البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب
ابتداء التاريخ
سنة إحدى وعشرين من الهجرة
فيها افتتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية وفي سنة 22 بعدها افتتح
بلاد طرابلس وكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
يخبره بما أفاءه الله عليه من النصر والفتح وأن ليس أمامه إلا بلاد
أفريقية وملوكها كثير وأهلها في عدد عظيم وأكثر ركوبهم الخيل فأمره
بالانصراف عنها فأمر عمرو العسكر بالرحيل قافلا إلى مصر ثم استشهد عمرو
- رضي الله عنه - فلما ولي عثمان الخلافة عزل عمرو بن العاص عن مصر
وولاها عبد الله بن أبي سرح سنة 25 من الهجرة.
وفي سنة 27 من الهجرة أمر أمير المؤمنين عثمان عبد الله بن سعد بن أبي
سرح العامري بغزو أفريقية.
فتح أفريقية للإسلام
ندب عثمان - رضي الله عنه - الناس إلى غزوهم فخرج المسلمون في جيش عظيم
فيهم مروان بن الحكم وجمع كثير من بني أمية وبشر كبير من بني أسد بن
عبد
(1/8)
العزى وعن عبد الله بن الزبير بن العوام في
عدة من قومه وعبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنه - وعن عبد الله بن
عمر بن العاص والمطلب بن سائب وبشر ابن أرطأة وغير هؤلاء من المهاجرين
وأعان عثمان المسلمين في هذه الغزوة بألف بعير يحمل عليها ضعفاء الناس
وفتح بيوت السلاح التي كانت للمسلمين فلما توافى الناس جدوا السير وذلك
في المحرم من هذه السنة وأمر الناس فعسكروا وقام فيها خطيبا فوعظهم
وذكرهم وحرضهم على الجهاد ثم قال (وقد عهدت إلى عبد الله بن سعد أن
يحسن صحبتكم ويرفق بكم وقد استعملت عليكم الحارث بن الحكم إلى أن
تقدموا على ابن أبي سرح فيكون الأمر له) .
بعض أخبار عبد الله بن سعد وإمرته
نسبه: هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وكان يكتب الوحي إلى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين بمكة
وكان معاوية بن أبي سفيان بمكة قد أسلم وحسن إسلامه فاتخذه رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - كاتبا للوحي بعد ابن أبي سرح فلما فتح النبي -
صلى الله عليه وسلم - مكة استجار ابن أبي سرح فأخذ له عثمان الأمان من
النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ابن أبي سرح أخا لعثمان من الرضاعة
فحسن إسلامه من ذلك الوقت فلما أفضت الخلافة إلى عثمان - رضي الله عنه
- ولاه ملك مصر وجندها فكان يبعث المسلمين في جرائد الخيل يغيرون على
أطراف أفريقية فيصيبون كثيراً من الأنفس والأموال فكتب إلى عثمان بذلك
فكان السبب في توجيه الجيش إليه وتقديمه عليه وأمر له بالدخول لغزو
أفريقية فخرج عبد الله من مصر في عشرين ألف إلى أفريقية وصاحبها بطريق
يقال له جرجير وكان سلطانه من طرابلس إلى طنجة فبعث عبد الله السرايا
في آفاق أفريقية فغنموا في كل وجه والتقى عبد الله مع
(1/9)
البطريق ضحى النهار في موضع يعرف بسبيطلة
وكان جرجير في مائة وعشرين ألفا فضاق المسلمون في أمرهم واختلفوا على
لين سعد في الرأي فدخل فسطاطه مفكرا في الأمر فلما رأى جرجير خيل العرب
اشتد رعبه وأهمته نفسه فأخرج ديدبانه وصد فيه يشرف على العساكر ويرى
القتال وأمر ابنته فصعدت الديدبان وسفرت عن وجهها وكان عدة خدمها
اللائي صعدن الديدبان أربعين جارية في الحلي والحلل من أجمل ما يكون ثم
قدم كراديسه كردوساً كردوسا وهو تحت الديدبان ثم قال لهم (أتتعرفون
هذه) فقالوا (نعم هذه سيدتنا، ابنة الملك وهؤلاء خدمها) فقال لهم (وحق
المسيح ودين النصرانية لئن قتل رجل منكم أمير العرب عبد الله بن سعد
لأزوجه ابنتي هذه وأعطيه ما معها من الجواري والنعمة وأنزله المنزلة
التي لا يطمع فيها أحد عندي) وما زال ذلك من قوله حتى مر على المسامع
خيله ورجله فحرض بذلك تحريضاً شديدا.
وإن عبد الله بن سعد لما انتهى إليه ما فعل جرجير وما كان من قوله نادى
في عسكره فاجتمعوا فأخبرهم بالذي كان من جرجير ثم قال (وحق النبي محمد
- صلى الله عليه وسلم - لا قتل أحد منكم جرجير إلا نفلته ابنته ومن
معها) ثم زحف المسلمين فالتقى الجمعان واستحر القتال واشتعلت نار الحرب
والمسلمون قليل والمشركين في عشرين ومائة ألف وأشكل الأمر على ابن سعد
ودخل فسطاطه مفكرا في الأمر.
ذكر قتل عبد الله بن الزبير لجرجير
ملك أفريقية والمغرب كله
قال عبد الله بن الزبير: فرأيت عورة من جرجير والناس على مصافهم
(1/10)
رأيته على برذون أشهب خلف أصحابه منقطعا
عنهم معه جاريتان له تظلانه من الشمس بريش الطواويس فأتيت فسطاط عبد
الله بن سعد فطلبت الإذن عليه فقال له حاجبه (دعه فإنه يفكر في شأنكم
ولو اتجه له رأي لدعا بالناس) فقلت (أني محتاج إلى مذكراته) فقال له
(أمر في أن أحبس الناس عنه، حتى يدعوني) قال فدرت حتى كنت من وراء
الفسطاط فرأى وجهي فأومأ إلي أن تعال فدخلت عليه وهو مستلق على فراشه
فقال (ما جاء بك؟ يا بن الزبير) فقلت (رأيت عورة من عدونا. فرجوت أن
تكون فرصة هيأها الله لنا، وخشيت الفوت) فقام من فوره وخرج حتى رأى ما
رأيت فقال (أيها الناس انتدبوا مع ابن الزبير إلى عدوكم) فتسرع إلي
جماعة اخترت منها ثلاثين فارسا فقلت (إني حامل فاصرفوا عن ظهري من
أرادني فأني سأكفيكم ما أمامي إن شاء الله) قال عبد الله: فحملت في
الوجه الذي هو فيه وذب عني الناس الذين انتدبوا معي واتبعوني حتى خرقت
صفوفهم إلى أرض خالية فضاء بيني وبينهم فوالله ما حسب إلا أني رسول
إليه حتى رأى ما بي من أثر السلاح فقدر أني هارب إليه فلما أدركته،
طعنته، فسقط: فرميت نفسي عليه وألقت جارياته عليه أنفسهما فقطعت يد
إحداهما، وأجهزت عليه ورفعت رأسه على رمحي وحال أصحابه وحمل المسلمون
في ناحيتي وكبروا فانهزم الروم وقتلهم المسلمون كيف شاءوا وثارت
الكمائن من كل جهة ومكان وسبقت خيول المسلمين ورجالهم إلى حضن سبيطلة
فمنعوهم من دخوله. وركبهم المسلمون يمينا وشمالا في السهل والوعر
فقتلوا أنجادهم وفرسانهم وأكثروا فيهم الأسرى حتى لقد كنت أرى في موضع
واحد أكثر من ألف أسير.
وذكر أشياخ من أهل أفريقية أن ابنة جرجير لما قتل أبوها تنازع الناس في
قتله وهي ناظرة إليهم فقالت (قد رأيت الذي أدرك أبي، فقتله) .
(1/11)
فقال لها الأمير بن ابن أبي سرح (هل
تعرفينه؟) فقالت (إذا رأيته، عرفته) قال فمر الناس بين يديها حتى مر
عبد الله بن الزبير فقالت (هذا والمسيح قتل أبي) فقال له ابن أبي سرح
(لم كتمتنا قتلك إياه) ؟ فقال عبد الله (علمه الذي قتلته من أجله) فقال
الأمير (إذا والله أنفلك ابنته) فنفله ابن أبي سرح ابنة الملك جرجير
فيقال إنه اتخذها أم ولد ولما انهزمت جيوش جرجير سار عبد الله بن أبي
سرح حتى نزل باب مدينته العظمى قرطاجنة، فحصرها من كان معه من المسلمين
حصارا شديدا أتى فتحت فأصاب فيها من السبي والأموال ما لم يحيط به
الوصف وكان أكثر أموالهم الذهب والفضة فكانت توضع بين أيديه أكوام
الفضة والذهب لأنه افترع أفريقية مبكرا فعجب هو والمسلمون من كثرة ذلك
فقال للأفارقة: (من أين لكم هذا؟) فجعل الرجل منهم يلتمس شيئاً من
الأرض حتى بنواة زيتون، فقال: (من هذا أصبنا الأموال لأن أهل البحر
والجزر ليس لهم زيت فكانوا يمتارونه من هنا) فكان سهم الفارس ثلاثة
آلاف دينارا عينا وسهم الراجل ألف دينار وقسم ابن أبي سرح السرايا
والغارات من مدينة سيبطلة فبلغت جيوشه بقصر قفصة فسبوا كثير وغنموا
فأذلت هذه الوقعة الروم بأفريقية ورعبوا رعباً شديداً فجاءوا إلى
الحصون والمعاقل ثم طلبوا من عبد الله بن سعد أن يقبض منهم ثلاثمائة
قنطار من الذهب في السنة جزية على أن يكف عنهم ويخرج من بلادهم فقبل
ذلك منهم وقبض المال وكان في شرط صلحهم أن ما أصاب المسلمون قبل الصلح
فهو لهم وما أصابوه بعد الصلح ردوه عليهم ودعا الأمير عبد الله بن سعد
عبد الله بن الزبير فقال له (ما أحد أحق بالبشارة منك فامض فبشر أمير
المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - بالمدينة، بما أفاء الله على
المسلمين) فتوجه عبد الله بن الزبير
(1/12)
من سبيطلة فقيل إنه وافى المدينة في أربعة
وعشرين يوما وكانت إقامته بأفريقية سنة وشهرين ثم وصل فيء أفريقية إلى
المدينة فبيع المغنم فطفق مروان بن الحكم على الخمس فأخذ منه خمسين ألف
دينار فسلم له من ذلك عثمان - رضي الله عنه - فكان ذلك مما انتقد عليه.
وفيه وفي رد الحكم أبيه بعد أن نفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول عبد الرحمن أخو كندة:
سأحلف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله شيئا سدى
ولاكن خلقت لنا فتنة ... لكي نبتلي بك وتبتلى
دعوت اللعين فأدنيته ... خلافا لسنة من قد مضى
وأعطيت مروان خمس العباد ... ظلماً لهم وحميت الحمى
وقال مروان بن الحكم يوما في مجلس معاوية (ثلاث لم أدخل فيهن حراما قط:
داري بالمدينة، ومالي بذي خشب، وصدقات نسائي) فنظر معاوية إلى عبد الله
بن الزبير وكان حاضراً فقال له (ما تقول؟ فإنك طعان) فقال (مهلا أبا
عبد الملك خرجنا مع ابن أبي سرح إلى غزو أفريقية فوالله ما كان مروان
أحسننا وجهها ولا أكثرنا نفقة، ولا أعظمنا في العدو نكاية فطفق على خمس
أفريقية بم تعلم وتحابى له من تعلم فنى منه الدار واتخذ منه المال
وتزوج منه النساء) فقال له مروان (أتطعن على أمير المؤمنين عثمان؟)
فقال له معاوية (دعه وخذ مني غير هذا فإنك صحة ما أقول) قال الطبري
(كان عثمان - رحمه الله - قال لعبد الله بن سعد: إن فتح الله عليك
أفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس نفلاً) فلما فتح
أفريقية في هذه السنة وهي سنة 27 قسم عبد الله الفيء على المسلمين
فأبقى الخمس لنفسه وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان وضرب فسطاطه في أرض
القيروان فوفد وفد على عثمان يشكون بابن أبي سرح فيما أخذ من
(1/13)
الخمس فقال لهم عثمان (أنا نفلته إياه وذلك
الآن إليكم فإن رضيتم فقد جاز وإن غضبتم فهو رد) قالوا: (فإنا نسخط)
فكتب عثمان إلى ابن سعد برد ذلك قالوا (فأعزله عنا أنا لا نريد أن تأمر
علينا وقد وقع ما وقع فكتب إليه أن استخلف على أفريقية رجلا ترضاه
ويرضونه واقسم خمس الخمس الذي كنت نفلتك في سبيل الأخماس فإنهم قد
سخطوا النفل)
ففعل ذلك عبد الله ورجع إلى مصر وقد فتح الله أفريقية فما زالوا من
أسمع أهل الأقاليم وأطوعهم إلى زمن هشام بن عبد الملك ثم ورد الخمس على
أمير المؤمنين عثمان فكان من أمر مروان بن الحكم فيما تقدم ذكره.
وفي سنة 28 غزا حبيب بن مسلمة قورية من أرض الروم ذكر ذلك الطبري
وغيره.
وفي سنة 29 هجرة افتتح عبد الله بن عامر أرض فارس. وفي سنة 30 سقط
الخاتم من يد عثمان - رضي الله عنه - في بئر اريس وقد ذكرنا خبر سقوطه
في كتابنا المسمى (البيان المشرق في أخبار المشرق) وفي سنة 31 كانت غزة
ذات الصواري وغزة ذات الاساورة في قول الواقدي وفي سنة 32 توفي عبد
الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وهو ابن خمس وسبعين سنة، وفيها مات عبد
الله بن زيد بن عمرو بن نفيل وفيها مات أبو طلحة وأبو ذر - رضي الله
عنهما - وبها توفي عبد الله بن مسعود فدفن بالبقيع.
وفي سنة 33 كانت غزوة عبد الله ابن أبي سرح أفريقية مرة ثانية حين نقض
أهلها العهد هكذا ذكره عريب في مختصره وقد تقدم خبر ابن أبي سرح على
الجملة دون تعيين سنة.
وفي سنة 34 مات عبادة بن الصامت في قول الواقدي وهو ابن اثنين وتسعين
سنة ودفن بالرملة وفيها غزا معاوية بن حديج أفريقية وهي أول غزواته إلى
المغرب ثم اشتغل الناس بعد ذلك بأمر عثمان - رضي الله عنه - وبوقائع
(1/14)
الجمل وصفين وغيرهما إلى أن اعتدلت الخلافة
إلى معاوية ابن أبي سفيان وفي سنة 35 استشهد عثمان - رضي الله عنه -
واستخلفه أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - فنازعه معاوية ولم
يبايعه. وفي سنة 36 عزل علي - رضي الله عنه - ابن أبي سرح عن مصر وأقام
عليها قيس بن عبادة الأنصاري. وفي سنة 37 كان العامل على مصر محمد ابن
أبي بكر الصديق وفي سنة 38 قتل محمد ابن أبي بكر الصديق بمصر قتله
معاوية ابن أبي حديج بأمر معاوية بن أبي سفيان وقد ذكرنا شرح مقتله في
(البيان المشرق في أخبار المشرق) وفي سنة 40 كانت مهادنة بين علي - رضي
الله عنه - وبين معاوية إلى أن توفي علي - رضي الله عنه - وفيها دعي
معاوية بأمير المؤمنين وكان قبل ذلك يدعى الأمير. وفي سنة 40 المذكورة
توفي أمير المؤمنين أبو الحسن علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - وبويع
بالخلافة ابنه الحسن - رضي الله عنهما - وفي سنة 41 كان تسليم الحسن -
رضي الله عنه - الأمر لمعاوية واستوسقت المملكة له وفيها غزا معاوية بن
حديج أفريقية المرة الثانية قال عريب في مختصره: ذكر أهل العلم بأخبار
أفريقية أن معاوية بن حديج نزل جبلا فيها، فأصابه فيها مطر شديد فقال
(إن جبلنا هذا لممطوراً) فسمي البلاد ممطورا إلى الآن. وقال (اذهبوا
بنا إلى ذلك القرن) فسمي ذلك الموقع قرنا وكانت لمعاوية هذا إلى
أفريقية ثلاث غزوات. وفي سنة 43 ولد الحجاج بن يوسف الثقفي وولى معاوية
مروان بن الحكم المدينة وفيها غزا عقبة بن نافع أفريقية، قال عريب في
مختصره للطبري: فيها غزا بن نافع المغرب وافتتح غدامس فقتل فيها وسبى.
وفي سنة 43 مات عمرو بن العاص بمصر يوم الفطر فذكر إنه عمل فيها لعمر
بن الخطاب - رضي الله عنه - أربع سنين ولعثمان - رضي الله عنه - أربع
سنين ولمعاوية سنتين إلا شهراً
(1/15)
وفي سنة 44 عمل مروان بن الحكم المقصورة
بمسجد المدينة - كرمها الله - وعملها أيضاً معاوية في الشام. وفي سنة
45 غزا معاوية بن حديج الكندي أفريقية وكانت حرباً كلها قال الطبري:
وذلك أن حبابة الرومي قدم على معاوية بن أبي سفيان فسأله أن يبعث معه
جيشاً إلى أفريقية فوجه معاوية بن حديج في عشرة آلاف مقاتل فسار حتى
انتهى إلى الإسكندرية فاستعمل عليها حبابة الرومي ومضى ابن حديج حتى
دخل أفريقية وكان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه وعن
أبيه - وعن عبد الله ابن الزبير - رضي الله عنه وعن أبيه وعبد الملك بن
مروان ويحيح ابن الحكم بن المعاصي وغيرهم من أشراف قريش فبعث ملك الروم
إلى أفريقية بطريقاً يقال له نجفوراً في ثلاثين ألف مقاتل فنزل الساحل
فخرج إليه معاوية بن حديج عبد الله بن الزبير في خيل كثيفة فسار حتى
نزل على شرف عال ينظر منه إلى البحر بينه وبين مدينة سوسة اثني عشر
ميلا فلما بلغ ذلك نجفوراً اقلع في البحر منهزما من غير قتال فأقبل بن
الزبير حتى نزل على باب سوسة فوقف على البحر وصلى بالمسلمين صلاة العصر
والروم يتعجبون من جرأته فأجروا له خيلاً وابن الزبير مقبلا على صلاته
لا يهوله خبرها حتى قضى الصلاة ثم ركب وخمل على الروم بمن معه فانكشفوا
منهزمين ورجع ابن الزبير إلى معاوية ابن حديج وهو بجبل القرن. ثم وجه
ابن حديج عبد الملك ابن مروان في ألف فارس إلى مدينة جلولاء فحاصرها
وقتل من أهلها عدداً كثيراً حتى فتحها عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذرية
وأخذ جميع ما كان في المدينة وحمل ذلك كله إلى معاوية بن حديج فقسمه
على المسلمين فيقال أنه أصاب كل رجل منهم مائتي مثقال وأغزى معاوية بن
حديج جيشاً في البحر إلى صقلية في مائتي راكب
(1/16)
فسبوا وغنموا شهراً ثم انصرفوا إلى أفريقية
بغنائم كثيرة ورقيق وأصنام منظومة بالجوهر فاقتسموا فيهم وبعث ابن حديج
بالخمس إلى معاوية ابن أبي سفيان هكذا نص عريب في مختصره للطبري.
أخبار معاوية بن حديج الكندي بأفريقية
ذكر الرقيق في كتابه قال: كان هرقل ملك القسطنطينية العظمى ورومة يؤدي
إليه كل نصراني في بر وبحر جزيته منهم المقوقس صاحب الإسكندرية وبرقة
ومنهم صاحب طرابلس وصبرة ومنهم صاحب صقلية وروم أفريقية والأندلس فلما
بلغه ما صالح عليه أهل أفريقية عبد الله ابن أبي سرح بعث إلى أفريقية
بطريقاً يقال له اوليمة وأمره أن يأخذ ثلاثمائة قنطار من الذهب كما اخذ
ابن أبي سرح فنزل قرطاجنة واخبرهم بذلك فأبوا عليه وقالوا (إن الذي كان
بأيدينا من الأموال فدينا به أنفسنا من العرب وأما الملك فهو سيدنا
فيأخذ عادته منا) وكان القائم بأمرهم رجلاً يقال له حبابة فطردوا وليمة
الواصل إليهم واجتمع رأيهم على تقديم الاطربون وصار حبابة إلى الشام
فقدم على معاوية فوصف له حال أفريقية فسأله أن يبعث معه جيشاً من العرب
فوجه معه معاوية بن حديج في جيش كثيف وذلك سنة 45 فسار ابن حديج حتى
وصل أفريقية وقد صارت ناراً وكان معه جماعة وقد تقدم أكثرهم وبعث ملك
الروم البطريق المتقدم ذكره في ثلاثين ألفاً فبعث ابن حديج إليه عبد
الله ابن الزبير فقاتله فأقلع منهزماً في البحر وحاصر ابن حديج جلولا
فكان يقاتلهم وسط النهار وينصرف إلى عسكره فلما انصرف ذات يوم نسى عبد
الملك ابن مروان قوساً له معلقاً بشجرة فأنصرف إليها فإذا بجانب من سور
المدينة قد انهدم فصاح في أثر الناس فرجعوا فكان بينهم قتال شديد حتى
دخلت المدينة عنوة
(1/17)
واحتوى المسلمون على جميع ما فيها كما تقدم
ذكره وكان بين معاوية ابن حديج وعبد الملك بن مروان تنازع في ذلك لان
عبد الملك أراد محاباة إخوانه وأصحابه لأنه كان سبب فتح المدينة فقال
حنش الصنعاني يوما لعبد الملك: (ما شأنك؟ فوالله لتلين الخلافة ويصير
ذلك الأمر إليك فلا تغتم) فلما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بعث الحجاج
بن يوسف لقتال عبد الله بن الزبير فأخذ حنش الصنعاني أسيراً وبعث إلى
عبد الملك ابن مروان فلما وقف بين يديه: (ألست أنت الذي بشرتني
بالخلافة يوم جلولاء؟) قال: (نعم) قال: (فلما ملت عني إلى ابن الزبير؟)
فقال: (رأيته يريد الله ورأيتك تريد الدنيا فلذلك ملت إليك) فقال: (قد
عفوت عنك) .
وفي سنة 46 قال البلاذري: أول من غزا صقلية معاوية بن حديج بعث إليها
عبد الله بن قيس ففتحها وأصاب فيها أصناما من الذهب والفضة مكللة بجوهر
فحملت إلى معاوية ابن أبي سفيان فبعث بها إلى الهند فأخذ ثمنها فأنكر
الناس عليه ذلك إنكاراً كلياً وكان العامل على بلاد أفريقية من قبل
معاوية ابن أبي سفيان معاوية بن حديج الكندي.
وفي سنة 47 عزل معاوية ابن أبي سفيان عبد الله بن عمرو بن العاص عن مصر
وولاها معاوية بن حديج الكندي وكان عثمانياً فسار متوجهاً إليها من
أفريقيا وكان قد قتل محمد ابن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فلقية
عبد الرحمن ابن أبي بكر فقال له (يا معاوية قد أخذت أجره من معاوية ابن
أبي سفيان حين قتلت محمد ابن أبي بكر الصديق ليوليك مصر فقد ولاكها)
فقال (ما قتلت محمد ابن أبي بكر لولاية وإنما قتلته لما فعل بعثمان -
رضي الله عنه - وفي سنة 48 كان العامل على مصر وأفريقية لمعاوية ابن
أبي سفيان معاوية ابن حديج.
(1/18)
وفي سنة 49 غزا عقبة بن نافع الفهري الروم
في البحر بأهل مصر وفيها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة وأمر
عليها سعيد بن العاص وكانت ولاية مروان المدينة لمعاوية ثماني سنين
وشهرين. وفي سنة 50 من الهجرة عزل معاوية بن سفيان معاوية بن حديج عن
أفريقية وافره على ولاية مصر ووجه إلى أفريقية عقبة بن نافع الفهري.
ذكر ولاية عقبة بن نافع أفريقية
وغزواته فيها واختطاطه مدينة القيروان
نسبه هو عقبة بن نافع بن عبد قبس بن لقبط بن عامر بن أمية بن طرف بن
الحارث بن فهر ومن فهر بن مالك تفرقت القبائل وقال ابن أبي الفياض أن
عقبة ولد قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنة واحدة قال
إبراهيم بن القاسم: ووصل عقبة بن نافع الفهري إلى أفريقية في عشرة آلاف
من المسلمين فافتتحها ودخلها ووضع السيف في أهلها فإنني من بها من
النصارى ثم قال (إن أفريقية إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام فإذا
خرج منها رجع من كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر فأرى لكم يا معشر
المسلمين أن تتخذوا بها مدينة تكون غزا للإسلام إلى آخر الدهر) فاتفق
الناس على ذلك وأن يكون أهلها مرابطين وقالوا (نقرب من البحر ليتم لنا
الجهاد والرباط) فقال عقبة (إني أخاف أن يطرقها صاحب القسطنطينية بغتة
فيملكها ولكن اجعلوا بينها وبين البحر ما لا يدركه صاحب البحر إلا وقد
علم به) وإذا كان بينها وبين البحر ما يوجب فيه التقصير للصلاة فهم
مرابطون فلما اتفق رأيهم على ذلك قال (قربوها من السبخة فإن دوابكم
الإبل وهي التي تحمل أثقالكم فإذا فرغنا منها لم يكن لنا بد من
(1/19)
الغزو والجهاد حتى يفتتح الله لنا منها
الأول فالأول وتكون إبلنا على باب قصرنا في مراعيها آمنة من عادية
البربر والنصارى) قال الاشبيلي في مسالكه (إن البربر حين دخلوا المغرب
وجدوا الإفرنج قد سبقوهم إليه فأخلوهم حتى اصطلحوا على أن يسكن البربر
الجبال وتسكن الإفرنج الاوطئة فبنوا المدائن بها. (رجع الخبر) وفي سنة
51 شرع عقبة - رضي الله عنه - في ابتداء بناء مدينة القيروان وأجابه
العري إلى ذلك ثم قالوا (إنك أمرتنا ببناء في شعاري وغياض لا ترام ونحن
نخاف من السباع والحيات وغير ذلك) وكان في عسكره ثمانية عشر رجلاً من
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائرهم من التابعين. فدعا
الله سبحانه وأصحابه يؤمنون على دعائه ومضى إلى السبخة وواديها ونادى
(أيتها الحيات والسباع نحن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فارحلوا عنا فأنا نازلون ومن وجدناه بعد هذا قتلناه) فنظر الناس بعد
ذلك إلى أمر معجب من أن السباع تخرج من الشعرى وهي تحمل أشبالها سمعاً
وطاعة والذئب يحمل جروه والحية تحمل أولادها. ونادى في الناس (كفوا
عنهم حتى يرحلوا عنها) فلما خرج ما فيها من الوحش والسباع والهوام
والناس ينظرون إليها حتى أوجعهم حر الشمس فلما لم يروا منها شيئاً
دخلوا فأمرهم أن يقطعوا الشجر فأقام أهل أفريقية بعد ذلك أربعين عاما
لا يرون فيها حياً أو عقرباً ولا سبعاً فاختط عقبة أولا دار الإمارة ثم
أتى إلى موضع المسجد الأعظم فاختطه ولم يحدث فيها بناء فكان يصلي فيه
وهو كذلك فاختلف عليه الناس في القبلة وقالوا (إن جميع أهل المغرب
يضعون قبلتهم على قبلة هذا المسجد فأجهد نفسك في تقويمها) فأقاموا
أياما ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم ومشارق الشمس فلما رأى
أمرهم قد اختلف بات مغموماً فدعا الله - عز وجل - أن يفرج عنهم فأتاه
آت في منامه فقال له (إذا أصبحت
(1/20)
فخذ اللواء في يدك واجعله على عنقك فإنك
تسمع بين يديك تكبيراً ولا يسمعه أحد من المسلمين غيرك فانظر الموضع
الذي ينقطع عنك فيه التكبير: فهو قبلتك ومحرابك وقد رضي الله لك أمر
هذا العسكر وهذا المسجد وهذه المدينة وسوف يعز الله بها دينه ويذل بها
من كفر به) فاستيقظ من منامه وهو جزع فتوضأ للصلاة وأخذ يصلي وهو في
المسجد ومعه أشراف الناس فلما أفجر الصبح وصلى ركعتي الصبح بالمسلمين
إذا بالتكبير بين يديه فقال لمن حوله (أتسمعون ما أسمع؟) فقالوا (لا)
فعلم أن الأمر من عند الله فأخذ اللواء فوضعه على عنقه وأقبل يتبع
التكبير حتى وصل إلى موضع المحراب فانقطع التكبير فركز لواءه وقال (هذا
محرابكم) فاقتدى به سائر مساجد المدينة ثم أخذ الناس في بناء الدور
والمساكن والمساجد وعمرت وشد الناس إليها المطايا من كل أفق وعظم قدره
وكان دورها ثلاثة عشر ألف ذراع وستمائة ذراع حتى كمل أمرها. وكان عقبة
خير وال خير أمير مستجاب الدعوة. وفي سنة 55 استعمل معاوية ابن أبي
سفيان على مصر وأفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري وعزل معاوية بن حدريج
عن مصر وعزل عقبة بن نافع عن أفريقية فكانت ولايته عليها أربعة أعوام
وكان معاوية قد ولى مسلمة مصر فلما ولي مسلمة الآن أفريقية عزل منها
عقبة وولى عليها مولاه أبا المهاجر ديناراً وبقي هو صاحب مصر جمع ذلك
كله معاوية له من أطراف إقليم مصر إلى طنجة وهو أول من جمع له المغرب
كله فلم يزل واليا عليه حتى هلك معاوية
ولاية أبي المهاجر أفريقية وعزل عقبة
لما جمع معاوية ولاية المغرب لمسلمة بن مخلد استعمل عليه مولاه ديناراً
ويكنى أبا المهاجر وعزل عقبة عن أفريقية فقيل لمسلمة بن مخلد
(1/21)
والي مصر لو استعملت عقبة وأقررته على
أفريقية؟ فإن له فضلاً وسابقاً وهو الذي بنى القيروان فقال مسلمة (إن
أبي المهاجر كأحدنا صبر علينا في غير ولاية ولا كبير نيل فنحن نحب أن
نكافئه ونصطنعه) فقدم أبي المهاجر أفريقية فأساء عزل عقبة ونزل خارجا
عن المدينة وكره أن ينزل الموضع الذي اختطه عقبة ومضى حتى خلفه بميلين
مما يلي طريق تونس فاختط بها المدينة وأراد أن يكون له ذكرها ويفسد عمل
عقبة فبنى مدينة وأخذ في عمرانها وأمر الناس أن تحرق القيروان ويعمروا
مدينته فخرج عقبة منصرفاً وأدركه الخير في الطريق فتوجه إلى المشرق
آسفاً على أبي المهاجر ودعا الله عليه أن يمكنه منه فبلغت أبي المهاجر
دعوته فقال (هو عبد لا ترد دعوته) ولم يزل أبي المهاجر خائفاً منه
نادماً على ما فعل معه ولما قدم عقبة على معاوية قال له (فتحت البلاد
ودانت لي وبنيت المنازل واتخذت مسجداً للجماعة وسكنت الناس ثم أرسلت
عبد الأنصار فأساء عزلي) فاعتذر له معاوية وقال له (قد عرفت مكان مسلمة
بن مخلد من الإمام عثمان وبذله مهجته صابراً محتسباً طع من أطاعه من
قومه ومواليه وأنا أرددك إلى عملك) وتراخى الأمر حتى توفي معاوية وأفضى
الأمر إلى يزيد ابنه فلما علم حال عقبة قال (أدركها قبل أن تفسد) فرده
والياً على أفريقية وقطعها على مسلمة بن مخلد والي مصر. وفي سنة 56 من
الهجرة دعا معاوية بن أبي سفيان إلى بيعة يزيد وجعله ولي عهده من بعده
فانقاد له الناس كلهم إلا خمس نفر (الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير
وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عباس -
رضي الله عنهم -) . وفي سنة 57 عزل معاوية مروان عن المدينة واستعمل
الوليد بن عقبة
(1/22)
وكان العامل على مصر وأفريقية مسلمة بن
مخلد وولى مسلمة على أفريقية أبو المهاجر وبقى الحال على ذلك إلى وفاة
معاوية. وفي سنة 60 توفي معاوية بن أبي سفيان يوم الجمعة منتصف رجب وهو
ابن اثنين وثمانين سنة وتولى الخلافة من بعده يزيد ابنه وتلقب
بالمستنصر بالله في بعض الأقوال وكنيته أبو خالد وقد ذكرنا أخباره في
تأليف وفي سنة 61 كان مقتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - وفيها
أظهر عبد الله بن الزبير الخلافة بمكة وخلع طاعة يزيد بن معاوية
وخبرهما. وفي سنة 62 ولى يزيد بن معاوية على بلاد أفريقية والمغرب كله
عقبة ابن نافع الفهري وهي ولايته الثانية على أفريقية.
ذكر فتح المغرب الأقصى على يد عقبة وغزواته
فرحل عقبة من الشام ومعه خمسة وعشرون رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فلما مر على مسلمة بن مخلد صاحب مصر خرج إليه واعتذر
من فعل أبي المهاجر وأقسم له إنه خالفه فيما صنع وإنه كان قد أوصاه
بتقوى الله وحسن السيرة وأن يحسن عشرة عقبة فقبل منه عقبة ومضى خنقاً
على أبي المهاجر حتى قدم أفريقية فأوثق أبي المهاجر في الحديد وأمر
بتخريب مدينته التي بناها ورد الناس إلى القيروان وركب في وجوه العسكر
ومن معه من الصحابة والتابعين فدار بهم حول مدينة القيروان وهو يدعو
لها ويقول (يا رب املأها عابدين واملأها بالمطيعين لك واجعلها عزاً
لدينك وذلاً على من كفر بك) ثم عزم - رضي الله عنه - على الغزو في سبيل
الله وترك بها جندا من المسلمين واستخلف عليهم زهير بن قبس البلوي وكان
رجلاً صالحاً ودعا عقبة أولاده فقال لهم إني قد بعت نفسي من الله - عز
وجل - وعزمت على من كفر به حتى أقتل فيه وألحق به ولست أدري أتروني بعد
يومي هذا) .
(1/23)
وفي سنة 76 كان حدوث السكة في الإسلام وأمر
أمير المؤمنين عبد الملك بضرب الدنانير والدراهم بنقش الإسلام. وفي سنة
77 ثار المطرف بن المغيرة بن شعبة على عبد الملك بن مروان فكايده عبد
الملك واحتال عليه إلى أن قتل وفيها كان قتل رؤساء الخوارج.
ولاية حسان بن النعمان أفريقية والمغرب
وفي سنة 78 قدم حسان بن النعمان أفريقية اختاره لها عبد الملك بن مروان
وقدمه على عسكر فيه أربعون ألف أقامه أولاً في مصر بالعسكر عدة لما
يحدث ثم كتب إليه يأمره بالنهوض إلى أفريقية ويقول له (أني قد أطلقت
يدك في أموال مصر فأعط من معك ومن ورد عليك وأعط الناس واخرج إلى بلاد
أفريقية على بركة الله وعونه) .
بعض أخبار حسان بن النعمان
نسبه: هو حسان بن النعمان بن عدي بن بكر بن مغيث بن عمرو بن مزيقيا بن
عامر بن الازد قدم أفريقية في عسكر عظيم فلم يدخل المسلمون قط أفريقية
بمثل ما دخلها حسان بن نعمان فلما حصل القيروان سأل أهل أفريقية (من
اعظم ملوك بها قدراً؟) فقالوا (صاحب قرطاجنة دار ملك أفريقية فسار
نعمان حتى نزل عليها وكان بها من الروم خلق لا يحصى كثرة فخرجوا إليه
مع ملكهم فقاتلهم حسان بن نعمان حتى هزمه وقتل أكثرهم ثم نازلها حتى
افتتحها وهي كانت دار الملك بأفريقية. ذكر قرطاجنة أفريقية ويسميها أهل
تونس اليوم بالمعلقة وكانت قرطاجنة مدينة عظيمة تضرب أمواج البحر سورها
وهي من مدينة تونس على اثني عشر ميلاً وكان بينهما قرى متصلة عامرة
وكان البحر لم يخرق إلى
(1/34)
تونس وإنما انخرق بعد ذلك وفي هذه المدينة
آثار عظيمة وأبنية ضخمة وأعمدة ثابتة غليظة تدل علة عظم قدرة الأمم
الدائرة وأهل تونس إلى الآن لا يزالون يطلعون في خرابها على أعاجيب
ومصانع لا تنقطع بطول الأزمان لمتأمل. فلما قدم حسان إليها وقتل
فرسانها ورجالها اجتمع رأي من بقي بها على الفرار منها وكانت لهم مراكب
كثيرة فمنهم من مضى إلى صقلية ومنهم مضى إلى الأندلس فلما انصرف عنها
حسان وعلم أهل بواديها وأقاليمها هروب الملك عنها بادروا إليها فدخلوها
فرحل إليها حسان ونزل عليها فحاصرها حصاراً شديداً حتى دخلها بالسيف
فقتلهم قتلاً ذريعاً وسباهم ونهيهم وأرسل لمن حواليها فاجتمعوا إليه
مسارعين خوفاً من عظيم سطوته وشدة بأسه فلما أتوه ولم يبق منهم أحد
أمرهم بتخريب قرطاجنة وهدمها فخربوها حتى صارت كأمس الغابر ثم بلغه أن
النصارى اجتمعوا وأمدهم البربر بعسكر عظيم في بلاد صطفورة فرحل إليهم
حسان حتى لقيهم وقاتلهم حتى هزمهم وقتل الروم والبربر قتلاً ذريعاً
وحمل عليهم أعنة خيله فما ترك في بلادهم موضعاً إلا وطئه ولجأ الروم
هاربين خائفين باجة فتحصنوا بها وهرب البربر إلى إقليم بونة وانصرف
حسان إلى القيروان.
