البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب
خلافة عبد الرحمن بن
الحكم بن هشام
كنيته: أبو المطرف. أمه: تسمى حلاوة. مولده: سنة 76. حاجبه: عبد الكريم
بن عبد الواحد. وزراؤه: تسعة؛ رزق كل واحد ثلاثمائة دينار. كتابه:
ثلاثة: عبد الكريم المذكور، وسفيان بن عبد ربه، وعيسى بن شهيد. قضاته:
أحد عشر؛ منهم: يحيى بن مغمر، وقبله مسرور بن محمد بن بشير، ثم سعيد
ابن محمد بن بشير، ثم يحيى المتقدم الذكر، وغير هؤلاء؛ وإنما كثر
القضاة في أيامه لأن المشاور في عزلهم وولايتهم يحيى بن يحيى الليثي؛
فكان لا يولى رجلا إلا برأيه؛ فكان يحيى بن يحيى، إذا أنكر من القاضي
شيئا، قال له: (استعف وإلا رفعت بعزلك!) فكان يستعفي أو يشير يحيى
بعزله، فيعزل.
(2/80)
نقش خاتمه: (عبد الرحمن بقضاء الله راض.)
وكان له قبل ذلك خاتم باسمه؛ فتلف؛ وأمر بطلبه، فلم يوجد؛ فأعاد نقش
خاتم جده عبد الرحمن، بعد أن خرج نصر الفتى من عند الأمير هذا بالخاتم
للنقش، وبعث في عبد الله بن الشمر الشاعر، وقال له: (إن الأمير أمر
بنقش هذا الخاتم؛ فقل ما ينقش فيه!) فقال (رمل) :
خاتَمٌ للمُلْكِ أضْحَى ... حُكمُه في الناسِ مَاضِ
عابِدُ الرَّحمنِ فِيهِ ... بقَضَاء اللهِ رَاضِي
فاستحسن ذلك الأمير عبد الرحمن، وأمر بنقشهما في الخاتم.
صفته: طويل، أسمر، أقنى، أعين، أكحل، عظيم اللحية يخضب بالحناء والكتم.
بويع بعد موت أبيه بيوم واحد، وذلك يوم الخميس لثلاث بقين من ذي الحجة
سنة 206، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة وتسعة أشهر. وتوفي ليلة الخميس لثلاث
خلون من شهر ربيع الآخر سنة 238. عمره: اثنان وستون سنة. خلافته: إحدى
وثلاثون سنة وثلاثة أشهر وستة أيام. بنوه الذكور: خمسة وأربعون،
وبناته: اثنتان وأربعون.
وفي سنة 207، ثارت بتدمير فتنة بين مضر ويمن، ودامت سبع سنين؛ فأغزى
إليهم الأمير عبد الرحمن في هذا العام يحيى بن عبد الله بن خلف؛ ثم كان
يبعث إليهم المرة بعد المرة بالقواد؛ فيفترقون؛ فإذا قفلوا، عادوا إلى
الفتنة. وكانت بينهم وبين يحيى بن عبد الله وقبعة تعرف بوقعة المصارة
بلورفة، انتهى مبلغ القتلى فيهم إلى ثلاثة آلاف.
وفيها كان بالأندلس جوع شديد، مات به كثير من الخلق.
