البدء والتاريخ

الفصل الخامس عشر في ذكر مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومنشأه ومبعثه إلى هجرته
هذا نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية محمّد بن إسحاق المطلبي وقد بينا اختلاف الناس في نسبه عدنان وما فوقه في فصل الأنساب، محمد صلى الله عليه وسلم بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ابن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن ادد ابن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن ابراهيم بن تارح بن ناحور بن ساروح بن رعو بن شالخ ابن عابر بن فالج بن ارفخشذ بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلح بن اخنوخ بن يارد بن مهلايل بن قينان بن شيث بن آدم عم
ذكر مولد النبي صلى الله عليه وسلم
ولد بمكة عام الفيل بعد قدوم ابرهة بخمسين ليلة وكان أول يوم من المحرم عام الفيل يوم الجمعة وقدم

(4/131)


الفيل يوم الأحد لسبع عشر [ة] ليلة خلت من المحرم سنة ثماني مائة واثنين وثمانين للاسكندر الرومي وستة عشر ومائتين من تأريخ العرب الذي أوله حجة الغدر وسنة أربع وأربعين من ملك انوشروان بن قباذ ملك العجم فيما يروى وكان مولده صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثماني ليال خلون من ربيع الأوّل وقال ابن إسحاق لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول قالوا وكان طالع النبيّ صلى الله عليه وسلم برج الأسد والقمر فيه بثماني عشرة درجة ودقائق والشمس في الثور بدرجة وهو يوم [F؟ 134 r؟] السابع عشر من [دى] ماه ويوم العشرين في الأرض التي تعرف بابن يوسف بمكة فصيرتها الخيزران بنت عطاء امرأة المهدي مسجدا ويدل خبر عبد الله بن كيسان عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع ليلا لأنه قال كان أهل الجاهلية إذا ولد لهم مولود من تحت الليل رموه تحت الإناء فلا ينظرون إليه حتى يصبحوا فلمّا ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم رموه تحت البرمة فلما أصبحوا إذ هي قد انفلقت بيتين [1] وعيناه إلى السماء فعجبوا من ذلك وأرسلوا إلى عبد المطلب فجاء فنظر اليه فقال ارفعوا
__________
[1] . يسين
MS.

(4/132)


ابني هذا فإنه منا ودفع إلى امرأة من بني سعد بن بكر فلما ارضعته دخل عليها الخير من كل جانب وكانت لها شويهات فنمت وازدادت زيادة حسنة هذا الصحيح من خبر حليمة قال ابن إسحاق والتمس الرضعاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاسترضع في بني سعد بن بكر بثدي حليمة بنت أبي ذؤيب وزوجها الحارث بن عبد العزّى وأخو [ة] رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة عبد [الله بن] الحارث وانيسة بنت الحارث والشيماء [1] بنت الحارث فكان عند ظئره سنتين إلى أن فطمته وردته إلى أمه ثم عادت إلى بلادها فلما تمت له خمس سنين حملته إلى أمه فكان عند أمّه سنة حملته أ [لي] بنى عدي بن النجار تريد إيّاهم الخؤولة التي كانت لهم فكان مصيرها به إلى منصرفها شهر وتوفيت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء منزل بين مكة والمدينة وهي راجعة الى مكّة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ست سنين فحملته أم [2] أيمن وهي حاضنته ومولاة أبيه إلى مكة فكان في حجر عبد المطلب فلما بلغ ثماني سنين توفي عبد المطلب وهلك انوشروان في هذه
__________
[1] . واسما
MS.
[2] . الى
MS.

(4/133)


السنة كما يدل عليه التأريخ ثم ضمه أبو طالب إلى نفسه وأقام عنده أربع سنين فلما بلغ اثنتي عشرة سنة عرض لأبي طالب الخروج إلى الشام في تجارة فخرج بالنبيّ صلى الله عليه وسلم صبابة به ورقة قالوا حتى إذا كانوا ببصرى أشرف عليهم راهب يقال له بحيرا فرأى علامة من علامات النبوة فاتخذ طعاما ودعا الركب إليه فحضروه وخلّفوا النبي صلى الله عليه وسلم في رحالهم لحداثة سنه فقال بحيرا لا يتخلفن أحد عن طعامي فدعوه فلما أبصره بحيرا توسّم فيه مخايل النبوة وعرف دلائلها فاحتضنه وضمه إلى نفسه وقال لأبي طالب من هذا الغلام منك قال هو ابني قال ما ينبغي له أن يعيش أبوه قال ابن أخي قال ارجع بابن أخيك واحذر عليه من اليهود فانه كائن لابن أخيك شأن عظيم فقضي أبو طالب تجارته وأسرع به إلى مكة وفيه يقول [بسيط]
ألم يكن لقريش آية عجب ... فيما يقول بحيراء وعدّاس
قالوا فشبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شبابا حسنا يكلؤه الله عز وجل ويحوطه من اقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته حتى كان اسمه في قومه الصدوق الأمين فلما بلغ عشرين سنة هاجت حرب

(4/134)


الفجار في رواية ابن إسحاق والواقدي وروى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء قال هاجت الفجار ورسول الله عليه الصلوات والسلم ابن أربع عشر [ة] سنة [F؟ 134 V؟] أو خمس عشرة سنة وقال النبي صلى الله عليه وسلم كنت أنبل إلى أعمامي في الفجار قالوا وإنما سميت هذه الحرب الفجار وكانت وقعات لما صنعوا فيها من الفجور في الشهر الحرام وذلك أن النعمان بن المنذر عامل ابرويز على الحيرة كان يبعث كل سنة بلطيمة إلى سوق عكاظ في جوار رجل من العرب فلما كان في هذه السنة قال من يحير هذه العير قال عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب الرحال أنا أيها الملك وقال البراض بن قيس وكان خليعا والخليع من خلع خلفاءه فمن قتله فدمه هدر أنا أيها الملك فقال أتجيرها على أهل الشيخ [1] والقيصوم وأنت كالكلب الخليع إنما أنت أضيق إستا من ذلك فقال البراض أتجيرها على كنانة قال نعم وعلى الخلق جميعا فسلم النعمان اللطيمة إلى عروة وتبعه البراض حتى إذا كان بتيمن ذى طلال أصاب فرصة من عروة فوثب عليه فقتله في الشهر الحرام وقال في ذلك [وافر]
__________
[1] . السنج
MS.

(4/135)


وداهية يهم الناس قتلي ... شددت [1] لها بني بكر ضلوعي
هدمت بها بيوت بني كلاب ... وأرضعت الموالى بالضروع
قتلت به بتيمن ذى طلال ... فخر يميد كالجدع الصريع
وتسامع الناس به فخرج كنانة وقريش بطلب ثأر عروة وخرجت قيس بن عيلان لأجل البراض واقتتلوا قتالا شديدا بعكاظ في الشهر الحرام ثم تحاجزوا وتداغشوا إلى الصلح ورهن حرب بن أمية ابنه أبا سفيان بن حرب في ذلك الصلح وفيه يقول الشاعر [خفيف]
قد بعثنا الحجار من كل حي ... وقمعنا الفجّار يوم الفجار
قالوا انّ رجلا تاجرا قدم مكة وباع سلعته من العاص ابن وائل السهمي فمطلة حتى أجهده فصعد الرجل جبل أبى قبيس ونادى [بسيط]
يا للرجال لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الأهل والنفر
إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لمثوى لابس الغدر
__________
[1] . سددت
MS.

