العواصم من القواصم - ط دار الجيل

الباب السابع
قاصمة
...
قاصمة:
ثم قتل علي. قالت الرافضة: فعهد غلى الحسن، فسلمها الحسن إلى معاويةن فقيل له مسود وجوه المؤمنين381 وفسقته جماعة من الرافضة، وكفرته طائفة لأجل ذلك.
***
ـــــــ
381 من عناصر إيمان الرافضة- بل العنصر الأول في إيمانهم- اعتقادهم بعصمة الحسن وأبيه وأخيه، وتسعة من ذرية أخيه. ومن مقتضي عصمتهم- وفي طليعتهم الحسن بعد أبيه- أنهم لا يخطئون، وأن ما صدر عنهم فهو حق،والحق لا يتناقض. وأهم ما صدر عن الحسن بن علي بيعته لأمير المؤمنين معاوية، وكان ينبغي لهم أن يدخلوا في هذه البيعة، وان يؤمنوا بانها الحق لأنها من عمل المعصوم عندهم. لكن المشاهد من حالهم أنهم كافرون بها. ومخالفون فيها لإمامهم المعصوم. ولا يخلو هذامن من أحد وجهين: فأما أنهم كاذبون في دعوى العصمة لأئمتهم الاثني عشر، فينهار دينهم من أساسه، لأن عقيدة العصمة لهم هي اساسه، ولا أساس له غيرها. وإما أن يكونوا معتقدين عصمة الحسن، وان بيعته لمعاوية هي من عمل المعصوم، لكنهم خارجون على الدين، مخالفون للمعصوصم فيما جنح إليه وأراد أن يلقى الله به، ويتواصون بهذا الخروج على الدين جيلا بعد جيل، وطبقة بعد طبقة، ليكون ثباتهم على مخالفة الإمام المعصوم عن إصرار وعناد ومكابرة وكفر. ولا ندري أي الوجهين يطوح بهم في مهاوي الهلكة أكثر مما يطوح بهم الوجه الآخر، ولا ثالث لهما. فالذين قالوا منهم أن الحسن مسود وجوه المؤمنين لا يحمل كلامهم غلا على أنه مسود وجوه المؤمنين بالطاغوت أما المؤمنون بنبوة جد الحسن صلى الله عليه وآله وسلم فيرون صلحه مع معاوية وبيعته له من من أعلام النبوة، لأنها حققت ما تنبأ به صلى الله عليه وآله وسلم في سبطه سيد شباب أهل الجنة من انه سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين كما سيأتي بيانه. وكل الذين استبشروا بهذه النبوءة وبهذا الصلح يعدون الحسن مبيض وجوه المؤمنين.خ.

(1/205)


عاصمة:
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: أما قول الرافضة أنه عهد إلى الحسن فباطل. ما عهد إلى أحد382. ولكن البيعة للحسن منعقدة، وهو أحق من معاوية ومن كثير من غيره. وكان خروجه لمثل ما خرج إليه أبوه من عاء الفئة الباغية إلى الإنقياد للحق والدخول في الطعة. فآلت الوساطة إلى أن تخلى عن الأمر صيانة لحقن دماء الأمة383 وتصديقا لوعد
ـــــــ
382 روى الإمام أحمد في مسنده 130:1 برقم1078 عن وكيع عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن سبع قال: سمعت عليا يقول وذكر أنه سيقتل قالوا: فاستخلف علينا. قال: لا ، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته؟ قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم. وروى أحمد مثله 156:1 برقم 1339 عن أسود بن عامر عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن عبد الله بن سبع. والخبران إسناد كل منهما صحيح. ونقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 250:5-251 عن الإمام البيهقي من حديث حصين بن عبد الرحمن عن الإمام الشعبي عن أبي وائل شقيق بن سملة الأسدي أحد سادة التابعين أنه قيل لعلي: ألا تستخلف علينا؟ قالك ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وىله وسلم فأستخلف، ولكن أن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم. وهذا الحديث جيد الإسناد. ونقل ابن كثير أيضا 323:7 عن الإمام البيهقي حديث حبيب ابن أبي ثابت الكاهلي الكوفي عن ثعلبة بن يزيد الحماني وهو من شيعة الكوفة وثقه النسائي أنه قيل لعلي: ألا تستخلف؟ فقال: لا، ولكن اترككم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وانظر السنن الكبرى للبيهقي 149:8.خ.
383 وتمام الحديث: " أنا محمد، وأحمد والمقفى، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة، ونبي الملحمة ". رواه الطيالسي وأحمد في المسند وغيرهما وسنده صحيح كما قال محقق الجامع الصغير وزيادته.م.

(1/206)


نبي الملحمة384 حيث قال على المنبر: "ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 385. فنفذ الميعاد، وصحت البيعة لمعاوية، وذلك لتحقيق رجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فمعاوية خليفة، وليس بملك.
فإن قيل: فقد روى عن سفينة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الخلافة ثلاثون سنة، ثم تعود ملكا" فإذا عددنا من ولاية أبي بكر إلى تسليم الحسن كانت ثلاثين سنة لا تزيد ولا تنقص يوما. قلنا:
خذ ما تره ودع شيئا سمعت به ... في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
هذا الحديث387 في ذكر الحسن بالبشارة والثناء عليه، لجريان الصلح
ـــــــ
384 حكاية الوساطة بين الحسن ومعاوية وصلحهما رواها الإمام البخاري في كتاب الصلح من صحيحه ك53 ب9 ج3 ص169 عن الإمام الحسن البصري قال: استقبل- والله- الحسن بن علي معاوية بكتاب أمثال الجبال. فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها. فقال له معاوية- وكان والله خير الرجلين-: أي عمرو، أن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس- عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز- فقال: اذهبا غلى هذا الرجل أي إلى الحسن بن علي فأرضا عليه أي ما يشاء، وقولا لهأي ما يرضيه، واطلبا إليه أي ما تريان فيه المصلحة فأنتما مفوضان. فأتياه، فدخلا عليه، فتكلما وقالا له، وطلبا إليه. فقال لهما الحسن بن علي: أنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وانهذه الأمة قد عاثت في دمائها أي فيحتاج ارضاؤها في دمائها إلى مال كثير قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك، ويسألك. قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به فما سألهما شيئا إلا قالا: نحن لك به فصالحه.خ.
385 رواه البخاري مع الحديث السابق عن الحسن البصري أنه سمعه من أبي بكرة وأن أبا بكرة رأي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه فقال ذلك. ورواه البخاري أيضا في مناقب الحسن والحسين من كتاب فضائل الصحابة من صحيحه ك62 ب22 ج4 ص216 وانظر البداية والنهاية 17:8-19 وابن عساكر 211:4-216 خ.
387 أي حديث" إن ابني هذا سيد " الذي رواه البخاري عن الحسن البصري عن أي بكرة.خ.

(1/207)


علي يديه، وتسليم الأمر لمعاوية، عقد منه له388.
وهذا389 حديث لا يصح390. ولو صح فهو معارض بهذا الصلح
ـــــــ
388 أي عقد بيعة من الحسن لمعاوية. وكان ذلك في موضع يقال له مسكن على نهر دجيل في ربيع الأول سنة إحدى واربعينن فسمى ذلك العام عام الجماعة لاجتماع المسلمين بعد الفرقة، وتفرغهم للحروب الخارجية والفتوح ونشر دعوة افسلام بعد ان عطل قتلة عثمان سيوف المسلمين عن هذه المهمة نحو خمس سنوات كان يستطيع المسلمون أن يسجلوا فيها أمجادا لا يستطيع غيرهم مثلها في خمس قرون. ولله في كل شيء حكمة.خ.
389 أي حدي سفينة.خ.
390 لأن راوه عن سفينة سعيد بن جهمان، وقد اختلفوا فيه: قال بعضهم لا باس به، ووثقه بعضهم، وقال فيه الإمام أبو حاتم شيخ لا يحتج به. وفي سنده حشرج بن نباتة الواسطي وثقه بعضهم، وقال فيه انسائي ليس بالقو. وعبد الله بن أحمد بن حنبل يروي هذا الخبر عن سويد الطحان قال فيه الحافظ بن حجر في تقريب التهذيب: لين الحديثز وهذا الحديث المهلهل يعارضه ذلك الحديث الصحيح الصريح الفصيح في كتاب الإمارة من صحيح مسلك ك33 ح5، 6 ، 7، 8، 9، 10ج6ص3-4 عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول: "إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة" قال: ثم تكلم بكلام خفى عليه، فقلت لبي : ما قال؟ قال:" كلهم من قريش". وانظره في كتاب الأحكام من صحيح البخاري ك93 ب51 ج8 ص125-127 وفي فتح البخاري 126:13 وما بعدها وفي سنن أبي داود ك35 ح1 وفي جامع الترمذي ك31 ب46 وفي مسند الإمام أحد 398:1 و 406 برقم 3781 و 3859 من حيث الشعبي عن مسروق ابن الأجدع ا لهمداني الإمام القدوة قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني أحد منذ قدمت العراق بلك. م قال: نعم،ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " اثنا عشر، كعدة نقباء بني إسرائيل "*. والحديث في مجمع الزوائد 190:5. وفي مسند احمد 86:5 و 87 بثلاث روايات و 88، 89، 90 بثلاث روايات و92 بثلاث روايات و 93 بروايتين و 94 و 95و 96 بروايتين و 97 بروايتين و89
ـــــــ
* إن حديث الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون بعد ذلك ملكا صححه الحافظ في التقريب، وحسنه الترذمي، وابن حبان وغيرهم.

(1/208)


بيعة الحسن وصلحه مع معاوية
...
المتفق عليه، فوجب الرجوع إليه391.
فإن قيل: ألم يكن في الصحابة أقعد بالأمر من معاوية؟
قلنا: كثير392. ولكن معاوية اجتمعت فيه خصال: وهي أن عمر جمع
ـــــــ
=
بثلاث روايات و99 بثلاث روايات و100، 101 بروايتين و 106 بروايتين و 107 بروايتين و 108 وفي مسند ابي داود الطيالسي ح967 و 2278.خ.
وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة.
وهذا الحديث لا يعارض الصلح بين الحسن ومعاوية كما ادعى أبو بكر بان العربي، كما أنه لا يعارض حديث: أن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي اثنا عشر خليفة كما ادعى محب الدين الخطيب فقد جاء في رواية أبي داود بلفظ:" خلافة النبوة ثلاثون عاما " ومعنى هذا أن هناك خلفاء غيرهم على غير النبوة ولا مانع من تسميتهم بالخلفاء، فقد قال الإمام ابن تيمية: يجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء، وغن كانوا ملوكا، ولم يكونوا خلفاء بدليل ما رواه البخاري ومسلم قال :" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي. وستكون خلفاء، فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول، فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم ".
وكلمة تكثر تفيد الكثرة، ولا يمكن حصرها بالخلفاء الراشدين الأربعة.م.
391 أي إلى العقد من الحسن لمعاوية، فهو متفق عليه، وتناولته البشري النبوية بالثناء والرضا. قال شيخ افسلام اين تيمية في منهاج السنة 242:2: وهذا الحديث يبين أن افصلاح بين الطائفتين كان ممدوحا يحبه الله ورسوله، وأن ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه النبي صلى الله عليه وىله وسلم. ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يثن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يثن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بترك واجب أو مستحب...إلخ.خ.
392 كسعد بن أبي وقاص المجاهد الفاتح أحد العشرة المبشرين بالجنة، وبعد الله بن عمر بن الخطاب عالم الصحابة الثابت على قدم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في جليل الأمور ودقيقها، وغيرهما من هذه الطبقة وقريب منها،وهؤلاء هم الين ترك لهما الحكمان- أبو موسى وعمرو- أمر الإمامة
=

(1/209)


مزايا معاوية وسيرته الممتازة
...
له الشامات كلها وأفرده بها293، لما رأى من حسن سيرته394، وقيامه بحماية البيضة وسد الثغور395، وإصلاح الجند والظهور على العدو396
ـــــــ
بعد حرب صفين ليرو فيها رايهم، فلما رأوا اجتماع الأمة كلها على معاوية دخلوا كلهم في إمامته وبايعوه، بعد أن كانوا معتزلين الفتنة من بعد عثمان انظر فتح البخاري 50:12. ومعاوية نفسه يعرف للناس أقدارهم. فقد جاء في البداية والنهاية 134:8 عن ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبى أن معاوية خطب فقال: أيها الناس، ما أنا بخيركم، وأن منكم لمن هو خير منى: عبد اله بن عمر، وعبد الله بن عمرو وغيرهما من الأفاضل. ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم وأدرءكم حلبا. ورواه ابن سعد عن محمد بن مصعب عن أبي بكر بن أبي مريم عن ثابت مولى معاوية أنه سمع معاوية يقول ذلك.خ.
393 فأصبحت تحت قيادته وبحسن سياسته أقوى قوة في الإسلام، وهي في طليعة جيوش الجهاد والفتوح الظافرة الداعية إلى الله بأخلاقها وسيرتها وحكمة قادتها وصدق إسلامهم.خ.
394 تقدم حديث الليث بن سعد إمام أهل مصر بسنده الوثيق إلى سعد بن أبي وقاص فاتح العراق وإيران ومبيد دولة كسرى أنه ما رأي بعد عثمان أقضى بالحق من معاوية. وحديث عبد الرزاق الصنعاني بسنده إلى حبر الأمة ابن عباس أنه ما رأيى رجلا أخلق بالملك من معاوية.
وفي قول شيخ الإسلام ابن تيمية: كانت سيرة معاوية م رعيته من خيار سير الولاة، وكان رعيته يحبونه÷ وقد ثبت في صحيح مسلم ك33 ح65 و66 قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم. وفي الطبري 188:6 رواية مجالد عن الضعبي أن قبيصة بن جابر الأسدي قال: الا أخبركم من صحبت؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلا أفقه فقها ولا أحسن مدارسة منه. ثم صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلا أعطى للجزيل من غير مسألة منه، ثم صحبت معاوية فما رأيت رجلا أحب رفيقا ولا أشبه سريرة بعلانية منه.خ.
395 وقد بلغ من همته وعظيم عنايته بذلك أن أرسل يهدد ملك الروم- وهو في معمعة القتال مع علي في صفين - وقد بلغه أن ملك الروم اقترب من الحدود في جنود عظيمة، فكتب إليه يقول" والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك، لأصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك مع جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت فخاف ملك الروم وانكف البداية والنهاية 119:8.خ.