وفي سنة 208، كانت الغزاة المعروفة بغزاة ألبة والقلاع، غزاها عبد
الكريم ابن عبد الواحد بالصائفة، واحتل بالثغر؛ وتوافت عليه عساكر
الإسلام، واختلفوا في الدخول على أي باب يكون إلى دار الشرك؛ ثم
اجتمعوا على أن يكون
(2/81)
من باب ألبة، إذ كان ذلك الباب أنكى للعدو
وأحسم لدائه؛ فاقتحموا من فج يقال له جرنيق؛ وكان وراءه بسيط للعدو،
فيه خزائنه وذخره. فوقع أهل العسكر على تلك البسائط، فاستصفوها، وعلى
ذخر تلك الخزائن، فانتهبوها؛ واستوعبوا خراب كل ما مروا عليه من
العمران والقسرى، وأقفروها. وانصرف المسلمون غانمين ظافرين. والحمد
لله! وفي سنة 209، توفي عبد الكريم بن عبد الواحد؛ وكان قد أخذ في
الحركة إلى أرض العدو؛ فاعتل. وعوض منه الأمير عبد الرحمن بن الحكم
أمية ابن معاوية بن هشام. فغزا بالصائفة إلى أوريط؛ فاحتل بها، وهي
يومئذ للإسلام؛ فأخذ أهل الذنوب والريب، وعفا عن الباقين؛ ثم تقدم إلى
شنت برية وتدمير. وكان أبو الشماخ رئيس اليمانية يقوم بدعوة الأمين على
المضرية. وكانت بينهم وقعة بمرسية كوقعة يوم المصارة بلورقة، فنى فيها
من المسلمين أعم. وكان انبعاث هذه الفتنة وسببها بين المضرية واليمانية
على ورقة دالية أخذها مضري من جنان يماني؛ فقتله اليماني؛ فكان ذلك سبب
الحروب التي دارت بين الفريقين؛ واتصلت أعواما؛ وكانت الدوائر تدور
أكثرها على اليمانية والقتلى منهم، وذلك أحد عجائب الدهر.
وفي سنة 210، أمر الأمير عبد الرحمن ببنيان الجامع بمدينة جيان. وفيها،
كتب إلى عامل تدمير أن ينزل بمرسية ويتخذها موطنا؛ فكانت حينئذ موضع
نزولهم وموضع قرارهم؛ وأمر بهدم مدينة آله من تدمير، ومنها ثارت الفتنة
أولا. وفيها، افتتح فرج بن مسرة في أرض العدو حصن القلعة؛ وكان مسرة
عامل جيان.
وفي سنة 211، ثار طوريل بتاكرنا؛ فأخرج إليه الأمير عبد الرحمن معاوية
ابن غانم في حشد؛ فظفر به، وقطع عاديته.
(2/82)
وفي سنة 213، غزا عبيد الله بن عبد الله
البلنسي بالصائفة إلى دار الحرب؛ فجال في أرض العدو حتى بلغ برشلونة،
وتردد في تدريخها وانتسافها ستين يوما.
وفي سنة 213، انقطعت الفتنة بتدمير، واستنزل أبو الشماخ وغيره من
القلاع، وانقطعت عاديتهم؛ وصار أبو الشماخ من ولاة الأمير عبد الرحمن
ومن ثقاته.
وفي سنة 214، ثار الضراب بطليطلة؛ واسمه هاشم؛ وسمى الضراب لأنه لما
أحرق الحكم طليطلة، وأنزل أهلها منها إلى السهل، أخذ رهائنهم. فدخل
حينئذ هاشم الضراب قرطبة، وصار يضرب بالمعول في الحدادين أجيرا؛ فعرف
بالضراب. ثم خرج من قرطبة إلى طليطلة؛ فاستدعى أهل الشر والفساد،
وأليهم؛ فتألب إليه منهم نفر؛ فخرجوا يغيرون على العرب والبربر. وتسامع
أهل الشر به؛ فقطعوا إليه، حتى اجتمع له منهم جمع عظيم وخلق كثير؛ فعلا
ذكره، وانتشر صيته. وأوقع بالبربر بشنت برية، ودارت له عليهم دوائر.
فأخرج الأمير عبد الرحمن إليه محمد بن رستم، وأمره بحربه؛ فحاربه في
هذه السنة.
وفي سنة 216، توافت الجنود لمحمد بن رستم عامل الثغر؛ فناهض هاشما
الضراب. وكان قد تغلب على جانب الثغر. وكان عبد الرحمن قد استقصر محمد
ابن رستم في حقه، وكتب إليه يعنفه؛ فتقدم ابن رستم، والتقى مع هاشم
الضراب؛ فوقعت بينهم حرب شديدة أياما؛ ثم انهزم هاشم، وقتل هو ومن كان
معه؛ وكانوا آلافا.
وفي سنة 217، حوصرت ماردة وضيق عليها، حتى فرَّ عنها خلق كثير، وقتل
منهم كثير.