(4/136)


فاجتمعت قريش في دار عبد الله بن جدعان وتحالفوا على أن يكونوا يدا واحدا على المظلوم حتى يأخذوا له حقه فسمته قريش حلف الفضول وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعي به في الإسلام لاجبت وما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة،،،
خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشأم في مال خديجة
رضي الله عنها قالوا وكانت خديجة بنت خويلد بن اسد بن عبد العزي بن قصي من مياسير قريش وتجارها تستأجر الرجال وتبعثهم في مالها [1] وذكر الواقدي أن أبا طالب قال يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي وقد الحت علينا سنون منكرة فلو جئت خديجة وعرضت عليها نفسك لأسرعت إليك بما يبلغها من صدقك وعظم أمانتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلها ترسل إلي في ذلك وبلغ خديجة خبر أبي طالب وما فاوض ابن أخيه فارسلت وسألته أن يخرج معه ميسرة غلام لها فخرج وباع سلعتها واشترى ما أراد أن يشتري وأقبل قافلا إلى مكة فباعت
__________
[1] . وتبعثها في ماله
MS.

(4/137)


الحمولات فأضعفت وأثمرت [F؟ 135 r؟] فرغبت في نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم،،،
نكاح خديجة رضي الله عنها
قالوا ولما ظهر لها من بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظم أمانته وصدق وفائه رغبت في نكاحه قال الواقدي فأرسلت نفيسة مولاة لها دسيسا فقالت يا محمد ما يمنعك أن تتزوج قال ما بيدي شيء ما أتزوج فقالت نفيسة فإن كفيت ذلك ألا تجيب قال ومن هي قالت خديجة فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعمامه ذلك فخرج معه حمزة بن عبد المطلب فخطبها إلى أبيها خويلد بن أسد ومعه ثمل فلما أصبح وصحا قال ما هذا الخلوق وهذه الحلة قالوا كساكها محمد ابن عبد الله فقد أنكحته خديجة ودخل بها فانتهرهم قال وأصدقها عشرين بكرة وروى الواقدي أنه أنكحها عمها عمرو بن أسد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن خمسة وعشرين سنة يوم تزوجها وخديجة بنت أربعين سنة ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت وكانت قبله تحت عتيق بن عبد الله ويقال ابن عابد [1] وولدت له جارية ثم خلف عليها بعد عتيق أبو هالة هند بن زرارة
__________
[1] . 8 بن
n.a ,IbnSad ,VIII بن 1766 بن I بن.Cf.Tab. عائد Ms.

(4/138)


فولدت له هند بن هند وولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ولده إلّا إبراهيم بن مارية فإنه من القبطية فأكبر ولده القاسم وبه كان يكنى أبا القاسم ثم الطيب ثم الطاهر ثم رقية ثم زينب ثم أم كلثوم ثم فاطمة قال الواقدي ولم أر أصحابنا يثبتون الطيب ويقولون هو الطاهر وفي رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أنّها ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبد مناف في الجاهلية وولدت له في الإسلام غلامين وأربع بنات القاسم وعبد الله فماتا صغيرين وفي كتاب ابن [1] إسحاق أن إبنيه هلكا في الجاهلية وأن بناته أدركن الإسلام وهاجرن والله أعلم،،،
ذكر بنيان الكعبة
قالوا ولمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ليرفعوها ويسقّفوها وإنما كانت رضما فوق القامة فجاء سيل فهدمه وفي جوفها بئر يحرز فيه كنز الكعبة وما يهدى لها فسرق منها رجل يقال له دويك فقطعت قريش يده وتهيّئوا لبناء الكعبة وكان البحر قد رمى بسفينة [2] الى
__________
[1] . ابى
MS.
[2] . لسفينة
MS.

(4/139)


جدّة فتحطّمت فأخذوا خشبها وكان بمكة رجل قبطي نجار فسوّى لهم ذلك وبنوها ثماني عشرة ذراعا فلما انتهوا إلى موضع الركن اختصموا وأراد كل قوم أن يكونوا هم الذين يلونه ويرفعونه الى موضعه وتفاقم الأمر بينهم وتواعدوا للقتال ثم تحاجزوا وتناصفوا على أن يجعلوا بينهم أول طالع من باب المسجد يقضي بينهم فكان ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلم فقال هلم ثوبا فأتى به فوضع الركن فيه ثم قال ليأخذ كل فئة بناحية من الثوب ثم ليرفعوه ففعلوا حتى إذا رفعوه إلى موضعه أخذ الحجر بيده فوضعه في الركن فرضوا بذلك وأنهوا عن الشر،،،
ذكر المبعث ونزول الوحي
قالوا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين وهدى للخلق أجمعين وكان في مبتدأ الأمر يرى الرؤيا ويسمع الصوت ويتمثل له الخيال فراع لذلك وذعر وروينا عن عكرمة أنه قال أنزلت النبوّة على محمّد صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته اسرافيل ثلاث سنين فكان يتراءى له ويلقى الكلمة إليه ولم ينزل القرآن على لسانه ثم قرن بنبوته جبريل عم فنزل القرآن عشرين سنة عشرا بمكة وعشرا بالمدينة وروى ابن إسحاق عن الزهري عن

(4/140)


عائشة أن أول ما ابتدى [F؟ 135 v؟] رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح ثم حببت إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه أن يخلو وحده ثم جاءه الملك قالوا وكان قريش يتحنثون بحراء في رمضان وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك لأنّه من البرّ فبينا هو عاكف بحراء ومعه التمر واللبن يطعم الناس ويسقيهم إذ استعلق له جبرائيل ليلة السبت وليلة الأحد ثم أتاه بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان بقول الله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ 2: 185 وهو الخامس والعشرون من ابان ماه والتاسع من شباط وذلك في سنة عشرين من ملك ابرويز وأهل الأخبار على أنّ أوّل ما أنزل من القرآن خمس آيات من سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 96: 1 إلى قوله عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ 96: 5 وذكر بعضهم أنّه صلى الله عليه وسلم قال أتاني رجل وفي يده سمط ديباج وأنا نائم فركضني برجله وقال اقرأ ففعل ذلك مرة أو مرتين ثم قال بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ من عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ 96: 1- 5 ثم قال ابشر فأنا جبريل وأنت نبي هذه الأمة وصلى به

(4/141)


ركعتين وفي رواية عبيد بن عمير الليثي أنه أتاه وهو نائم ولم يذكر أنه ركضه برجله قال فأتيت خديجة وقد هالني من رأيت وكأنما كتاب كتب في قلبي وقلت أخشى أن أكون شاعرا أو مجنونا قالت وما ذاك ابن أخي فقصصت عليها القصة فقالت ابشر فانك تطعم الطعام وتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة لا يصنع الله بك إلا خيرا ثم جمعت عليها ثيابها وانطلقت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي ابن قصي وكان نصرانيا قد قرأ الكتب فقصت عليه الخبر فلما ذكرت جبريل قال قدّوس قدوس ما لك تذكرين الروح الأمين بهذا الوادي الذي أهله عبدة الأوثان لئن كنت صدقتني لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران فقولي له فليتثبت وإذا جاءه فتحسري بين يديه فإن كان شيطانا ثبت وإن كان ملكا لا تراه حينئذ فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت إذا أتاك صاحبك فناد بي فبينما هو عندها إذ جاء جبريل عم فقال النبي عم ها هو يأخذ بي فقالت فقم واقعد على فخذى وحسرت عن رأسها وقالت تراه قال لا قالت ابشر فإنه والله ملك وما هو شيطان ولو كان شيطانا ما