(1/210)


وسياسة الخلق397،398. وقد شهد له في صحيح،
ـــــــ
396 في البر والبحر، فكانت رايات الإسلام تخترق الآفاق بأيد جنده ممثلة العزة التي أرداها الله لدينه ورسالة رسوله وللمؤمنين بها. وكما أن فتح مصر ودخولها في الإسلام والعروبة من عمل عمرو بن العاص وحده، فإن تأسيس الأسطول الإسلامي والفتوح البحرية الأولى من عمل معاوية وحده. ومما ينبغي للمشتغل بتاريخ العروبة والإسلام أن يعلمه أن معاوية مفطور على سجية السيادة والقيادة وصناعة الحكم، أخرج ابن كثير في التاريخ 135:8 عن هشيم عن العوام بن حوشب عن جبلة بن سحيم أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ما رأيت أحدا أسود من معاوية. قال جبلة بن سحيم: قلت ولا عمر؟ قال كان عمر خيرامنه، وكن معاوية أسود منه. ورووا مثل هذه الكلمة في معاوية عن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وتقدم قول عبد الله بن عباس ما رأيت رجلا أخلق بالملك من معاوية.خ.
397 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 185:3: لم يكن من ملوك الإسلام ملك خيرا من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أياممن بعده، وغذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل. وقدروى أبو بكر الأثرم-ورواه ابن بطة من طريقه- حدثنا محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا محمد بن مروان، عن يونس، عن قتادة قال: لو أصحبتم في مثل عمل معاوية لقتال أكثركم: هذا المهدي. وروى ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال: لو أدرتكم معاوية لقلتم هذا المهدي. وروى الأثرم: حدثنا محمد بن حواش، حدثنا أبو هريرة المكتب قال: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبدا لعزيزو وعدله، فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه؟ قال: لا والله، بل في عدله. وقال عبد الله بنأحمد بن حنبل: أخبرنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة الثقفي، عن أبي إسحاق السبيعي أنه ذكر معاوية فقال: لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم: كان المهدي. وهذه الشهادة من هؤلاء الأئمة الأعلام لأمير المؤمنين معاوية صدى استجابة الله عز وجل دعاء نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الخليفة الصالح يوم قال صلى الله عليه وآله وسلم" اللهم اجعله هاديا مهديا، واهد به **" وهو من أعلام النبوة.خ.
398 رواه الترمذي وحسنه، وهو صحيح الإسناد كما في تحقيق مشكاة المصابيح.
ـــــــ
** يكفي معاوية رضي الله عنه أنه كان كاتب الوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاء في كتاب البداية والنهاية لحافظ ابن كثير 133:8 قال

(1/211)


............................................
ـــــــ
=
الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب يعني معاوية.
وروى عن علي بن أبي طالب قوله عنه بعد المصالحة التي جرت سنة 40هـ والتي أسفرت عن اعتراف علي بحكمه في الشام واعتراف معاوية بحكم علي في العراق: أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: ما رأيت رجلا أخلص بالملك من معاوية.
وقال الصحابي عمير بن سعد الأنصاري الأوسي، وقد عزله عمر بن الخطاب رضي اله عنه عن حمص وولى معاوية رضي الله عنه: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:" اللهم اهد به..." وهذامن تمام إنصاف عمير رضي الله عنه.
وقال الصحابي الجليل أبو الدرداء لهل الشام: ما رأيت أحد أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من معاوية.
وقد روى ابن قتيبة عن عتبة بن مسعود قال: إنه لما مر بنا نعى معاوية قمنا فأتينا ابن عباس فوجدناه السا قد وضع له الخوان وعنده نفر، فأخبرناه الخبر، فقال يا غلام! ارفع الخوان وسكن ساعة ثم قال: جبل تزعزع ثم مال كلكله. أما والله ما كان كمن كان قبله، ولكن لك يكون بعده مثله، وان ابنه خير أهله.
وقال الأعمش للذين ذكروا عنده عمر بن عبد العزيز وعدله، كيف لو أدركتم معاوية! قالوا في حلمه؟! قال: لا واله بل في عدله، وقد مر معنى ذلك.
وقال قبيصة لجماعته: ألا أخبركم من صحبت؟! صحبت عمر بن الخطاب، فما رأيت رجلا أفقه فقها ولا أحسن مدارسة منه ثم صحبت طلحة فما رأيت رجلا أعظم للجزيل من غير مسألة منه. ثم صحبت معاوية، فما رأيت رجلا احب ر فيقا ولا أشبه سريرة بعلانيةمنه هذه الأقوال منقول عن تاريخ الطبري وعن البداية والنهاية.
وقال الإمام ابن تيمية في منهاج السنة 189/3 وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سيرة الولاة. وقد كانت رعيته يحبونه. وقد ثبت في الصحيحن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :"خيار ائتمكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم".
هذه بعض شهادات الصحابة والتابعين في معاوية رضي الله تعالى عنهم جميا وآراء بعض العلماء والمؤرخين. وقد رأينا ما قال بحقه النبي صلى الله
=

(1/212)


الحديث بالفقه399، وشهد بخلافته في حديث أم حرام أن ناسا من أمنه
ـــــــ
=
عليه وآله وسلم، فمن أبغضه فقد أنكر ما جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقه وطعن في ثناء الصابة والتابعين عليه.
روى الحافظ ابن عساكر عن الإمام أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: أنى أبغض معاوية. فقال له: ولم؟ قال: لأنه قاتل عليا. فقال له أبو زرعة ويحك! إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فايش دخولك أنت بينهما رضي الله عنهما.
وقبل أن ننهي الكلام على شهادات الصحابة والتابعين وآراء العلماء في معاوية ننقل رأيا طريفا للمؤرخ العلامة ابن خلدون في اعتبار معاوية من الخلفاء اراشدين فقد قال:
أن دولة معاوية وأخباره كان ينبغي أن تلحق بدول الخلفاء الراشدين وأخبارهم فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة تاريخ ابن خلدون 458/2 نذكر جميع هذه الشهادات، وقبلها الأحاديث النبوية ف يفضل معاوية، مع اعترافنا يشهد الله بفضل علي، وأنه أفضل منه والحق غالبه معه، وكل كان مجتهدا. وقد جاء في الحديث الصحيح:" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر"! رواه البخاري ومسلم رحمهما الله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث إلى معاوية ليكتب له، فقال: إنه يأكل، ثم بعث إليه، فقال: إنه يأكل، فقال رسول الله صلى الله عليه وىله وسلم:
" لا أشبع الله بطنه" رواه أبو داود وسنده صحيح.
قد يستغل بعض الفرق هذا الحديث ليتخذوا منه مطعنا في معاوية رضي الله عنه، وليس فيه ما يساعدهم على ذلك، كيف وفيه أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟! فالظاهر أن هذا الدعاء منه صلى الله عليه آله وسلم غير مقصود، بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض نسأله: " تربت يمينك ". ويمكن أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وىله وسلم بباعث البشرية التي أفصح عنها هو نفسه صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث كثيرة متواترة منها حديث عائشة رضي الله عنهما:"... أو ما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنته أو سببته، فاجعله له زكاة أجرا" رواه مسلم راجع الأحاديث الصحيحة 95/1.م.
399 في كتاب مناقب الصحابة من صحيح البخاري ك62 ب28 ج4 ص219 حديث ابن أبي مليكة ان ابن عباس قيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة، فقال: إنه فقيه. وفي كتاب المناقب من جامع الترمذي ك46 ب47 حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني عن
=

(1/213)


سرور النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برؤيا حرب معاوية
...
يركبون ثبج البحر الأخضر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، وكان ذلك في ولايته400.
ـــــــ
=
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لمعاوية: " اللهم اجعله هاديامهديا واهد به *". ورواه الطبراني من طريق سعيد بن عبد العزيز التنوخي- وكان لأهل الشام كالإمام مالك لأهل المدينة - عن ربيعة بن يزيد اليادي أحد الأئمة الأعلام عن عبد الرحمن بن أبي عميرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاوية: "اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب" . وأخرجه الإمام البخاري في التاريخ قال: قال لي أبو مسهر وذكره بالعنعنة**. وتقدم حديث عزل عمير بن سعد الأنصاري عن ولاية حمص في خلافة عمر وتوليته معاوية والشهادة له بأن النبي صلى الل عليه وآله وسلم دعا له بأن يهدي الله به. ورواه الإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية السلمي. ورواه ابن جرير من حديث ابن مهدي. ورواه أسد بن موسى وبشر السري وعبد الله بن صالح بعن معاوية بن صالح بإسناده. وزاد في رواية بشر بن السري " وأدخله الجنة ". ورواه ابن عدي وغيره عن ابن عباس. ورواه محمد بن سعد بسنده إلى مسلمة بن مخلد أحد فاتحي مصر وولاتها. ورواة هذا الدعاء النبوي لمعاوية من الصحابة أكثر من أن يحصوا. وانظر الدباة والنهاية120:-121. وانظر ترجمة معاوية في حرف الميم من تاريخ دمشق لابن عساكر. ومن لم يصدق هذا الحديث فهو منكر لكل ما ثبت في السنة من شريعة الإسلام. وفي الشيعة المبغضين لمعاوية اللاعنين له من يزعمون أنهم منتسبون غلى النبي صلى الله عليهوآله وسلم فهل تراهم يحقدون على جدهم صلى الله عليه وآله وسلم لرضاه عن معاوية واستعانته به ودعائه له؟"إذا لم تستح فافعل ما شئت".خ.
400 أم حرام بنت ملحان صحابية من الأنصار من أهل قباء، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذهب إلى قباء استراح عندها، وهي خالة خادمه أنس بن مالك. روى البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه ك56 ب3 ج3 ص201 ومسلم في كتاب الإمارة ك33 ح160 عن أنس أن النبي صلى الله
ـــــــ
* حسنه الترمذي وسنده صحيح كما قال محقق المشكاة.م.
** ومعنى ذلك عدم صحة هذا الحديث.م.
توضيح:
ليس معنى ذلك عجم صحة الحديث على الإطلاق!! فالصحيحين فيهما من ذلك شيء كثير. وأين هذه القاعدة من كتب مصطلح الحديث!! فمعلوم أن عنعنة الثقة تحمل على الاتصال ما لم يكن مدلسا.س.

(1/214)


ويحتمل أن تكون مراتب في الولاية: خلافة ثم ملك401. فتكون ولاية الخلافة للأربعة، وتكون ولاية الملك لابتداء معاوية402. وقد قال الله في
ـــــــ
=
عليه وآله وسلم نام عندها القيلولة ثم استيقظ وهو يضحك لأنه رأى ناسا من أمته غزاة في سبيل الله يركون ثبج البحر-= أي وسطه ومعظمه- ملوكا على السرة. ثم وضع راسه فنام واستيقظ وقد رأى مثل الرؤيا الأولى.
فقالت أم حرام: ادع الله أن يجعلني منهمن فقال لها " أنت من الأولين". قال الحافظ ابن كثير 229:8 يعني جيش معاوية حين غزا قبرص ففتحها سنة 27 أيام عثمان بن عفان بقيادةمعاوية، عقب إنشائه الأسطول الإسلامي الأول في التاريخ. وكانت معهم أم حرام في صحبة زوجها عبادة بن الصامت. ومعهم من الصحابة أبو الدرداء وأبو ذر وغيرهما. وماتت أم حرام في سبيل الله وقبرها بقبرص إلى اليوم. قال ابن كثير: ثم كان أمير الجيش الثاني يزيد** بن معاوية في غزة القسطنطينية. قال: وهذامن أعظم دلائل النبوة.
401 عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء " وقد حسن هذا الحديث. محقق مشكاة المصابيح.م.
402 الخلافة والملك والإمارة عناوين اصطلاحية تتكيف في التاريخ باعتبار ملولهن العملي، والعبرة دائما بسيرة المرء وعمله. ومعاوية قد ولي الشام للخلافة الراشدة مدة عشرين سنة، ثم اضطلع بمهمة الإسلام كلها عشرين سنة أخرى في الوطن الإسلامي الأكبر بعد بيعة الحسن بن علي له، فكان في الحالتين قواما بالعدل، محسنا غلى الناس من كل الطبقات، يكرم أهل المواهب ويساعدهم على تنمية مواهبهم، ويسع بحلمه جهل الجاهلين فيعالج بذلك نقائصهم، ويلتزم في الجميع أحكام الشريعة المحمدية بحزم ورفق ومثابرة وإيمان. يؤمهم في صلواتهم، ويوجههم في مجتمعهم ومرافقهم، ويقودهم في حروبهم. وفي منهاج السنة 185:3 قول الصحابي الجليل أبي الدرداء لأهل الشام ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إمامكم هذا يعني معاوية. وقد رأيت قول الأعمش للذين ذكروا عند عمر بن عبد العزيز وعدله: كيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه؟ قال: لا والله، بل في عدله. وقد بلغ من
ـــــــ
** وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أم حرام بشارة ليزيد بالجنة والمغفرة: " أول جيش من أمتي يركبون البحر أوجبوا. وأول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور له".

(1/215)


...................................................
ـــــــ
= ولا أدري كيف يعقل أن يقبل الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري وغيره من كبار الصحابة قيادة يزيد بن معاوية عليهم، وهو على ما وصفه أعداء الإسلام من سوء السيرة. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} .م.
ـــــــ
استقامته على جادة الإسلام أن قال فيه أمثال قتادة ومجاهد وأبي إسحاق السبيعي- وكلهم من الأئمة الأعلام-: كان معاوية هو المهدي والذي يتتبع سيرة معاوية في حكمه يرى أن حكومته في الشام كانت حكومة مثالية في العدلن والتراحم والتآسي، لم يخير بين الطيب والأطيب إلا اختار الأطيب على الطيب. فإذاكان هذا المسلك في أربعين سنة يؤهل الأمير المسلم للخلافة على المسلمين وقد ارتضواه لذلك واغتبطوا به فهو خليفة، ومن سماه ملكا لا يستطيع أن يكابر في أنه من أرحم ملوك الإسلام وأصلحهم. كنا أيام طلب العلم في القسطنطينية في مجلس للطلبة يتناقشون في موضوع سيرة معاوية وخلافته، وكان ذلك في أيام السلطان عبد الحميد. فوقف صديقي الشهيد السعيد عبد الكريم قاسم الخليل - وكان شيعيا- فقال: أنتم تسمون سلطاننا خليفة، وأنا أخوكم الشيعي أعلن أن يزيد بن معاوية كان بسيرته الطيبة أحق بالخلافة وأصدق عملا بالشرع المحمدي من خليفتنا، فكيف بأبيه معاوية. على أن معاوية كان يقول عن نفسه- فيما رواه خيثمة عن هارون بن معروف عن ضمرة عن ابن شوذب-: أنا أول الملوك وآخر الخليفة. وقتدم حيث معمر عن الزهري أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه. وقد أشرنا هناك إلى اختلاف البيئة وتأثيرها في أنظمة الحكم، بل إن معاوية نفسه ذكر ذلك لعمر لما قدم عمر الشام وتلقاه معاوية في موكب عظيم فاستنكر عمر ذلك، واعتذر له معاوية بقوله: أنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ونرهبهم به. فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر: ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه يا أمير المؤمنين فقال عمر: ما أجل ذلك جشمناه ما جشمناه. البداية والنهاية 124:8-125. وسيرة عمر التي اول معاوية أن يسير عليها سنين كانت المثل الأعلى في بيته، وكان يزيد يحدث نفسه بالتزامها. روى ابن ابي الدنيا عن أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني الحافظ عن رشدين المصري عن عمرو بن الحارث الأنصاري المصري بن بكير بن الأشج المخزومي المدنيثم المصري أن معاوية قال ليزيد: كيف تراك فاعلا إن وليت؟ قال: كنت والله يا أبه عاملا فيهم عمل عمر بن الخطاب. فقال معاوية: سبحان الله يا بني، والله لقد جهدت على سيرة عثمان فما أطقتها، فكيف بك وسيرة عمر. ابن كثير 229:8. والذين لا يعرفون سيرة معاوية يستغربون

(1/216)


داود- وهو خير من معاوية403-: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ } [البقرة:251] فجعل النبوة ملكا. فلا تلتفتوا إلى أحاديث ضعف سندها ومعناها404.
ولو اقتضت الحال النظر في الأمور لكان- والله أعلم- رأى آخر
ـــــــ
= إذا قلت لهم: أنه كان من الزاهدين والصفوة الصالحين. روى الإمام أحمد في كتاب الزهد ص172 طبع مكة عن أبي شبل محمد بن هارون عن حسن ابن واقع عن ضمرة بن ربيعة القرشي عن علي بن أبي حملة عن أبيه قالك رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس عليه ثوب مرقوع. وأخرج ابن كثير 134:8 عن يونس بن ميسر الحميري الزاهد وهو من شيوخ الإمام الأوزاعي قال: رأيت معاوية في سوق دمشق، وهو مدرف وراءه وصيفا وعليه قميص مرقوع الجيب، يسير في أسواق دمشق، وكان قواد معاوية وكبار أصحابه يستهدونه ملابسه للتبرك بهان فكان إذا حضر أحدهم إلى المدينة وعليه هذه الملابس يعرفونها ويتغالون في اقتنائها. روى الدارقطني عن محمد بن يحيى بن غسان أن القاشد الشهير الضحاك بن قيس الفهري قدم المدينة، فأتى المسجد فصلى بين القبر والمنبر، وعليه برد مرقع قد ارتدى به من كسوة معاوية، فرآه ابو الحسن البراد فعرف أنه برد معاوية فساومه عليه وهو يظنه أعرابيا من عامة الناس، حتى رضى أبو الحسن البراد أن يدفع له به ثلاثمائة دينار. فانطلق به الضحاك بن قيس إلى بيت حويطب بن عبد العزى فلبس رداء آخر وأعطى أبا الحسن البراد ذلك البرد بلا ثمن وقال له قبيح بالرجل أن يبيع عطافه، فخذه فالبسه فأخذه أبو الحسن فباعه فكان أول مال أصابه ابن عساكر :7 ص6 وقد أوردنا هذه الأمثلة ليعلم الناس أن الصورة الحقيقة لمعاوية تخالف الصورة الكاذبة التي كان أعداؤه يصورونه بها، فمن شاء بعد هذا أن يسمى معاوية خليفة وأميرا للمؤمنين، فإن سليمان بن مهران الأعمش- وهو ن الأئمة الأعلام الحفاظ، وكان يسمى المصحف لصدقه- كان يفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز حتى في عدله. ومن لم يملأ معاوية عينه وأراد أن يضن عليه بهذا اللقب، فإن معاوية مضى إلى اله عز وجل بعدله وحلمه وجهاده وصالح عمله، وكان وهو في دنيانا لا يبالي أن يلقب بالخليفة أو الملك، وأنه في آخرته لأكثر زهدا بما كان يزهد به في دنياه.خ.
403 أن داود في نبوءته- كما يعرفها المسلمون في دينهم- تجعله خيرا من معاوية. وأما داود اليهود- كما يعرفه الناس من توراتهم الموجودة الآن في الأيدي- فإن معاوية خير منه. ومن شقاء اليهود ألا يعرفوا للقرن والإسلام فضلهما عليهم في تنزيه أنبياء بني إسرائيل عمال وصفوا به في كتبهم.خ.
404 كتب الشيخ محب الدين: متنها بدل: معناه. س.