وفي سنة 218، كان الكسوف العظيم، الذي توارت معه الشمس، وبدا
(2/83)
الظلام؛ وكان ذلك قبل زوال الشمس، في أواخر
رمضان. وفيها، استوزر الأمير عبد الرحمن ابن شهيد واستحجبه. وفيها،
قامت الزيادة في المسجد الجامع بقرطبة من الأرجل التي بين السواري إلى
القبلة.
وفي سنة 219، غزا بالصائفة أمية بن الحكم إلى طليطلة وحاصرها؛ ثم قفل
العسكر بعد أن أتلف زروعهم وقطع ثمارهم. وأبقى بقلعة رباح ميسرة الفتى
لمحاصرة طليطلة؛ فخرج جمع عظيم من طليطلة يريدون قلعة رباح؛ فبلغه
خبرهم؛ فجمع الجموع، وكمن الكمائن. فلما قربوا منها، وفرقوا خيلهم في
الغارة، خرجت عليهم الكمائن؛ فقتلوا، وحزت رؤوسهم؛ فجمعت بين يدي
ميسرة؛ واجتمع منها جملة عظيمة. فلما رأى ذلك، ارتاع وداخله الندم؛ فلم
يلبث بعد ذلك إلا يسيرا حتى مات ندما وأسفا.
وفي سنة 220، غزا الأمير عبد الرحمن؛ فجعل صدر وجهته على طليطلة، وولى
أبا الشماخ قلعة رباح، وأبقى عنده خيلا كثيفة ورجلا كثيرة لمناهضة
طليطلة، وتقدم هو إلى كور الغرب. وكان سليمان بن مرتين قد تحيل علية
يحيى الماردي؛ فأخرجه من ماردة؛ فكان في قنن الجبال حينا؛ فحل عليه
الأمير في هذه الغزاة، وحاصره حتى ضاق سليمان بن مرتين في الحصن؛ فخرج
ليلا؛ فبينا هو يمشي، إذ وافق صخرة ملساء على وجه الأرض؛ فزلق به
الفرس؛ فسقط، ومات. ووجده رجل؛ فاحتز رأسه، وادعى قتله؛ ثم عرف أمره.
وفي سنة 221، افتتحت طليطلة. وكان السبب في ذلك أن ابن مهاجر خرج عنها،
ونزع إلى قلعة رباح، واستدعى القؤاد؛ فخرجوا إليه. فنهض بهم إلى أبواب
المدينة، وقطع عنهم مرافقهم. فكان ذلك أقوى الأسباب في افتتاحها. وكان
عبد الواحد الإسكندراني بعثه الأمير الأيهم؛ فوجدهم قد بلغ بهم الجهد.
(2/84)
ثم أطل عليهم الأمير؛ فافتتحها قهرا،
ودخلها على حكمه، وأمر بتجديد القصر الذي كان بناه عمروس في أيام الحكم
على باب الجسر. وقيل إن الذي افتتح طليطلة الوليد بن الحكم، وجهه إليها
أخوه عبد الرحمن.
وفي سنة 222، افتتحها عنوة، ودخلها في شهر رجب من هذه السنة على حكمه.
وفي سنة 223، أعزى الأمير عبد الرحمن بن الحكم أخاه الوليد بن الحكم
إلى جليقية؛ فدخل من باب الغرب مع قطيع من العسكر؛ فدوخها. وكانت له
فتوحات كثيرة.
وفي سنة 224، أغزى الإمام عبد الرحمن ابنه الحكم إلى دار الحرب، وأمره
بالتجوال في جهات الثغور، ليتعرف أخبارها ومصالحها. وأمر بإصلاح قنطرة
سرقسطة. ودخل الحكم بالصائفة إلى دار الحرب؛ فدوخها، وقتل من المشركين
ما لا يحصى. واجتمع من رؤوسهم أكداس كالجبال، حتى كان الفارس يقف من
ناحية؛ فلا يرى صاحبه من ناحية أخرى من عظمها.
