البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب
خلافة الحكم بن هشام
بن عبد الرحمن
كنيته! أبو العاصي. أمه: زخرف. مولده: سنة 154. بويع بعد موت أبيه
بليلة، يوم الخميس لثمان خلون من صفر سنة 180، وهو ابن ست وعشرين سنة؛
فكانت خلافته ستا وعشرين سنة، وأحد عشر شهرا. كتابه: ثلاثة: فظبس،
وخطاب بن زيد، وحجاج العقيلي؛ حاجبه: عبد الكريم بن عبد الواحد بن
مغيث؛ وزراؤه وقواده: خمسة: إسحاق بن المنذر، والعباس بن عبد الله،
وعبد الكريم بن عبد الواحد المذكور، وفطبس بن سليمان، وسعيد بن حسان.
قضاته: مصعب بن عمران، ومحمد بن بشير، والفرج بن كنانة، وبشر بن قطن،
وعبيد الله بن موسى، ومحمد بن تليد، وحامد بن محمد بن يحيى. نقش خاتمه:
(بالله يثق الحكم وبه يعتصم! صفته: آدم، شديد الأدمة، طويل، أشم، نحيف،
لم يخضب. بنوه الذكور: تسعة عشر، والبنات: إحدى وعشرون. توفي لأربع
بقين لذي الحجة سنة 206؛ فكان عمره اثنان وخمسون سنة.
(2/68)
ولما بلغ موت هشام الرضى إلى سليمان وعبد
الله ابني عبد الرحمن بن معاوية، وهما بالعدوة، تقدم عبد الله؛ فجاز
البحر إلى ريف الأندلس.
ولما بويع الحكم بالخلافة، واستوسق له الأمر، وجه عبد الكريم بن عبد
الواحد غازيا إلى دار الحرب، في جيش عظيم؛ فاحتل عبد الكريم بالثغر؛
وتوافت عليه الجيوش. ثم تقدم، فاحتل على شاطئ البحر، وقسم الجيش على
ثلاثة أقسام، وقدم على كل قسم رئيسا، وأمر كل واحد منهم بأن يغير على
الناحية التي قصدها ووجه إليها؛ فمضوا، وأغاروا، واستباحوا، وانصرفوا
غانمين ظافرين. ثم عادوا ثانية إلى الإغارة، وجاوزوا خلجا كانت تمد
وتحصر؛ وكان أهل تلك النواحي قد تحرزوا بها، ونقلوا إليها العيال
والماشية والأموال؛ فأغاروا عليها، واحتووا على جميع ما وجدوا فيها،
وانصرفوا سالمين غانمين.
وفي سنة 181، ثار على الأمير الحكم بهلول بن مرزوق المعروف بأبي الحجاج
في ناحية الثغر، ودخل سرقسطة، وملكها. وحل به عبد الله بن الأمير عبد
الرحمن بن معاوية؛ وكانت وجهته إلى إفرنجة.
وفيها، ثار عبيدة بن حميد بطليطلة؛ فنصب الحكم عمروس بن يوسف لحربه من
طلبيرة؛ فكان يتردد لحربهم؛ ثم إن عمروس كاتب رجالا من أهل طليطلة،
واستلطفهم حتى مالوا إليه؛ فدعاهم إلى القيام على عبيدة، والفتك به؛
ووعدهم على ذلك بمثوبة جليلة من الأمير؛ فبدروا إليه، وقتلوه، وتوجهوا
برأسه إلى عمروس؛ فأنزلهم عند نفسه بطلبيرة. فلما علم بهم بعض بربر
طلبيرة، وكانت بينهم دماء، دخلوا عليهم تلك الليلة الدار؛ فقتلوهم.
فبعث عمروس برأس عبيدة وبرؤوس المذكورين، وهم بنو مخشي إلى الحكم
بقرطبة، وكتب إليه يخبرهم. ثم إن عمروس أعمل جهده في استجلاب أهل
طليطلة بمكاتبتهم، حتى أدخلوه المدينة. فلما تمكن منها، بنى القصر على
باب جسرها؛ فأحكمه، وأتقن أمره؛ ثم سعى في قتل رجال طليطلة، وقطع شرهم،
وحسم دائهم، توطيدا للمملكة. فأعد للكيد
(2/69)
صنيعا، أظهر أنه يذبح فيه البقر، وأمر أن
يكون دخول الناس على باب، وخروجهم على باب. فكان كل من دخل وتجاوز
الباب قتل، حتى أفنى من أشرافهم سبعمائة.