(1/217)


انعقاد البيعة لمعاوية على الوجه الذي وعد به رسول الله
...
للجمهور، ولكن انعقدت البيعة لمعاوية بالصفة التي شاءها الله، على الوجه الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مادحا له، راضيا عنه، راجيا هدنة الحال فيه، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 406.
وقد تكلم العلماء في إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه، فلست المسألة في الحد الذي تجعله فيه العامة، وقد بيناها في موضعها407.
ـــــــ
406 قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
فلما أثنى النبي صلى الله عليه وىله وسلم على الحسن بالإصلاح وترك القتال دل على أن افصللاح بين تلك الطائفين كان أحب إلى الله تعالى من فعله9. فدل على أن القتال لم يكن مأمورا به، ولو كان معاوية كافرا لم تكن تولية كافر وتسليم الأمر إليه مما يحبه الله ورسوله، بل دل احديث على أن معاوية وأصحابه كانوا مؤمنين، كما كان الحسن وأصحابه مؤمنين، وأن الي فعله الحسن كان محودا عند الله تعالى، محبوبا مرضيا له ولرسوله.
وهذا كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من الناس، فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق وفي لفظ: فتقتلهم أدناهما إلى الحق" فهذا الحديث الصحيح دليل على أن كلا الطائفتين المقتتلتين - علي واصحابه، ومعاوية وأصحابه- على حق، وان عليا واصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه الفتاوى 466/4-467.م.
407 أي من مؤلفاته الأخرى. وهذه المسألة من مسائل الفقه الإسلامي الممحصة، المبينة أحكامها على النصوص والسنن والأسس الشرعية التي قام الدين على مثلها في باب جلب المصالح ودرء المفاسد وتقدير الضرورات باقدارها. والقاضي أبو الحسن الماوردي لم يذكر في الأحاكم السلطانية ص5 مخالفا في جواز إمامة المفضل إلا الجاحظ، وماذا يضر أئمة الدين إذا خالفهم الجاحظ، وهل العباسيون الذين عرف الجاحظ بالتقرب إليهم في حياتهم كانوا أفضل معاصريهم؟ أما جمهور الفقهاء والمتكلمين فقالوا تجوز إمامة المفصول وصحة بيعته، ولا يكون وجود الأفضل مانعا من إمامة المفضول إذا لم يكن مقصرا عن شروط الإمامة، كما يجوز- في ولاية القضاء- تقليد المفوضل مع وجود الأفضل، لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار، وليست معتبرة في شروط الاستحقاق. ونحيل القارئ على كتاب الإمامة والمفاضلة لبي محمد بن حزم المدرج في الجزء الرابع من كتاب الفصل ولاسيما الفصل المعقود فيه لإمامة المفضول ص163-167 من طبعة مصر سنة 1320.خ.

(1/218)


حجر بن عدي والأسباب التي حملت معاوية على قتله
...
فإن قيل: فقد قتل حجر بن عدي- وهو من الصحابة مشهور بالخير- صبرا أسيرا بقول زياد، وبعثت إليه عائشة في أمره فوجدته قد فات بقتله. قلنا: قد علمان قتل حجر كلنا، واختلفنا: فقائل يقول قتله ظلما، وقائل يقول قتله حقا408.
فإن قيل: الأصل قتله ظلما إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله. قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق، فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل. ولو كان ظلما محضا لما بقى بيت إلا لعن فيه معاوية. وهذه مدينة السلام دار خلافة بني العباس- وبينهم وبين بني أمية ما لا يخفى على الناس- مكتب على أبواب مساجدها: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ـــــــ
408 حجر بن عدي الكندي عده البخاري وآخرون من التابعين، وعده ابعض الآخر من الصحابة، وكان من شيعة علي في الجمل وصفين. وروى ابن سيرين أن زيادا- وهو أمير الكوفة- خطب خطبة أطال فيها، فنادى حجر بن عدي الصلاة! فمضى زياد في خطبته، فحصبه حجر وحصبه آخرون معه. فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغى حجر على أميره في بيت الله، وعد ذلك من الفساد في الأرض. فكتب معاوية إلى زياد أن سرح به إلى... فلما جيء به إلى معاوية أمر بقتله. فالذين يرون أن معاوية قتله بحق يقولون: ما من حكومة في الدنيا تعاقب بأقل من ذلك من يحسب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع، مندفعا بعاطفة الحزبية والتشيع. والذي يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون كان ينبغي لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته من الحلم وسعة الصدر لمخالفيه. ويجيبهم الآخرون بأن معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغي عليه في شخصه، فأما البغي على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد فهو لا يملك معاوية أن يتسامح فيه، ولاسيما في مثل الكوفة التي أخرجت العدد الأكبر من أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان بسبب هذا التسامح، فكبدوا الأمة من دمائها وسمعتها وسلامة قلوبها ومواقف جهادها تضحيات غالية كنت في غنى عنها لو أن هيبة الدولة حفظة بتأديب عدد قليل من أهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب.
وكما كانت عائشة تود لو أن معاوية شمل حجر بسعة صدره، فإن عبد الله بن عمر كان يتمنى مثل ذلك. والواقع أن معاوية كان فيه من حلم عثمان وسجاياه، إلا أنه في مواقف الحكم كان يتبصر في عاقبة عثمان وما جر إلهي تمادى الذين اجترأوا عليه.خ.

(1/219)


أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم معاوية خال المؤمنين رضي الله عنهم.409.
ولكن حجرا- فيما يقال رأى من زياد أمورا منكرة410ن فحصبه، وخلعه، واراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فسادا.
وقد كلمته عائشة في أمره حين حج، فقال لها: دعيني وحجرا حتى نلتقي عند الله. وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين،وانتم411 ودخولكم حيث لا تشعرون، فما لكم تسمعون412؟
فإن قيل: قد دس على الحسن من سمه.
ـــــــ
409 المؤلف أقام في بغداد زمن الدولة العباسية كما ذكرنا في ترجمته، فهو يعرف مساجدها معرفة مشاهدة وعيان. ومعاوية خال المؤمنين لأنه أخو أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان المشتهرة بكنيتها أم حبيبة.خ.
410 كان زياد في خلافة علي واليا من ولاته، وكان حجر بن عدي من أولياء زيادوأنصاره. ولم يكن ينكر عليه شيئا. فلما صار من ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعا بعاطفة التحزب والتشيع. وكان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولى الكوفة لمعاوية قبل زياد، فلمعاوية عذا إذا رأى أن حجرا من سعى في الأرض فسادا.خ.
411 كذا في جميع النسخ واقترح الشيخ ابن باديس أن يكون: وما أنتم. س.
412 ومن الانتقادات التي يوجهونها إلى معاوية رضي الله عنه لعن على رضي الله عنه على المنابر.
قال المؤرخ عبد الوهاب النجار في كتابه الخلفاء الراشدون ص438 ولم يذكر المصدر وذلك بعدما علم عليء نتيجة التحيكم:
فكان إذا صلى صلاة الصبح يقنت فيقول: اللهم العن معاوية وعمرا.
وبإزاء هذا القنوت أقول: أن عليا رحمه الله قد سن لخصومه أن ياقبوله بمثل عمله، ويتخذوا من لعنه نوعا من العبادة في أعقاب الصلوات، فكان معاوية إذا خطب سب عليا... وصار ذلك سنة في بني أمية إلى زمن عمر بن عبد العزيز.
والعهدة في هذا الخبر على الراوي الذي لا علم لنا بمبلغ صحته ولا نظنه يصح والله أعلم.م.

(1/220)


أهلية يزيد للولاية
...
قلنا: هذا محال من وجهين: أحدهما أنه ما كان ليتقي من الحسن بأسا وقد سلم الأمر. الثاني أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله فكيف تحمولنه- بغير بينة- على أحد من خلقه في زمان متباعد لم تثق فيه بنقل ناقل، بي أيدي قوم ذوي أهواء، وفي حال فتنة وعصبية، ينسب كل واحد إلى صاحبه ما لا ينبغي، فلا يقبل منها إلا الصافي، ولا يسمع فيها إلا من العدل الصميم413.
فإن قيل: فقد عهد إلى يزيد وليس بأهل414، 415. وجرى بينه
ـــــــ
413 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 225:2 فيما تزعمه الشيعة من أن معاوية سم الحسن: لم يثبت ذلك ببينة شرعية، ولا إقرار معتبر، ولا نقل يجزم به، وهذامما لا يمكن العلم به، فالقول به قول بلا علم. قال: وقد رأينا في زماننا من يقول عنه سم ومات مسموما من الأتراك وغيرهم. ويختلف الناس في ذلك حتى في نفس الموضع الذي مات فيه القلعة التي مات فيها، فتجد كلا منهم يحدث بالشيء بخلاف ما يحدث به الآخر. وقعد أن ذكر ابن تيمية أن الحسن مات يحدث بالشيء بخلاف ما يحدث به الآخر. وبعد أن ذكر ابن تيمية أن الحسن مات بالمدينة وأن معاوية كان بالشام، ذكر الخبر احتمالات- على فرض صحته- منها أن الحسن كان مطلاقا لا يدوم مع امرأة...إلخ.خ.
414 أن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ أبي بكر وعمر في مجموع صجاياهما، فهذا ما لم يبلغه في تاريخ الإسلام، ولا عمر بن عبد العزيز. وإن طمعنا بالمستحيل وقدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر فلن تتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر وعمر. وإن كان مقياس الأهلية الاستقامة في السيرة، والقيام بحرمة الشريعة، والعمل بأحكامها،و العدل في الناس، والنظر في مصالحهم، والجهاد في عدوهم، وتوسيع الآفاق لدعوتهم،والرفق بأفرادهم وجماعتهم، فإن يزيد يوم تمحص أخباره، ويقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم،وأجزل الثناء عليهم.خ.
415 تصدى في العصر الحديث للدفاع عن يزيد استاذ في جامعة القاهرة هو الدكتور إبراهيم العدوي خريج ماعة ليفربول، فيقول في كتابه: الأمويون والبيزنطيون: البحر المتوسط بحيرة إسلامية ناقضا بذلك الشائعات الكاذبة المتواترة التي سمعة وتسمم العقول البريسة.
وبذل معاوية جهودا عظيمة لإعداد القوات الإسلامية التي رغب في إرسالها إلى القسطنطينية فجعل على رأس هذه الحملة ابنه وولي عهده يزيد.

(1/221)


وبين عبد الله بن عمر وابن الزبير والحسين ما نصه عن وهب416 بن جرير بن حازم عن أبيه وعن غيره: لما أجمع معاوية أن يبايع لابنه يزيد حج، فقدم مكة في نحو ألف رجل. فلما دنا من المدينة خرج ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر. فلما قدم معاوية المدينة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه. ثم ذكر يزيد فقال: من أحق بهذه الأمر417. ثم ارتحل،
ـــــــ
=
واستهدف معاوية من وراء ذلك إعطاء ابنه فرصة يعلي فيها من ذكره واسمه في ميدان الجهاد ضد البيزنطيين، وليرد بذلك على الأشخاص الذين أبدوا امتعاضهم من يزيد والمحاولات التي بذلها أبوه لأخذ البيعة له بالخلافة من بعده، إذ صورت الدعايات المعادية لبني أمية شخصية يزيد بحبها للمجون والخلاعة، وعدم أهليتها لتصريف شئون المسلمين.
ومن ثم كان ميدان القسطنطينية خير مجال يدحض فيه يزيد افتراءات منافسيه وأعدائه ويعلن عن مواهبه الحربية ما اتصف به من شجاعة وإقدام.
وعلى ضفاف البوسفور انضم يزيد إلى القوات،وعبر مياه هذا المضيق إلى الشاطيء الأوروبي وحقق لجنده سبقهم على أقرانهم من جند الإسلام في مشاهدة القسطنطينة، وا لوقوف أمامها، يدقونها بآلاتهم الحربية ويعملون على تخريبها أو إحداث ثغرات فيها.
وأظهر يزيد في هذا الحصار من ضروب الشجاعة والبسالة ما أكسبه لقب: فتى العرب ودونت المراجع سيرته وأعماله في هذا النضال.
وأشاد الدكتور إبراهيم بمعاوية رضى الله عنه فقال:
باستيلاء المسلمين على الشام ومصر،فتحت صفحة جديدة في تاريخ البحر المتوسط دون سطورها الأولى معاوية بن أبي سفيان بمداد الجهاد وملأ بأخبار عظمة الأول في رسم سياسة المسلمين إزاء البحر المتوسط منذ زمن مبكر، وحل المشكلة البحرية التي اعترضتهم.م.
416 وكتبها الشيخ محب الخطيب ما قصه المؤرخون عن وهب!!.س.
417 شباب قريش المعاصرون ليزيد - ممن يحدثون أنفسهم بولاية الأمر لبعض الاعتبارات التي عرفونها لأنفسهم - كثيرون جدا، حتى سعيد بن عثمان بن عفان ومن هم دون سعيد كان يطمعون بولاية الأمر من بعد معاوية. ومبدأ الشورى في انتخار الخليفة أفضل بكثير من مبدأ ولاية العهد. لكن معاوية كان يعمل بينه وبين نفسه أن فتح باب الشورى في انتخاب من يخلفه سيحدث في الأمة افسلامية مجزرة لا ترقأ فيها الدماء إلا بفناء كل ذي أهلية في قريش لولاية شء من أمور هذه الأمة. ومعاوة أحصف من أن يخفى عليه أن المزايا موزعة بين هؤلاء الشباب القرشيين، فإذا امتاز أحدهم بشيء منها على أضرابه ولداته، فإن فيهم من يمتاز عليه بشيء آخر منها. غير أن يزيد- مع مشاركته
=

(1/222)


فقدم مكة فقضى طوافه، ودخل منزله، فبعث إلى ابن عمر، فتشهد وقال: أما بعد يا ابن عمر، فقد كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء ليس عليك أمير. وإني أحذرك أن تشق عصا المسملين، وأن تسعى في فساد ذات بينهم. فلما سكت تكلم ابن عمر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنه قد كانت قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنك بخير منهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار. وإنك تحذر أن أشق عصا المسلمين، ولم أكن لأفعل، وإنما أنا رجل من المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمرنا فإنما أنا واحد منهم. فخرج ابن عمر418.
وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فتشهد ثم أخذ في الكلام،
ـــــــ
=
لبعضهم في بعض ما يمتازون به- يمتاز عليهم بأعظم ما تحتاج إليه الدولة، أعني القوة العسكرية التي تؤيده في تولى الخلافة، فتكون قوة للإسلام. كما تؤيده إذا وقع الشيطان الفتنة على هذا الكرسي بين المتزاحمين عليه، فيكون ما لا يجب كل مسلم أن يكونز. ولو لم يكن ليزيد إلا أخواله من قضاعة وأحلافهم من قبائل اليمن، لكان منهم ما لا يجوز لبعيد النظر أن يسقطه من قائمة الحساب عندما يفكر في هذه الأمور. أضف إلى هذاما قرر ابن خلدون عند كلامه على مسير الحسين إلى العراق للخروج على يزيد حيث قال في فصل ولاية العهد من مقدمة تاريخه: وأما الشوكة، فغلط يرحمه الله فيها، لأن عصبية مضر كانت في قريش، وعصبية قريش في عبد مناف، وعصبية عبد مناف إنما كانت في بنية أمية، تعرف ذلك لهم قريش في عبد مناف، وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه، وإنما نسي ذلك في أول الإسلام لما شغل الناس من الذهوب بالخوارق وأمر الوحي... حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد، فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت، وأصحبت مضر أطوع لبني أمية من سواهم*.خ.
418 هذا الخبر معارض بما في كتاب المغازي من صحيح البخاري ك64 ب29 ج5 ص48 عن ابن عمر أن أخته أم المؤمنين حفصة نصحت له بأن يسرع بالذهاب للبيعة وقالت: الحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة.خ.
وانظر ص166
ـــــــ
* أن هذه الحجة لابن خلدون متهافتة، فإن الإسلام في عهد معاوية كان قويا عزيزا. ويظهر بطلانها استلام العباسيين الهاشميين للحكم أكثر من خمسة قرون، بينما لم يستطع الأمويون الاحتفاظ به قرنا واحدا!!.م.