وفيها، كانت رجوم بالنجوم، في جمادى الآخرة؛ وتناثرت الكواكب من قبلة
إلى جوف، ومن شرق إلى غرب، بجزيرة الأندلس.
وفي سنة 225 غزا الإمام عبد الرحمن بنفسه أرض جليقية. ففتح حصونها،
وجال في أرضها. وطالت غزاته، وتعب كثيرا؛ فأرق في بعض الليالي؛ فلما
كان في بعض الليل، حضر عبد الله بن الشمر الشاعر؛ فوصف له أرقه، وأنه
تذكر بعض من حن إليه؛ فقال عبد الرحمن بن الشمر (متقارب) :
(2/85)
عَدَانِيَ عَنْكَ مَزَار العِدَى ...
وقَودِي إليهم لُهَاماً مَهيبَا
وكَمْ قَدْ تعسفتُ من سَيْسَبٍ ... وجاوَزتُ بعد دُروبِ دُرُوبا
وادَّرعُ النَّقْعَ حتى لَبِستُ ... من بَعْدِ نَضْرةِ وَجهي شُحُوبا
ألاقِي بوجهب سموم الهجِيرِ ... وقد كادَ مِنْه الحَصَى أن يَذُوبا
أنا ابن الهِشامَين مِن غالبٍ ... أشُبُّ حُرُوبا وأطِفْي حُرُوبا
وَبي أدَّرَكَ الله دينَ الهُدَى ... فأحْيُيْتُهُ واصطلَمْتُ
الصَّلِبا
سموتُ إلى الشِرْكِ في جَحفَل ... مَلأتُ الحُزُونَ بِهِ والسُّهُوبَا
وفي سنة 226، غزا بالصائفة إلى جليقية من بلاد العدو مطرف بن عبد
الرحمن؛ فتوسط بسيطهم، وذهب بنعمتهم؛ وكان القائد عبد الواحد بن يزيد
الإسكندراني.
وفي سنة 227، خرج، عبيد الله بن عبد الله صاحب الصوائف؛ فلما حصل بين
أربونة وسرطانية، تجالب الأعداء من كل ناحية، وأحاطوا بالعسكر ليلا؛
فقاتلهم المسلمون الليل كله؛ فلما انبلج الضوء، أيد الله المسلمين،
وهزم الأعداء.
وفي سنة 228، خرج الأمير عبد الرحمن بنفسه إلى أرض العدو، وخلف في
القصر ولده المنذر، وجعل على ميمنته ولده محمدا وعلى الميسرة ولده
المطرف. فلقي جيشا كبيرا من المشركين؛ فناشبهم الحرب؛ فأنزل الله نصره
على المسلمين، وهزموا المشركين، وأثخنوا فيهم القتل. وأفاء الله على
المسلمين من ذراري أهل بنبلونة وخيلهم وأسلحتهم ما عظم به من الله
سبحانه المن. وقفل غزيرا في منتصف شوال. وكان خروجه من قرطبة لتسع بقين
من شعبان.
(2/86)
وفي سنة 229، خرج الأمير عبد الرحمن
لمحاصرة موسى بن موسى بتطيلة؛ فدوخ بلاده، ثم صالحه. ثم تقدم إلى
بنبلونة؛ فكانت له بها وقعة عظيمة على المشركين، فني فيها أعداء الله؛
وكان معهم موسى بن موسى؛ فناله ورجاله ما نالهم.
وفيها، ورد كتاب وهب الله بن حزم عامل الأشبونة، يذكر أنه حل بالساحل
قبله أربعة وخمسون مركبا من مراكب المجوس، معها أربعة وخمسون قاربا؛
فكتب إليه الأمير عبد الرحمن وإلى عمال السواحل بالتحنظ.
دخول المجوس إشبيلية في سنة 230
فخرج المجوس في نحو ثمانين مركبا، كأنما ملأت البحر طيرا جونا؛ كما
ملأت القلوب شجوا وشجونا. فحلوا بأشبونة؛ ثم أقبلوا إلى قادس، إلى
شذونة؛ ثم قدموا على إشبيلية؛ فاحتلوا بها احتلالا، ونازلوها نزالا،
إلى أن دخلوها قسرا، واستأصلوا أهلها قتلا وأسرا. فبقوا بها سبعة أيام،
يسقون أهلها كأس الحمام. واتصل الخبر بالأمير عبد الرحمن؛ فقدم على
الخيل عيسى بن شهيد الحاجب، واتصل المسلمون به اتصال العين بالحاجب.