وفي سنة 182، كان السيل العظيم بقرطبة، ذهب بربض القنطرة؛ ولم يبق فيه
دارا إلا هدمها، حاشى غرفة عون العطار. وبلغ السيل شقندة.
وفيها، دخل سليمان بن عبد الرحمن بن معاوية الأندلس من العدوة، وتقدم
متعرضا لحرب الحكم، في شوال منها؛ فانهزم سليمان، بعدما دارت بينهما
حرب شديدة. وفيها، عاد سليمان ثانيا للقتال؛ والتقى مع الحكم أيضا
ببنجبطة؛ فانهزم سليمان.
وفي سنة 183، خرج سليمان، ومعه برابر اجتمعوا إليه، إلى ناحية إستجة؛
فغزاه الحكم، والتقيا بمقربة من إستجة؛ فدارت بينهم حروب شديدة أياما.
ثم انهزم سليمان بمن كان معه. ثم التقيا أيضا في هذا العام؛ فانهزم
سليمان.
وفي سنة 184، حشد أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن من الشرق، فاحتل
بجيان، ثم بإلبيرة. فاتبعه جماعة من الكورتين، والتقى معه الحكم؛ فدام
القتال بينهم أياما، حتى هم الحكم بالهزيمة. ثم انهزم سليمان، وأفلت.
وقتل في المعترك بشر كثير. وبعث الحكم أصبغ بن عبد الله في طلبه؛ فلحقه
بجهة ماردة، وأخذه أسيرا، وأتى به إلى الحكم؛ فأمر بقتله، وبعث برأسه
إلى قرطبة.
وفي سنة 186، أخرج الحكم إلى عمه عبد الله البلنسي أمانا؛ وهو أول خروج
كان إليه، وأول مكاتبة كانت بين الحكم وبينه بعد حلوله ببلنسية.
وفي سنة 187، انعقد أمان عبد الله البلنسي وصلحه بإجزاء الأرزاق عليه،
وذلك ألف دينار لكل شهر، وبإجراء المعارف، وذلك ألف دينار لكل عام.
(2/70)
وخرج إليه بهذا الأمان يحيى بن يحيى وابن
أبي عامر؛ فعقد الصلح على ذلك وعلى أن يسكن عبد الله بلنسية. وقدم يحيى
وابن أبي عامر بولد عبد الله على الحكم؛ فزوجه أخته شقيقته.
مقتل أهل الربض أولا قبل هيجه ثانية
وفي سنة 189، صلب الإمام الحكم اثنين وسبعين رجلا بقرطبة، منهم أبو كعب
بن عبد البر، ويحيى بن مضر، ومسرور الخادم. وكان السبب في ذلك أنهم
أرادوا الغدر به، وهموا بالخلاف عليه؛ وطلبوا رئيسا يقومون به. فوقع
الخبر علي محمد بن القاسم عم هشام بن حمزة، وأطلعوا على أمرهم، ودعوه
للقيام معهم؛ فخذلهم، وأفشى سرهم، وتقرب إلى الحكم بدمائهم. فتثبت
الحكم، وسأله تصحيح ما رفع إليه؛ فقال له: (هات أمناءك!) فأخفاهم عنده،
ووجه عنهم لميعاده؛ ثم قال لهم: (هذا الذي تدعونني إليه لا أثق بمن
سميتم، دون أن أسمع منهم كما سمعت منكم؛ فتطيب نفسي، وأدخل في الأمر
على قوة وبصيرة!) فأتوه، وسمه مقالتهم، والأمناء بحيث يرون ويسمعون.
فلما صح عند الحكم أمرهم بشهادة الأمناء عليهم، أخذهم وصلبهم جميعا
بمردة واحدة. ثم أتقن سور قرطبة وحفر خندقها، وتوجه غازيا إلى بلاد
المشركين.
ومن قوله (طويل) :
رأيتُ صُدُوعَ الأرضِ بالسيفِ رافِعاً ... وقِدماً لأمتُ الشعثَ مُذْ
كُنتُ يافعاَ
فَسَائلْ ثغوري هل بها الآن ثُغْرةٌ ... أبادرها مستنْضِيَ السيف
دارعاَ
وشَافِه على الأرض الفضاء جماجِماً ... كأقحاف شريان الهبيدِ لَوامِعاَ
تُنَبِئك أني لم أكُن عن قراعِهم ... بِوانِ وأنِي كنتُ بالسيف قارِعَا
فإني إذا حادوا جِزاعا عن الرَّدَى ... فلم أكُ ذا حيدٍ عن الموت
جازِعَا
حَمَيتُ ذماري وانتهكتُ ذِمارَهم ... ومَنْ لا يحامي ظلَّ خَزيان
ضَارِعَا
(2/71)
ولما تساقينا سِجالُ حُروبِنَا ...