(1/223)


فقطع عليه كلامه، فقال: إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمرا بنك إلى الله. وإنا والله لا نفعل. والله لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين أو لتفرنها عليك جذعة415 ثم وثب فقال معاوية: اللهم اكفينيه420 بما شئت. ثم قال: على رسلك أيها الرجل، لا تشرفن لأهل الشام، فإني أخاف أن يسبقوني بنفسك، حتى أخبر العشية أنك قد بايعت، ثم كن بعد ذلك على ما بدا لك من أمرك.
ثم أرسل إلى ابن الزبير فقال: يا ابن الزبير، إنما أنت ثعلب رواغ كلما خرج من جحر دخل في آخرن وإنك عمدت إلى هذين الرجلين فنفخت في مناخرهما. فقال ابن الزبير: إن كنت قد مللت الإمارة فاعتزلها، وهلم ابنك فلنبايعه. أرأيات إذا باعيت ابنك معك لأيكما نسمع، لأيكما نطيع؟ لا نجتمع البيعة لكما أبدا421. ثم قام.
فخرج معاوية فصعد المنبر فقال: إنا وجدناه أحاديث الناس ذوات عوار. زعموا أن ابن عمر وان الزبير وابن ابي بكر لم يبايعوا يزيد، قد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له.
فقال أهل الشام: لا والله، لا نرضى حتا يبايعوا على رؤوس الأشهاد، وإلا ضربنا أعناقهم.
فقال: سبحان الله، ما أسرع الناس إلى قري بالشرب لا أسمع هذه المقالة من أحد بعد اليوم، ثم نزل.
فقال الناس: بايعوا. ويقولون هم: لم نبايع. ويقول الناس: قد بايعتهم.
وروى وهب من طريق أخرى قال:خطب معاوية فذكر ابن عمر فقال: والله ليبايعين أو لأقتلنه. فخرج عبد الله بن عمر إلى أبيه
ـــــــ
419 أي لتنكشف عليك الفتنة في أشد حالاتها، ويلاحظ أن الذين انتحلوا هذه الأقوال في الاستطالة على معاوية لم يطعنوا في كفاءة يزيد وأهليته لأنها آخر ما يرتابون فيه.
420 ب،ج،ذ: أكففه. س.
421 ابن الزبير أذكى من أن تفوته أن البيعة ليزيد بعد معاوية، وليست لهما معا في حياة معاوية. والذين اخترعوا هذه الأخبار وأضافعوها إلى وهب ابن جرير بن حازم يكذبون كذبا مفضوحا.

(1/224)


وسار إلى مكة ثلاثا وأخبره422، فبكى ابن عمر، فبلغ الخبر إلى عبد الله ابن صفوان: فدخل على ابن عمر فقال: أخطب هذا بكذا؟ قال: نعم.
قال: فما تريد، أتريد قتاله؟ قال: يا ابن صفوان، الصبر خير من ذلك.
فقال ابن صفوان: والله لئن أراد ذلك لأقاتلنه422. فقدم معاوية مكة فنزل ذا طوى،وخرج إليه عبد الله بن صفوان فقال: أنت تزعم أنك تقتل ابن عمر إن لم يبايع لابنك؟ قال: أنا أقتل ابن عمر؟ إني والله لا أقتله.
وروى وهب من طريق ثالث424 قال: إن معاوية لما راح عن بطن مر قاصدا إلىمكة قال لصاحب حرسه: لا تدع أحدا يسير معي إلا من حملته.
فخرج يسير وحده، حتى إذاكان وسط الأراك لقيه الحسن بن علي، فوقف وقال: مرحبا وأهلا بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد شباب المسلمين. دابة لأبي عبد الله يركبها. فأتى ببرذون، فتحول عليه. ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر425، فقال مرحبا بابن شيخ قريش وسيدهم
ـــــــ
422 هذا الخبر عن وهب بن جرير بن حازم يشعر با، معاوية خطب هذه الخطبةوهو في المدينة قادما إليها من دمشق قبل أن يصل إلى مكة، وأن ابن عمر كان يومئذ في مكة فركب إليه ابنه حتى لقيه بمكة واخبره بهذه الخطبة. وفي الخبر الذي قبل هذا- وهو مروى عن وهب بن جرير بن حازم وأنه كان مع الأعيان الذين خرجوا لاستقباله. فالخبران متناقضان يكذب أحدهما الآخر مع أنهما عن راو واحد. ولا أدري من أين جاء بهما المؤلف، ولم ينقلهمال الطبري مع أنه يعتني بأخبار وهب بن جرير لأنه ثقة، ووهب مات سنة 206 وأبوه مات سنة 170 بعد أن اختلط، فبينهما وبين هذه الحوادث رواة آخرون، وبينهما وبين الطبري وغيره من المؤرخين رواة كثيرون. وأعتقد أن هذه الأخبار غير صحيحة لتناقضها، ولو عرفنا رواتها إلى وهب بعد وهب لعرفنا من أين جاء الكذب.خ.
423 عبد الله بن صفوان حفيد أمية بن خلف الجمحي، قتل مع ابن الزبير سنة 73.
425 نحن نعلم من الخبر الأول عن وهب نفسه أن عبد الرحمن بن أبي بكر كان في المدينة، وكان في الذين استقبلوا معاوية عند وصوله إليها من دمشق، فما الذي طار به إلى مكة حتى صار في مستقبلي معاوية عند وصوله إليها؟ حقا أن الذين يكذبون على معاوية أغبياء لا يجيدون ولا صناعة الكذب.

(1/225)


وابن صديق هذه الأمة. دابة لأبي محمد يركبها. فأتى ببرذون فركبه.
ثم طلع ابن عمر فقالك مرحبا وأهلا بصاحب رسول الله وابن الفاروق وسيد المسلمين، ودعا له بدابة فركبها. ثم طلع ابن الزبير فقال: مرحبا وأهل بابن حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن الصديق وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا له بدابة فركبها. ثم أقبل يسير بينهم لا يسايره غيرهم حتى دخل مكة، ثم كانوا أول داخل ، وآخر خارج ليس في الرض صباح إلا لهم فيه حباء وكرامة، ولا يعرض لهم بذكر شيء مما هو فيه حتى قضى نسكه وترحلت أثقاله وقرب مسيره إلى الشام وأنخيت رواحله، فأقبل بعض القوم على بعض فقالوا: ايها القوم لا تخدعوا، إنه والله ما صنع هذا لحبكم ولا لكرامتكم ولا صنعه إلا لما يريد، فأعدوا له جوابا. وأقبلوا على الحسين فقالوا: أنت يا أبا عبد الله. قال: وفيكم شيخ قريش وسيدها؟ وهو أحق بالكلام. فقالوا: أنت يا أبا محمد- لعبد الرحمن بن أبي بكر- فقال: لست هناك، وفيكم صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن سيد المسلمين- يعني ابن علي- فقالوا لابن عمر: أنت! فقال: ليست بصاحبكم، ولكن ولوا426 الكلام ابن الزبير يكفيكم. قالوا: أنت يابن الزبير. قال: نعم، إن أعطيتموني عهودكم ومواثيقكم أن لا تخالفوني كفيتكم الرجل. فقالوا فلك ذلك. فخرج الإذن، فأذن لهم. فدخلوا.
فتكلم معاوية فحمد الله واثنى عليه ثم قال: لقد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، وصفحي عنكم، وملي لما يكون منكم، ويزيد ابن أمير المؤمنين أخوكم وابن عمكم وأحسن الناس لكم رأيا. وإنما أرادت أن تقدموه باسم الخلافة وتكونوا أنتم الذي تنزعون وتؤمرون وتجبون وتقسمون لا يدخل عليكم في شيء من ذلك.
فسكت القوم. فقال: ألا تجيبوني؟ فسكت القوم. فقال: ألا تجيبوني. فسكتوا. فأقبل على ابن الزبير قال: هات يا ابن الزبير، فإنك لعمري صاحب خطبة القوم. فقال: نعم يا أمير المؤمنين أخيرك بين ثلاث خصال أيها أخذت فهي لك رغبة. قال: لله أبوك، اعرضهن. قال: إن شئت صنعت
ـــــــ
426 وكتبها الشيخ محب الدين الخطيب: أولو. س.

(1/226)


ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن شئت صنعتما صنع أبو بكر فهو خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن شئت صنعت ما صنع عمر فهو خير هذه الأمة بعد أبي بكر. قال: لله أبوك، ما صنعوا؟ قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يستخلف أحدا، فارتضى المسلمون أبا بكر. فإن شئت أن تدع أمر هذه الأمة حتى يقضي الله فيها قضاءه فيختار المسلمون لأنفسهم. فقال: إليه، ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر، وإني لا آمن عليكم الاختلاف. قال: فاصنع كما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصبة قريش ليس من بني أمية فاستخلفه.
قال: لله أبوك. الثالثة؟ قال: تصنع ما صنع عمر، جعل الأمر شورى في ستة نفر من قريش ليس أحد منهم من وليد أبيه. قال هل عندك غير هذا؟ قال: لا . قال: فأنتم؟ قالوا: ونحن أيضا. قال: أما لا، فإني أحببت أن أتقدم إليكم، إنه قد أعذر من أنذر، وإنه قد كان يقوم القائم منكم إلى فيكذبني على رؤوس الناس فأحتمل له ذلك. وإني قائم بمقالة، فإن صدقت فلي صدقي وإن كذبت فعلي كذبي. وإني أقسم باله لكم لئن رد علي إنسان منكم لا ترجع إليه كلمته حتى يسبق إلى رأسهز ثم دعا بصاحب حرسه فقال: أقم على كل رجل من هؤلاء رجلين من حرسك، فإن ذهب رجل يرد على كلمته بصدق أو كذب فليضرباه بسيفيهما427.
ثم خرج وخرجوا معه، حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا يستبد بأمر دونهم، ولا يقضى أمر إلا عن مشورهم. وإنهمد قد ارتضوا وبايعو ليزيد ابن أمير المؤمنين من بعده، فبايعوا باسم الله. فضربوا على يده، ثم دلس على راحلته وانصرف.
فلقيهم الناس فقالوا: زعمتم وزعمتم، فلم أرضيتم وحبيتم فعلتم.
قالوا: إنا لله وما فعلنا. قال: فما منكم أن ترددوا على الرجل إذ كذب؟ ثم بايع أهل المدينة والناس: ثم خرج إلى الشام.
ـــــــ
427 أورد المؤلف هذه الأخبار المفضوح كذبها ليعارضها في الصفحات التالية إن شاء الله بحديث البخاري عن الموقف السليم لابن عمر في هذا الحادث حتى يعلم الناس أن الحق في واد وهؤلاء الرواة الكاذبين في واد غيره.

(1/227)


قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: لسنا ننكر، ولا تبلغ بنا الجهالة ولا لنافي الحق حمية جاهلية، ولا تنطوي على غل لأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل نقول:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} إلا أن نقول: إن معاوية ترك الأفضل في أن يجعلها شورى، وألا يخص بها أحد من قرابته فكيف ولدا428، وأن يقتدي بما أشار به عبد اله بن الزبير في الترك أو الفعل429 فعدل إلى ولاية ابنه وعقد له
ـــــــ
428 قال الإمام ابن خلدون:
....والذي دعا معاوية رضي الله تعالى عنه لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه إنما هو مرعاة المصحلة في اجتماع واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، غذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم. فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها.
وعدل عن الفاضل إلى المفوض حرصا على الاتفاق واجتماع الأهوال الذي شأنه أهم عند الشارع، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا لعدالته.
وصحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه، فلبسوا مما يأخذهم في الحق هوادة.
وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم أجل من ذلك. وعدالتهم مانعة منه.
ثم قال: ابن خلدون بعد كلام طويل:
أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق،وسماه الرضا، كيف أنكرت العباسية ذلك، ونقضوا بيعته وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي،وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعدد الثوار والخوارج ما كاد يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد وورد أمرهم لمعادة....المقدمة: مبحث ولاية العهد باختصار.م.
429 كان معاوية أعرف بابن الزبير من ابن الزبير بنفسه، روى البلاذري في أنساب الأشراف 4 :532-54 عن المدائني عن مسلمة بن علقة عن خالد عن أبي قلابة أن معاوية قال لابن الزبير: أن الشح والحرص لن يدعاك حتى يدخلاك مدخلا ضيقا. فوددت أني حينئذ عندك فأستنقذك.
فلما حضر ابن الزبير قال: هذاما قال لي معاوية، وددت أنه كان حيا.خ.

(1/228)


البيعة وبايعه الناس، وتخلف عنها من تخلف،430 فانعقدت البيعة شرعا، لأنها تنعقد بواحد وقيل باثنين.
فإن قيل: لمن فيه شروط الإمامة. قلنا: ليس السن في شروطها، ولم يثبت أنه يقصر يزيد عنها.
فإن قيل: كان منها العدالة والعلم،ولم يكن يزيد عدلا ولا عالما. قلنا: وبأي شيء نعلم عدم علمه أو عدم عدالته431؟ ولو كان مسلوبهما لذكر ذلك الثلاثة الفضلاء الذين اشاروا عليه بأن لا يفعل، وإنما رموا إلى الأمر يعيب التحكم، وأرادوا أن تكون شورىز
فإن قيل: كان هناك من هو أحق منه عدالة وعلما، منهم مائة ورما ألف. قلنا: إمامة المفضول- كما قدمنا- مسألة خلاف بين العلماء على ذكر العلماء في موضعه.
وقد حسم البخاري الباب، ونهج جادة الصواب، فروى في صحيحه ما يبطل جميع هذا المتقدم، وهو أن معاوية خطب وابن عمر حاضر في خطبته، فيما رواه البخاري عن عكرمة بن خالد أن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونوساتها تنطف434. قلت: قد كان من الأمر ما ترين، فلم يجعل
ـــــــ
430 عدل عن الوجه الأفضل لما كان يتوجس من الفتن والمجازر إذا جعلها شورى، وقد رأى القوة والطاعة والنظام والاستقرار في الجانب الذي فيه ابنه.خ.
431 أما عن العدالة فقد شهد له محمد بن علي بن أبي طالب في مناقشته لابن مطيع عند قيام الثورة على يزيد في المدينة فقال عن يزيد: ما رأيت منه ما تذكرون. وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبا على الصلاة، متحريا للخير، يسأل عن الفقه، ملازما للسنة ابن كثير 233:8. وأم عن العلم فما يلزم منه لمثله في مثل مركزه كان فيه موضع الرضا وفوق الرضا.
روى المدائني أن ابن عباس وفد إلى معاوية بعد وفاة الحسن بن علي، فدخل يزيد على ابن عباس وجلس منه مجلس المعزى فلما نهض يزيد من عنده قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس ابن كثير 228:8.خ.
434 أي وذوائبها تقطر ماء، سمى الذوائب، نوسات لأنها تنوس، أي تتحرك.خ.

(1/229)


نقد أخبار ملفقة على وهب بن جرير في تمهيد معاوية لولاية يزيد
...
لي من الأمر شيء. فقالت: الحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب. فلما تفرق الناس خطب معاوية فقال: من كان يريد أن يتكم في هذا الأمر فيلطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة435: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي،وهممت أن أقو: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك واباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدماء وتحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان، فقال حبيب: حظفت وعصمت.
وروى البخاري436 أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :"ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة " وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله وروسهل437، وإني لأعلم غدرا أعظم من أن نبايع رجلا على
ـــــــ
435 حبيب بن مسلمة الفهري مكي كان عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صبيا، ثم التحق بالشام للجهاد، فاشتهرت بطولته، ويعد فاتح أرمينية، ويقال أنه كان قائد النجدة التي خرجت من الشام لإنقاذ عثمان من أيدي البغاة عليه، فجاءها الخبر بشهادته وهي في الطريق فعادت.خ.
436 في كتاب الفتن من صحيحه ك92 ب21 ج8 ص99.خ.
437 وهذا الخبر المنير الذي يرويه البخاري في صحيحه يفضح الذين زوروا على وهب بن جرير تلك الأخبار المتناقضة بأن عمر وغيرهم لم يبايعوا ليزيد، وان معاوية أقام على رؤوسهم من يقطعها إذا كذبوا فيما افتراه عليهم من أنهم بايعوا لابنه. فتبين الآن انه لم يفتر عليهم، وهذا ابن عمر يعلن في أحرج المواقف- أي ثورة أهل المدينة على يزيد بتحريض ابن الزبير وداعيته ابن مطيع- أن في عنقه كما فيأعناقهم بيعة شرعية لإمامهم على بيع الله ورسوله، وأن من أعظم الغدر أن تبايع الأمة أمامها ثم تنصب له القتال. ولم يكتف ابن عمر بذلك في ترك الثورة على يزيد بن روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه ك33 ح58 ج6 ص22 أن ابن عمر جاء غلى ابن مطيع داعية ابن الزبير ومثير هذه الثورة فقال ابن مطيع: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال ابن عمر: أني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:" من خلع يدا من طاعة، لقى الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"* وكان
ـــــــ
* رواه مسلم رحمه الله.