خبر حسان مع الملكة الكاهنة وهزيمتها له
لما دخل حسان القيروان أراح بها أياماً ثم سأل أهلها عمن بقي من أعظم
ملوك أفريقية ليسير إليه فيبيده أو يسلم فدلوه على امرأة بجبل أوراس
يقال لها الكاهنة وجميع من بأفريقية من الروم منها خائفون وجميع البربر
لها مطيعون (فإن قتلتها دان لك المغرب كله ولم يبق لك مضاد ولا
معانداً) فدخل بجيوشه إليها وبلغ الكاهنة خبره فرحلت من الجبل في عدد
لا يحصى ولا يبلغ بالاستقصاء وسبقته إلى مدينة باغاية فأخرجت منها
(1/35)
الروم وهدمتها وظنت أن حسان يريد مدينة
ليتحصن بها فبلغ خبرها حساناً فنزل بوادي مسكيانة فرجلت الكاهنة حتى
نزلت على الوادي المذكور فكان هو يشرب من أعلى الوادي وهي من اسله فلما
توافت الخيل دنا بعضهم من بعض فأبى حسان أن يقاتلها آخر النهار فبات
الفريقان ليلتهم على سروجهم فلما أصبح الصباح التقى الجمعان فقاتلوا
قتالاً لم يسمع بمثله وصبر الفريقان صبراً لم ينته أحد إليه إلى أن
انهزم حسان بن النعمان ومن معه من المسلمين وقتلت الكاهنة العرب قتلاً
ذريعاً وأسرت ثمانين رجلاً من أعيان أصحابه وسمي ذلك الوادي وادي
العذارى واتبعته الكاهنة حتى خرج من عمل قابس فكتب حسان إلى أمير
المؤمنين عبد الملك يخبره بذلك وإن أمم الغرب ليس لها غاية ولا يقف أحد
منها على نهاية كلما بادت أمة خلفتها أمم وهي من الجهل والكثرة كسائمة
النعم فعاد له جواب أمير المؤمنين يأمره أن يقيم حيثما وافاه الجواب
فورد عليه في عمل برقة فأقام بها وبنى هنالك قصوراً تسمى إلى الآن
بقصور حسان.
وملكت الكاهنة المغرب كله بعد حسان خمس سنين فلما رأت إبطاء العرب عنها
قالت للبربر إن العرب إنما يطلبون من أفريقية المدائن والذهب والفضة
ونحن إنما نريد منها المزارع والمراعي فلا نرى لكم إلا خراب بلاد
أفريقية كلها حتى ييئس منها العرب فلا يكون لهم رجوع إليها إلى آخر
الدهر فوجهت قومها إلى كل ناحية يقطعون الشجر ويهدمون الحصون فذكروا أن
أفريقية كانت ظلاً واحداً من طرابلس إلى طنجة وقرى متصلة ومدائن منظمة
حتى لم يكن في أقاليم الدنيا أكثر خيرات ولا أوصل بركات ولا أكثر مدائن
حصوناً من إقليم أفريقيا والمغرب مسيرة ألف ميل في مثله فخربت الكاهنة
ذلك كله وخرج يومئذ من النصارى والأفارقة خلق
(1/36)
كثير يستغيثون بما نزل بهم من الكاهنة
فتفرقوا على الأندلس وسائر الجزر البحرية. وكانت الكاهنة لما أسرت
ثمانين رجلاً من أصحاب حسان أحسنت إليهم وأرسلت بهم إلى حسان وحبست
عندها خالد بن يزيد فقالت له يوماً: (ما رأيت في الرجال أجمل منك ولا
أشجع وأنا أريد أن أرضعك فتكون أخاً لولدي) وكان له ابنان أحدهما بربري
والآخر يوناني وقالت له (نحن جماعة البربر لنا رضاع: إذا فعلناه نتوارث
به) فعمدت إلى دقيق الشعير فلثته بزيت وجعلته على ثديها ودعت ولديها
وقالت (كلا معه على ثديي) ففعلا فقالت (قد صرتم اخوة) .
ذكر مقتل الكاهنة الملكة
ثم إن حسان توافت عليه فرسان العرب ورجالها من قبل أمير المؤمنين عبد
الملك فدعا حسان عند ذلك برجل يشق به وبعثه إلى خالد بن يزيد بكتاب.
فقراه وكتب في ظهره (أن البربر متفرقون لا نظام لهم ولا رأى عندهم فأطو
المراحل وجدوا في السير) وجعل الكتاب في خبزة وجعلها زاداً للرجل ووجهه
بها إلى الأمير حسان فلم يغب عن خالد بن زيد إلا يسيراً حتى خرجت
الكاهنة ناثرة شعرها تضرب صدرها وتقول (يا ويلكم يا معشر البربر ذهب
ملككم فيما يأكله الناس) فافترقوا يميناً وشمالاً يطلبون الرجل فساره
الله تعالى حتى وصل حساناً فكسر الخبزة وقرأ الكتاب الذي كتب إليه خالد
فوجده قد أفسدته النار فقال له حسان: (ارجع إليه) فقال الرجل: (إن
المرأة كاهنة: لا يخفى عليها شيء من هذا) فرحل حسان بجنوده إليه وبلغ
الكاهنة خبره فرحلت من جبل أوراس في خلق عظيم ورحل إليها حسان فلما كان
في الليل قالت لبنيها: (إني مقتولة) وأعلمتهم أن رأسها مقطوع موضوعاً
بين يدي ملك العرب
(1/37)
الأعظم الذي بعث حساناً فقال لها خالد:
(فارحلي بنا وخلي له عن البلاد) فامتنعت ورأته عاراً لقومها فقال لها
خالد وأولادها (فما نحن صانعون بعدك؟) فقالت: (أما أنت يا خالد فستدرك
ملكاً عظيماً عند الملك الأعظم وأما أولادي فيدركون سلطاناً مع هذا
الرجل الذي يقتلني ويعقدون للبربر غرائم) ثم قالت: (اركبوا واستأمنوا
إليه) فركب خالد وأولادها في الليل وتوجهوا إلى حسان فأخبرها خالد
بخبرها وإنها عملت قتلها، وقد وجهت إليك بأولادها فوكل بهما من يحفظهما
وقدم خالد على أعنة الخيل وخرجت الكاهنة ناشرة شعرها فقالت انظروا ما
دهمكم فأني مقتولة ثم التحم القتال واشتد الحرب والنزال فانهزمت
الكاهنة واتبعها حسان حتى قتلها. وكان مع حسان جماعة من البربر
استأمنوا إليه فلم يقبل أمانهم إلا أن يعطوه من قبائلهم اثني عشر ألفا
يجاهدون مع العرب فأجابوه وأسلموا على يديه فعقد لولدي الكاهنة لكل
واحد منهما على ستة آلاف فارس وأخرجهم مع العرب يجولون في المغرب
يقاتلون الروم ومن كفر من البربر وانصرف حسان إلى مدينة القيروان بعد
ما حسن إسلام البربر وطاعتهم وذلك في شهر رمضان سنة 83 وفي هذه السنة
استقامت بلاد أفريقية لحسان بن النعمان فدون الدواوين وصالح على الخراج
وكتبه على عجم أفريقية وعلى من أقام معهم على دين النصرانية. وأقام
حسان بعد قتل الكاهنة لا يغزو أحداً ولا ينازعه أحداً ثم عزله عبد
العزيز بن مروان الوالي على مصر وكان الوالي على مصر يولي على أفريقية
فعزل حساناً وأمره بالقدوم عليه فعلم حسان ما أراد عبد العزيز بن مروان
أخو عبد الملك فعمد إلى الجوهر والذهب والفضة فجعله في قرب الماء وأظهر
ما سوى ذلك من الأمتعة وأنواع الدواب والرقيق
(1/38)
وسائر أنواع الأموال فلما قدم على أمير مصر
عبد العزيز بن مروان أهدى إليه مائتي جارية من بنات ملوك الروم والبربر
فسلبه عبد العزيز جميع ما كان معه من الخيل والأحمال والأمتعة والوصائف
والوصفان ورحل حسان بالأثقال التي بقيت له حتى قدم على الوليد فشكا له
ما صنع به عبد العزيز فغضب الوليد على عمه عبد العزيز ثم قال لحسان لمن
معه: (ائتوني بقرب الماء) ففرغ منها من الذهب والفضة والجوهر والياقوت
ما استعظمه الوليد وعجب من أمر حسان فقال له الوليد (جزاك الله خيراً
يا حسان) فقال (يا أمير المؤمنين إنما خرجت مجاهداً في سبيل الله وليس
مثلى يخون الله والخليفة) فقال له الوليد: (أنا أردك إلى عملك وأحسن
إليك وأثق بك) فحلف حسان (لا أولي لبني أمية أبداً) فغضب الوليد بن عبد
الملك على عمه عبد العزيز. وكان حسان يسمى الشيخ الأمين وغزوات حسان لم
تنضبط بتاريخ محقق ولا فتحه لمدينة قرطاجنة وتونس ولا قتله للكاهنة
وذكر ابن قطان أن عزل حسان وولاية موسى بن نصير كان من قبل عبد العزيز
بن مروان دون أمر أخيه عبد الملك ولا مشورته.
ذكر ولاية أبي عبد الرحمن موسى بن نصير
أفريقية والمغرب وبعض أخباره رحمة الله
عليه
نسبه: قيل إنه من لخم وقيل من بكر بن وائل وذكر ابن بشكوال في كتاب
(الصلة) له إنه موسى بن نصير بن عبد الرحمن بن زيد وكان موسى على خراج
البصرة قدمه عليها عبد الملك بن مروان فاحتجن الأموال على ما ذكره
لنفسه فأوصى الحجاج به ألا يفوته فخافه موسى وقصد إلى عبد
(1/39)
العزيز بن مروان صاحب مصر لانقطاع كان منه
إليه فتوجه عبد العزيز مع موسى إلى الشام فوفدا على عبد الملك فأغرمه
عبد الملك مائة ألف دينار فغرم عنه عبد العزيز نصفها وعاد مع عبد
العزيز إلى مصر فولاه منها أفريقية.
فأول فتوحه قلعة غزوان ونواحيها وبينها وبين القيروان مسيرة يوم كامل
وبنواحي غزوان قبائل بربر بعث إليهم موسى خمسمائة فارس ففتحها الله
فبلغ سببهم عشرة آلاف وهو أول سبي دخل القيروان في ولاية موسى ثم وجه
ابناً له اسمه عبد الله إلى بعض نواحي أفريقية فأتى بمائة ألف رأس من
السبي ثم وجه ابنه مروان فأتى بمثلها فكان الخمس يومئذ ستين ألفا فكتب
موسى إلى عبد العزيز يعلمه بالفتح ويعلمه أن الخمس بلغ ثلاثين ألفا
وكان ذلك وهماً من الكاتب: كتب ثلاثين ألفا بدلا من ستين ألفا فلما قرأ
عبد العزيز بن مروان الكتاب وأن الخمس من السبي ثلاثون ألفا استكثر ذلك
ورأى إنه وهم من الكاتب لكثرته فكتب إلى موسى يقول له: (إنه قد بلغني
كتابك تذكر أن خمس ما فاء الله عليك ثلاثون ألف رأس فاستكثرت ذلك
وظننته وهماً من الكاتب فاكتب بالحقيقة) فكتب إليه موسى (قد كان ذلك
وهماً من الكاتب على ما ظنه الأمير والخمس أيها الأمير ستون ألف رأس
ثابتاً بلا وهم) فلما بلغه الكتاب عجب كل العجب وامتلئ سروراً وقد كان
عبد الملك كتب إلى أخيه عبد العزيز (قد بلغ أمير المؤمنين ما كان من
رأيك في عزل حسان وتوليه موسى وقد أمضى لك أمير المؤمنين ما كان من
رأيك وولاية من وليت) فكتب عبد العزيز إلى أخيه يعلمه بالفتح وكتاب
موسى ثم وجه عبد الملك رجلاً إلى موسى ليقبضن ذلك منه على ما ذكر فدفع
موسى إليه مثل ذلك وزاد ألفا وكان موسى عند وصوله إلى أفريقية لما صار
في الجيش الأول أتى عصفور حتى نزل على صدره فاخذ به موسى وذبحه ولطخ
بدمه صدره
(1/40)
من فوق الثياب وطرحه على نفسه وقال (هو
الفتح ورب الكعبة) . قال ابن قتيبة: فتح موسى بن نصير سجومه وقتل
ملوكها وأمر أولاد عقبة: عياضاً وعثمان وأبا عبدة أن يأخذوا حقهم من
قاتل أبيهم فقتلوا من أهل سجومه ستمائة رجل من كبارهم ثم قال لهم:
(كفوا) فكفوا وذلك سنة 83 (على قول من قال أنه ولي فيها) . ثم فتح موسى
هوارة وزناته وكتامه فأغار عليهم وقتلهم وسباهم فبلغ سبيهم خمسة آلاف
رأس وكان عليهم رجل يقال له طامون فبعث به موسى إلى عبد العزيز بن
مروان فقتله عند البركة التي عند قرية عقبة فسميت بركة طامون إلى اليوم
وكانت قد قدمت على موسى فولى عليهم رجلاً منهم وأخذ منهم رهائن من
خيارهم. وفي سنة 85 توفى عبد العزيز بن مروان صاحب ملك مصر من قبل أخيه
عبد الملك بن مروان ووليها عبد الله بن مروان أخو عبد الملك وكان عبد
الملك بن مروان أراد أن يخلع أخاه عن مصر في هذه السنة على ما فعل من
عزل حسان بن النعمان وفيئه فنهاه قبيصة بن ذويب وقال (لعل الموت يأتيه
فنستريح منه) فكف عبد الملك عنه وبقيت نفسه تنازعه أن يخلعه فبينا هو
على ذلك وروح بن زنباع الجذامي يقول له يوماً: (لو خلعته ما انفطح فيه
عنزان) إذ دخل عليهما قبيصة فقال) (آجرك الله يا أمير المؤمنين في أخيك
فقال (وهل توفي؟) قال: (نعم) فقال عبد الملك: (كفانا الله يا أبا زرعة
ما كنا أجمعنا عليه) وكانت وفاة عبد العزيز في جمادى الأول من السنة
المؤرخة. وفي سنة 86 توفي عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين فكتب
الوليد إلى عمه عبد الله بن مروان بولاية موسى بن نصير أفريقية والمغرب
وقطعها عن عمه وكانت أكثر مدن أفريقية خالية باختلاف البرابر عليها.
(1/41)
فتح المغرب الأقصى على يد الأمير أبي عبد
الرحمن موسى بن نصير
ثم خرج موسى - رحمه الله - غازياً من أفريقية إلى طنجة فوجد البربر قد
هربوا إلى الغرب خوفاً من العرب فتبعهم وقتلهم قتلاً ذريعاً وسبى منهم
سباً كثيراً حتى بلغ السوس الأدنى وهو بلاد درعة فلما رأى البربر ما
نزل بهم استأمنوا وأطاعوا فولى عليهم والياً واستعمل مولاه طارقاً على
طنجة وما والاها في سبعة عشر ألف من العرب واثني عشر ألف من البربر
وأمر العرب أن يعلموا البربر القرآن وأن يفقهوهم في الدين ثم مضى موسى
قافلاً إلى أفريقية. قال ابن القطان: وذكر أن موسى بن نصير بعث أثر
بيعته للوليد في هذه السنة المؤرخة زرعة بن أبي مدرك إلى قبائل من
البربر فلم يلق حرباً منهم فرغبوا في الصلح منه فوجه رؤساءهم إلى موسى
بن نصير فقبض رهونهم ثم عقد لعياش بن اخيل على مراكب أفريقية فمشى في
البحر إلى صقلية فأصاب مدينة يقال لها سرقوسة فغنمها وجميع ما بها وقفل
سالماً غانماً. ولما حمل أبو مدرك زرعة بن أبي زرعة رهائن المصامدة
جمعهم موسى مع رهائن البربر الذين أخذهم إلى أفريقية والمغرب وكانوا
على طنجة وجعل عليهم مولاه طارقاً ودخل بهم جزيرة الأندلس وترك موسى بن
نصير سبعة عشر رجلاً من العرب يعلمونهم القرآن وشرائع الإسلام وقد كان
عقبة بن نافع ترك فيهم بعض من أصحابه يعلمونهم القرآن والإسلام: منهم
شاكر صاحب الرباط وغيره ولم يدخل المغرب الأقصى أحد من ولاة خلفاء بني
أمية بالمشرق إلا عقبة بن نافع الفهري ولم يعرف المصامدة غيره وقيل أن
أكثرهم أسلموا طوعاً على يديه ووصل موسى بن نصير بعده.
(1/42)
وفي سنة 93 من الهجرة جاز طارق إلى الأندلس
وافتتحها بمن كان معه من العرب والبرابر ورهائنهم الذين ترك موسى عنده
والذين أخذهم حسان من المغرب الاوسط قبله. وكانت ولاية طارق على طنجة
والمغرب الأقصى في سنة 85 وفي هذا التاريخ تم إسلام أهل المغرب الأقصى
وحولوا المساجد التي كان بناها المشركون إلى القبلة وجعلوا المنابر في
مساجد الجماعات وفيها صنع مسجد اغمات هيلانة. ونسب طارق: هو طارق بن
زياد بن عبد الله بن ولغو بن ورنجوم بن نبرغاسن بن ولهاص بن بطوفت بن
نفزاو فهو نفزي ذكر إنه من سبي البربر وكان مولى موسى بن نصير وفي سنة
92 جاز موسى بن نصير إلى الأندلس فعبر البحر غاضباً على طارق ومشى على
غير طريقه وفتح فتوحاً كثيرة يقع ذكرها إن شاء الله في الجزء الثاني من
هذا الكتاب في فتح الأندلس. وفيها ولى عبد الله بن موسى أفريقية عوضاً
من أبيه حين توجه إلى الأندلس إلى أن وصل أبوه منها متوجهاً إلى المشرق
فقدم مدينة قيروان في أواخر سنة 95. وفي سنة 95 انصرف موسى من الأندلس
إلى أفريقية بما أفاء الله عليه فأجاز الأموال من الذهب والفضة والجوهر
في المراكب إلى طنجة ثم حملها على العجلات.
قال الرفيق: كانت وسق مائة عجلة وأربع عشرة عجلة وفيها المائدة وكانت
من ذهب يشوبه شيء من فضة مطوفة بثلاثة أطواق: طوق ياقوت وطوق زبرجد
وطوق جوهر وحملت يوماً على بغل عظيم أفره وأقوى ما وجد فما بلغ المرحلة
حتى تفسخت قوائمه. قال الليث بن سعد: لم يسمع بمثل سبايا موسى بن نصير
في الإسلام.
(1/43)
ولما قدم عليه ابنه من السوس خرج للقائه مع
وجوه الناس فلما التقيا قال مروان بن موسى لرجاله: (مروا لكل من خرج مع
والدي بوصيف أو وصيفة) وقال موسى: (مروا أنتم لهم من عندي بمثل ذلك)
فرجع الناس كلهم بوصيف أو وصيفة ومن أخبار موسى بن نصير أيضاً - رحمه
الله - لما انصرف من الأندلس ولى عليها ابنه عبد العزيز وشخص قافلاً
إلى أفريقية فقدم القيروان في آخر سنة 95 فلم يدخلها ونزل بقصر الماء
ثم قعد في مجلسه وجاءته جيوش العرب من القيروان فمنهم من سافر معه
ومنهم مع تخلف مع ابنه عبد الله بأفريقية فقال لأصحابه: (أصبحت اليوم
في ثلاث نعم: منها كتاب أمير المؤمنين بالشكر والثناء ثم وصف ما جرى
الله على يديه من الفتوحات ثم كتاب ابني عبد العزيز يصف ما فتح الله
عليه في الأندلس بحمد الله تعالى. فقاموا إليه فهنئوه وما الثالثة فأنا
أريكموها وقام فأمر برفع الستر فإذا فيه جوار مختلفات كأنهن البدور
الطوالع من بنات ملوك الروم والبربر عليهن الحلي والحلل) فهنئ أيضاً
بذلك فقال علي ابن رباح السلمي (أيها الأمير أنا انصح الناس إليك: ما
من شيء انتهى إلا ورجع فارجع قبل أن يرجع إليك) قال: فانكسر موسى وفرق
جواريه من حينه على الناس.
ثم رحل إلى المشرق وخلف على أفريقية ابنه عبد الله وعلى الأندلس ابنه
عبد العزيز وعلى طنجة ابنه عبد الملك وقال ابن القطان: الأكثرون يقولون
أن مستقر طارق قبل محاولة الأندلس كان طنجة ومنهم من يقول كان بموضع
سجلماسة وإن سلا وما ورائها من أرض فاس وطنجة وسبتة كانت للنصارى قال:
واختلف الناس هل دخل موسى القيروان في هذه الوجهة أم لا. ثم رحل عنها
مه بقية أولاده: مروان، وعبد الأعلى وغيرهما ومعه أشراف الناس من قريش
والأنصار وسائر العرب ومن وجوه البربر مائة
(1/44)
منهم كسيلة بن لمزم وبنو يسور ومزدانة ملك
السوس وملك مبورقة ومتورقة ومن أولاد الكاهنة ومائة من وجوه ملوك
الأندلسيين وعشرون ملكاً من ملوك المدائن التي افتتحها بأفريقية وخرجوا
معه بأصناف ما كان في كل بلد من طرفها حتى انتهى إلى مصر فلم يبق بها
فقيه ولا شريف إلا وصله وأعطاه ثم خرج من مصر متوجها إلى فلسطين فتلقاه
آل روح بن زنباع ونحروا له خمسين بعيراً ثم خرج وترك لهم عندهم بعض
أهله وصغار ولده فأعطى آل روح بن زنباع عطاء جزلا ثم وافاه كتاب
الخليفة الوليد بن عبد الملك يأمره بشد السير إليه ليدركه في قيد
الحياة وكان مريضاً ووفاه كتاب من سليمان بن عبد الملك ولي عهد أخيه
الوليد يأمره بالتأني والتربص فأسرع موسى ولم ينظر في كتاب سليمان إلى
أن وصل إلى الوليد قبل موته بثلاث أيام فقال سليمان: (لئن ظفرت به
لأصلبنه) فدفع موسى الأموال والمائدة والدر والياقوت والتيجان والذهب
والفضة إلى الوليد بن عبد الملك. وقال المسعودي في كتابه (عجائب البلاد
والزمان) قال: لما فتح طارق طليطلة وجد بها بيت الملوك ففتحه فوجد فيه
زبور داود - عم - في ورقات الذهب مكتوباً بماء ياقوت محلول من عجيب
العمل الذي لم يكد ير مثله ومائدة سليمان - عم - وقد تقدم وصفها ووجد
فيه أربعة وعشرين تاجاً منظمة بعدد ملوك القوطيين بالأندلس: إذا توفي
أحدهم جعل تاجه بذلك البيت وفعل الملك بعده لنفسه غيره جرت عوائدهم على
ذلك ووجد فيه قاعة كبيرة مملوءة بإكسير الكيمياء فحمل ذلك كله إلى
الوليد بن عبد الملك. وفي سنة 96 توفى الوليد بن عبد الملك في جمادى
الأخير وولي الخلافة سليمان فغضب على موسى غضباً عظيماً وأمر عليه
فأوقف في يوم شديد الحر في الشمس وكان رجلاً بادناً ذا نسمة فوقف حتى
سقط مغشياً
(1/45)
عليه وقال له سليمان (كتبت إليك فلم تنظر
كتابي هلم مائة ألف دينار) قال (يا أمير المؤمنين قد أخذتم ما كان معي
من الأموال فمن أين لي مائة ألف دينار؟) قال: (لابد من مائتي ألف)
فاعتذر فقال (لا بد من ثلاثمائة ألف دينار) وأمر بتعذيبه وعزم على قتله
فاستجار بيزيد ابن المهلب وكانت له حظوة عند سليمان فاستوهبه منه وقال
(يؤدي ما عنده) وقيل أن موسى افتدي من سليمان بألف ألف دينار ذكر ذلك
بن حبيب وغيره ثم أن يزيد بن المهلب سهر ليلة مع الأمير موسى فقال له:
(يا أبا عبد الرحمن في كم كنت تعتد أنت وأهل بيتك من الموالي والخدام؟
أتكونون في ألف؟) فقال (نعم) وألف ألف إلى منقطع النفس قال (فلم ألقيت
بنفسك إلى التهلكة؟ أفلا أقمت في قرار عزك وموضع سلطانك؟ والله لو أردت
ذلك لما أنالوا من أطرافي شيئاً ولكني آثرت الله - عز وجل - ورسوله ولم
أر الخروج عن الطاعة) وقيل أن سليمان بن عبد الملك بعد ما افتدي منه
موسى دعا يوماً بطست من ذهب فرآه موسى ينظر إليه فقال له: (يا أمير
المؤمنين إنك لتعجب من غير عجب والله ما أحسب أن فيه عشرة آلاف دينار
والله لو بعثت إلى أخيك الوليد بتنور من زبرجد أخضر كان يصب فيه اللبن
فيخضر ولقد قوم بمائة ألف دينار ولقد أصبت كذا بكذا) وجعل يكثر عليه في
ذلك حتى بهت الأمير من قوله. وكان مولد موسى بن نصير سنة 19 ووفاته سنة
98 فكان عمره تسعاً وسبعين سنة وفي سنة 88 ولي أفريقية فأقام عليها
أميراً وعلى الأندلس والمغرب كله نحو ثمان عشر سنة إلى أن مات ومما ذكر
في وفاته أنه حج مع سليمان فلما وصلا المدينة قال موسى بن نصير
لأصحابه: (ليموتن بعد غد رجل قد ملئ ذكره المشرق والمغرب) فمات موسى في
ذلك اليوم.
(1/46)
ولاية محمد بن يزيد
أفريقية والمغرب
قال الواقدي: ثم أن أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك قال لرجاء بن
حيوة: (أريد رجلاً له فضل في نفسه أوليه أفريقية) ، فقال له: (نعم)
فمكث أياماً ثم قال: (قد وجدت رجلاً له فضل) قال: (من هو؟) قال: (محمد
بن يزيد مولى قريش) فقال: (أدخله علي) فأدخله عليه فقال سليمان: (يا
محمد بن يزيد اتق الله وحده لا شريك له وقم فيما وليتك بالحق والعدل
وقد وليتك أفريقية والمغرب كله) قال فودعه وانصرف وهو يقول: (ما لي عذر
عند الله ما لم أعدل) وفي سنة 97 من الهجرة استقر محمد بن يزيد
بأفريقية بأحسن سيرة وأعدلها ثم وصله الأمر بأخذ عبد الله موسى بن نصير
وتعذيبه واستئصال أموال بني موسى فسجنه محمد وعذبه ثم قتله بعد ذلك
وكان سليمان قد أمره بأخذ أهل موسى وولده وكل من تلبس به واستئصال
أموالهم وتعذيبهم حتى يؤدوا ثلاثمائة ألف دينار وتولى قتل عبد الله بن
موسى خالد ابن أبي حبيب القرشي وأما عبد العزيز بن موسى فخلع دعوة بني
مروان واستبد بأمره لما بلغه ما نزل بأبيه وأخيه وأهل بيته وجاءت الكتب
إلى حبيب بن أبي عبده ووجوه العرب من سليمان بن عبد الملك يأمرهم بقتله
فقتلوه وحمل رأسه ورأسه أخيه عبد الله حتى وضعا بين يدي أبيهما موسى
وهو في عذابه فكان فعل سليمان هذا بموسى وبنيه وقد فعل من الفتح في
الإسلام ما فعل من هفوات سليمان التي تزل تنقم عليه. واستعمل محمد بن
يزيد على الأندلس الحر بن عبد الرحمن الثقفي وكانت الأندلس إذ ذاك إلى
والى أفريقية كما كان أيضاً والي أفريقية من قبل والي مصر وكان محمد بن
يزيد يبعث بسرية إلى ثغور أفريقية فما أصابه قسمه عليهم وكانت ولايته
سنتين واشهر.
(1/47)
وفي سنة 99 توفي سليمان بن عبد الملك
واستخلف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يوم وفاته فاستعمل على
أفريقية إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم. وفي سنة
100 ولي إسماعيل بن أبي المهاجر أفريقية من قبل أمير المؤمنين عمر بن
عبد العزيز فكان خير أمير وخير وال وما زال حريصاً على دعاء البربر إلى
الإسلام حتى اسلم بقية البربر بأفريقية على يده في دولة عمر بن عبد
العزيز وهو الذي علم أهل أفريقية الحلال والحرام وبعث معه عمر - رضي
الله عنه - عشرة من التابعين أهل علم وفضل منهم عبد الرحمن بن نافع
وسعد بن مسعود التجيبي وغيرهما وكانت الخمر بأفريقية حلالاً حتى وصل
هؤلاء التابعون فبنوا تحريمها - رضي الله عنه -. وفيها استخلف إسماعيل
بن أبي المهاجر على الأندلس السمح بن مالك الخولاني فكان حلوله بها في
رمضان من السنة. وفي سنة 101 توفي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -
بدير سمعان لست خلون من شعبان فكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وولي
الخلافة بعده يزيد ابن عبد الملك فولى على أفريقية يزيد بن أبي مسلم
مولى الحجاج بن يوسف وصاحب شرطته. وفي سنة 102 قدم إلى أفريقية والياً
عليها يزيد ابن أبي مسلم وكان ظلوماً غشوماً وكان البربر يحسنونه فقام
على المنبر خطيباً فقال (أني رأيت أن أرسم اسم حرسي في أيديهم كما نصنع
ملوك الروم يحرسها فأرسم في يمين الرجل اسمه وفي يساره حرسي ليعرفوا
بذلك من بين سائر الناس فإذا وقفوا على أحد أسرع لما أمرت به) فلما
سمعوا ذلك منه أعني حرسه اتفقوا على قتله وقالوا: (جعلنا بمنزلة
النصارى) فلما خرج من داره إلى المسجد لصلاة المغرب قتلوه في مصلاه
فتكلم في رجل
(1/48)
يقوم بأمرهم حتى يأتيهم أمر الخليفة
فتراضوا بالمغيرة بن أبي بردة وكان شجاعاً كبيراً فقال له ابنه عبد
الله: (إن يزيد ابن أبي مسلم قتل بحضرتك فإن قمت بهذا الأمر اتهمت
بقتله ولكن الرأي أن نتراضى لمحمد ابن أوس الأنصاري) وكان غازياً
بصقلية فلم يلبث يسيراً حتى قدم بغنائم قد أصابها فقلدوه أمر الخليفة
فكتب إلى يزيد بن عبد الملك يخبره بما حدث من الأمر فاستعمل على
أفريقية بشر بن صفوان.
ولاية بشر بن صفوان أفريقية
هو بشر بن صفوان بن توبل بن بشر بن حنظلة بن علقمة بن شراحبل ابن عزيز
ابن خالد ولي أفريقية سنة 103 فاستصفى بقايا آل موسى بن نصير ووفد بعد
ذلك إلى يزيد ابن عبد الملك فألفاه قد هلك. وفي سنة 105 هلك يزيد بن
عبد الملك في ربيع الأول وولى هشام بن عبد الملك فرد بشر بن صفوان إلى
أفريقية فلما قدمها ولي على الأندلس عنبسة بن سحيم الكلبي ثم أن بشر بن
صفوان غزا بنفسه صقلية فأصاب بها سبياً كثيرا وقفل إلى القيروان فلما
حضرته الوفاة قالت جاريته: (وا شماتة الأعداء) فقال لها: (قولي للأعداء
لا يموت) واستخلف العباس بن باضعة الكلبي. وفي سنة 107 ولي بشر بن
صفوان على الأندلس يحي بن سلمة الكلبي فقدمها في شوال وفي هذه السنة
اختلط أمر ولاة مصر اختلاطا كثيراً وفي سنة 109 توفي بشر بن صفوان والى
أفريقية بمدينة القيروان فكانت ولايته سبع سنين وبقى نائبه على
القيروان حتى وصل وال من قبل الخليفة هشام بن عبد الملك.
(1/49)
ولاية عبيدة بن عبد
الرحمن السلمي أفريقية والمغرب
وهو ابن أخي أبي الأعور السلمي صاحب خيل معاوية بصفين فقدم أفريقية سنة
110 في ربيع الأول فدخل القيروان فجأة وذلك يوم الجمعة فألفى خليفة بشر
بن صفوان قد تهيأ لشهود الجمعة ولبس ثيابه فقيل له: (هذا عبيدة قد قدم
أميراً) فقال: (لا حول ولا قوة إلا بالله هكذا تقوم الساعة بغتة) وألقى
بنفسه فما حملته رجلاه ودخل عبيدة فأخذ عمال بشر وأصحابه فحبسهم
وأغرمهم وعذب بعضهم. وفي سنة 110 ولى عبيدة بن عبد الرحمن المذكور
عثمان بن أبي نسمة على الأندلس فقدمها في شعبان. وفي سنة 111 قدم إلى
الأندلس والياً أيضاً من قبل عبيدة بن عبد الرحمن صاحب أفريقية والمغرب
كله حذيفة بن الاحوص القيسي وقيل: الاشجعي وذلك في غرة محرم من السنة
المذكورة. وفي سنة 112 ولى عبيدة المذكور على الأندلس أيضاً الهيثم بن
عبيد الكناني فقدمها في محرم أيضاً من هذه السنة ثم توفي سنة 114 وكانت
ولايته سنتين وأياماً ولما أخذ عبيدة عمال بشر وأصحابه وأغرمهم وعذبهم
كان فيهم أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي وكان شريفاً في قومه مع
صفاحة وبراعة وكان ولي في أفريقية ولايات كبيرة في أيام بشر بن صفوان
فعزله عبيدة ونكل به فقال طويل:
أفألم بني مروان فيها دماءنا ... وفي الله إن لم تنصفوا حكم عدل
كأنكم لم تشهدوا مرج راهط ... ولم تعلموا من كان ثم له الفضل
تعاميتم عنا بعين جلية ... وأنتم كذا ما قد علمنا لنا فعل
(1/50)
وبعث بهذه الأبيات إلى الخليفة هشام بن عبد
الملك فأمر هشام بعزل عبيدة من أفريقية والمغرب فقفل منه واستخلف عقبة
بن قدامة وذلك في شوال سنة 114 فكان ملك عبيدة بأفريقية أربع سنين وستة
أشهر وتوجه إلى الشام سنة 114 بهدايا وتحف عظيمة وبقي خليفته على
القيروان ستة أشهر. وفي سنة 113 كان عمال أفريقية والأندلس الذين كانوا
في السنة قبلها ثم ولي الأندلس عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي فغزا
الروم واستشهد مع جماعة من عسكره سنة 115 بموضع يعرف ببلاط الشهداء
وفيها أصاب الناس مجاعة عظيمة.
ولاية عبيد الله بن الحبحاب أفريقية
والمغرب كله
وهو مولى بن سلول وكان رئيساً نبيلاً وأميراً جليلاً بارعاً في الفصاحة
والخطابة حافظاً لأيام العرب وأشعارها ووقائعها فقدم أفريقية في ربيع
الآخر من سنة 116 وهو الذي بنى المسجد الجامع ودار الصناعة بتونس وكان
أول الأمر كاتباً ثم تناهت به الحال إلى ولاية مصر وأفريقية والأندلس
والمغرب كله فاستخلف على مصر ابنه القاسم واستعمل على الأندلس عقبة بن
الحجاج السلولي واستعمل على طنجة وما والاها من المغرب الأقصى ابنه
إسماعيل ثم عمر بن عبد الله المرادي.
وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري غازياً إلى السوس
الأقصى فبلغ أرض السودان ولم يقابله أحد إلا ظهر عليه ولم يدع بالمغرب
قبيلة إلا داخلها وأصاب من السبي أمراً عظيماً ووجد جاريتين ليس لكل
واحدة منهما إلا ثدي واحد ثم رجع سالماً ظافراً فغزا صقلية وظفر بأمر
لم يره مثله.
ثم أن عمر بن عبد الله المرادي عامل طنجة وما والاها أساء السيرة
(1/51)
وتعدى في الصدفات والعشر وأراد تخميس
البربر وزعم أنهم فيء المسلمين وذلك ما لم يرتكبه عامل قبلة وإنما كان
الولاة يخمسون من لم يجب للإسلام فكان فعله الذميم هذا سبباً لنقض
البلاد ووقوع الفتن العظيمة المؤدية إلى كثير القتل في العباد نعوذ
بالله من الظلم الذي هو وبال على أهله.
فلما علم البربر خروج حبيب بن أبي عبيدة إلى بلاد الروم نقضوا الطاعة
لعبيد الله بن الحبحاب بطنجة وأقاليمها وتداعت برابر المغرب بأسره
فثارت المغرب بالمغرب الأقصى فكانت أول ثورة فيه وفي أفريقية في
الإسلام.
وفي سنة 122 كانت ثورة البربر بالمغرب فخرج ميسرة المدغري وقام على عمر
بن عبد الله المرادي بطنجة فقتله وثارت البرابر كلها مع أميرهم ميسرة
الحقير ثم خلف ميسرة على طنجة عبد الأعلى بن حديج وزحف إلى إسماعيل بن
عبيد الله بن الحبحاب إلى السوس فقتله ثم كانت وقائع كثيرة بين أهل
المغرب الأقصى وأهل أفريقية يطول ذكرها وكان المغرب حينئذ قوم ظهرت
فيهم دعوة الخوارج ولهم عدد كثير وشوكة كبيرة وهم برغواطة وكان السبب
في ثورة البربر وقيام ميسرة إنها أنكرت على عامل ابن الحبحاب سوء سيرته
كما ذكرنا وكان الخلفاء بالمشرق يستحبون طرائف المغرب ويبعثون فيها إلى
عامل أفريقية فيبعثون لهم البربر السنيات فلما أفضى الأمر إلى ابن
الحبحاب مناهم بالكثير وتكلف لهم أو كلفوه اكثر مما كان فأضطر إلى
التعسف وسوء السيرة فحينئذ عدة البرابر على عاملهم فقتلوه وثاروا
بأجمعهم على ابن الحبحاب.
وكان لعبيد الله بن الحبحاب أولاد قد أعجبتهم أنفسهم قدم عقبة بن
الحجاج عليهم وكان أبو عقبة قد عانق الحبحاب والد عبيد الله فلما دخل
(1/52)
عقبة على عبيد الله وأقعده على سريره فلما
خرج عقبة من عنده أنكر عليه ذلك أولاده فقال لهم: (ما رأيكم) فقالوا
(إن تعطيه شيئاً وتصرفه عنا فلا يكسر شرفنا فقال لهم: (نعم) فلما كان
في غد أمر الناس فدخلوا عليه ودخل عقبة في جملتهم فقام إليه وأجلسه على
سريره ووقف قائماً فقال: (أيها الناس إن بني هؤلاء غرتهم غرة الشيطان
لعزة السلطان وأرادوا أمرا أخرج به عن الحق وأنكروا ما رأوا من بري
بهذا الرجل وإنما أخبركم أنه مولاي وأن أباه أعتق أبي وإن أكره كتمان
أمر الله - سبحانه - شهيد به علي) ثم خير عقبة في ولاية ما شاءه من
سلطانه فاختار الأندلس فولاه عليها وذلك في سنة 116 وأقام بها إلى سنة
121 وقام عليه عبد الملك بن قطن الفهري فخلعه وقيل: بل هو استخلفه.
رجع الخبر إلى ميسرة المدغري رأس الصفرية أمير الغرب: لما بلغ عبيد
الله بن الحبحاب قتل عامله وولده كتب إلى حبيب ابن أبي عبدة يأمره
بالرجوع من صقلية ليأخذ في الحركة مع أهل أفريقية إلى ميسرة وولى ابن
الحبحاب على عسكر أفريقية وأشرافهم ووجوههم خالد ابن أبي حبيب الفهري
فشخص إلى ميسرة ووصل حبيب ابن أبي عبدة في أثره وسار خالد حتى عبر وادي
شلف وهو بمقربة تيهرت ثم قدم حبيب فنزل على مجاز الوادي المذكور فلم
يبرح منه ومضى خالد من فوره حتى لقي ميسرة بمقربة من طنجة فاقتتل معه
قتالاً شديداً لم يسمع قط بمثله ثم انصرف ميسرة إلى طنجة فأنكرت البربر
عليه سوء سيرته وتغيره عما كانوا بايعوه عليه.
قال الرفيق: وكان ميسرة قد تسمى بالخلافة وبويع عليها فقتلوه وولوا
أمرهم بعده خالد بن حميد الزناتي فالتقى خالد بن أبي حبيب بالبربر فكان
بينهم قتال شديد فبينا هم كذلك إذ غشيهم خالد بن حميد الزناتي من خلفهم
(1/53)
بعسكر عظيم، فتكاثرت عليهم البربر؛ فانهزم
العرب وكره خالد بن أبي حبيب أن يهرب؛ فألقى بنفسه هو وأصحابه إلى
الموت أنفة من الفرار. فقُتل ابن أبي حبيب ومن معه، حتى لم يبق من
أصحابه رجل واحد. فقُتل في تلك الوقعة حماة العرب، وفرسانها، وكماتها،
وأبطالها؛ فسميت الغزوة غزوة الأشراف؛ فانتفضت البلاد. وبلغ أهل
الأندلس ثورة البربر؛ فوثبوا على أميرهم؛ فعزلوه وولوا عبد الملك بن
فطن. فاختلت الأمور على ابن الحبحاب؛ فاجتمع الناس عليه وعزلوه. وبلغ
ذلك الخليفة هشام بن عبد الملك فقال: (والله لأغضبن لهم غضبة عربية
ولأبعثن جيشاً أوله عندهم وآخره عندي) ثم كتب إلى ابن الحبحاب بقدومه
عليه؛ فخرج في جمادى الأولى من سنة 123.
ولاية كلثوم بن عياض إفريقية
ومقاتلته مع أمير المغرب خالد بن حُميد الزّناني
لما بلغ هشام بن عبد الملك انتقاض البلاد الغربية والأندلسية، بعث
كلثوم بن عياض هذا إلى أفريقية، وعقد له على اثني عشر ألفا من أهل
الشام. وكتب إلى والي كل بلد أن يخرج معه بمن معه. فصارت عمال مصر
وطرابلس وبرقة معه حتى قدم أفريقية في رمضان سنة 123. فنكب عن
القيروان. وكان على طلائعه بلجُ بن بشر القشيري ابن عمه. فلما وصل بلج
قال لأهل أفريقية (لا تغلقوا أبوابكم، حتى يعرف أهل الشام منازلكم) ومع
ذلك كلام كثير يغيظهم به. فكتبوا إلى حبيب بن أبي عبدة يعرّفونه بمقالة
بلج. فكتب إلى كلثوم: (إن ابن عمك السفيه قال كذا وكذا. فارحل بعسكرك
عنهم، وإلا حولنا أعنة الخيل إليك!) فكتب كلثوم يعتذر إليه ويأمره أن
يقيم بشلف حتى يقدم عليه. فاستخلف كلثوم على القيروان عبد الرحمن بن
(1/54)
عقبة الغفاري، وسار حتى عسكر حبيب، فرفضه
واستهان به، وسب بلج بن بشر لحبيب وتنقصه وقال: (هذا الذي يحول أعنة
الخيل إلينا) فقام إليه عبد الرحمن بن حبيب وقال (يا بلج هذا حبيب!
فإذا شئت فاعرض له للمقابلة!) وصاح الناس (السلاح! السلاح!) فمال أهل
أفريقية إلى ناحية. ومعهم أهل مصر. ثم سعى بينهم الصلح. فكان هذا
الاختلاف سبب هلاكهم، مع سوء رأي كلثوم وبلج.
ولما قدم كلثوم على وادي سنبو، وهو في ثلاثين ألفا، وقال ابن القطان:
فيهم عشرة آلاف من صلب بني أمية، وعشرون ألفا من سائر العرب. فتوجه
إليهم خالد بن حميد الزناتي الذي تولى الأمر بعد ميسرة. فوجه كلثوم
بلجا ليلا ليوقع بالبربر. فسرى ليلته، وأوقع بهم عند الصباح؛ فخرجوا
إليه عراة؛ فهزموه ووصلوا إلى كلثوم. فأمر بدبدبان فنصب له، وقعد عليه.
ثم نشب القتال، وقعدت البربر تحت الدرق، ونشبت الخيلُ الخيلَ العرب خيل
البربر؛ ثم انكشفت خيل العرب، وألتفت الرجال بالرجال. فكان صبر وقتال.
وخالطت خيل البربر ورجّالتُهم كلثوم وأصحابه. فقتل كلثوم، وحبيب بن أبي
عبدة، وسليمان بن أبي المهاجر. ووجوه العرب. فكانت هزيمة أهل الشام إلى
الأندلس، وهزيمة أهل مصر وأفريقية إلى أفريقية.
قال ابن القطان: لما بعث هشام بن عبد الملك كلثوما واليا على أفريقية
والمغرب، وأمره بالجد والاجتهاد في أمرها، إذ كانوا بين أمية يجدون في
الدريات أن الملك القائمين عليهم لا يجاوز الزاب. فتوهموا إنه زاب مصر،
وإنما كان زاب أفريقية. وعهد إليه في سدها وضبطها، وعهد أن حدث بكلثوم
حدث أن يكون ابن أخيه بلج مكانه. فدارت بينه وبين البربر حروب، هزموا
في بعضها كلثوم بن عياض وقتلوه، وصار أمر العرب بأفريقية إلى بلج
بالعهد المذكور. ولجأ فلهم إلى سبتة، وبقوا بها حتى ضاق عليهم الأمر؛
فكاتب
(1/55)
بْج وأصحابه عبد الملك بن قطن أمير
الأندلس، وسألوه إدخالهم الأندلس. فلم يأمنهم عبد الملك، ومطلهم
بالميرة والسفن. ثم أضطر إلى إدخالهم الأندلس بعد ذلك، لسبب أشرحه في
الجزء الثاني إن شاء الله؛ وهو موضعه في أخبار الأندلس. فكاتبهم، وشرط
عليهم إقامة سنة في الأندلس، ثم يخرجون عنها. فرضوا بذلك؛ وكانوا نحو
عشرة آلاف من عرب الشام.
ولما دخلوا الأندلس وأقاموا فيها سنة، ترفهوا بها. فأمرهم عبد الملك
بالخروج منها، كما أشترط عليهم. فامتنعوا، وقتلوا عبد الملك بن قطن،
واستولى بلج على الأندلس، وبقي بها أحد عشر شهرا، أميرا. وقد شرحنا
أمره في أخبار الأندلس في الجزء الثاني وقال الرقيق: لم ينهزم من أهل
أفريقية إلا عبد الرحمن بن حبيب؛ فإنه جاز على الأندلس؛ فقال لأميره
عبد الملك بن قطن: (هؤلاء أهل الشتم يقلون: ابعث لنا مراكب نجوز فيها،
وهم، إن جازوا إليك، لم بأمنهم عليك!) فلما أجازهم إليها، ما لبثوا
فيها إلا سنة حتى وثبوا عليه مع بلج. فكانت بينهم اثنتا عشرة وقيعة،
وكلها على عبد الملك بن قطن حتى قتله بلج واستولى على الأندلس.
وفي سنة 124، قتل بلج بالأندلس، ووليها ثعلبة بن سلامة العاملي، وأعقده
أصحاب بلج مكانه بما عهد به هشام إليهم، وبايعوه. فثار في أيامه بقايا
البربر بمادرِة؛ فغزاهم ثعلبة، وقتل منهم خلقا كثيرا وأسر منهم نحو
الألف، وانصرف إلى قرطبة. فكانت ولايته عشرة أشهر. وفيها كان ابتداء
ظهور برغواطة.
ذكر برغواطة وارتدادهم عن الإسلام
قال ابن القطان وغيره: كان طريف من ولد شمعون ابن إسحاق وإن الصفيرة
رجعت إلى مدينة القيروان لنهبها استباحتها في ثلث مائة
(1/56)
ألف من البربر مع أمير منهم. وكانوا قد
اقتسموا بلاد أفريقية وحريمها وأموالها؛ فهزمهم الله تعالى بأهل
القيروان، وهم في أثنى عشر ألف مقاتل، نصرهم الله تعالى عليهم؛ وخبرهم
طويل، يمنع من إيراده هنا خيفة التطويل،. وكان طريف هذا من جملة قواد
هذا العسكر؛ وإليه تنسب جزيرة طريف. فلما هزمهم الله بأهل القيروان،
تفرقوا، وقتل من قتل منهم، وتشتت جمعهم، سار طريف إلى تامسنا، وكانت
بلاد بعض قبائل البربر. فنظر إلى شدة جهلهم؛ فقام فيهم، ودعا إلى نفسه.
فبايعوه وقدموه على أنفسهم. فشرع لهم ما شرع، ومات بعد مدة. وخلف من
الولد أربعة. فقدم البربر ابنه صالحا. فأقام فيهم على الشرع الذي شرعه
أبوه طريف. وكان قد حضر مع أبيه حرب ميسرة الحقير ومغرور بن طالوت
الصفريين. فأدعى إنه أنزل عليهم قرآنهم، الذي كان يقرءونه؛ وقال لهم
إنه صالح المؤمنين، الذي ذكره الله في كتابه العزيز. وعهد صالح إلى
ابنه الياس بديانته، وعلمه شرائعه وفقهه من دينه، وأمره ألا يظهر
الديانة حتى يظهر أمره، وينتشر خبره، فيقتل حينئذ من خالفه. وأمره،
موالاة أمير المؤمنين بالأندلس. وخرج صالح إلى المشرق، ووعده إنه يرجع
في الدولة السابع من ملوكهم، وزعم إنه الهدي الذي يكون في أخر الزمان
لقتال الدجال وأن عيسى - عم - يكون من رجاله وأنه يصلي خلفه. وذكر في
ذلك كلاما نسبه إلى موسى - عم -.
فولى بعد خروجه إلى المشرق ابنه الياس خمسين سنة. فكتم شريعته إلى سنة
172. فخرج عن ذلك كله من أمر صالح وابنه أن ابتداءه كان في هذه السنة،
أو التي قبلها، وما يأتي بعدها من السنين، إذ خمسون سنة أخرها سنة 172،
مبدأها سنة 124 أو نحوها، والله أعلم.
(1/57)
ولاية حنظلة بن
صفوان أفريقية والمغرب كله
ولما بلغ أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك قَتْلُ كلثوم بن عياض
وأصحابه بعث إلى أفريقية والمغرب حنظلة بن صفوان الكلبي. وكان عامله
على مصر ولاه عليها سنة 119. فقدمها في شهر ربيع الآخر منها. فبعث إليه
أهل الأندلس أن يبعث إليهم عاملا، فوجه إليهم أبا الخطار حسام بن ضرار
الكلبي. فسار في البحر من تونس إلى الأندلس، واليا عليها. فقدمها في
رحب، وسأذكر خبره في أخبار الأندلس إن شاء الله.
ومن أخبار حنظلة أمير أفريقية مع بعض القبائل الغربية: وذلك لما استقر
حنظلة بالقيروان، لم يمكث فيها إلا يسيرا، زحف إليه عكاشة الصفري
الخارجي، في جمع عظيم من البربر، وزحف أيضا إلى حنظلة عبد الواحد بن
يزيد الهواري في عدد عظيم. وكانا افترقا في الزاب. فأخذ عكاشة على طريق
مجانسة. فنزل في القيروان، وأخذ عبد الواحد على طريق الجبال، وعلى
مقدمته أبو قرة المغيلي. فرأى حنظلة أن يعجل قتال عكاشة، قبل أن يجتمعا
عليه. فزحف إليه بجماعة أهل القيروان. فالتقوا بالقرن، وكان بينهم قتال
شديد فهزم الله عكاشة ومن معه، وقتل من البربر ما لا يحصى كثرة، وقيل
إن حنظلة لما رأى ما دهمه من البربر قال لأصحابه: (نستمد أمير
المؤمنين!) فقال له شاب جميل الوجه: (بل نخرج إلى عدونا حتى يحكم الله
بيننا!) فعزم حنظلة، وخرج فهزم الله عكاشة في خبر طويل.
قال عبد الله بن أبي حسان: فأخرج حنظلة كل ما في الخزائن من السلاح
وأحضر الأموال، ونادى في الناس فأول من دخل عليه، رجل من بحصب فقال له:
(نصر بن ينعم!) قال: فتبسم حنظلة كالمكذب له وقال له (بالله أصْدُق!)
فقال (والله) مالي أسم غير ما قلت لك فتفاءل به وقال (نصر وفتح) فأعطى
الناس وخرج
(1/58)
لمقابلة الصفرية وهم بالخوارج. فكان بينه
وبينهم حرب يطول ذكرها، فالتحم فيها القتال، وتداعى الأبطال ولزم
الرجالة الأرض، فلا تسمع إلا وقع الحديد على الحديد، وتقابض الأيدي
بالأيدي. وكانت كسرة على ميسرة العرب، ثم انكسرت ميسرة البربر وقلبهم،
ثم كرت العرب على ميمنة البربر، فكانت الهزيمة. وسيق إلى حنظلة رأس عبد
الواحد، وأخذ عكاشة أسيرا، فأتى به إلى حنظلة، فقتله وخر لله ساجدا.
وقيل إنه ما علم في الأرض مقتله كانت أعظم منها. أراد حنظلة أن يحصى من
قُتل، وأمر بعدهم. فما فدر على ذلك. فأمر بقَصَبٍ فطرح قصبة على كل
قتيل. ثم جمعت القصب، وعُدّت، فكانت القتلى مائة ألف وثمانين ألفا.
وكانوا صفرية يستحلون النساء وسفك الدماء.
وكتب بذلك حنظلة إلى أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك. فسر بذلك سرورا
عظيما. وكان الليث بن سعد يقول: (ما من غزوة كنت أحب أن أشهدها، بعد
غزوة بدر، أحب إلي من غزوة القرن والأصنام) .
وفي سنة 125، توفي أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بعلة الذبحة.
وعماله في هذه السنة هم الذين كانوا في السنة قبلها، ومن جملتهم حفص بن
الوليد على مصر، وحنظلة بن صفوان على أفريقية والمغرب، وأبو الخطار على
الأندلس. ثم استخلف بعده الوليد بن يزيد، يوم موت هشام بن عبد الملك،
وذلك يوم الأربعاء لست خلون من ربيع الأخر.
وفي سنة 126 توفي الوليد بن يزيد مقتولا يوم الخميس لليلتين بقيتا من
جمادى الآخرة، قتله يزيد بن الوليد المسمى بالناقص واستخلف يزيد ولم
يكن في أيامه في هذه السنة بأفريقية أمر. وبويع بدمشق وجعل العهد نعده
لابنه إبراهيم بن يزيد فأقام نحو شهر ونصف، ثم خلع نفسه لمروان الجعدي.
فقيل إنه نبش على يزيد بن الوليد وأخرجه من قبره وصلبه.
(1/59)
انتزاء عبد الرحمن
بن حبيب الفهري بإفريقية
وبعض أخباره
كان عبد الرحمن بن حبيب هذا قد هرب إلى الأندلس. عند هزيمته من الوقيعة
التي قتل فيها أبوه حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع، مع كلثوم بن
عياض. فلم يزل. وهو بالأندلس، يحاول أن يتغلب عليها. فلم يمكنه ما
أراد، إلى أن وجهة حنظلة أبا الخطاب إليها، فخاف على نفسه، وخرج
مستترا، فركب البحر إلى تونس، فنزل بها، وذلك في جمادى الأولى سنة 127،
فدعا الناس إلى نفسه، فأجابوه. وأراد حنظلة الخروج إليه، والزحف
لقتاله. ثم كره قتال المسلمين. وكان ذات ورع ودين، فوجه إلى حنظلة
جماعه من وجوه أفريقية يدعونه إلى مراجعة الطاعة. فلما قدموا عليه.
أوثقهم في الحديد، وأقبل بهم إلى القيروان، وقال (أن رمى أحد من
أوليائهم بحجر، قتلتهم) وكانوا وجوههم ورؤساءهم. فلما رأى حنظلة ذلك
دعا القاضي والعدول، وفتح بيت المال؛ فأخذ منه ألف دينار، وترك الباقي،
وقال: (لا أتلبس منه ألا بقدر ما يكفيني ويبلغني) ثم شخص عن أفريقية في
سنة 139 في جمادى الأول. وأقبل عبد الرحمن حتى دخل القيروان، ونادى
مناديا: (لا يخرجن أحد مع حنظلة، ولا يشيعه) فرجع عنه الناس خوفا من
عبد الرحمن. ولما قفل حنظلة إلى الشرق، دعا على عبد الرحمن وعلى أهل
أفريقية، وكان مستجاب الدعوة. فوقع الوباء والطاعون بأفريقية سبع سنين،
لا يكاد يرتفع إلا مرة في الشتاء ومرة في الصيف.
وقال بعض المؤرخين أن مروان بن محمد الجعدي بعث إلى عبد الرحمن ابن
حبيب بولايته على أفريقية بعد تغلبه عليها.
ولما ولي عبد الرحمن، ثار عليها جماعة من العرب والبربر. ثم ثار عليها
(1/60)
عروة بن الوليد الصدفي؛ فستولى على تونس،
وثار عليها عرب الساحل، وقام عليه ابن عطاف الأزدي. وثارت. البربر في
الجبال الصنهاجية بباجة؛ فأخذها. فخرج إلها الياس بن حبيب، أخو عبد
الرحمن، في ستمائة فارس؛ ولم يظهر إنه خرج إليه، بل أعمل الحيلة مع
أخيه في ذلك. ولما وصل الجاسوس، قال: (إن القوم آمنون غافلون) خرج
العسكر إليهم؛ فقتل ابن عطاف وأصحابه، وأمعن عبد الرحمن بن حبيب في قتل
البربر، وأمتحن الناس بهم، ابتلاهم بقتل الرجال صبرا، يؤتي الأسير من
البربر، فيأمر من يتهمه بتحريم دمه بقتله، فيقتله. وكانت بأفريقية حروب
ووقائع يطول ذكرها.
وكان عبد الرحمن بن حبيب قد كتب إلى مروان بن محمد، وأهدى إليه
الهدايا. فكتب إلى مروان، يأمره بالقدوم عليه. ثم ضعف أمر بني أمية
بالمشرق، وأشتغل بحرب المسودة. فأقام عبد الرحمن بالقيروان، حتى كانت
سن 135. فغزا تسلمان، وخلف ابنه حبيبا على القيروان؛ فظفر بطوائف من
البربر، وعاد إلى القيروان. ثم أغزى صقلية. ثم بعث إلى (سر دانية) ؛
فقتل من بها قتلا ذريعا؛ ثم صالحوا على الجزية. وبعث إلى إفرنجة؛ فأتى
بسيها؛ ودوخ المغرب كله، وأذل من به من القبائل، لم يهزم له عسكر. ولا
ردت له راية. وداخل جميع أهل المغرب الرعب والخوف منه.
وقتل مروان بن محمد بالمشرق، وزالت دولة بني أمية. وبقي عبد الرحمن ابن
حبيب أمير أفريقية والمغرب. وهرب جماعة من بين أمية خوفا من بني
العباس، ومعهم حرمهم. فتزوج منهم عبد الرحمن وأخواته. وكان فيمن قدم
ابنا الوليد بن يزيد، وكانت ابنة عمها عند أليس بن حبيب، فأنزلهما عبد
الرحمن في دار؛ ثم أحتال في بعض الليالي؛ فأطلع عليهما من موضع خفي،
وهما على نبيذ، ومولاهما يسقياهما، إذ قال أحدهما: (أيظن عبد الرحمن
إنه يبقى أميرا معنا، ونحن أولاد الخليفة) فلما سمع هذا منه أنصرف. ثم
(1/61)
دعاهما، وأظهر لهما بشرا، حتى أتاهما من
أخبرهما أن عبد الرحمن سمع كلامهما. فركبا جملين وهربا فبعث عبد الرحمن
الخيل في طلبهما، وأدركا. فآمر بضرب أعناقهما. وكانت ابنة عمّهما عند
إلياس، فقالت له (قتل أختانك وأنت صاحب حربه وصاحب سيفه! وجعل العهد من
بعد عهده لحبيب ولده! فهذا تَهاون بك!) ولم تزل به حتى اجنمع رأي الياس
وأخيه عبد الوارث على قتل أخيهما عبد الرحمن. وهاودهما على ذلك جماعة
من أهل القيروان على ما يأتي ذكره.
وفي سنة 127 كان دخول عبد الرحمن بن حبيب هذا أفريقية ودعواه لنفسه،
كما تقدم. وفيها كان انتزاء ثُوابة بن سلامة بالأندلس، وبويع بها. وكان
قد هزم أبا الخطار سنة 125. وتم له الأمر في هذه السنة، لكن لا بعهد من
بني أمية ولا من بني العباس، بل عنوة بالسيف. وأقام معه الصميل؛ فكان
السلطان لثوابه للصميل.
وفي سنة 128، هلك أمير الأندلس ثوابه في شعبان، فكانت دولته نحو سنة،
حسب ما أذكر ذلك في أخبار الأندلس، أن شاء الله. فبقيت الأندلس دون
أمير أربعة أشهر. فأجتمع الناس على الصميل بن حاتم، فوقع نظره ونظرهم
على تقدين يوسف بن عبد الرحمن الفهري.
وفي سنة 129، أستقل يوسف الفهري بولاية الأندلس فكانت ولايته إياها عشر
سنين: فما من سنة من هذه السنيين ألا ويمكن أن يكون له فيها غزو، إذا
قالوا إنه واصل الجهاد؛ وسيأتي ذكره وخبره في خبر الأندلس إن شاء الله.
وفيها كانت بالأندلس حروب ووقائع وغلاة في الشعر. وقيل أن ولاية يوسف
كانت في صفر من هذه السنة، وإنهم كتبوا لعبد الرحمن بن حبيب عامل
القيروان؛ فأنفذ إليه عهد بولاية الأندلس.
وفي سنة 130، كان استيلاء أبي مسلم على مرو، وتفريقه كلمة العرب
(1/62)
واختياره اليمانية لنصرته، وتشريده المضرية
وكان له غزوات ومواقعات؛ وعبد الرحمن بن حبيب أمير أفريقيا كذلك، في
حروب ووقائع البربر.
وفي سنة 131 كان استيلاء أبي مسلم على خراسان، وعامل مصر وأفريقيا
والأندلس على ما كان عليه قبل ذلك. وفيها بني عبد الرحمن بن حبيب سور
مدينة طرابلس، وانتقل الناس إليها من كل مكان.
وفي سنة 132 كانت الوقعة التي هزم فيها الأمويون مع أبي هريرة، وفتح
العباسية للكوفة. ثم اتصلت الولايات العباسية والفتوح للبلاد الشرقية
وخروجها عن الأموية واحدا من بعد واحد. فقلت مروان بن محمد الجعدي في
هذه السنة، وانقطعت الدولة الأموية. وكانت دولتهم 91 سنة وتسعة أشهر
وخمسة أيام وهم أربعة عشر رجلا: منها أيام ابن الزبير تسع سنين واثنان
وعشرون يوما. ثم تفرقت بنو أمية في البلاد هربا بأنفسهم، وهرب عبد
الرحمن ابن معاوية إلى الأندلس. فبايعه أهلها وتجددت لهم بها دولة
استمرت إلى بعد الأربعة والعشرين والأربعمائة. فانقطعت دولتهم ست سنين
أو نحوها، من هذه السنة إلى حين دخول عبد الرحمن الأندلس. وجددها في
سنة 137. فإن صح أن عهد عبد الرحمن بن حبيب، صاحب القيروان وأفريقية من
قبل بني أمية، وصل إلى يوسف بن عبد الرحمن المتغلب على الأندلس، الذي
أدخل عبد الرحمن إليها وهو أميرها، فعلى هذا، كانت لهم دولة متصلة
بالأندلس. فتأمل هذا فإن إن صح بكته غريبة وفائدة عجيبة قال أبو محمد
بن حزم: انقطعت بني أمية. وكانت على علاتها دولة عربية، لم يتخذوا
قاعدة ولا قصبة. وإنما كان سكني كل أمير منهم في داره وضعيته التي كانت
له قبل خلافته، ولا كلفوا المسلمين أن يخاطبوهم بالعبودية والملك ولا
تقبيل يد ولا رجل، وأما كان غرضهم التولية والعزل في أقاصي البلاد؛
فكانت عمالهم وولاتهم في الأندلس، وفي الصين، وفي
(1/63)
السند، وفي خراسان، وأرمينية، واليمن،
والشام، والعراق، ومصر، والمغرب وسائر البلاد الدنيا، ما عدى الهند.
وانتقل الأمر إلى بني العباس في هذه السنة. قال ابن حزم في جملة كلامه
أيضا: فكانت دولتهم أعجمية: سقطت فيها دواوين العرب، وغلب عجم خراسان
على الأمر، وعاد الأمر مُلكا غضوضا كسرويا، إلا أنهم لم يعلنوا بسبب
أحد من الصحابة - رضوان الله عليهم - افترقت في دولة بني العاس دعوة
المسلمين وكلمتهم، فتغلبت على البلاد طوائف من الخوارج والشيعة
والمعتزلة ومن ولد إدريس وسليمان ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن
علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم أجمعين - ظهروا في المغرب الأقصى
وتملكوا فيه. ومنهم من ولد معاوية تغلبوا على الأندلس، وكثيرا من غيرهم
أيضا. وفي خلال هذه الأمور تغلبت الكفرة على أكثر بلاد الأندلس وأكثر
بلاد السند. وفي سنة 132 المذكورة كان المولون للعمال بالبلاد أربعة
أمراء: وهم مروان بن محمد وأبو سلمة الخلال، وأبو مسلم، وأبو العباس
السفاح. فأما مروان فعزل الوليد بن عروة عن المدينة، وولاها أخاه عيسى،
وأما أبو سلمة، فاستعمل محمد بن خالد على الكوفة إلى أن ظهر أبو العباس
السفاح ظهوراً تاما، وأما أبو مسلم، فهو كان السلطان الأعظم الذي لا
يرد أمره، وهو الذي قدم محمد بن الأشعث على فارس، وأمره أن يأخذ عمال
أبي سلمة فيضرب أعناقهم، ففعل ذلك، وأما أبو العباس، فوجه بعد ذلك
إسماعيل بن علي واليا على فارس، وأخاه أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية
وأذربيجان، وولى أخاه يحيى بن محمد عليّ على الموصل، وولى على مصر أبا
عون عبد الملك بن يزيد، وولى على أفريقية عبد الرحمن بن حبيب لأنه، لما
بلغته بيعة أبي العباس كتب إليه بالسمع والطاعة فأقره.
(1/64)
وفي سنة 133 ولى أبو العباس السفاح عمه
سليمان بن عليّ البصرة وأعمالها والبحرين وغير ذلك، وولى عمه إسماعيل
على الأهواز، وولى عمه داود المدينة، وولى عماله سائر البلاد الشرقية،
وأفريقية والأندلس على ما كانت عليه. وفي سنة 134 بعث أبو العباس
السفاح موسى ين كعب في اثني عشر ألفاً لقتال منصور بن جمهور من
المنتزين على العباس، فسار إليه حتى لحقه بأرض الهند، فهزمه ومن كان
معه، ومضى فمات عطشا في الرمال.
وفيها كان أيضا العزل والولايات بالمشرق. وبقى على مصر أبو عون وعلى
أفريقية عبد الرحمن بن حبيب، وعلى الأندلس يوسف الفهري.
وفي سنة 135 كانت غزوة عبد الرحمن بن حبيب صاحب أفريقية صقلية، فسبى
وغنم. وغزا أيضا سودانية، وصالحهم على الجزية. وغزا أرض البربر بجهة
تلمسان. ومدينة تلمسان قاعدة المغرب الأوسط وهي دار مملكة زناتة. قال
البكري: بنو يغمراسن من هوارة يعتدون في ستين ألفا. وتلمسان دار مملكة
زناتة على قديم الزمان، ومتوسط بلاد القبائل من زناتة وغيرهم ومقصد
النجار، ونزلها محمد بن سليمان من ذرية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه
- ومن ذريته أبي العيش عيس بن إدريس بن محمد بن سليمان الذي بنى مدينة
جراوة.
ونسب زناتة: قال أبو المجد المغيلى، وعلي بن حزم، وغيرهما: أن زناتة هم
أولاد جانا بن يحيى بن صلوات بن ورتناج بن ضرى بن سفكو بن قيدواد بن
شعبا بن مادغيس بن هود بن هرسق بن كداد بن مازيغ. وذكروا أن ضرى هو ابن
وزجيج بن مادغس بن بر، فولد ابن برنوس. وولد برنوس كتامة ومصمودة
واوربة ووزداجة واوزيغة، فولد أوزيغة هوارة، ومن قبيل هوارة بنو كهلان
ومليلة، وولد يحيى جذانا وسمجان وورسطيف، وولد جذانا ورسيج وولد ورسيج
مرين، وولد مرين نجد ونمالة، وولد ورسطيف
(1/65)
وركنة ومكناسة، وولد ضرى أيضا تمزيت، وولد
تمزيت مطماطة ومدغرة وصدينة ومغيلة وملزوزة، ومديونة، وولد وزجيج لاوى
الكبير، وولد لاوى الكبير لاوى الصغير ومغرواة وأيفرن وولد لارى الصغير
نفزاو وولد نفزاو يطوفت وولد لاوى الصغير أيض كطوف وولد كطوف ونبطط،
فولد ونبطط سدراتة وكانت سدراتة أخوان بني مغراوة لأمهم، وكان أولاد
مغراوة وبني يفرن من أعظم بطون زناتة.
قال رجال من كتابه: كان بنو مرين يسكون وراء تلمسان، وهو من زناتة، من
ولد جانا بن يحيى بن ضريس بن لوا بن نفزاو بن بتر بن قيس غيلان بن
الياس بن مضر. قال: وبنو مرين من العرب الصريحيون.
وفي سنة 136، كان ابتداء أبي العباس السفاح محاولة الغدر بأبي مسلمة،
وضفر أبي مسلم بمن حاول ذلك، وقتله لهم، وذلك في خبر طويل. وقيل: بل
كان ابتداء تلك المحولة في 135 قبلها. وقدم أبو مسلم في هذه السنة على
أبي العباس مستأذنا في الحج، فهم أبو العباس بقتله ثم انثنى على ذلك
وحج أبو مسلم وأبو جعفر.
وفيها توفي أبو العباس السفاح في ذي الحجة، بعد أن ولى العهد لأخيه أبو
جعفر المصور، فاستوسقت له الأمور، وبايعه الجمهور.
وفي 137، كان قدوم أبي جعفر المنصور من مكة، وتتميم بيعته، فدخل أبو
جعفر الكوفة وصلى الجمعة، ووافاه كاتب أبي مسلم بالحيرة، ثم شخص أبي
مسلم إلى الأنبار.
وفيها انتزى عبد الله بن عليّ على أخيه وامتنع من بيعته، فبعث إليه أبو
جعفر أبى مسلم، فحاربه. وفيها قتل المنصور أبا مسلم. وكيفية ذلك في
(تاريخ) أخبار المشرق.
(1/66)
بقية أخبار عبد
الرحمن بن حبيب بأفريقية
لما صار الأمر إلى أبي جعفر المنصور، كتب إلى عبد الرحمن يدعوه إلى
الطاعة. فأجابه، ودعا له، ووجه إليه بهدية كان فيها بزة وكلاب، وكتب
إليه: (أن أفريقية اليوم إسلامية كلها، وقد أنقطع السيئ منها) فغضب أبو
جعفر المنصور وكتب إليه يتوعده. فلما وصل إليه الكتاب، غضب غضبا شديدا؛
ثم نادى (الصلاة جامعة) فاجتمع الناس؛ وخرج عبد الرحمن في مطرف خز،
فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه؛ ثم أخذ في سب أبي جعفر، وقال (أني
ظننت هذا الخائن يدعو إلى الحق ويقوم به، حتى تبين لي خلاف ما بايعته
عليه من أقامة العدل! وأني خلعته كما خلعت نعلي هذا!) وقذفه من رجله.
ثم دعا بخلع السود وأمر بتخريقها وقال: (هذا لباس أهل النار في النار!)