(4/142)


استحيى فآمنت به وصدقته وكثير من الناس يقولون أنّ أوّل الناس إيمانا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم خديجة وروينا عن أبي رافع انه قال صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة يوم الاثنين وصلت خديجة في آخر ذلك اليوم قالوا ونزلت في هذه القصة ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ 68: 1- 2 قال ورقة بن نوفل فيما روى ابن إسحاق عنه [وافر]
لجخت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود يوما ... ويخصم من يكون له حجيجا
[
F؟ 136 r؟] فيا ليتى إذا ما كان ذاكم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا
ولوجا في الذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا
فإن تبقوا وأبق يكن أمور ... يضج الكافرون لها ضجيجا
وإن أهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة خروجا
قال الزهري فهلك ورقة بن نوفل قبل الوحي وقبل إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة والله أعلم بصدقه.

(4/143)


انقضاض الكواكب
رأيت في بعض كتب التأريخ أنّه كان بين مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن رأت قريش النجوم يرمي بها في السماء عشرون يوما وقال الله عز وجل إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً من كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ من كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ [واصِبٌ] إِلَّا من خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ 37: 6- 10 فدل بقوله حفظا من كل شيطان مارد أنها لم تزل [1] محفوظة مذ خلقت الكواكب لها زينة وقد سئل الزهري عن انقضاض الكواكب في الجاهلية فقال قد كان ذلك فلمّا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شدد وغلظ ألا ترى إلى قول الشاعر [بسيط]
فأنقض كالكوكب الدري يتبعه ... نقع يخال على أرجائه الطّنبا
وقد روى أخبار في هذا الباب. والذي يشبه الحق أنه قد كان قبل ذلك انقضاض الكواكب وأنه قرن به عند الوحي ضرب من العذاب يقضى به الخاطف المستمع والله أعلم،،،
ذكر فترة الوحي
قالوا ثم فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
[1] . لم يزل
MS.

(4/144)


حتى شق عليه مشقة شديدة وفي رواية ابن عبّاس رضي الله عنه أنه كان يعدو مرة إلى ثبير ومرة إلى حراء يريد أن يلقى نفسه منها فبينا هو كذلك إذ سمع صوتا فرفع صوته فإذا هو بالملك الذي جاءه بحراء بين السماء والأرض قال فخشيت رعبا ورجعت إلى أهلي فقلت زملوني فألقوا علي قطيفة سوداء وصبّوا عليّ ماء باردا فنزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ 74: 1- 5،،،
ذكر اختلافهم أوّل من أسلم
قيل خديجة رضي الله عنها صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة يوم الاثنين وصلت خديجة آخر اليوم وقيل علي بن أبي طالب صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وصلّى عليّ يوم الثلثاء وقيل زيد بن حارثة وقيل أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه وأمّا ابن إسحاق فإنه يقول أول من ذكر من الناس آمن بمحمّد صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عم ثم زيد بن حارثة ثم أبو بكر الصديق وأسلم بدعائه عثمان بن عفان ثم سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله فهولاء النفر الثمانية الذين سبقوا بالإسلام وروى الواقدي أن سعد بن أبي وقاص قال لقد أتى على يوم واني لثالث الإسلام وعن عمرو بن عنبسة

(4/145)


كنت ثالثا أو رابعا في الإسلام وعن خالد بن سعيد بن العاص كنت خامسا في الإسلام وممن سبق إسلامه أبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام وعثمان بن مظعون وقدامة بن مظعون [F؟ 136 v؟] وعبيدة بن الحارث وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد بن جحش وأبو سلمة بن عبد الأسد وواقد بن عبد الله وخنيس بن حذافة ونعيم بن عبد الله النحام وخباب بن الارتّ وعامر بن فهيرة رضي الله عنهم أجمعين ومن النساء أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر ابن أبي طالب وفاطمة بنت الخطاب امرأة سعيد بن زيد بن عمرو وأسما بنت أبي بكر وعائشة وهي صغيرة فكان إسلام هؤلاء في ثلاث سنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في خفية قبل أن يدخل دار أرقم بن [أبي] الأرقم ثم أسلم صهيب بن سنان وعمار ابن ياسر وكان إسلامهما بعد إسلام بضعة وثلاثين رجلا ثم فشا بمكة وتحدث [1] به وأمر الله عز وجل رسوله بإظهار الدعوة فقال فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 15: 94 وذلك في السنة الرابعة من النبوّة،،،
__________
[1] . و؟ حدّث
MS.

(4/146)


ذكر إظهار الدعوة إلى الإسلام
قالوا فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينه ودعا الخلق إليه وأبدى الصفحة لهم فلم يبعد عليه قومه ولا عابوا عليه رأيه لما عرفوه من صدق الحديث وحسن الجوار وتحرى الخير والتواضع للخلق وكمال العقل والشرف وعلو البيت وطهارة النسب حتى سب آلهتهم وسفه أحلامهم وضلل أراءهم ونقض دينهم فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وقد حدب عليه عمه أبو طالب وقام يناضل دونه ويحامي عليه فتضاغن القوم وتوامروا ومشوا إلى أبي طالب منهم أشراف قريش عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة وأبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس وأبو جهل بن هشام بن المغيرة المخزومي وكنيته أبو الحكم وأبو البختري بن هشام والوليد بن المغيرة بن عبد الله المخزومي والعاص بن وائل السهمي فقالوا يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا وإن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل أباءنا فإما أن تكفه وإما أن ننازله [1] وإياك فقال له أبو طالب اتق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر
__________
[1] . نقاتله.
Enmarge:

(4/147)


ما لا أطيق فظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا طالب قد تركه وأنه قد ضعف عن نصرته وهو خاذله فاستعبر ثم قال يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله وأهلك دونه ما تركته فقال أبو طالب لا تخذله فمشوا إليه بعمارة بن الوليد فقالوا هذا أنهد فتى قريش وأجمله فخذه واتخذه ولدا وسلم إلينا ابن أخيك هذا الصابئ الذي خالف ديننا وفرق جماعتنا نقتله فقال أبو طالب تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا مما لا يكون فتنابذ القوم وتنادوا بعضهم بعضا وأقبلوا على من في القبائل من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ومنع الله عز وجل رسوله بعمه أبي طالب أن تخلصوا في شعره وبشره غير أنهم يرمونه بالسحر والشعر والكهانة والجنون والقرآن ينزل عليهم بتكذيبهم والرد عليهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بالحق ما يثنيه ذلك عن الدعاء إلى الله عز وجل سرا وجهرا حتى لحق أبو طالب باللَّه عزّ وجلّ فتخطّئوا إليه بالمكروه [F؟ 137 r؟] ونالوا منه ما كانوا يجمحون عنه من جنانه قالوا ولما أسلم حمزة بن عبد المطّلب عزّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم وأهل الإسلام فشق ذلك على