(1/230)


تحذير ونصيحة من المؤلف للمسلمين من الدخول في دماء الصحابة وأعراضهم بسوء
...
بيع الله ورسوله ثم تنصب له القتال. وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كنت الفيصل بيني وبينه.
فانظروا معشر المسلمين إلى ما روى البخاري في الصحيح، وإلى ما سبق ذكرنا له من رواية بعضهم أن عبد الله بن عمر لم يبايع، وان معاوية كذب وقال قد بايع، وتقدم إلى حرسه يأمره بضرب عنقه إن كذبه. وهو قد قال في رواية البخاري: قد بايعناه على بيع الله ورسوله وما بينهما من التعارض،وخذوا لأنفسكم بالأرجع في طلب السلامة، والخلاص بين الصحابة والتابعين فلا تكونوا ولم تشاهدوهم- وقد عصمكم الله من فتنتهم- ممن دخل بلسانه في دمائهم، فيلغ فيها ولوغ الكلب بقية الدم على الأرض بعد رفع الفريسة بلحمها، ولم يحلق الكلب منها إلا بقية دم سقط على الأرض.
وروى الثبت العدل عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر قال: قال ابن عمر حين بويع يزيد: إن كان خيرا رضيان، وإن كان شرا صبرنا.
وثبت عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية فقال: تقولون إن يزيد بن معاوية ليس بخير أمة محمد ، ولا أفقهها فيها فقها، ولا أعظمها فيها شرفا. وأنا أقول ذلك. ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إلى من أن تفترق. أرأيتم بابا دخل فيه أمة محمد ووسعهم، أكان بعجز عن رجل واحد لو كان دخل فيه؟ قلنا: لا. قال: أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم لا أريق دم أخي ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :"لا يأتيك من الحياء إلا خير" 438.
ـــــــ
لمحمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية مثل هذا الموقف من داعية الثورة ابن مطيع سيراه القارئ في مكان آخر عند الكلام على سيرة يزيد.خ.
438 أورده البخاري ومسلم بلفظ:" الحياء لا يأتي إلا بخير " وفي رواية:" الحياء خيره كله ".م.

(1/231)


فهذه الأخبار الصحاح كلها تعطيك أن ابن عمر كان مسلما في أمرة يزيد، وأنه بايع عقد له والتزم ما التزم الناس، ودخل فيما دخل فيه المسلمون، وحرم على نفسه ومن إليه بعد ذلك أن يخرج على هذا أو ينقضه.
وظهر لك أن قول من قال: غن معاوية كذب في قوله بايع ابن عمر ولم يبايع، وان ابن عمر وأصحابه سئلوا فقالوا لم نبايع فقد كذب.
وقد صدق البخاري في روايته قول معاوية على المنبر أن ابن عمر قد بايع بإقرار ابن عمر ذلك وتسليمه له وتماديه عليه.
فأي الفريقين أحق بالصديق إن كنتم تعلمو؟ الفريق الذي فيه البخاري، أم الذي فيه غيره؟
فخذوا لأنسفكم بالأحزم والأصح، أو اسكتوا عن الكل، والله يتولى توفيقكم وحفظكم.
والصاحب الذي كنى عنه حميد بن عبد الرحمن هو ابن عمر، والله أعلم. وإن كان غيره فقد أجمع رجلان عظيمان على هذه المقالة وهي تعضد ما أصلنا لكم من أو ولاية المفضول نافذة وغن كان هنالك من هو أفضل منه إذا عقدت له. ولما في حلها- أو طلب الأفضل- من استباحة ما لا يباح، وتشتيت الكلمة، وتفريق أمر الأمة.
فإن قيل: كان يزيد خمارا. قلنا: لا يحل440 إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه441 بل شهد العدول بعدالته فروى يحيى بن بكير عن الليث
ـــــــ
440 وفي نسخة حد.س.
441 أن معاوية - مع شديد حبه ليزيد، لألمعيته واكتمال مواهبه- آثر أن ينشأ بعيدا عنه في أحضان الفطرة،وخشونة البداوية وشهامتها، ليستكمل الصفات اللائقة بالمهمة التي تنتظر أثماله، فبعث به إلى أخبية البادية عند اخواله منقضاعة، ليكون على مذب أمة ميسون بنت بجدل يوم قالت:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إلى من عصر منيف
وفي ذلك الوسط أمضى يزيد زمن صباه وصدر شبابه، وما لبث أن انتقل أبوه إلى رحمة الله حتى تولى المركز الذي أراده الله له. فلما خلا الجو لابن الزبير بموت معاوية صار دعاته يذيعون في الحجاز الأكاذيب على يزيد
=

(1/232)


الليث بن سعد يسمي يزيد أمير المؤمنين
...
ابن سعد، قال الليث: توفى أمير المؤمنين* يزيد في تاريخ كذا فسماه
ـــــــ
=
وينسبون إليه ما يحل* لهم. نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 223:8 أن عبد الله بن مطيع داعية ابن الزبير مشى في المدينة هو وأصحابه إلى محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية فأراده على خلع يزيد، فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: أن يزيد بشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته، وأقمت عنده، فرأيته مواظبا على الصلاة، متحربا للخير، يسأل عن الفقه، متلازما للسنة. قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعا لك. فقالك وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إلى الخشوع؟ فأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وغن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم تكن رأيناه. فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال:{إلا من شهد بالحق وهم يعلمون}[الزخرف:86]،ولست من أمركم في شيء. قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أمرنا. قال: ما استحل القتال على ما تريدونني عليه تابعا ولا متبوعا. قالوا: فقد قاتلت مع أبيك. قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه. فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا. قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاما تحض الناس فيه على التال. قال: سبحان الله ، آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه؟ إذن ما نصحت الله في عبداه. قالوا: إذن نكرهك. قال: إذن آمر الناس بتقوى الله، وألا يرضوا المخلوق بسخط الخالق وخرج إلى مكة.
* إن الذين نسبوا ليزيد ما لا يحل هم - الرافضة للتوصل إلى التشكيك بالقرآن من وراء الطعن بمعاوية ومن عم الخلفاء الذن ولوه وأقروه على الحكم، وهم نقلة القرآن وحفظته.
* لقد كان يزيد غائبا عن الشام حينما مات أبوه فلما وصل دمشق جددت له البيعة، ثم جمع الناس في الجامع وخطب فيهم مما يدل على تقواه قائلا بعد حمد الله والثناء عليه:
أيها الناس! إن معاوية كان عبدا من عبدي الله، أنعم الله عليه، ثم قبضه إليه، وهو خير من بعده ودون من قبله!.
ولا أزكيه على الله عز وجل، فإنه أعلم به. إن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه. وقد وليت الأمر من بعده، وليست آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئا كان.
إن معاوية كان يغزيكم البحر، وإني لست حاملا أحدا من المسلمين لعل مراده إلا بإذنه واختياره بدليل العبارة التي بعدها في البحر.
=

(1/233)


الليث أمير المؤمنين بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلا توفى يزيد.
ـــــــ
=
وأن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتيا أحدا بأرض الروم. وإن معاوية كان يخرج لكم العطاء أثلاثا. وأنا أجمعه لكم كله.
قال الراوي فافترق الناس عنه وهم لا يفضلون عليه أحدا. البداية ج8 ص143.
ومن خطب يزيد الدالة على حصافة عقله وحسن بصيرته وتقواه:
الحمد لله وأحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. واشهد أن لا إله إلا الله وحده ر شريك له وأن محمدا عبده ورسوله اصطفاه لوحيه واختاره لرسالته بكتاب فصله وفضله وأعزه وأكرمه، ونصره وحفظه، ضرب فيه الأمثال وحلل فيه الحلال وحرم الحرام، وشرع فيه الدين أعذارا وإنذارا. لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل، ويكون بلاغا لقوم عابدين.
وأصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم الذي ابتدا الأمور بعلمه، وإليه بصير معادها، وانقطاع موتها وتصرم دارها. وأحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات وراقت بالقليل وأينعت بالفاني، وتحببت بالعاجل. لا يدوم نعيمها ولا يؤمن فجيعها، أكالة غوالة غراراة، ولا تبقى على حال، ولا يبقى لها حال، لن تعد الدنيا إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا بها وأن تكون كما قال الله عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} إلى قوله مقتدرا نسأل الله ربنا وإلهنا وخالقنا ومولانها أن يجعلنا وإياكم من فزع يومئذ آمنين. إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله.
يقول الله :{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخر السورة. العقد الفريد 378:2.
ومما روى عن معاوية أنه لما مات الحسن رضي الله عنه وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنه في دمشق، أمر ابنه أن يذهب فيعزيه به فذهب وجلس بين يديه. وأراد ابن عباس أن يرفع مدجلسه فأبى وقال: إنما أجلس مجلس المعزي لا المهني، ثم ذكر الحسن فقال: رحم الله أبا محمد أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم الله أجرك وأحسن عزاك وعوضك من مصابك ما هو ير لك ثوابا وخير عقبى فلم يسع ابن عباس بعد أن غادره يزيد إلا أن قال لجلسائه:
إذا ذهب بنو حرب، ذهب علماء الناس ثم أنشد:
مفاضي عن العوراء لا ينقطونها ... واصل وراثات الحلوم الأوائل

(1/234)


فإن قيل: ولو لم يكن ليزيد إلا قتله للحسين بن علي قلنا: يا أسفا على المصائب مرة، ويا أسفا على مصيبة الحسين ألف مرة. بوله يجري على صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودمه يراق على البوغاء لا يحقن442 يا لله ويا للمسلمين. وإن أمثل ما روى فيه أن يزيد كتب إلى الوليد بن عتبة بنعى له معاوية ويأمره أن يأخذه له البيعة على أهل المدينة- وقد كانت تقدمت فدعاة مروان فأخبره فقال له: أرسل إلى الحسين بن علي وابن الزبير، فإن بايعوا وإلا فاضرب أعناقهم. قال: سبحان الله، تقتل الحسين بن علي وابن الزبير؟ قال: هو ما أقول لك. فأرسل إليهما، فأتاه ابن الزبير، فنعى إليه معاوية وسأله البيعةن فقال: ومثلي يبايع هنا؟ أرق المنبر، وأنا أبايعكم443 مع الناس علانية. فوثب مروان وقال: اضرب عنقه، فإنه صاحب فتنة وشر فقال ابن الزبير: إنك لهنالك يا ابن الزرقاء؟ واستبا فقال الوليد: اخرجهما444 عني، وأرسل إلى الحسين ولم يكلمه بكلمة في شيء، وخرجا من عنده. وجعل الوليد عليهما الرصد. فلما دنا الصبح خرجا مسرعين إلى مكة فالتقيا بهماز فقال له ابن الزبير: ما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك؟ فوالله لو أن لي مثل لذهبت إليهم. فهذا ما صح445.
ـــــــ
442 البوغاء: التراب الناعم.خ.
443 كتبها الشيخ محب وغنا نبايع مع الناس ولا مبرر لذلك.س.
444 في ب، د، ز: أخرجاهما. وكتب الشيخ محب أخرجا. س.
445 إننا وإن كنا نلوم ابن الزبير ضي الله عنه على ثورته، وهو لا شك مجتهد لكننا نبرئه من خدعة الحسين يحضه لى الخروج إلى العراق ليخلو له الجو في الحجاز. وقد روى الطبري روايات أخرى تنفي هذه الخدعة عن هذا الصحابي. نذكر بعضها بإيجاز:
ذكر الطبري أن ابن الزبير قال للحسين حينما قال له من رغبة في الخروج إلى العراق:
أما الملك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ههنا ما خولف عليك إن شاء الله ج4 ص288 وفي إحداهما أن عبد الله بن مسلم والمذري بن المشتعل سمعا ابن الزبير يسار الحسين بين الحجر والباب، فيقول له: إن شئت أن 289.
تقيم أقمت فوليت هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك فبايعناك...
قود روى ابن كثير رواية جاء فيها أن الحسين قال لابن الزبير اتتني بيعة أربعين ألفا يحلفون بالطلاق والعتاق. فقال له أتخرج إلى قوم قتلوا أباك وأخرجوا أخاك؟. البداية والنهاية ج8 ص161.

(1/235)


وذكر المؤرخون أن كتب أهل الكوفة وردت على الحسين446، وأنه
ـــــــ
= ومما يؤيد براءة ابن الزبير من تغرير الحسين ليخلو له الجو في الحجاز ما رواه الإمام ابن كثير أن عبد الله بن مطيع- داعية ابن الزبير- لقيه في مكة، فقال له: فؤادك أمي وأبي. أمتعنا بك ولا تسر إلى العراق، ولئن قتلك هؤلاء يتخذونها عبيدا وخولا!. البداية والنهاية ص161-163.م.
446 أول من كتب إليه من شيوخ شيعته- على ما رواه مؤرخهم لوط بن يحيى-: سلمان بن صرد والمسيب بن نجبه وفراعة بن شداد وحبيب بن مظاهر، وارسلوا كتابهم مع عب الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال، فبلغا حسبنا بمكة في عاشر رمشان سنة 60، وبعد يومين سرحوا إليه قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد اله بن الكدن الأرحبي وعمارة السلولي بثلاث وخمسين صحيفة، وبعد يومين آخرين سرحوا إليه ابن هانيء السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي. وفي الطبري 197:6 نصوص بعض رسائلهم واسماء بعض اصحابها وهي تدور على أنهم لا يجتمعون مع أميرهم النعمان بن بشير في جمعن ويدعون الحسني إليهم حتى إذا أقبل طردوا أميرهموالحقوه بالشام، ويوقولن في بعضها: أينعت الثمار، فغذا شئت فأدقم على جند لك مجند. فأرسل الحسين غليهم ابنعمه مسلم بن قيل بن أبي طالب ليرى إن كانوا مستوثقين مجتمعين ليقدم هو عليهم بعد ذلك.
وضل مسلم بن عقيل في الطريق ومات من معه من العطش فكتب إلى الحسين يستعقيه من هذه المهمة، فأجابه: خشيت ألا يكون حملك على الاستعفاء إلا الجبن. فمضى مسلم حتى بلغ الكوفة، وأعطاه البيعة للحسين اثنا عشر ألفا منهم، وشعر أمير الكوفة النعمان بن بشير بحركاتهم فخطب فيهم ينهاهم عن الفتنة والفرقة، وقال لهم: إني لا اقاتل إلا من قاتلني، ولا آخر بالظنة والتهمة، فإنأبديتم لي صفحتكم ونكثتم بيعتكم لضربنكم بسيفي ما ثبت قائمة في يدي. وعلم يزيد أن النعمان بن بشير حليم ناسك لا يصلح في مقاومة مثل هذه الحركة، فكتب غلى عبيد الله بن زيدا عامله على البصرة أنه قد ضم إلي الكوفة ايضا، وأمره أن يأتي الكوفة وأن يطلب بن عقيل كطلب الخرزة حتى يثقه فيوثه فيقتله أو ينفيه. فاستخلف عبيد الله أخاه على البصرة وأقبل على الكوفة فاتصل برؤسائها وقبض على أزمة الحال، فما لبث مسلم ابن عقيل أن رأى مبايعته الاثنى عشر ألفا كالهباء، ورأى نفسه وحيدا طريدا، ثم قبض عليه وقتل. وكان الحسين قد جاءته قبل ذلك رسائل مسلم بن عقيل بأن اثنى عشر ألفا بايعوه على الموت فخرج عقب موسم الحج بريد الكوفة، ولم يشجعه على الخروةج إلا ابن الزبير* لأنه عرف أن أهل الحجاز لا يتابعونه
ـــــــ
* هذه تهمة ذكرنا بطلانها فسيما سبق! ولو أنها مذكورة في تاريخ الطبري. فإن في هذا التاريخ ما ينقاضها، وقد كنا ذكرنا طريقة الطبري في التألي. والعبرة في التحقيق العلمي الحديثي!.

