البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب

ذكر دولة الشيعة
وبلغ أبا عبد الله الشيعي هروب زيادة الله. فتحرك من الأربس يريد القيروان. فهال الناس أمره، وخافوه على أنفسهم. وخرج إليه الفقهاء ووجوه الناس؛ فقطع بهم محبوب بن عبد ربه الهواري بوضع يعرف بحفص باروقس، بين مدينة جلولا وحمام السرادق؛ وذلك يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأخير؛ فانصرفوا أقبح انصراف، وكتبوا إلى عبد الله، يذكرون ما دار عليهم، ويعنذرون بذلك إليه، ويسألونه ان يحد لهم موضعا يلقونه، فأجابهم: (موعدكم ساقية ممس يوم السبت.) وبعث أبو هبد الله غروية بن يوسف الملوسي بقطيع من الخيل لضبط مدينة رقادة، وتحصين ما أدرك بها من الأموال؛ فنزل عليها يوم الجمعة لانسلاخ جمادى الأخير؛ فألقى الناس بين داخل وخارج؛ فأمر الخارج ألا يعود، والداخل بالخروج فارغا. ولم يكن منه إلى الناس إلا خير. وفيها أقبل إلى مدينة رقادة في سبعة عساكر، وعدد من

(1/149)


فيها، على ما ذكر ثلاثمائة ألف بين فارس وراجل. فوصل إليهم يوم السبت غرة رجب؛ فخرج إليه أهل القيروان من الفقهاء والوجوه وجلة التجار؛ فالتقوا به على ساقية ممس، وأظهروا له الرغبة في دولته، وسألوه الأمان، فأمنه، (وصوب فعلهم) ، ووعدهم بالإحسان والعدل فيهم، وكان قد وعد قبل ذلك قواد كتامة ورجالها بأن يوكلهم القيروان ويسلط أيديهم فيها ويقطعهم جميع أموال أهلها. فلما سمعوا بأمنته للقوم، ساءهم ذلك وكلموه فيه وذكروه ما كان وعدهم به. فتلا عليهم: وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها) وقال لهم: (هي القيروان) فقلوا قوله وسلموا لأمره ثم تقدم بإنزال عساكره حوالي مدينة رقادة فدخلها وقارئ يقرأ بين يديه: " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " (إلى آخر) الآية ويقرأ: " كم تركوا من جنات وعيون " إلى آخر السورة. ونزل بالقصر المعروف بقصر الصحن وبعث غرويه بن يوسف إلى مدينة سوسة فأمن أهلها وأتاه بالثمانية والعشرين الحمل من المال التي كانت مخزونة بقصر الرباط المتقدم ذكرها وأمن من ألفى بالقيروان من بني الأغلب وقوادها الذين تخلفوا عن زيادة الله، وأمر بقتل السودان من موالي بني الأغلب وقتل إبراهيم بن بربر بن يعقوب التميمي المعروف بالقوس، فقتل خنقا إذ كانوا هموا بالوثوب عليه. وقال أبو عبد الله: (ما أمنت بأفريقية حتى قتلت القوس!) وبعث أبو عبد الله الشيعي إلى طرابلس، فأتى منها بأخيه أبو العباس المخطوم، وكان بها محبوسا، وبأبي جعفر الخزري، وبأمن عبيد الله الشيعي، وكانت هنالك مع الخزري، فقدموا عليه. وكان أبو العباس المخطوم عجولا، كثير الكلام، ضعيف العقل فأراد أن ينفى من القيروان

(1/150)


كل من يذهب من الفقهاء. مذهب أهل المدينة، فلم يجبه أخوه أبو عبد الله إلى ذلك. وولي أبو عبد الله الشيعي على مدينة القيروان الحسن بن أحمد بن علي بن كليب المعروف بابن أبي خنزير، وأمره بقتل من خرج ليلا أو شرب مسكرا، أو حمله أو وجد عنده. وولي على مدينة القصر القديم خلف بن أحمد بن علي بن كليب، أخاه ابن أبي خنزير، وأمره بمثل ذلك.
وأمره بأن تزداد في الأذان بعد (حي على الصلاة) (حي على خير العمل) ، وأسقط من أذان الفجر (الصلاة خير من النوم) وأمره بجمع ما انتهب من الأموال بمدينة رقادة، وضم عبيد زيادة الله ووقف جواريه وولي النظر في ذلك أحمد بن فروخ الطبين الأحدب. وولى على السكة أبي بكر الفيلسوف المعروف بابن القمودي، ونقش فيها: " الحمد لله رب العالمين " وسميت السيدية. وكان نقش خاتم أبي عبد الله: " فتوكل على الله أنك على الحق المبين " وفي الخاتم الذي يطبع به السجلات: " وتمت كلامات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم " ووشم في أفخاذ الخيل: (الملك لله) وكتب في بنوده: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " و " قل جاء الحق وزهق الباطل أن الباطل كان زهوقا " وآيات كثير من القرآن في هذا المعنى. وأمر الصلاة على علي بن أبي طالب في الخطب بأثر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى فاطمة، والحسن والحسين وأظهر التشيع في علي وماذة من قدم عليه من أصحاب النبي - عليه السلام -.
وفيها، ولي أبو عبد الله على قضاء مدينة القيروان محمد بن عمر ابن يحيى بن عبد الأعلى المروزي من جند خراسان، يوم الخميس لأثنتا عشرة ليلة بقيت من شعبان، فقعد في الجامع وأمر بإسقاط صلاة الإشفاع في شهر رمضان وأجنح في ذلك على الفقهاء، وأنكر عليهم الاقتداء بفعل

(1/151)


عمر بن الخطاب في القيام، وتركهم الاقتداء بفعل علي بن أبي طالب في زيادة (حي على خير العمل) في الأذان، وقال لهم: (أعملوا بمذهب أهل البيت واتركوا الفضول) . فلما كان في أول يوم من شهر رمضان، أقبل المروزي إلى المسجد الجامع، فوجد في حائط المسجد في القبلة، وفي موضع جلوسه، مكتوبا: " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها " إلى أخر الآية. فلما رآه، سأل القوم هل رأوا من جلس في ذلك الموضع فقالوا: (لا) فأمر بموحه، وأنتقل عن الجلوس بذلك الموضع. ووقف يوم على المروزي رجل محمق خليع، والناس حوله، فقال له: (قد لطفت لنا - أصلح الله - في قطع قيام شهر رمضان فلو احتلت لنا في ترك صيامه، لكفيتنا مئونته كلها) فقال له المروزي: (أذهب عني يا ملعون) وأمر بدفعه. وأمر عبد الله الشيعي وجوه كتامة بدعوة الناس إلى مذهبهم من التفضيل لآل علي البراءة فدخل في ذلك معهم كثير من الناس فلذ لك سميت دعوته، لأتباعهم رجالا من (أهل) المشرق.

ذكر توجه الداعي إلى سجلمانة
واجتماعه بعبيد الله الشيعي بها
ونظر أبو عبد الله في إقامة الجيوش والاستعداد والغزو إلى سجلمانة. وكان بها عبيد الله الشيعي وابنه أبو القاسم محبوسين. وكان أبو عبد الله الداعي يدعو إلى عبيد الله الشيعي ويزعم إنه إلمام من آل علي. قلما كمل له ما أراد من جوشه وجهازه وعدده وآلات وسفره، أستخلف على إفريقية أخاه أبا العباس وأبا زاكي تمام بن معارك الأجاني. ثم خرج من رقادة يوم الخميس من للنصف شهر رمضان في جموع كالدبي النتشر ومعه وجه رجاله وأهل دعوته وفيهم إبراهيم بن محمد الشيباني المعروف بأبي

(1/152)


اليسر الكاتب وزياد بن خلفون المتطبب مولى بن الأغلب. وغزا معه أحمد بن سيرين، الفقيه بمذهب أهل العراق، راجلا يرى إنه محتسب للثواب في طلب الأمام وبهذا السبب ولي قضاء مدين برقة بعد ذلك. فسار ابو عبد الله حتى حل بمدينة تيهرت، فخلها بالأمان وقتل بها من الرستمية يقظان بن أبي يقظان، وجماعة من أهل بيته. وبعث برؤوسهم إلى أخيه أبي العباس وأبي زاكي خليفته برقادة؛ وطوفت بالقيروان، ونصبت على باب مدينة رقادة. وانقضت دولة بني رستم بتيهرت؛ وكان لها مائة وثلاثون سنة.
ثم ولي أبو عبد الله على تيهرت أبا حميد دواس بن صولات اللهيصي، وإبراهيم بن محمد اليماني بالهواري وكان يلقب السيد الصغير. ثم نهضة حتى احتل على مدينة سجلماسة يوم السبت لست خلون من ذي الحجة. فأحاط بها في جموعه وجيوشه، وحاربها يوم الأحد لسبع خلون منه، ففتحها في هذا اليوم، وأخرج منها عبيد الله الشيعي وابنه أبا القاسم، وكانا محبوسين في غرفة عند مريم بنت مدرار. فلما بصر به عبد الله الشيعي ترجل له، وخضع بين يديه، وبكى من إفراط سروره به. ثم مشى أمامه راجلا حتى أنزله في الفازة، وسلم إليه الأمر، وقال لمن معه: (هذا هو مولاي ومولاكم! قد أنجز الله له وعده، وأعطاه حقه، وأظهر أمره!) وانتهب أبو عبد الله الشيعي ورجاله سجلماسة، وأحرقت. وهرب منها اليسع صاحبها في جماعة من بني عمه ليلا، فطلبه أبو عبد الله الشيعي، فلم يقدر عليه.
وفيها، مات إبراهيم بن عيسى بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن حسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، ودفن في داره بآرشقول. وفيها، ومات أبو عبد الرحمن بكر بن حمادة بن سهر بن أبي إسماعيل، وهو زناتي، في شوال بقلعة ابن حمة، بجوفي مدينة تيهرت، وبها كان مولده ومنشأه، وصلى عليه

(1/153)


موسى بن الفارس الفقيه، وهو يوم مات ابن ست وتسعين سنة، ورحل بكر إلى المشرق في سنة 217، وهو حدث السن، فسمع من الفقهاء وجلة العلماء وكان عالما بالحديث وتميز الرجال، وشاعر مفلقا ومدح المعتصم ووصله بصلات جزيلة، أجتمع بحبيب وصريع ودعبل وعلي بن الجهم وغيرهم من شعراء العراق وله أبيات إلى المعتصم يحرض فيها على دعبل وهي (طويل) :
أيهجو أمير المؤمنين ورهطه ... ويمشي على الأرض العريضة دعبل؟
أما والذي أرسى ثبيرا مكانه! ... لقد كانت الدنيا لذاك تزلزل
ولكن أمير المؤمنين بفضله ... بهم يعفو أو يقول فيفعل
فعاتبه حبيب فيه وقال له: (قتلته، والله! يا بكر) فقال في قصيدته هذه طويلة
وعاتبني فيه حبيب وقال لي: ... (لسانك محذور وسمك يقتل)
وأني، وأن صرفت في الشعر منطقي ... لأنصف فيما قلت فيه وأعدل
وفيها مات محمد بن الحسن المعروف بابن ورصيد من قسطنطينية، وكانت له رحلة وسماع من الفقهاء، ومات محمد بن يزيد الفارسي من أهل القيروان له سماع من سحنون ومن ابنه محمد.
وفي سنة 297، غدر قوم من البربر يعرفون بني خالد باليسع بن مدرار واستأمنوا به إلى أبي عبد الله الشيعي فأمنهم، وذلك في مستهل المحرم. وفيها، ولي عبيد الله على مدينة سجلماسة إبراهيم بن غالب المزاتي وترك معه خمسمائة فارس من كتانة، ورحل بالعساكر إلى أفريقية. وفيها قتل بالقيروان، في صفر، إبراهيم بن محمد الضبي المعروف بابن البرذون وأبو بكر بن هذيل

(1/154)


الفقيهان، وكانت عندهما رواية، وأدب، وتصرف في فنون منة العلم وكان محمد الكلاعي وأصحابه على مذهب أهل العراق وهو الجائز عند الشيعة لما عنده من الترخيص فسعوا بها إلى أبي العباس المخطوم وذكروا عندهما أنهما يطعفان في الدولة، ويشوبان على علي ابن أبي طالب بأبي بكر وعمر وعثمان، فحبسهما المخطوم ثم أمر ابن أبي خنزير بقتلهما بعد أن يضرب إبراهيم بن الرذون خمسمائة سوط، إذ كان القول فيه أشنع، والسعي عليه أعظم، فغلط ابن أبي خنزير فيهما، وضرب ابن هذيل، ثم قتله وقتل ابن البرذزن بلا أن يضربه، وذلك في صفر، وطيف بهما في سماط القيروان، مجرورين مكشوفين ثم صلبا بعد ذلك. وكتب أبو العباس إلى أخيه بالخبر فعنفه عليه، ولامه فيه، وقال: (قد افسد علينا من أهل البلد وأهله ما كانت بنا حاجة إلى صلاحه) .
وفيها خالف علي أبي عبد الله الشيعي محمد بن خزر بن صيلات الزناتي وأقبل إلى مدينة تيهرت وطمع بأخذها وأخرج دواس بن صولات منها وأن يقطع بابي عبد الله وبمن معه في انصرافهم من سجلماسة. وباطنه على ذلك قوم من أهل تيهرت يعرفون بني دبوس، فاستدعوه فوشى بهم إلى دواس عامل الموضع فحبسهم بحصن برقجانة المعروف بتيهرت القديمة وحارب محمد بن خزر تيهرت وتغلب على بعض أرباضها. فلما رأى ذلك دواس هرب إلى ابن حمة صاحب القلعة، ووثب أهل حصن برقجانة على بني دبوس عندهم، فقتلوهم. ودفع أهل تيهرت محمد بن خزر، وحاربوه حتى قتلوه ثم كاتبوا دواس، فأنصرف إليهم. وولي عبيد الله على مدينة سجلماسة إبراهيم بن غالب المزاتي، وخلف معه ألفي فارس من كتامة. وتوجه عبيد الله وأبو عبد

(1/155)


الله نحو أفريقية ومعهم بنو مدرار وأهلهم مكبلين، فلما بلغوا مدينة أربا أتصل بهم خبر محمد بن خزر، فساروا نحوه فهرب، ودخل الرمال. وأمر عبيد الله بقتل اليسع بن مدرار، فقتل، وهو مريض. وفيها ثار أهل سجلماسة بإبراهيم ابن غالب المزاتي عاملها فقتلوه ومن كان معه من الشيعة، ومن كاتمة، وذلك يوم الاثنين لثلاث خلون من شهر ربيع الأول، وولوا على أنفسهم وأسول ابن الأمير ابن مدرار.

التعريف بأمر سلجماسة
من حين ابتدائها إلى هذه السنة المؤرخة
كان أبو القاسم سمغون بن واسول المكناسي صاحب ماشية كثيرة، ينتجع موضع سلجمانة، ويتردد إليها وكان براجا، يجتمع الناس فيه من قبائل البربر المجاورين له يتسوقون فيه. فاجتمع قوم من الصفرية على أبي القاسم، وسكنوا معه هنالك في خيمات. ثم شرعوا في البناء في حدود الأربعين ومائة. ثم قدموا على أنفسهم عيسى بي يزيد الأسود وولوه أمرهم. ثم أنكروا عليه أشياء فأخذوه وشدوا وثاقه. وربطوه إلى شجرة في رأس جبل، وتركوه حتى مات ثم ولى أبو القاسم سمغون المتقدم ذكره، قيل إنه ابن واسول، وقيل ابن مدلان فلم يزل واليا عليهم إلى أن مات سنة 168.
ثم ولي الياس ابن أبي القاسم، وسمي أبا الوزير، فبقي سنتين، وقام عليه أخوه. ثم ولي أخوه أليسع بن سمغون بن مدلان المكناسي في سنة 170 وسمي

(1/156)


بالمنتصر، وكان جبارا عنيدا، فظفر بمنم عانده من قبائل البربر وقهرهم وأذلهم، وأظهر الصفرية، وأخذ خمس معادن درعةة. وعظم قدره في ذلك الوقت. وموضع سلجمانة قد عمر بالديار دون سور. ثم زاد ملك اليسع المذكور، وأمر ببناء السور ن، أسفله بالحجارة، وأعلاه بالطوب. فقيل أ، بناءه من ماله، لم يشاركه فيه أحد. فسكن سلجمانة، وتوفي في سنة 208، فكانت مدته بها نحو أربعة وثلاثين سنة. ثم ولى ابنه مدرار بن اليسع، وهو المنتصر بن سمغون المتقدم ذكره، فلم يزل واليا عليها إلى أن اختلف الأمر بين ولديه ميمون المعروف بابن أروا (وهي أمه بنت عبد الرحمن بن رستم صاحب تبهرت) وابنه المعروف بابن بقية. فتنازعا في الأمر بينهما، وتقاتلا ثلاثة أعوام. فمال مدرار والدهما مع ابنه ميمون بن الرستمية، وأخرج أخاه ابن بقية من سلجمانة. فولى ميمون بن مدرار، وخلع أبوه لنفسه، ثم قام عليه أهل سلجمانة، فجعلوه وأرادوا خلع أبيه وتقديم أخيه ابن بقية، فأبى أن يتأمر على أبيه، فأعادوا أباه مدرار بعد خلعه، ثم سمع أهل سلجمانة إنه استدعى ابنه ابن الرستمية فيمن أطاعه من درعة، فتوجهوا إلى مدرار وحصروه، ثم خلعوه أيضا وقدموا ابن بقية فولى أمرهم. فلم يزل واليا عليها إلى أن مات سنة 263. وفي دولته مات أيوه مدرار. ثم ولي أليسع بن ميمون بن مدرار بن اليسع بن سمغون بن مدلان المكناسي في صفر سنة 270 وتلقب بالمنتصر على أسم جده وهو الذي سجن عبيد الله بسلجمانة حين عرف عنه إنه قام بدعوته الشيعي. ثم زحف إليه الشيعي من أفريقية، وفر أمامه، وخرج عبيد اله من سلجمانة من سجنه، واستولى على المملكة. ثم ظفر به في سنة 296، فقتله، فكانت مدة اليسع ابن مدرار المذكور بسلجمانة سبعا وعشرين سنة. وانقرضت دولة بني مدرار بسلجمانة وما والاها، فكانت مائة سنة ونحو ستين سنة. فولي عليها الشيعي عامله فوثب عليه أهلها فقتلوه، فكانت مدته بها خمسين يوما.