(4/148)


المشركين فعدلوا عن المنابذة إلى المعاتبة [1] وأقبلوا عليه يرغبونه في المال والأنعام ويعرضون عليه الأزواج فنزل قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبى 42: 23 فلما أعياهم أمره ويئسوا أن يستنزلوه عن دينه بشيء من حطام الدنيا أخذوا في طلب الآيات والتماس المعجزات كما حكى الله عز وجل عنهم في القرآن وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا من الْأَرْضِ يَنْبُوعاً 17: 90 الآيات وتواصوا على من أسلم يعذبونهم جهارا ويقاتلونهم سرا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة فرارا بدينهم وهي الهجرة الأولى سنة خمس من البعث،،،
ذكر الهجرة الأولى إلى الحبشة
قالوا فخرج أحد عشر رجلا وأربع نسوة وأميرهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت قريش في أثرهم فلم يلحقوهم ومروا القوم إلى الحبشة فآمنوا واطمأنوا قالوا وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم فالقى الشيطان في أمنيته تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فسجد المشركون وسرّوا بذلك وقالوا ما إن
__________
[1] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول اللَّهمّ اعزّ الإسلام
Glosemoderne: بالإسلام الى ان حصل أمر عمر فأعز الله الإسلام بعمر رضي الله عنه.

(4/149)


لابن أبي كبشة يذكر آلهتنا بخير وبلغ الخبر عثمان بن عفان ومن معه بأن قريشا قد أسلموا فأقبلوا راجعين فلما دنوا من مكة أخبروا أن ذلك باطلا فلم يدخل منهم مكة أحد إلا مستخفيا أو بجواز فاشتد الأمر وأطبق البلاء بالمسلمين فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخروج ثانيا إلى الحبشة،،،
ذكر الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة
قالوا فخرجوا وأميرهم جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة ثلاثة وثمانين رجلا فقال عبد الله بن الحارث بن قيس يذكر لهم ما فيه من الأمن والدعة [بسيط]
يا راكبا بلّغن عنّي مغلغلة ... من كان يرجو بلاغ الله والدين
كل امرئ من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون
إنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تنجى من الذل والمخزاة والهون
فلا تقيموا على ذل الحياة ولا ... خزي الممات [1] وعيب غير مأمون
وخرج أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه حتى بلغ برك الغماد فلقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال إلى أين يا أبا بكر قال أخرجني قومي فاسيح
__________
[1] . المماة
MS.

(4/150)


في الأرض وأعبد ربي فقال ابن الدغنة مثلك لا يخرج تكسب المعدوم وتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق فرجع أبو بكر في جواره فقال ابن الدغنة يا معشر قريش إني [1] أجرت أبا بكر قالوا فمره [2] يعبد ربه في بيته ولا يفسد علينا صبياننا قالوا وبعثت قريش بعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة مع هدايا إلى النجاشي ملك الحبشة على أن يسلم المسلمين إليهما فقدما وأوصلا الهدية قال إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان من عندنا [F؟ 137 v؟] سفهاء فارقوا دينهم ولم يدخلوا في دينكم فبعثنا اشرافنا إليكم لتردهم إليهم فقال النجاشي حتى أسئلهم عما يقولون ثمّ استدعى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءوه وقد جمع أساقفته وبطارقته وفرشوا مضاجعهم فقال لهم ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم فقال جعفر ابن أبى طالب رضي الله عنه إنا كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونهريق الدماء ونأتي الفواحش حتى بعث الله عز وجل إلينا رسولا منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته فدعانا
__________
[1] . ابى
MS.
[2] . فمرّه
MS.

(4/151)


إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده ونخلع الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وصلة الرحم وحسن الجوار ونهانا عن الفواحش والمحارم فعدوا علينا ليردونا إلى عبادة الأصنام والأوثان فهربنا إلى بلادك واخترناك على من سواك فقال لهم انطلقوا فو الله لا أرسلكم إليهم أبدا فخرجا من عنده مقبوحين فقال عمرو لأتينه بما يستأصل به خضرآؤهم ثم غدا إليهم من الغد فقال أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما فأرسل فاسألهم ما يقولون في عيسى فقال جعفر بن ابى طالب رضي الله عنه نقول فيه ما جاء به نبينا أنه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم فضرب النجاشي يده إلى الأرض وتناول منها عودا وقال ما عدا عيسى ما قلتم هذا العود ثم قرأ عليه جعفر بن أبي طالب صدر سورة كهيعص فآمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ورد هدية عمرو وعبد الله وصرفهما إلى مكّة ثمّ لمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان المسلمون يخرجون إليه وكان آخرهم جعفر أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر قالوا ولما خرج رجع عمرو وعبد الله وجدوا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أسلم وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم [به]

(4/152)


وبحمزة بن عبد المطلب حتى عادوا قريشا وكاثروهم ثم وقع الحصار في السنة [السادسة] من النبوة وبقي ثلاث سنين،،،
ذكر الحصار
قالوا واجتمعت قريش على بني هاشم وبني عبد المطّلب وتعاقدوا على أن لا يبايعوهم ولا يخالطوهم ولا ينكحوا منهم ولا ينكحوهم حتّى يتبرّءوا من صاحبهم ويسلمونه للقتل وكتبوا صحيفة كاتبها منصور بن عكرمة بن عامر وعلقوها في الكعبة فانحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب فدخلوا الشعب وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزي بن عبد المطلب وحده وضاق الأمر عليهم لا يصل إليهم شيء من الطعام [1] إلا سرا وبقوا فيه ثلاث سنين فلما كان في السنة التاسعة من النبوّة قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي طالب هل شعرت بأن ربي قد سلط الأرضة على الصحيفة فلم تدع [2] للَّه اسما إلا اثبتته ونفت القطيعة والظلم فقام أبو طالب حتى أتى المسجد فقال يا معشر قريش إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا فهلموا صحيفتكم فإن كان كما قال فانتهوا عن ظلمنا وقطيعتنا فإن كان كاذبا دفعته إليكم
__________
[1] . والطلم
MS.
[2] . يدع
MS.

(4/153)


قالوا رضينا [F؟ 138 r؟] فنظروا فإذا هو كما قال صلى الله عليه وسلم فزادهم ذلك شرا ثم اجتمع نفر من قريش وقالوا يا قومنا تأكلون الطعام وتشربون الشراب وتلبسون الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبايعون ولا يناكحون والله لا نقعد حتى نشق هذه الصحيفة الظالمة لقاطعة فقام إليها مطعم بن عدي فشقها فقال أبو طالب [طويل]
الاهل أتى بحرينا صنع ربنا ... على نأيهم والله بالناس أرود
ألم يأتهم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
جزى الله رهطا بالحجون تبايعوا ... على ملأ يهدى لحزم ويرشد
قضوا ما قضوا من ليلهم ثم أصبحوا ... على مهل وسائر الناس رقد
فخرجوا من الشعب،،،
ذكر خروجهم من الشعب
قال الواقدي مات أبو طالب وخديجة في السنة العاشرة من النبوة بعد خروج بني هاشم من الشعب بيسير وكان بين موت خديجة إلى أن مات أبو طالب شهر وخمسة أيام وقيل كان بينهما ثلاثة أيّام فتشابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب واستكلبت عليه شوكة المشركين

