العواصم من القواصم - ط دار الجيل
الباب الثامن
قاصمة
كانت الجاهلية مبنية على العصبية وافتراق المسلمين بعد وفاة النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
...
قاصمة:
كانت الجاهلية مبنية على العصبية، متعاملة بينها بالحمية. فلما جاء
الإسلام بالحق، وأظهر الله منته على الخق، قال الله سبحانه: {
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}
[آل عمران:103]. وقال لنبيه: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ} [الأنفال :63] فكانت بركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
تجمعهم، وتجمع شملهم، وتصلح قلوبهم، وتمحو ضغائنهم.
واستأثر الله برسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ونفرت النفوس، وتماسكت
الظواهر منجرة، مادام الميزان قائما. فلما رفع الميزان- كما تقدم ذكره
في الحديث- أخذ الله القلوب عن الألفة، ونشر جناحا من التقاطع، حتى سوى
جاحين بقتل عثمان، فطار في الآفاق، واتصل الهرج إلى يوم المساق. وصارت
الخلائق عزين481، وفي واد من العصبية يهيمون:
ـــــــ
479 حكم القاضي أبو بكر على ابن قتيبة هذا الحكم القاسي وهو يظن أن
كتاب افمامة والسياسة من تأليفه كما سيأتي. وكتاب الإمامة والسياسة فيه
أمور وقعت بعد موت بعد موت ابن قتيبة، فدل ذلك على أنه مدسوس عليه من
خبيثت صاحب هوى. ولو عرف المؤلف هذه الحقيقة لوضع الجاحظ في موضع ابن
قتيبة.خ.
481 جمع عزة: العصبة من الناس.
(1/257)
ظهور الأحزاب البكرية والعمرية والعلوية والعباسية
...
فمنهم بكرية، وعمرية، وعثمانية، وعلوية، وعباسية- كل تزعم أن الحق معها
وفي صاحبها، والباقي ظلوم غشوم مقتر من الخير عديم. وليس ذلك بمذهب،ولا
فيه مقالة، وإنما هي حماقات وجهالات، أو دسائس للضلالات، حتى تضمحل
الشريعة، وتهزأ الملحدةمن الملة، ويلهو بهم الشيطان ويلعب، وقد سار بهم
في غير مسير ولا مذهب.
قالت البكرية، أبو بكر نص عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
الصلاة، ورضيته الأمة للدنيا، وكان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بتلك المنزلة العليا، والمحبة الخالصة. وولي فعدل، واختار فأجاد. إلا
أنه أوهم في عمر فإنه أمره غليظ، وفظاظته غلبت. وذكروا مايب. وأما
عثمان فلم يخف ما عمل وكذلك علي. وأما لعباس فغير مذكور.
وقالت العمرية: أما أبو بكر ففاضل ضعيف، وعمر إمام عدل قوي بمدح النبي
صلى الله عليه وآله وسلم له في حديث الرؤيا والدلو والعبقري كما تقدم،
وأما عثمان فخرج عن الطريق: ما اختار واليا ولا في أحدا حقا، ولا كف
أقاربه ولا اتبع سنن من كان قبله. وأما علي فجريء على الدماء. لقد سعت
في مجالس ابن جريج483 كان يقدم عمر على أبي بكر وسمعت الطرطوشي يقول:
لو قال أحد بتقديم عمر لتبعته.
وقالت العثمانية: عثمان له السوابق المتقدمة، والفضائل والفواضل في
الذات والمال، وقتل مظلوما.
قالت العلوية: علي ابن عمه وصهره وأبو سبطي النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضانة.
وقالت العباسية: هو أبو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأولاهم
بالتقديم بعده. وطولوا في ذلك من الكلام ما لا معنى لذكره لدناءته485.
وروا أحاديث لا يحل لنا أن نذكرها لعظيم الافتراء فيها ودناءة رواتها.
ـــــــ
493 عبد الملك بن عبد العزيز المكي أحد الأعلام توفى سنة 150.خ.
485 وأكثر ذلك كان في زمن دولتهم.خ.