(1/236)


أرسل مسلم بن عقيل- ابن عمه- إليهم ليأخذ عليهم البيعة وينظرو هو في أتباعه، فنهاه ابن عباس وأعلمهم أنهم خذبوا أباه وأخاه، واشار عليه ابن الزبير با لخروج فخرج، فلم يبلغ الكوفة إلا مسلم بن عقيل قد قتل وأسلمه من كان استدعاه. ويكفيك بهذا عظة لمن اتعظ. فتمادى واستمر غضبا للدين وقياما بالحق. ولكنه- ري الله عنه- لم يقبل نصيحة أعلم أهل
ـــــــ
ما دام الحسين معهم فصار الحسين أثقل خلق الله على ابن الزبير. الطبري 196:6-197 وانظر 216:6-217. وأما المشفقون على الحسين من هذا الخروج المشئوم فهم جميع أحبائه وذوي قرابته والناصحين له والمتحررين سنة افسلام في مثل هذا الموقف، كل هؤلاء نهوه عن مسيرهوحذروه من عواقبه، وفي طلعتهم أخوه محمد بن الحنفية. الطبري 190:6-191 وابن عم أبيه حبر الأمة عبد الله بن العباس. الطبري 216:6-217 وابن عمه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب 219:2 وقد بلغ الأمر بعبد الله بن جعفر أن حمل والي يزيد على مكة وهو عمرو بن سعيد بن العاص على أن يكتب للحسين كتاب الأمان ويمنيه فيه البر والصلة ويسأله الرجوع، فأجابه والي مكة إلى كل ما طلب وقال له اكتب ما تشاء وأنا أختم على الكتاب، فكتبه وختمه الوالي، وبعث به إلى الحسين مع أخيه يحيى بن سعيد بن العاص،وذهب عبد الله بن جعفر بمع يحيى،وجهدا بالحسين أن يثنياه عن السفر فأبى وصورة كتاب الوالي في تاريخ الطبري 219:6-220، وليس فوق هؤلاء الناصحين أحد في عقلهم وعلمهم ومكانتم وإخلاصهم، بل أن عبد الله بن مطيع داعية بن الزبير كان من ناصحيه** بعقل وإخلاص الطبري 196:6 وعمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي كان على هذا الرأي. الطبري 215:6-216 والحارث بن خالد بن العاص بن هشام لم يأله نصحا 216:6 وحتى الفرزدق الشاعر قال له: قلوب الناس معكم وسيوفهم مع بني أمية. الطبري 218:6 فلم يفد شيء من هذا الجهود في تحويل الحسين عن هذا السفر الي كان مشئوما عليه، وعلى الإسلام، وعلى الأمة الإسلامية إلى هذا اليوم وإلى قيام الساعة، وكل هذا بجناية شيعته الذين حرضوه بجهل وغرور ورغبة في الفتنة والفرقة والشر، ثم خذلوه بجبن ونذالة وخيانة وغدر. ولم يكتف ورثتهم بمافعل أسلافهم فعكفوا على تشويه التاريخ وتحريف الحقائق ورد الأمور على أدبارها.خ.
دـ
** كيف يتفق قول الأستاذ الخطيب رحمه اله فيما مضى أن ابن الزبير كان يشجع الحسين رضي الله عنه- على الخروج إلى العراق، ثم يروح يقول هنا بأن داعيته ابن مطيع نصحه بعدم الخروج!!

(1/237)


زمانه ابن عباس،وعدل عن رأي شيخ الصحابة ابن عمر47،448
ـــــــ
447 في إيثاره العافية، وحرصه على وحدة المسلمين وتفرغهم لنشر الدعوة والفتوح.
448 نذكر فيما لي ضراعات كبار الصحابة والمفكرين للحسين بلزوم رجوعه:
لقد روى الطبري أن الحسين لما خرج من مكة اعترضه رسل الوالي عمر ابن سعيد بقيادة أخيه يحيى، فقالوا له: أين تذهب وطلبوا منه الانصراف فأبى فتدافع الفريقان وتضاربا بالسياط وامتنع الحسين منهم، ثم مضى فناداه يحيى:
يا حسين؟ اتق الله ولا تخرج من الجماعة وتفرق هذه الأمة!!
فأجبه بالآية :{لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} ثم مضى.
وقد روى الطبري كذلك أن عبد الله بن جعفر لما علم بخروج الحسين من مكة ارسل إليه كتابا مع ابنيه عون ومحمد يقول فيه:
إني أسألك الله لما انصرفت حين تنظر في كتابي فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجه إليه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك. إن هلكت اليوم طفيء نور الأرض، فإنك علم المهتدين ورجل المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإني في أثر الكتاب.
ولقد روى ابن كثير. ص291-292 أن عبد الله بن عمر لما سمع بخروج الحسين إلى العراق، وكان هو في مكة لحق به على مسيرة ثلاث ليال، فقال له: أين تريد؟
قال العراق: وهذه كتبهم وبيعتهم. فقال له ابن عمر:
إني محدثك حديثا: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا. وإنك بعضة من رسول الله وما نالها أحد منكم أبدا، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم.
استودعك الله من قتيل!
كذلك روى أن أبا سعيد الخدري جاء إلى الحسين وقال له:
أنى لك ناصح، وأنى عليك مشفق. وقد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج! فإني سمعت أباك يقول بالكوفة.
والله لقد مللتهم وأبغضتهم وملوني وأبغضوني وما يكون منهم وفاء قط. ومن فاز منهم فاز بالسهم الأخيب. والله ما لهم نيات ولا عزم على أمر ولا صبر على السيف. البداية والنهاية ج/ص160.

(1/238)


...................................
ـــــــ
=
وقال الإمام ابن كثير وكتب يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن عباس يطلب منه أن يكف الحسين وقال له: أحسبه قد جاءه رجال من الشرق فمنوه بالخلافة، وعندك منهم خير وتجربة، فإن كان قد فعل، فقد قطع راسخ القرابة، وأنت كبير أهل بيتك، والمنظور إليه، فامنعه عن الفرقة.
ودخل ابن عباس على الحسين فكلمه طويلا وقال:
أنشدك الله أن تهلك غدا بحال مضيعة، لا تأت العراق، وإن كنت لابد فاعلا، فأقم حتى ينقضي الموسم وتلقى الناس وتعلم ما يصدرون ثم ترى رأيك. فأبى! البداية والنهاية ص161-163.
وروى الطبري أيضا أن أحد بني عكرمة لقيهوهو نازل في بطن القصبة، فساله أين تريد فحدثه فقال له: إني أنشدك الله ما انصرفت: فوالله لا تقدم إلا على الأسنة وحد السيوق، فلو كان الذين بعثوا إليك كفوك مؤونة القتال ووطؤوا لك الأشياء، فقدمت عليهك كان ذلك رأيا فقال- أي الحسين- له: يا عبد الله إنه ليس يخفى علي ما رأيت! ولكن الله لا يغلب على أمره. ثم ارتحل ثم أن الحسين استمر في سيره بعد أن وصله خبر مقتل مسلم وتفرق الناس عنه أيضا.
وروى الطبري أن مسلم بن عقيل بعد أن اتخنته الحجارة التي رشق بها فاستسلم فأخذوا سيفه فقال: هذا أول الغدر، وبكى، وكان بقربه عمرو بن عبيد الله بن عباس فقال له: من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به الذي نزل بك لا يبكي!.
فقال له: والله ما لنفسي ابكي! ولا لها من القتل أرثي. ولكن أبيك لأهل المقبلين، أبكي الحسين وآل الحسين!! ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال له: يا عبد الله! والله ستعجز عن أماني، فهل عندك خبر تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني يبلغ حسنا، فإني لا أراه قد خرج إليكم هو وأهل بيته، فيقول له أن مسلما أسيرا ولا يمسي حتى يقتل، فارجع بأهلك وبيتن: ولا يغرك أهل الكوفة، فإنهم اصحاب أبيك! الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، وقد كذبوني وكذبوك، وليس للكذاب رأي! فوعده أن يفعل.
ثم أرسل شخصا يخبره خبر مسلم ورسالته، فلقى الحسين وأخبره فقال له:
كل ما حم نازل وعند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا ثم استمر في رحلته وكان في إمكانه أن يعود ج4ص278-281.
وقد روى الطبري ج4ص292-294 أن الحسين لما تيقن من مقتل مسلم وتيقن من خذلان أهل العراق له، قال لمن معه من غير أسرته، ولمن انضم

(1/239)


حزن يزيد لاستشهاد الحسين ومعاملته لأهل بيته
...
.......................................
ـــــــ
=
إليه في طريقه: لقد خذلتنا شيعتنا!! فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف. فتفرق أكثر الناس، ولم يبق معه إلا أبناؤه وأقربائه وبعض المخلصين من وأوليائه، ولمن يكن يزيد مجموعهم على المئة.
ويروي المسعودي أن عبدي الله بن زياد قال لقاتل الحسين: أنه كان خير الناس أما وأبا، وخير عباد الله، فلم قتلته؟! ثم أمر بضرب عنقه. مروج الذهب ج3 ص141.
وروى الطبري كتاب يزيد على عبيد الله بن زياد يوصيه في الحسين أنك لم تعد إن كنت كما أحب عملت عمل الحازن، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش. وقد بلغني أن الحسين توجه إلى العراق فضع المناظر والمسالح واحترص على الظن وخذ على التهمة ولا تقتل إلا من قاتلك!. الطبري ج4 ص282-286.
ولقد روى ابن كثير أن مروان بن الحكم كتب إلى عبيد الله بن زياد حينماخرج الحسين إلى العراق: أن الحسين قد توجه إليك،وهو ابن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتالله ما أحد مسلم أحب إلينا من الحسين، فإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء ولا تنساه العامة ولا تدع ذكره آخر الدهر.
وقد أوصى معاوية نفسهولاته وابنه يزيد بالحسين.
حزن لاستشهاد الحسين ومعاملته لأهل بيته.
يروى أن يزيد دمعت عيناه لما حمل إليه راس الحسين وقال لحامله:
لقد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. لعن الله ابن عبيد الله. أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين.
أما والله يا حسين لو أنا صاحبك ما قتلتك ثم دعا بعلي الصغير بن الحسين ونسائه، فادخلوه عليه وعنده اشراف الشام. فقال لعلي: ابوك الذي قطع رحمي وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت.
ثم أمر بإنزالهم في داره وأمر لهم بما يصلحهم، وكان لا يتغذى ولا يتعشى إلا على معه. ثم أمر النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم ويسيرهم إلى المدينة مع أناس صالحين.
ولما أرادوا الخروج دعا عليا فودعه وقال له:
لعن الله ابن مرجانة! اما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة إلا أعطيتها إياه ولدفعت عنه الحتف بكل ما استطعت، ولو بذلت بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، فكاتبني، وإنه إلي كل حاجة تكون لك.
ويروي ابن قتيبة أنه لما أدخلوا عليه رأس الحسين وأهله بكى حتى كادت نفسيه تفيض. وبكى معه أهل الشام حتى علت أصواتهم.

(1/240)


طعن آل البيت بالشيعة
...
.............................................
ـــــــ
يروي المسعودي أن ابن زياد قال لقاتل الحسين: أنه كان خير الناس أما وأبا، وخير عباد الله، فلم قتلته؟ ثم أمر بضرب عنقه. مروج الذهب ج141/3 وذكر الطبري أنه لما دخل علي ابن زياد عشاء آل الحسين، أمر لهم بمنزل وأجرى عليهم رزقا وأمر لهم بنفقة وكسوة ثم سيرهم إلى يزيد.
قال الأستاذ دروزه 384/8 هذا- يجعل الروايات الواردة في حسن معاملة عبيد\ الله بن زياد، ثم يزيد لابن الحسين الصغير وبناته ونسائه واستياء يزيد لقتله، وبكائه عليه ومشاركة أهله نساء ورجالا في ذلك، أصح من تلك التي تذكر قسوتها وجفاءها إزاءهم، ولاسيما أنه لم يكن هناك قتال شديد يثير نقمة وانافعلاا يمتد أثرها إلى النساي والأطفال. وكان ما وقع على غير إرادتهم بل وعلى مضض منهم.
ولعل من الدلائل على ذلك ما رواه الطبري وابن قتيبة معا من استمرار الصلا ة الحسنة، والمكاتبات بين يزيد وعلي بن الحسين، وما كان من موقف هذا إبان ثورة المدينة حيث رووا أنه لا علي ولا أقاربه اشتركوا في هذه الحركة. وأن يزيد وصى قائد جيشه وأمره بأن يدني مجلسه وأن يبلغه أنه وصل إليه كتابه، وأن هؤلاء الخبثاء شغلوه ع8نه، وأن القائد رحب به وأجلسه على السرير وبلغه رسالة يزيد. تاريخ الطبري ج4 ص379 والإمامة والسياسة ج1 ص200.
فأين هذه المعاملة الحسنة من افتراء المفترين بسبي أهل البيت وحملهم على الجمال بلا أقتاب بعد استشهاد الحسين؟! فهذا من الكذاب الواضح، ما استحلت أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبي هاشمية، وإنما قاتلوا الحسين خوفا منه ومن أن يزيل عنهم الملك. فلما استشهد فرغ الأمر وبعث بآله إلى المدينة. ولكن جهل الرافضة إليه المنتهي. ولا ريب أن قتل الحسين من أعظم الذنوب، وفاعله والراضي به مستحق للعذاب لكن ليس قتله بأعظم من قتل أبيه، ولا قتل زوج أخته عمر، وقتل زوج خالته عثمان.
والغريب أن هؤلاء المنافقين والمغرضين من أهل الكوفة الذين دعوا الحسين لتوليته هم الذين خذلوه وتخلوا عن نصرفته، وتسببوا بتقله ثم خرجوا يبكون عليه.
طعن آل البيت بالشية:
قال مؤلف التحفة الاثنى عشرية: نقل علامة الشيعة في هذا العصر الشيخ هبة الدين الشهرستاني ما رواه الجاحظ عن خزيمة الأسدي قال: دخلت الكوفة فصادفت منصرف علي بن الحسين بالذرية عن كربلاء إلى عبيد الله ابن زياد،ورايت نساء الكوفة يومئذ قياما يندبن متهتكات الجيوب، وسمعت علي بن الحسين،وهو يقول بصولة ضئيل:
يا أهل الكوفة! إنكم تبكون علينا، فمن قتلنا غيركم؟!
=

(1/241)


...............................................
ـــــــ
=
ورأيت زينب بنت علي رضي اله عنها فلم أر- والله- خضرة أنطق منها بيانا قالت:
يا أهل الكوفة، يا أهل الختر والخذل فلا رفات القبرة،ولا هدأت الرقة إنمامثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة إنكاثا، تتخذوا إيمانكم دخلا بينكم.
ألا هل فيكم إل الصلف والشنف، وخلق الدماء وغمز الأعداء.
وهل أنتم إلا كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة؟
الا ساء ما قدمت أنفسكم. أن سخط الله عليكم،وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون؟! أيوالله فابكوا. وإنكم والله أحرياء بالبكاء، فابكوا كثيرا وأضحكوا قليلا فقد فزتم بمعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا!!.
هل يزيد مسؤول عن مقتل الحسين؟
وقال المؤرخ دروزه أيضا: ما سبق ندرك أنه ليس هناك ما يبرر نسبة قتل الحسين إلى يزيد، فهو لم يأمر بقتاله، فضلا عن قتله، وكل ما أمر به أن يحاط به ولا يقاتل إلا إذا قاتل،ومثل هذا القول يصح بالنسبة لعبيد الله بن زياد، فكل ما أمر به أن يحاط به ولا يقاتل إلا إذا قاتل، وأن يؤتى به إليه ليصضع يده في يده، أو يبايع يزيد صاحب البيعة الشرعية بل إن هذا ليصح قوله بالنسبة لأمراء القوات التي جرى بينها وبين الحسين وجماعته قتال، فإنهم ظلوا متزمين ما أمروا به،بل كانوا يرغبون أشد الرغبة في أن يعاقبهم الله من الابتلاء بقتاله، فضلا عن قتله، ويبذلون جهدهم في إقناعه بالنزول على حكم ابن زياد ومبايعة يزيد، فإذا كان الحسين أبي أن يستسلم ليدخل فيما د-لخ فيه المسلمون وقام بالقوة، فمقابلته وقتاله صار من الوجهة الشرعية والوجهة السياسية سائغا الأستاذ دروزة ج383/-384 قد يقول قائل: أم يكن من الواجب على يزيد وبالتالي على ابن زياد أن يقبل من الحسين قبول أحد شروطه الثلاثة العادلة التي عرضها عليه وهي أن يترك ليعود من حيث أتى، أو يذهب إلى يزيد، أو يرسل إلى الثغور. يذكر بعضهم أن هذه الشروط والمطالب من الحسين رضي الله عنه ليس لها أساس من الصحة. فقد روى الطبري رواية عن سمعان: قال: إني صحبت الحسين رضي الله عنه فخرجت معه في المدينة إلى مكة، ومن مكة غلى العراق، ولم أفارقه حتى قتل وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق، ولا في العراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها. إلا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس، وما يزعمون من أن يضع يده بيد يزيد بن معاوية ولا أن يسير إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال:

(1/242)