وتوجه بالخيل عبد الله ابن كليب وابن رستم وغيرهما من القواد واحتل
بالشرف. وكتب إلى عمال الكور في استنفار الناس؛ فحلوا بقرطبة، ونفر بهم
نصر الفتى. وتوافت للمجوس مراكب على مراكب، وجعلوا يقتلون الرجال،
ويسبون النساء، ويأخذون الصبيان، وذلك بطول ثلاثة عشر يوما. ذكر ذلك في
(بهجة النفس) . وفي كتاب (درر القلائد) : سبعة أيام، كما تقدم. وكانت
بينهم وبين المسلمين ملاحم. ثم نهضوا إلى قبطيل؛ فأقاموا بها ثلاثة
أيام، ودخلوا قورة، على اثني عشر ميلا من إشبيلية؛ فقتلوا من المسلمين
عددا كثيرا؛ ثم دخلوا إلى طلياطة، على ميلين من إشبيلية؛ فنزلوها ليلا،
وظهروا بالغداة بموضع يعرف بالنخارين؛ ثم
(2/87)
مضوا بمراكبهم، واعتركوا مع المسلمين.
فانهزم المسلمون، وقتل منهم ما لا يحصى. ثم عادوا إلى مراكبهم. ثم
نهضوا إلى شذونة، ومنها إلى قادس، وذلك بعد أن وجه الأمير عبد الرحمن
قواده؛ فدافعهم ودافعوه؛ ونصبت المجانيق عليهم، وتوافت الأمداد من
قرطبة إليهم. فانهزم المجوس وقتل منهم نحو من خمسمائة علج؛ وأصيبت لهم
أربعة مراكب بما فيها؛ فأمر ابن رستم بإحراقها وبيع ما فيها من الفيء.
ثم كانت الوقعة عليهم بقربة طلياطة يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر من
السنة، قتل فيها منهم خلق كثير، وأحرق من مراكبهم ثلاثون مركبا. وعلق
من المجوس بإشبيلية عدد كثير، ورفع منهم في جذوع النخل التي كانت بها.
وركب سائرهم مراكبهم، وساروا إلى لبلة؛ ثم توجهوا منها إلى الأشنونة؛
فانقطع خبرهم.
(وكان احتلالهم بإشبيلية يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من المحرم
من سنة 230) . وكان لبن دخولهم إلى إشبيلية وخروج من بقى منهم
وانقطاعهم اثنان وأربعون يوما؛ فقتلهم الله وأبادهم، وبدَّد عددهم
وأعدادهم؛ وقتل أميرهم نقمة من الله وعذابا، وجزاء بما كسبوا وعقابا.
ولما قتل الله أميرهم، وأفنى عديدهم، وفتح فيهم، خرجت الكتب إلى الآفاق
بخبرهم. وكتب الأمير عبد الرحمن إلى من بطنجة من صنهاجة، يعلمهم بما
كان من صنع الله في المجوس، وبما أنزل فيهم من النقمة والهلكة؛ وبعض
إليهم برأس أميرهم وبمائتي رأس من أنجادهم.
وفي سنة 231، غزا بالصائفة جليقية محمد ابن الأمير عبد الرحمن؛ فحصرها،
وحصر مدينة ليون، ورماها بالمجانيق. فلما أيقنوا بالهلاك، خرجوا ليلا،
ولجئوا إلى الجبال والغياض؛ فأحرق ما فيها، وأراد هدم سورها؛ فوجد سعته
ثمان عشرة ذراعا؛ فتركه؛ وأمعن في بلاد الشرك قتلا وسبيا.
(2/88)
وفي سنة 232، قحطت الأندلس قحطا شديدا؛
وكانت فيها مجاعة عظيمة، حتى هلكت المواشي، واحترقت الكروم، وكثر
الجراد.