(4/154)


وبالغوا في الأذى وكان أشدّهم عليه عمه أبو لهب عليه اللعنة وأبو جهل وعقبة وأبي بن خلف فمنهم من يقدر ببابه ومنهم من يطرح الأذى في برمته إذا نصبت ومنهم من يطرح رحم الشاة إذا سجد على ظهره ومنهم من يطأ برجليه على عنقه ومنهم من يذر التراب على رأسه ومنهم من يبزق في وجهه وجعلوا يستهزءون به ويتضاحكون منه ورسول الله صابر محتسب على الأذى ثمّ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يستنصر،،،
خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
قالوا وخرج مع زيد بن حارثة على حمار من هذه الدناية [1] يلتمس النصر والمنعة وأقام بها عشرة أيام فلم يدع أحدا من أشراف ثقيف إلا جاءه وكلمه وكانت رؤساء ثقيف ثلاثة أخوة عبد ياليل بن عمرو وحبيب ابن عمرو ومسعود بن عمرو فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم [2] أن يمنعوه حتى يبلغ من الله عز وجل أمره فقال أحدهم انا امرط ثياب الكعبة إن الله أرسلك نبيا وقال الآخر أما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال الثالث والله لا أكلّمك أبدا
__________
[1] . كذا في الأصل
enmarge: بن الدنايةMS.
[2] . وسألوهم
Ms.

(4/155)


فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يئس من نصرتهم فقال أكتموا على وكره أن يبلغ ذلك قومه فيذئرهم عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم وعبيدهم فجعلوا يسبونه ويغطغطون وراءه ويرمونه بالحجارة حتى التجأ إلى ظل حبلة في جنب حائط فجلس فيه ودعا دعوات فسأل [1] ربه النصر والصبر وانصرف وكان مقامه بالطائف عشرة أيام فلما بلغ في منصرفه بطن نخل [2] استمع إليه نفر من الجن،،،
قصة الجن الأولى
[
F؟ 138 v؟] قالوا وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من خوف الليل يصلي فمر به سبعة نفر من جن نصيبين يقال أسماءهم حسا ومسا وشارصه وناحر ولا ورد وسار سان والأحقب فآمنوا به ورجعوا إلى قومهم منذرين كما قال الله عزّ وجلّ وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً من الْجِنِّ 46: 29 الآيات وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم من نخلة يريد مكة حتى أتى حراء وبعث إلى سهيل بن عمرو والأخنس بن شريق أدخل في جواركما فأبيا عليه فأرسل إلى مطعم بن عدي فأجاره وأمر بنيه فلبسوا السلاح ووقفوا عند خروجه [إلى] البيت فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة وكان غيبته
__________
[1] . فسأله
Ms.
[2] . بطر عل
Ms.

(4/156)


من خروجه إلى مرجعه خمسة وعشرين يوما ويقال شهرا وفيه يقول حسان بن ثابت [طويل]
فلو كان مجد يخلد اليوم واحدا ... من الناس أبقى مجده اليوم مطعما
أجرت رسول الله فيهم فأصبحوا ... عبيدك ما لبي ملب وأحرما
قصة الجن الثانية
قالوا ولما انصرف النفر من نصيبين إلى قومهم وأنذروهم جاءت جماعة منهم زهاء ثلاثمائة رجل وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجون فقرأ عليهم ودعاهم إلى الله عز وجل فآمنوا به وصدقوه ثم صلى بهم وقرأ في الصلاة تبارك الملك وسورة الجن وهي فسمي ليلة الجن ثم هاجت الأزمة وهي الجوع فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم حتى أكلوا العلهز والقد والعظام المحرقة والكلاب الميتة وحتى كان الرجل يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان فجاءه أبو سفيان بن حرب وقال يا محمد جئت بصلة الرحم وقومك قد هلكوا فادع الله لهم فلمّا دخلت سنة احدى عشرة من النبوّة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عنهم بقول الله عز وجل إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ 44: 15 ثم كان انشقاق القمر بقول الله عز وجل اقْتَرَبَتِ

(4/157)


السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ 54: 1 ثم غلبت الروم بقول الله عز وجل آلم غُلِبَتِ الرُّومُ في أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ من بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ 30: 1- 4،،،
قصة الروم
وذلك أن ابرويز لما انهزم من بين يدي بهرام جوبينة مضى إلى الروم واستنجد بملكهم موريقيس فأمده بالرجال والمال وزوجه ابنته مريم وانصرف وقاتل بهرام فنفاه إلى أقصى خراسان ووثبت الروم على ملكهم فقتلوه فسرح إليهم ابرويز شهر ابراز الفارسىّ وجندا من الفرس فدخلوا قسطنطينيّة واحتووا على خزائنها وأموالها وقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية وحملوا الخشبة التي يزعم النصارى أن المسيح عم صلب عليها وذلك في سنة احدى عشرة من النبوة قبل الهجرة بسنتين وأخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه آلم غُلِبَتِ الرُّومُ في أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ من بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ 30: 1- 3 وسرّ المشركون به وجادلوا المسلمين وقالوا تزعمون أنكم تغلبوننا لأنكم أهل كتاب وهذه المجوس قد ظهرت على الروم وهم أهل كتاب فنزل وَهُمْ من بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ 30: 3- 4 فأنكروا ذلك وجحدوه فناجب أبو بكر أبي بن خلف على ذود من

(4/158)


الإبل ليظهرن الروم على فارس إلى خمس سنين فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم زده في الخطر ومده [F؟ 139 r؟] في الأجل فجعل الخطر ذودين والأجل سبع سنين فلما كان يوم الحذيبية انكشف شهر ابراز عن الروم حتى سار هرقل إلى العراق فأغار عليه وصدق وعد الله ثم كان بعد غلبة الروم المسرى،،،
ذكر المسرى والمعراج
أعلم أنه لا شيء أكثر من اختلاف هذه القصة أما المعراج فينكره بعض الناس وبعض يزعم أن المعراج هو المسرى ثم اختلفوا في كيفيّة المسرى فكانت عائشة ومعاوية يقولان ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه ولكن الله أسرى بروحه وكان الحسن رضي الله عنه يقول كانت رؤيا ويحتج بقوله وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ 17: 60 وبقول ابراهيم إِنِّي أَرى في الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ 37: 102 ثم مضى على ذلك فعرفت أن الوحي يأتى الأنبياء أيقاظا ونياما وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول تنام عيناي ولا ينام قلبي قال ابن إسحاق والله أعلم أي ذلك كان ونحن نذكر في ذلك طرفا كما جاء في الخبر قال الواقدي أسرى به قبل الهجرة بسنة وكان المعراج قبل ذلك بثمانية عشر شهر قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فاستلقاني على قفاي ثم شقا بطني

(4/159)


واستخرجا حشوي ومعهما طست من ذهب يغسل فيه بطون الأنبياء فكان جبريل يختلف بالماء من زمزم وميكائيل يغسل جوفي فقال جبرائيل لميكائيل شق قلبه فشق قلبي فأخرج علقة سوداء فالقاها ثم أدخل هرمه ثم ذر عليه من ذرور كان معه وقال وقلب وكيع له عينان بصيرتان وأذنان سميعتان أنتم قشر المغفل الحاشر ثم قال ببطني هكذا فالتأم وقالا مليء حكمة وإيمانا ثم وثبت قائما فأتيت [1] بالمعراج فإذا هو أحسن ما رأيت منظرا ألم تروا إلى ميتكم إذا احتضر كيف يشخص ببصره إليه فإنه إنما ينظر إلى حسن المعراج قال فعرجا بي إلى السماء الدنيا فلما انتهينا إلى باب الحفظة وعليه ملك يقال له إسماعيل تحت يده سبعون ألف ملك ما منهم ملك إلا وهو على مائة ألف فقال من هذا قالوا محمد قال وقد بعث قال نعم قال فتبادروا واجتمعوا وفتحوا ورحبوا ودعوا بالبركة قال ورأيت في السماء الدنيا رجلا أعظم الناس جهة فقلت من هذا يا جبريل قال أبوك آدم وإذا أرواح ذريته تعرض عليه فإذا عرض عليه روح المؤمن قال ريح طيبة وروح طيب جعلوا
__________
[1] . فأتت
MS.