(1/157)


ذكر وصول عبيد الله الشيعي إلى رقادة
ونبذ من أخباره وما قيل في نسبه
وفيها وصل عبيد الله إلى مدينة رقادة، ومعه ابنه أبو القاسم، (جعفر بن على الحاجب، وأبو الحسن الطيب بن إسماعيل المعروف. بالحاضن) ولقبه الفقهاء ووجوه القيروان، فدعوا له وهنئوه وأظهروا (له) السرور بأيامه، وسألوه تجديد الأمان لهم (أنتم آمنون في نفسكم أو ذراريكم!) ولم يذكر الأموال، فعاوده بعضهم وسألوه التأمين لهم في الأموال، فأعرض عنهم) فخافه أهل العقل من ذلك الوقت. ودخل مدينة رقادة (وعليه ثوب خز أدكن، وعمامة مثله، وتحته فرس ورد، وأبو القاسم ابنه خلفه عليه ثوب خز خلوقي، وعمامة مثله وتحته فرس أشقر، وأبو عبد الله إمام عبيد الله، وعليه ثوب توتي، وظهارة كتان، وعمامة، ومنديل إسكندراني، وتحته فرس كميت وبيده سبنية يمسح بها العرق والغبار عن وجهه، والناس حواليه بين يديه أقواط يسلمون عليه) في القصر المعروف بالصحن، ونزل ابنه بقصر أبي الفتح وتسمى عبيد الله بالمهدي.
واختلف في نسبه فادعى هو إنه عبيد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر ابن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - وهو مذهب الحكم المستنصر بالله الأموي، وقال سائر الناس إنه ابتسامة للطالبين دعوة باطلة، وذكروا عن أبي القاسم بن طباطبا العلوي إنه قال: والله الذي لا أله إلا هو! ما عبيد اله الشيعي منا، ولا بيننا مبينه نسب! وقال مقاتل: هو عبيد اله بن محمد بن عبد الرحمن البصري. وقد فضح القاضي أبو بكر ابن الطيب الباقلاني نسبه في (كتاب كشف الأسرار، وهتك الأسرار) وذكر

(1/158)


أنهم قرامطة، وأن أبا عبد الله الشيعي أحدث لهم هذا المذهب، ونسبهم هذا النسب. وحكي بعض المؤرخين أن جعفر بن علي كانت له جارية، فغشيها رجل من القرامطة، وقيل من اليهود، دفعت له مالا، فكان يهواها وتهواه، وقتلت جعفرا مولاها، فولدت جد عبيد الله هذا. فمن خفيت عليه هذه القصة قال إنه علوي، ومن علمها علم دعوته وكذبه. والله اعلم! هكذا ذكر ابن القطان في نسبه.
ونقش في خاتمه: أفمن المهدي يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون! واستحجب أبا الفضل جعفر بن عبي وأبا أحمد جعفر بن عبيد الله، وأبا الحسن طيب بن إسماعيل المعروف بالحاضن، وأبا سعيد عثمان بن سعيد المعروف بمسلم السلجماسي. واستكتب أبا اليسر إبراهيم بن محمد البغدادي الشيباني. وولي على بيت النال أبا جعفر الخزري وعلى ديوان الخراج القاسم بن القديم وعلى السكة بكر الفيلسوف المعروف بابن القمودي وعلى العطاء عبدون بن حباسة وعلى قضاء مدينة رقادة المصلح بن هارون الملوسي. وأقر علي عمالة القيروان الحسن ابن أبي خنزير وعلى القضاء بها المروزي. وأمر أن تقلع من المساجد والمواجل والقصور والقناطر أسماء الذين بنوها، وكتب عليها اسمه. وأظهر عبيد الله التشيع القبيح وسب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه حاشى علي بن أبي طالب، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وزعم أن أصحاب النبي - رضي الله عنهم - ارتدوا بعده غير هؤلاء الذين سميناهم ومنع المروزي الفقهاء، أن يفتي أحدهم إلا بمذهب زعم إنه مذهب زعم إنه مذهب جعفر بن محمد منه سقوط الحنث عمن طلق بالبته، وإحاطة البنات بالميراث،

(1/159)


وأشياء كثيرة يطول ذكرها. ومدحت الشعراء عبيد الله بالكفر، فاستجازه. وكان فيما مدح به شعر لمحمد البديل، كاتب أبي قضاعة، وفيه (بسيط) :
حل برقادة المسيح ... حل بها آدم ونوح
حل بها أحمد المصطفى ... حل بها الكبش والذبيح
حل بها الله ذو المعالي ... وكل شيء سواه ريح
- لعنه الله، وغضب عليه وأخزى القائل والقول فيه! - وكانت أيمان كتامة أول دخول أفريقية: (وحق عالم الغيب والشهادة، مولانا المهدي الذي برقادة) حتى كتب بعض أحداث القيروان هذين البيتين، وتلطفوا في وصولها إلى عبيد اله من حيث لا يعلم، وهي (مجتث) :
الجور قد رضينا ... لا الكفر والحماقة!
يا مدعي الغيوب ... من كاتب البطاقة؟
فاشتد عليه ذلك لما وصل ليه، وكشف سرا عن كاتب ذلك، فلم يقع له على خبر فيها. خالف بلد كتامة بباب مع قبائل من البربر، واجتمع إليه عدد عظيم، فكتب عبيد الله إلى أن تمسك بطاعته من كتامة، يأمرهم بمحاربتهم. فقتل أكثرهم، وأخذ بباب أسيرا، وقرى كتاب الفتح بمدينة القيروان ورجعت قبيلة زناتة إلى تيهرت، وحاصروا دواس بن صولات فيها فأخرج إليهم عبيد الله قائدا يعرف بشيخ المشايخ فهزم زناتة، وقتل كثيرا منها. وفيها خرج أبو القاسم يوم الفطر إلى المصلى بمدينة رقادة وصلى بالناس وخطبهم وخرج مع أبو عبد الله الشيعي وجماعة قواد كتامة وهو أول عيد صلى فيه بأفريقية، وقرى بذلك كتاب عبيد الله على منبر القيروان وأعمالها.
وفيها خرج أبو عبيد الله الشيعي، مع جماعة من قواد كتامة ودعاتهم إلى أرض المغرب، ولنا ظهر فيه من الالتياث، وفساد الطرق، وقيام القبائل على عمالهم، فافتتح المدن، وقتل وسبى. ووردت له كتب كثيرة بالفتوح،

(1/160)


فقرأت بأفريقية. وفيها مات جبلة بن حمود بن جبلة الصدفي مولى الإمام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وكان فقيها زاهدا، من رجال سحنون وممن نبذ الدنيا وتركها، وكان أبوه من خدمة السلطان وأهل الأموال، فنابذه في حياته، ثم تبرأ من تركته بعد وفاته، وكانت تركته نحو ثمانين مثقال. وفيها مات دعامة ابن محمد الفقيه، وكان من رسحنون، وونلي القضاء بصقلية في أيام بني الأغلب التميمي، وعبد الله بن أبي المنهال. وفيها صلى أبو القاسم يوم الأضحى بالناس، وخطب وقرى بذلك كتاب عبيد الله بالقيروان. وفيها مات محمد بن خالد القيسي المعروف بابن الطرزي وكان من رجال سحنون، ومات أبو السميدع المؤدب النحوي. وفيها قتل في مدينة رقادة أحمد بن يحيى بن طيب المتطبب الفقيه بقول أهل العراق.
وفي هذه السنة وصل أبو عبد الله الشيعي إلى مدينة (تنس) ونزل بالموضع المعروف (بالجّوزا) وذلك يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي الحجة. فجمع إلى نفسه وجوه كتامة وتكلم معهم في أمر عبيد الله وعمل معهم على خلعه وقال لهم: إن أفعاله قبيحة، ليست تشبه أفعال المهدي الذي كتب أدعو إليه. وأخشى أن أكون قد غلطت فيه وعرض لي ما عرض لإبراهيم الخليل - عم - إذ جن عليه الليل، فرأى كوكبا، فقال (هذا ربي) ويجب علي وعليكم امتحانه وكشفه عن العلامات الموجودة في الإمام المعروفة عند النقباء. وزعم لهم بأن الرواية أتت أن بين كتفي المهدي مكتوبا: المهدي رسول الله، كما بين كتفي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبوة. وأن المهدي يأتي بالآيات البينات، ويطبع بخاتمه بالجندل. فعقد مع جماعة

(1/161)


كتامة على امتحانه إذا انصرفوا (نحوه) إلى رقادة، ودخل معه في هذا العقد عَرُبة بن يوسف (وتعاهدوا على ذلك) .
وفي سنة 298، تجول أبو عبد الله الشيعي في بلاد البربر وحارب صدينة وزناتة. وقتل الرجال، وأخذ الأموال وسبى الذرية وأحرق بعض المدن بالنار، وكتب بالفتوحات إلى عبيد الله، فقرأت كتبه على الناس. ثم قفل أبو عبد الله إلى مدينة رقادة، بعد أن تجول بالغرب شهورا كثيرة، فلنا توصل أبو عبد اله إلى مدينة رقادة أخبر عروبة بن يوسف عبيد الله الشيعي بما كان من أبي عبد الله في جانبه وقت وصوله إلى مدينة تنس وما عمل عليه مع جماعة كتامة من خلعه، فالتزم عبيد الله الاحتراس منه في سر أمره، وفيها ولي أبو جعفر البغدادي ديوان الكشف، مشتركا مع عمران بن أبي خالد بن أبي سلام. وفيها مات من الفقهاء المدنيين من أصحاب سحنون، يحيى بن عون بن يوسف وعبد الله بن الوليد المعروف بابن الصدفي، وكان فقيها من أهل الانقباض والخير. وفيها مات أبو اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني البغدادي المعروف بالرياضي، يوم الأحد لأربع عشر ة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ودفن باب سالم، وكان ظريفا، أديبا، مرسلا، شاعرا، حسن التأليف، وقدم الأندلس على الإمام محمد بن عبد الرحمن. رحمه الله، بكتاب اخترقه إليه على ألسنة أهل الشام فتقبله الإمام محمد وأنزله ووسع عليه ووصله، واطلع على أن الكتاب مخترق مصنوع، فلما أراد أبو اليسر الانصراف، دفع إليه كتاب مختوم جوابا عن كتاب أهل الشام فيما رأى. فلما جاز البحر فك أبو اليسر الكتاب ليقرأه، فإذا هو بياض ليس فيه إلا (بسم

(1/162)


الله الرحمن الرحيم) فعلم إنه تمويه لن يجز وأن الذي أعطى وحبى عن تكرم وفضل وعلم في عينه ملوك الأندلس ورجاله، وحدث بما عرض له، وعجب الناس منه وكتب أبو اليسر لبني الأغلب حتى انصرمت أيامهم ثم كتب لعبيد اله حتى مات. وله مؤلفات حسان في فنون من العلم، ومسند في الحديث وكتاب في قرآن سماه (سراج الهدى) وله (كتاب لقيط المرجان) ورسالة (الوحيدة المؤنسة) و (قطب الأدب) وغير ذلك من الأوضاع. وفيها استكتب عبيد الله أبا جعفر محمد بن أحمد بن هارون البغدادي، بعد أبي اليسر وقربه وأدناه، واستعان به على أمر أبي عبد الله وأبي العباس وجماعة كتامة، فكان منه في ذلك رأي جميل ونفع عظيم. وكان أبو جعفر ذا دهاء وفهم حسن ودخل الأندلس في أيام الأمام عبد الله - رحمه الله - فصحب الناس وجالس أهل الأدب وكان بعد ذلك يحافظ من جاز به قاصدا إلى الحج من خلطائه بقرطبة ويكرمهم.
وفيها خالفت هوارة بطرابلس وقدموا على أنفسهم أبا هارون الهواري، وزحف أيضا جماعة من زناتة ولماية وغيرهم من القبائل إلى مدينة طرابلس محاصرين لأهلها. فأخرج إليهم عبيد اله الشيعي أبا زاك تمام بن معارك الأجاني، وكان يذهب مذهب أبي عبد اله في الغدر بعبيد الله والخلع له. فأراد أن يبعده لما كان يحاوله عبيد الله من قتل عبد الله وجيّش مع أبي زاك جيشا عظيما، فحاربهم أبو زاك حتى هزمهم وفرق جموعهم وقتل كثيرا منهم وبعث بؤس كثيرة وآذان مقرطة لمن قتل فنصبت برقادة.

