استمدوا بحلفائهم والأحابيش من بني كنانة، وخرجوا بنسائهم لئلا يفروا عنهن، وقصدوا المدينة فنزلوا قرب أحد على جبل على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة،

(1/153)


فرأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه أن في سيفه ثلمة، وأن بقرا له تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة، فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة، فأشار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه أن
لا يخرجوا إليهم، وأن يتحصنوا بالمدينة، فإن قربوا منها قاتلوهم على أفواه الأزقة، ووافق رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا الرأي عَبْدُ اللهِ بْن أبي بْن سلول، وأبى أكثر الأنصار إلا الخروج إليهم ليكرم الله من شاء منهم بالشهادة، فلما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عزيمتهم دخل بيته، فلبس لأمته وخرج، وذلك يوم الجمعة، فصلى على رجل من بني النجار مات ذلك اليوم، يقال له مالك بْن عمرو، وقيل بل اسمه محرز بْن عامر، وندم قوم من الذين ألحوا في الخروج، وقالوا: يا رسول الله إن شئت فارجع، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَهُ أن يضعها حتى يقاتل " فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ألف من أصحابه، واستعمل ابنَ أم مكتوم على الصلاة لمن بقي بالمدينة من المسلمين، فلما سار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو أحد، انصرف عنه عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول بثلث الناس مغاضبا إذ خولف رأيه، فاتبعهم عَبْد اللهِ بْن عمرو بْن حرام فَذَكَّرَهُمُ اللهَ والرجوعَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأبوا عليه، فسبهم ورجع عنهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمسلمين، وذكر له قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود، فأبى عليهم وسلك على حرة بني حارثة وشق أموالهم حتى مشى على مال لمربع بْن قيظي وكان ضرير البصر، فقام يحثو التراب
في وجوه المسلمين، ويقول: إن كنتَ رسول الله فلا يحل لك أن تدخل حائطي، وأكثر من القول، فابتدره أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقتلوه، فقال عليه

(1/154)


السلام: " لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر " وضربه سعد بْن زيد أخو بني عَبْد الأشهل بقوسه فشجه في رأسه، ونفذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، وسرحت قريش الظهر والكراع في زروع المسلمين بقناة، وتعبأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقتال وهو في سبع مائة، وقيل: إن المشركين كانوا في ثلاثة آلاف، فيهم مائتا فارس، وقيل: كان في المسلمين يومئذ خمسون فارسا، وكان رماة المسلمين خمسين رجلا، وَأَمَّرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرماة عَبْد اللهِ بْن جبير أخا بني عمرو بْن عوف، وهو أخو خوات بْن جبير، وعبد الله يومئذ معلم بثياب بيض، فرتبهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلف الجيش، وأمره بأن ينضح المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم، وظاهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بْن عمير أحد بني عَبْد الدار، وأجاز رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ سمرة بْن جندب الفزاري، ورافع بْن خديج، ولكل واحد منهما خمس عشرة سنة، وكان رافع راميا، ورد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ
عَبْد اللهِ بْن عمر، وزيد بْن ثابت، وأسامة بْن زيد، والبراء بْن عازب، وأسيد بْن ظهير، وعرابة بْن أوس، وزيد بْن أرقم، وأبا سعيد الخدري، ثم أجازهم كلهم عليه السلام يوم الخندق، وقد قيل: إن بعض هؤلاء إنما رده يوم بدر وأجازه يوم أحد، وإنما رد من لم يبلغ خمس عشرة سنة وأجاز من بلغها، وجعلت قريش على ميمنتهم في الخيل خالد بْن الوليد، وعلى ميسرتهم في الخيل عكرمة بْن أبي جهل، ودفع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيفه إلى

(1/155)