(1/258)
وأكثر الملحدة
على التعلق بأهل البيت486، وتقدمة علي على جميع الخلق، حتى إن الرافضة
انقسمت إلى عشرين فرقة أعظمهم باسا من قال إن عليا هو الله. والغرابية
يقولون إنه رسول الله لكن جبريل عدل بالرسالة عنه إلى محمد حمية منه
معه... في كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف، فأما دفء المناظرة فلا
يؤثر فيه.
***
ـــــــ
486 بتخذونهم ذريعة، ويطعنون في كثيرمن أفاضلهم، ويعرضون بمثل الإمام
زيد. ثم إنهم يخالفون صريح شريعة جد أهل البيت بدعوى العصمة والتالية
الفعلى لبعض أفرادهم.خ.
(1/259)
عاصمة
تحذير المسلمين من أهواء المفسرين
والمؤرخين الجهلة منهم وكذا أهل الآداب
...
عاصمة:
إنما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق، وخاصة من المفسرين، والمؤرخين،
وأهل الآداب، فإنهم أهل جهالة487 بحرمات الدين، أو على بدعة مصرين، فلا
تبالوا بما رووا،ولا تقبلوا رواية إلا عن أئمة الحديث، ولا تسمعوا
لمؤرخ كلاما إلا للطبري488، 489 وغير ذلك هو الموت الأحمر،والداء
الأكبر، فإنهم ينشئون أحاديث استحقار الصحابة والسلف490، والاستخفاف
بهم،واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال
ـــــــ
487 يقصد بذلك المفسرين الجاهلين بعلم الحديث، مادام أن الرسول يشرح
القرآن. وخير التفاسير: تفسير الإمام ابن كثير.م.
488 لعل القاضي ابن العربي قصد من كلامه أن تاريخ الطبري ذكر حوادثه
مسندة إلى رجالها، وفيهم الصادق وفيهم الكاذب. ويستطيع المؤرخ العالم
بالرجال تمييز الحق من الباطل. أما غير العالم بعلم الأسانيد، فيضل
ضلالا بعيدا بقراءته لتاريخ الطبري، فيكون مثله مثل حاطب ليل يحمل
الأفعلى وهو لا يدري وفي ذلك هلاكه وضلاله.
وقد ناقشنا بعض أساتذة التاريخ في بعض الجماعات العربية وذكرت لهم خطأ
ما كتبوا، فكان يؤيدون كلامهم بأنهمه إنما كان مصدرهم تاريخ الطبري.م.
489 ومع ذلك فالطبري ذكر مصادر أخباره وسمى رواتها فتكون من أمرهم على
بينة، وقال في آخر مقدمة كتابه: فما يكن في كتاب هذا من خبر يستنكره
قارئه منأجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من
قبلنا، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا.خ.
490 ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول
الله تعالى:" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ".
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي
بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" مخرج من
الصحيحين.
ففي هذا الحديث وأمثاله بيان حالة من جعلهم غرضا بعد رسول االله صلى
الله عليه وآله وسلم وسبهم وافترى عليهم وعابهم وكفرهم واجترأ عليهم.
وفي الحديث: "حب الأنصار من الإيمان وبغضهم من النفاق" .
(1/260)
ابن قتيبة بريء من كتاب الإمامة والسياسة
...
عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين إل الدنيا، وعن الحق إلى الهوى، فإذا
قاطعتهم أهل الباطل واقتصرتم على رواية العدول، سلمتم من هذه الحبائل،
ولم تطووا كشحا على هذه الغوائل. ومن أشد شيء على الناس اهل عاقل491،
أو مبتدع محتال. فأما الجاهل فهو ابن قتيبة، فلم يبق ولم يذر للصحابة
رسما في كتاب الإمامة والسياسية إن صح عنه جميع ما فيه492 وكالمبرد في
كتابه الأدبي492. وأين عقله من عقل ثعلب الإمام
ـــــــ
ولولاهم ما وصل إلينا من الدين أصل ولا فرع ولا علمنا من الفراض والسنن
سنة ولا فرضا. ولا علمنا من الأحاديث والأخبار شيئا.