قال الرقيق: (كان قد لبسها قبل ذلك، ودعا فيها لأبي جعفر؛ فقطعت قطعا
وأحرقت.) وقال ابن القطان: كان عبد الرحمن بن حبيب يظهر الطاعة لأبي
جعفر، يدعو له على المنبر، ألا إنه لم يلبس السواد، وقال: (أن هذا لباس
أهل النار في النار!) ثم خلعه ونبذ طاعته. وحقق عريب أن خلعه لطاعة أبي
جعفر كان في هذه السنة.
مقتل عبد الرحمن
كان عبد الرحمن يوجه أخاه غازيا؛ فإذا ظفر، كتب عبد الرحمن بالفاتح،
ويزعم أن ابنه كان يتولى الفتوح وكان قد ولاه عهده، فعمد الياس إلى قتل
أخيه عبد الرحمن، وشاور في ذلك أخاه عبد الوارث، فأجابه. ودعوا إلى ذلك
قوما من أهل القيروان من العرب على أن يقتلوا عبد الرحمن ويؤمروا الياس
بن حبيب، وتكون الطاعة لأبي جعفر. وكان عبد الرحمن ولى أخاه
(1/67)
الياس تونس، وودعه للخروج إليها، وعبد
الرحمن إذ ذاك مريض. فدخل عليه، وهو في غلالة ورداء، وابن له صغير في
حجرة، فقعد طويلا، وعبد الوارث يغمزه. فلما قام يودعه أكب علية ووضع
السكين بين كتفيه حتى وصل إلى صدره ثم ردة يده على السيف فضربه، وخرج
هاربا دهشا. فقال له أصحابه: (ما فعلت؟) قال: (قتلته!) قالوا: (أرجع!
فهز رأسه!) فرجع وهز. وثارت الصيحة. وأخذ الياس أبواب دار الإمارة،
وسمع ابنه حبيب الصيحة، فأخبر بقتل والده، فأختفى، ثم تحامل على وجهه
إلى باب تونس أحد أبواب القيروان فخرج منه ومضى إلى عمه عمران بن حبيب،
وهو والي تونس لوالده فكانت ولاية عبد الرحمن بن حبيب أفريقية عشر سنين
وسبعة أشهر. وكان أول ثائر متغلب على بلاد أفريقية
ولاية الياس بن حبيب أفريقية
ولما قتل أخاه، ولي أمور أفريقية والقيروان، وحبيب عند عمه عمران
بتونس. فأخبره بخبر أبيه، ولحق بهما مواليهما وعبيدهما من كل ناحية.
فخرج إلياس، وأتاه حبيب وعمران بمن معهما؛ فهموا بالقتال، ثم اصطلحوا
على أن يعود عمران إلى ولاية تونس وصطفورة والجزيرة، ويكون حبيب على
قفصة وقسطليلة، وألياس لسائر أفريقية والمغرب. ومضى الياس مع أخيه
عمران إلى تونس؛ فوثب عليه ألياس، وبعث به إلى الأندلس. وولي على تونس
محمد ابن المغيرة، وانصرف إلى القيروان؛ فبلغه عند حبيب أخبار كرهها.
فعلم ذلك حبيب؛ فدس له من زين له الخروج إلى الأندلس؛ ففعل؛ ووجه معه
شقيقه عبد الوارث ومن أحب من مواليه. فركبوا البحر، وقد تعذرت بهم
الريح؛ فكتب حبيب إلى الياس يعلمه بأن الريح ردته، ووقفوا بطية. فكتب
الياس إلى عاملة بها يحذره من أمره. فسمع به موالي عبد الرحمن وأهل
طاعته؛ فأتوا إليه من كل ناحية، وطرقوا سليمان بن زياد عامل الياس
ليلا،
(1/68)
وهو في معسكره يحارس حبيبا. فأسروه، وشدوا
وثاقه، وركبوا إلى حبيب، فأخرجوه إلى البر.
ذكر قيام حبيب بن عبد الرحمن بن حبيب على
عمه
الياس وتغلبه على بلاد أفريقية
لما خرج حبيب هذا إلى البر، واجتمعت عليه أهل طاعة أبيه، ظهر أمره،
وشاع ذكره. وتوجه إلى الأربس؛ فأخذها. وبلغ خبره إلى ألياس؛ فخرج
يريده، وأستخلف على القيروان محمد بن خالد القرشي، فلما قرب الياس منه،
تحاربا حرباً خفيفة. فلما أمس حبيب، أوقد النيران ليضن الناس إنه مقيم.
ثم سرى، فأصبح بجلولا. ثم نفذ إلى القيروان، فيتولى عليها. ثم رجع
الياس في طلبه، ففسد عليه من كان معه، وتقوى حبيب وخرج إليه في جمع
عظيم. فلما التقيا، ناداه حبيب: (لما نقتل صنائعنا وموالينا، وهم لنا
حصن! ولكن أبرز أنا وأنت.. فأينا قتل صاحبه، استراح منه!) فناداه
الناس.. (قد أنصفك يا الياس) فخرج كل واحد منهما إلى صاحبه، ووقف أهل
العسكر ينظرون إليهما، فتطاعنا حتى تكسرت قناتاهما ثم تضاربا بسيوفهما
وعجب الناس من صبرهما. ثم ضرب الياس حبيبا ضربة (في ثيابه ودرعه، ووصلت
إلى جسده وضرب حبيب عمه الياس ضربة) أسقطته ثم أكب عليه، فحز رأسه وأمر
برفعه على رمح وأقبل به على القيروان فدخلها وبين يديه رأس عمه ورؤوس
أصحابه، فيهم عم أبيه محمد بن أبي عبدة بن عقبه ورأس محمد بن مغيرة
القرشي وغيرهما من وجوه العرب وذلك في عام 138 فكانت ولاية الياس إلى
أن قتل نحو سنة وستة أشهر.
وفي سنة 138، قام البربر في أفريقيا على حبيبي بن عبد الرحمن بن حبيب
ولما قتل حبيب عمه الياس هرب عبد الوارث بن حبيب ومن كان معه.
(1/69)
إلى عسكر الياس أخيه إلى بطن من البربر
يقال لهم ورفجومة من نقزة لاجئين إليهم فنزلوا عليهم وأميرهم عاصم بن
جميل فكتب إليه حبيب يأمره بتوجيههم إليه فلم يفعل فزحف إليه حبيب
ولقيه عاصم ومعه كل من هرب من حبيب فاقتتلوا وانهزم حبيب وكان إذا خرج
إليهم استخلف على القيروان أبا كريب القاضي فكتب بعض أهل القيروان إلى
عاصم وأشياخ ورفجومة وظنوا أنهم يوفون لهم بالعهد وأظهروا لهم أنهم
إنما يريدون أن يدعوا لأبي جعفر فزحف عاصم بن جميل وأخوه مكرم من كان
معهم من البربر ومن لجأ إليهم من العرب بعد أن هزموا حبيبا وساروا إلى
ناحية قابس، حتى انتهوا إلى القيروان. فلما دنا بعضهم من بعض، خرج
جماعة من عسكر عاصم، فقتلوا منهم أناسا وتفرق الناس عن القاضي أبي كريب
ورجعوا إلى القيروان ولم يعلموا ما يحل بهم من البربر وثبت أبي كريب في
نحو ألف رجل من أهل الدين، مستسلمين للموت فقاتلوا حتى قتل أبي كريب
وأكثر أصحابه ودخل ورفوجمة القيروان، فاستحلوا المحارم، وارتكبوا
الكبائر، ونزل عاصم بمصلى روح ثم استخلف عل القيروان عبد الملك ين أبي
جعد اليفرني وسار إلى حبيب، وهو بقابس. فانهزم حبيب ولحق بجبل أوراس.
فسار إليه عاصم، فهزمه حبيب، وقتله مع جملة من أصحابه. وأقبل حبيب إلى
القيروان، فخرج إليه عبد الملك بن أبي الجعد فاقتتلا، فنهزم حبيب وقتل
في المحرم ن سنة 140 فكانت ولاية وتاريخ عبد الرحمن بن حبيب نحو 10
سنين وأشهر، وولاية أخيه الياس سنة وستة أشهر (ثم تغلب على أفريقية بعض
القبائل الصفرية بعد قتل حبيب وعاصم، فدخل القيروان وربطوا دوابهم في
المسجد الجامع، وقتلوا كل من كان من قريش وعذبوا أهلها. وأساءت ورفجومة
لأهل القيروان سوء العذاب وندم الذين استدعوهم أشد ندامة. ثم قام أبو
الخطاب عبد الأعلى بن السمح
(1/70)
المعافري وكان ثائرا متغلبا خرج طرابلس بعد
ما كان استولى عليها يريد القيروان لقتال ورفجومة. فالتقى معهم
وقاتلهما. ثم هزمزهم وتبعهم يقتلهم، ثم انصرف إلى القيروان. فولى عليهم
عبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت بعد ذلك ومضى الخطاب إلى طرابلس وكانت
مدة هذه الأهوال والفتن التي اختصرناها هنا مجملة في نحو ثلاثة أعوام.
وفي سنة 139، كان الفداء بين أبي جعفر المنصور والروم، فاستنقذ المنصور
منهم أسرى المسلمين. ولم تكن بعد ذلك صائفة للمسلمين إلى سنة 146.
وقي سنة 141 كان ابتداء بناء سجلماسة. وفيها كان خروج أبي الخطاب إلى
القيروان لقتال ورفجومة، فخرج إليه واليها عبد الملك، فخذله أهل
القيروان وانهزموا عنه، فقتل عبد الملك وأصحابه في صفر وكان تغلب
ورفجومة على القيروان سنة وشهرين.
وفي سنة 142، أقبل أبي الأحوص اعجلي بالمسَوِّدةِ. فخرج إليه أبي
الخطاب. فالتقى بمقداس على شاطئ البحر، فانهزم أبي الأحوص وأصحابه
واحتوى أبي الخطاب على عسكرهم. ورجع أبي الأحوص إلى مصر وانصرف أبو
الخطاب طرابلس. وكانت أفريقية في يديه إلى أن وجه المنصور بن الأشعث.
وفي سنة 143 اتصل أبي الخطاب أن أبي الأشعث يريد القيروان. فخرج إليه
في زهاء مائتي ألف. فعسكر بهم في أرض سرت واتصل ذلك بمحمد بن الأشعث.
وفي سنة 144، ولي أفريقية محمد بن الأشعث الخزاعي.
(1/71)
ذكر ولاية محمد بن
الأشعث الخزاعي أفريقيا
لما غلبت الصفرية على أفريقيا بعد أن قتلت ورفجومة من قتلت من قريش
وغيرهم، خرج جماعة من عربها إلى المنصور يستنصرون به على البربر ويصفون
له ما نالهم منهم. فولى أبو جعفر بن الأشعث مصر. فوجه أبا الأحوص.
فهزمته البربر كما تقدم. فكتب أبو جعفر إلى ابن الأشعث أن يسير بنفسه،
فخرج إلى أفريقية في أربعين ألفا، عليها ثمانية وعشرون قائدا. فالتقوا
بأبي الخطاب، وكان قد جمع أصحابه في كل ناحبة، ومضوا في عدد عظيم. فضاق
ذرع ابن الأشعث بلقاء أبي الخطاب لما بلغه كثرة جيوشه. ثم أن زناتة
وهوارة تنازعت فيما بينها، واتهمت زنانة أبا الخطاب في ميله مع هوارة.
فارقه جماعة منهم وبلغ ذلك بن الأشعث فسر به ورحل إليه. فاقتتلوا قتالا
شديدا فانهزم البربر وقتل أصحاب أبي الخطاب وأبو الخطاب. فظن ابن
الأشعث ألا بقية بعد أبي الخطاب. ثم طلع عليهم أبي هريرة الزناتي في
ستة عشر ألفا. فتلقاهم أبي الأشعث فهزمهم وقتل بعضهم، وذلك في ربيع
الأول من السنة. ووجه أبي الأشعث برأس أبي الخطاب إلى بغداد. ولما
انتهى إلى عبد الرحمن ابن رستم قَتل أبي الخطاب وولى هاربا إلى موضع
تبهرت، فاختطها ونزلها وأخذ أهل القيروان عامله عليها فأوثقوه في
الحديد وولوا على أنفسهم عمرو بن عثمان القرشي، إلى أن وفد عليهم أبي
الأشعث ودخل القيروان غرة جمادى الأولى من السنة.
وفي هذه السنة وأمر ابن الأشعث بناء سور القيروان في ذي القعدة وكان
تمامه في رجب سنة 146. وضبط ابن الأشعث أفريقية وأعمالهم وأمعن في كل
من خالفه من البربر بالقتل فخافوه وأذعنوا له بالطاعة. ثم ثار عليه
موسى بن موسى بن عجلان كان أحد جنده، في جماعة من قواده فأخرجوا ابن
(1/72)
الأشعث من القيروان من غير قتال. فكان خروج
ابن الأشعث من القيروان في ربيع الأول سنة 148. فكانت ولايته بها ثلاثة
أعوام وعشرة أشهر، في خلافة أبي جعفر المنصور.
وفي سنة 145، اشتغل ابن الأشعث بناء سور القيروان. وأخصبت بلاد أفريقية
وكان قد بعث إلى زويلة وودان، فافتتحهما وقتل من بهما من الأباضية وقتل
عبد اله بن حيان الأباضي، وكان رأس أهل زويلة. وسكّن ابن الأشعث أحوال
أهل أفريقية في هذه السنة. فلم تكن بها حركة له وفي سنة 146، استتم ابن
الأشعث بناء سور مدينة القيروان. وفيها أيضا استم المنصور بناء بغداد
ولازم العمل فيها، وانتقل إلى سكناها في شهر صفر من هذه السنة.
وفي سنة 147، كان الأمير على مصر يزيد بن حاتم، وعلى أفريقية محمد ابن
الأشعث الخزاعي، وليس هو محمد ابن الأشعث الكندي ابن أخت عائشة.
وفي سنة 148، ثار الجند على محمد ابن الأشعث بأفريقية وسألوه الخروج
عنهم. فخرج في ربيع كما تقدم ذكره. ثم اتفق الجند على تولية عيسى بن
موسى الخراساني.
ثورة عيسى بن موسى بالقيروان وببعض بلاد
أفريقية
فتغلب عليها بعض العرب والجند من غير عهد من المنصور، ولا رضى منه، ولا
تراض من العامة، وذلك في شهر ربيع آخر من عام 148 المذكور. فكانت مدته
ثلاثة أشهر.
(1/73)
ولاية الأغلب بن
سالم التميمي
لما بلغ المنصور ما كان من أمر قواد الجند المصرية وصرفهم محمد بن
الأشعث بعث إلى الأغلب بن سالم بن عقال التميمي عهده بولايته، في آخر
جمادى الآخر من السنة المؤرخة فاستقامت له الحال. وكان من أهل الرأي
وذوي المشورة، ووصله كتاب المنصور بعد كتاب العهد يأمره بالعدل في
الرعية وحسن السيرة في الجند، وتحصين مدينة القيروان وخندقها وترتيب
حرسها ومن يترك فبها إذا رحل إلى عدوه، وغير ذل كمن أموره.
وسنة 149، لم يكن فيها حركة.
وفي سنة 150، ثار الحسن بن حرب الكندي بالقيروان عل الأغلب ين سالم،
وسبب ذلك أن أبا قرة الصغرى خرج في جمع كبير من البربر، فسار إليه
الأغلب في عامة القواد الذين معه، وخلف على القيروان سالم بن سوادة
فلما علم أبوه أن الأغلب قرب منه هرب وتفرق أصحابه. وقدم الأغلب الزاب
وعزم على الرحيل منه إلى تلمسان، قاعدة زناتة ثم إلى طنجة. فكر الجند
المسير معه، وقالوا: (قد هرب أبو قرة الذي خرجنا إليه!) وجعلوا يتسللون
عنه إلى القيروان. فلم يبقى معه إلا نفر يسير من وجوههم وكأن الحسن بن
حرب بيونس فلما خرج الأغلب يريد أبا قرة، كاتب جميع القواد. فلحق به
بعضهم وأقبل معهم إلى القيروان فدخلها، وأخذ سالم بن سوادة عاملها،
فحبسه. وبلغ الخبر الأغلب فأقبل في عدة يسيرة وكتب إليه، يعرفه بفضل
الطاعة، ووبال المعصية. فأعاد الجواب إلى الأغلب، وفي آخره (وافر)
ألا قولوا لأغلب غير سوء ... مغلغلة عن الحسن بن حرب
بأن البغي مرتعه وخيم ... عليك وقربه لك شر قرب
فإن لم تنثني لتنال سلمي ... وعفوى فأذن من ُطعن وضربي
وأقبل الأغلب يحث السير بعد ما مضى إلى قابس، وقدم رسول المنصور
(1/74)
عليه بكتاب منه إليه وإلى الحسن بن حرب
يدعوا الحسن إلى الطاعة، فلم قبل فأقبل إليه الأغلب. فاقتتلوا وانهزم
الحسن ومضى راجعا إلى تونس، ودخل الأغلب القيروان. ثم حشد الحسن وسار
في عدة عظيمة إلى القيروان. ثم أن الأغلب لما بلغه قدوم الحسن إليه،
جمع أهل بيته وخاصته، وخرج إليه فأصابه سهما فمات منه في شعبان من
السنة المؤرخة. فكانت ولايته سنة واحدة وثمانية أشهر
ولاية عمرو بن حفص بن قبيصة أفريقية
ثم ولي أفريقية عمرو بن حفص بن قبيصة سنة 151. وكان شجاعا بطلا. وسبب
ولايته أن أبا جعفر لما بلغه قتل الأغلب ين سالم، وجهه في نحو خمسمائة
فارس فأقام بالقيروان ثلاثة سنين وأشهر من ولايته، والأمور له مستقيمة
ثم سار إلى الزاب، واستخلف حبيب بن حبيب بن يزيد بن الهلب فخلت أفريقية
من الجند وثار بها البربر فخرج إليهم حبيب والتقى معهم، فهزموه وهزموا
عسكر طرابلس معه. فاشتدت الفتنة بأفريقية واشتعل نارها. واتاها أمراء
القبائل من كل فج، واجتمعوا في اثني عشر عسكرا وتوجهوا إلى الزاب ولبس
مع عمرو بن حفص إلا خمسة عشر ألفا وخمسمائة. وكان أمراء المغرب في ذلك
الوقت ورؤسائهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفا، وعبد الرحمن بن رستم
الأباضيُّ في خمسة عشر ألفا وأبو حاتم في عدد كثير وعاصم السدراني في
عدد كثير: قبل في ستة آلاف والمصور الزناتي في عشرة آلاف وعبد الملك بن
سكرديد الصنهاجي الصفري في ألفين سوى جماعات. قال الرقيق: لم أذكرهم.
فلما رأى عمرو بن حفص ما أحاط به من العساكر بمدينه طبنة بالزاب، جمع
قواده، فاستشارهم، وقال لهم: (إني أريد مناهضة هذا العدو!) فأشاروا
عليه ألا يبرح من مدينة طبنة وقالوا له: (أخرج من أردت إلى
(1/75)
عدوك ولا تخرج أنت! فإنك، أن أصبت، تَلَفَ
المغرب وفَسد!) فوجه عمرو إلى أبي قرة مالا كثيرا وكسي كثيرة: على أن
ينصرف عنه فقال: (لا حاجة لي بذلك!) فانصرف الرسول بذلك إلى أخيه. فدفع
له بعض المال والثياب على أن يعمل في صرف أخيه أبي قرة والصفرية إلى
بلادهم. فعمل في ليلته تلك، واجتمع بأهل العسكر فلام يعلم أبي قرة حتى
انصرف عنه أكثر أهل العسكر فلم يجد بدا من اتباعهم. فلما انصرف الصفرية
وجه عمرو إلى أبي رستم عسكرا، وكان تهودا فانهزم ابن رستم، وقتل من
أصحابه نحو ثلاثة ألاف. ووصل منهزما إلى تيهرت.
ورجع عمرو بن حفص إلى القيروان؛ فجعل يدخل إليها كل ما يصلحه من الطعام
والمرافق وعدة الحصار. ثم أقبل أبو حاتم في جموعه حتى نزل عليه. وكثرت
الفتن ببلاد أفريقية. ويقال أن عدة من حاصر القيروان مائة ألف وثلاثون
ألف وكان ابن حفص يخرج إليهم في كل يوم فيحاربهم. فلم يزالوا كذلك ضاق
أمرهم، وأكلوا دوابهم وكلابهم وسنانيرهم، وماتوا جوعا وانتهى الملح
عندهم أوقية بدرهم. واضطرب علي ابن حفص أمره وساءت خلقه، وبلغ أن يزيد
بن حاتم بعث أمير المؤمنين في ستين ألفا لنصرة القيروان. فقال: (لا خير
في الحياة بعد أن يقال: يزيد أخرجه من الحصار! إنما هي رقدة وأبعث إلى
الحساب!) وخرج، فجعل يطعن ويضرب حتى قتل في النصف من ذي الحجة من سنة
154. ولم يعط الحال تفصيل هذه السنين من سنة 151 إلى 153 بعدها سنة:
فاجتملت أمرها هنا أجملا مختصرا يغني عن أعادتها في كل واحدة منها.
ولما قتل عمرو بن حفص، بايع الناس أخاه جميل بن حفص بالقيروان. فلما
طال عليه الحصار، دعاه الاضطرار إلى مصالحة أبي حاتم، على أن جميلا
وأصحابه لا يخلعون سلطانهم، ولا ينزعون سوادهم. فغضب أبو حاتم،
(1/76)
وأحرق أبواب القيروان، وثلم سورها ودخلها.
ولما دخل أبو حاتم القيروان، أخرج أكثر أهلها إلى الزاب. ثم بلغ قدوم
يزيد بن حاتم؛ فتوجه للقائه نحو طرابلس وأستخلف على القيروان عبد
العزيز المعافري. فقام عليها عمر بن عثمان؛ وقتل أصحاب أبي حاتم. فزحف
إليهم أبو حاتم إلى القيروان؛ فاقتتل معهم. وتوجه أبو عثمان إلى تونس؛
ورجع أبو حاتم إلى طرابلس، حين بلغه قدوم يزيد ابن حاتم. فقيل إنه كان
بين العرب والبربر، من لدن قاتلهم عمرو بن حفص إلى انقضاء أمرهم،
ثلاثمائة وخمس وسبعون وقيعة.
وفي سنة 151 ولي المنصور عمرو بن حفص المتقدم الذكر أفريقية. فقدمها في
صفر في خمسمائة فارس. وكان قد ولي أفريقية سنة 150، بعد موت الأغلب،
المخارق بن غفار الطائي، أستخلفه الأغلب على القيروان؛ واجتمع الناس
عليه في رمضان؛ فوجه الخيل في طلب الحسن بن حرب؛ فهرب من تونس إلى
كتامة فأقام شهرين، ورجع إلى تونس؛ فخرج إليه من بها من الخيل؛ فقتل
الحسن بن حرب.
وفي سنة 152 كان ما تقدم ذكره على الجملة الأفريقية. وفيها عزل المنصور
يزيد بن حاتم عن مصر، وولاها محمد بن سعيد. وكان سائر عمالها الذين
كانوا في السنة قبلها وفي سنة 153، قال الطبري: قتل عمر بن حفص: قتله
حاتم الأياضي وأبو غادي ومن كان معهما من البربر؛ وكانوا فيما ذكر ثلاث
مائة ألف وخمسون ألفا، الخيل منها خمسة وثلاثون ألفا، ومعهم أبو قرة
اليقرني أمير تلسمان، في أربعين ألفا. وكان يسلم عليه بالخلافة هكذا
ذكر ابن القطان في (نظم الجمان) وقد يقدم أن قتل عمرو بن حفص كان سنة
154. ذكر كذلك الرقيق وابن حماده وغيرهما.
قال الرقيق وعريب: وفي سنة 153 زحف أبو قرة من تسلمان في جمع
(1/77)
من كبير من البربر إلى القيروان. فصالحه
عمرو بن حفص وانصرف. وفيها ثارت البربر بطرابلس وقدموا أبا حاتم
الأباضي: وأسمه يعقوب بن لبيب.
وفي سنة 154، قال عريب: استخلف عمرو بن حفص على طبنة المهنى بن
المخارق، وخرج عمرو إلى القيروان، فأقبل إليه أبو حاتم الأباضي إلى أن
قتل عمرو كما تقدم ذكره. ولما بلغ المنصور قتل عمرو وبعث إلى أفريقية
يزيد بن حاتم، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وفي سنة 155، قال الطبري: فيها افتتح يزيد بن حاتم أفريقية، وقتل أبا
غادي وأبا حاتم، واستقامت بلاد المغرب، ودخل يزيد بن حاتم القيروان ثم
قدم يزيد.
ولاية يزيد بن حاتم أفريقية والمغرب
وهو يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، وكان يكنى أبا خالد. ولاه أمير
المؤمنين أبا جعفر المنصور العباسي وحاله في كرمه. وجوده، وشجاعته،
وبعد صيته، ونفاذ رأيه، وتقدمه، معروف غير منكر. وكان كثير الشبه بجده
المهلب ابن أبي صفرة في حروبه وكرمه، وكان له أولاد مذكورون بالشجاعة
والإقدام. ويقال إنه انتهى ولد المهلب ثلاثمائة ولد من الذكور والإناث،
من مات منهم ومن عاش. وكان أبو جعفر المنصور عالما ببلاد أفريقية، وكان
لا يبعث إليها إلا خاصته. وكان يزيد هذا حسن السيرة فقدم أفريقية،
وأصلحها، ورتب أسوار القيروان، وجعل كل صناعة في مكانها. ولم تزل
البلاد هادئة إلى أن ثارت عليه البربر. فزحف لهم وأوقع بهم. وله فيهم
ملامح مشهورة. وقيل فيه: (شتان ما بين اليزيدين!) يعني يزيد بن سليم
ويزيد بن حاتم. ومن شعر ربيعة فيه. في قصيدة (طويل) :
(1/78)
حلفت يمينا غير ذي مثنوية ... يمين أمري
آلي وليس بآثم
لشاتنا ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم
وقدم يزيد على أفريقية ومعه كل من جند من الشام والعراق وخراسان، فنزل
أولا طرابلس، وسار إليه أبو حاتم، فزحف إليه يزيد، واقتتل معه قتالا
شديدا. فانهزم أبو حاتم وقتل هو وكثير من أصحابه. واتبع سائرهم، فقتل
من أدرك منهم. واستعمل يزيد على طرابلس سعيد بن شداد، وحينئذ نهض إلى
القيروان، فدخلها يوم الاثنين لعشر بقين لجمادى الآخرة من هذه السنة.
وفي هذه السنة، أنكرت الصفرية المجتمعة بسلجمانة على أميرهم عيسى بن
يزيد أشياء، فشدوه وثاقا ووضعوه على قنة جبل، فلم يزل كذلك حتى مات،
وقدموا سمغو بن واسول بن مدلان المكناسي جد مدرار.
وفي سنة 156 بعث يزيد بن حاتم العلاء بن سعيد المهلبي مددا لمخارق
بمدينة طبنة بالزاب، وقلعة حبحاب بجبل كتامة، وهرب عبد الرحمن بن حبيب
عنها وقتل العلاء جماعة ممن أدرك فيها. ثم انصرف إلى القيروان.
وثار على يزيد بن حاتم أبو يحيى بن قرياس الهواري بناحية طرابلس،
واجتمع إليه كثير من البربر. وكان بها عبد الله بن السمط الكندي قائدا
ليزيد، فالتقوا على شاطئ البحر، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أبو يحيى
وقتل عامة أصحابه. وتهدنت أفريقية ليزيد بن حاتم وضبطها.
وفي سنة 157، جدد يزيد يناء المسجد الجامع بالقيروان. وكان غاية في
الجود والحسن. وفيها توفي أبو جعفر المنصور، في ذي الحجة من السنة
المؤرخة.
وفي سنة 158، ولي الخلافة المهدي، بويع يوم مات أبو جعفر بمكة - شرفها
الله - نعهد من أبيه، وذلك يوم السبت لست خلون لذي الحجة. واستقل
بالملك والخلافة في هذه السنة. وكان أديبا ن جوادا، محبا لآهل الأدب
والشعر.
(1/79)
وقد ذكرنا بعض أشعاره وأخباره في تاريخ
المشرق، والغرض هنا أخبار المغرب الأقصى والأوسط وفي سنة 163، توفي أبو
خالد عبد الرحمن بن زياد بن أنعم القاصي بالقيروان، وصلى عليه أمير
أفريقيا يزيد بن حاتم، وتمثل بهذا البيت لما رأى ازدحام الناس عليه
(بسيط) .
يا كعب ما راح من قوم ولا أنكروا ... ألا وللموت في آثارهم حادي
وكان مرضه إنه أكل حوتا وشرب عليه لبناً على مائدة يزيد، وكان قد جاوز
90 سنة، فهلك من ليلته.
وفي سنة 163، أمر المهدي يحيى بن خالد بن برمكة أن يكون كاتبا لأبنه
هارون، وقال له: (إني اخترتك ووليتك الكتابة) وأمر له بمائة ألف درهم
معونة على سفره مع هارون إبنه.
وفي سنة 165، أغزى المهدي ابنه هارون إلى بلاد الروم، في 95 ألفا،
بمائة ألف ألف من العين، وبعشين ألف ألف من الورق. فبلغ خليج البحر على
القسطنطينية، وأذعن له الروم بالجزية 90 ألف دينار في كل سنة وانصرف
بخمسة آلاف من الأسرى والغنائم.
وفي سنة 166، قدم هارون ابن أمير المؤمنين كمنم غزوته هذه، وقدمت الروم
بالهدية والجزية. وفيها سخط المهدي على وزيره يعقوب بن داود. وكان قد
فوض إليه أمور خاصته!.
وفي سنة 169، توفي المهدي بن المنصور واختلف في سبب موته: فقيل مسموما
غلطا وقيل غير ذلك واستخلف ابنه موسى الهادي.
وفي سنة 170، توفي موسى الهادي في ربيع الأول، وهو ابن ستة وعشرين سنة
ونصف، فكانت خلافته سنة وشهرين واستخلف هارون بن محمد الرشيد.
(1/80)
وفي سنة 171، توفي أمير أفريقيا يزيد بن
حاتم، وكان خاصا بأبي جعفر المنصور، وتولى ولايات كثيرة قبل قدومه
المغرب ك منها أرمينية، والسند، ومصر، وأذربيجان، وغير ذلك، وكانت
ولايته مصر سنة 144 إلى سنة 153 وكان حسن السيرة بأفريقية، امتدحه كثير
من فحول الشعراء، فأجزل لهم العطاء.
قال الزبير بن بكار عمن حدثه من الشعراء، قال: (كنت أمدح يزيد بن حاتم
من غير أن أعرفه ولا ألقاه.) فلما ولاه المنصور مصر أخذ على طريق
المدينة فألقيه. فأنشده منذ خرج من مسجد رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إلى مسجد الشجرة. فأعطاه رزمتي ثياب وعشرة آلاف دينار. هكذا ذكر
الرقيق. ومما قيل (كامل) ..
يا واحد العرب الذي دانت له ... قحطان قاطبة وساد نزارا
إني لأرجو إذ بلغتك سالما ... ألا أكابد بعدك الأسفار
وفيه قيل (طويل) :
شتان ما بين اليزيدين في الندى ... إذا عد في الناس المكارم والمجد
وقوله: (لشتان ما بين اليزيدين) مثلٌ يتمثل به في كل ناحية على لسان كل
سائر. وكان على ربيعة الشاعر دية فأعطاه عشرة ديات، ووصله وأحسن إليه
وكان سخيا ومن قول يزيد بن حاتم رحمة الله (بسيط)
ما بألف درهم المضروب خرقتنا ... إلا لماما يسيرا ثم ينطلق
يمر مرا عليها وهي تلفظه ... إلى أمرؤ لم يحالف خرقتي الورق
ومن أخباره بأفريقية - رحمه الله - روى إن بعض وكلائه زرع قولا كثيرا
في بعض رياضاته. فقال له: (يا بني يابن اللخناء أتريد أن أعبر بالبصرة،
(1/81)
فيقال: (يزيد بن حاتم يا فلان) ثم أمر أن
يباح للناس، وخرج أيضا يوما في طريقه من القيروان متنزها. فنظر إلى غنم
كثيرة كانت لابنه فزجره عليها وأمر بذبحها وأن تباح للناس، فانتهبوها
وأكلوها، وجعلوا جلودها في كدية، فهي تعرف من ذلك الوقت بكدية الجلود.
وكانت وفاته في رمضان من سنة 171 فكانت ولايته خمسة عشر سنة وثلاثة
أشهر في بعض خلافة المنصور وخلافة المهدي كلها وبعض خلافة هارون
الرشيد.
ولاية داود بن يزيد بن حاتم أفريقية
استخلفه أبوه في مرضه فأقام واليا بأفريقية تسعة أشهر ونصفاً، يحارب
أمراء قبائل البربر محاربة عظيمة، وكان بينه وبينهم مواقف كثيرة في
جبال باجة وغيرها. وقال عليه نصير بن صالح الأياضي فخرج إليه المهلب ين
يزيد فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة. فوجه إليهم داود سليما بن يزيد في
عشرة آلاف فهرب البربر أمامهم فتبعهم، وقتل منهم أكثر من عشرة آلاف
وأقام داود على أفريقية إلى أن قدم عليه عمه روح بن حاتم أميرا على
المغرب.
ذكر ابتداء الدولة الهاشمية بالبلاد
الغربية
وهم الأدارسة - رحمهم الله -
اتفق جماعة المؤرخين إن دخول إدريس بن عبد الله - رضي الله عنه - إلى
المغرب كان في سنة 170، وهو إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي
- رضي الله عنه - وكان دخوله في إمارة يزيد بن حاتم أفريقية وإمارة
هشام بن عبد الرحمن لداخل بقرطبة، وأول ظهور بني مدرار بسلجمانة. وكان
نزوله بوادي الزيتون، بموضع يعرف بمدينة البلد وكان وصوله مع مولاه
راشد.
(1/82)
وقال البكري في (المجموع المفترق) وكان
نزوله بوليلى وهي اسم لطنجة باللسان البربري وذكر محمد بن يوسف أنها
كانت على مسافة يوم من موضع فاس الآن. وكانت مدينة أزلبة وبها مات
إدريس - رضي الله عنه - وكان سبب وصول إدريس إلى المغرب، على ما ذكر
الرقيقي والنوفلي في (المجموع المفترق) وغيرها من المؤرخين، وذلك أن
الحسين بن على بن حسن بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه
- كان قد قام بالمدينة أيام موسى الهادي، ثم خرج إلى مكة في ذي الحجة
سنة 69 وخرج معه جماعة من إخوانه وبني عنه ومنهم إدريس ويحيى ابنا عبد
الله بن حسن وبلغ ذلك الهادي، فولى حربه محمد بن سليمان بن على وكانت
الوقعة بفخ، فقتل الحسين بن علي وأكثر أصحابه وأفلت إدريس هذا الداخل
إلى المغرب، فهرب إلى مصر وكان على بر يدها واضح، مولى صالح بن
المنصور، فحمله على البريد إلى أرض المغرب فوقع بمدينة وليلة من أرض
طنجة، فاستجاب له من بها من قبائل البربر ولما ولى الرشيد وبلغه أمره،
بعث إلى واضح، فضرب عنقه ودس إلى إدريس الشماخ مولى الهادي، فخرج حتى
وصل وليلة، وذكر إنه متطبب من شيعتهم العلوية ودخل إلى إدريس فأنس به
واطمئن إليه ثم إنه شكى له علة في أسنانه فأعطاه سنونا مسموما قاتلا
وأمر أن يستن به عند طلوع الفجر فأخذه منه. وهرب الشماخ من تحت ليلته.
فلما طلع الفجر استن إدريس، وأكثر منه في فمه فسقطت أسنانه ومات من
وقته وطلب الشماخ، فلم يظفر به، وقدم على الرشيد، فولاه بريد مصر هكذا
ذكر الرقيق في كتابه.
وفي سنة 172، اجتمعت القبائل على إدريس بن عبد الله من كل جهة ومكان،
فأعطوه وعظموه وقدموه على أنفسهم، وأقاموا معه مغتبطين بطاعته
(1/83)
ومتشرفين بخدمته طول حياته. وكان رجلا
صالحا مالكا لشهواته، فاضلا في ذاته، مؤشرا للعدل مقبلا على أعمال البر
وفي سنة 173، كان خروجه بعساكر القبائل الغربية حتى انتهى إلى بلاد
السوس الأقصى، ودخل ماسة، فغنم وسبى، ورجع إلى الغرب سالما غانما.
وفي سنة 174، توجه بعسكره إلى رباط تازا لما قفل من حركة السوس.
فوجد في جبلها معدن الذهب. وأجابه جميع القبائل الغربية وأطاعوه
وبايعوه في هذه السنة، وكملت له الإمارة فيهم.