أبي دجانة الأنصاري سماك بْن خرشة الساعدي، وكان شجاعا يختال في الحرب، وكان أَبُو عامر المعروف بالراهب، وسماه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفاسق، واسمه عَبْد عمرو بْن صيفي بْن مالك بْن النعمان أحد بني ضبيعة، وهو والد حنظلة بْن أبي عامر غسيل الملائكة قد ترهب وتنسك في الجاهلية، فلما جاء الإسلام غلب عليه الشقاء ففر عن المدينة إذ نزلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مباعدا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومبغضا فيه، وخرج إلى مكة في جماعة من فتيان الأوس، وشهد يوم أحد مع الكفار، ووعد قريشا بانحراف قومه إليه، فكان أول من خرج للقاء المسلمين في عبدان أهل مكة والأحابيش، فلما نادى قومه وعرفهم بنفسه، قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق، فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا، وكان شعار أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يوم أحد: أَمِتْ، أَمِتْ، وأبلى يومئذ علي، وحمزة، وأبو دجانة، وطلحة بلاء حسنا، وأبلى أنس بْن النضر يومئذ بلاء حسنا، وكذلك جماعة من الأنصار أبلوا وأصيبوا يومئذ مقبلين غير مدبرين، وقاتل الناس قتالا شديدا ببصائر ثابتة، فانهزمت قريش، واستمرت الهزيمة عليهم، فلما رأى ذلك الرماة قالوا: قد هُزِمَ أعداء الله فما لقعودنا ههنا معنى، فَذَكَّرَهُمْ أميرهم عَبْد اللهِ بْن جبير أَمْرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياهم بأن لا يزولوا، فقالوا: قد انهزموا، ولم يلتفتوا إلى قوله وقاموا، ثم كر المشركون وولى المسلمون، وثبت من أكرمه الله منهم بالشهادة، ووصل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاتل دونه مصعب بْن عمير حتى قتل رضي الله عنه، وجرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في

(1/156)


وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة على رأسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجزاه عن أمته بأفضل ما جزى به نبيا من أنبيائه عن صبره، وكان الذي تولى ذلك من النبي عليه السلام عمرو بْن قمئة الليثي، وعتبة بْن أبي وقاص، وقد قيل: إن عَبْد اللهِ بْن شهاب جدَّ الفقيه مُحَمَّد بْن مسلم بْن شهاب هو الذي شج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جبهته، وأكبت الحجارة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى سقط في حفرة كان أَبُو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر عليه السلام على جنبه، فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة حتى قام،
وَمَصَّ مالك بْن سنان والد أبي سعيد الخدري من جرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدم، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانتزعهما أَبُو عبيدة بْن الجراح، وعض عليهما بثنيتيه فسقطتا، وكان الهتم يزينه، وأعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراية حين قتل مصعبُ بْن عمير عَلِيَّ بْنَ أبي طالب، وصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت راية الأنصار، وشد حنظلة الغسيل بْن أبي عامر على أبي سفيان بْن حرب، فلما تمكن منه حمل شداد بْن الأسود الليثي وهو ابن شعوب على حنظلة فقتله، وكان جنبا فغسلته الملائكة، أخبر بذلك جبريل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبر رسولُ الله بذلك أصحابَهُ، وقال: " كان حنظلة قد قام من امرأته جنبا فغسلته الملائكة " وقتل صاحب لواء المشركين فسقط لواؤهم، فرفعته عمرة بنت علقمة الحارثية للمشركين، فاجتمعوا إليه وحملوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَرَّ دونه نفر من الأنصار قيل سبعة وقيل عشرة، فَقُتِلُوا كلهم، وكان آخرهم عمارة بْن يزيد بْن السكن أو زياد بْن

(1/157)


السكن، وقاتل يومئذ طلحة قتالا شديدا، وقاتلت أم عمارة الأنصارية وهي نسيبة بنت كعب قتالا شديدا، وضربت عمرو بْن قمئة بالسيف ضربات فوقاه درعان كانتا عليه، وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحا عظيما على عاتقها، وترس أَبُو دجانة بظهره عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك، وحينئذ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد بْن أبي
وقاص: " ارم فداك أبي وأمي " وأصيبت يومئذ عين قتادة بْن النعمان الظفري، فأتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعينه على وجنته، فردها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده وغمزها فكانت أَجْمَلَ عينيه وَأَصَحَّهُمَا، وانتهى أنس بْن النضر وهو عم أنس بْن مالك يومئذ إلى جماعة من الصحابة قد ألقوا بأيديهم، فقال لهم: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتِلَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهم: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم استقبل النَّاسَ، ولقي سعدَ بْن معاذ، فقال له: يا سعد، والله إني لأجد ريح الجنة من قِبَلِ أحد، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، وُجِدَ به أزيد من سبعين جرحا من بين ضربة وطعنة ورمية فما عرفته إلا أخته ببنانه ميزته، وجرح يومئذ عَبْد الرحمن بْن عوف نحو عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج منها رحمه الله إلى أن مات، وأول من ميز رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الجولة كعب بْن مالك الشاعر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشار إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنصت، فلما عرفه المسلمون مالوا إليه، وصاروا حوله، ونهضوا معه نحو الشعب فيهم أَبُو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، والحارث بْن الصمة الأنصاري، وجماعة من الأنصار، فلما أسند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في الشعب أدركه أُبَيُّ بْن خلف الجمحي،