(4/160)


كتابه في عليين وإذا عرض عليه روح الكافر قال ريح خبيثة وروح خبيث جعلوا كتابه في سجين ثم وصف السموات ومن فيهن ووصف الجنة والنار وأهلها قال ثم انتهيت إلى السماء السابعة فلم أسمع شيئا إلا صرير الأقلام ورأيت جبريل يتضاءل حتى كان فرخ طائر ما أكاد أتأمله وسمعت وحيه فقال لي جبرائيل اسجد فسجدت ودنوت قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله إلى عبده ما أوحى ثم قال ارفع رأسك يا محمد وقد فرض الله عليك خمسين صلاة قال فرجعت إلى موسى عم ولم يزل يرده حتى حطه إلى خمس صلوات [1] قال موسى ارجع إلى ربك واسئله أن يخفف عن أمتك فإن أمتك ضعيفة قال فقلت قد استحييت من ربي ولأصبرن على هذه الخمس قال فنوديت إني قد أمضيت فريضتي وخففتها على عبادي واجزي الحسنة بعشرة أمثالها هذا من رواية الواقدي وأما ابن إسحاق فانّه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث عن المسرى وما بالمسجد الأقصى قال فلما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى المعراج ولم أر شيئا [F؟ 139 v؟] احسن منه وأصعدني صاحبي حتى انتهى بي إلى باب
__________
[1] . صلاة
MS.

(4/161)


من أبواب السماء ثم ساق قصة شبيهة بما ساق الواقدي وسنذكر اختلاف الناس والكشف عن وجه الحق في آخر هذا الفصل،،،
قصّة المسرى
قال ابن إسحاق ثمّ أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيه بلاء وتحيض وأمر من الله عز وجل فيه عبرة وهدى ورحمة وكيف شاء ليريه من آياته فكان ابن مسعود يقول أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق وهي الدابة التي كان يحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها منتهى طرفها فحمل عليها ثم خرج صاحبه يريه الآيات فيما بين السماء والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه ابراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء فصلى بهم ثم أتى بثلاث أوان اناء فيه لبن واناء فيه خمر وإناء فيه ماء قال فسمعت حين عرضت علي قائلا يقول إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر غوى وغويت أمته وإن أخذ اللبن هدي وهديت أمته قال فأخذت اللبن فشربته وكان الحسن يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا نائم في الحجر إذ أتاني جبريل فهمزني برجله فجلست فلم أر فيه شيئا فعدت إلى مضجعي فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي وخرج بي إلى باب المسجد فإذا أنا بدابة أبيض بين البغل

(4/162)


والحمار وفي فخذيه جناحان ومضى في حديثه مثل حديث ابن مسعود وزاد قال لما شربت اللبن حرمت عليكم الخمر فلما أصبح عدا على قريش فقالوا إن هذا والله لبين أن العير ليطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة فيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع فارتد كثير ممن كان أسلم وذهب الناس إلى [أبي] بكر فقالوا إن صاحبكم يزعم كذا وكذا فقال أبو بكر لئن كان قاله فقد صدق فما يعجبكم من ذلك أنه يخبر الخبر من المساء إلى الأرض في ساعة فأصدقه قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع بي حتى نظرت إليه فجعل يصفه وأبو بكر يصدقه وروى الواقدي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمّا كذّبني قريش قمت في الحجر فخيل إلي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه وروى عن أم هاني بنت أبي طالب أنها قالت نام رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي وفي بيتي تلك الليلة فلما كان قبل الصبح أهبنا وقال لقد صليت عشاء الآخرة والفجر بهذا الوادي وصليت ما بينهما بالبيت المقدس وقد نشر لي الأنبياء فصليت بهم ثم قص القصة والوجه في هذا وما أشبهه أن لا يجاوز فيه نص الكتاب

(4/163)


ومستفيض السنة مع المخالف المنكر المستعظم لما يخرج عن العادة المعهودة والطبع القديم قال الله سبحانه سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ من آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 17: 1 فالمسرى قد يكون بالروح والجسم ثمّ قال وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ 17: 60 ولا خلاف بين أهل اللغة أن الرؤيا في المنام لا غير وإن كان جاء في التفسير أنه رؤية العين فحكم العاقل أن يخاطب كلا على قدر فهمه وأي تفضيل يلحق النبي في رفع جسمه وجثته أو ليس قد أخبر أنه قد رأى في السماوات ابراهيم وموسى وعيسى وآدم وغير مختلف أنهم لم يرفعوا بأجسامهم مع أنا لا ننكر أن يرفع الله ما يشاء من جبل وحجر فكيف أنبياءه ورسله [F؟ 140 r؟] ولكن ذكرنا ما ذكرنا ليهون عليك ما يرد من كلام الخصوم ولتقصيد الاشبه بالمتعالم المعروف والله أعلم،،،
ذكر مقدمات الهجرة وأول من هاجر
قالوا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافي [1] كل موسم سوق عكاظ وسوق ذي المجاز وسوق
__________
[1] . توافي
MS.

(4/164)


المجنة يتبع [1] القبائل في رحالها ويغشاها في أنديتها يدعوهم إلى أن يمنعوه ليبلغ رسالة ربه فلا يجد أحدا ينصره حتى كانت سنة إحدى عشرة من النبوة لقي ستة نفر من الأوس عند العقبة فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وعرض عليهم أن يمنعوه فعرفوه وقالوا هذا النبي الذي يوعدنا يهودنا به وهموا يقتلوننا قتل عاد وإرم فأمنوا به وصدقوه وهم أسعد بن زرارة وقطبة بن عامر بن حديدة ومعاذ بن عفراء وجابر بن عبد الله بن رئاب وعوف بن عفراء وعقبة بن عامر وأول من أسلم فيهم أسعد بن زرارة وقطبة بن عامر وكان يقول في الجاهلية لا إله إلا الله ويقال بل أول من أسلم أبو الهيثم بن التيهان وكان لا يقرب في الجاهلية الأوثان فانصرفوا إلى المدينة وذكروا أمر رسول الله صلى الله عليه فأجابهم ناس وفشا فيهم الإسلام لمّا كانت اثنتي عشرة من النبوة وافى الموسم منهم اثنا عشر رجلا هؤلاء الستة وستة أخر أسماءهم أبو الهيثم بن التيّهان وعبادة ابن الصامت وعويم بن [2] ساعدة ورافع بن مالك وذكوان ابن عبد القيس وأبو عبد الرحمان بن ثعلبة فآمنوا وأسلموا
__________
[1] . ابى
MS.ajoute
[2] . تتبع
MS.