.....................................
ـــــــ
=
دعوي فلأذهب في الأرضي العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس. المسعودي ص131.
وهذا الطلب من الحسين لا يمكن قبوله لمن أوتي أقل نصيب من السياسة والتفكير خيفة أن يقوم الحسين بتحريض شيعته في الأمصار فتندلع الثورات والفتن.
ونرى لو أن عبيد الله بن زياد وصحبه حاصروا الحسين رضي الله عنه وجماعته وأحاطوهم بصنوف العناية والرعاية، وقدموا لهم ما يشتهون، وتذكروا أمر الصلح لليام ريثما تهدأ ثائرة الحسين لكان خيرا.
ولك ذلك كان ممكنا ما داموا قلة لا يزيدون على مئة، فلا يقاتلونهم، ولو قاتلوا على أن تنزع منهم أسلحتهم بمختلف الأساليب ولكن أمر الله كان قدرا مقدورا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
نسأل الله سبانه أن يهدي هؤلاء الذين يجددون ذكرى هذه الكارثة من عام إلى آخر وما يهلكون غلا أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة وهم لا يشعرون، وخاصة وأن الأمويين قد زالوا. ولكن قبح الله اليهودية والشعوبية فإنهما لا تزالن تعيثان فسادا في النفوس لتحارب الإسلام والمسلمين باسم نصرة آل البيت كذبا وزورا.
وختما لهذا الموضوع الخطير نقول كما قال المؤرخ المحقق عزة دروزة 386/8 بعدما نقل بعض ما ذكرناه في هذا البحث.
ونشهد الله على أننا لم نكتب ماكتبناه عن هوى أو بغض للحسين رضي الله تعالى عنه وآل بيته وعلى أننا نكن لهم أشد الاحترام والمحبة لصلتهم الشريفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكننا كمؤرخين لا يسعنا أن نكتب غير ذلك، إذا أردنا أن نلتزم المنطق والإنصاف والحق، لأن الروايات التي تطئمن بها النفس لا تسمح بغيره.
ولم ننفرد بهذه النتائج التي استنتجناها من الروايات. فهناك كثيرون غيرنا يشاركوننا فيها، بل وإنه ليشاركنا فيها كل منصف متجرد عن الهوى من المسلمين على اختلاف طوائفهم.
ونورد هنا قولين في ذلك أحدهما للإمام المصلح العظيم ابن تيمية، والثاني للمؤرخ المحقق الشيخ محمد الخضري رحمهما الله.
وقد أورد الإمام ابن تيمية خبر ما تلقاه الحسين من نصائح كثيرة بعدم الخروج والتحذير من العواقب ثم قال:
إنه لم يكن في الخروج مصلحة لا في دين ولا في دنيا. وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يحصل لو قعد في بلده. فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير

(1/243)


وطلب الابتداء في الانتهاء، والاستقامة من أهل449 الاعوجاج،ونضارة الشيبة في هشيم المشيخة. ليس حوله مثله، ولا له من الأنصار من يرعى حفه، ولا من يبذل نفسه دونه، فأردنا أن نطهر الأرض من خمر يزيد450 فارقنا دم الحسين، فجاءتنا مصيبة لا يجبروها سرور الدهر451.
وما خرج إليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر عن الدخول في الفتن. وأقوال في ذلك كثيرة: منها ما روى مسلم عن زياد بن علاقة عن عرفجة بن شريح
ـــــــ
=
بذلك، وصار سببا لشر عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن. انظر المنتقى من منهاج السنة ص287-288
أما الشيخ الخضري فإنه عقل على حاديث قتل الحسين قائلا:
وعلى الجملة أن الحسين أخطأ خطأ عظيما في خروجه هذا الذي جر على الأمة وبال الفرقة والاختلاف وزعزع عماد الفتاها إلى يومنا هذا.
وقد أكثر الناس من الكتابة في هذه الحاديث لا يريدون بذلك إلا أن تشتعل النيران في القلوب. فيشتد تباعدها. وغاية ما في الأمر أن الرجل طلب أمرا لم يتهيأ له، ولم يعد له عدته، فحيل بينه وبين ما يشتهي وقتل دونه. وقبل ذلك قتل أبوه فلم يجد من أقلام الكاتبين من يبشع أمر قتله، ويزيدون نار العداوة تأجيجا.
والحسين قد خالف يزيد، وقد بايعه الناس، ولم يظهر عنه ذلك الجور ولا العسف عند إظهار الخلاف حتى يكون في الخروج مصلحة للأمة محاضرات الخضري تاريخ الأمم الإسلامية 235/2.م.
449 وكتبها الشيخ محب الاستقامة في الاعوجاج.س.
450 يزعم مثيري الفتنة الذين يشهدون بغير ما علموا.
451 لا أدري سبا معقلا لتضخيم هذه المصيبة على الرغم من فداحتها بعد زوال الأمويين وملكهم؟ فهي مهما كان من أمرها لا تعد شيئا مذكورا بجانب المصيبة باستشهاد الخلفاء عمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم فلماذا لا يقمون عليهم- إذا كانوا مخلصين للإسلام- كل عام مآتما وعويلا. بعرفهم في تجديد المصيبة وإحياء ذكرها؟!
ولا أدري أيضا كيف يصح إقامة مثل هذه المآتم، وقد جاء النهي في أحاديث كثيرة عن الصباح وشق الجيوب ولطم الخدود وغير ذلك من العادات الجاهلية! ولكن لعن الله السياسة المتفاهفة كيف تضلل أصحابها وتسبب لهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة قال تعالى :{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} .

(1/244)


قوله صلى الله عليه وآله وسلم452: "إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان 453". فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله. ولو أن عظيمها وابن عظيمها وشريفها وابن شريفها الحسين يسعه بيته أو ضيعته أو إبله- ولو جاء الخلق يطلبونه ليقوم بالحق وفي جملتهم ابن عباس وابن عمر لم يلتفت إليهم- وحضره ما أنذر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما قال في أخيه454، ورأى أنها قد خرجت عن أخيه ومعه جيوش الأرض وكبار الخلق يطلبونه فكيف ترجع إليه بأوباش الكوفة، وكبار الصحابة ينهونه وينأون عنه؟ وما أدري في هذا إلا التسليم لقضاء الله، والحزن على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقية الدهر. ولولا معرفة أشياخ الصحابة وأعيان الأمة بأنه أمر صرفه الله عن اهل البيت، وحال من الفتنة لا ينبغي لأحد أن يدخلها، ما اسلموه أبدا.
وهذا أحمد بن حنبل- على تقشفه وعظيم منزلته في الدين وورعه- قد أدخل عن يزيد بن معاوية في كتاب الزهد أنه كان يقول في خطبته إذا مرض أحدكم مرضا فأشفى ثم تماثل، فلينظر إلى أفضل عمل عنده فيلزمه، ولينظر إلى أسوأ عمل عنده فليدعه وهذا يدل على عظيم منزلته عنده حتى يدخله في جملة الزهاد من الصحابة والتابعين الذين يقتدى بقولهم
ـــــــ
452 من حديث عرفجة في كتاب الإمارة من صحيح مسلم: باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع ك33 ح59 ج6 ص22.
453 الحسين رضي الله تعالى عنه كان مجتهدا فإن اصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر وكان يجدر ببني أمية أن يحترموا سلامة نيته ونبالة قصدواه ويحيطوه بأنواع الرعاية والعناية على الرغم من محاربته لهم، فإنه لا خطر منه مادامت جماعه قلة، وذلك ريثما يتم الاتفاق وينتهي معه إلى سلم. ولكن تسرعهم سبب لهم وللعالم الإسلام النكات فإننا لله وإنا إلينا راجعون والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة كما جاء في حديث رواه البخاري.م.
254 " ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين "خ.

(1/245)


ويرعوي من وعظهم. ونعم، ما أدخله إلا في جملة الصحابة455، قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين456. فأين هذا من ذكر المؤرخين له في الخمر وأنواع الفجور، ألا تستحيون؟! وإذا سلبهم الله المروءة والحياء، ألا ترعوون أنتم وتزدجرون، وتقتدون بالأحبار والرهبان من فضلاء الأمة،وترفضون الملحدة والمجان من المنتمين إلى الملة {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}. والحمد لله رب العالمين.
وانظروا إلى ابن الزبير بعد ذلك وما دخل فيه من البيعة له بمكة، والأرض كلها عليه. وانظروا إلى ابن عباس وعقله وإقباله على أمر نفسه
ـــــــ
455 يزيد بن معاوية ليس بصحابي وقد ولد عام 52هـ كما جاء في الأعلام.
وجاء فيه أيضا: في زمن يزيد فتح المغرب الأقصى على يد الأمير عقبة بن نافع وفتح مسلم بن زياد بخارى وخوارزم...وإليه ينسب نهر يزيد في دمشق. وكان نهرا صغيرا، فوسعه فنسب إليه. وقال مكحول: كان يزيد مهندسا.م.
456 وخلاصة القول في يزيد بن معاوية اختلف الناس فيه- كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ثلاث فرق:طرفان ووسط.
فأحد الطرفين قالوا: أنه كان كافرا منافقا..
وذها القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر،وعمر، وعثمان. فتكفير يزيد أسهل!!
والطرف الثاني يظنون أنه كان رجلا صالحا وإمام عدل. وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وحمله على يديه وبرك عليه.
وهذا قول بعض الضلال...
والقول الثالث أنه كان ملكأ من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يولد إلا في خلافة عثمان، ولم يكن كافرا، ولكن جرى بسببه ما جرى. وهذا قول أهل العقل والعلم والسنة والجماعة.
ثم افترقوا ثلاث فرق، فرق لعنته، وفرق أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه! وهذا المنصوص عن الإمام أحمد،وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم.
وقد استدل القاتلون بالمغفرة له بحديث ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:" أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له " وأول جيش غزاها كان أميره يزيد. الفتاوى 481/4-483 باختصار.م.

(1/246)


وانظروا إلى ابن عمر وسنه وتسليمه للدنيا ونبذه لها. ولو كان للقيام وجه لكان أولى بذلك ابن عباس، فإنه ولدي أخيه عبيد الله قد ذكر أنهما قتلا ظلما457. ولكن رأى بعقله أن دم عثمان لم يخلص إليه، فكيف بدم ولدي عبيد الله! وأن الأمر راهق458، قد خرجا عنه حفظا للأصل وهو اجتماع أمر الأمة وحقن دمائها وائتلاف كلمتها، ودع الأمر يتولاه أسود مجدع حسبما أمر به صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه459. وكل منهم عظيم القدر مجتهد وفيما دخل فيه مصيب مأجور، ولله فيهم حكم في الدنيا قد أنفذه، وحكم في الآخرة قد أحكمه وفرغ منه. فاقدروا هذه الأمور مقاديرها، وانظروا بما قابلها ابن عباس وابن عمر فقابلوها، ولا تكونوا من السفهاء الذين يرسلون ألسنتهم وأقلامهم بما لا فائدة لهم فيه، ولا يغني من الله ولا من دنياهم شيئا عنهم.
وانظروا إلى الأئمة الأخيار وفقهاء الأمصار،هل أقبلوا على هذه الخرافات وتكلموا في مثل هذه الحماقات؟ بل علموا أنها عصبيات جاهلية، وحمية باطلة، لا تفيد إلا قطع الحبل بين الخلق وتشتيت الشمل واختلاف الأهواء- وقد كان ما كان، وقال الأخباريون ما قالوا- فإما سكوت،وإما اقتداء بأهل العلم،وطرح لسخافات المؤرخيون والأدباء. والله يكمل علينا وعليكم النعماء برحمته.
ـــــــ
457 كان ذلك سنة 40 في اليمن آخر ولاية عبيد الله بن عباس عليها لعلي، فارسل معاوية إلى الحجاز واليمن بسر بن أبي ارطأة فأخذ له البيعة على أهل الحجاز، ثم توجه بسر إلى اليمن فلما علم عبيد الله بمجيئه هرب غلى الكوفة وترك ابنيه في اليمن فقتلهما بسر فيما يقال.خ.
458 أي تداخل حقه في باطله.خ.
459 في كتاب الإمارة من صحيح مسلم من حديث أبي ذر ك33 ح36 ج6 ص14.خ.

(1/247)


نكتة: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول من عقد الولاية لبني أمية
...
نكتة:
وعجبا لاستكثار الناس ولاية بني أمية، وأول من عقد لهم الولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه ولي يوم الفتح عتاب بن أسيد ابن ابي العيص بن أمية مكة- حرم الله وخير بلاده- وهو فتى السن قد أبقل أو لم يبقل. واستكتب معاوية بن أبي سفيان أمينا على وحيه. ثم ولي أبو بكر يزيد بن أبي سفيان- أخاه- الشام. ومازالوا بعد ذلك يتوقلون في سبيل المجد، ويترقون في درج العز، تى أنهتهم الأيام، إلى منازل الكرام.
وقد روى الناس أحاديث فيهم لا أصل لها، منها حديث رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني أمية ينزون على منبره كالقردة، فعز ذلك عليه، فأعطى ليلة القدر خير من ألف شهر يملكها بنو أمية بعده. ولو كان هذا صحيحا ما استفتح الحال بولايتهم، ولا مكن لهم في الأرض بأفضل نقاعها وهي مكة. وهذا أصل يجب أن تشد عليه اليد.
فإن قيل: أحدث معاوية في الإسلام الحكم بالباطل،والقضاء بما لا يحل من استلحاق زياد. قلنا: قد بينا في غير موضع أن استلحاق زياد إنما كان لأشياء صحيحة، وعمل مستقيم نبينه بعد ذكر أمثل ما ادعى فيه المعون من الانحراف عن الاستقامة، إذ لا سبيل إلى تحصيل باطلهم، لأن خرق الباطل لا يرفع، ولسانه أعظم منه فكيف به لا يقطع؟!
قالوا: كان زياد ينتسب إلى عبيد الثقفي من سمية جارية الحارث بن كلدة460، واشترى زياد عبيدا أباه بألف درهم فأعتقه461.
ـــــــ
460 روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة زياد من تاريخ دمشق 409:5 عن عوانة بن الحكم الكلبي أكبر شيوخ المدائني أن سمية أم زياد كانت لدهقان من دهاقين الفرس، فاشتكى وجع البطن وخاف أن يكون أصيب بداء الاستسقاء فدعا الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب-ب وقد كان قدم على كسرى - فعالج الدهقان فبرأ، فوهب له سمية، فولدت

(1/248)


ما روي من اعتراف أبي سفيان لعلي بن أبي طالب بأبوته لزياد
...
قال أبو عثمان النهدي: فكنا نغيطه. واستعمله عمر على بعض صدقات البصرة، وقيل بل كتب لأبي موسى463، فلما لم يقطع الشهادة مع الشهود على المغيرة جلدهم وعزله وقال له: ما عزلتك لخزية، ولكني كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك. ورووا أن عمر أرسله إلى اليمن في إصلاح فساد فرجع وخطب خطبة لم يسمع مثلها، فقال عمرو بن العاص: أما والله لو كان هذا الغلام قرشيا لساق الناس بعصاه، فقال أبو سفيان والله إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه، فقال له علي: ومن؟ قال: أنا. قال: مهلا يا أبا سفيان. فقال أبو سفيان أبياتا من الشعر:
أما والله لولا خوف شخص463 ... يراني يا علي من الأعادي
ـــــــ
=
له أبا بكرة واسمه مسروح أو نفيع فلم يقر به. ثم ولدت له نافعا فلم يقر به، فلما نزل أبو بكرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الحارث بن كلدة لنافع: أن أخاك مسروحا عبد وأنت ابني. فأقر به يومئذ. وزوجها الحارث غلاما له يقال له عبيد فولدت زيادا على فراشه، وكان أبو سفيان سار إلى الطائف فنزل على رجل يقال له أبو مريم السلولي قال: فأتاه أبو مريم بسمية فوقع بها فولدت زيادا.خ.
461 في ترجمة زياد من تاريخ ابن عساكر 406:5-407 خبر يرويه زهرة بن معبد ومحمد بن عمرو عن وفادة زياد وهو فتى على أمير المؤمنين عمر من قبل أبي موسى الأشعر يفي يوم جلولاء قالا: نظر إليه عمر رأي له هيئة حسنة وعليه ثياب بيض من كتان قال له: ما هذه الثياب؟ فأخبره.
فقال: كم أثمانها؟ فأخبره بشيء يسير، وقدصه. فقال له: كم عطاؤك؟ فقال: ألفان. فقال ما صنعت في أول عطاء خرج؟ فقال: اشتريت به والدتي فأعتقتها، واشتريت بالثاني ربيبي عبيدا فأعتقته، فقال عمر: وقفت. وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن فوجده عالما بالقرآن وأحكامه وفرائضه. فرد، إلى أبي موسى، وأمر أمراء البصرة أن يتبعوا رأيه.خ.
462 نقل الحافظ ابن عساكر عن الحافظ أبي نعيم أن زيادا كتب لأبي موسى الأشعري، ثم لعبد الله بن عامر بن كريز، ثم للمغيرة بن شعبة، ثم لعبد الله بن عباس كتب لهؤلاء كلهم على البصرة. وكان أمير المؤمنين على أراده أن يوليه البصر فأشار زياد عليه أن يوليها عبد الله بن عباس ووعده بأن يشير عليه ويعينه.خ.
463 يعني عمر.خ.