(1/158)


فتناول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحربة من الحارث بْن الصمة ثم طعنه بها في عنقه فَكَرَّ أُبَيٌّ منهزما، فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو بزق علي لقتلني، أليس قد قَالَ: بل أنا أقتله؟ وكان قد أَوْعَدَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القتلَ بمكة، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بل أنا أقتلك " فمات عدو الله من ضربة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرجعه إلى مكة بموضع يقال له سرف، وملأ علي درقته من ماء المهراس وأتى به رسول الله ليشربه، فوجد فيه رائحة فعافه وغسل به من الدم وجهه، ونهض إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان عليه درعان، وكان قد بدن فلم يقدر أن يعلوها، فجلس له طلحة، وصعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ظهره، ثم استقل به طلحة حتى استوى الصخرة، وحانت الصلاة فصلى جالسا والمسلمون وراءه قعودا
رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَعْمَرُ بْنُ كِرَاعٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: " رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ شِمَالِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ أَرَهُمَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ وانهزم قوم من المسلمين يومئذ منهم عثمان بْن عفان، فعفا الله عنهم، ونزل فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ
عَنْهُمْ سورة آل عمران آية الآية، وكان الحسيل بْن جابر العبسي وهو اليمان والد حذيفة بْن اليمان، وثابت بْن وقش شيخين كبيرين قد جُعِلا في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه: ما بقي من أعمارنا؟

(1/159)


فلو أخذنا سيوفنا ولحقنا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعل الله يرزقنا الشهادة، وَفَعَلا ذلك فدخلا في جملة المسلمين، فأما ثابت بْن وقش فقتله المشركون، وأما الحسيل فظنه المسلمون من المشركين فقتلوه خطأ، وقيل: إن الذي قتله عتبة بْن مسعود، وكان حذيفة يصيح والمسلمون قد علوا أباه: أَبِي، أَبِي، ثم تصدق بديته على المسلمين، وكان مخيريق أحد بني ثعلبة بْن الفطيون من اليهود قد دعا اليهود إلى نصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال لهم: والله إنكم لتعلمون أن نصر مُحَمَّد عليكم حق، فقالوا له: إن اليوم السبت، فقال: لا سبت لكم، وأخذ سلاحه ولحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاتل معه حتى قتل، وأوصى أن ماله لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقال: إِنَّ بعض صدقات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة من مال مخيريق، وكان الحارث بْن سويد بْن الصامت منافقا لم ينصرف مع عَبْد اللهِ بْن أبي في حين انصرافه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جماعته عن غزاة أحد، ونهض مع المسلمين، فلما التقى المسلمون والمشركون بأحد عدا علي المجذر بْن ذياد البلوي وعلى قيس بْن زيد أحد بني ضبيعة فقتلهما وفر إلى الكفار، وكان
المجذر قد قتل في الجاهلية سويد بْن الصامت والد الحارث المذكور في بعض حروب الأوس والخزرج، ثم لحق الحارث بْن سويد مع الكفار بمكة فأقام هناك ما شاء الله، ثم حينه الله فانصرف إلى المدينة إلى قومه، وأتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبر من السماء، نزل جبريل عليه السلام فأخبره أن الحارث بْن سويد قد قدم فانهض إليه واقتص منه لمن قتله من المسلمين غدرا يوم أحد، فنهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قباء في وقت لم يكن يأتيهم فيه، فخرج إليه الأنصار أهل قباء في جماعتهم، وفي جملتهم الحارث بْن سويد وعليه ثوب مورس، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عويم بْن ساعدة فضرب عنقه، وقال الحارث: لِمَ يا رسول الله؟ فقال: بقتلك المجذر بْن زياد، وقيس بْن زيد، فما راجعه بكلمة، وقدمه عويم فضرب عنقه، ثم رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ينزل عندهم، وكان عمرو بْن ثابت بْن وقش من بني عَبْد الأشهل يعرف بالأصيرم يأبى الإسلام، فلما