فمن طعن فيهم أو سبهم، فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين، لأن
الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد
مساويهم وإضمار الحقد عليهم وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من
ثنائه عليهم. وما ذكره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من ثنائه عليهم
وفضائلهم ومناقبهم وحبهم، ولأنهم أرضى الوسائل من المأثور والوسائط من
المنقول والطعن في الوسائط طعن في الأصل والازدراء بالناقل ازدراء
بالمنقول. وهذا ظاهر لمن تدبره وسلم من النفاق ومن الزندقة والإلحاد في
عقيدته.
وقد نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث العرباض بن سارية حيث
قال :"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها
بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور" الحديث.
وقال تعالى :{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} الآية. إلا
خلاف أيضا أن ذلك في أبي بكر رضي الله عنه شهدت له الربوبية بالصحبة
وبشره با لسكينة وخلاه بثاني اثنين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه
من يكون أفضل من ثاني اثنين الله ثالثهما وقال تعالى :{وَالَّذِي جَاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} قال جعفر
الصادق: لا خلاف أن الذي اء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
والذي صدق به أبو بكر رضي الله عنه واي منقبة أبلغ من ذلك فيهم رضي
الله عنهم جميعا.م.
491 هكذا في الأصل، ولعل الصحيح: غافل. ومثل المسعودي في الدس على الدس
على التاريخ مدفوعا بالتشيع الممقوت الأصفهاني في كتابه الأغاني فإنه
ينسب إلى يزيد شرب الخمور وعشق النهود وأنه مات بين العاشقات على
الأصفهاني ما يستحق على افترائه وكذبه.م.
492 لم يصح عنه شيء مما فيه. ولو صحت نسبة هذا الكتاب للأمام الحجة
الثبت أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة لكان قال عنه ابن العربي،
لأن كتاب الإمامة والسياسة مشون با لجهل والغباوة والركة
=
(1/261)
تشييع المسعودي وميل المبرد للخوارج
...
المتقدم في أماليه، فإنها ساقها بطريقة أدبية سالمة من الطعن على أفاضل
الآمة.
وأما المبتدع المحتال فالمسعودي، فإنه بها يأتي منه متاخمة الإلحاد
فيما روى من ذلك، وأما البدعة فلا شك فيه494. فإذا صنتم أسماعكم
وأبصاركم عن مطالعة الباطل، ولم تسمعوا في خليفة ممن نسب إليه ما لا
يليق ويذكر عنه ما لا يجوز نقله، كنتم على منهج السلف سائرين، وعن سبيل
الباطل ناكبين.
ـــــــ
=
والكذب والتذوير. ولما نشرت لابن قتيبة كتاب الميسر والقداح قبل أكثر
من ربع قرن، وصدرته بترجمة حافلة له، وسميت مؤلفاته، ذكرت في ص26-27
مآخذ العلماء على كتاب الإمامة والسياسة، و براهينهم على أنه ليس لابن
قتيبة، وأزيد الآن على ما ذكرته في الميسر والقداح لأن مؤلف الإمامة
والسياسة يروي كثيرا عن اثنين من كبار علماء مصر وابن قتيبة لم يدخل
مصر ولا أخذ عن هذين العالمين، فل ذلك كله على أن الكتاب مدسوس عليه.خ.
493 المبرد ينزع إلى شيء من رأي الخوارج، وله فيه هوى. وإن إمامته في
اللغة والأدب لا تغطي على ضعفه في علم الرواية والإسناد. وإذا كان أبو
حامد الغزالي على جلالته في العلوم الشرعية والعقلية (*) لم يتجاوز له
العلماء عن ضعفه في علوم الإسناد فأحرى ألا يتجاوزوا عن مثل ذلك
للمبرد. وعلى كل حال فكل خبر مما مضى أو سيأتي- في أمتنا أو في أي أمة
غيرها- يحتمل الصدق والكذب حتى يثبت صدقه أو كذبه على محك الاختبار
وبالبحث العلمي.م.
494 على بن الحسين المسعودي يعده الشيعة من شيوخهم وكبارهم ويذكر له
المعمقاني في تنقيح المقال 282:2-283 مؤلفات في الوصاية وعصمة الإمام
وغير ذلك مما يكشف عن عصبيته والتزامه غير سبيل أهل السنة المحمدية.