(1/163)


ذكر قتل عبيد الله الشيعي لأبي عبد الله
الشيعي وأبي زاك
وذلك أن عبيد الله كتب إلى (ماقنون بن دبارة الأجاني) عامله بطرابلس يأمره بقتل أبي زاك تمام بن معارك الأجاني على بنية بناها ونية نواها في قتله وقتل أبي عبد الله الشيعي بعده فبعث عامل طرابلس في أبي زاك! وكان عمه، ثم عرض عليه كتاب عبيد الله إليه يأمره يقتله. فلما قرأه أبو زاك قال له: يا عم نفذ ما أمرت به! فقدمه فصرب عنقه، وكتب إلى عبيد الله بخبر قتله مع حمام وصل إلى رقادة من ساعته، وذلك يوم الثلاثاء، غرة ذي الحجة سنة 298. فلما وصل الخبر إلى عبيد الله الشيعي، أمر عروبة ابن يوسف الملوسي وجبر بن مناسب الميلي أن يكمنا خلف قصر الصحن، فإذا مر بهما أبو عبد الله الشيعي وأخوه أبو العباس طعنوهما بالرماح حتى يموتا. فكمنا لهما هناك مع جماعة من كتامة. وبعث عبيد الله في أبي عبد الله وأبي العباس ليحضرا طعاما على جاري عادتهما معه. فلما مرا بالموضع الذي فيه الكمين، خرج عليهما فصاح أبو عبد الله بعروبة: لا تفعل يا ولدي! فقال له: أمرني بقتلك من أمرت الناس بطاعته (وانخلعت له من الملك بعد توطئته ثم طعمه بيده طعنة واحدة خر منها صريعا، ووقعت في أبي العباس تسع عشرة طعنة، وذلك يوم الثلاثاء وقت الزوال، مستهل ذي الحجة. ومكثا صريعين (على صف الحفير المعروف بالبحر) إلى بعد الظهر، ثم أمر عبيد الله بدفنهما، فدفنا في الجنان، وقال: رحمك الله أبا عبد الله، وجازاك في الآخرة (بقديم سعيك) ! ولا رحمك الله أبا العباس، إنك صددته عن السبيل وأوردته موارد الهلاك! ثم قرأ: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين، وأنهم ليصدونهم عن السبيل

(1/164)


ويحسبون أنهم مهتدون "! وكتب إلى الشيعة بالمشرق في أمرهما: أما بعد فقد علمتم محل أبي عبد الله وأبي العباس من السلام. فاستنزلهما الشيطان فطهرتهما بالسيف والسلام! وحدّث الثقة أن أبا عبد الله نلام في حضرة أحابه وعنده جماعة من دعاة كتامة فتحرك في نومه فانكشفت سوئته، فنظر بعضهم إلى بعض، ولم يقدموا أن يستروه. فمد عروبة بن يوسف يده إلى الملحفة التي كانت عليه فستره بها وانتبه أبو عبد الله فقال: من سترني إذا انكشفت؟ فقال له عروبة: هو والله قاتلي! فجعل عروبة يبكي بين يديه ويقول له: يا سيدي مر بقتلي! فقال له: لا سبيل إلى ذلك! لكنك والله قاتلي! فكان الأمر كما كان ذكره.
واحتجب عبيد الله عن كتامة أياما كثيرة، ثم أمنهم وأدخلهم على نفسه مفترقين على حذر منهم ثم عمل على جماعة منهم، فقتلهم بأصناف من القتل. وفيها خرج سي بن دوقان ورجاء بن أبي قنة، إلى لواتة في عسكر ضخم. فقتلوهم، وغنموا أموالهم وسبوا ذرياتهم (وقرى بذلك كتاب عبيد الله بالقيروان وأعمالها، وفي سنة 299، أخرج عبيد الله إلى المغرب جماعة من قواده لمحاربة زناتة في عساكر عظيمة، فكانت بينهم وبين زناتة وقعة عظيمة بموضع يعرف بفلك مديك، قتل فيها من زناتة عدد لا يحصى. وفيها فتحت مدينة تبهرت، وكان أهلها قد ثاروا على دواس عاملها وأرادوا قتله فهرب منها إلى تبهرت القديمة وتحصن بها. وقتل فيها أكثر أصحابه، وكانوا في نحو ألف فارس. واستدعوا محمد بن خزر فقدم عليهم وأدخلوه البلد، وولوه، وبرزوا

(1/165)


إليه بأم دواس وعياله وأكثر سلاحه ثم خذلوه وخذلهم، فزال عنهم وانصرف إلى موضعه. ثم أخرج عبيد الله العساكر إلى تبهرت في أعداد عظيمة وخلق لا يحصى كثرة فنزلت عليها يوم الجمعة لانسلاخ المحرم، وحروب أهلها ثلاثة أيام. ثم أخذوا بالكيد ودخلت العساكر تبهرت يوم الثلاثاء لأربع خلون من صفر فقتلوا الرجال وسبوا النساء والذرية وانتهبوا الأموال، وحرقوا المدينة بالنار. وبلغ عدد القتلى بها ثمانية آلاف رجل. ثم ولى عبيد الله تبهرت مصالة بن حبوس بن منازل بن بهلول المكناسي. وانصرف دواس ابن صولات إلى مدينة رقادة. وقتله عبيد الله بعد ذلك.
وفيها كانت بالقيروان زلازل وهدات، وخسف بقرية في الساحل تعرف بالباس. وفيها كانت واقعة كتامة بالقيروان يوم الثلاثاء لعشر بقين من شعبان فقتل منهم في الأزقة والأسواق أكثر من ألف رجل، وذلك أن كتامة كانوا يسألون عبيد الله أن يطلق أيديهم على نهب القيروان وكان يسوفّهم في ذلك، ويعلق أطماعهم به، وهم يتحاملون علة أهل القيروان بالتطاول والأذى حتى شرق الناس بهم، فقاموا عليهم في بعض الأيام بسبب استطالة رجل من جند كتامة على رجا من تجار أهل القيروان. فلما دافعوه عنه، شهروا عليهم السلاح وأرادوا نب الحوانيت. فصاح أهل الأسواق (النفير، النفير) فقتل من كتامة أكثر من ألف رجل. وركب احمد بن أبي خنزير صاحب مدينة القيروان، فسكن الناس، وأمر بتغييب القتلى، فطرحوا في المراحيض. ولحق من كان حوالي رقادة من كتامة ببلادهم. فلما حصلوا بها، أظهروا الخلاف على عبيد الله. وقدموا على أنفسهم حدثا يعرف بالمارطي واسمه كادوا بن معارك وجعلوه قبلة يصلون إليه وزعموا انه المهدي المنتظر، وكتبوا كتابا فيه شريعة زعموا أنها نزلت عليه. فتغلب على جميع

(1/166)


الزاب، وقوى أمره، واشتدت شوكته. فأخرج إليه عبيد الله قوادا حاربوهم وهرب إليهم أحد القواد وهو صولات بن جندة في نحو مائتي رجل، ثم أخرج عبيد الله أبنه أبا القاسم إلى بلد كتامة لمحاربة المارطي ففصل من رقادة من يوم السبت لخمس بقين من شهر رمضان. فافتح مدينة القسطنطينية من أرض كتامة وغيرها ز وكانت له على المارطي وقائع. وهرب من قواد أبي القاسم إلى المارطي رجال، ثم أمنهم أبي القاسم ولاطفهم حتى انصرفوا إليه.
وفيها قتل بالقيروان قوما اتهموا بالميل مع أبي عبد الله الشيعي، إذ نوى الغدر بعبيد الله، ومنهم محمد ابن أبي سعيد الميلي صاحب السوق، وعبد الله ابن محمد المعروف بابن القديم، ومحمد ابن أبي رحال الباغائي، وأبو الوهب بن عمرو بن زرارة العبدري، وجماعة من بني الغلب وقوادهم. وقتل أبو إبراهيم المعروف بابن البجاري القرشي الفهري، وهو القائم على إبراهيم بن أحمد بنم الأغلب مع أهل تونس. وفيها ولد أبو الطاهر إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله الشيعي وولي أفريقية سبع سنين. وفيها مات زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب الهارب من أفريقية إلى مصر ودفن ببيت المقدس، (وكان لما فر عن القيروان بعياله وماله وألف سقلبي ترك جارية فغنت له محركة على حمل نفسها (منسرح)
لم انس يوم الوداع موقفها ... وجفنها في دمعها غرق
وقولها والركاب واقفة ... تتركني سيدي وتنطلقوا
قال المظفري فحط حمل مال، وحملها في مكانها. وقال عريب فدمعت عيناه، واشتغل عنها نما هو فيه، فتركها. ووصل إلى مصر فبقية عن عيسى النوسري صاحبها ثمانية أيام، ورحل إلى الرقة، فمنع الدخول إلى بغداد وأمر بالانصراف إلى مصر فسمه بعض عبيده فمات.

(1/167)


وفيها، مات من الفقراء المدنيين، وأهل العلم باللغة والنحو وفصاحة اللسان، عبد الله بن محمد التميمي المعروف بالبيدى، وهو من ولد عباد بن كثير ما ابن سبع وثمانين سنة.
وفي سنة 300، خالف أهل مدينة طرابلس على عبيد الله الشيعي، إذ كان قد استعمل عليهم ماقنون بن دبارة الأجاني؛ فبسط أيدي بني عمه من كتامة على الناس، وتطاولوا إلى الحرم، فتحرك السواد، ومدوا أيديهم إلى من لقوا من كتامة، فقتلوهم، وهرب ماقنون. وأغلق أهل طرابلس أبواب المدينة، وقتلوا من كان داخلها من كتامة، وقدموا على أنفسهم حمد بن إسحاق، المعروف بابن القرلين، ولحق ماقنون بعبيد الله. فأخرج إليهم جيشا، وحاربهم شهورا. وفيها، قفل أبو قاسم الشيعي (من بلد كتامة) إلى رقداة، ومعه المارطي الثائر وأصحابه أسرى فطوفوا بالقيروان على الجمال، وعليهم القلانس الطوال المشمرة بالقرون والمصافع، فقتلوا بمدينة رقادة. وفيها، خالفت جزيرة صقلية، وثاروا بالحسن وعلى أبني أحمد بن محمد بن أبي الخنزير العاملين عليها، وطاردوهما، وانتهبوا دورهما. وأرادوا أهل صقلية أن يقدموا على أنفسهم أحمد بن زيادة الله بن قرهب، فامتنع عليهم، وهرب منهم وتوارى عنهم في غارة، فاجتمع وجوه أهل البلدة عليه، وأوثقوه من أنفسهم أنهم لا يخذلونه. فتولى أمرهم، وكتب إلى المقتدر ببغداد بأن يكون داعيا له، وقائما بأمره بجزيرة صقلية، فأنفذ المقتدر ذلك له، وبعث إليه بألوية سود، وخلع سود، وطوق ذهب، ووصل ذلك إلى أحمد بن زيادة الله بن قرهب، فسر به، وأظهر الحزم والجد في أمره.
وفيها، خرج أبو القاسم بن عبيد الله لمحاربة طرابلس وفصل من

(1/168)


رقادة يوم الأحد لليلتين خلتا من جمادى الأولى. ووجه إليها عبيد الله في البحر خمسة عشر مركبا حربية. فلما وصلت إلى طرابلس أخرجوا إليها مراكبهم فحرقوا الأسطول، وقيلوا من فيه. وسار أبو القاسم في البر نحو طرابلس فأوقع بأهل هوارة، ثم نزل على طرابلس فحاربها وحاصرها حتى أكلوا الميتة فرغبوا إلى أبو القاسم في الأمان، فأمنهم إلى ثلاثة أنفس اشترط التحكم فيهم: وهم محمد بن إسحاق القرشي ومحمد بن نصر ورجل يعرف بالحوحة. فدخل طرابلس وتحكم فيها. ثم قفل بالعسكر إلى رقادة وبين يديه الثلاثة الذين تقدم ذكرهم، فطوفوا بالقيروان على الجمال بالقلانس، ثم قتلوا.
وفيها، قتل أبو القاسم في مدينة طرابلس عند افتتاحه لها، من كان معه من بني الأغلب وقوادهم.
وفيها، خرج عبيد الله من مدينة رقادة إلى تونس وقرطاجنة ونواحي البحر، يرتاد موضعا يتخذه دار مملكته. فوقع اختياره على جزيرة جمة فابتدأ ببنائها، وهي التي تسمى بالهدية.
وفيها، ولي أبو جعفر محمد بن أحمد بن هارون البغدادي ديوان البريد فلم يزل يتولى ذلك إلى أن هلك. وفيها، قتل بالقيروان محمد بن أبي أيوب المعروف بأبي العاهة وكان ممن رفع عليه أنه يحاول القيام على عبيد الله فأختفى، وهدمت بسببه دور، ثم خرج بنصيحة أظهرها لعبيد الله في أهل القيروان فغفل عنه أيام، ثن قتله. وفيها، قتل من التجار أبناء الأندلسيين بالقيروان أبو جعفر بن خيرون صاحب المسجد الشريف والفنادق المجاورة للسجن بسعي، كان القاضي المروذي عليه وشهادة شهد بها أن قِبَلَه وديعة كبيرة فطولب بها وعذب حتى مات

(1/169)


وفي سنة 301 أخرج عبيد الله الشيعي حباسة ابن يوسف بالجيوش إلى المشرق؛ فدخل مدينة سرت بالأمان، وهرب من كان فيها من جند بني العباس، وقرى بذلك كتاب في الجوامع بأفريقية. ودخل حباسة مدينة أجدابية بالأمان أيضا، وهرب من كان فيها لبني العباس. ودخل مدينة برقة. وكان عبيد الله يمد حباسة بن يوسف بالجيوش، فكلما دخل مدينة قتل أهلها، وأخذ أموالهم، وعاث فيهم، وتعلل على أهل العافية منهم، حتى لقد أخذ ببرقة جماعة كانوا يلعبون بالحمام؛ فأضرم لهم النار وأجلسهم حواليها، وأمرهم أن تقطع لحومهم وتشوى، ثم يطعمونها؛ وقذفهم بعد ذلك في النار، وقال: (إن هذه الحمام تأتيهم بالأخبار من قبل بني العباس!) وبرح ببرقة: (من أراد العطاء والرزق الواسع فليأتي!) فأكتب عنده جماعة، وأمر العرفاء من كتامة بأن يعرفوا بأعينهم، ويرقب كل واحد منهم رجلا من أولئك المكتتبين عنده، ثم أمرهم أن يحضروا بالغداة لأخذ الأرزاق، فلما حضروا، قتل جميعهم، وكانوا نحو من ألف رجل، فأمر بجمع جثثهم، ووضع عليها كرسيا، وجلي فوقهم، ثم أدخل وجوه أهل البلد، فنظروا إلى ما هالهم من كثرة القتلى، ومات منهم ثلاث من الخوف والرعب، فلما مثل أهل البلد بين يديه، سبهم، وقال: (أن لم تحضروني غدا مائة ألف مثقال، قتلتكم أجمعين) فأحضروه إياها. ووردت على حباسة عساكر عظيمة من مصر لمحاربتهم؛ فدارت بينهم حرب عظيمة، كانت فيها ردعات على حباسة، ثم انهزمت جيوش مصر، وأتبعهم حباسة، وقتل كثير منهم.
وفيها، قتل حباسة بن يوسف حارثا ونزارا أبني حمال المزتاني، في نفر من أبنائهم وبني عمهم، بمدينة برقة،، وباع نسائهم، وأخذ جميع أموالهم، إذ كان عبيد الله الشيعي قد خطر بهم في حين قدومه من مصر؛ فأدعى أنهم سرقوا له حمل مال ومتاع. فلما طلب ذلك عندهم، قام إليه رجل منهم، فشمته ولطمه؛

(1/170)


فكان ذلك سبب قتل حباسة لهم، على ما أمره به عبيد الله وحده له. ثم أن هل برقة كتبوا إلى عبيد الله بما دار عليهم من حباسة، وقتله رجالهم، وسبائه نسائهم، وأخذ أموالهم، فجاوبهم يعتذر إليهم، ويحلف أنه ما أمر بشيء مما ذكروه إلا في النفر الثلاث. وكتب إلى حباسة، يأمره بالرحيل عنهم. فتوجه بالعساكر نحو مصر. فنزل بجبل مقة، وحارب الحصون التي تجاوره حتى أخذها، وقتل أهلها، وأخذ أموالهم وسبى ذراريهم.

خروج أبا القاسم الشيعي لمحاربة مصر
وفيها، خرج أبو القاسم بن عبيد الله من مدينة رقادة، غازيا إلى مصر في حشود عظيمة، وفيها، أحرق محمد بن أحمد بن زيادة الله بن قرهب أسطول عبيد الله الشيعي بمرسى لبطة، وقتل قائده الحسن بن أحمد بن أبي خنزير: قتله محمد بن قرهب ذبحا بيده، وقطع يديه ورجليه، وأسر من أصحابه نحو ست مائة رجل، وأحرق جميع الأسطول. وبلغ عبيد الله ذلك، فبعث جيشا للمدافعة عن الأسطول، إذ ظن أنه لم يحرق. فخرج أصحاب بن قرهب إليهم، وقاتلهم حتى هزموهم، وغنموا ما كان في العسكر. وفيها مات بالقيروان أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن الحسن البصري القرشي وفيها مات بقصر الطوب وهو موضع رباط بجانب سوسة، أبو يونس الزاهد، ونفر أهل القيروان لشهود جنازته
وفي سنة 302، دخل أبو القاسم بن عبيد الله الشيعي مدينة الإسكندرية ومعه حباسة القائد فألفاها خالية، وقد هرب أهلها في البحر بما خف من أموالهم

(1/171)


وأسلموا سائر أثقالهم. فاحتوى أبو القاسم وحباسة على جميع ذلك ووصل أبو القاسم إلى الفيوم، فعسكر بها حتى قدم قائد الخليفة مؤنس الفتى من العراق لمحاربته. ثم أن حباسة بن يوسف هرب من مصر إلى أرض المغرب، وكان سبب هربه أن أبا القاسم مبعث إليه من الفيوم أبا فريدن القائد، وأمره أن يستخلفه على الجيوش ويلحق حبالسة به في الفيوم، فأغضبه ذلك، وقال: لما أشرفت على أخذ البلد، يفوز أبو فريدن بخيره وذكره. فركب حباسة في نحو ثلاثين فارسا من بني عمه، وخرج هاربا إلى جهة المغرب. فكتب أبو القاسم إلى عمال الطريق بخبره وأمرهم بارتصاده وأخذه أن مر بهم. وكتب إلى أبيه عبيد الله بذلك. ونزل مؤنس الفتى مصر يوم الاثنين للنصف من شهر رمضان فرحل أبو القاسم من الفيوم منصرفا إلى أفريقيا بما خف من الأموال والكسي والسلاح. فضربت جيوش مصر في ساقته، فأخذت مضاربه وسلاحا كثيرة وأثاثا. ووصل حباسة إلى حوز برقة، ثم إلى نفزاوة، فعثر عليه وعلى أصحابه فهرب أصحابه. وأخذ حباسة، وقيد، وحمل إلى عبيد الله فحبسه وحبس جميع أهله. وفيها حاول عروبة الهرب من تبهرت، إذ بلغه خبر حباسة وهربه، وقيل أن حباسة كاتبه وإنه كاتبه يرجو اللحاق به والاعتصام بكونه معه. فلما أخذ حباسة، نفر عروبة وخاف فهرب بماله. فظفر به بجبل أوراس، فقتل، وبعث برأسه إلى عبيد الله، فنظر إليها وإلى رأسي حباسة وعروبة، فقال: (ما أعجب أمور الدنيا! هذه الرؤوس ضاق بها المشرق والمغرب، وحملتها هذه القفة!) وأمر بطرحها بجامع الإسكندرية سرا.
وفي هذه السنة، مات سعيد بن محمد بن صبيح الغساني الفقيه، وكان قد صحب سحنون بن سعيد وحمل عنه علمه. وفيها، خالفت مدينة برقة وكان أبو