(1/160)


كان يوم أحد قذف الله الإسلام في قلبه للذي أراد من السعادة به فأسلم، وأخذ سيفه، ولحق بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقاتل حتى أثبت بالجراح، ولم يعلم أحد بأمره، ولما انجلت الحرب طاف بنو عَبْد الأشهل في القتلى يلتمسون قتلاهم، فوجدوا الأصيرم وبه رمق لطيف، فقالوا: والله إن هذا الأصيرم، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه:
يا عمرو ما الذي جاء بك إلى هذا المشهد، أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أصابني ما ترون، فمات من وقته، فذكروه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " هو من أهل الجنة " ولم يصل صلاة قط، وكان في بني ظفر رجل لا يدرى ممن هو، يقال له: قزمان، أبلى يوم أحد بلاء شديدا، وَقَتَلَ يومئذ سبعةً من وجوه المشركين، وأثبت جراحا، فَأُخْبِرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمره، فقال: " هو من أهل النار " وقيل لقزمان: أبشر بالجنة، فقال: بماذا وما قاتلت إلا عن أحساب قومي؟ ثم لما اشتد عليه ألم الجراح، أخرج سهما من كنانته فقطع به بعض عروقه، فجرى دمه حتى مات، ومثل بقتلى المسلمين، وأخذ الناس ينقلون قتلاهم بعد انصراف قريش، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدفنوا في مضاجعهم بدمائهم وثيابهم، لا يغسلون

ذكر من استشهد من المهاجرين يوم أحد
حمزة بْن عَبْد المطلب عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضي الله عن حمزة، قتله وحشي بْن حرب مولى طعيمة بْن عدي بْن نوفل، وقيل: مولى جبير بْن مطعم بْن عدي، وأعتقه مولاه لقتله حمزة،

(1/161)


وكان وحشي حبشيا يرمي بالحربة رمي الحبشة، ثم أسلم وَقَتَلَ بتلك الحربة مسيلمة الكذاب يوم اليمامة، وعبد الله بْن جحش بْن رئاب الأسدي حليف بني عَبْد شمس، وهو ابن عمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفن مع حمزة في قبر واحد، وقد ذكرنا خبره عند ذكره في كتاب الصحابة، ويعرف بالمجدع في الله، لأنه تمنى ذلك قبل الدخول في القتال يوم أحد، فقتل وجدع أنفه وأذنه وجعلا في خيط، ومصعب بْن عمير قتله ابن قمئة الليثي، وشماس بْن عثمان واسمه عثمان بْن عثمان وشماس لقب أربعة من المهاجرين

تسمية من استشهد من الأنصار يوم أحد:
استشهد يومئذ من الأوس ثم من بني عَبْد الأشهل: عمرو بْن معاذ أخو سعد بْن معاذ، والحارث بْن أوس بْن معاذ ابن أخي سعد بْن معاذ، والحارث بْن أنس بْن رافع، وعمارة بْن زياد بْن السكن، وسلمة وعمرو ابنا ثابت بْن وقش، وأبوهما ثابت بْن وقش، وأخوه رفاعة بْن وقش، وصيفي بْن قيظي، وخباب بْن قيظي، وعباد بْن سهل، واليمان بْن جابر والد حذيفة بْن اليمان واسمه حسيل حليف لهم من عبس، وعبيد بْن التيهان، وحبيب

(1/162)