ومن طبيعة التشيع والتحزب والتعصيب البعد بصاحبه عن الاعتدال
والإنصاف.خ.
ـــــــ
(*) ليس هذا الكلام على إطلاقه، فإن للغزالي عثرات رهيبة في كثير ما
ذهب إليه في العقليات وغيرها ومن أراد التحقيق فليراجع كتاب تلبيس
إبليس للإمام بن الجوزي وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله.م.
(1/262)
فهذا مالك رضي
الله عنه قد احتج بقضاء عبد الملك بن مروان في موطأه، وأبرزه في جملة
قواعد الشريعة495.
وقال في روايته: عن زياد بن أبي سفيان، فنسبه إليه وقد علم قصته، ولو
كان عنده ما يقول العوام حقا لما رضي أن ينسبه ولا ذكره في كتابه الذي
أسسه للإسلام496، وقد جمع ذلك كله في أيام بني العباس والدولة لهم
والحكم بأيديهم فما غير عليه ولا أنكروا ذلك عنه لفضل علومهم ومعرفتهم
بأن مسالة زياد قد اختلف الناس فيها فمنهم من جوزها ومنهم من منعها، لم
يكن لاعتراضهم إليها سبيل.
وكذلك أعجبهم- حين قرأ الخليفة على مالك الموطأ- ذكر عبد الملك بن
مروان فيه وإذكاره بقضائه، لأنه إذا احتج بقضائه فسيتحج بقضائه أيضا
مثله، وإذا طعن فيه طعن فيه بمثله497.
ـــــــ
495 من ذلك ما جاء في باب المستكرهة من النساء بكتاب الأقضية من الموطأ
ص734: حدثني مالك عن ابن شهاب أن عبد الملك بن مروان قضى في مرأة أصيبت
مستكرهة بصداقها على من فعل ذلك بها. وفي كتاب المكاتب من الموطا ص788
قضاء آخر لعبد الملك. وفي كتاب العقول من الموطأ ص872 قضاء له أيضا.
أما أبوه مروان بن الحكم فأقضيته وفتاواه كثيرة في الموطأ... وغيره من
كتب السنة المتداولة في أيدي أئمة المسلمين يعملون بها. وانظر لورع
مروان وابنه عبد الملك حديث مالك عن ابن أبي عبلة في كتاب النكاح من
الموطأ. ص540.خ.
496 وعامر بن شراحيل الشعبي كان من أئمة المسلمين كذلك، بل إن مالكا
كان يراه إماما له. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة زياد من تاريخ
دمشق 406:5 أن الشعبي قال: أتت زيادا قضية في رجل مات وترك عمه وخاله
فقال: لأقضين بينكم بقضاء سمعته من عمر بن الخطاب وذلك أنه جعل العمة
بمنزلة الأخ والخالة بمنزلة الأخت.خ.
497 وممن روى عن عبد الملك بن مروان البخاري في كتابه الأدب المفرد
وروى عن عبد الملك الإمام الزهر يوعروة بن الزبير،وخالد بن معدان من
فقهاء التابعين وعبادهم، ورجاء بن حيوة أحد الأعلام. قال نافع مولى ابن
عمر: لقد رأيت المدينة وما فيها شاب أشد تشميرا ولا أفقه ولا أقرأ
لكتاب الله من عبد الملك بن مروان. وروى الأعمش عن أبي الزناد أن فقهاء
المدينة كانوا أربعة: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب
=
(1/263)
وأخرج
البخاري498 عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس
على عبد الملك بن مروان كتب: إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الملك أمير
المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله، ما استطعت. وإن بني قد أقروا بمثل
ذلك.