سقَيْتُهُمُ سَمَّا من الموت نافِعَا
وهل زِدتُ أن وقَّيتُهُمْ صاعَ قرضِهم ... فوافوا مَنَاياَ قُدّرَت
ومَصَارِعَا
فَهَاكَ بِلادي إنّني قد تركتُها ... مِهَاداً ولم أتْرُكْ عليها
مُنَازِعَا
وفي سنة 190، خرج الأمير الحكم غازيا إلى ماردة. فلما وصلها، احتلها
وحاصرها (وكان بها أضبغ بن عبد الله بن وانسوس ثائرا) وإذا بالخبر وصله
أن سواد أهل قرطبة أعلنوا بالنفاق، وتداعوا إلى صاحب السوق بالسلاح؛
وكتب المخلفون إلى الحكم بما حدث بعده وبما ظهر من ضمائر السفلة؛ فصدر
قافلا، وطوى المراحل، وقطع الطريق في ثلاثة أيام، ودخل القصر. فهدأ
الناس، وسكنت الأحوال، وصار الناس في هدوء وسكون من سنة 190 إلى سنة
202، والتزموا الدعة اثني عشر سنة.
وترددت الغزوات سبعة أعوام إلى ماردة، وبها أصبغ بن عبد الله ثائرا
متمنعا. وكان سبب ثورته أن عدوا لأصبغ طالبه عند الحكم وأغراه عليه. ثم
مشى إلى أصبغ بمثل ذلك، وروعه منه؛ فتوقع العقوبة والسطوة به. فكان ذلك
سبب دخوله ماردة وقيامه بها. وتكررت الغارات عليه سبعة أعوام؛ فافتتحت
في العام السابع بمحاولة انجلت عن طلب الأمان لأصبغ فأمن، وخرج من
ماردة، وصار في مصف الحكم؛ فسكن قرطبة؛ ثم فسح له في الاختلاف إلى
ضياعه بماردة حتى التاث أمرها، واضطربت حالها.
وفي سنة 192، خرج رذريق صاحب إفرنجة إلى جهة طرطوشة؛ فأغزى الحكم ابنه
عبد الرحمن في جيش كثيف، وكتب إلى عمروس وعبدون عاملي الثغر بالغزو معه
بجميع أهل الثغر. فتقدم عبد الرحمن بالجنود، وتوافت عليه الحشود، وحفت
به المطوعة. فألفوا الطاغية خارجا إلى بلاد المسلمين. ودارت
(2/72)
بينهم حروب شديدة، ثبت الله فيها أقدام
المسلمين. فانهزم المشركون؛ وكانت فيهم مقتلة عظيمة؛ ففنى أكثرهم.
وفي سنة 194، غزا الحكم إلى أرض الشرك. وكان السبب في هذه الغزاة أن
عباس بن ناصح الشاعر كان بمدينة الفرج (وهي وادي الحجارة) . وكان
العدو، بسبب اشتغال الحكم بماردة وتوجيه الصوائف إليها مدة من سبعة
أعوام، قد عظمت شوكته، وقى أمره. فشن الغارات في أطراف الثغور، يسبي
ويقتل. وسمع عباس بن ناصح امرأة في ناحية وادي الحجارة، وهي تقول:
(واغوثاه يا حكم! قد ضيعتنا وأسلمتنا واشتغلت عنا، حتى استأسد العدو
علينا!) فلما وفد عباس على الحكم، رفع إليه شعرا يستصرخه فيه، ويذكر
قول المرأة واستصراخها به؛ وأنهى إليه عباس ما هو عليه الثغر من الوهن
والتياث الحال. فرثى الحكم للمسلمين، وحمى لنصر الدين، وأمر بالاستعداد
للجهاد، وخرج غازيا إلى أرض الشرك؛ فأوغل في بلادهم، وافتتح الحصون،
وهدم المنازل، وقتل كثيرا، وأسر كذلك، وقفل على الناحية التي كانت فيها
المرأة، وأمر لأهل تلك الناحية بمال من الغنائم، يصلحون به أحوالهم
ويفدون سباياهم؛ وخص المرأة وآثرها، وأعطاهم عددا من الأسرى عونا. وأمر
بضرب رقاب باقيهم، وقال لأهل تلك الناحية وللمرأة: (هل أغاثكم الحكم؟)
قالوا: (شفا والله الصدور، ونكى في العدو، وما غفل عنا إذ بلغه أمرنا!