ولاية روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب
أفريقية
ولاه عليها أمير المؤمنين هارون بن محمد الرشيد، فقدمها في سنة 171.
وكان له ولايات كثيرة: فحجب المنصور، ثم ولاه البصرة، وولى الكوفة في
أيام المهدي، وولي السند وطربستان وفلسطين وغير ذلك. ونظر رجل إلى روح
بن حاتم واقفا في الشمس عند باب المنصور، فقال له. (لقد طال وقفك في
الشمس!) فقال له: (ليطول بذلك وقفي في الظل) وفىّ له ابنٌ، فدخل عيه
أصحابه وهو ضاحكٌ فتوقفوا عن تعزيته، فعرف ذلك منهم فأنشأ يقول (طويل)
. .
وأنا لقوم ما تفيض دموعنا ... على هالك منا وإن قسم الظهر
وقيل إنه بعث لكاتبه ثلاثين ألف درهم ووقع إليه: (إني بعثت إليك بكذا،
لا أستقلها لك تكبرا، ولا أستكثرها تمننا، ولا أقطع عنك بها رجاء بعد.
والسلام.) وكان روح أكبر سنا من أخيه يزيد واكثر ولاية. وعندما يطول
جلوسه بالقيروان، ربما خطر عليه النعاس من الضعف والشاخة وكان بكى أبا
خالد
(1/84)
توفي ليلة الأحد لسبع بقين من رمضان المعظم
من سنة 174، فكانت ولايته ثلاثة سنين وثلاثة أشهر.
ولاية نصر بن حبيب المهلبي أفريقية
وكان صاحب البريد وأبو العنبر القائد قد كتبا! إلى الرشيد، في جملة من
كتب إليه من الفؤاد، يعلمانه بضعف روح بن حاتم وكبره وإنهما لا يأمنان
موته عن قريب، وأفريقية ثغر كبير لا يصلح بغير سلطان وكان نصر هذا على
شرطة يزيد بن حاتم بمصر وأفريقية، وكان محمود السيرة.
فكتب الرشيد عهده وبعثه سرا إليه. فلما مات روح، بويع قبيصة ابنه في
المسجد الجامع، وأجمع الناس على بيعته. وكان الفضل بن روح عاملا في
الزاب، فركب أبو العنبر وصاحب البريد بعهد أمير المؤمنين هارون إلى نصر
بن حبيب فأوصى إليه وسلما عليه بالإمارة وركبا معه إلى المسجد فيمن
معهما، حتى أتيا قبيصة، وهو جالس على الفراش. فأقاموه، وأقعدا نصر بن
حبيب وأعلما الناس بأمره. وقرء الكتاب الواصل من أمير المؤمنين هارون
إلى نصر بن حبيب على الناس، فاستمعوا وأطاعوا. وكان ذلك في العشر
الأواخر لرمضان المعظم من عام 174. فحسنت سيرته، وعدل في أحكامه فولا
سنتين وثلاثة أشهر.
وفي سنة 175، عقد الرشيد لابنه محمد بمدينة السلام ولاية عهد المسلمين
من بعده، وأخذ عليه بيعة القواد والجند وسماه بالأمين، وله يومئذ خمسين
سنة.
وفي سنة 176، ظهر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب
بالتسلم، واشتدت شوكته وقوي أمره، فاغتّم الرشيد لذلك ولم
(1/85)
يكن في تلك الأيام يشرب النبيذ، فصرف إليه
الفضل بن يحيى في خمسين ألف رجل، فانهزم يحيى بن عبد الله.
وفي سنة 177، ولي أفريقية الفضل بن روح بن حاتم، ولاه أمير المؤمنين
الرشيد عليها، وكتب بعزله نصر بن حبيب، وأن يقوم بأمر الناس المهلب بن
يزيد إلى أن يقدم الفضل. فكان قدومه في محرم من هذه السنة. ولما قدم
الفضل ولى ابن أخيه المغيرة تونس، وكان غير ذي تجربة ولا سياسة للجمهور
فستخف بالجند وسار بهم سيرة قبيحة، فاجتمعوا وكتبوا كتابا لعمة الفضل
يخبرونه بما صنع المغيرة فيهم وقبح سيرته، فتثاقل الفضل عن جوابهم
فقالوا (كل جماعة لا رأس لها لا ينجح سعيهم ولا مطالبهم) فقال بعضهم:
(أشير عليكم بعبد الله بن عبد ربه بن الجارود فانطلقوا إليه وقالوا له:
(قد رأيت ما فعل بنا المغيرة، وقد خاطبنا عمه، فلم يصلنا جوابه وأنت
المنظور إليه، والمعمول في الأمور عليه، ونحن نصير أمرنا إليك، ونعتمد
فيه عليك.) فقال لهم: (ليس لي من الجواب ألا النصيحة لي ولكم، وأنا
أخاف على نفسي وأقنع بالعافية؛ وإن كان أمر، وكنت فيه كأحدكم) فقالوا
له: (وما لك من هذا بد!) فقال لهم (أعطوني من بيعكم ما أثق به) فبايعوه
وأطاعوه.
وفي سنة 178 ثار الجند على أمير أفريقية الفصل بن روح بن حاتم، وقدموا
ابن الجارود بتونس. ثم ساروا إلى المغيرة، وهو بدار الإمارة؛ فقالوا
له: (الحق بصاحبك أنت ومن معك!) وكتب للفضل بن روح: (من عبد الله بن
الجارود. أما بعد، فأنا لم نخرج المغيرة خروجا عن الطاعة، ولكن لأحداث
أحداثها فينا، ظهر فيها فساد الدولة. فعجل لنا من ترضاه يقوم بأمرنا؛
وإلا نظرنا لأنفسنا!) وكتب الفضل إلى عبد الله بن الجارود: (أما بعد،
فإن الله يجري فضاءه على ما أحب الناس أو كرهوا، وليس اختياري أن أولى
عليكم! فاختاروا لأنفسكم! ولكن أوجه إليكم عاملا.) فوجه عبد الله
(1/86)
ابن محمد إلى تونس. فلما وصل إليها، قال
لهم ابن الجارود: (كيف تصنعون ذلك، وأنتم قد أخرجتم ابن اخيه وشتمتموه؟
والله! ما بعث إليكم إلا ليطيبكم حتى ترجعوا عن رأيكم؛ فإذا اطمأننتم
أخذتم واحد بعد واحد!) قالوا له: (فما رأيك؟) قال: (الذي ذكرت لكم)
فخرجوا حتى التقوا بالعسكر الواصل مع العامل من قبل الفضل أمير أفريقية
والقيروان بموضع الزيتون، فدفعوه عن أنفسهم، وجرى بين الجند كلام كثير
يطول ذكره، إلى أن وقعت الحرب بين ابن الجارود وعسكر الفضل، فهزمهم ابن
الجارود واتبعهم إلى القيروان، فنزل عليها. فاجتمع الفضل مع بني عمه
وخاصته وتساور معهم في أمره، فاضطرب الآمر عليه، ولم يصح له أمر. فلما
أصبح أقبل عبد الله بن عبد ربه بن الجارود في عسكره، والفضل في دار
الإمارة مع أصحابه. وكان بعض القواد على الأبواب، فلما قرب ابن عبد ربه
منها فتحوها له، فدخل أصحابه، لا يدافعهم أحد، ونزل ابن عبد ربه خارج
المدينة، ثم دخل دار الإمارة، فأمن الفضل وأصحابه، ثم أمرهم بالخروج
إلى قابس وقال لهم: (إني لا آمن أصحابي عليكم، ولكن أوجه معكم من
يوصلكم إلى قابس.) فوجه إليهم أبا الهيثم في جماعة، وأخذ عليه الإيمان
ألا يسلم الفضل. فخرج الفضل معه، مع ثلاثة من بني عمه وبعض أصحابه من
باب آخر. فقال لهم البواب: (اخرجوا يا كلاب النار! لا رحمكم الله!)
فقال الفضل عند ذلك: (لا غله إلا اله! لم يبق أحد إلا صار علينا حتى من
أعتقناه!) وسار ليلته ونهاره حتى دنا الغروب، فسمع طبلا، فقال: (فلان
جاء بمائة فارس، بعثه ابن الجارود إليك لأنه خاف عليك الجند!) ثم سمع
طبلا آخر، فإذا هوم منصور بن هاشم. فقال له: (ما جاء بك؟) فقال (كذا
وكذا) م سمع طبلا آخر، فإذا هو صاحب شرطة ابن عبد ربه بن الجارود، فقيل
للفضل: (إذا جاء ليردك!) وذلك إنه أشار على ابن
(1/87)
الجارود جماعة من أصحابه أن: ((لن) تتركوا
الفضل يدخل طرابلس لئلا يقوم الناس معه ويرجع القيروان، فنادى مناديه
(من كان من طاعة ابن الجارود فلينعزل!) فانعزل الناس ولم يبق مع الفضل
أحد فردوه إلى القيروان، بعدما خلو عن المهلب وجميع الناس الذين كانوا
مع الفضل إلا محمد بن هشام والفضل بن يزيد، فانطلقوا بهما حتى جعلوا في
الدار معه. ثم قُتِلَ الفضل بن رَوح في شعبان من سنة 178، فكانت ولايته
سنة واحدة وخمسة أشهر، فكانت دولة المهالبة بأفريقية ثلاثا وعشرين سنة،
وثار بن الجارود في جمادى الآخرة من سنة 178، فكانت له مع البربر وقائع
عظيمة، ثم أمنه الرشيد، فأجاب إلى الطاعة.
وفي سنة 179، كتب ابن الجارود المتغلب على أفريقية إلى يحيى بن موسى
وهو بطرابلس، أن: (أقدم القيروان: فإني مسّلم لك سلطانها!) فخرج يحيى
بن موسى بمن معه، في محرم، فلما بلغ قابس، تلقاه بها عامة الجند من
القيروان، ومعهم النظر بن حفص، وعمرو بن معاوية، فخرج ابن الجارود من
القيروان، واستخلف عليها المفرج بن عبد الملك، فكانت أيلم ابن الجارود
سبعة أسهر.
وأقبل يحيى بن موسى والعلاء بن سعيد متسابقين إلى القيروان، فسبقه
العلاء إليها فقتل بها جماعة من أصحاب ابن الجارود، فبعث إليه يحيى بن
موسى أن يفرق جموعه إن كان في الطاعة. فأمر من كان معه أن ينصرفوا إلى
مواضعهم. ورحل العلاء إلى طرابلس، وكان ابن الجارود قد وصل إليها قبل
وصول العلاء، فلقي بها يقطين بن موسى، فخرج معه سائرا إلى المشرق فلقوا
هرثمة بن أعين قد وصل بولاية أفريقية. وقد كان العلاء كتب إلى هرثمة
يعلمه بأنه هو الذي أخرج ابن الجارود من أفريقية فأجازه بجائزة سنية،
وكان يحيى بن موسى قدمه هرثمة ابن الجارود، سيره إلى أمير المؤمنين
الرشيد.
(1/88)
ولاية هرثمة بن أعين
أفريقية
ولاه عليها أمير المؤمنين هارون الرشيد، فقدم القيروان غرة ربيع الآخر،
فأنس الناس وسكنهم، وأحسن إليهم قال ابن حمادة: وصل هرثمة في جيش كثيف
حتى نزل تبهرت، فخرج إليه بن الجارود واقتتل معه فهزم ابن الجارود،
وطاعت البربر لهرثمة، وانصرف راجعا إلى القيروان وهو الذي بنى القصر
الكبير المعروف بالمنستير. قاله الرقيق.
وفي سنة 180 كانت الزلزلة العظمى بأرض مصر وسقط رأس منار الإسكندرية.
قال الرقيق: لما رأى هرثمة بن أعين ما رأى من الخلاف بأفريقية وسوء
طاعة أهلها، طلب الاستعفاء فكتب إليه الرشيد بالقدوم عليه فرجع إلى
المشرق وهو الذي بنى سور طرابلس.
ولاية محمد بن مقاتل العكي أفريقية
وفي سنة 181 ولى أمير المؤمنين الرشيد على أفريقية محمد بن مقاتل بن
حكيم العكي، فقدمها في رمضان. وكان رضيع الرشيد، وكان أبوه من كبار أهل
دولته. وكان محمد هذا غير محمود السيرة، فاضطرب أمره واختلف عليه جنده.
ولو لم يكن من سوء سيرته، وقبيح ما يؤثر عنه من أخباره، إلا أقدامه على
عابد زمانه وورع عصره البهلول. بن راشد فضربه بالسياط ظلما وحبسه، فكان
ذلك سبب موته. ومن أخباره إنه اقتطع أرزاق الجند وأساء السيرة فيهم وفي
الرعية، فمشى القائد فلاح في أهل خراسان وأهل الشام، فلم يزل بهم حتى
اجتمع رأيهم على مخلد بن مرة الأزدي. وخرج على العكي تمام بن تميم
التميمي، وكان عامله بتونس.
(1/89)
ثورة تمام بن تميم
التميمي على محمد بن مقاتل العكي
وفي سنة 183 زحف تمام من تونس مع جماعة القواد والأجناد من أهل الشام
وخراسان متوجها إلى القيروان، في النصف من رمضان. فخرج إليه العكي
فتقاتلا. فأنهزم العكي ورجع إلى القيروان، فتحصن في داره التي بنها
وترك دار الإمارة. وأقبل تمام فنزل بعسكره خلف باب أبي الربيع. فلما
أصبح تمام فتح له الأبواب فدخل يوم الأربعاء لخمس بقين من رمضان سنة
183، فآمن تمام العكي على دمه وأهله وماله. فكانت ولايته إلى أن أخرجه
تمام من القيروان سنتين وعشرة أشهر ثم ولى أفريقيا أبو الجهم بن تميم
التميمي. وكان ثائرا متغلبا من غير عهد من الرشيد وهو جد أبي العرب بن
تميم صاحب التواليف. فدخل القيروان، وخرج العكي منها بأمانه ومشى
لطرابلس ولحق به قوم من خرسان منهم طرحون صاحب شرطته فاجتمع رأيهم على
أن يدخلوه فدخلها وأقام تمام ملك القيروان فنهض إليه إبراهيم بن الأغلب
من الزاب، وكان أمير عليه. فلما بلغ تمام إقباله إليه سار إلى تونس،
فدخل ابن الأغلب القيروان، وأبتدر المسجد الجامع، وصعد المنبر وكان
فصيحا بليغا فأعلم الناس إنه ما وصل إلا لنصره العكي محمد بن مقاتل،
وأنه أميرهم المودم عليهم من أمير المؤمنين وكتب إلى العكي يخبره بما
فعل في حقه ويؤكد عليه في الوصول. فأقبل راجعا حتى دخل هو ومن معه
القيروان فمشى يوما في أزقتها فنادته امرأة من طاقها تقول له (أشكر
إبراهيم بن الأغلب! فهو الذي رد عليك ملك أفريقيا!) فكبر ذلك عليه وكان
تمام بن تميم بتونس. فقال لأصحابه: (أن إبراهيم بن الأغلب رد الملك على
العكي والذين مع العكي قد ملئوا رعبا من وقعتنا بهم وإذا بلغهم خروجي
من تونس يسلمونه ويصلون ألي! ومع هذا فأن العكي حسود، لا بد أن يخالف
إبراهيم بن الأغلب
(1/90)
فيما يشير به عليه.) وكان الناس يقولون
(استرحنا من العكي، فرد إبراهيم علينا! فلموت خير لنا من الحياة في
سلطان العكي!) ففزع الناس إلى تمام بن تميم التميمي. فلما رأى كثرة من
معه، طابت نفسه لقتال العكي. فكتب تمام إلى العكي: (أما بعد، فأن
إبراهيم بن الأغلب لم يبعث إليك فيردك من كرامتك عليه، ولا للطاعة التي
يظهرها للخليفة؛ ولكن كره ان يبلغ إليك أخذه البلاد فترجع إليه؛ فأن
منعك، كان مخالفا لأمير المؤمنين؛ وان دفعها إليك، كان ما فعل لغيره،
فبعث إليك لترجع؛ ثم يسلمك إلى القتال. وغدا تعرف ما جربت من وقعتنا لك
بالأمس!) وفي آخر كتابه (الطويل) :
وما كان إبراهيم من فضل الطاعة ... يرد عليك الملك لكن لتقتلا
فلو كنت ذا عقل وعلم بكيده ... لما كنت منه يا ابن عك لتقبلا
فلما وصل كتابه إلى محمد بن مقاتل العكي، قرأه ودفعه إلى ابن الأغلب؛
فقراه وضحك، وقال: (قاتله الله! ضعف رأيه!) وكتب إليه ابن العكي: (من
محمد بن مقاتل إلى الناكث ابن تميم. أما بعد فقد بلغني كتابك، ودلني
على قلة رأيك. وفهمت قولك في إبراهيم؛ فأن كانت نصيحة، فليس من خان
الله والخليفة مقبول منه ما نصح به! وإن كانت خديعة، فأقبح الخداع ما
فطن له!) وفي آخر كتابه (طويل) :
وإني لأرجو إن لقيت ابن أغلب ... إذا في المنايا أن تفل وتقتلا
تلاقي فتى يستصحب الموت في الوغى ... ويحمي بصدر الرمح عزا موثلا
وأقبل تمام من تونس بعسكر عظيم؛ وأمر ابن العكي من كان معه من أهل
الطاعة بالخروج إليه، مع إبراهيم بن الأغلب؛ فتقاتلوا قتالا شديدا؛
فانهزم تمام، ورجع إلى تونس. وانصرف ابن العكي إلى القيروان، وأمر
إبراهيم ابن الأغلب بالمسير إلى تونس.
وفي سنة 184 خرج العسكر من القيروان لحصار تونس وقتال تمام؛
(1/91)
وذلك في محرم منها. فلما اقبل تمام إقباله،
طلب الأمان منه؛ فأمنه إبراهيم، وأقبل به إلى القيروان، يوم جمعة،
لثمان خلون من محرم المذكور
ولاية إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال
التميمي أفريقية
وصله عهد الرشيد في العشر الوسط لجمادى الأخيرة من سنة 184؛ وقال له
فيه: (قد تقدم لكم بأفريقية أمره) وكان الرشيد ولاه على بلاد الزاب،
وقي بلاد الجريد، وابن العكي على أفريقية. وكان إبراهيم بن الأغلب
فقيها، أدبيا، شاعرا، خطيبا، ذا رأى ونجدة وبأس وحزم وعلم بالحروب
ومكايدها، جرى الجنان، طويل اللسان، لم يل أفريقية أحسن سيرة منه، ولا
أحسن سياسة، ولا أرأف برعيته، ولا أوفى بعهد، ولا أرعى لحرمة منه.
فطاعت له قبائل البربر، وتمهدت أفريقية في أيامه. وعزل العكي عمها،
واستقامت الأحوال بها.
وكان إبراهيم قد سمع من الليث بن سعد، ووهب له جلا جل أم ولده لمكانه
منه ولقد قال الليث يومها: (ليكونن لهذا الفتى شأن!) وكان لإبراهيم
فضائل جمة ومآثر حسنة. وكان له مع راشد أمير الغرب مولى إدريس الحسنى
مواقف ومحاربة؛ وكان راشد قد علا أمره.
ومن قول إبراهيم، وكان قد خلف أهله بمصر (بسيط)
ما سرت ميلا ولا جاوزت مرحلة ... ألا وذكريني دائما عنقي
ولا ذكرتك إلا بت مرتقبا ... أرعى النجوم كان الموت مغتبقي
ولما ملك أفريقية، قمع أهل الشر بها وضبط أمرها. وكان له مع بربرها
حروب طويلة ذكرها. وأحسن إلى عرب جيشها.
وفي سنة 185 شرع إبراهيم في بناء مدينة القصر القديم وصار بعد ذلك دار
الأمراء. وكان على ثلاثة أميال من القيروان؛ وكان قد
(1/92)
اشترى موضعه من بني طالوت؛ فبناه ونقل إليه
السلاح والعدد سرا، وسكن حوله عبده وأهل الثقة به من خدمته. وكان حافظا
للقران، عالما به وثار عليه الكندي بتونس؛ وكانت له معه وقائع وافقت
محاربة المأمون للأمين، بعد موت الرشيد. وفيها، قال الطبري: وقعت
بالمسجد الحرام صاعقة، فقتلت رجلين.
وفي سنة 186 حج بالناس هارون الرشيد، وأخرج معه ابنيه محمدا الأمين،
وعبد الله المأمون، وقواده، ووزراءه، وقضاته، وولي عهد عبد الله. قال
الطبري: وكان الرشيد عقد لأبنه محمد ولاية العهد في شعبان سنة 173،
وسماه الأمين، وضم إليه الشام والعراق في سنة 175، ثم بويع لعبد الله
المأمون بالرقة في سنة 183؛ وولاه من حد همدان إلى أخر المشرق. ولما
قضى مناسكه في هذه السنة، كتب للمأمون كتابين: أحدهما على محمد بما
أشترط عليه من الوفاء بما فيه من تسليم وما ولى لعبد الله من الأعمال،
وما صير له من الضياع والأموال؛ والأخر نسخة البيعة التي أخذها لعبد
الله على محمد وعلى الخاصة والعامة. وأشهد في ذلك في البيت الحرام،
وأمره بقراءة الكتاب على عبد الله ومحمد. وأشهد عليهما جماعة من حضر من
بني هاشم وغيرهم. ثم أمر ان يعلق الكتاب في الكعبة. فلما علق، وقع؛
فقيل: (أن هذا لأمر سريع انتفاضه قبل تمامه!) وفي سنة 187 كان قتل
الرشيد لجعفر بن يحيى، وإيقاعه بالبرامكة؛ والوالي على أفريقية إبراهيم
بن الأغلب كما كان.
وفي سنة 188، كان غزو إبراهيم بن جبريل أرض الروم: وجهه الخليفة هارون،
ودخل أرض الروم من درب الصفصاف؛ فخرج للقائه البطريق نقفور، فورد عليه
من ورائه أمر صرفه عن لقائه؛ فانصرف ومر بقوم من
(1/93)
المسلمين؛ فخرجوا عليه، وأنهزم، وقتل من
الروم أربعون ألفا وبسعمائة، واخذ له أربع آلاف دابة.
وفي سنة 189 كان شخوص الرشيد إلى الرى: وبعث حسينا الخادم إلى طبرستان
بالأمان لمرزبان صاحب الديلم؛ وقدم عليه؛ فأمنه وأمن غيره. وقال أبو
العتاهية في خرجة هارون هذه (سريع)
إن أمين الله في خلقه ... حن به البر إلى مولده
ليصلح الري وأقطارها ... ويمطر الخير بها من يده
وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم؛ فلما يبق في أرض الروم مسلم إلا
فدى.
وفي سنة 190 فتح الرشيد هرقلة من مدائن الروم. وقال شبيل الترجمان: لما
فتح الرشيد هرقلة رأيت على بابها لوح رخام مكتوب فيه بلسانه؛ فجعلت
أقراه، والرشيد ينظر إلي، وأنا لا أشعر، فإذا فيه: (يا بن آدم! غافص
الفرصة قبل إمكانها وقل الأمور إلى وليها، ولا يحملنك أفرادها السرور
على المآثم، ولا تحمل نفسك هم يوم لم يأت! فأنه أن يكن من أجلك وبقية
عمرك، ويأت الله فيه برزقه! فلا تكن من المغرورين يجمع المال! فكم قد
رأينا جامعا لبعل خليلته، ومقترا على نفسه توفيرا لخزانة غيره!) وفي
سنة 191 ولي الرشيد هرمثة بن أعين غزو الصائفة، وضم إليها ثلاثين ألفا
من جند خراسان. وفيها امر الرشيد بهدم الكنائس في الثغور. ولم يكن
للمسلمين بعد هذه السنة صائفة بالمشرق إلى سنة 215. وفي سنة 193، توفي
هارون بن محمد الرشيد - رحمه الله - بطوس من أرض خراسان، ليلة السبت
لثلاث خلون من جمادى الأخير. واستخلف محمد الأمين ابنه. ولما صار المر
إلى الأمين، أقر إبراهيم بن الأغلب على أفريقية
(1/94)
فبقي بها إلى أن توفي بالقيروان في العشر
الأخرى من شوال من سنة 196 وعمره خمس وستون سنة وولايته أفريقية اثنا
عشرة سنة واشهر.
ولاية عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب
أفريقية
وفي سنة 196 ولي عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب أفريقية. وذلك إنه لما
مات إبراهيم بن الأغلب، كان ابنه عبد الله هذا غائبا بمدينة طرابلس؛
فقام له أخوه زيادة الله بالأمر، وأخذ له البيعة على نفسه وعلى أهل
بيته وجميع رجاله وخدمته، وبعث إليه بذلك.
وفي سنة 197 قدم أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب من طرابلس؛
فتلقاه أخوه زيادة الله، وسلم الأمر إليه. وحمل عبد الله في إمارته على
أخيه زيادة الله حملا شديدا؛ وكان يتنقصه، ويأمر ندماءه بإطلاقه
ألسنتهم بسبه، وزيادة الله مع ذلك يظهر له التعظيم والتجبيل والصنع
الجميل، ولا يظهر له ثغيرا ولا يظهر عليه منه أثر. وقد كان عبد الله بن
إبراهيم أراد أن يحدث جورا عظيما على رعيته فأهلكه الله فبل ذلك. وكان
من أجمل الناس وجها، وأقبحهم فعلاً، وأعظمهم ظلما، أحدث بأفريقية وجوها
من الظلم شنيعة، منها قطع العشر حبا، وجعله ثمانية دنانير للقفيز وأصاب
أو لم يصب، وغير ذلك من الظلم والمغارم والمظالم. فأشتد على الناس ذلك.
وفي سنة 198، قتل الأمين بن الرشيد: قتله ابن طاهر عامل أخيه المأمون؛
وذلك لخمس بقين من المحرم. واستخلف أخوه المأمون؛ فأقر عبد الله بن
الأغلب على أفريقية. ولما قدم حفص بن حميد الصالح على أفريقية، ومعه
قوم صالحون من الجزيرة، قصدوا إليه؛ فوعظوه في أمر الدين ومصالح
المسلمين.
(1/95)
فتهاون بهم، فخرجوا مغمورين يريدون
القيروان، وكان هو في القصر القديم. فلما وصلوا وادي القصارين، قال لهم
حفص بن حميد (قد يئسنا من المخلوق فلا نيئس من الخالق! فاسألوا المولى
واضرعوا إليه في زوال ظلمه عن المسلمين! فإن فتح في الدعاء، فقد أذن في
الإجابة) فتوضأ جميعهم وساروا إلى كدية مصلى رَوْح، فصلى بهم حفص
ركعتين، ودعوا الله أن يكف عن المسلمين جور أبي العباس، ويريحهم من
أيامه. فيقال أن قرحة خرجت له تحت أذنه، فقتلته في السادس من دعاء
القوم. وقال من حضر غسله أنه، لما كشف عنه ثيابه، ضُن إنه عبد أسود بعد
جماله وذلك بسوء فعاله، وكانت وفاته ليلة الجمعة لست خلون من ذي الحجة
من سنة 201 فكانت دولته خمسة أعوام وأشهراً.
وفي سنة 201كان تقديم أهل بغداد منصور بن المهدي أميرا عليهم خديما
للمأمون، إلى أن يَقْدَم أو يقَدِّم وكانت وقائع قبل ذلك وبعده. وفيها
مات ابن الأغلب كما ذكرناه، وولى أخوه زيادة اله ساعة موته.
ذكر ولاية زيادة الله بن الأغلب أفريقية
وبعض أخباره
كنيته أبو محمد. وهو أول من أسمه زيادة الله ممن ولى من بني الأغلب
بويع يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة، فأساء السير في الجند وسفك فيم
الدماء وأشتد عليهم في كل وجه. فثار عليه زياد بن الصقلبية بفحص أبي
صالح إليه سالم بن سوادة، فهزمه سالم. ثم ثار العامة عليه أيضاً وذلك
أن زيادة الله كان أغلظ على الجند، وأمعن في سفك دمائهم، والاستخفاف
بهم، وحمله على ذلك سوء ضنه بهم لوثوب على الأمراء قبله وخلافهم على
أبيه. وكان أكثر سفكه وسوء فعله إذا سكر، وكثر الخوض عليه. وخالفت
الجند عليه وغيرهم، فكانت بينه وبينهم حروب ووقائع، حتى خاف على
(1/96)
نفسه، فحصن القصر القديم وبقى فيه على ما
يأتي ذكره أن شاء الله تعالى.
وفي سنة 202 توجه الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب إلى المشرق، خوفا من
أخيه زيادة الله وذلك أن الأغلب كان شقيق أبي العباس عبد الله بن
إبراهيم، وكان أبو العباس طول ولايته، يتنقص زيادة الله ويأمر ندماءه
بإطلاق ألسنتهم فيه فلما صار الأمر إلى زيادة الله جاءه الأغلب،
فأستأذنه في الخروج إلى الحج فأذن له زيادة الله، فخرج الأغلب، وخرجت
معه أبناء أخيه: محمد المكنى بأبي فهر، وإبراهيم المكنى بأبي الأغلب
وهما إذ ذاك صغيران، فحج وأقام بالمشرق. وكان وزير زيادة الله والقائم
بأمره الأغلب بن عبد الله المعروف بغلبون وفي سنة 203، كانت ولاية أبي
عبد الله أسد بن فرات بن سنان مولى بن سليم قضاء القيروان، وهو ممن سمع
من مالك بن أنس. فلما ولى أسد القضاء ضاق أبو محرز القاضي إذ تشرك معه،
ولم يعلم قبلهما قاضيان في وقت واحد؟.
وفي سنة 204 لم يكن فيها ولا في التي بعدها خبر يجتلب.
وفي سنة 206 غزا المسلمون جزيرة سردانية، وعليهم محمد بن عبد الله ألت
ميمي فأصابوا وأصيب منهم، قفلوا.
وفي سنة 207 ثار زياد بن سهل على زيادة الله بن الأغلب، وزحف إلى حرب
باجة، فحاصرهما أياما. فأخرج إليه زيادة الله العساكر فهزموا زيادا،
وقتلوا من وجدوا معه على الخلاف وغنموا الأموال. وكانت فيها وفات اليسع
بن أبي القاسم صاحب سلجماسة، وتقديم أهلها على أنفسهم أخاه الياس
المنتصر بن أبي القاسم الذي كانوا خلعوه.
وفي سنة 208 ثار عمرو بن معاوية القيسي على زيادة الله بن إبراهيم
بالقصرين وتغلب على تلك الناحية وكان عاملا لزيادة الله. وكان له
ولدان،
(1/97)
يقال لأحدهما حباب وللأخر سجمان، فقال له
ابنه حباب: (إنك دخلت في أمر عظيم وعرضت نفسك للهلاك، ولست من رجال هذا
الأمر ولا ينفعك عدد ولا عدة! فراجع أمرك، واتق الله في نفسك!) فضربه
مائتي سوط وتمادى على الخلاف. فأخرج إليه زيادة الله جيشا كثيفا حاصره
أياما، ثم نزل هو وولداه على أمان، وجئ بهم إلي زيادة الله، فألفى على
شراب مع قوم من وجوه أهل بيته، فأمر بحبسهم حتى يرى فيهم رأيه، ودخل
إثر ذلك مضحك له يقال له أبو عمار فقال له زيادة الله: (ما يقول الناس
يا أبا عمار؟) فقال (يقولون إنما منعك أن تقتل عمرو بن معاوية مخافة أن
تشب القيسية على عمك بمصر) فوقع كلامه بقلب زيادة الله، ثم شرب ساعة
والتفت غبلون وزيره، فقال (أنقل نرو بن معاوية وولديه من حبسك إلى
حبسي!) ففعل فلما كان في نصف الليل أقبل زيادة الله إلى السجن وبيده
السيف فقتل عمرو بن معاوية ثم رجع إلى قصره فعاد حباب وسجمان ابني
عمرو. فأمر بحباب أن يقتل، فقال (أيها الأمير) إني مظلوم وقد بلغتك
نصيحتي لأبي فيك حتى ضربني بالسياط. فقال أجل قد كان ذلك! ولكني أعلم
أنك لا تخلص لي وأمر بضرب عنقه واستبقى الأصغر، وهو سجمان فلما أصبح
دعا بترس، فوضع فيه الرأسين ودعا بسجمان، فقال (أتعرف هذين الرأسين)
فقال: أعرفهما! ولا خير في الحياة بعدهما فأمر زيادة الله بضرب عنقه
وجعل رؤوسهم في ترس وشرب عليها ذلك اليوم مع أهل منادمته.
وفي سنة 209 ثار منصور الطنبذي بتونس فأخرج زيادة الله محمد ابن حمزة
في ثلاثمائة فارس مسلحين وأوصاه بكتمان حركته حتى يبغت منصورا بتونس،
فيقبض عليه ويأتي به مصفدا. فسار ابن حمزة إلى تونس، فألفى
(1/98)
منصورا غائبا في قصره بطنبذة. فنزل دار
الصناعة ووجه إليه شجرة بن عيسى القاضي في أربعين شيخا من أشياخ تونس
يناشده الله ويرغبه في الطاعة ويعرفه بما له في ذب لك من الحظ من دينه
ودنياه فتوجه شجرة بن عيسى مع المشايخ إلى منصور فدعوه إلى الطاعة فقال
منصور (ما خاعت يدا ولا أحدثت حدثا! وأنا سائر معكم إلى زيادة اله، ولك
أقيموا علي ّ يومي هذا حتى أعد لكم ما يصلحكم، فأقاموا معه، ووجه إلى
ابن حمزة والذين معه ببقر وغنم وعلف وأحمال قهوة وكتب إليه (إني قادم
عليك بالغداة. القاضي شجرة) فركن ابن حمزة لقوله وذبح البقر والغنم
وأكل هو والناس الذين معه وشربوا. قلما أمسى منصور، أخذ القاضي والذين
معه فحبسهم في قصره وأخذ دوابهم فجعل عليها أصحابه، وجمع خيله وأشياعه،
وزحف إلى تونس، وأمر أصحابه ألا يسمع لهم حسٌ ولا حركة حتى يصيروا إلى
دار الصّناعة. وسار حتى إذا كان بالقرب من دار الصّناعة، أمر بالطبول،
فضربت وأمر أصحابه فكبروا، فوثب ابن حمزة ومن كان معه، والتحم القتال
على الليل. وكثر الناس عليهم، فقتل من كان مع ابن حمزة، ولم يسلم منهم
إلا سبح البحر، وذلك يم الاثنين لخمس بقين من صفر.
وأصبح منصور، فاجتمع إليه الجند وقالوا (نحن لا نثق بك، نأمن أن
يستنزلك السلطان بدنياه وماله فتميل له ولكن إن أحب أن نقوم بنصرك،
فأخضب يدك في دماء أصحاب السلطان وأهل بيته! فوجه حينئذ عن عامل زيادة
الله على تونس، وهو إسماعيل بن سالم بن سفيان وعن ولده محمد فأمر
بقتلهما معا.
فلما اتصل الخبر بزيادة الله، وما كان من قتل رجاله وعامله عقد لغلبون
وزيره على عسكر جليل وقال: (والله! لئن انهزم واحد منكم، لأجعل عقوبته
ما فرّ وهو السيف) فسار غلبون في العاشر لربيع الأول. حتى
(1/99)
وصل إلى سبخة تونس، فخرج إليهم منصور
الطنبذيُّ تعبئة عباها لنفسه، فاقتتلوا مليا. ثم حمل منصور حملة كانت
فيها هزيمة غلبون وأصحابه لعشر بقين مكن ربيع الأول، وسار منهزما إلي
زيادة الله، فاعتذر غلبون عن الهزيمة وحاف أنهم نصحوا واجتهدوا ولكن
قضاء الله لا يرد. وتواثب القواد على أعمال أفريقية، كل قائد على بلدة
يضبطها، ويمتنع فيها من عقوبة زيادة الله التي توعدهم بها. واضطرمت
أفريقيا نارا، ورمى الجند كلهم إلى منصور الطنبذي أزمة أمورهم وولوه
على أنفسهم. وقدم غلبون على زيادة اله، فأعلمه بما كان من أمره ونَغَل
الجند فكتب إليهم زيادة اله صكوك أمان، وبعث ربها إليهم، فلم يثقوا بها
منه، وخلعوا الطاعة.