(1/172)


القاسم، لما مر بهم في انصرافه من مصر وقد هنئوه بسلامة، فزعم لهم إنه إنما كان طلب حباسة ليعاقبه على فعله بهم، وأمرهم بنيان ثلم مدينتهم، واستخلف عليهم رجالا من كتامة. فلما ولى عنهم أبا القاسم، وعلموا الحال التي انصرف عليها من مصر بدر الغوغاء إلى من كان خلف عندهم من كتامة، فقتلوهم ووصل أبو القاسم إلى مدينة رقادة من صرفه عن الفيوم يوم الأحد لعشر خلون من ذي القعدة.
وفي سنة 303 مات زيادة الله بن عبد الله بن إبراهين بن الأغلب بالرملة، وترك من المال، في ما ذكر منن كان بحضرته، ألف مثقال من ضرب سكته. وكان بأفريقية وما والها في هذا العام وباء كثير، فمات بها من قريش القيروان أبو المصعب بن زرارة العبدري. ومات حماس القاضب ابن مروان بن سماك الهمداني، وكان فقيها زاهدا ورعا. ومات محمد بن عبادة السوسي. وما ت خلف بن معمر بم منصور من الفقهاء العراقيين وكان يروى عن أبيه عن أسد بن الفرات، وكان قد تشرق أول دخول الشيعة أفريقية ليعتصم بذلك من مطالبت الشيعة لولده بمال كان غمس يديه فيه عند هرب زيادة الله من رقادة، وكان والده معمر بن منصور قد سمع من ابن فروخ، ومن أسد ابن الفرات، وكان أصح أصحابه سماعا عنه وكان معمر يقول بتحليل المسكر ما لم يسكر منه. وفيها مات القاضي المروذي، وهو محمد بن عمر في العذاب برقادة، ودفن بباب سالم ليلا، وطولب أهل القيروان بماله، فامتحن بذلك جماعة من وجوه أهل القيروان وفضلائهم وتجارهم.
وفيها، أخرج عبيد الله الجيوش إلى مدينة برقة مع أبي مدين بن فروخ اللهيطي. وفيها، ولي عبيد الله (فأفريقية الخراج) أبا معمر عمران بن أحمد ابن عبد الله بن أبي محرز القاضي، فتولى بوظيفة التقسيط على ضياع أفريقية بعد أن وزع جميعها ونظر إلى أوفر مال ارتفع من العشور في سنة وأقله ثم جمع المالين ووظف الشطر على كل ضيعة.

(1/173)


وفيها اضطرب أمر جزيرة صقلية على ابن قرهب، وأجمع بعضهم على خلعه وكاتبوا عبيد الله في أمره، فداراهم ابن قلاهب وذكرهم بأيمانهم له، فلم يلين ذلك حتى صارت بسببه فتنة بصقلية طائفة كانت معه وطائفة كانت عليه. فأراد ابن قرهب جواز البحر إلى الأندلس واكترى مراكب، وشحن فيها متاعا كثيرا فحال أهل صقلية بينه وبين ما أراد، وانتهبوا ما كان له في تلك المراكب، وأسروا ابن قرهب وأبنه وقاضيه المعروف بابن الخامي وقيدوا أجمعين، وبعثوا إلى عبيد الله. وكتب أهل جزيرة صقلية أن يوجه إليهم عاملا وقاضيا وإنهم لا يحتاجون إلى رجال ولا مدد واشترطوا في كتابهم إليه اشتراطا أغضه عليهم، وأغراه بهم، وحرك منهم لمحاصرتهم على ما سيأتي ذكره أن شاء الله تعالى.
وفي سنة 304 في المحرم منها وصل، وصل ابن قرهب وأصحابه إلى مدينة سوسة مصفدين في الحديد. وكان عبيد الله الشيعي بها. فأوصل ابن قرهب إلى نفسه وقال له: (ما حملك على الخلاف علينا وجحد حقنا؟) فقال له: (أهل صقلية ولوني، وأنا كاره، وخلعوني وأنا كاره!) فأنصرف عبيد الله بهم إلى رقادة وأمر بابن قرهب وأصحابه، فضربوا بالسياط وقطعت أيديهم وأرجلهم على قبر الحسن بن أبي خنزير بباب سالم وصلبوا هناك. وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة، كمل سور المهدية ونصبت أبوابها. وفيها، أخرج عبيد الله الجيوش والأساطيل إلى صقلية وقد عليهم أبا سعيد المعروف بالضيف. فحاصرهم شهورا، وقتل منهم جملا، وأجال كتامة على من ألفا في أرباض المدينة من النساء والذرية، فعبث بهم وافترع الجواري الأبكار. وكتب أبو سعيد الضيف إلى عبيد الله بالفتح فيهم، فأمده بمراكب ورجال كثيرة. فلما رأى ذلك أهل صقلية، رغبوا إليه في الأمان على أن يدفعوا عليهم من كان شايع ميما أحدثوه. فأمنهم، وهدم سور المدينة وأخذ سلاحهم وخيلهم ورقيقهم، وفرض عليهم مغرما، وبعث بمن أخذ منهم إلى عبيد الله في مراكب

(1/174)


فانكفأ بهم في البحر. وولي أبو سعيد الضيف على جزيرة صقلية سال بن أبي راشد، وأبقى معه جماعة من كتامة وانصرف إلى القيروان.
وفي هذه السنة فتحت مدينة برقة على يد أبي مدين الموجه إليهم بعد أن أفنت الحرب أكثر ألها مدت ثمانية عشر شهرا، وحوصروا فيها، وأحرق قوم منهم بالنار، واستصفى أبو مدين أموالهم، وبعث جماعة منهم إلى عبيد الله، فأمر بقتلهم. وفيها، مات محمد بن اسود بن شعيب القاضي الصديني. وفيها مات ميمون بن عمر الفقيه، ومحمد بن أحمد الصدفي الزاهد. وفيها خرج مصالة ابن حبوس من تبهرت لمحاربة سعيد بن صالح بن سعيد بن إدريس، صاحب نكور، فدارت بينهم حروب كثرة.
وفي سنة 305 أفتتح مصالة بن حبوس، قائد عبيد الله الشيعي مدينة نكور، وقتل بها سعيد بن صالح رئيسها، وذلك يوم الخميس لثلاث خلون من محرم. وانتهب مصالح مدينة نكور وسبى النساء والذرية، ثم أنصرف إلى تبهرت، وكتب بالفتح إلى عبيد الله وبعث إليه سعيد بن صالح ورؤوس أصحابه، فطوفت بالقيروان. ثم أن بين صالح خرجوا فارين بأنفسهم إلى الأندلس معتصمين بما تناهى إليهم من فضل أمير المؤمنين الناصر وحن مذهبه في كل نازع إليه ومعتصم به، فنزلوا مرسى مالقة، وعهد بإنزالهم والتوسع عليهم، وبعث إليهم بضروب الكسوة وكل ما احتاجوا إليه من المرافق وخيروا في القدوم إلى قرار السلطان أو المقام في ذلك المكان، فاختاروا المقام على بره وحبائه. وكان مصالة قد أستخلف على نكور رجلا يقال له ذلول، وانصرف إلى تبهرت، فافترق عن ذلول من كان معه وبقي في فل من المشارفة. فقصده صالح بن سعيد بن صالح من مرسى مالقة، فقتله، وقتل أصحابه ولزم نكور، وهادي أمير المؤمنين بالخيل والجمال.

(1/175)


تلخيص أخبار أمراء مدينة نكور
من حين بنائها على الجملة إلى هذه السنة المؤرخة
وذلك أن صالح بن منصور، المعروف بالعبد الصالح، كان دخل أرض المغرب في الافتتاح الأول زمن الوليد بن فيد الملك، فنزل في بني تمسمامان وعلى يديه أسلم بربرها، وهم صنهاجة وغمارة. ثم ارتد أكثرهم لما ثقلت عليهم شرائع الإسلام، وقدموا على أنفسهم رجلا يسمى داود ويعرف بالمزيدي وكان من نفزة وأخرجوا صالحا من بينهم. ثم أفاء الله بالإسلام عليهم، وتابوا من شركهم، وقتلوا داود المزيدي، وردوا صالحا. فبقى ذلك إلى ا، مات بتسمامان، وكان له من الولد ثلاثة: المعنصم، وأدريس: أمه صنهاجية وعبد الصمد، فولوا المعتصم، ومكث فيهم يسيرا، ومات. فولوا على أنفسهم إدريس. ثم مات. وولى سعيد ابن إدريس، وهو الذي بنى مدينة نكور. ومنها إلى مدينة زواغة، التي كانت للحسن بن أبي العيش، مسيرة خمسة أيام. وكان لها أربعة أبواب: منها أبواب سليمان، وباب بني ورياغل، وباب المصلى وباب اليهود. وبها جامع كبير. وأكثر خشبهم الأرز. وبها حمامات كثيرة، وأسواق عامرة ممتدة. وهي بين نهرين، أحدهما اسمه نكور، وبه سميت المدينة. ودخلها المجوس سنة 244، وتغلبوا عليها، وانتهبوا من كان فيها إلا من خلصه الله بالفرار، وأقام المجوس بها ثمانية أيام، وخرجوا منها. وبينها وبين البحر خمسة أميال. وقامت البرانس على سعيد بن إدريس، فأظفره الله عليهم وهزمهم وقتل رئيسهم. ثم رجع من بقى منهمك إلى الطاعة. ومات سعيد بن إدريس بعد أن ملكهم سبعا وثلاثين سنة.
وولي ابنه صالح بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور. وكان لسعيد من الولد كمنصور وحماد وزيادة الله والرشيد، وعبد الرحمن

(1/176)


الشهيد ومعاوية وعثمان وعبد الله وإدريس. وكان عبد الرحمن فقيها بمذهب مالك، وحج أربعا، وعبر البحر إلى الأندلس برسم الجهاد، فقتل الثائر ابن حفصون كل من كان معه، وتخلص هو بنفسه إلى مرسية، وحضر غزوة أبي العباس القائد، واستشهد فيها. وقام علي صالح أخوه إدريس في بني ورياغل وجزناية، فالتقوا بجبل وزناية، وانهب إدريس عسكره، واستمر إلى مدينة نكور ليدخلها، فامتنع أهلها إلى أن أتاهم صالح صاحبها في خاصته، فدخلها في جوف الليل، ولن يعلم أخوه إدريس بذلك، وكان قد نول عليها وطمع فيها. فلما كلن في غد اقبل إدريس على فرسه وهو لا يعلم بأمر أخيه فأدخله المدينة، وأرجله فتيان صالح عن دابته، وأتوا به إلى أخيه، فأمر بحبسه. ثم سار عليه قاسم الوشتاقي بقتله، فأمر فتى من فتيانه يقال له عسلون فقتله، وامتنعت مكناسة على صالح، وحبسوا مغارمهم. فكتب إليهم يتوعدهم، وختم الكتاب، وأدخله في مخلاة، وشدها على حماره! وبعثه مع ثقته، وقال له (إذا توسطت مكناسة، فاترك الحمار بما عليه وانصرف) ففعل فوجد مكناسة حمار صالح، وقرؤوا كتابه فتمادوا على امتناعهم عليه. ثم انصرف رأيهم إلى جمع ما كان عليهم فجمعوه، وجللوا الحمار بملفحة، وأتوا صالحا بالحمار وبمغارمهم واستعفوه فعافاهم. وبقى صالح بن سعيد أميرا إلى أن نوفى بعد أن ملك أزيد من عشرين سنة.
وولى بعد ابنه سعيد بن صالح. فلما توطد الأمر له، دخل عليه عبيدهم الصقالبة، فسألوه العتق فقال لهم: أنتم جندنا وعبيدنا لا تدخلون في ورثنا. فما طلبكم للعتق؟ فألحوا عليه في ذلك وناله جفاء منهم، وخلعوه وقدموا أخاه عبيد الله وعمه الرضي المكنى بأبي علي وزحفوا بهما إلى القصر فحاربهم سعيد من أعلى القصر بمن كان معه وبالنساء. وقامت عليهم العامة،

(1/177)


فأخرجوه من البلد وهزموهم. فتحصنوا بقرية سبعة أيام، ثم ظفر بهم سعيد. وكان عنه الرضى صهره، فحبسه مع أخيه عبيد الله، وقتل من خرج معهما من بني عمه، منهم الأغلب، وأبو الأغلب، فقام سعادة الله بن هارون، وهو ابن عم الأغلب فقال: قتل ابن عني وأبقى عمه وأخاه! فألب عليه بني يصلاتن، وعقد أه معهم، وسعدة الله مع سعيد بمدينة نكور. ثم خذله سعادة الله، وانحاز إلى بني يصلاتن بمن معه فانهزم سعيد، وأخذت بنوده وطبوله، وقتل من مواليه نحو ألف رجل، وأتوا مع سعادة الله حتى حاصروا سعيد بن صالح بنكور. ثم كانت الكرة لسعيد عليهم، فهزمهم، واسر ميمون بن هارون أخا سعادة الله، وسار إلى تمسامان. فأحرق دياره وخربها وانصرف إلى نكور. وخرج سعادة الله بعد ذلك إلى بطوية وبني ورتدي، وزحف بهم إلى زناتة، فحاربهم وهزمهم، وانقادت له جميع تلك البلاد. ثم انصرف إلى مدينة نكور، فأقام بها مصافيا لسعيد المذكور.
ولما تغلب عبيد الله الشيعي، كتب إلى أهل المغرب، يدعوهم إلى الدخول في طاعنته والتدين بإمامته. وكتب بمثل ذلك إلى سعيد بن صالح، وفي أسفله أبياتا كثيرة منها (طويل) .
فإن تستقيموا أستقم لصالحكم ... وأن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا
وأعلو بسيفي قاهر السيوفكم ... وأدخلها عفوا وأملوها قتلا
فأجابه شاعرهم، فقال: (طويل) .
كذبت وبيت الله لا تعرف العدلا ... ولا عرف الرحمن من قولك الفضلا
وما أنت إلا كافر ومنافق ... تميل مع الجهال في السنة المثلا
وهمتنا العليا لدين محمد ... وقد جعل الرحمن همتك السفلا

(1/178)


فكتب عبيد الله الشيعي إلى مصالة قائده على تبهرت، يأمره بالنهوض إلى مدينة نكور، ويأمره بمحاربة سعيد بن صالح المذكور. فخرج مصالة من تبهرت في غرة ذى الحجة من السنة الفارطة عن هذه المؤرخة، فنزل من مدينة نكور على مسيرة يوم. فخرج إليه سعيد، فحاربه ثلاثة أيام مكافئا له. وكان مع سعيد رجل من أعلام البربر يقال له أحمد بن العباس من بني يطوفت، دعته نفسه إلى أن يقصد محلة مصالة في سبعة فوارس، واقتحم إلى مصالة، فتصايح الناس، وأخذ أحد أسيرا زمن معه، فأمر مصالة بضرب أعناقهم، فقال له أحمد: ليس مثلي يقتل! فقال مصالة: لم؟ قال: لأنك لا تطمع في سعيد إلا بسببي! فاستبقاه وقربه حتى أنس به، ثم أعطاه جيشا فقصد به جانبا كان يعلم الغرة منه، حتى دخل عسكر سعيد من حيث لا يظن به. ففرق جمعه وغشى سعيدا ما لم يتأهب له، وترادفت عليه العساكر، ونظر أمرا لا يستطيع المقام معه، فبعث إلى مدينة نكور، فأخرج كل من كان في قصره وما معهم، وساروا إلى جزيرة في موسى نكور، ومعهم صالح بن سعيد، وإدريس والمعتصم. وقابل سعيد حتى قتل واستبيح عسكره. ودخل مصالة مدينة نكور، فقتل رجالها، وسبى النساء والذراري. وفي ذلك يقول بعض الشعراء (رجز) .
لما طغى الأرذل وابن الأرذل
في عصبة من الطغاة الجهل
قال: نكور دون ربّي معقلي
أتاه محتوم القضاء الفيصل
من الإله المتعالي الأعدل
حطم أهل كفرها بالكلكل
وجاء رأس رأسها المبدل