فأغاثه الله وأعز نصره!) وفي سنة 196، غزا الحكم إلى بلاد المشركين،
وأوغل فيها، وأوقع بهم، وقفل. وفيها، مات تمام بن علقمة الثقفي.
وفي سنة 199، كانت المجاعة التي عمت الأندلس؛ ومات أكثر الخلق جهدا.
(2/73)
وفي هذه السنة، أغرى الحكم عمه عبد الله
البلنسي الغزوة الشنيعة المشهورة، وكانت ببرشلونة: ألفي المشركين قد
حلوا بها يوم احتلاله، وكان يوم الخميس؛ فأراد من معه مناشبة الحرب،
وتشوقوا للقتال؛ فمنعهم حتى إذا كان في اليوم الثاني، وهو يوم الجمعة
وقت الزوال، أمر بتعبئة الكتائب، ونصب الردود؛ وقام، فصلى ركعتين؛ ثم
نادى في الناس، وركب هو ومن معه، وناهض أهل الشرك. وما أحسبه فعل ذلك
إلا ففها وعلما وتأسيا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر بالقتال
في تلك الساعة: فإن فيها تهب الأرواح، وتفتح أبواب الجنة، وتستجاب
الدعوات، فمنحهم الله أكناف المشركين، وانهزموا. وقتل عامتهم، وفرق
جمعهم. فلما أقلع عن القتال وانجلت الحرب، نصب قناة طويلة، فأثبتت في
الأرض؛ وأمر بالرؤوس؛ فجمعت وطرحت حواليها حتى غابت القناة فيها (ولم
تظهر) .
ذكر دخول الحكم طليطلة حين خالفت عليه
وذلك أنه أظهر الغزو إلى بلاد المشركين، وقصد تدمير، وهو يريد في نفسه
طليطلة. فنزل تدمير، واضطرب فيها، ونازل بعض حصونها. وكتب إلى عمال
الثغر بنزوله فيها وحربه لها؛ فأمن أهل طليطلة، وانتشروا في بسائطهم،
ونظروا في زروعهم، وله عليهم عيون. فلما صحَّ عبده انبساطهم، جعل يتغرب
من أحواز تدمير، وأخبار طليطلة ترد عليه. فلما أمكنته الفرصة فيها،
جدَّ السير إليها، وطوى المراحل؛ فوصل إليها ليلا، وسبق بقطيع من
الحشم. فدخل طليطلة ليلا، ولم يعلم بدخوله، وأهلها في غفلة، وأبوابها
مفتحة. وتتابع العسكر عليه بمقدار قوة كل أحد. فملكها، وحال بين أهلها
وبينها، وقطع الخروج عمن كان بها إلى من كان بخارجها. فاستوسق له ملكها
دون مئونة ولا قتال.
(2/74)
فاستنزل أهلها من الجبال إلى السهل، وحرق
ديارها، وسكنهم في الصحراء. ثم ردهم إليها.
وفي سنة 200، أغزى الحكم وزيره عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد المشركين؛
فدخلها، وتوسطها، وأهلك معائشها ومرافقها، وحطم زروعها، وهدم منازلها
وحصونها، حتى استوفي جميع قرى وادي أرون. فحشدت إليه الطاغية - دمرها
الله! - وانجلبت النصرانية من كل مكان، وأقبلت الجموع، ونزلت بعدوة نهر
أرون؛ وصار النهر حاجزا بينهم وبين المسلمين. فلما أصبح، نهض عبد
الكريم بمن معه إلى مخائض الوادي؛ ونهض أعداء الله إليهم؛ فقاتلوهم على
كل مخاضه منها؛ فجالدهم المسلمون عليها مجالدة الصابرين المحتسبين.