ولما ظفر منصور، واجتمع إليه بتونس جميع الجند والحشود والوفود من كل
جهة ومكان، فزحف بهم من تونس، فوصل إلى القيروان لخمس خلون من جمادى
الأولى. فركب إليه القاضيان أبو محرز وأسد، فكان بينهما وبينه كلام لم
يفد. وخندق منصور الطنبذي على نفسه فكانت بينه وبين زيادة الله وقائع
كثيرة. ثم رحل منصور من خندقه، ونزل منزلا آخر، وأخذ منصور في إصلاح
سور القيروان فوالاه أهل القيروان وحاربوا معه. فدامت الحرب بين منصور
وبين عسكر زيادة اله أربعين يوما. ثم زحف زيادة اله على تعبئة عباها
لنفسه قلبا وميمنة. فلما رأى ذلك منصور هاله وراعه. والتقت الفئتان،
فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم منصور وولى هاربا وقتل أصحابه قتلا ذريعا،
في منتصف جمادى الآخرة، وانتهى زيادة الله إلى القيروان فأمر برفع
القتال وتمادى منصور في هزيمته إلى أن دخل قصره بتونس، والناس لا
يشعرون. وعفا زيادة اله عن أهل القيروان، وصفح عن جميعهم غير إنه جعل
عقوبتهم هدم سور القيروان حتى ألصقه بالأرض.
وفي سنة 210 كانت وقيعة سبيبة، وهي مدينة. وذلك أن الجند الذين تقدم
ذكر سيرتهم وتنمعهم لأجل الهزيمة التي طرأت عليهم كان قائدهم عمر بن
(1/100)
نافع وأقر زيادة الله على الجيش محمد بن
عبد اله بن الأغلب، فالتقوا هنالك لعشر بقين من المحرم فانهزم ابن
الأغلب وقتل وتمادت الهزيمة إلى القيروان من ضحى النهار إلى بعد صلاة
العشاء، فاغتنم لذلك زيادة الله وأخذ في ضم الرجال وبذل الأموال. وكان
عيال الجند بالقيروان، فلم يعرض لهم زيادة الله. ثم أن الجند سألوا
منصور أن يحتال في نقل عيالاتهم من القيروان، فزحف بهم منصور إليها
ونزل على القصر نحو ستة عشر يوما، فلم يكن بينه وبين زيادة اله فيها
قتال، وأخرج الجند حرمهم عن القيروان. ثم انصرف مصور إلى تونس ولم يبق
بيد زيادة الله من أفريقية كلها إلا قابس والساحل ونفزاوة وطرابلس،
فانهم تمسكوا بطاعته، ولم ينقصوه شيئا من جبايته. وملك منصور جميع عمل
زيادة الله، وضرب السكة باسم نفسه.
وكتب الجند إلى زيادة اله (ارحل عن أفريقية ولك الآمان في نفسك ومالك)
فشاور زيادة اله أهل بيته وخدمته، وقد ضاق به الأمر فقال له سفيان بن
سوادة: (مكني ممن أثق بهم أتقدم بهم إلى نفزاوة) فانتقى له مائة فارس،
فأعطاهم وسار بهم إلى نفزاوة فدعا بربرها إلى نصرته. فأجابوه. فأقبل
عامر بن نافع في الجند نحو نفزاوة فلما وصل إلى قسطيلية جمع ألف أسود
ومعهم الفؤوس والمساحي وخرج بهم إلى نفزاوة فنزل بتقيوس وبلغ ابن سواد
قدومه، فخرج إليه وأقتتل معه، فانهزم الجند وقتل منهم عدد كبير. ورجع
عامر إلى قسطيلية فأقام بها ثلاثة أيام يجبي أموالها ليلا ونهارا، حتى
كمل له من ذلك ما أراد، وسار نحو القيروان.
وفي سنة 211، قام عامر بن نافع على منصور الطبنذي. وكان حاسدا له لأن
منصورا كان يتوعده على الشراب، فعمل عليه عامر مع الجند، فلم يشعر
منصور وهو بقصره بطبنذة حتى زحف إليه عامر من تونس، فحاصره. فراسله
منصور وطلب منه الآمان، على أن يتوجه في سفينة إلى المشرق. فأجابه إلى
(1/101)
ذلك وخرج منصور في أول اليل مستخفيا يريد
الأربس. فلما أصبح عامر، قفا أثره وأثر من اكن معه، حتى أدركهم. فاقتتل
معهم فانهزم منصور ودخل الأربس، فتحصن بها فحاصره عامر فيها. فلما ضاق
الحصار بأهلها، قالوا المنصور (إما أن تخرج عنا وإلا دفعناك إلى عامر!)
فرغب منهم أن يمهلوه حتى يعمل في الخلاص لنفسه. فأرسل إلى عبد السلام
بن الفرج (وكان من وجوه الجند) يسأله الاجتماع به. فأتاه فقال له منصور
من أعلى السور: (بهذا كان جزائي منكم يا معشر الجند! وقد علمتم أن
قيامي على القوم إنما كان من أجلكم. فإذا كان قد صار الأمر إلى ما صار
إليه فأحب أن تسعى في أماني وخلاصي وأخرج عنكم إلى المشرق) فأجابه عبد
السلام إلى ما سأل، واستعطف له عامر بن نافع فأسعفه في ذلك. ثم وجهة
عامر منصورا مع خيل وأمر مقدمهم سراً أن يعرجوا به إلى مدينة جَربة
ويحبسه بها. ففعل ذلك وحبس منصور هنالك. فلكا علم عبد السلام بهذه
الغدرة من عامر حقد عليه وكان بباجة مع أصحابه، وكان هاشم أخو عامر
واليا عليها، فأخذوه وحبسوه وكتبوا إلى أخيه عامر (أما أن تخلي عن
منصور وإلا قتلنا أخاك) فكتب إليهم عامر (إني لست أخلى عن منصور
فاصنعوا بهاشم ما شئتم! فستعلمون عاقبة أمركم) فلما جاءهم كتابه،
أطلقوا هاشما. وأمر بضرب عنق منصور وأخيه حمدون. واستقامت الأمور لعامر
بن نافع.
وفي سنة 212، أغزى زيادة اله صقلية. واجتمع له سبعون مركبا حمل فيها
سبعمائة فرس. وعرض القاضي أسد بن الفرات نفسه على زيادة الله في الخروج
للغزو، فولاه على الجيش، وأقره على القضاء مع القيادة، فخرج معه أشراف
أفريقية من العرب والجند والبربر والأندلسيين، وأهل العلم والبصائر،
وذلك في حفل عظيم وعدة جليلة في ربيع الأول. فساروا إلى حصون الروم
ومدنهم فأصابوا سبيا كثيرا وسائمة كثيرة وكثرت الغنائم عند المسلمين.
واحتل القاضي أسد بمن معه على مدينة سرقوسة، وحاصرها
(1/102)
برا وبحرا وأحرق مراكبها، وقتل جماعة من
أهلها. وجائته الأمداد من أفريقية والأندلس وغيرها.
وفي سنة 213 توفي عامر بن نافع على فراشه. فلما بلغ موته زيادة الله،
قال: (اليوم وضعت الحرب أوزارها!) فاستأمن بنوه إلى زيادة اله، فأمنهم.
وفيها توفي إدريس بن إدريس الحسني
فقام بأمر فاس والبر بر ابنه محمد، فولى أخاه البصرة وطنجة وما يليهما،
وولى سائر اخوته بلاد المغرب.
ذكر مدينة البصرة بالغرب. كانت قبل مدينة كبيرة أزلية، تعرف ببصرة
الكتان لأنهم كانوا يتابعون، في بدء أمرها في أكثر تجاراتهم بالكتان.
وتعرف أيضا بالحمراء. لأنها حمراء التراب. وكان سورها مبنيا بالحجارة
والطوب. ولها عشرة أبواب. ولجامعها سبع بلاطات. وبها حمامان كبيران
ومقبرتها الكبرى في شرقيها، والأخرى في غربيها، وهي التي تعرف بمقبرة
قضاعة. وماؤها زعاق وشربهم من ماء عذب كبير على باب المدينة، يعرف ببئر
أبي ذلفاء. ونساء البصرة مخصوصات بالجمال الفائق والحسن الرائق، ليس
بأرض المغرب أجمل منهن، وفيهن يقول أحمد بن فتح التيهرتي في قصيدة مدح
بها أبا العيش الحسني (كامل) :
ما حاز كل الحسن إلا قينة ... بصرية في حمرة وبياض
الخمر في لحضاتها والورد في ... وجناتها هيفاء غير مفاض
وأست البصرة في الوقت الذي أسست فيه أصيلا أو قريبا منه. ومنها إلى قصر
كتامة وهو قصر عبد الكريم، مرحلة ومنها إلى مدينة جنيارة مرحلة. وقيل
أنها كانت قرية على وادي سبو بينها وبين فاس مرحلة ومن مدينة البصرة
طريق آخر إلى فاس، فمنها إلى ورغة مرحلة، ثم إلى وادى ماسنة مرحلة وهي
مدينة عيسى بن حسن الحسني المعروف بالحجام ثم إلى مدينة
(1/103)
سداك وهي قاعدة خلوف بن محمد المغيلي ثم
إلى فاس. فذلك سبع مراحل. وفي هذه السنة توفي أسد بن الفرات في رجب
منها وهو محاصر لسرقوسة فلما توفي، هربت رهن الروم التي كانت عنده ووقع
الموت في عسكر المسلمين، فاغتنموا لذلك، وولوا على أنفسهم الجراوي.
وفي سنة 214 توفي القاضي أبو محرز الكلابي. وفيها وصل من الأندلس إلى
صقلية نحو ثلاثمائة مركب، فيها أصبغ بن وكيل المعروف بفرغلوش. وبلغ
المسلمين المحصورين بها خير وصولهم، فاستغاثوا بهم، فودعهم بالغوث.
وفي سنة 215، كان غزو فرغلوش الواصل في المركب إلى صقلية هو والوقاد
الذين معه، فأخذا القلاع، وسبقوا، وغنموا في بلاد الروم. ثم سألوا
إغاثة من كان من المسلمين بها، فأجابوهم إلى ذلك على أن يكون أمر الناس
إلى فرغلوش فساروا إلى ذلك وأخذوا في طريقهم القلاع وأغاروا حتى انتهوا
إلى ميناو. فخرج مخنق من كان بها من مسلين، وحرقوا المدينة وهدموها،
وانتقلوا عنها. وسار المسلمون إلى غلواليه، فحصروها وتغلبوا عليها.
واعتل جماعة من المسلمين بها وأخذ الوباء ومات فرغلوش وغيره من القواد
فرحل المسلمون وركب العدو أثرهم، فقتل منهم خلق كثير في خبر طويل ثم
أخذوا في إصلاح مراكبهم قافلين إلى الأندلس.
وفيها ولي سعيد بن إدريس مدينة نكور.
وفي سنة 216 كانت وقيعة بين مطبق السلمي وإسماعيل بن الصمصامة بإفريقيا
فتقاتلا بما من معهما فهزم مطبق وقتل ونهزم أصحابه أبو فهر صقلية.
وفي سنة 217 توجه أبو فهر محمد بن عبد الله التميمي من إفريقيا إلى
صقلية وهرب عثمان بن عرقب عنها.
(1/104)
وفي سنة 218 قام بمدينة تونس فضل بن أبي
العنبر بعد هزيمته لخليل زيادة الله، فضبطها لنفسه. وسار إليه أبو فهر
بن عبد الله بن الأغلب في جيش كثيف حتى افتتحها وقتل فيها عباس بن
الوليد الفقيه الصالح.
وفي سنة 219 أمن زيادة الله كل من طلب الأمان ممن تلفت من تونس وخرج
عنها وقت دخول أبي فهر لها. فأمنهم وسكنت أحوالهم وكان فيهم عبد الرحمن
وعلي ابنا أبي سلمة وأبو العزاف كانوا شعراء فصحاء فأنش عبد الرحمن
مديحا له فيه فلما أنقض إنشاده قام يعقوب بن يحيا الشاعر يحرض زيادة
الله على بني أبي سلمة وأبي العزاف بهذه الأبيات وأوفر:
تسمع أيها الملك المعان ... قوافي في معانيها البيان
يتم أمان من الخضب العوالي ... وليس لشاعر أبدا أمان
لأن قوافي الأشعار تبقى ... على الأيام ما بقى الزمان
وقد يرجى لجرح السيف برءٌ ... ولا برءٌ لما جرح اللسان
فلم يلتفت زيادة الله إلى قوله وأمضى لهم أمانهم وقال لأبي العزاف: ما
منعك أن تستأمن إلينا قبل هذا الوقت؟ قال: أيها الأمير كنت مع قوم حمقى
يولون كل يوم واليا ويعزلون آخر. فرجوت أن تكون لي معهم دولة، فضحك
زيادة الله وقال: لقد عفوت عنك
وفي سنة 220 ولي أحمد بن أبي محرز قضاء أفريقية وفيها غزى محمد ابن عبد
الله بن الأغلب صقلية. فالتقى بالمشركين فانهزموا أمامه. وانصرف
بالغنائم إلى بسلوم. وكانت بصقلية في هذه السنة غزوات كثيرة للمسلمين
برا وبحرا وكذلك بالأندلس.
وفيها وصل ابن الأغلب إلى بسلوم قاعدة صقلية واليا عليها، في رمضان،
بعد أن رأى شدة في البحر وعطبت له مراكب وحطمت له أخرى
(1/105)
وأصاب له النصارى حرّاقة من مراكبه.
وجاهدهم محمد بن السندي في حراقات فاتبعهم حتى حال الليل بينهم.
وفي سنة 21 2، توفي قاضي صقلية ابن أبي محرز. وكان قد أوصى أخاه عمران
أن يكتكم موته حتى يكفنه ويصلي عليه، خوفا أن يكفنة زيادة الله ويصلي
عليه، ففعل عمران ذلك. فلما حمل نعشه وخرج به من داره أقبل خلف الفتى
يمسك كثير وأكفان من قبل زيادة الله فقال له عمران: قد كفناه: فذر خلف
المسك الذي كان معه عليه وحمل إلى المصلى حضر زيادة اله دفنه وعزى أخاه
عنه وقال: يا أهل القيروان لو أراد الله بكم خيرا لما خرج ابن ابي محرز
من بين أظهركم. وكان زيادة الله يقول: ما أبالي ما قدمت عليه يوم
القيامة وفي صحيفتي أربع حسنات: بنياني المسجد الجامع بالقيروان
وبنياني قنطرة أبي الربيع، وبنياني حصن مدينة سوسة ونوليتي أحمد بن
محرز قاضي أفريقية، وولي القضاء بعده ابن أبي الجواد.
وفي هذه السنة، ابتدأت الفتنة بسلجمانة بين ميمون وأخيه ابني المنتصر
ابن اليسع.
وفي سنة 222 كانت غزوة صقلية للمسلمين إلى ناحيو جبل النار، فأصابوا
وغنموا وقفلوا سالمين غانمين. وفيها فتح المسلمون حصن مدنار ومعاقل
كثيرة في غزوة للفضل بن يعقوب، أغزاه أبو الأغلب، وغزوة أخرى لعبد
السلام بن عبد الوهاب، أغزاه أيضا إياها أبو الأغلب، فخرج إليه العدو
فانهزم المسلمين وأصيب منهم جماعة وأسر عبد السلام حتى فدي بعد ذلك.
وفي سنة 223 توفي زيادة اله بن إبراهيم بن الأغلب صاحب أفريقية، يوم
الثلاثاء لربع عشرة ليلة خلت من رجب وهو ابن إحدى وخمسين سنة. فكانت
ولايته إحدى وعشرين سنة، وسبعة أشهر وثمانية أيام.
(1/106)
ولاية أبي عقال
الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب أفريقية
وهو الملقب بخزر، فلنا ولي أمن الناس وأحسن إليهم وإلى الجند، وغير
أحداثا كثيرة كانت قبله وأجرى على العمال أرزاقا واسعة وصلات جزلة وقبض
أيديهم عن الغبة، وقطع النبيذ من القيروان، وعاقب على بيعه وشربه.
وتوفى في العشر الأواخر لربيع الآخر سنة 226، وهو ابن ثلاثة وخمسين سنة
فكانت ولايته سنتين وتسعة أشهر وأياما.
وفي سنة 224، كانت وقعة بأفريقية بين عيسى بن ريعان الآزدي، وقد أخرجه
السلطان لذلك، وبين لواته وزاغة ومكناسه فقتلهم عن آخرهم بين قفصة
وقسطيلية. ذكر ذلك ابن القطان.
وفيها، قدم أهل سلجماسة ميمون بن مدرار وأخرجوا أخاه. فلما استقر الأمر
لميمون أخرج أباه مدرار وأمه إلى بعض قرى سلجمانة.
وفي سنة 225، كانت وفاة أبي جعفر موسى بن معاوية الصمادحي، مولى آل
جعفر وكان ممن روى عنه سحنون.
وفي سنة 226، توفي أبو عقال الأغلب ين إبراهيم في ليلة الخميس لسبع
بقين من ربيع الآخر، وولاية ابنه أبي العباس يوم موت أبيه
ولاية أبي العباس محمد بن الأغلب بن
إبراهيم ابن الأغلب أفريقية
كانت ولايته في أولها ساكنة، والأمور معتدلة. وقلد أحمد بن الأغلب
كثيرا من أموره وكان محمد هذا قليل العلم، ذكر أن رجاء الكاتب كان يوما
بين يديه، فكتب محمد (لحم ضبي) بضاد مسقوطة. فلما حفلا المجلس، قال له
كاتبه: (أيد الله الأمير الظبي يكتب بضاء مرفوعة) فقال له محمد: (قد
(1/107)
علمنا فيها اختلافا فأبو حنيفة يجعله
بالظاء ومالك يجعله بالضاد) فعجب الحاضرون من قوله وكان عقيما لا يولد
له. وكان مظفرا فيء حروبه.
وفي سنة 227، توفي أبو محمد عبد الله بن أبي حسان اليحصبي فقيه
أفريقية، ولقي مالك، وسمع منه. وسأله زيادة اله في النبيذ، فقال له:
(كم دية العقل؟) قال: (ألف دينار) قال: (أصلح الله الأمير يعمد الرجل
إلى ما قيمته ألف دينار، فيبعه بنصف دسهم فقبل له: (أنه يعود ويرجع)
فقال: (أصلح الله الأمير! بعد كشفه سوئته، وإبداءه عورته وضرب هذا وشتم
هذا) وفي سنة 228، كانت أفريقية هادئة ساكنة قال عريب وغيره لم يكن في
أفريقية هذه السنة خبر يذكر ولا في السنتين بعدها.
وفي سنة 230 توفي بهلول بن عمرو بن صالح الفقيه، سمع من مالك وطبقته.
وفي سنة 231 كانت ثورة أحمد بن الأغلب عل أخيه محمد واستيلائه عليه،
وذلك أن أحمد تواعد مع جملة من الموالي إلى موضع، فتوافوا هنالك وقت
الظهيرة، فقصدوا إلى مدينة القصر القديم، وقد خلى الباب من الرجال
فدخلوا، وأغلقوا الباب، ثم ساروا حتى أغلقوا لأبواب الأُخر. ثم هجموا
على أبي عبد الله بن علي بن حميد الوزير فأمر أحمد فضربت عنقه ووقع
القتال بين رجال محمد بن الأغلب وبين رجال أحمد بن الأغلب وجعل أصحاب
أحمد يقولون لأصحاب محمد: (ما لكم تقاتلوننا! نحن في طاعة محمد ابن
الأغلب. إنما قمنا على أولاد علي بن حميد الذين أفقروكم واستولوا على
أموال مولاكم دونكم وإما نحن في الطاعة) لما سمعوا ذلك، أوقفوا عن
القتال، ولما نظر محمد إلى ما دهمه من غير استعداد، قعد في مجلسه الذي
يقعد فيه للعامة، وأذن لأخيه أحمد والرجال الذين معه في الدخول عليه.
(1/108)
فدخلوا بسلاحهم. فكانت بينهما معاتبة. ثم
حلفا أن لا يغدر أحدهما بصاحبه واصطلحا. واعتدلت الأمور لأحمد بن
الأغلب إلا أن أسم الإمارة فقط وقبض أحمد على من شاء، واستصفى من أراد
وعذب من أحب وأعطى الرجال وجنى الأموال، واستوزر نصر بن حمزة.
وفي سنة 232، ظفر محمد بن الأغلب بأخيه أحمد، وحبسه، ورجع له سلطانه.
وقام معه في ذلك جماعة من بني عمه ومواليه. وسقى البوابين واحتال عليهم
حتى دخل المدينة، وحارب أخاه طول الليل وأطلق من كان في حبس أخيه،
فاستمد بهم ووصل أهل القيروان حتى أنفذ جميع ما في خزائنه من الأموال
والكسي ثم نفى محمد بن الأغلب أخاه إلى المشرق فمات بالعراق.
وفيها عزل عبد الله بن أبي الجواد عن القضاء، فقال سحنون لمحمد بن
الأغلب: (أيها الأمير، أحسن الله جزائك! فقد عزلت فرعون هذه الأمة
وجبارها وظالمها) وابن أبي الجواد حاضر ولحيته تضطرب على صدره وكان تام
اللحية.
وفي سنة 233 ولي سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي الفقيه (واسمه عبد
السلام، إنما سمي بسحنون لحدة ذهنه) القصاء بأفريقية بعد أن رجع محمد
بن الأغلب في ذلك عاما كاملا، وهو يأبى عليه، حتى حلف له بأيمان المؤكد
وأعطاه العهود المغلظة إنه يطلق يديه على أهل بيته وقرابته وخدمه
وحاشيته، وينفذ عليهم الحق، أحب أو كرهوا.
وفيها كانت ثورة سالم بن غلبون وقتله، وذلك إنه كان واليا على الزاب
فعزاه محمد بن الأغلب. فأقبل سالم يريد القيروان. ثم عدل في بعض طريقه
إلى الأربس مظهرا للخلاف، فمنعه أهلها من دخولها فسار إلى باجة فدخلها
وضبطها فأخرج إليه ابن الأغلب خفاجة بن سفيان في جيش كثيف فنزل عليه
وحاربه أياما، فهرب سالم بن غلبون في الليل، فاتبعه خفاجة
(1/109)
فلحقه لما أصبح وقتله، وحمل رأسه إلى محمد
بن الأغلب وكان ابنه أزهر محبوسا عنده فأمر بضرب عنقه.
وفي سنة 234، ثار عمر بن سليم النجيبي بتونس، فأخرج إليه ابن الأغلب
خفاجة بن سفيان، فأقام عليه بقية هذه السنة، ثم انصرف عنه من غير ظفر
وفيها مات عبد الله بن أبي الجواد في سجن سحنون وكان ورثته ابن القلقاط
يطلبونه بخمسمائة دينارا وديعة واستظهروا بخطه. فأنكر الوديعة والخط.
فكان سحنون يخرجه كل جمعة، فإذا استمر على الإنكار، ضربه عشرة أسواط.
وأرادت زوجته فدائه بمالها، فامتنع سحنون إلا أن يعترف ابن أبي الجواد
بأن هذا مال الأيتام أو عوضا عنه. فأبى ابن أبي الجواد. فما زالت تلك
حاله إلى أن مرض، فمات. فشنع الناس على سحنون أن قتله. وكان يقول بخلق
القرآن.
وفي سنة 235 كانت وقيعة، بمقربة من تونس، بين المنتزي في العام الفارط
عمرو بن سليم المعروف بالقوبع، وبين محمد بن موسى المعروف بعريان، الذي
استقوده ابن الأغلب لمحاربته، ففزع كثيرا ممن موالي ابن الأغلب إلى
القوبع. فوقعت على محمد بن موسى هزيما، وأسر أحد قواده، بعد أن انكسرت
رجله، ثم طعنه ولد القوبع طعنة كان في حتفه، وقتل كثير من أصحابه.
وأنصرف باقي الجيش إلى ابن الأغلب مفلولين. واشتدت شوكة القوبع.
وفي سنة 236، كانت وقعته بين عمرو بن سليم القوبع المنتزي بتونس وبين
خفاجه بن سفيان، قائد جيش قائد بن الأغلب، فاقتتلوا قتالا شديدا، فنهزم
القوبع، وقوتل أصحابه مقتلة عظيمة. وأدرك القوبع، فضربت عنقه، وحمل
رأسه إلى محمد بن الأغلب، فوصل قاتله، وكساه، وأحسن إليه. ودخل خفاجة
مدينة تونس بالسيف، يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول وسبى فيها،
وانصرف بالجيش إلى القيروان، فكساه ابن الأغلب.
(1/110)
ولاية العباس بن
الفضل جزيرة صقلية
لما توفي صاحب صقلية أبو الأغلب إبراهيم بن عبد الله الأغلب، قدم أهلها
على أنفسهم العباس بن الفضل هذا، وكتبوا إلى محمد بن الأغلب بن خبر.
فأقر العباس، وكتب إليه بعهده بولاية صقلية. فجاهد كثيرا، وغزا طويلا.
وكان له في الروم مواقف أذلهم بها.
وفي سنة 237 ولي حبيب بن نصر التميمي المظالم بالقيروان بتقديم القاضي
سحنون إياه عليها. وفي أغزى العباس بصقلية أرض الروم، فغنم غنائم
عظيمة، وسبى سبيا كثيرا وأداخ بلاده.
وفي سنة 238 أغزى العباس بن الفضل صاحب صقلية الروم فقتل الله
المشركين. وبعث العباس برؤوسهم إلى مدينة بالرم، وقام ينتسف زروعهم،
ويطأ أرضهم، ويسبى من ظفر بهم منهم. ثم قفل إلى صقلية.
وفي سنة 239 كان الجهاد بصقلية في غزوة العباس بن الفضل في الصائفة
فأفسد زروع النصارى، وبث السرايا في كل موضع، وغنم وقصر يانة وقطانية
وسرقوسة وغيرها، وحاصر مدينة بنيرة ستة أشهر حتى صالحوه على ستة آلاف
رأس قيضها منهم. وقفل إلى حضرة بلرم، وفتح مدينة سبرينة.
وفي سنة 240، توفي الفقيه سحنون - رحمه الله - وفيها كان الجهاد أيضا
بصقلية: غزا العباس بن الفضل صاحبها بلاد الروم فسبى ونكى وخرب وانتسف
وبث السرايا، فغنموا غنائم عظيمة.
وفي سنة 241، غزا العباس بن الفضل أيضا الروم بصقلية، فأفسد زروعهم وبث
السرايا في أراضيهم، فغنمت غنائم كثيرة. وأقام في جبل مانع ثلاثة أشهر
يضرب كل يوم حول يلنة فيقتل ويصيب، وتتوجه سراياه
(1/111)
فتغنم في كل جهة. وأغزى أخاه علي بن الفضل
في البحر، فأصاب وغنم وانصرف برؤوس كثيرة.
وفي سنة 242، توفي أبو العباس محمد بن الأغلب صاحب أفريقية ليلتين خلتا
من المحرم، فكانت ولايته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر واثنتي عشرة يوما
ومات وهو ابن ستة وثلاثين سنة. وولي بعده ابن أخيه.
ولاية أبي إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب
أفريقية
وليها وهو ابن عشرين سنة. وكان حسن السيرة، كريم الأخلاق والأفعال، من
أجود الناس وأسمحهم وأرفقهم بالرعبة، مع دين واجتناب للظلم على حداثة
سنه وقلة عمره. وكان يركب في ليالي شعبا ورمضان وبين يديه الشمع فيخرج
من القصر القديم ويمشي حتى يدخل من باب أبي الربيع ومعه دواب بالدراهم،
فكان يعطي الضعفاء والمساكين حتى ينتهي إلى المسجد الجامع بالقيروان
فيخرج الناس إليه يدعون له.
وفيها ولي القضاء بأفريقية أبو الربيع سليمان بن عمران بن أبي هاشم
الملقب بخروفة.
وفيها كان الجهاد بصقلية. غزا صاحبها العباس بن الفضل الروم بالصائفة
فغنم وسبى وانتقل من حصن إلى حصن، ففتح أكثرها، وصالحه بعض أهلها.
وفي سنة 243، كان الجهاد بصقلية. غزا العباس بن الفضل صاحبها بالصائفة
فسبى وغنم، وصالحه أهل قصر الحديد، بعد أن حاصرهم شهرين بخمسة عشر ألف
دينار، وصالحه أهل حصن شلفودة على أن يخرجوا منه ويهدمه، ففعل ذلك.
(1/112)
وفي سنة 244 غزا العباس صاحب صقلية أرض
الروم، فغنم غنائم كثيرة وخرج أخوه في مراكب في البحر إلى جزيرة
إقريطش، فقتل وسبى. وغنم ثم دارت على المسلمين جولة، فقتل منهم، وأخذت
لهم عشرون مركبا.
وفي سنة 245، أخرج أبو إبراهيم بن الأغلب صاحب أفريقية مالا كثيرا لحفر
المواجل، وبنيان المساجد والقناطر لكلمة كانت منه على سُكرٍ.
وفي سنة 246، كان حفر المآجل الكبير على باب تونس. وفيها توفي أبو خلف
الزاهد، واسمه مطروح بن قيس. وكان عابداً زاهدا.
وفي سنة 247، كان بالقيروان سيل عظيم كسر القنطرة فأمر صاحب أفريقية
بإصلاحها. وفيها توفي عبد الرحمن بن عبد ربه، وكان مستجاب الدعوة.
وفيها توفي العباس بن الفضل صاحب صقلية، في جمادى الأولى لثلاث خلون
منها، وولى عمه أحمد صقلية: ولاه أهلها، وكتبوا بذلك إلى صاحب أفريقية
أبي إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب، فجاء كتابه بإثباته.
وفي سنة 248، كمل بناء ماجل باب تونس الكبير وتمت الزيادة في جامع
القيروان وكمل إصلاح قنطرة باب أبي الربيع، وفيها كانت غزوة رباح فأصاب
وغنم، ثم دارت عليه وقيعة، أخذت فيها طبوله وأعلامه، ثم أُسرَ قوم من
أصحابه ثم تراجع وافتتح مدينة جبل أبي مالك، وسبى جميع كما كان فيها
وأحرقها وبث سرايا كثيرة فأصابت وغنمت.
وفي سنة 249، توفي أبو إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب صاحب أفريقية
يوم الثلاثاء لثلاث خلت من ذي القعدة، فكانت ولايته سبع سنين وعشرة
أشهر ونصفا. وهو ابن ثمان وعشرين سنة.
ولاية زيادة الله بن محمد بن الأغلب
ابن إبراهيم بن الأغلب أفريقية
ولي يوم وفاة أبي إبراهيم، في ذي القعدة، فكتب إلى خفاجة بإمضاء
(1/113)
ولايته وخلعَ عليه. وكان أبو محمد زيادة
الله هذا عاقلا حليما حسن السيرة جميل الأفعال، ذا رأي ونجدة وجود
وشجاعة. وهو الثاني ممن أسمه زيادة اله في بني الأغلب. ول تطل في الملك
مدته، فتكون له أخبار تؤثر. وتوفي ليلة السبت لعشر بقين من ذي القعدة
من سنة 250 فكانت دولته سنة واحدة وسبعة أيام.
ولاية أبي الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد
بن الأغلب
ولي سنة 250، وهو ابن أخي زيادة الله المتوفى قبلُ. ولي يوم السبت لعشر
بقين من ذي القعدة، ولقب بأبي الغرانيق لأنه كان يهوى صيدها، حتى بنى
قصرا يخرج إليه لصيدها، أنفق فيه ثلاثين ألف مثقال من الذهب. وكان
مسرفا في العطاء، مع حسن سيرة في الرعية. ثم غليت عيه اللذات والانشغال
بها فلم يزل كذلك طول مدته، ولم تكن له همة في جمع مال. فلما مات لم
يجد أخوه في بيتا المال شيئا يذكر، وكانت ولايته حروبا أكثرها على ما
يأتي ذكره.
وفي سنة 251 كانت غزوة السرية المعروفة بسرية ألف فارس، وذلك أن خفاجة
صاحب صقلية غزا قصر يانة، فأفسد زرعه وسار إلى سرقوسة فقاتل أهلها. ثم
رحل عنهم وأخرج ابنه محمدا إليهم في سرية فكمن لهم وقتل منهم ألف فارس،
فسميت تلك السرية سرية ألف فارس.
وفي سنة 252، بنى محمد بن حمدون الأندلسي المعافري الجامع الشريف
بالقيروان المنسوب إليه: بناه بالآجر والجص والرخام، وبنى فيه جبابا
للماء. وغزا خفاجة صاحب صقلية أرض الروم، وافتتح حصونا كثيرة؛ ثم مرض
مرضا شديدا، فانصرف في محمل إلى بلرم.
(1/114)
وفي سنة 253 قال ابن القطان: عريت هذه
السنة من أخبار أفريقية، فلم يكن فيها خبر مشهورا يجتلب.
وفي سنة 254 غزا خفاجة صاحب صقلية بطريقا وصل من القسطنطينية، في جمع
كبير نفي البر والبحر، فأنهزم البطريق بعد قتال شديد، وقتل من أصحابه
آلاف كثيرة، وأخذ لهم سلاح وخيل. ودخل خفاجة إلى سرقوسة وغيرها؛ فغنم
غنائم كثيرة، ورجع إلى بلرم قاعدة أول يوم من رجب.
وفي سنة 255 خرج خفاجة صاحب صقلية للغزو؛ فلقيه العدو في جمع كبير؛
فاقتتلوا قتالا شديد، فقتل شجاع من شجعان المسلمين؛ فانكسروا لقتله.
فسارة خفاجة إلى سرقوسة فامتنعت منه؛ فأقام عليها، وأفسد زرعها. وفيها
توفي خفاجة؛ وذلك أنه؛ لما أكمل غزاته المذكورة، قفل من سرقوسة، يريد
بلرم؛ فأدلج ليلا؛ فأغتاله رجل من عسكره، وطعنه طعنه مات منها، وذلك
أول يوم من رجب. وهرب الذي طعنه إلى سرقوسة. وحمل خفاجة إلى بلرم؛ فدفن
بها. فولى أهل صقلية ولده محمد. وكتبوا بذلك إلى الأمير محمد بن أحمد
أبن الأغلب أبي الغرانيق؛ فكتب إليه بالولاية، وخلع عليه.
وقي سنة 256 توفي محمد بن سحنون التنوخي، وكان فقيها ورعا - رضي الله
عنه -! وفي سنة 257 ولى القضاء بإفريقيا عبد الله بن أحمد بن طالب
صارفا سليمان بن عمران. وفيها، توفي صاحب صقلية محمد بن خفاجة قتله
خدمة نهار لثلاث خلون من رجب، وكتموا أمره، فلم يعرف قتله ألا بعد يوم
لهروب الخدم، فأخذوا وقتل بعضهم. فولى صقلية أحمد بن يعقوب بتقديم ابن
الأغلب إياه. وولى على الأرض الكبير عبد الله بن يعقوب، فكانت لهما في
هذا العالم غزوة أوقعا فيها بالمشركين. ولم يكن في بإفريقيا في سنة سبع
خبر يذكر.
وفي سنة 258، توفي أحمد بن يعقوب صاحب صقلية، وولى ابنه الحسين مكانه.
وأوفر صاحب أفريقيا عليها.
(1/115)
وفي سنة 259، ولى سليمان بن عمران قضاء
أفريقية، وعزل عبد الله بن أحمد بن طالب التميمي عنه. وفيها عزل صاحب
صقلية سرقوسة، فصالحه أهلها على أن يخرجوا إليه من أير المسلمين الذين
كانوا عندهم ثلاثمائة وستين أسيرا.
وفي سنة 260 كانت المجاعة العامة بالمشرق والمغرب، والوباء، والطاعون.
وفيها توفي محمد بن إبراهيم بن عبدوس الفقيه العالم، الذي دون
(المجموعة) ، وكان مجاب الدعوة.
وفي سنة 261 توفي أبو الغرانيق محمد بن أحمد بن الأغلب ليلة الأربعاء
لست خلون من جمادى الأول من هذه السنة، فكانت ولايته عشر سنين وخمسة
أشهر ونصفا، وفي دولة المستعين بالله والمعتز والمهتدي المعتمد في بعض
أيامه.
ولاية إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب
وصفة ولايته أن أبى الغرانيق كان عهد لأبنه أبي عقال، وأستخلف أخاه
إبراهيم بن أحمد ألا ينازعه في ملكه بخمسين يمينا. فلما مات أبو
الغرانيق، أتى أهل القيروان إلى إبراهيم بن أحمد، وهو إذ ذاك والي على
القيروان. فقالوا له (قم، فأدخل القصر، فأنت الأنير!) وكان إبراهيم قد
أحسن السيرة فيهم. فقال لهم (قد علمتم أن أخي قد عقد البيعة لابنه،
واستحلفني خمسين يمينا ألا أنازع ولده ولا أدخل قصره) فقالوا له (تكون
أمير في دارك بالقصر القديم، ولا تنازع ولده! فنحن كارهون ولايته
ومبايعون لك! وليس في أعناقنا له بيعة!) فركب من القيروان، ومع أكثر
أهلها، فحاربوا أهل القصر حتى دخل إبراهيم داره، فبايعه مشايخ أهل
أفريقية ووجوهها، وبايعه جماعة بني الأغلب.