(4/165)


وواعدوا رسول الله صلى الله عليه العام [1] القابل وسألوه أن يبعث معهم من يصلي بهم ويعلّمهم القرآن فبعث معهم مصعب ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف فتى قريش كلّها يدعو الناس إلى الإسلام وكان يدعى المهدي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بدعائه بشر كثير وكان في من [2] أسلم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيد [أ] الأوس والخزرج فلما كان سنة ثلاث عشرة من النبوة قدم من الأنصار سبعون رجلا وامرأتان أم عامر وأم منيع ورئيسهم البراء بن معرور فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة وبايعوه على المنع والنصرة قال الواقدي واختلفوا في أول من ضرب يده على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل البراء بن معرور وقيل أسعد بن زرارة وقيل أسيد بن حضير وقيل أبو الهيثم بن التيّهان فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم اخرجوا إلى اثني عشر نقيبا يكونوا على قومهم وأخذ عليهم الميثاق والعهد والوفاء كنقباء بني إسرائيل فأخرجوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس فمن الخزرج أسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وسعد ابن عبادة والبراء بن معرور وعبادة [بن] الصامت وعبد الله بن
__________
[1] . العامل
MS.
[2] . فيمن
MS.

(4/166)


رواحة ورافع بن مالك بن عجلان والمنذر بن عمرو بن خنيس ومن الأوس أسيد بن حضير وسعد بن خيثمة وأبو الهيثم بن التيهان فقال كعب بن مالك يذكر تلك البيعة في قصيدة طويلة [طويل]
فابلغ [أبيا] أنه قال رأيه ... وحان غداة الشعب والحين واقع
وابلغ أبا سفيان أن قد بدا لنا ... بأحمد نور من هدى الله ساطع
فلا تزهدن في حشد أمر تريده ... والّب وجمع كل ما أنت جامع
[
F؟ 140 v؟] ودونك فاعلم أن نقض عهودنا ... أباه [1] عليك الرهط حتى يبايعوا
وانصرف الأنصار إلى المدينة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة وكان هاجر إليها قبل بيعة العقبة أبو سلمة بن عبد الأسد بسنة وهو أول من هاجر إلى المدينة ثم هاجر بعده عبيدة بن الحارث وعثمان بن مظعون ومسطح بن أثاثه ثم هاجر بعدهم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وعياش بن [أبي] ربيعة وهو أخو أبي جهل بن هشام فنذرت أمه أن لا يظلها سقف بيت حتّى يرتدّ فخرج أبو جهل
__________
[1] . أتاه
MS.

(4/167)


ابن هشام والحارث بن هشام فرداه فلم يزالا يعذبانه حتى فتناه عن دينه وفيه نزلت وَمن النَّاسِ من يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ في الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ الله 29: 10 ثم هاجر بعد ذلك وأسلم ثم خرج سائر المسلمين وبقي النبي صلى الله عليه وعلي بن أبي طالب وأبو بكر ومن لا قوة له في الحركة من ضعف وفاقة فلما رأت قريش أن شيعة النبي صلى الله عليه وسلم قد خرجوا فزعوا من ذلك وعلموا أنه إن خرج واقع بهم فاجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا في أمره وروى أن الشيطان صرخ على العقبة يا أهل الاخاشب هل لكم في محمد وأصحابه فقد اجتمعوا لحربكم،،،
ذكر دار الندوة
قالوا فاجتمع رؤساء قريش في دار الندوة ومنهم أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبه بن ربيعة والعاص بن وائل وأبو سفيان بن حرب ونبيه ومنبه ابنا الحجاج قال بعضهم فاعترض لهم ابليس [1] في صورة شيخ جليل عليه إتب فقالوا من الشيخ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم فحضر ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا
__________
[1] . ابلس
MS.

(4/168)


فقام خطيبهم فقال إن هذا الرجل قد كان من أمره ما كان وانا لا نأمنه على الوثوب بنا فاجمعوا فيه رأيا فقال قائل منهم أرى أن تقتلوه بحديد أو أن تغلقوا عليه الباب حتى يموت فقال ابليس ما هذا برأي لأنكم لو فعلتم ذلك لأوشك أن ينزعه أصحابه من أيديكم فقال آخر أرى أن تربطوه على ظهر راحلة ثم اضربوا [1] وجهها تهيم في الأرض حيث شاءت فقال ابليس ما هذا برأي ألم تروا إلى حسن لفظه وحلاوة منطقه ولا يحل بحي ولا بلد إلا سحرهم بكلامه فقال أبو جهل أرى أن نجمع من كل قبيلة منا فتى شبيبا نشيطا ثم نعطي كل واحد منهم سيفا صقيلا فيعمدون إليه ويضربونه ضربة رجل واحد ويفرقون دمه في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على الإقادة بجميع الناس فقال ابليس هذا الرأي وقد حكى في ذلك شعر ومنهم من ينسبه الى إبليس [بسيط]
الرأي رأيان رأي ليس يعرفه ... غاو ورأي كحد السيف معروف
يكون أوّله بشرى لآخره ... حقّا وآخره مجد وتشريف
__________
[1] . ضربو
MS.

(4/169)


فتفرقوا على هذا وجمعوا من فتيان قريش أربعين شابا وأعطوهم السيوف وأمروهم أن يغتالوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقتلوه،،،
ذكر ليلة الدار
قالوا فأتوا داره وأحاطوا به يرصدونه حتى ينام فيبيتون به وأتاه الخبر من السماء فثبت حتى أمسى ثم اضطجع على فراشه وتجلل ريطة له خضراء والرصد يرون ما صنعه ويترقبون نومه فدعا عليا وقال نم على فراشي فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه وإن أتاك أبو بكر فاخبره أني قد خرجت إلى ثور أطحل وهو غار بأسفل مكة ومرة فليلحق بي وخرج رسول الله [
F؟ 141 r؟] صلى الله عليه وقد أخذ حفنة من التراب فجعل ينثر على رءوسهم وهو يتلو هذه الآيات يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 36: 1- 4 إلى قوله فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ 36: 9 ومر إلى الغار وقد أخذ الله عز وجل أبصارهم عنه فأتاهم آت فقال ما مقامكم قالوا ننتظر نوم محمد لنثور عليه قال إن محمدا قد مر وما ترك أحدا منكم إلّا وضع التراب على رأسه فقالوا فها هو نائم قال ذاك علي بن أبي طالب فاقتحموا الدار ونصوا الحلة فإذا هو علي فسقط في أيديهم وفيه نزل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ

(4/170)


الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ 8: 30،،،
ذكر حديث الغار
قالوا وكان أبو بكر قد ابتاع راحلتين وحبسهما في الدار يعلفهما إعدادا لذلك الأمر فاستأجر دليلا يقال له عبد الله بن اريقط الليثي ويقال ابن ارقد ليأخذ بهما على الجادة وأمر غلامه عامر بن فهيرة أن يروح عليه يستحثه مغسفا وسوت له أسماء سفرة فحملها ومر إلى الغار فأقاما فيه ثلاثا وروى ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من داره أتى إلى دار أبي بكر وخرج معه من ظهر بيته إلى ثور فاكتتما فيه قال قائل وصرخ صارخ أن محمدا قد خرج فخرج المشركون في إثرهما فكانا يريانهم ولا يرونهما وروى الواقدي أن الله عز وجل بعث العنكبوت فضرب على باب الغار ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل العنكبوت فلما أكدت قريش وخابت جعلت مائة ناقة لمن رده فخرج سراقة بن مالك وكان من فرسان القوم وأشدائهم،،،
ذكر خروج سراقة في إثرهما
قالوا وخرج في اثرهما ثم روى بعد ما أسلم قال فلما بدا لي القوم عثر بي فرسي وذهبت يداه

(4/171)


في الأرض وسقطت عنه قال ثم انتزع يديه وتبعهما دخان كالإعصار فعرفت أنه حق فناديتهم انظروني أكلمكم فو الله لا آذيتكم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر سل ما يطلب قال ما تبتغي منا قال قلت تكتب لي كتابا يكون آية بيني وبينك فأمر أبا بكر فكتب لي كتابا في رقعة أو قال في عظم فلما كان يوم فتح مكة أتيته بالكتاب فقال اليوم يوم وفاء وبر ادن منّى فأسلم فدنوت وأسلمت وقد روى في هذا الخبر أنه ساخت قوائم دابته ثم خرجت ولها عثار،،،
ذكر خروج النبي عم وأبي بكر من الغار إلى المدينة
قال ابن إسحاق وخرج بهما دليلهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل أسفل من عسفان فهبط بهما العرج ثم لزم الجادة إلى المدينة وذكر حديث أم معبد بطوله قال وكان المسلمون بالمدينة لما سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه فإذا ارتفع النهار وعلا انصرفوا إلى بيوتهم حتى كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا قد انتظروه ورجعوا فرآه رجل من يهود فصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء فخرج الناس وثاروا الى أسلحتهم

(4/172)


وأسرعوا يتلقونه وكان ذلك يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الأول فيما روى ابن إسحاق حين اشتد الضحى وكادت الشمس تعتدل وكان الزبير بن العوام لقيه في الطريق [F 141 vO] مقبل من الشأم فطرح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثيابا بيضا فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بقبا في ظل نخلة وهي قرية بني عمرو بن عوف،،،
في ذكر اختلاف الناس في هذا الفصل
أعلم أن ما كان في هذه الأخبار من المعجزات فكلها مصدقة مقبولة إذا صحت الرواية والنقل أو شهد لها نص القرآن والدلالة عليها كذهاب قوائم فرس سراقة في الأرض وكإنزال شاة أم معبد اللبن بعد يبسها وكأخذ الله بأبصار الفتكة عن نبيه وككلام ابليس في دار الندوة وكخبر المعراج والمسرى وقصة الروم والجن ولحس الأرضة الصحيفة ونزول جبريل بالوحي وتظليل الغمام والطير له في سفره وإخبار بحيرا وعداس وورقة بأمره وما ذكر من العجائب في مولده في ظئره حليمة من نزول اللبن في ضرعها وفي ضرع شاتها وغير ذلك مما يوصف ويحكى مع ما ذكر من هذه الخصال كلها داخل في حد الجواز والإمكان بعد أن كنا مجيزين للممتنع

(4/173)


في الطبع والعادة للأنبياء وفي أيامهم فكيف الممكن المتوهم من ذلك وقد ناقض المنكرون لهذه الحال لخروجها عن العادة المجيزين لها بأنه قد تسوخ القوائم في السهلة والسباخ وفي نافقاء [1] اليرابيع والجرذان ويعود اللبن في الضرع بعد ذهابه وجفوفه بتغير الطبع وزوال العلة ووجود قوة حادثة كما قد يبصر الإنسان بعد العمى ويسمع بعد الصمم بحدوث سبب أو معنى دواء الطعام ويأخذ الله بأبصار قوم بأن يأتي عليهم النعاس أو يخفي شخص المار بهم فلا يرونه وكلام ابليس غير عجيب لأنه قد يقال لمن عمل بعمل ابليس هذا ابليس وكذلك لمن تكلم بكلام ابليس يوسوس ابليس بمثله وقد سمى الله عز وجل من اقتدى بالشيطان شيطانا فقال وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ 2: 14 وابليس شيطان وأما المعراج والمسرى فكفاك حجة على الخصم [عدم] اختلاف أهل الملة فيه وخبر الروم ولحس الأرضة الصحيفة وغير ذلك ممّا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب فمن وحي الله وتنزيله مع أن ذلك ممكن معرفته من جملة الخبر وأما كيفية نزول جبريل بالوحي وظهوره له فإنّ الواجب أن لا يكلّم
__________
[1] . نافقات
MS.

(4/174)


الخصم إلا بإيجاب الوحي كيف شاء لأن الوحي على وجوه وحي إلهام ووحي إلقاء ووحي نلقين ووحي رؤيا وقد سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي فقال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني رواه الواقدي ونحن بحمد الله مصدقون بكل ما جاء على ظاهره وجدنا له مثلا وشبها أو لم نجد ومقرون بنزول الملك على الأنبياء سفيرا بينهم وبين الله عز وجل وواسطة قال هذا المناقض في حجاجه فان قال الملحد إذا كان الأمر كما زعمت وكان كل ذلك ممكنا لعامة [1] الناس فلم سميتها معجزات الأنبياء وخصصتهم بها قيل قد يكون الشيء معجزة في وقت وهو بعينه غير معجزة في وقت آخر ويكون معجزة لقوم وغير معجزة لقوم ويكون الشيء باجتماع أجزائه معجزة ويكون كل جزء منه على الانفراد غير معجزة قال وذلك قولنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نصر ببدر في قلة عددهم فلو وجد مثله في زماننا أو في بلد الشرك لجاز ذلك [F؟ 142 r؟] وكان ممكنا ثم لا يجوز أن يسمى معجزة وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة عظيمة في زمانه لأنه قد يقع بالاتّفاق ما لا يرجى كونه
__________
[1] . العامّة
MS.

(4/175)


ووقوعه قال والقرآن معجزة عظيمة لهم قال فاتفاق تلك المعاني للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وتناسقها في زمانه معجزة له أتاحها الله عز وجل وقدرها علامة لنبوته هذا يرحمك الله باب كان الله أغنى [1] هذا المتكلف عن الخوض فيه والتمرس به وما أراه ابلى [2] عنا في الإسلام أو رد عنه عادية إن لم يكن فتح عليهم باب شنعة وتلبيس وسبيل المعجزات للأنبياء في خروجها عن العادة سبيل إيجاد أعيان الخلق لا من سابقه فكما أن إيجاد الخلق لا من شيء [لا] مفهوم ولا معقول ولكن بعرف وتعلم بقيام الأدلة عليه كذلك معجزات الأنبياء عم غير موهومة ولا معقولة وإنما بعلم بقيام الأدلة عليها ولذلك جعلت مسألة الرسالة تابعة لمسألة التوحيد مرتّبة عليها وقد مضى من هذا في فصله ما كفى وأغنى وللَّه الحمد والمنة والحول والقوّة والتوفيق والهداية،،،
__________
[1] . اعنى
MS.
[2] . ابلى
MS.

(4/176)