(1/179)


على قنا من الرماح الذبل
ذو لمة شعناء لم تقتل
ولحية غراء لم ترجل
وركب من نجا من ذرية سعيد البحر إلى مقالة، فاستقروا بها لقربها من بلدهم ورجائهم العودة إليه. وبقى مصالبة في نكور نحو ستة أشهر، ثم استخلف عليها ذلول. فكان من أمره ما تقدم ذكره. وذلك أنه لما افترق عن ذلول أصحابه سمع بذلك بنو سعيد بمقالة، فعبروا البحر في مراكب مختلفة، في ليلة واحدة، واتفقوا على أن من وصل غليها قبل فالولاية له، ثقة منهم برعيتهم. وكانوا إدريس والمعتصم وصالح بني سعيد. فوصل صالح من ليلته، فتسامع البربر بقدومه، فتسارعوا إليه، وعقدوا له الأمرة، ولقبوه باليتيم، وزحفوا إلى ذلول وأصحابه فقتلوهم أجمعين. وكتب صالح بالفتح والنصر إلى أمير المؤمنين الناصر فأمر بإمداد صالح بالأخبية والآلات والأسلحة والبنود والطبول،، فتوطد الملك بالمغرب لصالح بن سعيد، وبقي أخوته في البحر شهرا يترددون فيه إلى أن وصلوا بعد ذلك إلى نكور. وهي في وقتنا هذا مدينة المزمة أو قريبا منها، وفي هذه السنة تم شأن القاسمية بالقيروان، وانتقل إليها التجار وأهل الصناعات، وذلك في شهر ربيع الأول. وفيها مات أبو جعفر أحمد بن محمد القرشي المعروف بالمغرباني، وكان من أهل الزهد والعبادة، وله سمات كثيرة من سحنون وغيره. وفيها مات القاضي بقفصه، وهو مالك بن عيسى بن نصير، وكانت له رحلتان في طلب بالحديث، أقام فيهما عشرين سنة، وكان به بصيرا، وفي علمه نافذا. وفيها مات بمدينة رقادة من قريش أفريقية أبو الفضل محمد بن عبد السلام بن عبد السلام، من ولد عبد الملك بن مروان، وكان قد تولى جباية طرابلس وتونس لينج مع القوم ويبقى معهم، فتوصل بذلك إلى أخذ نعمته،

(1/180)


ومات في عذاب الشيعة. وفيها أخذ أهل الضياع بأعمال أفريقية بمغرم سمى التضيبع. وزعموا أنمه من بقايا التقسيط.
وفي سنة 306، خرج أبو القاسم بن عبيد الله الشيعي إلى مصر في سفرته الثانية وذلك يوم الاثنين مستهل ذي القعدة بعد أن حشد من كتامة جملا كثيرة ومن عرب أفريقية وبربرها وخرج معه خليل بن إسحاق وأبو غانم الكاتب، وغيرهما من رجال أبيه. وعزل عبيد الله عن القيروان منّ الله بن الحسن بن أبي خنزير، وأخرجه مع ابنه أبي القاسم إلى مصر، وولى عمل القيروان أبا سعيد الضيف، وفيها وقعت النار بالقيروان في سوقها ليلة الأربعاء لثلاث عشرة ليلة من ذي الحجة.
وفيها توفي أبو سعيد محمد بن محمد بن سحنون، وله سماع من ابيه، وغلبت عليه الزهادة والعبادة. وفيها، مات أبو الأسود موسى بن عبد الرحمن ابن جندب المعروف بموسى القطان، وكان من رجال محمد بن سحنون، وولي قضاء مدينة طرابلس في أيلام عيسى بن مسكين، وعزله إبراهيم بن أحمد عن القضاء وحبسه، وله اثني عشر جزءا ألفها في أحكام القران. وفيها مات بمدينة برقة أبو مدين بن فروخ اللهبطي، وكان قائد الشيعة بها.
وفي سنة 307، كان بأفريقية وما والاها إلى مصر، طاعون شديد وغلاء وغلاء سعر مع الجور الشامل من الشيعة، والتعلل على أموال الناس في كل جهة. وفيها، قدم أبو القاسم بن عبيد الله الشيعي سليمان بن كافي، صاحب مقدمته إلى الإسكندرية في حملة من رجال كتانة وغيرهم، فوجد أهلها غافلين. فلما أحسوا بالخيل، وتلاحق بهم أبو القاسم بجيوشه، أخلوا المدينة وتركوها. فدخلها أبو القاسم الشيعي، وانتهب أموال أهلها وكتب إلى أبيه بالفتح، ثم قدم سليمان بن كافي بالجيوش إلى الفيوم فدخلها بالسيف، وقتل أهلها، وانتهب أموالها وسبى الذرية وجبى الخراج، وأقبلت العساكر من أفريقية يتلوا بعضها بعضا، فاجتمع إلى أبو القاسم عدد يجل عن الإحصاء. فتنقل من

(1/181)


محته عن الإسكندرية إلى الفيوم ونزل بالأشمونين في رجب. وألقى الأطعمة في الأنادر لم تخزن، فانتهبها العساكر. وغلت الأسعار بمصر وبالعسكر، ووقع الوباء في الناس وجلا كثيرا منهم. وكانت مصر في ذلك الحين خالية من الجند، فاجتمعوا وتشاوروا في أمرهم، فردوه إلى محمد بن على المادراني وأخيه أبي زنبور، فكتبا إلى أبو القاسم سرا يعرفنه بغيبة الجند وضعف البلد وأظهرا له المسارعة إلى طاعته، وسألاه الاستثناء عليهم لما يتوقعون من العوام، وكان مذهبهما أن يكتف عنهم حتى تأتيهم الرجال من بغداد. وكتب المارداني إلى المقتدر بنزول العساكر عليهم. وفي هذه السنة أقبل ثمل الفتى بالمراكب الشامية، مغيثا لأهل الإسكندرية. فألفى الشيعة بها أسطولا لمحاربة ثمل حتى تغلب على الأسطول بمن فيه، وذلك يوم الأحد لاثنتي عشر ليلة بقيت من شوال، وأسر جملة من رجال كتامة ثم نهض ثمل بالأسرى إلى الفسطاط، فطوفهم على الجمال مشهرين، وفيهم جماعة من رجال الشيعي المشهورين بالبأس.
وفيها مات القاضي محمد بن محفوظ القمودي بإفريقيا، وكان ضعيف الرأي جائر الحكم وولى القضاء بالقيروان إسحاق بن أبي المنهال. وفيها هبت بالقيروان رياح مظلمة صفراء دامت أياما وسدت الأفق حتى كان الرجال لا يرى جليسه، وأتبعها الوباء الذي تقدم ذكره. وفيها مات أحمد بن علي بن دودان الفقيه وكانت له رحلة سمع فيها من يونس والمزني. ومات محمد بن أحمد بن يحيى بن مهران الفقيه من رجال محمد بن سحنون. ومات أبو سليمان داود بن مسرور الغساني وكان متزهدا فاضلا ومات محمد بن عبد الله ابن القاضي أحمد بن محرز. ومات بمدينة تونس من قريش محمد بن أحمد بن عبد الله بن سعيد بن خالد بن عبيد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان وكان يلقب بالبعرة وكان طرأ على إبراهيم بن أحمد من المدينة، ودخل الأندلس مرتين.
وفي هذه السنة قتل بالقيروان عروس المؤذن بمسجد أبو عياش

(1/182)


الفقيه إذ شهد عليه قوم من المشارقة بأنه أذن ولم يقل: (حي على خير العمل) وكان من المتزهدين يطحن بيده، ويعمل الخلفاء، ويتعيش من ذلك. وفيها مات من الفقهاء بالقيروان عبد الله بن محمد بن يحيى الرعيني من أصحاب سحنون، ومحمد بن موسى التميمي من شيوخ العراقيين، وإسحاق بن إبراهيم بن أبي عاصم الفارسي، وأبو جعفر أحمد بن منصور مولى بني تميم وكان يعرف بابن المقرعة الغاسل، وسمع بمكة ومصر. ومات جماعة من التجار ومن خدم السلطان ومن الأطباء ممن يطول الكتاب بذكره.
وفي سنة 308 سار مصالة قائد عبيد الله الشيعي نحو المغرب بالجيوش. فلما بلغ قريبا من نكور خرج صالح بن سعيد عن مدينة نكور وتحصن بجبل هناك يعرف بجبل أبي الحسين. ودخل مصالة المدينة وضبطها ثم سار منها إلى جهة فاس. وكان بها حينئذٍ يحيى بن إدريس بن عمر بن إدريس في أهله ورجاله. فلما قرب منها، أرادوا مدافعته. فحاربهم أياما حتى هزمهم. ودخل مصالة مدينة فاس وضبطها. وقال شاعرهم وقد عرض بها بسيط:
دخلت فاسا وشوق إلى فاس ... والجبن يأخذ بالعينين والرأس
فلست أخل فاسا ما حييت ولو ... أعطيت فاسا بما فيها من الناس
وفيها قتل أبو سعيد موسى بن أحمد بن موسى بن أحمد بمدينة القيروان زيادة بن خلفون المقطبب مولى بني الأغلب، وكان عالما بالطب، حسن الذهن فيه، وكان عبيد الله قد احتاج إلى زيادة، وقربه من نفسه وحذره من أبي سعيد، لاختلاف كان قد وقع بينهما، وأمره أن لا يدخل القريوان إذا كان أبو سعيد بها، فالتزم زيادة ذلك إلى ا، بات ليلة بالقيروان، وأبو سعيد برقادة، وكانت له عيون عليه فبعث إليه من دخل عليه داره، وقتله بها.

(1/183)


وفي هذه السنة انتقل عبيد الله الشيعي بعياله وأمواله ونقله إلى المهدية يوم الخميس لثمان خلون من شوال، بعد أن كمل قصره بها، وقصر ولده أبي القاسم، وسور المدينة وبعض دور رجاله، ولم يكمل الكل. وكانت في هذه السنة بالقيروان ورقادة أمطار كثيرة، هدمت المباني، فاضطر عبيد الله إلى استعجال التنقل. فقالت شعراء أفريقية في انتقاله واستيطانه من الشعر ما ذكرنا أبياتا منها ليستدل بما فيها على ما كان يستحله ويجوز عنده من الأشعار (وافر)
ليهنك أيها الملك الهمام ... قدوم فيه الدهر ابتسام
حططت الرحل في بلد كريم ... رعته لك الملائكة الكرام
لئن عظم الحرام وما يليه ... كما عظمت مشاهده العظام
لقد عظيت بأرض الغرب دار ... بها الصلوات تقبل والصيام
هي المهدية الحرم الموقى ... كما بتهامة البلد الحرام
كأن مقام إبراهيم فيه ... ثرى قدميك إن عدم المقام
وإن لئم الحجيج الركن أضحى ... لنا بعراص قصركم التشام
لئن شاب الزمان وشاب منك ... دعائمه إذا عجمت حطام
لملكك أيها المهدي ملك ... غلام والزمان به غلام
لك الدنيا ونسلك حيث كنتم ... فكلكم لها أبدا إمام
وفي هذه السنة قتل بالقيروان من قريش تميم علي بن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن هاشم بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رحمه الله - قتله أبو سعيد موسى بن أحمد إذ اتهمه برفع كتاب إلى عبيد

(1/184)


الله بأن أهل القيروان عقدوا مع أبي سعيد هذا على الخلاف فحكمه عبيد الله فيه وحبسه، ثم خنق حتى مات. وفيها مات من قواد بني الأغلب أبو جعفر أحمد بن تميم، ومن الفقهاء سعيد بن حكمون، وكان زاهدا. وتوفي إبراهيم ابن تونس المعروف بابن الحساب، مولى موسى بن نصير، وكان يلقب حارث حسبة، وولي أحكام القيروان وقضاء مدينة رقادة. وتوفي من الفقهاء العراقيين أحمد بن عبد الرحمن اللخمي، سمع كمن محمد بن وهب وغيره. وتوفي منهم أحمد ابن غبدون بن وهب. وتوفي الربيع بن هشام التميمي، وكان من الزهاد المتعففين.
وفي سنة 309 فتح مصالة بن حبوس مدينة سلجمانة، وانتهب أموالها وقتل بها أحمد بن مدرار وولي عليها المعتز بن محمد بن مدرار، وانصرف. وفيها أظهر منيب بن سليمان الكمناسي الداعي التشريق بجانب تبهرت وتحليل المحرمات. وقيل أن عبيد الله وغيره من الأطراف، وأمرهم بإظهار التشريق فإن وجدوا الناس محتملين له ومغضبين عليه، نشروه عند العامة، وأظهروه. فلما كشف منيب بجبل ونشريش ما أمره عبيد الله به وكان الرجل يدخل إلى حليلة جاره، فيطأها وزوجها حاضر ينظر إليه ثم يخرج، فيبصق في وجهه، ويصفع قفاه ويقول له: تَصَبّر فإذا صبر عد كامل الإيمان وسمي من الصابرة. فقام عليهم الناس وقتلوا بعضهم! وفيها، وصل أبو القاسم الشيعي إلى المهدية يوم السبت مستهل رجب منصرفة من الفيوم وكانت سفرته هذه سنتين وثمانية أشهر.
وفيها، أمر عبيد الله بحبس نحو مائتي رجل أظهروا التشريق بالقيروان

(1/185)


وباجة تونس، وجاهروا بتحليل المحرم وأكلوا الخنزير وشربوا الخمر في رمضان جهارا. وعلم بذلك الخاص والعام حتى عير به أبو القاسم أيام كونه بالفيوم وكثر القول من الناس في هذا فكتب عبيد الله إلى عماله بهذه المواضع بأن يرفعوهم إليه مقيدين، ثم حبسوا، فمات أكثرهم بالسجن وكلهم مشهور بأفريقية: منهم أحمد البلوي النخاس بالرقيق كان يصلي إلى رقادة أيام كون عبيد الله بها وهي منه في المغرب فلما انتقل عبيد الله إلى المهدية وهي منه في المشرق، صلى إليها وكان يقول: لست ممن يعبد من لا يرى! وكان يتصدى لعبيد الله ويقول له: أرق إلى السماء كم تقيم في الأرض وتمشي في الأسواق! وكان يقول لأهل القيروان في عبيد الله: أنه يعلم سركم ونجواكم! فاقرب إليه يرجلا يوما وهو يقول ذاك فأخذ أذنه ونطق فيها: عبيد الله الذي نقول زان! ابن الزانية! فإن كان يعلم ما قلت لك، فلينتصر! فصاح صيحة عظيمة وقال: يا مسكين! إنه حليم لا يعجل! ومنهم إبراهيم بن غازي، وكان يأكل في شهر رمضان جهارا ويركب الكبائر وكان في أيام بني الأغلب من المتزهدين المرابطين بقصر الطوب المجاور لسوسة وقد كان أهل سوسة أرادوا تقديمه لصلات الجماعة. وفيها تصدى جماعة من أهل القيروان بالنساء والذرية لأبي القاسم، وشكوا إليه سرا جور أبي سعيد وأصحاب المحارس، ووصفوا إفسادهم وغارتهم على أموالهم فاستأذن لهم على أبيه، فدخلوا كافة، وشكوا غليه بما شكوا به إلى أبي القاسم وأبو سعيد جالس عنده فحلف لهم عبيد الله أنه ما علم بظلمهم، وأمرهم بالانصراف ووعدهن بالإنصاف وأمر أبا سعيد برفع كتابه وقوم من أصحاب المحارس إليه فحسبهم عبيد الله وأطلق كاتبه.
وفيها، أمر عبيد الله بأن يكون طريق الحاج على المهدية، لأداء ما وظف عليهم من المغارم في الشطور، وألا يتعدى هذا الطريق أحد وكان

(1/186)