وفي سنة 262 توفي أبو زيد شجر بن عيسى القاضي بتونس، وكان من
(1/116)
خيار القضاة، له مناقب كثيرة، وهو ابن تسع
وتسعين سنة. وفيها أسست قلعة مدينة تنس، أسسها البحريون من أهل
الأندلس.
وفي سنة 263 ابتدأ إبراهيم بن أحمد بن الأغلب ببناء مدينة رقادة.
وفي سنة 264 كمل بناء القصر المعروف بالفتح، وانتقل إليه إبراهيم ابن
أحمد. وقتله للموالي بالقصر القيم لأنهم ثاروا عليه. وفيها فتحت سرقوسة
يوم الأربعاء لأربعة عشرة ليلة خلت لرمضان، وقتل فيها أكثر من أربعة
آلاف علج، وأصيب فيها من الغنائم ما لم يصل بمدينة من مدائن الشرك ولم
ينج من رجالهم أحد. وكان مقام المسلمين بصقلية عليها على أن فتحت تسعة
أشهر، وقاموا بعد فتحها شهرين، ثم تهدمت. وفيها، قتل صاحب صقلية جعفر
ابن محمد. قتله غلمانه مع الأغلب بن محمد بن الأغلب، الملقب بخرج
الرعونة، وبي عقال الأغلب بن أحمد، وكانا محبوسين عنده فتولى خرج
الرعونة بلرم وضبطها، فوثب أهلها عليه وعلى أبي عقال ومن أتصل بهما،
فأخرجوهم من صقلية إلى أفريقية. وولي الحسن بن رباح صقلية.
وفي سنة 265 غزا صاحب صقلية الحسن بن الرياح الصائفة إلى طرمين، ودارت
بينه وبين مشركي صقلية حرب قتل فيها من المسلمين، ثم كانت لهم الكرة
على المشركين، فهزموهم، وقتلوهم، وقتلوا بطريقتهم.
وفي سنة 266 كان القحط العظيم والغلاء المفرط بأفريقية. وفيها أغزى
صاحب صقلية الروم، فالتقى في البحر بمراكبهم، وهم في نحو مائة وأربعين
مركبا، فدارت بينهم حرب شديدة حتى أسلم المسلمون مراكبهم وأخذها الروم
وأنصرف من وكان في تلك المراكب إلى بلرم، فأقاموا بها شهورا يبثون
السرايا ويغنمون أرض الروم المجاورين لهم.
وفي سنة 267 ولي عبد الله بن أحمد بن طالب التميمي القضاء صارفا
لسليمان بن عمران عنه. وفيها ولي الحسن بن العباس جزيرة صقلية. وفيها
(1/117)
كانت فتنة ولد ابن طولون، حين أراد التغلب
على إفريقية. وهاأنا أذكر قصته إلى أن هزم. وذلك أن العباس بن أحمد بن
طولون ولد صاحب مصر، قدم في هذه السنة في ثمانمائة فارس وعشرة آلاف من
سودان أبيه على خمسة آلاف جمل إلى مدينة برقة، في ربيع الآخر يريد
إفريقيا والتغلب عليها وإخراج بني الأغلب عنها. وحمل مع نفسه من بيت
مال مصر ثمانمائة حمل دنانير ذهبا فأعطى أصحابه الأرزاق بها. وقيل أن
مبلغ ما حمل من المال ألف ألف دينار ومائتا ألف دينار. ومعه عبد الله
أحمد بم محمد الكاتب مكبلا لأنه أظهر الامتناع من الخروج معه، أشار
عليه بأن يؤخر التقدم إلى طرابلس حتى يصانع البربر فقال (أخشى أن تقدم
العساكر من الشام قبل أحكام هذا الأمر (يعني عساكر أبيه، لأنه كان
ثائرا على أبيه) ويكون أيضا في ذلك فسحة لإبراهيم بن أحمد فيتمهل في
الاستعداد. ولكني أمضي على فوري هذا، فآتى لبدة وإطرابلس فجأة، ثم أخذ
في استمالة البربر بعد ذلك بالعطاء والأفضال وأبعد من مصر، فلا يقوم
لأحمد بن طولون (يعني أباه) أمل في مطالبتي لبعدي عنه!) وخرج يريد
لبلده فأنصل خبره لإبراهيم بن أحمد فأخرج إليه أحمد بن قهرب في ألف
وستمائة فارس، خيلا مجردة لا رجال فيها وأمره بإعداد السير والسرى
بالليل حتى دخل لإطرابلس قبل وصول العباس بن أحمد بن طولون إلى لبدة ثم
أحشد ابن قهرب من أمكنه من جند إطرابلس وبربرها، ثم بادر إلى لبدة
ودخلها وأقبل العباس ابن طولون وقد صنع له ببرقة خمسة آلاف بند فجعل له
كل جملا رجلا ببنده وزحف بثمانمائة فارس وخمسة آلاف رجل فالتقى به أحمد
بن قهرب على خمسة عشر ميلا من لبدة وقد تأخرت الجمال بالرجالة أصحاب
البنود فلم يكن بينهم ألا مناوشة يسيرة حتى أنهزم أحمد بن قهرب وهو يضن
أن من
(1/118)
ناوشة من أصاحب ابن طولون كانوا مقمد
للجيش. ووصل أحمد بن قرهب إلى إطرابلس منهزما وركب العباس بن طولون
أثره حتى نزل إطرابلس منصب عليها المجانيق وناصبهم الحرب. وأقام محاصرا
لهم ثلاثة وأربعين يوما فتعدى بعضهم سودانه على بعض حرم البوادي وهتكوا
الستر فستغاث أهل إطرابلس بأبي منصور صاحب منقوسة فقام متحسبا وناصرا
جيرانه من المسلمين وجحف في اثنا عشرة ألفا من رجال نفوسة إلى العباس
بن أحمد بن طولون فناشبوا الحرب فقال العباس لأبي عبد الله الكاتب (ما
الرأي؟) فقال له (ببرقة خلفته!) وألح أهل نفوسة في محاربة ابن طولون
فأنهزم وخرج إلى برقة بعد انتهاب أهل إطرابلس لجميع عسكره. ول يتلبس
النفوسيون منه بشيء بل تورعوا عنه. وكان إبراهيم بن أحمد قد حشد
الأجناد وضرب حلى نسائه دنانير ودراهم إذ لم يبق أبو الغرانيق مالا. ثم
خرج بنفسه يريد إطرابلس فلقيه خبر هزيمة ابن طولون فبحث ابن الأغلب عن
الأموال وأخذ ممن وجت عنده، فكان الرجل من أهل العسكر يبيع مثاقيل ابن
طولون سرا بما أمكنه خوفا من أن تأخذ منه وفي سنة 268 كان فتك إبراهيم
بن الأغلب بأهل الزاب فقتلهم وقتل أطفالهم وحملوا على العجل إلى الحفر
فألقوا فيها وفيها عزل صاحب صقلية الحسين بن عباس ووليها محمد بن
الفضل. وفي سنة 269 توفي سليمان بن حفص الفراء، وكان جهميا. وكان يقول
بخلق القرآن ودعا الناس إليه فهموا بقتله.
وفي سنة 270 توفي سليمان بن عمران القاضي مفلوجا. وتوفي حسين بن زيد بن
علي. وتوفي أبو حاتم هشام بن حاتم الفقيه، وكان مجاب الدعوة.
وفي سنة 271، توفي الحسين بن أحمد صاحب صقلية. ووليها سواد بن محمد بن
خفاجة التميمي.
(1/119)
وفي سنة 272 أغزى سوادة صاحب صقلية سراياه
إلى بلاد الروم فغنمت انصرفت. وفيها كانت وقائع بين المسلمين وبين
بطريق جاء من القسطنطينية، يقال له نجفور، في عسكر كبير، فدخل مدينة
سبريينة، وخرج منها المسلمون بأمان إلى صقلية.
وفي سنة 273 وثب أهل بلرم على سوادة بن محمد صاحب صقلية وعلى أخيه وبعض
رجاله فوجهوهم مفيدين إلى أفريقيا. وأجتمع أهل البلد على أبي العباس بن
علي، فولوه على أنفسهم. وفي سنة 274 كان وصول أحمد بن عمر بن عبد الله
بن إبراهيم بن الأغلب المعروف بحبشي. وفيها توفي أحمد بن حدير
بإفريقيا، وله سماع من سحنون.
وفي سنة 275 كان لأهل صقلية على المشركين صولة، فقتل فيها من المشركين
أكثر من سبعة آلاف وغرق نحو من خمسة آلف، حتى أخلى الروم كثير من المدن
والحصون التي تجاور المسلمون. ووصلت سرايا المسلمين إلى الأرض الكبيرة
فسبت وانصرفت.
وكانت بإفريقيا هيجة تعرف بثورة الدراهم.
ثورة الدراهم على إبراهيم بن أحمد
وذلك أن إبراهيم بن أحمد ضرب الدراهم الصحاح، وقطع ما كان يتعامل به من
القطع. فأنكرت ذلك العمة وغلقوا الحوانيت، وتألفوا، وصاروا إلى رقادة،
وصاحوا على إبراهيم، فحبسهم في الجامع. وتصل ذلك بأهل القيروان فخرجوا
إلى الباب وأظهروا المدافع. فوجه إليهم إبراهيم بن أحمد وزيره أبا عبد
الله بن أبي إسحاق فرموه بالحجارة وسبوه. فانصرف إلى السلطان إبراهيم
بن أحمد، فأعلمه بذلك. فركب إبراهيم إلى القيروان، ومعه حاجبه نصر بن
(1/120)
الصمصامة في جماعة من الجند، فناصبه أهل
القيروان القتال. فتقدم إبراهيم بن أحمد إلى المصلى، فنزل وجلس وكف
أصحابه عن قتاله. فلما اطمأن به مجلسه، وهدأ الناس، خرج إليه الفقيه
الزاهد أبو جعفر أحمد بن مغيث، فمان بينهما كلام كثير. ودخل أبو عبد
الله بن أبي إسحاق الوزير مدينة القيروان مع أحمد بن مغيث فشق صماطها
وسكن أهلها. فرجع إبراهيم بن أحمد إلى رقاده، وأطلق المحبوسين بالجامع.
وانقطعت النقود والقطع من أفريقيا إلى اليوم، وضرب إبراهيم بن أحمد
دينارا ودرهما وسماها العاشرية، في كل دينار منها عشرة دراهم.
وفيها، عزل عبد الله بن أحمد بن طالب بن سفيان عن قضاء أفريقيا وحبسهة،
ثم أرسل إليه بطعام مسموم وأكله في الحبس، فمات من فوره في رجب،
واستقضى إبراهيم بن أحمد محمد بن عبدون بن أبي ثور، وكان جده طحانا،
وكان يكتب أسمه: محمد بن عبد الله الرعيني.
وفي سنة 276 كان الجهاد بصقلية في غزوة سوادة بن محمد إلى طرمين،
فحاصرها. وفيها حبس إبراهيم بن أحمد كاتبه محمد بن حيون المعروف بابن
البريدي فكتب إليه من السجن (بسيط) :
هبني أسأت فأين العفو والكرم
إذ قادني نحوك الإذعان والندم
يا خير من مدت الأيدي إليه أما
ترثي لصب نهاه عبدك القلم
بالغت في السخط فأصفح صفحا مقتدرا
أن الملوك إذا ما استرحموا رحموا
(1/121)
قال: فلما قرا إبراهيم بن أحمد أبياته،
قال: (يكتب إلي: (هبني أسأت!) وهو قد أساء! أما إنه لو قال (وافر) :
ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرم الكاتبينا
لعفوت عنك!) ثم أمر - قبحه الله - به، فجعل في تابوت حتى مات - رحمه
الله تعالى! - 277 قتل إبراهيم بن أحمد حاجبه نصر بن الصمصامة بان ضربه
خمسمائة صوت، فلم ينطق بكلمة ولا تحرك من موضعه ثم أمر بضرب عنقه. فقال
لنن حوله (لا تظنوا أني أجزع من الموت!) ووددهم إنه يفتح يده ويغلقها
ثلاث مرات بعد ضرب عنقه ففعل، فأخبر إبراهيم بذلك فتعجب وأمر بشق بطنه
شقا لطيفا ويؤتي إليه بقلبه. فنظر منه إلى منظر عجيب وذلك أمه كان فأتى
في كبده ووجت فيه شعيرات نابت في أكثر أجزائه.
وفي سنة 278 كانت ولاية أبي العباس أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب
للمظالم، وولاية محمد بن الفضل صقلية، وعرض ديوان الخراج على سوادة
النصراني على أن يسلم، فقال: (ما كنت لأدع ديني على رياسة أنالها!)
فقطع بنصفين وصلب.
وفي سنة 279 كانت ولاية محمد بن الفضل صقلية. ودخل حضرة بلرم لليلتين
خلتا من صفر.
وفيها، قتل إبراهيم بن أحمد من أهل أفريقية من قتل بطرا وشهوة فممن قتل
في هذه السنة: إسحاق بن عمران المتطبب المعروف بسم ساعة؛ قتله وصلبه،
ومنهم حلجبه فتح، ضربه بالسياط حتى مات. وقتل فيها جميع فتيانه؛ وسبب
ذلك إنه كان كثير الإصغاء إلى قول المنجمين والكهنة، وكانوا قالوا له
إنه يقتله رجل ناقص العقل، وانه يمكن أن يكون فتى، فكان إبراهيم، إذا
(1/122)
رأى أحد من فتيانه، فيه حركة ونشاط وجدة،
يتقلد سيفا، قال: (هذا هو صاحبي!) فلما قتل منهم جماعة، وقع بقلبه إنه
قد استفسد إليهم فضمه الحذر منهم إلى قتل جميعهم، فقتلهم في هذا العام،
واستخدم عوضا عنهم السودان. ثم عرض لهم منه ما عرض للفتيان الصقالبة:
فقتل السودان أجمعين.
وفي سنة 280 كان الإيقاع برجال بلزمه، وقصتهم ان إبراهيم بن احمد ابن
الأغلب كان قد حاربهم وأستقدم منهم إلى مدينة رقادة نحو من سبعمائة رجل
من ابطالهم، فأنزلهم ووسع عليهم، وبنى لهم دارا كبيرة تشمل على دور
ترجع إلى باب واحد، وأسكنهم فيها. فلما سكنوا واطمأنوا، جمع ثقات رجاله
لأخذ أرزاقهم؛ ثم أمرهم بمصابحة ابنه عبد الله لما أمره به. فلما
اجتمعوا إليه ركب إلى دار البلزميين في الجند، فقتلهم عن أخرهم، بعد أن
دافعوا عن أنفسهم إلى وقت العصر. وكان ذلك من أسباب انقطاع دولة بني
الأغلب، إذ كان أهل بلرمة في نحو ألف رجل من أبناء العرب والجند
الداخلين إلى أفريقية عند افتتاحها وبعده، وكان أكثرهم من قيس، وكانوا
يذلون كتامة. فلما قتلهم إبراهيم، استطالت كثامة، ووجدت السبيل للقيام
مع الشيعي على بن الأغلب.
وفيها، كان تمنع البلاد ومخالفتها على السلطان إبراهيم بن أحمد،
وانتزاء من انتزى عليه. وذلك أن أهل تونس والجزيرة والأربس وباجة
وقمودة خالفوا عليه وقدموا على أنفسهم رجالا من الجند وغيرهم، لأن
السلطان إبراهيم بن الأغلب أخذ عبيدهم وخيلهم، وجار عليهم، فصارت
أفريقية على نار موقدة، ولم يبق يده من أعمال إلا الساحل والشرق إلى
طرابلس. فحفر حفيرا حوالي رقادة، ونصب عليها أبواب حديد، وجمع إلى نفسه
ثقاته، وقرب السودان من قصره، وقد كان جمع منهم خمسة آلاف أسود ز
وفيها، وكانت وقائع انجلت عن فتح تونس عندة، قمودة تحركوا لقتال
إبراهيم بن الأغلب؛ فأخرج إليهم ميمونا الحبشي. فقاتلهم حتى
(1/123)
انهزموا، وقتل جماعة منهم، ثم فعل ذلك أهل
تونس، فهزمهم ميمون أيضا، وهزم أهل الجزيرة وصطفورة، وقتل منهم كثيرا،
حتى سيق القتلى في العجل إلى القيروان. ثم دخلت تونس بالسيف، لعشر بقين
من ذي الحجة، فنهبت الأموال وسبيت الذرية، واستحلت الفروج. ومما كان
بأفريقية في هذا العام، دخول أبي عبد الله، داعية الشيعة أفريقية،
ونزوله بكتامه منها. فلنذكر الآن مبتدأ أمرا مختصرا، إلى أن استقل
بالملك. ثم نرجع ما كنا بصدده.
ابتداء الدولة العبيدية الشيعية
قال الوراق: لم تزل الشيعة منذ مات على ابن أبي طالب - رضي الله عنه -
تدعو إلى إمام معصوم، يقوم بالحق، على زعمهم؛ فترسل دعاة إلى سائر
النواحي، فلا ينجح لهم سعي. ثم تفاوضوا وتراسلوا على أن يرسلوا داعيا
إلى المغرب، يدعو الناس إلى التدين بحب الله البيت، وتكاتبوا من سائر
الأفاق. فاختاروا منهم رجلا ذا فهم، وفصاحة وجدال، ومعرفة، يسمى أبا
عبد الله الصنعاني، وجمعوا له مالا يتقوى به على سفره. فسار أبو عبد
الله هذا إلى موسم الحج ليجتمع به مع من يحج تلك السنة من أهل المغرب،
ويذوق أخلاقهم، ويطلع على مذاهبهم، ويتحيل على بيل الملك بضعيف الحيل.
فسبحان مقدرة المقدورة، ومحكم الأمور كيف يشاء لا إله إلا هو فلما وصل
للموسم، لا للحج لأن الحج ليس من مذهبهم الفاسد، بل تكلف حضوره ليتسبب
في مراده، فرأى في الموسم قوما من أهل المغرب، فلصق بهم وخالطهم.
وكانوا نحو عشرة رجال من قبيلة كتامة، ملتفين على شيخ منهم. فسألهم عن
بلادهم، فأخبروه بصفتها، وسألهم عن مذهبهم، فصدقوه عنه. فتكلم أبو عبد
الله الداعي في المذاهب؛ فوجد الشيخ يميل في مذهبه إلى مذهب الأباضية
النكارة، فدخل
(1/124)
عليه من هذه الثملة ولم يزل يستدرجهم
ويخلبهم بما أوتي من فضل اللسان والعلم بالجدل إلى أن سلبهم عقولهم
بسحر بيانه. فلما حان رجوعهم إلى بلادهم سألوه عن أمره وشأنه فقال لهم
(أنا رجل من أهل العراق وكنت أخدم السلطان ثم رأيت أن خدمته ليست من
أفعال البر فتركتها وصرت أطلب المعيشة من المال الحلال فلما أر لذلك
وجها ألا تعليم القرآن للصبيان، فسألت أين يأتي ذلك تأتيا حسنا، فذكر
لي بلاد مصر.) (ونحن سائرون إلى مصر وهي طريقنا. فكن في صحبتنا إليها!)
ورغبوا منه في ذلك فصحبهم في الطريق. فكان يحدثهم ويميل بهم إلى مذهبه
ويلقي إليهم الشيء بعد الشيء إلى أن أشربت قلوبهم محبته فرغبوا منه أن
يسر إلى بلادهم ليعلم صبيانهم. فاعتذر لهم بعد الشقة وقال: (أن وجت
بمصر حاجتي أقمت بها وألا فربما أصحبكم إلى القيروان.) فلما وصلوا مصر
غاب عنهم كأنه يطلب بغيته. ثم أجتمع بهم وسألوه فقال لهم: (لم أجد في
هذه البلاد ما أريد.) فرغبوه أن يصحبهم فأنعم لهم بذلك. فكانوا في
صحبته حتى وصلوا إلى القيروان فرادوه على أن يصل معهم إلى البلاد
وضمنوا لهم ما أراد من تعليم الصبيان فقال لهم (لابد لي المقام
بالقيروان حتى أطلب فيها حاجتي. فلما اتفق لي فيها غرضي وإلا نهضت
إليكم.) وكان شيخهم أحرصهم عليه وأكرمهم له، فوصف له منزله وموضعه من
قبيلة كتامة، فأقام بالقيروان يتعرف أخبار القبائل حتى صح عنده أن ليس
في قبائل أفريقية أكثر عددا ولا أشد شوكة ولا أصعب مراما على السلطان،
من كتامة.
فلما تقرر ذلك عده، نهض نحو صاحبه الشيخ الكتامي، فاشترى بغلة شهباء
ودخل الطريق مع الفقة حتى قرب من موضع الشيخ صاحبه، فعدل إليه، ومر في
الطريق بأندر، والبقر فيه تدرس الزرع ورجل كهل من أهل كتامة جالس فيه
مع ابنه، فقرب منهما، وسلم عليهما. فقاما إليه ورحبا به، ورغبا منه في
النزول
(1/125)
عندهما، فأجابهما إلى ذلك، فأنزلوه
وأكرموه. فقال الداعي للرجل: (ما اسم ولدك هذا؟) قال: ما اسمك أنت؟
قال: مُعارِك. فقال في نفسه: تم أمرنا أن شاء الله، لكن بعد مَعارك. ثم
أراد الداعي الانصراف، فصرفوه مع امرأة نتدله على الطريق، لأن الحرب
كانت بينهم وبين بني عمهم. فسار حتى نزل في منزل من منازل كتامة. فأتى
المسجد، وفيه معلم يعلم الصبيان. فقام إليه المعلم وسلم عليه، وهو راكب
على بغلته الشهباء فجعل المعلم يطيل النظر إليه، فاستراب لذلك أبو عبد
الله، ونزل عن الدابة ودخل المسجد. ثم دعا المعلم فقال له: لقد رأيتك
تنظر إلي كثيرا وإلى البغلة. فقال له: ذلك لسبب أنا أقوله لك. وذلك إنه
كان فيهما تقدم رجل من كتامة كاهن، يقال له فيلق، وكان إذ رأى تفاتنهم
يقول لهم: إنما ترون الحرب إذا جاءكم الرجل الشرقي صاحب البغلة
الشهباء. فلما رأيتك، تذكرت قوله. فلما وقر ذلك في سمعه استبشر. وكان
ذلك والذي قبله من الفال تقوية له على أمره، وزيادة إقدام، لولا هو لم
يقدر أن يتجاسر على شيء منه. فسبحان مسبب الأسباب.
فسار عبد الله الداعي حتى وافى منزل الشيخ صاحبه الكتامي، فقصد إلى
المسجد ونزل به، وفيه معلم يعلم الصبيان وعنده أبناء الشيخ صاحبه فلما
حان وقت الظهر أذن المعلم فسمع الشيخ الأذان فخرج إلى المسجد، فرأى عبد
الله فسلم عليه، وعانقه فلما أراد المعلم الدخول للمحراب، أخره عنه
الشيخ وقدّم عبد اله لداعي، فلما انقضت الصلاة قم معه إلى منزله وبالغ
في إكرامه، وتحدث معه إلى أن حانت صلاة العصر، فخرج معه لصلاة. فاستراب
معلم الصبيان بذلك فترك ذلك المسجد والتعليم فيه وانصرف. وصار عبد الله
في ذلك المسجد يصلي ويعلم الصبيان. واجتهد
(1/126)
في تعليم الأولاد فجمعوا له أربعين دينارا،
وزاد عليها الشيخ وأتى بها إلى أبي عبد الله، فدفعها له، واعتذر له من
ذلك. فتركها أبو عبد الله أمامه ورد يده إلى كيس كان معه، وصب منه
خمسمائة دينار أمام الشيخ وقال له: لست بمعلم الصبيان إنما الأمر ما
أخبرك به فاسمع إنما نحن أنصار أهل البيت وقد جاءت الرواية فيكم يا أهل
كتامة! إنكم أنصارنا، والمقيمون لدولتنا، وإن الله يظهر بكم دينه، ويعز
بكم أهل البيت! وإنه سيكون غمام منهم أنتم أنصاره والباذلون مهجتهم
دونه، وإن اله يستفتح بكم الدنيا كلها ويكون لكم أجركم مضاعفا. فيجتمع
لكم خير الدنيا والآخرة!. فقال له: الشيخ: أنا أرغب فيما رغبتني فيه
وأبذل فيه مهجتي ومالي ومن اتبعني وأنا أطوع إليك من يدك: فمر بما شئت
أمتثله!. فقال له: ادع لخاصة من بني عمك الأقرب فالأقرب. فقال: نعم.
فنظر الشيخ فيما قاله، وبث دعوته في أقاربه ومن يختص به.
وجاء شهر رمضان. فقال أبو عبد اله للشيخ: إن رمضان قد جاء ومذهبنا أن
لا تصلى التراويح لأنها ليست من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -
وإنما سنها عمر ونحن نطوّل القراءة في صلاة العشاء الأخيرة، ونقرأ
بالسور الطوال، فيكون ذلك عوضا عن التراويح. فقال له الشيخ: أنا طائع
لك فافعل ما تريده. وبلغ خبر هذه الصلاة ولمع من أخبار هذا لداعي إلى
بعض من اتصل بمنزل الشيخ وبأخيه. فسار أخو الشيخ إليه وقال له: ما لك
ولهذا المشرقي الذي أفسد دينك. وغيّر مذهبك؟. فلما فرغ من كلامه قال له
الشيخ: أنا أدعوك للأمر الذي دخلت فيه، فأما أن تتقلد ما تقلدته وأما
أن لا تلقاني بذم من قد بلوت خيره وفضله ودينه!. فانصرف عنه أخوه
مغضبا. وانفرد الشيخ مع سائر الجماعة، فوصف لهم أبا عبد اله بكل فضيلة
حتى تمكنت محبته في قربهم، ثم أخرجه إليهم وقال له: كلمهم يا أبا عبد
(1/127)
الله فكلمهم بلسانه وقال لهم: أنتم أنصار
أهل البيت وشيعته! حتى خلب عقولهم بحلاوة لفظه. فلم يبرحوا حتى دخلوا
في دعوته.
ثم أن أخا الشيخ توجه إليه، يفخر عليه بمعلم أولاده، ويدعي إنه أعلم من
أبي عبد الله ويطلب مناظرتهما. فتواعدوا لذلك. ولنا حان الموعد جاء أخو
الشيخ وأبنائه، وبلغ أخاه مجيئه، فأتى بجماعة منت بني عمه ممن دخل في
مذهبه وقال لهم: إذا نحن اجتمعنا، اضربوا أنتم على قيطون أخي كأنكم
أعدائه! وأمر جماعة أخرى، فكمنت له في طريقه. فبينما أخو الشيخ مع
معلمه وأولاده، إذ صرخت صارخة من نحو قيطونة، فأسرع يركض إلى ناحيته،
فخرج عليه الكمين، فخبطوه بأسيافهم، وتركوه عقيرا. وبلغ الشيخ خبر قتل
أخيه، فبادر كأنه لا علم عنده من ذلك، وجاء بنو عمه يعزونه في أخيه،
فذبحت البقر، وصنع طعاما لبني عمه ونعى لهم أخاه، واحتال على قوم من
بني عمه وأخذ عليهم العهود والمواثيق بطاعة الداعي فاجتمع له منهم خلق
كثير.
وأقام هذا الشيخ في حرب مع قومه وبني عمه مدة من سبعة أعوام، إلى أن
وافاه أجله. فلما حضرته الوفاة، جمع بني عمه وقرابته، وقال لهم: أوصيكم
بهذا الرجل ألا تختلفوا عليه! وأوصى عبد اله على أولاده، وقضى نحبه.
فالتزمت كتامة الطاعة لأبي عبد الله ودخلت قبائل كثيرة في دعوته. فصير
لهم ديوانا، وألزمهم العسكرية، وقال لهم: أن لا أدعوكم لنفسي، وإنما
أدعوكم لطاعة الإمام المعصوم من أهل البيت، الذي صفته كذا وكذا. ووصف
لهم من كراماته ما تنكره العقول. فكانت تصح عندهم، ويقول لهم: هو صاحب
هذا الأمر، وأنا منصرف من بين يديه إذا ظهر! يعني عبيد الله. ولم يكن
رآه قط، وإنما يسمع من شيوخ الشيعة، وكان يعتقد ذلك اعتقادا
(1/128)
صحيحا لا مرية فيه، إلى أن صفا له أمر
البربر، فنازل الحواضر وهزم ملك أفريقية وانتزعها من يديه.
وفى سنة 281، أمر إبراهيم ابن الأغلب صاحب أفريقية ميمونا الحبشي أن
يسير إلى تونس، فيقتل بها جماعة من بني تميم وغيرهم، فقتلوا وصلبوا على
بابها. فوفد أكابر أهل تونس مع ميمون الحبشي، فكسا السلطان ميمونا
الخزّ والوشي والديباج، وطوقه بالذهب، وحماه على فرس، وصرفه إلى تونس
من غده. وفيها خرج السلطان إبراهيم بن الأغلب إلى تونس، لثمان خلون من
رجب، فاستوطنها.
وفي سنة 282، انعقد الصلح بين أهل صقلية والروم لأربعين شهرا على إخراج
ألف أسير من المسلمين، وعلى أن تكون عندهم رهائن الإسلام في كل ثلاثة
اشهر من العرب وثلاثة من البربر وفيها قدم إبراهيم بن الأغلب بنيه على
بلاد أفريقية.
وفي سنة 283، رجع إبراهيم بن أحمد من تونس إلى رقادة. وخرج أبو منصور
أحمد بن إبراهيم إلى طرابلس. وخرج أبو بحر بن أدهم إلى مصر. وفيها كانت
وقعة نفوسة، وذلك إن إبراهيم بن أحمد اعترضته نفوسة بين قابس وطرابلس
ومنعته الجواز، وكانوا في زهاء عشرين ألف رجل لا فارس معهم فناصبهم
الحرب وقاتلوهم قتالا شديدا حتى هزموهم وقتلوا أكثرهم. ثم تمادى إلى
مدينة طرابلس، فقتلوا بها أبو العباس محمد بن زيادة الله بن الأغلب
وكان أديبا ظريفا، له تواليف، وسبب قتله أن المعتضد بالله العباسي كتب
إلى إبراهيم بن أحمد يعنفه على جوره وسوء فعله بأهل تونس ويقول له:: إن
انتهيت عن أخلاقك هذه، وإلا فسلم العمل الذي بيدك لابن عمك محمد بن
زيادة الله! ثم نهض من طرابلس إلى تاورغا: فقتل بها خمسة عشر رجلا،
وأمر بطبخ رؤوسهم مظهرا إنه يريد أكلها، هو ومن معه من
(1/129)
رجاله فارتاع أهل العسكر منه، وقالوا: (قد
خولط) فانفض الناس عنه فلنا رأى ذلك، خشي أن يبقى وحده. فرجع إلى تونس
فجعل عقوبة من انفض عنه غرم ثلاثين دينارا، فسمي غَرْم الهاربين.
وفي سنة 284، كانت وقعة بنفوسة لأبي العباس بن إبراهيم فقتل منهم مقتلة
عظيمة، وأسر منهم نحو ثلاثمائة. فلما وصل بهم إلى والده إبراهيم بن
أحمد دعا بهم. فقُرِّبَ إليه الشيخ منهم، فقال له إبراهيم: أتعرف عليّ
بن أبي طالب؟ فقال له: لعنك الله يا إبراهيم على ظلمك وقتلك! فذبح
إبراهيم وشق عن قلبه، وأخرجه بيده، وأمر أن يفعل ببقية الأسرى كذلك،
حتى أتى على أخرهم. ونظمت قلوبهم في حبال، ونصبت على باب تونس.
قصة ابن الأغلب مع الشيخ الصالح أبي الأحوص
وذلك إن أبا الأحوص أحمد بن عبد اله المكفوف المتعبد، من أهل سوسة كان
زاهدا ورعا. فلما أكثر إبراهيم بن أحمد الجور والقتل، دعا برجل من لأهل
سوسة، وأملى عليه رسالة إلى إبراهيم، كان في فصل منها: يا فاسق! يا
جائر! يا خائن! قد حدت عن شرائع الإسلام! وعن قريب تعاين مقعدك من
جهنم، وسترد فتعلم! وبعث به إليه فلما قرأه، غضب وبعث إلى أبي الأحوص
من قال له: عذرناك لفضلك ودينك! ولكن ابعث إلي الذي كتب الكتاب. وبالله
لئن لم تفعل، لأقتلن فيه من أهل سوسة كذا وكذا، ويكون إثم ذلك في عنقك!
فقال أبو الأحوص للرسول:: قال له لئن قتلت ألفا لا يكون إثمهم إلا
عليك! ولو عملت ما عملت ما أعلمتك بالرجل. فتب إلى خالقك، وأرجع عن
جورك! فأمسكه الله عنه، ومات أبو الأحوص في هذه السنة.
وفي سنة 275، كانت فتنة بصقلية، بين عربها وبربرها، وفي خلال ذلك،
(1/130)
وردت كتب ابن الأغلب يدعوهم إلى الرجوع
للطاعة، ويؤمنهم أجمعين، حاشى أبا الحسن بن يزيد وولديه الحضرمي، فتقبض
عليه وبعث بهم إلى لأبن الأغلب فأما أبو الحسن فإنه تناول سما فمات من
ساعته وصلبت جثته وقتل ولداه. وجعل إبراهيم من يضاحك الحضرمي ويهازله،
فقال له: ليس هذا وقت هزل! وأمر به فقتل بالمقارع بين يديه.
وفي سنة 286، سخط إبراهيم ابن الأغلب على جماعة من فتيانه وقتلهم.
وفيها كانت وقعة أبي العباس بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب وبين بني
بلطيط ببسكرة، ففرق جموعهم وقتل عددا كثيرا منهم وأصلح ما كان التاث
هناك.
وفي سنة 287، كانت بصقلية ملحمة كبيرة، وذلك إن أبا العباس عبد الله بن
إبراهيم بن أحمد أخرجه أبوه بالأسطول مصلحا لها، فأسرع إلى بلرم يؤمن
أهلها. فأتاه قاضيا في جماعة من أهلها، فحسبهم عند نفسه وصرف القاضي.
ثم وجه إليهم ثمانية مشايخ من أهل أفريقية، فحسبوهم مكافأة افعله في
مشايخهم. ثم زحفوا إليه وحاربوه فانهزموا وقتل منهم عدد كثير ودقت لهم
سفن. وتمادت هزيمتهم إلى بلرم. ثم زحف إليهم، فحاربهم على باب بلرم،
وقتل منهم عددا كثيرا، وطلبوه بالأمان فأمنهم. ودخلها لعشر بقين من
رمضان من السنة.
وفي سنة 288، أخرج إبراهيم بن أحمد ولده أبا عبد الله في جيش كثير إلى
الزاب. وفيه أغزى أبو العباس صاحب صقلية، فدخل مدينة رية عنوة وغنم
فيها غنائم كثيرة واستأمنت له حصون وأعطوه الجزية.
وفي سنة 289، أظهر صاحب أفريقية إبراهيم بن احمد التوبة لنا استقام أمر
أبي عبد الله الداعي بكتامة. فأراد إبراهيم بن أحمد أن يرضي العامة
ويستميل قلوب الخاصة بفعله، فرد المظالم وأسقط القبالات، وأخذ العُشُر
طعاما، ونرك لأهل الضياع خراج السنة، وسماها سنة العدل،
(1/131)
وأعتق مماليكه، وأعطى فقهاء القيروان ووجوه
أهلها أموالا عظيمة ليفرقوها على الضعفاء والمساكين فاستوكلت وأعطيت من
لا يستحقها وأنفقت في اللذات. وصرفت في الشهوات. وقدِم ولده أبو العباس
من صقلية مستدعي فأسلم إليه أبوه الملك، فولي أبو العباس على الكور من
أحب.
أخبار إبراهيم بن أحمد على الجملة ووفاته
كان مولده يوم الأضحى سنة 261، وتوفي يوم الاثنين لثلاث عشر ليلة بقيت
من ذي القعدة من هذه السنة المؤرخة بأرض الروم وسيق ميتا إلى جزيرة
صقلية، فدفن بها بعد ثلاثة وأربعين يوما من موته. وكان عمره اثنين
وخمسين سنة ومدة ولايته ثمانية وعشرين سنة وستة أشهر واثنتي عشرة يوما.