وهذا المأمون كان يقول بخلق القرآن، وكذلك الواثق، وأظهروا بدعتهم
وصارت مسألة معلومة إذا ابتدع القاضي أو الإمام هل تصح ولايته وتنفيذ
أحكامه أم هي مردودة؟ وهي مسألة معروفة. وهذا أشد من برودات ذكرها
أصحاب التواريخ من أن فلانا الخليفة شرب الخمر أو غنى أو فسق أو زنى،
فإن هذا القول في القرآن بدعة أو كفر- على اختلاف العلماء فيه- قد
اشتهروا به، وهذه المعاصي لم يتظاهروا بها إن كانوا فعلوها فكيف يثبت
ذلك عليهم بأقوال المغنيين والبراد من المؤرخين الذين قصدوا بذكر ذلك
عنهم تسهيل المعاصي على الناس وليقولوا إذا كان خلفاؤنا يفعلون هذا فما
يستبعد ذلك منا. وساعدهم الرؤساء على إشاعة هذه الكتب وقراءتها لرغبتهم
في مثل افعالهم حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا، وحتى سمحوا
للجاحظ 499 أن تقرأ كتبه في المساجد وفيها من الباطل والكذب
ـــــــ
=
وعبد الملك بن مروان قبل أن يدخل الإمارة. وقال الشعبي: ما جالست أحدا
إلا وجدت لي الفضل عليه، إلا عبد الملك بن مروان فإني ما ذاركته حديثا
إلا زادني منه، ولا شعرا إلا زادني فيه. البداية والنهاية 62:9-63. خ.
498 في كتاب الأحكام من صحيحه ك93 ب43 جص122.
وانظر السنن الكبرى للبيهقي 147:8.خ.
499 قال ابن قتيبة يصف الجاحفظ وتلاعبه ونفاقه:
تجده يحتج مرة للعثمانية على الرافضة، مرة للزيدية على العثمانية وأهل
السنة.
ومرة يفضل عليا ري الله عنه، ومرة يؤخره، ويقول: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم،ويتبعه قال: الجماز، وقال إسماعيل بن غزوان: كذا
وكذا من الفواحش.
ويعمل كتابا، يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الرد
=
(1/264)
والمناكر ونسبة
الأنبياء إلى أنهم ولدوا لغير رشدة كما قال في إسحاق صلى الله عليه
وآلهوسلم في كتاب الضلال والتضليل، وكما مكنوا من قراءة كتب
الفلاسفة500 في إنكا الصانع وإبطال الشرائع لما لوزرائهم وخواصهم في
ـــــــ
=
عليهم، تجوز في الحجة، كأنه إنما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون،
وتشكيك الضعة من المسلمين.
وتجده يقصده في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث،
وشراب النبيذ.
ويستهزيء من الحديث، استهزاءن لا يخفى على أهل العلم. كذكره كبد الحوت،
وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض، فسوده المشركون، وقد
كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا.
ويذكر الصحيفة التي كان فيها المنزل في الرضاع، تحت سرير عائشة،
فأكلتها الشاهة...
وهو - مع هذا- من أكذب الأمة وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل... تأويل
مختلف الحديث ص59-60.خ.
500 أن قصة المسلمين مع الفلسفة اليونانية قصة مليئة بالفواج والنكبات.
والغريب- والغريب جدا- أنه لا يزال الكثير من مثقفينا يتقد أن سبب نهضة
المسلمين يعود إلى هذه الفلسفة، مع أنها كانت من أعظم أسباب نزاعهم
وبعدهم عن دينهم وضياع محدهم، وقد تحقق فيهم خبرا أحد الأحبار: وتفصيل
ذلك- كما رواه العلامة الشيخ محمد السفاريني- قال العلماء أن المأمون
لما هادن بعض ملوك النصارى - أظنه صاحب جزيرة قبرص- طلب منه خزانة كتب
اليونان، وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد، فجمع الملك
خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك، فكلهم أشاروا بعدم تجهيزها إليه
إلا واحد، فإنه قال: جهزها إليهم! فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية
إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها!! لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار
الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية ج1ص9.
ومن الجدير بالذكر أن أولئك النصارى قد طمروا هذه الفلسفة تحت الأرض
تخلصا من شرها لما لمسوه من فسادها وهدمها للدين والفضيلة!