من أمثال أهل القيروان في أيام بني الأغلب عند مطالبة شيء ممتنع: إذا أردت الحج، فخذ على بندون! وبندون هذه قرية في طريق جمة والطريق القصدة إنما هي على مصر. فلما عهد عبيد الله بأن تكون طريقهم على المهدية صار المثل القديم حقا.
وفبه، أمر عبيد اله بقتل أبي علي حسن بن مفرج الفقيه، ومحمد الشذوني الزاهد، إذ رفع عليهما إليه بتفضيل بعض الصحابة على عليّ وفيها مات بمدينة سوسة أبو الغصن نقش الفقيه، سمع من سحنون زمن عون بن يوسف وغيرهما، وتوفي محمد بن هيثم بن سليمان بن حمدون القيسي الفقيه ومحمد، ومحمد ابنا عبد السلام بن إسماعيل من بني عبد الملك بت مروان، وفي سنة 310، قدم مصالة بن حبوس إلى المهدية على عبيد الله. فأقام بها أياما. ثم صرفه إلى تبهرت. فخرج إليها في شعبان. وفيها، قرى كتاب لعبيد الله الشيعي في جامع القيروان بوقعة كانت بين فلاح بن قمون وبين جند مصر بذات الحمام. وفيها، قتل بجبل أوراس أبو معلوم فحلون الكتامي من قواد عبيد الله وكان قد أخرجه إلى هذا الجبل، فكلف أهله فوق وسعهم وأمرهم برفع عيالاتهم إلى المهدية، فأظهروا الطاعة له، وشرعوا فيما أمرهم به فلما كان في بعض الليالي، وثبوا عليه وعلى جند كتامة الذين كانوا معه، فقتلوهم أجمعين.
وفيها خالفت نفوسة على عبيد الله، وقدموا على أنفسهم أبا بطة فاجتمع إليه عدد كثير واشتدت شوكته. فأخرج إليهم عبيد الله علي بن سلمان الداعي في جمع كثير فلما قرب منهم بيتوه فقتلوا من أصحابه وانهزم الباقون وتفرقوا عن علي بن سلمان، فسار علي إلى طرابلس، وكتب إلى عبيد اله بذلك فكتب عبيد الله إلى علي بن لقمان عامله على قابس بأن يقتل كل من مر به من المنهزمين فقتل منهم جماعة. وامتد عبيد الله بن سلمان بالجيوش، وأخذ في حصار نفوسة بعزم. وفيها، غزا مسعود الفتى بلد الروم في البحر في عشرين

(1/187)


شينيا فافتتح مدينة أغاثي، وسباها وانصرف إلى المهدية وفيها، توفي محمد بن سلام بن سيار البرقي الهمداني وكان متفقها على مذهب الشيعة وتوفي من قريش أحمد بن يحيى بن خالد السهمي، بعد أن جاوز التسعين وكانت له رحلة، وسمع من أبي سنجر مسنده.
وقام حسن بن على الحسني مع البربر فأتى إلى فارس، وبها ريحان الكتاني قائدا عليها من قبل عبيد الله فأخرجه منها واستبد بها ثم غدره حامد بن حمدان وأدخل بن أبي العافية، وكان وكان يتولى لبني أمية، فبقى بها إلى أن أرسل الشيعي قائديه مسرورا وجواهرا. ففر أمامهما. وبقى فيها قائد الشيعي إلى أن أخرجه بنو إدريس ورجع ملكها لهم حتى حاربها عسكر الناصر الأموي صاحب الأندلس وملكها. وفيها، مات أبيو جعفر الطبري.
وفي سنة 311، عزل عبيد الله إسحاق بن أبي المنهال عن قضاء مدينة القيروان يوم السبت لعشر بقين من جمادى الآخرة، وأخرج إليه عبيد الله من قال له: لم نعزلك عن حرجة، وإنما عزلناك للينك ومهانتك! وولى قضاء مدينة القيروان محمد بن عمران النفطي وكان قبل ذلك على قضاء مدينة طرابلس، فجمع بها أموال كثيرة من الرشى والأحباس ورفعها إلى عبيد الله فكانت له وسيلة إليه.
وفيها، أوقع علي بن أبي سلمان بأهل نفوسة، ودخل حصنهم وهدمه وقتل الرجال، وسبى الذرية، وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان. وفيها، ضرب محمد بن العباس الهذلي الفقيه بالدرة في الجامع عريانا، وصفع قفاه حتى جرى الدم من رأسه، وبرح عليه في أسواق القيروان إذ شهد عليه قوم من المشارقة بأنه يطعن على السلطان ويفتي بقول مالك، وفيها، دخل مسرور بن سليمان بن كافي الواحات من صعيد مصر وهما حضنان في قفار ورمال، وكان عليها عامل لصاحب مصر يعرف بالبكربازي، فهزمه

(1/188)


مسرور وأسر ولده وابن أخيه، واستحوذ على الموضع ثم وقع الطاعون في أصحاب مسرور فأخرب الحصن، وقلع أثمارها، وانصرف إلى برقة.
وفي هذه السنة، مات بالقيروان من العدول وأهل السنة والخير محمد بن شيبة بن حسان وكان شيبة من القواد الداخلين أفريقية مع يزيد بن حاتم وفيها، مات بتونس أبو جعفر محمد بن تميم التميمي وكان من قواد زيادة الله فهرب إلى أبا عبد الله الشيعي ودخل معه أفريقية. وفيها، مات أبو الفضل أحمد بن جعفر بن موسى الصمادحي.
وفي سنة 312، خرج مصالة من تبهرت إلى زناتة فأداخ بلدهم وقتل وسبى وأخرج خيلا إلى بعض ؤنواحي ابن خرز وكان فيها أكثر حماته ووجوه رجاله، وبقى مصالة في نفر من أصحابه. فبلغ ذلك ابن خرز فقصد نحو مصالة، ودارت بين الفريقين حرب عظيمة، قتل فيها مصالة وانهزم أصحابه وذلك يوم الجمعة لعشر بقين من شعبان. وفيها، خرج أبو جعفر ابن عبيد الحاجب في أسطول كبير إلى صقلية يريد غزو الروم فشتى بصقلبة تلك السنة، ولم يلق العدو، وفي هذه السنة، مات بالقيروان القاضي محمد بن عمران النفطي في شهر ربيع الأول، وكان يرتشي على الأحكام، ويستهتر في ضروب من المنكر. فولى عبيد الله القضاء مكانه إسحاق بن أبي المنهال مرة ثانية وكتب في عهده: وإنما كنا عزلناك للينك ومهانتك! ورددناك لدينك وأمانتك! وفيها، مات محمد بن حفص الفهم، وكان من أهل الفضل والدين، وأم بالناس الإشفاع بجامع القيروان في أيام بني الأغلب قم ولى صلاة جامع رقادة وكان يرتوق في كل شهر عشرة مثاقيل فأحضره المروذي عند نفسه وقال: لا يوم بنا إلا ولى من أولياء أمير المؤمنين. فأدخل إلى بعض الدعاة يأخذ عليك البيعة، وتبقى على خطتك! وإنما أراد أن يتشرق معهم ويدخل في الكفر مدخلهم. فقال له: أنظرني اليوم أشاور نفسي! فأنظره ثم أتاه

(1/189)


من الغد وقد كره الدخول معهم في شيء مما هم عليه فعزا عن الصلاة. وفيها، قريّ كتاب عبيد الله بالقيروان وأعمالها بدخول مسرور بن سليمان بن كافي الواحات، وملكه لها، وتاريخه يوم الخميس لثمان ليال بقين من محرم.
وفي سنة 313، غزا أبو أحمد جعفر بن عبيد الحاجب بلد الروم من صقلية، فافتتح أماكن كثيرة ومنها مدينة واري، وقتل بها ستة آلاف مقاتل، وأخرج منها عشرة آلاف سبية وأسر بها بطريقا صالحه عن نفسه ومدينته بخمسة آلاف مثقال وانصرف إلى صقلية فوصل إليها لأربع بقين من شهر ربيع الآخر، وكتب إلى عبيد الله الشيعي بالفتح، ثم قدم جعفر بعد ذلك إلى المهدية وأوصل جميع الغنائم إلى عبيد الله الشيعي فذكر بعض رجاله أنه دخل عليه وبين يديه جوهر كثير، وديباج سني، وأموال، فقال له: يا مولاي، ما رأيت كاليوم منظر! فقال له عبيد الله: هذه من الغنائم التي أصيبت بوارى! فقال له الرجل: أن من أدى هذا لأمين! وأراد أن يثني بذلك على جعفر الحاجب فقال له عبيد الله مبادرا: والله! ما أعطاني من الجمل إلا أذنيه! وفيها، ولي أحمد بن بحر بن علي بن صالح، المعروف بابن أخي كرام، مظالم القيروان وجلس للنظر يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأخيرة، وفيها، مات بمدينة سوسة محمد بن يسطام بن رجاء الضبي الفقيه وكانت له رحلة سمع فيها من ابن عبد الحكم وغيره. ومات عبد العزيز بن شيبة وكانت له رحلة أيضا سمع فيها من بندار وأبي موسى الزمن، وأبي حفص القلاس، ولم يتخلف هذا المتوفى وارثا، فورثه عبيد الله وكان له مسجد يجاور داره وفندقه، فأغلق الناظر في المواريث لعبيد الله المسجد، ووصله بالدار والفندق. وفيها ابتدأ عبيد الله الشيعي ببناء مدينة المسيلة وسماها المحمدية على بد علي بن حمدون الجذامي المعروف بابن الأندلسي في وسط أرض بني برزال وبني كهلان على قرب من هوارة. وكانت على واد ولها سوران تنيهما ساقية من هذا الوادي.

(1/190)


وفي سنة 314، عزل عبيد اله الشيعي عن عمالة القيروان نسينا فتاه وضمه إلى المهدية، وحبس عند جوذر الفتى، وقبض على أمواله، وكان نسيم سريع الغضب والضرب بالسوط. وولي عبيد الله عمالة القيروان صابر الفتى مولى بن قرهب. وفيها، زحف ابن خزر إلى تبهرت وحاربها فانهزم عنها وأخرج عبيد الله في أثره موسى بن محمد الكتامي في جماعة من القواد فلما صاروا بطبنة، دخل محمد بن خزر الصحراء، وأبقى أخاه عبد الله مع وجوه رجاله بوادي مطماطة، فدا ت بينه وبين رجال الشيعي حرب عظيمة كان الظفر فيها والغلية لابن خزر. ثم أخرج عبيد الله إلي إسحاق بن خليفة وأصحابه وخالفت على الشيعي لماية، وما جاورها من القبائل واستمدوا بابن خزر فكتبوا إلى عبيد الله مستمدين، فأمدهم بجيش كبير فهزموه. وأرسلت هذه القبائل إلى محمد بن جزر، فولى عليهم أخاه عبد الله. ودارت بينه وبين جيوش الشيعي وقائع كثيرة. وفيها، مات مونس البغدادي المغني مولى موسى بن بغل بالمهدية فجأة.
وفي سنة 315، خرج أبو القسم بن عبيد الله الشيعي من المهدية يريد المغرب، يوم الخميس لتسع ليال خلون من صفر. وكانت طريقه على القيروان، ثم نزل الأريس. فأقام بها أياما حتى اجتمعت إليه العساكر. فسار إلى باغاية، ثم إلى كتامة، ونقدم إلى جبل فيه بنو برزال، وقوم من مكلاتة. فامتنعوا عليه، فحاربهم حتى فتح له عليهم ونوجه إلى مدغرة، ثم إلى سوق إبراهيم. فأقام في تلك الجهة أكثر من شهر لكلب الشتاء وكثرة الوحل. فحكى بعض رجال عبيد الله أنه كان بين يديه، هو وطائفة من خدمه وصحبه، وقد توقفت كتب أبو القاسم عن الورود حتى ساءت الظنون من جهته، فورد كتابه على أبيه بمحضرهم. فلما فتحه وقرأه، بكى، قال: فخفنا أن يكون حدث وأمر وهممنا بالبكاء معه حتى افتتح الكلام، فقال: اللهم أنك تعلم أنني ما أردت إخراجه إلى المغرب إلا رضاك، ونصرة دينك، وإذلال أعدائك! وما

(1/191)


يسهل عليّ أن أفارقه يوما واحدا، قال: ثم التفت إلينا فقال: هذا مولاكم يذكر في كتابه أنه أقام فير مناخ واحد شهرا كاملا، عليه المطر كل يوم بالغدو والآصال، وأنه مشى عقابا كثيرة راجلا، إذ لم يستطع الركوب فيها لوعرها، ويقتات كل يوم ببيضة أو نحوها لكثرة الذباب في العسكر! وفيها، خرج صابر الفتى إلى صقلية لغزو بلد الروم، في أربعة وأربعين مركبا، فأصاب في غزاته هذه وسبى وقتل.
وفيها، قتل برملة المهدية معلى بن محمد الملوسي الداعي، بعثه أبو القاسم من المغرب مقيدا. فأمر عبيد الله بضرب عنقه،.
وفيها، قتل بمصمود الساحل، من أحواز طنجة حاميم المفتري ابن منّ الله. وكان قد تنبأ بالجبل المنسوب إليه، وأجابه بشر كثير من البربر الجهال، وشهدوا له بالرسالة. وقد كان سنّ لهم صوم يزم الخميس، فمن أكل فيه، غرم خمسة أثوار، وصوم الاثنين، فمن أكل فيه غرم ثورين، ونحو هذا من الباطل والحماقات. ومما قيل فيه (طويل) .
قالوا افتراء إن حاميم مرسل ... إليهم بدين واضح الحق باهر
فقلت: كذبتم بدد الله شملكم! ... فما هو إلا عاهر وابن عاهر!
فإن كان حاميم رسولا فإنني ... بمرسل حاميم لأول كافر!
رووا عن عجوز ذات إفك بهيمة ... تجاوز في أسحارها كل ساحر
أحاديث إنك حاك إبليس نسجها ... يسرونها والله مبدي السرائر!
وفي هذه السنة، توفي محمد بن سلمون القطان بأفريقية، وله سماع كثير من رجال سحنون. وتوفي من التجار وأهل العدالة حاتم بن عبد الرحمن بن حاتم، سمع من سحنون ورحل إلى العراق.
وفي سنة 316، زحف أبو القاسم الشيعي إلى قبائل البربر بالمغرب، فنزل

(1/192)


ببرقاجنة على حصنها المعروف بأغزر يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم، فقاتلهم، ونقب السور عليهم حتى سقط، وهلك ممن كان تحته وفوقه عدد كثير. فلما نظروا إلى الغلبة، أحرقوا الأمتعة، وعرقبوا الدواب والمواشي، وقاتلوا الشيعة حتى قتلوا، وأسر منهم من استأسر وانتهب ما في الحصن. وأجابت هوارة ولماية إلى طاعة الشيعة، فأمنهم أبو القاسم، ثم سار إلى جهة تبهرت فأقام بها نحو شهر، وتقدم منها إلى تامغلت، فأقام بها شهرين، مناظرا لين خزر، وهو حينئذ بموصع يقال له أورن ثم نكب أبو القاسم إلى مدينة طبنة، وانصرف إلى المهدية دون أن يلقي ابن حزر. وقيل أن سبب انصرافه، إنما كان لكتاب ورده من قبل ابنه قاسم، يعلمه أن الناس تحدثوا بمبايعة عبيد الله لابنه أحمد المكنى بأبي عليّ وأنه صلى بالناس عيد الفطر وعيد الأضحى. فأقلقه ذلك، وقدم المهدية.
وفيها غزا صابر من صقلية إلى بلد الروم فافتتح موضعا يعرف بالغيران وقلعة الحسب، واحتوى على ما فيهما، وزحف إلى سلير، فصالحه أهلها بمال وديباج. ثم توجه إلى نابل، فصالحوه أيضا بمال وثياب ثم صدر إلى صقلية. وفيها، مات محمد بن أحمد بن أبي زاهر من الفقهاء بالقيروان، وعبد الله المعروف بالعيني وكان من المعبدين. وفيها، ابتدأ غلاء السعر بالقيروان. زفيها كان ابتداء أمر أبي مخلد بن كيداد الزناتي، وهو رجلا أخذ نفسه بمذاهب النكار يحلل دماء المسلمين وفروجهم ويسب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكان أول أمره بتقيوس، يعلم الصبيان، ويعتقد الخروج على السلطان ويحتسب على الناس في كثير من أفعالهم، وعلى جباة الأموال. فغير في هذا العام على عامل تقيوس، وأمر بقتله، فقتله أهل نقيوس ففزع أبو يزيد عند ذلك، وخرج إلى الحج. فلما وصل إلى طرابلس، وصل كتاب عبيد الله في طلب قوم من البربر فهرب هو وصاحبه أبو عمار الأعمى، وكان على

(1/193)