بْن زيد، وإياس بْن أوس بْن
عتيك بْن عمرو بْن عَبْد الأعلم بْن زعوراء بْن جشم بْن عَبْد الأشهل، ومن بني ظفر: زيد بْن حاطب بْن أمية بْن رافع، ومن بني عمرو بْن عوف، ثم من بني ضبيعة بْن زيد: أَبُو سفيان بْن الحارث بْن قيس بْن يزيد، وحنظلة الغسيل بْن أبي عامر الراهب بْن صيفي بْن النعمان، ومن بني عبيد بْن زيد: أنيس بْن قتادة، ومن بني ثعلبة بْن عمرو بْن عوف: أَبُو حبة بْن عمرو بْن ثابت، وهو أخو سعد بْن خيثمة لأمه، وعبد الله بْن جبير بْن النعمان أمير الرماة، ومن بني السلم بْن امرئ القيس بْن مالك بْن الأوس: خيثمة والد سعد بْن خيثمة، ومن حلفائهم من بني العجلان: عَبْد اللهِ بْن سلمة، ومن بني معاوية بْن مالك: سبيع بْن حاطب بْن الحارث، ومالك بْن أوس حليف لهم، ومن بني خطمة، واسم خطمة عَبْد اللهِ بْن جشم بْن مالك بْن الأوس: عمير بْن عدي، ولم يكن يومئذ في بني خطمة مسلم غيره في قول بعضهم، وقد قيل: إن الحارث بْن عدي بْن خرشة بْن أمية بْن عامر بْن خطمة ممن استشهد يومئذ،

(1/163)


واستشهد يوم أحد من الخزرج، ثم من بني النجار: عمرو بْن قيس بْن زيد بْن سواد، وابنه قيس بْن عمرو، وثابت بْن عمرو بْن زيد، وعامر بْن مخلد، وأبو هبيرة بْن الحارث بْن علقمة، وعمرو بْن مطرف، وإياس بْن عدي، وأوس بْن ثابت أخو حسان
بْن ثابت، وهو والد شداد بْن أوس، وأنس بْن النضر بْن ضمضم عم أنس بْن مالك، وقيس بْن مخلد من بني مازن بْن النجار، وكيسان عَبْد لهم، ومن بني الحارث بْن الخزرج: خارجة بْن زيد أبي زهير، وسعد بْن الربيع بْن عمرو بْن أبي زهير ودفنا في قبر واحد، وأوس بْن الأرقم بْن زيد بْن قيس أخو زيد بْن أرقم، ومن بني الأبجر وهم بنو خدرة: مالك بْن سنان والد أبي سعيد الخدري، وسعيد بْن سويد بْن قيس بْن عامر، وعتبة بْن ربيع بْن رافع، ومن بني ساعدة بْن كعب بْن الخزرج: ثعلبة بْن سعد بْن مالك، وثقف بْن فروة بْن البدن، وعبد الله بْن عمرو بْن وهب بْن ثعلبة، وضمرة حليف لهم من جهينة، ومن بني عوف بْن الخزرج، ثم من بني سالم: عمرو بْن إياس، ونوفل بْن عَبْد اللهِ، وعبادة بْن الخشخاش، والعباس بْن عبادة بْن نضلة، والنعمان بْن مالك بْن ثعلبة، والمجذر بْن ذياد البلوي حليف لهم، ودفن النعمان والمجذر وعبادة في قبر واحد، ومن بني سواد بْن مالك: مالك بْن إياس، ومن بني سلمة: عَبْد اللهِ بْن عمرو بْن حرام، اصطبح الخمر ذلك اليوم ثم قتل آخر النهار

(1/164)


شهيدا، ثم نزل تحريم الخمر بَعْدُ، وعمرو بْن الجموح بْن زيد بْن حرام دفنا في قبر واحد كانا صهرين وصديقين متآخيين، وابنه خلاد بْن عمرو بْن الجموح، وأبو أسيرة مولى عمرو بْن الجموح
، ومن بني سواد بْن غنم: سليم بْن عمرو بْن حديدة، ومولاه عنترة، وسهل بْن قيس بْن أبي كعب، ومن بني زريق بْن عامر: ذكوان بْن عَبْد قيس، وعبيد بْن المعلى بْن لوذان، وجميعهم سبعون رجلا، واختلف في صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على شهداء أحد، ولم يُخْتَلَفْ عنه في أنه أمر أن يدفنوا بثيابهم ودمائهم ولم يغسلوا