واقتحم أعداء الله النهر إليهم؛ فاقتتلوا على مخاضته. ثم حمل المسلمون
عليهم حملة صادقة؛ فأضغطوهم في المضايق، وأدخلوهم على غير طريق؛
فأخذتهم السيوف والطعن بالرماح والغرق في المياه؛ فقتل من المشركين عدد
عظيم لا يحصى كثرة، ومات أكثرهم بالتردي ودرس بعضهم بعضا، وصاروا بعد
المطاعنة والمجالدة بالرماح والسيوف إلى القذف بالحجارة؛ وأكثروا
الحراس بالمخائض، ووعروها بالخشب، وحفروا الحفائر، وخندقوا الخنادق.
ونزلت الأمطار؛ وكان قد فرغ ما كان لأعداء الله من المرافق؛ وضاقت
الحال أيضا بالمسلمين؛ فقفل عبد الكريم ظافرا لسبع خلون من ذي القعدة.
ولم يكن في سنة 201 صائفة ولا حركة مشهورة.
ذكر هيج أهل الربض ثانية في سنة 202
كان من أهل ربض قرطبة في هذه السنة ما نستعيذ بالله من الخذلان في
مثله، وذهاب التوفيق. وقد اختلفت الروايات في سبب قيام الناس وهيجهم؛
فمنهم
(2/75)
من يقول إن ذلك الهيج كان أصله الأشر
والبطر، إذ لم يكن ثم ضرورة من إجحاف في مال، ولا انتهاك لحرمة، ولا
تعسف في ملكة، والحال تدل على صحة ذلك: فإنه لم يكن على الناس وظائف،
ولا مغارم، ولا سخر، ولا شئ يكون سببا لخروجهم على السلطان، بل كان ذلك
أشرا وبطرا، وملالا للعاقبة، وطبعا جافيا، وعقلا غبيا، وسعيا في هلاك
أنفسهم - أعاذنا الله من الضلال والخذلان، وأسباب البوار والخسران!
ولما اهتاجوا وقاموا على السلطان، ناصبهم الحكم القتال، وواضعهم الحرب.
وانحاش إليه حاشيته وجنده، وتألب من كل وجه رجاله. وقامت الحرب بين
الجند وعامة قرطبة على ساق. ثم تكاثرت العامة، وهاجت الدهماء السوداء؛
فلم يزيدوا على أن ظهروا في ذلك الحين ظهروا لم يبلغهم إلى أمل فلما
اشتغلوا بالقتال، احتيل عليهم بمثل حيلة يوم الحرة، وهم لا يشعرون
لاشتغالهم بالقتال؛ فخرج عبيد الله بن عبد الله البلنسي المعروف بصاحب
الصوائف، وإسحاق بن المنذر القرشي إلى باب الجسر، مع من أمكنهما من
الفرسان والرجالة، والتقوا مع العامة، وجالدوهم حتى أزاحوهم وأدخلوهم
الجسر؛ وفتح باب المدينة عند الجسر، ودخل الذين سمينا على باب الحديد؛
ثم اقتحموا على الزقاق الكبير، وخرجوا على الرملة إلى مخاضة هناك،
وجازوا النهر، واجتمعوا مع من توافى عليهم من حشود الكور، إذ كانوا قد
أنذروا قبل ذلك بما كان بدا منهم، وظهر من علاماتهم. فلما اجتمعوا،
أقبل بعضهم من وراء الربض، وشرع بعض في طرح النار في الدور، ودسوا من
أخبر العامة بما نزل بهم في دورهم وذراريهم وعيالهم؛ فلم يبق أحد منهم
دون أهله ومنزله، وانصرفوا راجعين نحوها. فأخذتهم السيوف من أمامهم
وورائهم؛ فقتلوا قتلا ذريعا، وتتبعوا في الأزقة والطرق، يقتلون؛ ونجا
منهم من تأخر أجله، ففرَّ، فلم يلو على
(2/76)
أهل ولا ولد. وأخذ منهم ثلاثمائة رجل؛
فصلبوا على الوادي، صفا واحدا من المرج إلى المصارة.