مذهبه وضلاله. فكرا في تقيوس، فورد كتاب عبيد الله في طبنة فيها زال يقر ويستتر إلى أن ظهر أمره بعد ذلك.
وفي سنة 317، كان بالقيروان وأعمالها وباء عظيم وغلاء سعر فبلغ قفيز قمح بالكيل القرطبي مثقال ذهب. وفيها، تغلب محمد بن خزر على الزاب كله وملكه جملة. وفيها، بنى بنو محمد المدينة المعروفة فجر النسر. وفيها سار موسى بن أبي العافية إلى مدينة نكور وصاحبها يومئذ المؤيد بن عبد البديع ابن إدريس بن صالح بن منصور. فحاصره فيها حتى تغلب عليها واستباحها وغنم ما فيها وقتل المؤيد وهدم أسوارها. ثم سار يريد بني محمد بن سليمان ابن عبد الله، وعميدهم يومئذ الحسن بن عيسى المعروف بابن أبي العيش صاحب جرواة، وهي أشرف مدائن ذلك الجانب. فنزل عليها وحاصر ابن أبي العيش فيها حتى أوفى على أخذها. فلما أحس ابن أبي العيش بالغلبة، وخرج في الليل، هاربا بأهله وولده ومن تبعه، ونجا إلى مربي جروة المعروف بأكاس. فدخل منه البحر وعاذ بجزائر ملوية. ثم سار إلى جزيرة أرشقول، وهي منيعة لا ترام، فتحصن فيها بأهله وولده ومواليه. وجال موسى بن أبي العافية بتلك الجهات وأخذ مدينة تربية ومدينة أرشقول. وهرب كل من في ذلك الجانب من آل محمد بن سليمان، وخلص الموضع لموسى بن أبي العافية وأخلى منه قواد بني خزر وعمالهم وصار في ملكه من أحواز تبهرت إلى السوس الأقصى وفبها، غزا صابر الفتى غزوته الثالثة والتقى في البحر بالسردغوس، وهم في سبعة مراكب، وصابر في أربعة مراكب فانهزم السردغوس. وفتح صابر مدينة نرمولة، وسبى فيها سبيا كثيرا، ثم انصرف إلى المهدية. وفيها مات بالقيروان من الفقهاء أحمد بن نصير بن زياد، سمع من محمد بن سحنون ومن ابن عبدوس

(1/194)


ومن يوسف بن يحيى المغامي وكان عالما بالمناظرة مليئا بالشاهد، صحيح المذهب، سليم القلب. قال محمد بن حار: حضرته يوما، وعنده جماعة من المحاظرين في المسألة، حنى دخل عليه محمد بن عبد الله بن مسرة القلاطبي في حين توجهه إلى الحج فسلم، وجلس جانبا وهو يجيل بصره في وجوه المتكلمين. قال: فلم أشك أنه من أهل العلم، ولم أكن عرفته باسمه. فلما أظهر الشيخ أحمد بن نصر القيام، قال له: (يا شاب جلست منذ يوم. فهل من حاجة تذكرها؟) فجاوبه محمد بن مسرة بكلام حسن بليغ وقال له: (أتيتك مقتبسا من نورك، ومستمدا من علمك) وجاوبه أحمد بن نصر أيضا بجواب حسن. ثم قام وقمنا بأثره. وفيها، مات محمد بن محمد بن خالد القيسي المعروف بالطرزي، وكان ولي المظالم بالقيروان، ولما أراد إبراهيم بن أحمد توليته المظالم، اعتذر إليه بأن فيه حياء ولين جانب وقلة فقه، فقال له إبراهيم: (أما الحياء واللين، فإذا أمرت ونهيت زالا عنك. وأما قلة الفقه فشاور الفقهاء في أحكامكم) وولاه فلم يكن بالقيروان حاكم أشد صرامة منه.
وفي سنة 318 خرج حميد بن يصل من المهدية إلى تبهرت بغير أذن عبيد الله، وبنى قلعة هنالك، ورد حماد بن هاشم إلى بلده، وصاهره وأصلح بينه وبين سيار بن عبد الوهاب. فكتب عبيد الله إلى يصل بن حبوس أن يوجه حميد إلى المهدية، ولا يؤخره ساعة. فرجع حميد إليها، ولم يلق من عبد الله سوءاً. وفيها، نزلت الأمطار بالقيروان وصلحت الأحوال، ورخصت الأسعار بعد ضيق شديد كان فيه الناس، وغلاء، ووباء. وفيها مات بالمهدية هشام بن الربيع التميمي وكان من أهل الخير والفضل وناله من عبيد الله الشيعي عقاب، وضربه بسبب ابن القديم. وأوصى ألا يدفن في المهدية فسيق إلى القيروان ودفن بها.

(1/195)


ذكر مدينة جراوة
كانت مدينة جراوة عليها سور مبنى بالطوب. وبخارجها عيون مالحة وداخلها آبار كثير طيبة عذبة، وحولها أرباض من جميع جهاتها، وفيها قصبة مانعة وفيها خمس حمامات، وجامع، له خمس بلاطات أسسها أبو العيش عيسى بن إدريس سنة 257، ووليها بعد ابنه الحسن بن أبي العيش في سنة 291، وخرج منها إلى حصن المنصور في سنة 319، ثم عاد إليها في سنة 323، ثم انتقل إلى تلمسان في سنة 325. وكان لها أربعة أبواب وحولها فحوص للزرع والضرع وحولها قرى مدغرة على البحر. وعلى الجبل بنو يزناتن، ومن جهة الشرق بنو يفرن من زناتة ومن جهة الغرب قبائل زواغة وغيرهم.

ذكر مدينة تيهرت
وأما مدينة تيهرت، فأسسها عبد الرحمن بن رستم بن بهرام، وكان مولى لعثمان بن عفان وكان خليفة لأبي الخطاب أيام تغلبه على إفريقية ولما دخل ابن الأشعث القيروان، فر عبد الرحمن إلى الغرب بما خلف من أهله وماله فاجتمعت إليه الأباضية، وعزموا على بنيان مدينة تجمعهم، فنزلوا بموضع تيهرت وهي غيضة بين ثلاثة أنهار فبنوا مسجدا من أربع بلاطات، واختطة الناس مساكنهم، وذلك في سنة 161. وكانت في الزمان الخالي مدينة قديمة فأحدثها الآن عبد الرحمن بن رستم وبقى بها إلى أن مات في سنة 168 وقد تقدم ذكر ذلك.

(1/196)


ذكر من ملك مدينة تيهرت
من حين ابتدائها من بني رستم وغيرهم
أولهم عبد الرحمن بن رستم: كانت مدته بها سبعة أعوام. ثم وليها ابنه عبد الوارث فكانت مدته بها عشرين سنة وتوفي في سنة 188. ثم وليها ابنه أبو سعيد أفلح بن عبد الوارث، ومات سنة 305، ثم وليها أيضا ابنه أبو بكر بن أفلح بن عبد الوارث بن عبد الرحمن بن رستم، فاختلف عليه الأمر وأخرجه أهلها من تبهرت، ثم أعادوه إلى أن مات فيها. ووليها بعده أخوه أبو اليقظان محمد ابن أفلح، فكانت مدته بها سبة وعشرين سنة، ووفاته في سنة 381، ووليها بعده أبو حاتم يوسف بن أبي اليقظان، فأقام فيها عاما واختلف عليه الناس واضطرب أمره، فخرج إلى حصن لواتة، وقامت بينه وبين أهل تبهرت حروب عظيمة. ووليها بتقديم أهلها يعقوب بن أفلح بن عبد الوارث بن عبد الرحمن بن رستم، فأقام واليا أربعة أعوام ثم خلعوه وقدموا أبا حاتم بن أبي اليقظان، فأقام ستة أعوام إلى أن قتله بنو أخيه سنة 294، ثم وليها يقظان ابن أبي اليقظان، فقتله أبو عبد الله الشيعي، في خبر طويل، مع جماعة من أهل بيته، وذلك في شوال سنة 296، وانقطع ملك بني ستم من تبهرت في هذا التاريخ.
ووليها في أيام الشيعة أبو حميد دواس اللهبصي ولاه أبو عبد الله الداعي حين خروجه منها إلى سلجمانة، فأقام فيها ستة أشهر حتى أتته العساكر من أفريقية، فافتتحها في سنة 299، ووليها مصالة بن حبوس المكناسي، إلى أن قتله محمد بن خزر الزناتي في شعبان سنة 312 فكانت ولايته بها ثلاث عشرة سنة ووليها بعده أخوه يصل بن حبوس إلى أن توفي سنة 319، ثم وليها

(1/197)


أبو مالك بن يغمراس بن أبي شحمة اللهبصي، فقام عليه أهل البلد، وأخرجوه سنة 313، ووليها أبو القاسم الأحدب ابن مصالة بن حبوس، فقدموه على أنفسهم، فأقام عليهم سنة واحدة، فلما انصرف ميسور من أرض المغرب إلى أفريقية، حاربهم حتى ظفر بالبلد، وقتل أبا القاسم بن مصالة المذكور، وولي على تبهرت داود بن إبراهيم العحيسي، فأقام واليا عليها إلى أن أخرجه حميد ابن يصل في جمادى الأخرة من سنة 323، في أيام أبي يزيد مخلد بن كيداد البفرني، وخرج حميد بن يصل من تبهرت في سنة 333 في خبر يطول ذكره وجاز إلى الأندلس، واحتل إسماعيل الشيعي مدينة تبهرت، وولي عليها ميسورا الفتى فاضطرب عليه أهل البلاد لأنه سار فيهم بسيرة غير مرضية، فاستدعوا محمد بن خزر الزناتي، وابنه الخير، ومن معهم من زناتة، فقدموا إلى تبهرت في جمع عظيم، وأظهروا أنهم ناصرون لميسور، فخرج إليهم فغدروه وأسروه. ودخل ينو خزر وزناتة مدينة تبهرت، ونزلوا دار الإمارة ثم اضطرب أمر أهل تبهرت وتغلب عليها يعلي بن محمد اليفرني الزناتي، إلى أن قدم جوهر قائد الشيعة، سنة 349، وكانت حوا تبهرت بساتين من أنواع الثمار، كثيرة الأشجار وهي شديدة البرد كثيرة الأمطار، قيا لبعض الظرفاء من أهلها (كم الشتاء عندكم من شهر في السنة!) قال: (ثلاثة عشر شهرا) وقال بعض الشعراء تبهرت من قصيدة أولها (طويل)
فراغ الهوى شغل ومحيا ومحيا الهوى قتل ... ويوم الهوي حول وبعض الهوى كل
وجود الهوى بخل ورسل الهوى عدى ... وقرب الهوى بعد وسبق الهوى مطل
سقى الله تبهرت المنى وسويقة ... بسياحتها غيثا يطرب بها المحل
كأن لم يكن والدار جامعة لنا ... ولم يجتمع وصل لنا ولا شمل

(1/198)


فلما تمادى العيش وانشقت العصي ... تداعت أهاضيب النوى وهي تنهل
سلام على من لم نطق يوما بيننا ... سلاما ولكن فارقت وبها ثكل
وما هي آماق يفيض دموعها ... ولكنها الأرواح تجري وتنسل
ومما قيل حين قضى الله بخرابها وانتقال أهلها عنها وأربابها (طويل)
خليل عوجا بالرسوم وسلما ... على طلل أقوى وأصبح أغبرا
ألما على رسم تبهرت دائر ... عفته الغوادي الرائحات فأقفرا
كأن لم تكن تبهرت دارا لمعشر ... فدمرها المقدار فبمن تدمرا
وتبهرت القديمة هذه هي التي خربها الخَيّرُ بن محمد بن خزر الزناتي، وفيها مات بالقيروان من قريش أبو الحسن المطلبي أحمد بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن علي بن زيد بن ركانة بن عبدود بن هاشم بن عبد المطلب يوم الأربعاء لأربع عشر ليلة خلت من جمادى الأول وكان قد صحب عبيد الله بسجلماسة قبل أن يملك القيروان، فنال بها جاها كبيرا في آخر عمره وفيها، مات محمد بن عثمان الخرساني الفقيه، صاحب الوثائق بالقيروان، وكان يذهب مذهب أهل الكوفة، ولم يكن ممن يقول بخلق القرآن وله سماع بمصر من يونس بن عبد الأعلى وفي سنة 329، اكتب موسى بن أبي العافية (صاحب الأندلس) (أمير المؤمنين) (عبد الرحمن) الناصر من العدوة (الغريبة) ورغب في موالاته والدخول في طاعته، وأن يستميل له أهواء أهل العدوة المجاورين له فتقبله (أمير المؤمنين) أحسن قبول وأمده بالخلع والأموال وقوى أوده على ما كان يحاوله من حرب ابن أبي العيش وغيره فظهر أمر موسى من ذلك الوقت في العدوة وتجمع إليه كثير من قبائل البربر وتغلب على مدينة جراوة وأخرج عنها الحسن ين أبي العيش بن إدريس العلوي ودارت

(1/199)


بينهما محاربات ومواقعات. (وبني الحسن بن أبي العيش حصنا منيعا بجبل بينه وبين جراوة أربعة) أميال وحوله قرى لمدغرة، وبني يفرن وغيرهم من القبائل وكان لأبي العيش أيضا وبنيه مدينة تلمسان وما والاها، يسكنها مثل زواغة ونفزة وغير ذلك، وفي ذلك يقول بكر بن حماد (كامل)
سائل زواغة عن طعان سيوف ... ورماحه في العارض المتهلل
وديار نفرة كيف داس حريمها ... والخيل قمرغ في الوشيج الذلل
غشى مغيلة بالسيوف مذلة ... وسقى جراوة من نقيع الحنظل
ومن جراوة إلى تيهرت ثلاثة مراحل وإلى حصن تامغلت مرحلتان يسكنه بنو دمر من زناتة.

ذكر مدينة تلمسان
ذكر أن تلمسان قاعدة المغرب الأوسط قاله البكري وصحح قوله كثير مكن الإخباريين، ومن كتاب رجار قال: وبين مدينة تلمسان وتبهرت، يسكن بنو مرين وجميع قبائل زناتة، منهم تجين ومغراوة وبنو راشد، وورنيد، وغيرهم، قال: وأكثرهم فرسان يركبون الخيل ولهم معرفة بارعة وحذق وكياسة، لاسيما بعلم الكتف. وهم منسوبون إلى جانا. قال: وزناتة في أصل مذهبهم عرب صراح وإنما تبربروا بالمجاورة والمحالفة للبربر. وذكر أنهم ينتسبون إلى بر بن قيس بن إلياس بن مضر.

ذكر افتتاح مدينة سبتة بالعدوة
وفي سنة 319، هذه المؤرخة، افتتح الناصر لدين الله الأموي مدينة سبتة بالعدوة (على بحر الزقاق من بر العدوة، التي هي نظام باب المغربين ومفتاح باب المشرقين، وهي على ما قبل مجمع البحرين قاعدة البر والبحر

(1/200)


واللؤلؤ الحالة من الدنيا بين السحر والنحر وفي فتحها يقول عبيد الله بن يحيى بن إدريس يخاطب الناصر (طويل)
بسيفك دانت عنوة وأقرت ... بصائر كانت برهة قد تولت
وما قربت أهواؤها إذ تقربت ... ولا حليت بالزي لما تحلت
ولكن أزالت راسيات عقودها ... عزائم لو ترمي بها العصم زلت
ودولة منصور اللواء مؤيد ... تدل بحد الله من شر دولة
فهذا أوان النصر منها وهذه ... بشائره تروي الأنام ببستة
فشكها أمير المؤمنين (الناصر) بالرجال، وأتقنها بالبيان وبرني سورها بالكدان وألزم فيها من رضيه من قواد وأجناد وصارت مفتاحا إلى العدوة قال عريب: وبابا إليها، وثقافا على المراسي في ذلك الجانب وقامت الخطبة فيها باسم أمير المؤمنين الناصر وذلك يوم الجمعة لثلاث خلون من ربيع الأول من العام المؤرخ. وفيها، ورد الخبر على عبيد الله بالمهدية بدخول موسى بن أبي العافية وأهل سبتة في طاعة أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد الناصر، وأن مركبا نزل زم الأندلس بمرسى جراوة لموسى بن أبي العافية، فهبط إليه الحسن بن أبي العيش واخذ ما كان فيه. فكاتبه قاضيه ووجوه أهل موضعه وكلموه في ذلك فلم يصرف إليه متاعه، فزحف موسى إلى صاء، فأخرج منها عامر بن أبي العيش وأمن أهلها، ثم زحف إلى زواغة، فخرج إليه ابن أبي العيش فلما رأى كثرة من معه انصرف عنه من غير قتال، وأحرق ابن أبي العافية بسيط جراوة وتجول في البد أياما، ودارت بين أبي العيش وبين ابن أبي العافية مراسلات. ورغب ابن أبي العيش في مصالحته وصرف ما كان أخذ له،

(1/201)