تسمية من قتل من كفار قريش يوم أحد
وقتل من كفار قريش يوم أحد اثنان وعشرون رجلا، منهم من بني عَبْد الدار أحد عشر رجلا: طلحة، وأبو سعيد، وعثمان بنو أبي طلحة، واسم أبي طلحة عَبْد اللهِ بْن عَبْد العزى بْن عثمان بْن عَبْد الدار، قَتَلَ طَلْحَةَ بْن أبي طلحة عليٌّ، وقتل أبا سعيد بْن أبي طلحة سعدُ بْن أبي وقاص، وقال ابن هشام: بل قتله علي، وعثمان بْن أبي طلحة قتله حمزة، ومسافع والحارث والجلاس وكلاب بنو طلحة المذكور، قَتَلَ مسافعا والجلاس عاصم بْن ثابت بْن أبي الأقلح، وقتل كلابا والحارث قزمان، وقيل: بل قتل كلابا عبد الرحمن بْن عوف، وأرطاة بْن عَبْد شرحبيل بْن هاشم بْن عَبْد مناف بْن عَبْد الدار قتله حمزة، وأبو يزيد بْن عمير بْن هاشم

(1/165)


بْن عَبْد مناف بْن عَبْد الدار أخو مصعب بْن عمير قزمان، والقاسط بْن شريح بْن هاشم بْن عَبْد مناف بْن عَبْد الدار قتله قزمان، وصؤاب أبي طلحة، واختلف في قاتل صؤاب، فقيل: قزمان، وقيل: علي، وقيل: سعد، وقيل: أَبُو دجانة، ومن بني أسد بْن عَبْد العزى رجلان: عَبْد اللهِ بْن حميد بْن زهير بْن الحارث بْن أسد قتله علي، وسباع بْن عَبْد العزى الخزاعي حليف بني أسد، ومن بني مخزوم أربعة: هشام بْن أبي أمية بْن المغيرة أخو أم سلمة أم المؤمنين، والوليد بْن العاص بْن هشام بْن المغيرة، وأمية بْن أبي حذيفة بْن
المغيرة، وخالد بْن الأعلم حليف لهم، ومن بني زهرة: أَبُو الحكم بْن الأخنس بْن شريق حليف لهم قتله علي، ومن بني جمح رجلان: أُبَيُّ بْن خلف قتله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو عزة واسمه عمرو بْن عَبْد اللهِ بْن عمير بْن وهب بْن حذافة بْن جمح أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضرب عنقه صبرا، وذلك أنه مَنَّ عليه يوم بدر وأطلقه من الأسرى بلا فداء، وأخذ عليه أن لا يعين عليه فنقض العهد وغزاه مع المشركين يوم أحد، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والله لا تمسح عارضيك بمكة، تَقُولُ: خدعت محمدا مرتين " وأمر به فضرب عنقه، ومن بني عامر بْن لؤي رجلان: عبيدة بْن جابر قتله ابن مسعود، وشيبة بْن مالك

(1/166)


غزوة حمراء الأسد:
وكانت وقعة أحد يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثالثة من الهجرة، فلما كان من الغد يوم الأحد أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخروج في إثر العدو، وعهد أن لا يخرج معه إلا من حضر المعركة، فاستأذنه جابر بْن عَبْد اللهِ في أن يفسح له في الخروج معه، ففعل، وكان أبوه عَبْد اللهِ بْن عمرو بْن حرام ممن استشهد يوم أحد في المعركة، فخرج المسلمون على ما بهم من الجهد والقرح، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرهبا للعدو، حتى بلغ موضعا يدعى حمراء الأسد على رأس ثمانية أميال من المدينة، فأقام به يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء،
ثم رجع إلى المدينة، قَالَ ابن إسحاق: وإنما خرج بهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرهبا للعدو، وليظنوا أن بهم قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم، وكان معبد بْن أبي معبد الخزاعي قد رأى خروج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين إلى حمراء الأسد، ولقي أبا سفيان وكفارَ قريش بالروحاء فأخبرهم بخروج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طلبهم، ففت ذلك في أعضاد قريش، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتمادوا إلى مكة، وظفر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خروجه بمعاوية بْن المغيرة بْن العاص بْن أمية فأمر بضرب عنقه صبرا، وهو والد عائشة أم عَبْد الملك بْن مروان

(1/167)