أجل قد تحقق في المسلمين تنبؤ الخبر، فما كاد اعلماء المسلمين- بعد أن
بلغ مجد الإسلام ذروته في القوة والفتح والعلم- يشتغلون بفلسفة
اليونان، حتى راحوا يؤولون نصوص الشريعة الإسلامية حتى تتفق مع هذه
الفلسفة فمسخوا الإسلام وأخذوا يزعمون أن للإسلام ظاهرا وباطنا، ظاهره
للعامة،
=
(1/265)
ذلك من الأغراض
الفاسدة والمقاصد الباطلة، فإن زل فقيه أو أساء العبارة عالم:
ـــــــ
=
وباطنه للعلماء والحكماء، وأخذوا يشتغلون بعلم الكلام يسمونه ظلما
وعدوانا بعلم التوحيد، ولا يكاد يكون فيه من التوحيد إلا الاسم، أو
محتواه، فهو الفلسفة- نفسها وقدحرم دراسته كبار علماء السلف وأئمة
المذاهب وأمثال مالك والشافع وابن حنبل رضي الله تعالى عنهم.
قال شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: ما أظن الله يغفل
عن المأمون، ولابد أن يعاقبه على ما أدخله على هذه الأمة.
وقد انبرى هذا الإمام العظيم للفلاسفة المنحرفين المتصفين بالمسلمين
الذين نهلوا من حماة الفلسفة اليونانية وأثبت زيفهم وضلالهم وانحرافهم
في كثير من كتبه التي دخل فيها التاريخ، وحق لكليات الفلسفة في البلدان
العربية والإسلامية دراسة آرائه وردوده على الفلسفة اليونانية وعلى
الذين اعتنقوها من المسلمين.
ولم ينج من هذا الضلال والانحراف إلا السلفيون المستمسكون بهدى الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم الذين عصمهم الله سبحانه لتمسكهم بنصوص
الشريعة الثابتة، فكانوا في وجه تيار الفسفة الجارف وعاصفته الهوجاء
كالجبل الأشم، وكالصخرة الصلدة.
وكان يزيدها مر الليالي جدة وتقادم الأيام حسن شباب! فكانوا يمسكون
بكتاب الله وسنة نبيه دون تأويل ولا تعطيل في أسماء الله وصفاته.
ومن قال أن الشهب أكبرها السنا ... بغير دليل كذبته الدلائل!
وقد تحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الاختلاف الذي سيقع بين
المسلمين وعن طريقة النجاة منه فقال:
"ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في
الجنة!! وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم واصحابي"!- رواه أبو
داودد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة بسند صحيح-.
إن أهل القرآن والحديث رحم الله موتاهم وبارك في إحيائهم وأمدهم بقوته
وتوفيقيه، هم مصابيح الهدى والدعاة إلى الرشاد والتقى، من عاداهم هلك،
ومن تركهم ضل، وهم المنصورون على خصومهم، بشرهم بذلك النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقال: "لا تزال طائفة من أمي ظاهرين على الحق، لا يضرهم
من خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس" - رواه البخاري
ومسلم- وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل وابن المبارك وسفيان الثوري وغيرهم
من كبار العلماء بأن
=
(1/266)
يكن ما أساء
الناس في رأس كبكبا501
ـــــــ
هذه الطائفة هم أهل الحديث الذين يتعاهدون مذهب الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم ويذبون عنه الظلم، لولاهم لأهلك الناس المعتزلة وأهل الرأي.
حسبهم شرفا وفخرا أنهم جعلوا السنة نبراسا لهم فكانوا هداة مهديين
وغدوا مصابيح الهدى.
نقلا عن مجلة التمدن الإسلامي مجلد 33 9-12 ص 191-192.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
وقد كانوا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، قال مالك رحمه الله: السنة
مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، من تخلف عنها هلك. وهذا حق، فإن سفينة
نوح إنم ركبها من صدق المرسلين واتبعهم، وأن من لم يركبها فقد كذب
المرسلين. واتابع السنة هو اتباع الرسالة التي جاءت من عند الله،
فتابعها بمنزلة من ركب مع نوح في السفينة باطنا وظاهرا والمتخلف عن
اتباع الرسالة بمنزلة المتخلف عن اتباع نحو عليه السلام وركوب السفينة
معه.