واصطلحا. ورجع موسى إلى بلده، ثم زحف ابن أبي العافية إلى أزقور، فاستمد أهل قلوع جارة عليه بابن أبي العيش، فأمدهم بخيل وأغاروا على بعض نواحي ابن أبي العافية، وأخذوا له جمالا كثيرة، وقاسموا الغنيمة ابن أبي العيش. فعادت الحرب بين ابن أبي العافية وبين ابن أبي العيش وكاتب أهل جراوة ابن أبي العافية وضمنوا له دخول المدينة وزحف إليها بمن معه، وأدخله أهلها طائفين. ثم قصد إلى المنصور فدعاهم إلى الأمان فأجابه بعضهم، تغلي على سائرهم وقتل بها جماعة، وقيل أنه أخذ زوجة ابن أبي العيش القرشية، وأولاده وخيله وسلاحه وأحرق المدينة بالنار، وانصرف إلى محلته وبعث زوجة ابن أبي العيش إلى أهلها مع ثقات من أهل حراوة فعظم على الشيعي ما ورد من هذا الأمر، وأقلقه وكتب إلى القبائل في المغرب يحضهم على طاعته ويمنيهم إمداده ونصره، ومدينة سبتة مدينة أزلية على ضفة البحر الرومي وهو بحر الزقاق الداخل في البحر المحيط، وهي في طرف من الأرض والبحر محيط بها من كل ناحية إلا موضعا ضيقا جدا، لو شاء أهلها ان يصلوه بالبحر الأخر لفعلوا فتصير من جزر البحر. ويجلب الماء إلى حماماتها من البحر. وأهلها هرب وبربرولم تزل دار علم. وشرقيها جبل منيف داخل في البحر والبحر محيط به ويلقط في بعض نواحي هذا الجبل ياقوت صغير الجرم، عريق في الجودة، وبحرها يستخرج منها المرجان وهو السبذ. واختلف في تسميتها بستة فقال قوم: سميت بذلك لانقطاعها في البحر تقول العرب: (ست النعل) إذا قطعته. وقال آخرون أن رجلا من ولد سام بن نوح - عم - اسمه سبت خرج من المشرق لأسباب عرضت له فتوغل في المغرب حتى أتى موضعها فاختط فبها موضعا يعمره. ويذكر أشياخنا الحديث المسند عن وهب بن

(1/202)


مسرة الحجري وذلك أن أبا عبد الله محمد بن علي حدثه عام 400 عن وهب بن مسرة عن بن وضاح عن سحنون عن إبراهيم ابن القاسم عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أن بأقصى المغرب مدينة تسمى سبتة أسسها رجل صالح اسمه سبت من ولد سام بن نوح، واشتق لها اسما من اسمه ودعا لها بالبركة والنصر فما رماها أحد بسوء إلا رد الله بأسه عليه. قال بن حمادة: قال شيخنا العالم أبو الفضل عياض بن موسى وهذا الحديث تشهد بصحته التجربة، فأنها مازالت محمية عند من وليها من الملوك وقل وما أحدث أحد منهم فيها حدث سوء إلا هلك.
قال تاعذري: كان ملك من ملوك القوط بالأندلس يسمى تودوش فجاز البحر إلى سبتة لمحاربة البربر فحاصرهم فيها ثم تألفوا عليه فأمكنته منهم غزة فقتلهم، ولم ينجح منهم ألا القليل. ورجع تودش إلى الأندلس. وبقى البربر فيها إلى أن دخل الروم ثانية، وكان فيها يليان. وكان عقبة بن نافع لما غزا الغرب ودوخه كله وصل إلى سبتة فخرج إليه يليان بهدايا وتحف وأستلطفه وكان ذا عقل وتجربة فأمنه عقبة وأقره على موضعه ثم دخل العرب بعد ذلك بالصلح ثم قام البربر إلى طنجة وزحفوا إليها فأخرجوا من كان فيها وخربوها، وبقيت مسكنا للوحوش مدة طويلة. ثم دخلها رجل من غمارة يسمى ماجكس فعمرها وأسلم ورأس فيها وانضافت له البربر إلى أن هلك ثم وليها بعده أبنه عصام بن ماجكس ثم أبنه مجبر بن عصام ثم وليها الرضى بن عصام وكان يحكم فيها برأي فقهاء الأندلس ثم دخلها قوم من قلشانة فاشتروا فيها أرضا من البربر وبنوا فيها دورا وما تثلم من سورها الذي هو اليوم الستارة وكانوا مع ذلك يدعون الطاعة لبني إدريس

(1/203)


حتى أفتتحها عبد الرحمن الناصر ودخلها قائده فرج بن غفير يوم الجمعة ليلة خلت من شعبان من سنة 319.
ذكرى من ولى سبتة لبني أمية: فوليها من قبل الناصر بن غفير سنة 319 المذكورة. ثم وليها أحمد بن عبد الصمد الغرناطى: ثم وليها محمد بن حزب الله سنة 323 ثم عزل. ووليها محمد بن مسلمة في سنة 236 ثم عزل. ووليها ابن مسلمة أيضا إلى سنة 330 ووليها ابن مقاتل إلى أن أسر في شوال 332 أسره عندهم بنو محمد الأدارسة إلى أن لحقهم قاضيها محمد ابن أبي العباس في رمضان سنة 333، فجنحوا بنو محمد إلى السلم على يد القاضي فأطلقوا ابن مقاتل، وبعثوا رهائنهم إلى أمير المؤمنين الناصر بقرطبة. ولم يزل ولاة الناصر يتداولونها إلى سنة 346.
وفيها مات أحمد بن أحمد بن زياد الفارسي صاحب الوثائق بالقيروان، وكان له سماع ونظر، وتولى كتابة السجلات والأحكام لعيسى بن مسكين، وله كتب في الوثائق والشروط في مواقيت الصلاة. وفيها مات في مدينة نيهرت يصل بن حبوس صاحبها فقدم أهلها على أنفسهم علي بن مصالة وتكبوا إلى عبيد الله بالخير، فولى عليهم حميد بن يصل وأخرجه إليها في جيش كثيف وفصل إليها في ذي الحجة.
وفيها ولد أبو تميم معد بن إسماعيل الشيعي يوم الاثنين لتسع خلون من شهر رمضان بقصر المهدية.
وفي سنة 320 أوقع حميد بن يصل بداود بن مصالة، وسنان وأبي حمليل بن برنو وقتل جماعة من أصحابهم وحصرهم في حصن أبي حمليل ثلاثة أشهر. وقرى بذلك كتاب عبيد الله الشيعي على المنابر تأريخه يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الأخيرة. وفيها سار موسى بن أبي العافية إلى محمد بن خزر (أمير زناتة) وطوى نحوه المراحل فألقاه على حين غفلة فقاتله وهزمه وقل أصحابه ثم أنصرف إلى جراوة. وكان سبب

(1/204)


ذلك بن خزر كتب إلى موسى بن أبي العافية في أمر ابن أبي العيش بما أحفضه، وأظهر أنه مؤيد له عليه. فأنف لذلك موسى وخرج إليه وواقعه وفيها عزل عبيد الله بن سلمان صاحب الوثائق، وكان في عناية أبي جعفر البغدادي وزن بابنه فرع بذلك عليه خليل الشيعي وقال له: (يا مولاي إنما يعمل البغدادي 6في شتر هذه الدولة الزاهرة وإدخال العيب فيها! وقد ولى على قضاء إطرابلس والوثائق رجلا مستهترا بالمرد!) ورفع إليه قول ابن عامر الفزاري في مرد إفريقية أيام بني الأغلب وفيها ذكر أبو سلمان هذا بقبيح من القول. وأول الأرجوزة:
وروضة تكسو يم الأرض
وشيئا بديعا من نبات غض
منها على الأرواح قاضٍ يقضي
بياض بعض واحمرار بعض
وفيها:
بار ابن سلمان على الغزلان
شبيه بدر فوق غصن بان
ما إن له في حسنه من ثان
كأنما صبغ من العقيان
فلذلك عزله، وولى قضاء مدينة إطرابلس أحمد بن بحر وكان صاحب مظالم القيروان وصلاتها باختبار إسحاق بن أبي المنهل. وفيها أظهر موسى ابن أبي العافية الدعوة لأمير المؤمنين الناصر وقام بها وذلك في شعبان بعد أن تغلب على نكور ودخلها بالسيف وقتل صاحبها المؤيد بن عبد البديع بن صالح بن سعيد بن إدريس وبعد أن حصر بني محمد في الجبل المعروف بحجر النسر حتى صالحوه على شيء أخذه منهم وزال منهم.

(1/205)


وفيها مات في تونس أبو حبيب نصر الرومي وله سماع من ابن عبد الله الحكم من أهل الحفظ للمسائل.
وفي سنة 321 سجلماسة أبو المنصور بن معتز بن محمد وهو ابن ثلاثة عشر سنة فمكث في ولايته شهرين وقام عليه ابن عمه محمد ابن الفتح المسمى بالأمين فحاربه وتغلب وتغلب عليه وأخرجه من سجلماسة وتملكها وكان سنيا يظهر العدل إلا أنه تسمى بأمير المؤمنين وتلقب بالشاكر لله وضرب بذلك الدنانير والدراهم وذلك 342 فمكث كذلك إلى أن قربت منه عساكر أبي تميم معد العبيدي.

ذكر من ولي سجلماسة من حين فتحها الشيعي
ولى الشيعي المزاني المتقدم ذكره في سنة 298 فقتله أهل سجلماسة بعد إقامته خمسين يوما ووليها أبو الفتح بن الأمين سنتين وأشهرا. ثم ووليها أحمد بن الأمين سنة 300 وبقي بها إلى أن حاصره مصالة بن حبوس وافتتحها عنوة وقتله في محرم سنة 309 وولي مصالة على سجلماسة المعتز ابن محمد من بني مدرار وبقي بها إلى سنة 321 المورخة وتوفي. فوليها أبو المنصور المذكور.
وفي سنة 322 توفي عبيد الله المهدي ليلة الثلاثاء من ربيع الأول فكانت مدته أربعا وعشرين سنة وعشرة أشهر ونصفا. وكان وصوله إلى مصر في زي التجار سنة 289. وظهر بسجلماسة في ذي الحجة سنة 296 وسلم عليه بالأمانة. وأنفصل إلى رقادة في ربيع الآخر من سنة 297. وبنى المهدية وأستقر بها سنة 308. ولما أنتقل إلى المهدية دخل رقادة الوهن وأنتقل عنها ساكنوها، فلم تزل تخرب شيئا بعد شيء إلى أن ولى معد بن إسماعيل فخرب ما بقى منها.

(1/206)


ذكر رقادة: وكانت رقادة دار ملك بني الأغلب ويذكرون أن من دخلها لم يزل ضاحكا من غير سبب وأن أحد ملوك بني الأغلب شرد عنه النوم فلما وصل إليها نام فسميت رقادة، فاستوطنها إبراهيم بن أحمد وانتقل إليها من القصر القديم، فبنى بها قصورا عجيبة وجامعا وحمامات وغير ذلك.
وكان تأسيسها سنة 263 وتأسيس القصر القديم سنة 184. وكان ابن الأغلب منبع بيع الشراب بالقيروان وأباحه برقادة فقال بعضهم في ذلك منسرح:
يا سيد الناس وأبن سيدهم ... ومن إليه الرقاب منقاد
ما حرم الخمر في مدينتنا ... وهو حلال بأرض رقادة
ذكر المهدية بالقيروان: وأما المهدية فهي منسوبة إلى المهدي عبيد الله الشيعي. فأنه لما تغلب على الملك تلقب بالمهدي وسمى مدينته التي بناها بقلبه وبينها وبين القيروان سنون ميلا وقويت في أيام وأيام أبنه أبي القاسم وحفيده إسماعيل وصدرا من دولة معد بن إسماعيل حتى أنتقل منها معد إلى القاهرة، لما ملك مصر وبنى القاهرة المعزية نسبة إلى لقبه المعز فضعف إذ ذاك المهدية إلى أن أستوطنها المعز بن باديس آخر أيامه لما خرجت القيروان بهزيمة المعز المذكور، إلى أن توفي بها، ووليها بعده ابن تميم بن المعز، وصارت دار ملكه، وولده يحيى بن تميم بعده ووله علي بن يحيى بعده إلى أن أخرجهم منها عبد المؤمن بن علي بعد المحاصرة. وبقيت للإسلام إلى الآن. وبها دار صنعه الإنشاء المجيبة: يخرج الجفن مغمورا من خلف السور فلا يعلم به حتى يفاجأ العدو القاصد فيحيط به فلا يقربها العدو لآجل.

(1/207)


وأما القيروان، فكانت أعظم مدن المغرب طرأ وأكثرها بشرا، وأيسرها أموالا وأوسعها أحوالا. وكان الغالب على أهلها التمسك بالخير والتخلي عن الشبهات واجتناب المحارم إلى أن تولى الدمار عليها بدخول العرب عليها على ما يأتي ذكره في موضعه، فلم يبقى بها إلا أطلال دراسة، وآثار طامسة. ويذكر أنها ستعود إلى ما كانت عليه. وهي الآن في وقتنا الحاضر وهو آخر المائة السابعة قد ابتدأت بالعمارة.
وملك عبيد الله الشيعي إفريقية، وجمع المغرب، وإطرابلس وبرقة وجزيرة صقلية وكانت عماله على ذلك كله وسير ولده ولي عهده إلى مصر ففتحها وكانت الكتب تنفذ في أيامه باسم ولده. وكان له ستة أولاد: أكبرهم ولي عهده أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الشيعي المتلقب بالمهدي وعمره أعني عبيد الله الشيعي يوم مات ثلاثة وستون سنة.

ذكر ولاية أبي القاسم بن عبيد الله بإفريقية
بويع له يوم مات أبيه منتصف ربيع الأول من سنة 322 المؤرخة وتلقب بالقائم بأمر الله. وتوفي يوم الأحد الثالث عسر من شوال سنة334. فكانت دولته اثنتي عشرة سنة وسبعة أشهر وعمره خمس وخمسون سنة. أولاده الذكور سبعة حاجبه: جعفر بن علي. ومن قضاته ابن أبي النهل. ولم يركب أبو القاسم طول إمارته بمظلة فقام بسيرة أبيه وأظهر من الحزن عليه ما لا يعهد لمثله وواصل الحزن لفقده وأدامه من بعده فما ركب دابة من باب قصره منذ مات أبوه إلى أن قبض سوى مرتين. وافتتحت في أيامه مدائن كثيرة من

(1/208)


مدائن الروم بصقلية وثار عليه عدة ثوار فأمكنه الله منهم وممن ثار عليه ابن طالوت القرشي فسار إلى ناحية أطرابلس ليأخذها هو في عدد كثير فقاتلوه وقتلوا جماعة من أصحابه وزعم أنه ابن المهدي فقام معه البربر واتبعوه. فلما تبين لهم أمره قتلوه وأتوا برأسه إلى القائم بأمر الله. وكان أول ما بدأ به أبو القاسم الشيعي أن أمر عمالة في سائر البلدان بعمل السلاح وجمع الآلات الحربية وأخرج الفتى ميسورا بعدد عظيم إلى الغرب فانتهى إلى فاس وهز ابن أبي العافية، وأخذ أبنه أسيرا. وأخرج يعقوب بن إسحاق في الأسطول إلى بلد الروم فافتتح جنوة وأقر أبا جعفر البغدادي على البريد والكتابة، وفوض إليه كثيرا من أمور المملكة.
وفي سنة 323 بعث القائم بأمر الله عسكرا إلى برقة قود عليه زيدان، وبعث معه عامرا المجنون، وأبا زرارة وجماعة من عساكر برقة الذين بها من كتامة إلى مصر فدخلوا إلى الإسكندرية فأخرج إليه محمد بن الإخديش جيشا فيه خمسة عشر ألفا فأسر منهم خلقا كثير.
وفي هذه السنة مات الفضل بن علي بن ظفر وكان أديب دهره ظريفا عصره، علما وفقها وأدبا ووفاء.
وفي هذه السنة وصل ميسور الصقلبي إلى مدينة فاس، فخرج ألبه صاحبها أحند بن أبي بكر بن أبي سهل الجذامي فغدره وقبض عليه وبعث به إلى المهدية فقدم أهل فاس على أنفسهم حسن بن القاسم اللواتي وحارب أهل فاس ميسورا سبعة أشهر فلم يقدر عليهم ثم حاصر ابن أبي العافية واستعان ببني إدريس عليه واعتنى بهم ووفى لهم حقهم فانجلى ابن أبي العافية أمامهم

(1/209)


إلى الصحراء وصار كل ما كان لبني العافية لبني إدريس. وكانت الرياسة فيهم لبني محمد بن القاسم، وهم حسن، وقنون، وإبراهيم المعروف بالرهوني. وقنون اسمه القاسم، وكان يلزم مدينة صخرة النسر.