بَعْثُ الرَّجِيعِ:
وقد قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر صفر، وهو آخر السنة الثالثة من الهجرة، نفر من عضل والقارة وهم بنو الهون بْن خزيمة بْن مدركة، فذكروا له أنهم قد أسلموا، ورغبوا أن يبعث معهم نفرا من المسلمين يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في الدين، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم ستة رجال: مرثد بْن أبي مرثد الغنوي، وخالد بْن البكير الليثي، وعاصم بْن ثابت بْن أبي الأقلح، وخبيب بْن عدي وهما من بني عمرو بْن عوف، وزيد بْن الدثنة، وعبد الله بْن طارق حليف بني ظفر، وَأَمَّرَ عليهم مرثد بْن أبي مرثد، فنهضوا مع القوم حتى إذا صاروا بالرجيع، وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز، استصرخوا
عليهم هذيلا وغدروا بهم، فلم يَرُعِ القوم وهم في رحالهم إلا الرجال قد غشوهم وبأيديهم السيوف، فأخذ المسلمون سيوفهم ليقاتلوهم، فأمنوهم وأخبروهم أنهم لا أرب لهم في قتلهم، وإنما يريدون أن يصيبوا بهم فداء من أهل مكة، فأما مرثد بْن أبي مرثد، وعاصم بْن ثابت، وخالد بْن البكير فأبوا أن يقبلوا منهم قولهم ذلك، وقالوا: والله لا قبلنا لمشرك عهدا أبدا، وقاتلوا حتى قتلوا رحمة الله عليهم، وكان عاصم بْن ثابت قد قتل يوم أحد، فتيين من بني عَبْد الدار أخوين أمهما سلافة بنت سعد بْن شهيد، فنذرت إِنِ الله أمكنها من رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر، فرامت بنو هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة، فأرسل الله عز وجل دونه الدَّبْرَ فَحَمَتْهُ، فقالوا: إن

(1/168)


الدَّبْرَ سيذهب في الليل، فإذا جاء الليل أخذناه، فلما جاء الليل أرسل الله عز وجل سيلا لم ير مثله فحمله ولم يصلوا إلى جثته ولا إلى رأسه، وكان قد نذر أن لا يمس مشركا أبدا، فأبر الله عز وجل قسمه، ولم يروه، ولا وصلوا إلى شيء منه، ولا عرفوا له مسقطا، وأما زيد بْن الدثنة، وخبيب بْن عدي، وعبد الله بْن طارق، فأعطوا بأيديهم فأسروهم، وخرجوا بهم إلى مكة، فلما صاروا بمر الظهران انتزع عَبْد اللهِ بْن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم ورموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بمر الظهران، وحملوا خبيب بْن عدي، وزيد بْن
الدثنة فباعوهما بمكة، وقد ذكرنا خبر خبيب وما لقي بمكة عند ذكر اسمه في كتاب الصحابة، وصلب خبيب رحمه الله بالتنعيم، وهو القائل حين قدم ليصلب: ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع في أبيات قد ذكرتها عند ذكره في كتاب الصحابة، وهو أول من سن الركعتين عند القتل، وقال له أَبُو سفيان بْن حرب: أَيَسُرُّكَ يا خبيب أن محمدا عندنا بمكة تضرب عنقه، وأنك سالم في أهلك؟ فقال: والله ما يسرني أني سالم في أهلي، وأن يصيب محمدا شوكة تؤذيه، وابتاع زيد بْن الدثنة صفوان بْن أمية فقتله بأبيه

(1/169)


بَعْثُ بئر معونة:
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ بُجَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُنَيْدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ عنْ أَنَسٍ قَالَ: " كَانَ شَبَابٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ، يَنْتَحُونَ نَاحِيَةً مِنَ الْمَدِينَةِ، يَحْسَبُ أَهْلُوهُمْ أَنَّهُمْ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَحْسَبُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ أَنَّهُمْ فِي أَهْلِيهِمْ، فَيُصَلُّونَ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى إِذَا قَارَبَ الصُّبْحُ احْتَطَبُوا الْحَطَبَ، وَاسْتَعْذَبُوا الْمَاءَ فَوَضَعُوهُ عَلَى أَبْوَابِ حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَبَعَثَهُمْ جَمِيعًا إِلَى بِئْرِ مَعُونَةَ فَاسْتُشْهِدُوا، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلِهِمْ أَيَّامًا "
قَالَ سُنَيْدٌ: وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: " بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو الأَنْصَارِيَّ أَحَدَ بَنِي النَّجَّارِ، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ فِي ثَلاثِينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَخَرَجُوا فَلَقَوْا عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلابٍ عَلَى بِئْرِ مَعُونَةَ، وَهِيَ مِنْ مِيَاهِ بَنِي عَامِرٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو وَأَصْحَابُهُ، إِلا ثَلاثَةَ نَفَرٍ كَانُوا فِي طَلَبِ ضَالَّةٍ لَهُمْ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلا الطَّيْرُ تَحُومُ فِي السَّمَاءِ يَسْقُطُ مِنْ خَرَاطِيمِهَا عَلَقُ الدَّمِ، فَقَالَ أَحَدُ النَّفَرِ: قُتِلَ أَصْحَابُنَا وَالرَّحْمَنِ " ، وَذَكَرَ سُنَيْدٌ تَمَامَ الْخَبَرِ فِي ذَلِكَ، وَفِي بَنِي النَّضِيرِ، وسياق ابْنِ إسحاق لخبرهم أحسن وأبين، قَالَ ابن إسحاق:

(1/170)


وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بقية شوال، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر في آخر تمام السنة الثالثة من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد، وكان سبب ذلك، أن أبا براء الكلابي من بني كلاب بْن ربيعة بْن عامر بْن صعصعة، ويعرف بملاعب الأسنة، واسمه عامر بْن مالك بْن جعفر بْن كلاب، وفد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا مُحَمَّد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك، فقال عليه السلام: " إني أخشى عليهم أهل نجد " فقال أَبُو براء: أنا لهم جار، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنذر بْن عمرو الساعدي، وهو الذي يعرف " بالمعنق ليموت " لَقَبٌ غَلَبَ عليه، والأكثر يقولون: أعنق ليموت، في أربعين رجلا من المسلمين، وقد قيل: في سبعين رجلا من خيار المسلمين، منهم الحارث بْن الصمة، وحرام بْن ملحان، أخو أم سليم، وأم حرام، وعروة بْن أسماء بْن الصلت السلمي، ونافع بْن بديل بْن ورقاء الخزاعي، وعامر بْن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، وَأَمَّرَ على جميعهم المنذرَ بْنَ عمرو، فنهضوا حتى نزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، وهي إلى حرة بني سليم أقرب، ثم بعثوا منها حرام بْن ملحان بكتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عدو الله عامر بْن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ قبائل من بني سليم: عصية، ورعلا، وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كَعْبَ بْن زيد أخا بني دينار بْن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق، وارتث من بين القتلى، وعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا رحمه الله،

(1/171)


وكان في سرح القوم عمرو بْن أمية الضمري، ورجل من الأنصار من بني عمرو بْن عوف، وهو المنذر بْن مُحَمَّد بْن عقبة بْن أحيحة بْن الجلاح، فنظرا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال المنذر بْن مُحَمَّد الأنصاري لعمرو بْن أمية الضمري: ما ترى؟ فقال: أرى أن نلحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: ما كنتُ لأرغب عن موطن قتل فيه المنذر بْن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بْن أمية أسيرا، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بْن الطفيل، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه، وخرج عمرو بْن أمية، حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر، وقيل: من بني سليم حتى نزلا معه في ظل هو فيه، وكان معهما عقد من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يعلم به عمرو بْن أمية، وكان قد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ قالا: من بني عامر، فأمهلهما، حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أنه قد أصاب منهما ثأره من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قدم عمرو بْن أمية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبره الخبر، قَالَ: " لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ كَانَ لَهُمَا مِنِّي جِوَارٌ، لأَدِيَنَّهُمَا، هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا مُتَخَوِّفًا " فبلغ أبا براء ما صنع عامر بْن الطفيل فشق عليه إخفاره إياه، وقال حسان بْن ثابت يحرض أبا براء على عامر بْن الطفيل: بني أم البنين ألم يرعكم وأنتم من ذوائب أهل نجد

(1/172)


تَهَكُّمُ عامر بأبي براء ليخفره وما خطأ كعمد ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي فما أَحْدَثْتَ في الحدثان بعدي أبوك أَبُو الحروب أَبُو براء وخالك ماجد حكم بْن سعد أم البنين هي أم أبي براء من بني عامر بْن صعصعة، فحمل ربيعة بْن أبي براء على عامر بْن الطفيل فطعنه بالرمح فوقع في فخذه فأشواه، ووقع عن فرسه، فقال: هذا عمل أبي براء، إن أنا مت فدمي لعمي فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي

(1/173)