(1/249)


لأظهر أمره صخر بن حرب ... ولم تكن المقالة عن زياد
وقد طالبت مخاتلتي ثقيفا ... وتركي فيهم ثمر الفؤاد
فذلك الذي حمل معاوية.
واستعمله علي على فارس، وحمى، وجبي، وفتح، وأصلح.
وكاتبه معاوية يروم إفساده،فوجه زياد بكتابه إلى علي بشعر، فكتب إليه علي: إني وليتك: ما وليتك وأنت أهل لذلك عندي. ولن يدرك ما تريد بما أنت فيه إلا بالصبر والبقين. وإنما كانت من أبي سفيان فلتة ومن عمر، لا تستحق بها نسبا ولا ميرثا. وإن معاوية يأتي المؤمن من بين يديه ومن خلفه. فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد لي أبو حسن ورب الكعبة. فذلك الذي جرأ زياد ومعاوية بما صنعا. ثم ادعاه معاوية سنة أربع واربعين، وزوج معاوية ابنته من ابنه محمد.وبلغ الخبرة أبا بكرة- أخاه لأمه- فآلى يمينا ألا يكلمه أبدا، وقال هذا زنى أمه، وانتفى من ابيه. والله ما رأيت سمية أبا سفيان قط، وكف، وكيف يفعل بأم حبيبة464: أيراها فيهتك حرمة رسول الله، وإن حجبته فضحته.
فقال زياد: جزى الله أبا بكرة خيرا، فإنه لم يدع النصيحة في حال. وتكلم فيه الشعراء، ورووا عن سعيد بن المسيب أنه قال: أول قضاء كان في الإسلام بالباطل استلحاق زياد.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: قد بينا في غير موضع هذا الخبر، وتكلمنا عليه بما يغني عن إعادته، ولكن لابد في هذه الحالة من بيان المقصود منه فنقول:
كل ما ذكرتم لا ننفيه ولا نثبته لأنه لا يحتاج إليه. والذي ندريه حقا ونقطع عليه علما أن زيادا من الصحابة بالمولد والرؤية465، ولا بالتفقه
ـــــــ
464 هي أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان وأخت معاوية.خ.
445 ترجم له الحافظ ابن حجر في الإصابة والحافظ أبو عمر ابن عبد البر في الاستيعاب ونقل في مولده أنه ولد عام الفتح، وقيل عام الهجرة، قيل يوم بدر. قال ابن جر: وجزم ابن عساكر بأنه أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يره.خ.

(1/250)


والمعرفة. وأما أبوه فما علمنا له أبا قبل دعوى معاوية على التحقيق466، وإنما هي أقوال غائرة من المؤرخين. وأما شراؤه له فمراعاة للحضانة، فإنه حضنه عند أمه إذ دخل عليه فيه شبهة، بالحضانة إليه إن كان ذلك.
وأما قولهم إن أبا عثمان النهدي غبطه بذلك، فهو بعيد على أبي عثمان، فإنه ليس في أن يبتاع أحد حاضنه أو أباه فيعتقه من المزية بحيث يغبطه عليه أبو عثمان وأمثاله، لن هذه مرتبة يدركها الغنى والفقير والشريف والوضيع، ولو بذل من المال ما يعظم قدره، فيدري به قر مروءته في إهانة الكثير العظيم، في صلة الولي الحميم. وإنما ساقوا هذه الحكاية ليجعلوا له أبا، ويكون بمنزلة من انتفى من أبيه.
وأما استعمال عمر له فصحيح، وناهيك بذلك تزكية وشرفا ودينا.
وأما قولهم أن عمر عزله لأنه لم يشهد بباطل فباطل، بل روى أنه لما شهد أصحاب الثلاثة467 وعمر يقول للمغيرة: ذهب ربعك، ذهب نصفك، ذهب ثلاثة أرباعك، فلما جاء زياد قال له: أني أراك صبيح الوجه، وإني لأرجو أن لا يفضح الله على يديك رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما خطبته التي ذكروا أنه عجب منها عمرو، فما كان عنده فضل علم ولا فصاحة يفوق بها عمرا فمن فوقه أو دونه. وقد أدخل له الشيخ المفترى468 خطبا ليست في الحد المذكور.
وأما قولهم إن أبا سفيان اعترف به، وقال شعرا فيه، فلا يرتاب ذو تحصيل في أن أبا سفيان لو اعترف به في حياة عمر لم يخف شيئا، لأن الحال
ـــــــ
466 من الثابت أن الحارث بن كلدة اعترف بأبوته لنافع أخي زياد لأمه فصار يقال له نافع بن الحارث بن كلدة.ولا يعرف التاريخ أن عبيدا الثقفي أو الحارث بن كلدة اعترفا بزياد.خ.
467 أصحابه الثلاثة في الشهادة على المغيرة لأخواه لأمه: نفيع، ونافع الذي ينتسب إلى الحارث بن كلدة، و الثالث شبل بن معبد.
468 لعله يريد الجاحظ، وأعظم خطبة التي أوردها في في البيان والتبيين خطبته التي تسمى البتراء وهي في أوائل الجزء الثاني.

(1/251)


لم يكن تخلو من أحد قسمين: إما أن يرى إلاطته به469 كما روى عنه في غيره فيمصي ذلك، أو يرد ذلك فلا يلزم أبا سفيان شيء باقتراف ما كان في الجاهلية. فذكرهم هذه الحكاية المخترعة الباردة المتهافتة الخارجية عن حد الدين والتحصيل لا معنى لها470.
وأما تولية على له فتزكية.
وأما بعث معاوية إليه ليون معه فصحيح في الجملة. وأما تفاصيل ما كتب معاوية، أوكتب زياد به إلى علي، أو جاوب به على زيادا، فهذا كله مصنوع.
وأما قول علي إنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر لا تستحق بها نسبا فلو صح لكان ذلك شهادة، كما روى عن زياد، ولم يكن ذلك بمبطل لما فعل معاوية، لأنها مسألة اجتهادا بين العلماء: فرأى علي شيئا ورأى معاوية وغيره، غيره.
وأما نكتة الكلام وهو القول في استلحاق معاوية زيادا وأخذ الناس عليه في ذلك، فأي أخذ عليه فيه إن كان سمع ذلك من أبيه؟ وأي عار على أبي سفيان في أن يليط بنفسه ولد زنا كان في الجاهلية. فمعلوم أن سمية لم تكن لأبي سيا، كما لم تكن وليدة زمعة لعتبة ، ولكن كان لعتبة منازع تعين القضاء له، ولم يكن لمعاوية منازع في زياد.
اللهم إن هاهنا نكتة اختلف العلماء فيها، وهي أن الأخ إذا استحلق أخا بقول هو ابن أبي ولم يكن له منازع بل كان وحده، فقال مالك، يرث ولا يثبت النسب. وقال الشافعي- في آخرين- يثبت النسب ويأخذ المال، هذا إذا كان المقر به غير معروف النسب. واحتج الشافعي بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " هو لك يا عبد بن زعمة، الولد للفراش للعاهر الحجر" 471 فقضى بكونه للفراش وبإثبات النسب. قلنا هذا هل عظيم،
ـــــــ
469 أي الحاقه والصاقه.
470 كذا في جميع النسخ، وكتبها الشيخ محب الدين له.س.
471 رواه البخاري ومسلم.

(1/252)


وذلك أن قوله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بكونه للفراش صحيح، وأما قوله بثبوت النسب فباطل، لأن عبد ادعى سببين: أحدهما الأخوة، والثاني ولادة الفراش. فلو قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هو أخوك، الولد للفراش. لكان إثباتا للحكم وذكرا للعلة. بيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدل عن الأخوة ولم يتعرض لها، وأعرض عن النسب ولم يصرح به، وإنما هو في الصحيح في لفظ هو أخوك وفي آخر هو لك، معناه فأنت أعلم به. وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف472.
فالحارث بن كلدة لم يدع زيادا ولا كان إليه منسوبا، وإنما كان ابن أمته ولد في فراشه- أي في داره- فكل من ادعاه لهو له، إلا أن يعارضه من هو أولى به منه، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز، بل فعل فيه الحق على مذهب مالك.
فإن قيل: فلم أنكر عليه الصحابة؟
فقلنا: لأنها مسألة اجتهاد، فمن رأى أن النسب لا يلحق بالوارث الواحد أنفكر ذلك وعظمه.
فإن قيل: ولم لعنوه، وكان يحتجون بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ملعون من انتسب لغير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه" 473.
قلنا: إنما لعنه من لعنه لوجهين: أحدهما لأنه أثبت نسبه من هذا الطريق، ومن لم ير لعنه لهذا لعنه لغيره. وكان زياد أهلا أن يلعن-عندهم- لما أحدث بعد استلحاق معاوية474.
فإن قيل: جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم للزنا حرمة، ورتب عليها
ـــــــ
472 روى نحوه البخاري ومسلم وغيره.
473 وأهم ذلك- عندهم- تسببه في قتل حجر بن عدي، وقد مضى الكلام عليه.
474 مؤلف من مؤلفاته يقع في عشرين مجلدا يعتبر في حكم المفقود.س.

(1/253)


حكا حين قال" احتجبي منه يا سودة475 "، وهذا يدل على أن الزنا يتعلق به من حرمة الوطء ما يتعلق بالنكاح الصحيح. هكذا قال الكوفيون. ومالك في رواية ابن القاسم يساعدهم على المسأة ولا يساعدهم على دليلها من هذا الوجه، وقد بينها في كتاب النكاح. وقال الشافعي: العدر في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسودة بالاحتجاب مع ثبوت نسبة من زمعة وصحة أخوته لها بدعوى عبد أن لك تعظيم لحرمة أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم لم يكن كأحد من النساء في شرفهن وفضلهن.
قلنا: لو كان أخاها بنسب ثابت صحيحت كما قلتم، ويكون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم :"الولد للفراش" تحقيقا للنسب لما منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سودة منه، كما لم يمنع عائشة من الرجل الذي قالت: هو أخي من الرضاعة، وإنما قال :"انظرن من إخوانكن".
وأما ما روى عن سعيد بن المسيب، فأخبر عن مذهبه في أن هذا الاستلحاق ليس بصحيح، وكذلك رأى غيره من الصحابة والتابعين. وقد صارت المسأة إلى الخلاف بين الأمومة وفقهاء الأمصار، فخرجت من حد الانتقاد إلى حد الاعتقاد. وقد صرح مالك في كتاب افسلام وهو الموطأ بنسبه فقال في دولة بني العباس زياد بن أبي سفيان. ولم يقل كما يقول المخاذل زياد بن أبيه هذا على أنه لا يرى النسب يثبت بقول واحد، ولكن في ذلك فقه بديع لم يتفطن له أحد، وهو أنها لما كانت مسألة خلاف،
ـــــــ
475 في كتاب الأقضية من موطأ مالك ب21 ص740 عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عاشة قالت: كان عتبة بن ابي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن ولية زمعة مني جاريته، فأقبضه إليك. قالت فلما كان عام الفتح أخذه سعد وقال: ابن أخي، ق كان عهد إلي فيه. فقالم إليه عبد بن زمعة فقال: أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه. فتساوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي، قد كان عهد إلي فيه. وقال عبد بن زمعة: أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه. فقال رسول الله صل الله عليه وآله وسلم: "وهو لك يا عبد بن زمعة" . ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر" . ثم قال لسودة بنت زمعة :"احتجبي منه" لما رأى من شهبة بعتبة بن أبي وقاص. قالت: فما رأها حتى لقي الله عز وجل. وأخرجه البخاري. ك34 ب3 ومسلم. ك17 ب10ح36.خ.

(1/254)


نكتة: للولايات والعزلات معان وحقائق لا يعرفها كثير من الناس
...
ونفذ الحكم فيها بأحد الوجهين، لم يكن لنا رجوع فإن حكم القاضي في مسائل الخلاف بأحد القولين يمضيها ويرف الخلاف فيها، والله أعلم.
وأما روايتهم أن عمر قال كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس فهذه زيادة ليس لها أصل، من ناقص عقل. وأي عقل كان لزياد يزيد به على الناس في ايام عمر476، وغلام كل واحد من الصحابة كانأ عقل من زياد وأعلم منه، ولهذا كل من كمل عقله أكثبر من الآخر فهو أولى أن يختلط مع الناس. ويقولون: إنه كان داهية، وهي كلمة واهية، والهاء والأرب وهو المعرفة بالمعاني، والاستدلال على العواقب بالمبادئ. وكل أحد من الصحابة والتابعين فوق زياد. وتلك الروايات التي يروي المؤرخون- من كذبهم- في حيل الحرب والفتك بالناس، كل أحد اليوم يقدر على مثلها وأكثر منها، والحيلة إنما تكون بديعة وتنثي وتروى إذا وافقت الدين، وأما كل حكاية تخالف الدين فليست في روايتها ولا في رواتها خير ولا عقل. وكل الناس كما قدمنا- وخذ من ولاة بني أمية خاصة- أعقل من زياد وأفصح منه. فلا تلتفتوا إلى ما روى من الأباطيل.
***
نكتة:
والولايات والعزلات لها معان وحقائق لا يعلمها كثير من الناس. لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات عن زهاء اثنى عشر ألفا من الصحابة معلومين. منهم ألفان أو نحوهما مشاهير في الجلالة، ولي منهم أبةو بكر سعدا وابا عبيدة ويزيد وخالد بن الوليد وعكرمة بن ابي جهل ونفرا غيرهم فوقهم، وولي أنس بن مالك بن عشرين سنة على البحرين اقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في عتاب477. ومتى كان استوفى
ـــــــ
476 لأنه كان لما دخل على عمر في السابعة عشرة من عمره على ما نقله البخاري في تاريخه الأوسط عن يونس بن حبيب عن آل زياد.خ.
477 عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية. انظر ص181.خ.

(1/255)


تسمية الذين شهدوا بأبوة أبي سفيان لزياد
...
المشيخة حتى يأخذ الشبان. وولي عمر أيضا كذلك، وبادر بعزل خالد. وذلك كله لفقه عظيم ومعارف بديعة بيانهافي موضعها من كتب الإمامة والسياسة من الصول، فخذوا في فن غير هذا، فليس هذا الباب مما تلوكه أشداق أهل الآداب.
وأما ما روى عن معاوية أنه استدعى شهودا فشهد السلولي وسواه478 فسل من الحق، ما روى عن السلولي، فإنه لم يكن قط. واسعد بإسقاط ما روى في القصة سعيد أو سعد. وأما كلام أبي بكرة- أخيه لأمه- فيه فغير ضائر له، لأن ذلك رأي أبي بكرة واجتهاد. أما قولهم فيها عن أبي بكرة أنه زنى أمه، فلو كان ذلك صحيحا لم يضر امه ما جرى في الجاهلية في الدين، فإنه الله عفا عن أمر الجاهلية كلها بالإسلام، وأسقط الإثم والعار منه، فلا يذكره إلا جاهل به.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: والناس إذا لم يجدوا عيبا لأحد وغلبهم الحسد عليه وعدواتهم له أحدثنا له عيوبا. فاقبلوا الوصية، ولا تلتفوا إلا على ما صح من الأخبار، واجتنبوا- كما ذكرت لكم- أهل التواريخ، فإنما ذكروا عن السلف أخبارا صحيحة يسيرة ليوسلوا بذلك إلى رواية الباطيلن فيقذفوا-كما قدمنا- في قلوب الناس ما لا يرضاه الله تعالى، وليحتقروا السلف ويهونوا الدين، وهوأعز من ذلك، وهم أ كرم منا، فرضى الله عن جميعهم.
ومن نظر إلى أفعال الصحابة تبين منها بطلان هذه الهتوك التي يختلقها أهل التواريخ فيدسونها في قلوب الضعفاء، وهذا زياد لما أحسن النية
ـــــــ
478 السلولي مالك بن ربيعة أبو مريم، وكان ذلك سنة44، وكان معه في الشهادة زياد بن أسماء الحرمازي والمنذر بن الزبير- فيما ذكره المدائني بأسانديه- وجويرة بنت أبي سفيان والمسور بن قدامة الباهلي وابن أبي نصر الثقفي وزيد بن نفيل الأزدي وشعبة بن العقلم المازني ورجل مكمن بني عمرو بن شيبان ورجل من بني المصطلق، شهدوا كلهم على ابي سفيان أن زيادا ابنه، إلا المنذر فشهد أنه سمع عليا يقول: اشهد أن أبا سفيان قال ذلك. فخطب معاوية فاستلحق زيادا، وتكلم زياد فقال: أن كان ما شهد به الشهود حقا فالحمد لله، وإن كان باطلا فقد جعلتهم بيني وبين الله.خ.

(1/256)


استخلف سمرة بن جندب من كبار الصحابة فقبل خلافته، وكيف ظن به - على منزلته- أنه يقبل ولاية ظالم لغير رشده، وهو على ما هو عليه من الصحبة، وذلك من غير إكراه ولا تقية؟ إن هذا لهو الدليل المبين. فمع من تحبون أن تكونوا: مع سمرة بن جندب، أو مع المسعودي والمبرد وبن قتيبة ونظرائهم479؟ هذا غاية في البيان.
***

(1/257)