وكان الحكم قد عزم على تتبعهم بالأندلس، وقتلهم حيث وجدوا؛ فكسر عليه
بعض أصحابه، وذكره صنع الله له فيهم؛ فارعوى وكف. فخرجوا أفواجا
بأهاليهم وأولادهم. ولم يعرض لأحد منهم في شئ من بلاد الأندلس، وهي
طاعته وملكه، ولا نالهم ضر بعد وقت المعركة وغليان الحال، كرما وعفوا
من الأمير الحكم - رحمه الله! - وعف الحكم عن الأموال والحرم. وتفرق
أهل الربض في جميع أقطار الأندلس؛ ومنهم من جاز البحر إلى العدوة
بالأهل والواد؛ فاحتلوا بعدوة فاس، فهم عدوة الأندلس منها؛ فصيروها
مدينة. ومنهم أهل جزيرة إقربطش؛ فذكر أنه لم يخرج منهم طائفة بناحية من
نواح الدنيا إلا وتغلبوا عليها، واستوطنوها على قهر من أهلها. وأكثر من
هرب من أهل العلم والخير ممن اتهم أو خاف على نفسه إلى ناحية طليطلة،
ثم أمنهم الحكم، وكتب لهم أمانا على الأنفس والأموال، وأباح لهم التفسح
في البلدان حيثما أحبوا من أقطار مملكته، حاشى قرطبة أو ما قرب منها.
وفي سنة 206، اشتد مرض الحكم بن هشام؛ فأخذ البيعة لابنه عبد الرحمن،
ثم للمغيرة من بعده. وانعقدت البيعة يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت
من ذي الحجة من السنة. فبويع له ذلك اليوم في القصر؛ واختلف الناس بعد
ذلك اليوم إلى دار عبد الرحمن بن الحكم يبايعونه؛ وبايعوا المغيرة في
دار أخيه عبد الرحمن أيضا؛ ثم ركب المغيرة إلى الجامع، ونزل فيه يوما
بعد يوم لمبايعة الناس له؛ وكانوا يبايعونه عند المنبر؛ ثم بايعوه في
داره. ولما انقضت البيعة لعبد الرحمن والمغيرة بعده، أمر الحكم بن هشام
بهدم الفندق الذي كان بالربض؛ وكان متقبله من أهل الإضرار والفسق؛
فهدم. وتوفي الأمير الحكم يوم الخميس لأربع بقين من ذي الحجة من السنة؛
وصلى عليه ابنه عبد الرحمن؛ ودفن بالقصر.
(2/77)
بعض أخباره وسيره
كان الحكم - رحمه الله! - شديد الحزم، ماضي العزم، ذا صولة تتقى. وكان
حسن التدبير في سلطانه، وتوليه أهل الفضل والعدل في رعيته؛ وكان مبسوط
اليد. وكان له قاض كفاه بورعة وعلمه وزهده؛ فمرض مرضا شديدا؛ فاغتم
الحكم لمرضه؛ فذكر بعض خاصته أنه أرق ليلة أرقا شديدا، وجعل يتململ على
فراشه؛ فقيل له: (أصلح الله الأمير! ما الذي عرض؟) فقال: (ويحكم! إني
سمعت في هذه الليلة نادبة، وقاضينا مريض، وما أراه إلا وقد قضى نحبه.
فأين لي بمثله، ومن يقوم بالرعية مقامه؟) فمات القاضي في تلك الليلة،
وهو المصعب بن عمران قاضي أبيه. فولى بعده محمد بن بشير.
فكان أقصد الناس إلى حق، وأبعدهم من جور، وأنقذهم بحكم. ورفع إليه رجل
من أهل كورة جيان أن عاملا للحكم اغتصبه جارية، وصيرها إلى الحكم؛
فوقعت من قلب الحكم كل موقع؛ فأثبت الرجل أمره عند القاضي، وأتاه بينة
تشهد على معرفة ما تظلم منه ويملكه للجارية وبمعرفتهم بها. فأوجبت
السنة أن تحضر الجارية؛ فاستأذن القاضي على الحكم؛ فأذن له؛ فلما دخل
عليه، قال له: (أيها الأمير! أنه لا يتم عدل في العامة دون إقامته في
الخاصة!) وحكى له أمر الجارية، وخيره بين إبرازها للبينة ليشهد على
عينها، أو عزله. فقال له الحكم: (أولا. أدعوك إلى خير من ذلك! تبتاع
الجارية من صاحبها بأبلغ ما يطلب فيها.) فقال القاضي: (إن الشهود قد
شهدوا من كورة جبان، وأتى الرجل يطلب الحق في مظامه؛ فلما صار ببابك،
تصرفه دون إنفاذ الحق له؛ ولعل قائلا يقول: باع ما لا يملك بيع مقور!)