وهكذا إذا تدبر المؤمن العالم سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم
التي فيها ضلال وكفر، وجد القرآن والسنة كاشفين لأحوالهم، مبنيين
لحقهم، مميزين بين حق ذلك وباطله. والصحابة كانوا أعلم الخلق بذلك، كما
كانوا أقوم الخلق بجهاد الكفار والمنافقين، كما قال فيهم عبد الله بن
مسعود، من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات- قصد الصحابة- فإن الحي لا
تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلمكانوا أبر
هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، واقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة
نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بدينهم، فإنهم كانوا على
الهدى المستقيم. فتاوى ابن ت يمية 137/4-138.
فأخبر عنهم بكمال بر القلوب، وكمال عمق العلم، وهذا قليل في
المتأخرين...
وما أحسن ما قاله الإمام أحمد: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه
أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. المصدر السابق ص155.
نعود بعد هذا الاستطراد إلى المأمون فنقول:
ومع كل الطامات له وقد ذكرنا بعضها فيما سبق، يعقتد بعضهم أن عصره كان
عصرا ذهبيا في تاريخ المسلمين، وكم كنا نود أن نتحدث عن محاربته لأهل
السنة وتعذيبه لهم وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى
ورضي عنه، وإكرامه لأصحاب الاعتزال والزنادقة، غير أن المقام لا يتسع
لذلك.م.
501 كبكب: جبل خلف عرفات مشرف عليها. والشعر للأعشى، وتمامه:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجررا ومسحبا
وتدفن منه الصالحات، وأن يسيء ... يكن ما أساء النار في رأس كوكبا.خ.
(1/267)
تحقيقات علمية هامة من كتاب شرح العقيدة الطحاوية وفتاوى شيخ الإسلام
ابن تيمية
...
وبالوقوف على هذه الفصول502 تحسن نياتكم، وتسلم من الغير قلوبكم على من
سبق.
وقد بينت لكم أنكم لا تقبلون على أنفسكم في دينار، بل في درهم ، إلا
عدلا بريئا من التهم، سليما من الشهوة. فكيف تقبلون في أحوال السلف503
وما جرى بين الأوائل ممن ليس له مرتبة في الدين، فكيف في العدالة!
ـــــــ
502 لاشك أن هذا الكتاب القيم سبحدث انقلابا عظيما في نفوس قرائه،
وسيزيل من أفكارهم ما علق فيها من الدسائس التي ثبت لهم كذبها. وقد
تلقوها في كتب التاريخ التي لا يزال أبناؤها- ويا للأسف- بتدارسونها،
فسممتهم، وهي من وضع خصوم الإسلام.
كل ما عزاه أعداء الصحابة...رضوان الله عليهم أورده القاضي أبو بكر ابن
العربي وسماه قواصم وأجاب عن كل قاصمة بعاصمة من الحق عن أصدق المصادر،
وأصحها بعد كتاب الله. ومن ذلك تألف كتاب العواصم من القواصم الذي
علقنا عليه بما لم يترك مقالا لقائل، فارجع إليه لتطهير قلبك من الغل
على الذين آمنوا من تلاميذ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وخاصة
أحبابه. فإن أعداءهم شوهوا الكتب بالأكاذيب التي انتشرت وأفسدت قلوب
بعض المسلمين على سلفهم الأول، إلى أن أظهر الله- سبحانه- الحق بكتاب:
العواصم من القواصم فانتفع به الكثيرون ولله الحمد والمنة.
وستعجب- أيها القارئ- بعد الاطلاع على الحقائق التاريخية هناك كيف أن
الأمة الإسلامية ذهبت ضحية لشرذمة من الطغام الخارجين على أعدل عصور
الإسلام وأسعدها منذ كذبوا، ثم كذبوا حتى انخدع الناس بأكاذيبهم، فظنوا
سحرها حقيقة، ولكن ما لبثت الوقائع أن تبينت كما هي، فجاء الحق وزهق
الباطل، أن الباطل كان زهوقا. محب الدين الخطيب المنتقى ص374.
503 جاء في العقيدة الطحاوية وشرحها.
وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين- أهل الخير والأثر
وأهل الفقهخ والنظر- لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على
غير السبيل.