وأقام في أول ولايته سبعة أعوام على ما كان أسلافه من حسن السيرة وحميد
الأفعال، ثم تغيرت أحواله، وأخذ في جمع الأموال. ثم صار في كل سنة
يزداد تغيرا وسوء حال. ثم اشتد نكاده، فأخذ في قتل أصحابه وحجابه حتى
إنه قتل ابنه المكنى بأبي الأغلب، وقتل بناته وأتي بأمور لم يأت بها
أحد غيره. وكان كثير الملل، شديد الحسد. وكانت له في بدء أمره سيرة
حسنة، وأفعال محمودة، ثم غلب عليه خلط سوداوي، فتغير وساءت أخلاقه كما
ذكرنا. فقيل إنه افتقد منديلا صغيرا كان يمسح به فمه، وكان سقط من يد
بعض جواريه فأصابه خادم له، فقتل بسبه ثلاثمائة خادم. وكان سبب قتله
لولده ظن منه به، فضربت رقبته بين يديه صبرا. وقتل أخزته ثمانية: ضربت
أعناقهم بين يديه. وكانت أمه إذا ولدت له ابنة أخفتها وربتها، لئلا
يقتلها حتى اجتمع عندها منهن ست عشرة جارية، كأنهن البدور، فقالت له
(1/132)
يوما وقد رأت منه رقة: يا سيدي قد ربيت لك
وصائف ملاحا، وأحب أن تراهن. قال: نعم. فلما رآهن قالت له: هذه بنتك من
فلانة وهذه بنتك من فلانة. حتى عدتهن. فلنا خرج من عند أمه قال لخادم
له أسود: امض إليهن وجئني برؤوسهن. فوقف اسيتعضا ما لذلك. فقال له: أمض
وإلا قدمتك قبلهن! فلما دخل على أمه، كبر ذلك عليها، وعظم في قلبها
وقالت له: راجعه! فقال لها: لا سبيل إلى ذلك! فقتلهن وأخذ برؤوسهن،
وجاء بها إليه معلقة بشعورهن، فطرحها بين يديه - قبحه الله - وأدخل
كثيرا من فتيانه الحمام وأغلق عليهم باب البيت السخن، فماتوا فيه
جميعا. وأخباره كثيرة في هذا المعنى، ذكرها الرقيق وغيره.
وفي سنة 289 المذكورة استرجع أبو العباس بن إبراهيم بن أحمد المال الذي
أخرجه أبوه إلى الفقهاء ووجوه الناس ليفرقوه في المساكين، فرجع معظمه
وقال لمشايخ أفريقية: اغتنمتم الفرصة في المال لمرض الأمير أبي ومغيبي
عنه! وفيها شخص أبو عبد الله الأحول بن أبي العباس إلى مدينة طبنة إلى
محاربة الشيعة. وفيها تساقطت النجوم لثمان بقين من ذي القعدة، فسميت
السنة سنة النجوم، فلهذه السنة ثلاث أسماء سنة العدل وسنة الجور،
(سماها العامة بذلك) وسنة النجوم وفي سنة 290، كتب أبو العباس بن
إبراهيم إلى العمال ليأخذوا له البيعة لأن أباه فوض إليه وتخلى له عن
الملك واشتغل بالعبادة، وذلك قبل أن يبلغه وفاة أبيه.
ولاية أبي العباس بن إبراهيم بن أحمد
وسيرته
وذلك إنه أظهر التقشف، والجلوس على الأرض، وإنصاف المظلوم وجالس أهل
العلم وشاورهم. وكان لا يركب إلا إلى الجامع فقال قوم: إن
(1/133)
أهل النجوم أمروه بذلك! وقال قوم: به
وسوسة! وكتب إلى ابنه زيادة الله يستحثه في القدوم عليه من صقلية لأنه
وشي به إليه إنه يريد الانتزاء عليه. فقدم زيادة الله على أبيه لعشر
بقين من جمادى الأخيرة، فقبض أبو العباس ما كان معه من الأموال والعدة،
وحبس زيادة الله ي بيت داخل داره وحبس ناسا من أصحابه.
مقتل أبي العباس بن إبراهيم بن أحمد
قتل يوم الأربعاء، ليوم بقى من شعبان فكانت ولايته بعد أبيه تسعة أشهر
وأحد عشر يوما، ومن يوم أفضى إليه أبوه الأمر سنة واثنان وخمسون يوما.
وكان قتله على ما أصفه: وذلك إنه خرج من الحمام إلى دار خالية واستلقى
على سرير الخيزران، ووضع تحت رأسه سيفا ونام بعد أن خرج كل من كان في
الدار غير فتيين كان يثق بهما فلما نام تآمرا على قتله وقالا: (هذه
فرصة في تقديم اليد عند زيادة الله! فنطلقه من أسره ونستريح من أبيه
ويلي مكانه ونفوز بالخطوة عنده.) فأستل السيف الذي كان تحت رأسه وضربه
ضربة فقطع عنقه ولحيته حتى نفذ إلى السرير. ومضى الفت الأخر إلى ناحية
من الدار فارتقى الحائط ونفذ إلى زيادة الله وأعلمه لأن أباه قتل فظن
أنها مكيدة عليه فقال له (أن كنت صادقا فأريني الرأس فانطلق مسرعا ورمى
إليه بالرأس فعند ذلك صدقه.
ولاية زيادة الله بن أبي العباس
عبد الله ابن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب
وذلك أن زيادة الله لما صح عنده قتل أبيه ورأى الرأس بين يديه
(1/134)
كسر قيوده وبادر خوفا أن يشعر بالأمر أحد
من أعمامه فيسبقه. فلما صار زيادة الله في الدار أرسل في عبد الله بن
الصائغ وفي أبي مسلم منصور بن إسماعيل، (وهما ممن كان سجن معه تهمة،)
وفي عبد الله بن أبي طالب.
فلما دخلوا عليه قال لهم: (انظروا لي ولأنفسكم!) فقالوا له: (أرسل في
أعمامك في لسان أبيك، وفي جودة الرجال والقواد.) فأرسل فيهم ودفع إليهم
الصلات، وأخذ عليهم البيعة وأمر أن ينادي بتونس: (من كان هاهنا من
الجند فليوافوا باب الأمير!) فركعوا بأسلحتهم فأمر بإدخالهم واحداً
واحدا: يدخل الرجال فيبايع ويعطي خمسين مثقالا ففعل ذلك بالجودة.
أو كتب ذلك كتاب بيعته، فقرأ بتونس على منبر جامعها. وأخذت له البيعة
على العامة بها. وكتب إلى العمال (بالبلاد) بأن يأخذوا له البيعة على
من قبلهم. فلما قرب العشاء، نودي في الجند (اصبحوا للأخذ عطاياكم) ومطل
عمومته بالانصراف (عنه) إلى الليل ثم أكبلهم أجمعين وأخلهم في شيني،
ووكل بهم ثقاته، وأمرهم أن يمضوا بهم إلى جزيرة الكراث، وهي على اثني
عشر ميلا من مدينة تونس، فضربت هناك رقابهم ليلة السبت لثلاث خلون
لرمضان. وأصبح الجند والموالي من غد ذلك اليوم لأخذ الصّلات. فلما مضى
صدر من النهار قيل لهم: انصرفوا فإنه يوم شغل! ثم أتوا من الغد فدفعوا.
فلم يزالوا يترددون إلى أن بردت قلوبهم وملوا الاختلاف. ولما كمل الأمر
لزيادة الله دعا بالفتيين الذين قتلا أباه. فأمر بهما فقطعت أيديهما
وأرجلهما وصلبا على باب القيروان وباب الجزيرة من
(1/135)
أبواب تونس. وقتل أيضا زيادة الله عمه أبا
الأغلب الزاهد الساكن يسوسه وقتل أخاه أبا عبد الله الأحول بعد أن
استقدمه من طبنة.
وولى زيادة اله الوزارة والبريد عبد الله بن الصائغ، وولى أبا مسلم
منصور بن إسماعيل ديوان الخراج! وولى قضاء القيروان حماس بن مروان ابن
سماك الهمداني، وكان ورعا عالما بمذهب مالك وأصحابه، فعدل في أحكامه،
ولم يكن يهيب أحدا في ولايته (ونظره. وفيها مات محمد بن مجمد بن الفرج
البغدادي مولى بني هاشم، وكانت له عناية وطلب، ومات محمد بن ابن
المنهال، وكانت له رياسة بأفريقية. وفيها قتل بن الفياد إذ اتهمه زيادة
الله بأنه أشار على أبيه يؤدبه وحبسه. وفيها مات محمد بن سليمان وكان
ثقة الحديث والرواية وسمع أبوه من سفيان بن عيينة) .
وفي هذه السنة، أسست مدينة وهران، على يديّ محمد بن أبي عون بن عبدون
وجماعة من الأندلسيين.
(وفيها مات علي بن الهيثم المحدث، وإبراهيم بن عثمان القرشي التونسي
وكانا من أهل الرواية والعلم.) وفي سنة 291 ولي محمد بن زيادة الله
العهد، وأخذت البيعة له بذلك. (وفيها قتل هذيل النفطي، صاحب ديوان
الخراج، وقتل ابن المنبت الملقب بالعجل، وفيها توفي محمد بن زرزور
الفقيه الفارسي وكان على مذهب أبي حنيفة، وكان حافظا لبيبا، ونظر في
النجوم والحساب، وخولط في عقله، فكان إذا قيل له: (يا زواغي) يهيج
وينشط) وولي على بن أبي الفوارس
(1/136)
(التميمي) عمالة القيروان ثم عزل عنها،
ووليها أحمد بن مسرور. وولى إبراهيم بن حبشي التميمي قتال أبي عبد الله
الشيعي.
وفيها مات أبو جعفر أحمد بن داود الصواف، مولى ربيعة، وكان فاضلا من
رجال سحنون وكان في حداثته يقول الشعر ثم تركه. وفيها خرج الحسن بن
حاتم إلى العراق رسولا من عند زيادة الله بهادايا وطرف. وولى الحسن بن
أبي العيش بن إدريس بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن (أبن
الحسن) بن علي بن أبي طالب (رضه) عمل جراوة لوفاة أبيه أبي العيش. ورفع
زيادة الله فقهاء إفريقيا إلى مدينة تونس مستظهرا بهم على أبي عبد الله
الشيعي فاجتمعوا عند عبد الله بن الصائغ صاحب البريد، وتفاوضا في أمره
وقال لهم ابن الصائغ (أن الأمير يقول لكم هذا الصنعاني الخارج علينا مع
كتامه يعلن أب بكر وعمر رضنهما ويزعم أن أصحاب النبي - صلى الله عليه
وسلم - ارتدوا ويسمى أصحابه: المؤمنين ومن يخالفه في مذهبه: الكافرين
ويبيح دم من خالف رأيه) فأظهر الفقهاء لعنه والبراءة منه، وحرضوا الناس
على قتله وأفوتهم بمجاهدته. (وأرس زيادة الله هدية للعابس فيها عشرة
آلاف مقال في كل مثقال منها عشرة مثاقيل وكتب في كل مثقال هذين البيتين
(كامل) :
يا سائرا نحو الخليفة قل له ... أن قد كفاك الله أمرك كله
بزيادة الله بن عبد الله سي ... ف الله من دون الخليفة سله
وفي سنة 239 قد أبو مسلم بن إسماعيل بن يونس لإصلاح
(1/137)
مدينة رقادة ورقع ما وهي فيها وإنشاء مركبا
على ماجل القيروان وسمى الزلاج. وقدم زيادة الله في تونس في شهر ربيع
الأخر فنزل على الماجل الكبير بالقيروان. وفيها ضرب الخال طوف بمدينة
القيروان مخسبا على بغل بأكاف.
وفيها، ظهر النجم ذو الذوابة في الجدي بجه الشمال، بقرب بنات نعش وذلك
في رجب. وقفيها كانت وقعة على عسكر السلطان وذلك أن أبى عبد الله
(الداعي) ، لما علم بخروج العسكر إليه وكثرة من معه من وجوه الرجال
وأمجاد العرب والموالي، وما معه من العدة وآلات الحرب، وأرتاع لذلك،
وأخذ في حشد كتامة وكان حشده بغير ديوان إنما كان يكتب إلى رؤساء
القبائل، فيحشدوا من يليهم، طاعة له ورغبة فيه. وكان لا يزيدهم في
كتابه إليهم على أن يقول: (أن الوعد يوم كذا في موضع كذا) ويصرخ صاروخ
بين يديه: (حرام على من تخلف) فلا يتخلف عنه أحد من كتامة، فأجتمع منهم
ما لا يحصى كثرة. وتأهب لملاقاة إبراهيم بن حبشي، فالتقى مع إبراهيم بن
حبشي أمير العسكر بكينونة فكانت بينهما ملحمة عظيمة تطاعنوا فيها
بالرماح حتى تحطمت وتجادلوا بالسيوف حتى تقطعت، من أول النهار إلى أخره
ثم انهزم إبراهيم ووقع القتل على أصحابه فذهب كثير منهم ونجى باقيهم في
ظلمة الليل واشتغلت عنهم كتامة بالغنيمة والأموال والسلاح والسروج
واللجم وضروب الأمتعة. وهي أول غنيمة أصابها الشيعي وأصحابه، فلبسوا
أثواب الحرير، وتقلدوا السيوف الموحلات، وركبوا بسروج الفضة واللجم
الملهبة، وكثر عندهم السلاح، فشرفت أنفسهم، وتحققت آمالهم، وصح عندهم
ما كان الشيعي يعدهم به من النصر، ويبسط له الآمال فيه من التأييد لهم
والنصر والغلبة لعدوهم. ووقع الوهي على أهل إفريقيا، وداخلهم الوهن
والجزع
(1/138)
وكتب أبو عبد الله الداعي إلى عبيد الله
الشيعي، وهو يومئذ بسجلماسة يعلموا بالفتح ووجه إليه بمال كثير مع قومه
من أهل كتامة سرا.
وذكر رجل من بني هاشم بن عبد المطلب يسمى بأحمد بن محمد بن عبد الله بن
جعفر بن عبد الله بن علي بن زيد بن ركانة بن عبدون بن هاشم، كان مع
عبيد الله بسجلمانة قال: (وصلني عبيد الله بمال كثير من دنانير لا توجد
في ذلك البلد، فكثر تعجبي منها. فلما رأى مني ذلك، وعلم مني ما أوجبه
ثقته بي واستنامته إلي. قرأ على كتاب أبي عبد الله بالفتحة، وأمرني
بكتمان الخبر، وألا أبدل حالتي الأولى، ولا أغير حيلتي وملبسي؛ وقال
لي: (عن علينا عيونا ورقابة؛ فلا يطلعوا منا على تبدل الحال، واستفادة
مال) وفيها، مات أبو سهل فرات بن محمد العبدي الفقيه، سمع من سحنون،
وعبد الله بن بي حسان، وموسى بن معاوية، وغيرهم بأفريقية، ورحل إلى
المشرق فسمع كمن رؤساء أصحاب مالك وله لسان طويل ومعرفة بالأنساب، وكان
أعلم الناس بالناي وأوقع الناس في الناس حتى نسب إلى الكذب. وفيها، ولد
محمد بن يوسف الوراق بالقيروان.
وفي سنة 293، أخرج زيادة الله بن عبد الله بن الأغلب جيشا إلى الأربس
لمحاربة أبي عبد الله الشيعي وولى عليهم مدلج بن زكرياء، وأحمد بن
مسرور الخال، فخالفا عليه يوم الاثنين لعشر خلون من جمادى الأخيرة،
ووافيا بالعسكر مدينة القيروان يوم الخميس لثلث عشرة ليلة خلت من جمادى
الأخيرة، فخرج ألهم الغوغاء من القيروان ودافعوهما. وكبا بمبلج فرسه،
فقتل من ساعته وقل مع ابن بربر، وصلب على باب رقادة وقد كان زيادة
(1/139)
الله برز لقتال مدلج، حتى أتاه الخبر بقتل
العامة له، فكتب بذلك فتحا قرى بالقيروان وأعمالها. وكان سبب خلافه على
زيادة الله إنه حكم عليه في منية له كا تعرف بالجليدية، وسجل عليه فيها
القاضي حماس بن مروان فأضغن ذلك، وجعل سببا إلى الخلاف عليه.
وفيها، ورد كتاب المكتفي بالله، يحث أهل أفريقيا على نصرة زيادة الله،
ومحاربة الشيعي. وقرأ كتابه على الناس. وفيها، كسفت الشمس كلها، وصلى
القاضي حماسة بن مروان بالناس صلاة الكسوف في الجامع. وفيها خرج زيادة
الله بن عبد الله إلى مدينة الأربس فنزل بغريبها، واجتمعت إليه عساكر
كثير، وأعطى بها الأموال جزافا بالمصحاف كيلا بلا وزن، لكل رجل صحفة
توضع له في كسائه دنانير ويحمل على فرس، ثم يخرج الرجل، فلا يرى بعدها.
فأنفق فيها أموال جسيمة وبذل مجهوده في الإحسان إلى الرجال. والشيعي مع
ذلك ازداد ظهورا. ووجه عساكر إلى بدعاية، وشك مدين طبنة وشحنها بالرجال
وقد عليها حاجبه أبا المقارع حسن بن أحمد بن نافذ مع سبيب بن أبي شداد
القمودي وخفاجة العيسي، وكانوا من أهل البسالة، وأمرهم بشن الغارات على
كتامة، فكان بينهم وقائع قتل فيها كثير من الفريقين.
وفيها، ولي قضاء مدينة رقادة محمد بن عبد الله المعروف بابن جيمال،
وكان مولى لبني أمية، ولم يكن عنده علم ولا ورع وإنما عنيت به عبد الله
بن الصائغ، وكانت فيه غفلة شديدة وضعف وقيل إنه باع نفسه في حداثته تين
أيام الشدة، ثم أثبت بعد ذلك حريته، وأنطلق. وشهدت عنده بينه بأن امرأة
وكلت ولدها، فقال لهم: (وكلته وهي بالغة؟) قالوا له (وهو أبنها! أصلحك
الله! فكيف لا تكون بالغا!) وضحكوا عليه، فأستحي.
(1/140)
وفيها، قدم أبو يعقوب إسحاق بن سليمان
الإسرائيلي المتطبب على زيادة الله من المشرق مع أبي الحسن بن حارث
فوصل إليه وهو بالاربس. قال إسحاق: (فدخلت على زيادة الله ساعة وصولي،
ورأيت مجلسه قليل الوقار، كثير اللهو. فابتدأني بالكلام ابن حبيش
المعروف باليوناني، فقال لي: (تقول أن الملوحة تحلو؟) فقلت له: (نعم)
قال (وتقول أن الحلاوة تحلو؟) قلت له: (نعم) فقال لي: (فلحلاوة هي
الملوحة والملوحة هي الحلاوة!) فقلت له: (أن الحلاوة تحلو بلطافة
وملائمة، والملوحة تحلو بعنف وقوة) فتمادى على المكابرة في ذلك، حتى
قلت له (تقول أنك حي والكلب حي؟) قال (نعم) قلت له (فأنت الكلب والكلب
أنت) فضحك زيادة الله ضحكا شديدا قال: (فعلمت أن رغبتك في الهزل أكثر
من رغبتك في الجد) .
وفي هذه السنة تغلب أبو عبد الله الداعي على مدينة بالرمة وعلى مدينة
طبنة، ودخلهما بالأمان في أخر ذي الحجة وبها أبو المقارع حسن بن أحمد
والى زيادة الله وعامله عليهما مع صاحبيه المذكورين قبل هذا. وكان بهما
جباة على ضروب المغارم، فأتوه بما في أيديهم من الجباية، فقال لأحدهم
(من أين جمعتم هذا المال؟) فقالوا له (من العشر) فقال عبد الله: (إنما
العشر حبوب وهذا عين) ثم قال لقوم من ثقاة طبنة: (أذهبوا بهذا المال
فليرد على كل رجل ما أخذ منه، وأعلموا الناس أنهم إمناء على ما يخرج
الله لمن أرضهم، وسنة العشور معروفة في أخذه وتفرقته وعلى ما ينصه كتاب
الله عز وجل) ثم قال لأخر (من أين هذا المال الذي بين يدك؟) قال:
(جبيته من اليهود والنصارى جزية عن حول مضى لهم.) فقال (وكيف أخذته
عينا، وإنما كان يأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الملأ
ثمانية وأربعين درهما، ومن المتوسط أربعة وعشرين درهما ومن الفقير أثنى
عشر درهما!) فقال له: (أخذت العين عن الدراهم بالصرف الذي كان يأخذه
عمر) فقال أبو عبد الله: (هذا مال طيب) ثم أمر أحد الدعاة بأن
(1/141)
يفرقه على أصحابه وقال لمن أتاه بمال
الخرج: (هذا ما لا خير فيه ولا قابلة ولا خراج على المسلمين في
أموالهم!) ثم أمر ثقاة أهل طبنة برده على أهله وقبض مال الصدقة من
الإبل والبقر والغنم، بعد أن قيل له أنها قبضت الأنعام على الإنسان
الواجبة في الصدقات، ثم بيعت وجمعت أثمانها. فرضي بذلك وجوزه. فلما نظر
أهل طبنة إلى فعله، سروا به وجوا أن يستعمل فيهم الكتاب والسنة. وانتشر
فعله في جميع نواحي إفريقيا فتاقت أنفسهم إليه، وكاتبوه ودخلوا في
طاعته وبلغ ذلك زيادة الله فأغتنم به غما شديدا (وأخذ في حشد الرجال
والاستكثار منهم) وأمر بلعنة الشيعي على المنابر.
(وفيها قدم زيادة الله بن الطبني من بغداد وفيها توفي أبو جعفر محمد بن
الحسين المروزي بجزيرة صقلية وكان فقيها وأتهم بالكذب وتوفي فيها محمد
بن المنيب الأزدي الفقيه، وكان مذهبه مذهب أهل العراق وكان من أهل
الخير، وعرض عليه القضاء فلم يقبله. مات محمد بن نصر المتعبد وكانت له
رواية، ومحمد بن أبي الحميد السوسي، وزيدان بن إسماعيل الأزدي وكانا في
الثقات في العلم) .
وفي سنة 294، (خرج إبراهيم بن حبشي بن عمر من الأندلس بالعسكر لملاقاة
أبي عبد الله الشيعي بمدينة طبنة في النصف من المحرم. وفيها عزل عبد
الله ابن محمد بن مفرج المعروف بابن الشاعر عن قضاء قسطيلية، ورفع إلى
زيادة الله وهو بالأربس، مخشبا، فأمر بضربه وقيده وحبس بحبس الأربس،
وذلك أن وجود قسيلية رفعوا عليه إلى زيادة الله، تظلموا منه، وكتب إلى
عامله بعزله وتخشيبه ورفعه إلى بابه فقدم الكتاب والعامل غائب، وتبادر
بعض القوم الذين رفعوا عليه إلى مجلس القضاء الذي كان فيه فسبوه وهموا
بالبسط إليه فأمر غلمانه بأخذهم وضربهم وقيدهم وحبسهم، ثم قدم القدم
العامل
(1/142)
وقد نفذ فيهم كلما أحب، فأوثقه حديدا،
وخشبه، ووجه إلى زيادة الله فضربه بالدرة وحبسه، وذلك للنصف من محرم.
وفيها، أنصرف زيادة الله من الأربس إلى رقادة، واستخلف على الجيش
بالأربس إبراهيم بن أحمد بن أبي عقال. وبنى زيادة الله سور مدينة رقادة
بالطوب والطوابي، والتزم التنزه على البحر وغيره، واتباع اللذات،
ومنادمة العيارين والشطار والزمامرة والضراطين. وكان إذا فكر في زوال
ملكه وغلبت عدوه على أكثر مواضع عمله، يقول لندمائه (املأ اأسقني! من
القرن يكفيني!) وأشتد كلفه بغلام له يسمى بخطاب فكتب اسمه في سكة
الدنانير والدراهم، ثم وجد عليه فحبسه وقيده، فغنت له جارية تستعطف على
الخطاب (بسيط) :
يا أيها الملك الميمون طائره ... رفقا فأن يد المعشوق فوق يدك
كم ذا التجلد والأحشاء خافقة ... أعيذ كفك أن تسطو على كبدك
فرض عن الخطاب وأعاده إلى منزلته. وكان إذا أظهر الغم بأمره الشيعي
أخذوا له في التسلي فغنت جارية له يوم (كامل) :
أصبر لدهر نال م ... نك فهكذا مضت الدهور
فرح وحزن مرة ... ولا الحزن دام ولا السرور
فقال لها (صدقتني!) وأمر لها بصلة.
وفيها، استعفى حماس بن مروان عن القضاء بالقيروان، فعوفي، وولي زيادة
الله مكانه محمد بن جيمال، فلم يزل قاضيا إلى أن هرب زيادة الله. وفيه،
دخل أبو عبد الله الشيعي مدينة بغاية بالأمان، في شعبا، فعظم غم زيادة
الله بذلك، وأستشار ابن الصائغ في أمره، فقال له (ارحل إلى مصر سرا
وأستخلف على إفريقيا قائدا تجعل إليه أمر العساكر، وتترك له الأموال)
فنظر في ذلك، وأمر بشراء خمسمائة جمل لرحيله. ثم ظهر له خطأ هذا الرأي،
وخشي قيام الناس عليه وثورتهم به، فأمسك. وشعر إبراهيم بن حبشي
(1/143)
ابن عمر بما كان هم زيادة الله من الهرب
فتعرض له حتى أدخله قصر البحر وأراه ما زخرفه له فيه وقال: (يا سيدي!
أين البنية من قصر جدك القديم الذي صبر فيه على الحصار أعوام كثيرة وقد
أبغضه جل أهل بلده! وقام عليه رؤساء جنده، فبقى مقيما فيه وضابطا له،
حتى أظهره الله عليهم، ومكنه منهم! فكيف بك وقد كثر مالك وأحبك رجالك؟
وأهل إفريقيا معك! وإنما خرج عليك شيخ لا يعرف مكانه في البربر وأنت في
حصن منيع! والله يدفع عنك! فدفع ما يقال لك! فإنك الظافر بحول الله
وقوته، إن شاء الله) فأصغى زيادة الله غالى قوله، وسر بما سمع منه وجعل
يرسل الرجال والأموال إلى الأربس وهو أقصى ثغوره. فكانت خيل أبي عبد
الله الشيعي تغير على الأربس من باغاية من الأربس. وفيها قدم حبشي وابن
حجر وابن عباس من بلد الروم ومعهم رسول صاحب القسطنطينية. وكساهم زيادة
الله وأنزل الرسول في الملعب بقرب رقادة وجمع الناس للمباهاة بهم فكان
جمعا عظيما. وفيها ضرب القباب والأخبية حوالي مدينة رقادة وأخذ أهل
مدينة القيروان بالعسس حولها والمبيت في الأخبية المضروبة جوارها. وجدد
زيادة الله الحشد ورغب الناس بالأموال وفيها توفي محمد بن أبي الهيثم
اللؤلؤي الفقيه، ولي قهرب الحجارة في شعبان.
وفي سنة 295، خرج زيادة الله إلى مدينة تونس في شهر محرم (ليحاول أموره
فيها.) . (وفيها استسقى القاضي أبو العباس بن جيمال بالناس يوم الاثنين
لست خلون من شهر ربيع الآخر. وفيها عزل ابن الوليد عن الصلاة وولى
(1/144)
مكانه ابن يزيد للنصف من شهر ربيع الأخر.
وفيها توفي أبو الحسن بن حاتم الرسول إلى بغداد، في شوال. وفيها توفي
أبو موسى عيسى بن مسكين القاضي فصلى عليه أبو جعفر أحمد بن خالد السهمي
في قريته بالساحل. و (فيها) توفي (أبو عياش) أحمد بن موسى بن مخلد
(الفقيه وكان يحمي إلى غافق، وكان من أصحاب سحنون بن سعيد) ، وكان
زاهدا ورعا متعبدا فاضلا (وعالما بما فيه كتبه، كثير لحكاية، سمع منه
بشر كثير من أهل القيروان، ودف بباب سلم. وفيها، مات سعيد بن إسحاق
الفقيه، مولى كلب وكان من رجال سحنون بن سعيد، وسمع من جماعة من
إفريقية وكان كثير الرباط والرواية والجمع للحديث، وكان مولده سنة 212)
.
وفقي سنة 296، وصل خليل (أبي عبد الله الشيعي) (الداعي) إلى قسطيلية،
وانهزم أبو مسلم منصور بن إسماعيل، (وشبيب بن أبي الصارم، وانقبضا) إلى
مدينة توزر، وانبسطت الخيل (هنالك واحترقت القرى) وأفسدت ما مرت به من
النعم. وكان أبو عبد الله قبل ذلك قد أمر أصحابه بالكف عن الغارات وألا
يرموا مكانه، فأقاموا نحو شهرين لم تظهر له حركة، حتى قيل فيه نأنه
مريض وقيل: بل مات. ولما وصل الخبر بانبساط جيوش أبي عبد الله إلى
زيادة الله هالة وراعه، وارتجت الحضارة واضطربت أحوال الجند ويئسوا من
البلد وخافوا على ذراريهم وأهاليهم السبي والاسترقاق: وجعل عبد الله بن
الصائغ يقول لزيادة الله (هذا ما تضيع الشيخ السوء أبي مسلم ومن سوء
نظره!) وكان ابن الصائغ كاتبا لأبي مسلم في أيام إبراهيم بن أحمد،
ففسدت الحال بينهما، ولم يزل يرفع على أبي مسلم يومئذ حتى عزل. ثم لما
دارت هذه الدائرة بقسطيلية، نسب ذلك ابن الصائغ إليه وأوقد زيادة الله
عليه وأغراه به حتى كتب إلى شبيب بن أبي الصارم يأمره بضرب عنق أبي
مسلم وصلبه يوما وليلة ثم يدفنه. وبعث إليه من ثقاته من يحضر تنفيذ ذلك
فيه فلما وصل الكتاب إلى شبيب اغتنم ولم يجد
(1/145)
بلدا من التنفيذ فدفع الكتاب إلى أبي مسلم
وهو مع يومئذ بتوزر وقال له: (عز على ما وردني فيك!) فلما قرأه أبو
مسلم قال (أنا الله وأنا إليه راجعون! خدع الصبي الأحمق وذهب ملكه) ثم
قبض بيده اليسرى على لحيته وصفع باليمنى قفا نفسه صفعات، وقال: (هذا
جزاء من عصى الله وأطاع الآدميين، وسفك الدماء المحرمة! أما الله! ولو
تركته ولم أشر عليه بقل عمومته وأخوته وشغلتهم بهم ما دار على من قبله
ما دار!) ثم قال لشبيب (أمهلني أتوضأ وأصلي ركعتين أختم بهما عملي!)
ففعل وصلى ودعا وبكى ثم قدم، فضربت عنقه وصلب ودفن في اليوم الثاني
وذلك في النصف من صفر. وفيها توفي أبو العباس بن أبي خدش صاحب المظالم
أيام ابن عبدون. وفيها مات أبو عقال بن خير الفقيه، وكان يذهب مذهب أهل
العراق، وكتب لابن عبدون أيامه على القضاء.
ذكر خروج بن الأغلب من أفريقية
وفيها، زحف أبو عبد الله الشيعي إلى الأربس ونازلها، وبها إبراهيم بن
أبي الأغلب في عساكر أفريقية وجمهور أجنادها، فقاتلها حتى أخذها عنوة
ودخلها بالسيف لست بقين من جمادى الأخيرة. فهرب إبراهيم بن أبي الأغلب
وإليها، ونجا في جماعة من القواد والجند. ولجأ أهل الأربس ومن كان
اجتمع فيها من فلال العسكر جامعها. وركب بعض الناس بعضا وقتلهم الشيعي
(لعنه الله) أجمعين حتى كانت الدماء تسيل من أبواب المسجد كما يسيل
الماء من وابل الغيث. وقيل إنه قتل داخل المسجد
(1/146)
ثلاثين ألف رجل. وكان قتلهم من بعد الصلاة
العصر إلى أخر الليل. فلما أصبح، وقد فرغ من القتل والنهى والسبي، نادى
بالرحيل، وانصرف إلى مدينة باغاية، إذ خشي أن يحاشد عليه من أهل
أفريقية.
هروب زيادة الله من رقادة
واتصل الخبر بزيادة الله في اليوم الثاني، وهو يوم الأحد لخميس بقين من
جمادى الأخيرة، فسقط ما بيده، وعلم إنه خارج عن ملكه. وجعل ابن الصائغ
يطفئ الخبر ويكذبه له، ويظهر أن الفتح كان لهم على الشيعي. وبرح على
أبواب مدينة رقادة: (من أراد اللحاق وجزيل العطاء، للفارس عشرون دينارا
وللراجل عشرة دنانير، فليلحق بقصره الأمير!) فلما سمع الناس ذلك بدر
إليهم سوء الظن، وعلموا أن الدائرة كانت على أصحاب زيادة الله، وماجوا
فيما بينهم. وجعلت الخاصة وأهل الخدمة يفرون من رقادة. فلما رأى ذلك
زيادة الله، أخذ في شد الحمال بما خف من الجوهر والمال، وحرك خاصته
للخروج معه. فلما كان وقت صلاة العتمة من ليلة الاثنين لأربع بقين من
جمادى الأخير، ركب فرسه، وتقلد سيفه، وقدم الحمال فمر من بين يديه،
هاربا أعلى عيون أهله وحرمه وولده. فأخذت جارية من جواريه عودا ووضعته
على صدرها، وغنته على حمله معه، فقالت (منسرح) :
لم أنسن من الوداع موقفها ... وجفنها من دموعها غرق
قولها، والركاب سائرة: ... (تركنا سيدي وتنطلق
أستودع الله ظبية جزعت ... للبين والبين فيه لي حرق)
فدمعت عينا زيادة الله عند سماعها، وشغله سوء الموقف وضيق الحال عن
حملها معه. وخرج عن مدينة رقادة متوجها إلى مصر في ثلث الليل الأول.
(1/147)
ومعه وجوه رجاله وفتيانه وعبيده، (وأخذ
طريق الجادة) حتى لحق بمدينة إطرالبس. وكان عبد بن الصائغ يتقلد جميع
أوامره (وينظر على أهل خدمته) فوطأ خزان الأموال على انقطاع ثلاثين
حملا من المال، في كل حمل ستة عشر ألف مثقال؛ فواعدهم موضعا يجتمع فيه
معهم؛ فأخطئوه في الليل، وخرجوا إلى مدينة سوسة؛ فقبض عليهم ابن
الهمداني عاملها، وخزنها في قصر الرباط بسوسة، حتى صارت إلى الشيعة.
وأصبح الناس من ليلة خروج زيادة الله هاربا إلى مدينة رقادة، فأنتهبوها
وأخذوا من بقايا أموال بني الأغلب ومتاعهم وصنوف الآنية من الذهب
والفضة وما لا يحيط به وصف. ورجع القوى يأخذ من الضعيف ما سبق إليه.
والهارب أبو مضر زيادة الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الأغلب،
المعروف بخزر ابن إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال التميمي. وكانت
ولايته بأفريقية خمس سنين وأحد عشر شهرا وأربعة أيام. وكانت إمارة بني
الأغلب بأفريقية مائة سنة، وإحدى عشرة سنة ن وثلاثة أشهر.
ثم أن إبراهيم بن الأغلب، المنهزم من الأربس، أقبل إلى القيروان فيمن
بقى معه من القواد. قفنزل بدار الإمارة. وبعث في وجوه الناس، وجعل يظهر
عندهم عتب زيادة الله، ويأخذ في انتقاصه، وأنه أسند أمر المسلمين إلى
من كان يسعى في زوال ملكه. وقال للناس: (أن كتامة مفسدون في الأرض
ناصحون لله ولهدا الدين، وأمدوني بالرجال والأموال) وحضر صلاة الظهر؛
فسلم على رأس الإمارة؛ ثم أجتمع إليه الناس وقالوا له: (بلدنا لا يعرف
الفتن، ونحن لا نقوم بالحرب؛ وأنت لم تستطع دفع كتامة بالعساكر والسلاح
والمال! فكيف نقوى نحن على دفعهم بأموال؟) ثم صاح الناس به: (لا طاعة
لك علينا، ولا بيعة في أعناقنا! فأخرج عنا!) فركب فرسه، وشهر سيفه ودف
الفرس، ونجا هاربا حتى خرج من باب أبي ربيعة، ولحق بزيادة الله.
(1/148)
وركب عبد الله بن الصائغ في البحر يريد المشرق؛ فألقاه البحر بمدينة
طرابلس، وبها زيادة الله. فأتى إليه به؛ فقربه وأدناه، وعاتبه في فراره
عنه؛ فأعتذر إليه ابن الصائغ بما اخذ من الحيرة والخوف؛ فهم زيادة الله
باستيحائه؛ فأشار إليه كل من معه من أهله وقواده بقتله؛ فأمر راشدا
الأسود بضرب عبقه؛ فقتله. وكان يحكى علي بن إسحاق بن عمران المتطبب إن
عبد الله بن الصائغ كان، إذا رأى راشدا الأسود قبل ذلك، أربد وجهه؛
وإذا ذكر له تنكر سروره، حتى يعرف ذلك كل من حضره. قال: فسألته يوما عن
ذلك؛ فقال لي: (تحدثني نفسي أن ملك الموت يقدم علي في صورة راشد
الأسود، عبد قبضه لروحي؛ فإذا رأيته، لم املك من البصر شيئاً) |