فلما رأى عزمه على ذلك، أمر بإخراج الجارية من قصره؛ فشهد الشهود عنده
على عينها، وقضى بها لصاحبها. وكان هذا القاضي محمد بن بشير، إذا خرج
للمسجد، وجلس للأحكام،
(2/78)
جلس في رداء معصفر، وشعر مفرق؛ فإذا طلب ما
عنده، وجد أفضل الناس وأورعهم.
وكان الحكم يقول: (ما تحلى الخلفاء بمثل العدل!) وكانت فيه بطالة، إلا
أنه كان شجاع النفس، باسط الكف، عظيم العفو. وكان يسلط قضاته وحكامه
على نفسه، فضلا عن ولده وخاصته. وكانت للحكم ألف فرس مرتبطة بباب قصره
على جانب النهر، عليها عشرة من العرفاء، تحت يد كل عريف مائة فرس؛ فإذا
بلغه عن ثائر ثار في أطرافه، عاجله قبل استحكام أمره؛ فلا يشعر حتى
يحاط به. وجاءه الخبر يوما أن جاب بن لبيد محاصر لجيان، وهو يلعب
بالصولجان في القصر؛ فدعا بعريف من أولئك العرفاء، وأسر إليه أن يخرج
بمن تحت يده إلى جابر بن لبيد؛ ثم فعل كذلك مع أصحابه من العرفاء. فلم
يشعر ابن لبيد حتى تساقطوا عليه مسربلين في الحديد؛ فلما رأى العدو
ذلك، سقط في يده، وظن أن الدنيا قد حشرت إليه؛ فولى بمن معه منهزما.
وكان الحكم فصيحا بليغا شاعرا مجيدا. فمن شعره - رحمه الله! - يتغزل،
وذلك أنه كان له خمس جوار قد استخلصهن لنفسه وملكهن أمره؛ فذهب يوما
إلى الدخول عليهن؛ فأبين عليه، وأعرضن عنه. وكان لا يصبر عنهن. فقال
(البسيط) :
قُضْب من البازِ مَلسَت فَوقَ كُثْبانِ ... أعْرَضْنَ عَنّي وقد
أزْمَعْنَ هِجْرانِي
ناشَدتُّهَنَّ بحقِي فاعْتزَمْن علي ... الهِجْرانِ حتَّى خَلا
مِنْهنَّ هيْمانِي
مَلكنني مُلكَ مَنْ ذَلتْ عَزِيمَتُهُ ... للحبِّ ذُلَّ أسِير موثَّقٍ
عانِي
مَنْ لي بُمغْتَصباتِ الرُّوح من بَدنِي ... عصبنب في الهوى عِزّي
وسلطانِي
ثم إنهنَّ عدن عليه بالوصل؛ فقال (خفيف) :
نِلْتُ كُلَّ الوصال بعد البِعَادِ ... فكأنِي مَلكْتُ كُلَّ العِبادِ
وتَنَاهَى السُّروُر إذْ نِلتُ مَا لَمْ ... يُغنِ فيه تَكاشُفُ
الأجْنَادِ
(2/79)
ومن مليح قوله فيهن - رحمه الله! - (خفيف) :
ظَلَّ مِنْ فَرْطِ حُبِّهِ مَمْلوكا ... ولقد كان قَبْلَ ذَاكَ مَليِكا
إن بكَى أو شَكَا الهَوى زِيدَ ظُلماً ... وبعاداً يُدنِى حماماً
وشَيكا
تَرَكَته جاذر القصر صَبَّا ... مُستهاما على الصَّعِيدِ تَريكَا
يجْعَل الخَدَّ ماثلاً فوق تُربٍ ... وَهْوَ لا يرتَضِي الحَرِيرَ
أريكا
هكذا يَحْسُنُ التذَلُلُ للحُرِّ ... إذا كان في الهَوَى ممْلُوكا
وله - رحمه الله! - أشعار كثيرة في الربضيين القائمين عليه، لا يجاريه
فيها حد. وقد تقدم منها ما يستدل به على فضله. ولما دنت وفاته، عتب
نفسه فيما تقدم منه عتابا، وتاب إلى الله مثابا، ورجع إلى الطريقة
المثلى، وقال: إن الآخرة هي الأبقى والأولى؛ فتزين بالتقوى، واعتصم
بالعروة الوثقى؛ وأقر بذنوبه واعترف، وأنس إلى قوله تعالى إن ينتهوا
يغفر لهم ما قد سلف. وكان من عباد الله المتقين، إلى أن أتاه من ربه
اليقين. فتوفي - رحمه الله! - سنة 206. |