قال تعالى :{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115]
فجيب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به
القرآن خصوصا الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم-
فيما إذا بلغونا عن الرسول- يهتدي بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع
=
(1/268)
رحم الله عمر
بن عبد العزيز حيث قال: وقد تكلموا في الذين جرى بين الصحابة: {تِلْكَ
أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا
تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
ـــــــ
=
المسلمون على هدايتهم ودرايتهم إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه
وآله وسلم علماؤها شرارها. إلا المسلمين، فإن علماءهم وخيارهم. فإنهم
خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أمته. والمحيون لما مات من
سنته. فيهم قام الكتاب، وبه قاموا. وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا. وكلهم
متفقوين اتفاقا يقينا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن إذا وجب لواحد منهم قول جاء حديث صحيح بخلافه، فلابد له في تركه
من عذر، وجماع الأعذار ثلاثة أصناف*، أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قاله. والثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة
بذلك القول. والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ فلهم الفضل علينا،
والمنة بالسبق، وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا. فرضى الله عنهم، وأرضاهم
.{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].م.
504 وسئل الإمام ابن تيمية رحمه الله عما شجر بين الصحابة: علي،
ومعاوية،وطلحة، وعائشة هل يطالبون به أم لا؟
فأجاب: قد ثبت بالنصوص الصحيحة لأن عثمان وعليا وطلحة والزبير وعائشة
من أهل الجنة. بل قد ثبت في الصحيح: أنهلا يدخل النار أحد بايع تحت
الشجرة.
وأبو موسى الأشعري،وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، هم من
الصحابة. ولهم فضائل ومحاسن.
وما يحكى عنهم كثير منه كذب. والصدق منه كانوا فيه مجتهدين. فالمجتهد
إذا أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطؤه يغفر له.
وأن قدر أن لهم ذنوبا، فالذنوب لا توجب دخول النار مطلقا، إلا إذا
انتفت الأسباب المانعة من ذلك وهي عشرة. منها:- التوبة، ومنها
الاستغفار، ومنها الحسنات الماحية، ومنها المصائب المكفرة، ومنها شفاعة
النبي صلى الله
ـــــــ
* ومن أراد الوقوف على مزيد من المعرفة فليقرأ الكتاب الفذ رفع الملام
عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.س.
(1/269)
..................................................
ـــــــ
=
عليه وآله وسلم، ومنها شفاعة غيره، ومنها دعاء المؤمنين، ومنها ما يهدي
للميت من الثواب والصدقة والعتق، ومنها فتنة القبر، ومنها أهوال
القيامة.
وقد ثبت الصحيحن عن النبي صلى الله عليه وىله وسلم أنه قال :"خير
القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" .
وحينئذ فمن جزم في واحد من هؤلاء بأن له ذنبا يدخل به النار قطعا، فهو
كاذب مفتر، فإنه لو قال: لا علم له به، لكان معطلا، فكيف إذا قال ما
دلت الدلائل الكثيرة على نقيضه؟ فمن تكلم فيما شجر بينهم- وقد نهى الله
عنه: من ذمهم أو التعصب لبعضهم بالباطل، فهو ظالم معتد.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "تمرق ما
رقة على حين فرقة من المسلمين، تصلهم أولى الطائفتين بالحق" وقد ثبت
عنه في الصحيح أنه قال عن الحسن: "أن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين
فئتين عظيمتين من المسلمين".
وفي الصحيحن عن عمار: أنه قال: "تقتله الفئة الباغية" وقد قال تعالى
:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
فثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف على أنهم مؤمنون مسلمون، وأن علي بن
أبي طالب والذين معه كانوا أولى بالحق من الطائفة المقابلة له، والله
أعلم. الفتاوى 432/4-433.
وما أحسن ما قاله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: إني لست من
حربهم في شيء: يعني أن ما تنازع فيه علي وإخوانه لا أدخل بينهم فيه،
لما بينهم من الاجتهاد والتأويل الذي هم أعلى به مني. وليس ذلك من
مسائل العلم التي تعنيني حتى أعرف حقيقة حال كل واحد منهم. وأنا مأمور
بالاستغفار لهم، وأن يكون قلبي لهم سليما، ومأمور بمحبتهم وموالاتهم،
ولهم من السوابق والفضائل ما لا يهدر.م.
(1/270)
|