وفي سنة 234، أمر الأمير بتوجيه العساكر إلى أهل جزيرة ميورقة،
لنكايتهم، وإذلالهم، ومجاهرتهم بنقضهم العهد، وإضرارهم بمن مر عليهم من
مراكب المسلمين. فغرتهم ثلاثمائة مركب؛ فصنع الله للمسلمين جميلا،
وأظفرهم بهم، وفتحوا أكثر جزائرهم.
وفي سنة 34 المذكورة، توفي يحيى بن يحيى؛ فاستراح القضاة من همه.
وفي سنة 235، ورد كتاب أهل ميورقة ومنورقة إلى الأمير عبد الرحمن،
يذكرون ما نالهم من نكاية المسلمين لهم؛ فكتب إليهم كتابا أذكر هنا
فصولا منه، وهو: (أما بعد، فقد بلغنا كتابهم، تذكرون فيه أمركم، وإغارة
المسلمين الذين وجهناهم إليكم لجهادكم، وإصابتهم ما أصابوه منكم من
ذراريكم وأموالكم، والمبلغ الذي بلغوه منكم، وما أشفيتم عليه من
الهلاك. وسألتم التدارك لأمركم، وقبول الجزية منكم، وتجديد عهدكم على
الملازمة للطاعة، والنصيحة للمسلمين، والكف عن مكروههم، والوفاء بما
وتحملونه عن أنفسكم. ورجونا أن يكون فيما عوقبتم به صلاحكم، وقمعكم عن
العود إلى مثل الذي كنتم عليه. وقد أعطيناكم عهد الله وذمته!) وفيها،
كان سيل عظيم بجزيرة الأندلس، حمل وادي شيل، وخرب فوسين من حنايا قنطرة
إستجة، وخرب الأسداد والأرحاء. وذهب السيل بست عشرة قرية من قرى
إشبيلية على النهر الأعظم. وحمل وادي تاجه؛ فأذهب ثمان عشرة قرية؛ وصار
عرضة ثلاثين ميلا.
وفي سنة 236، ثار رجل من البربر، يقال له حبيب البرنسي، بجبال
(2/89)
الجزيرة؛ وتأبش إليه جماعة من أهل الشر
والفساد؛ فأخرج إليه عبد الرحمن الأجناد. فلما وصلوا إليه، ألقوا
البربر قد قصدوا حبييا ومن تأبش إليه؛ فتغلبوا على المعقل الذي كان
انضوى إليه، وأخرجوه عنه، وقتلوا عدة كثيرة من أصحابه. وافترق بقيتهم
عنه، ودخل حبيب في غمار الناس. فكتب الأمير عبد الرحمن إلى عمال الكور
بالبحث عنه.
وفي سنة 237، قام رجل من المعلمين بشرق الأندلس؛ فادّعى النبوءة، وتأول
القرآن على غير تأويله؛ فاتبعه جماعة من الغوغاء، وقام معه خلق كثير.
وكان من بعض شرائعه النهي عن قص الشعر وتقليم الأظفار، ويقول: [لا
تغيير لخلق الله!] فبعث إليه يحيى بن خالد؛ فأتى به. فلما دخل عليه،
كان أول ما خاطبه به إن دعاه إلى اتباعه والأخذ بما شرع؛ فشاور فيه أهل
العلم؛ فأشاروا بأن يستناب فإن تاب، وإلا قتل. فقال: (كيف أتوب من الحق
الصحيح!) فأمر بصلبه. فلما رفع في الخشبة، قال: (أتقتلون رجلا أن يقول:
ربي الله!) فصلبه، وكتب إلى الأمير يخبره.
وفي سنة 238، توفي الأمير عبد الرحمن بن الحكم - رحمه الله! - ليلة
الخميس لثلاث خلون من ربيع الآخر من السنة. وما زال يقتني المآثر،
وبيني المكارم والمفاخر، حتى قبضته شعوب، وأرداه مردى القبائل والشعوب.
ذكر بعض أخباره على الجملة وسيره
لما ولي الأمير عبد الرحمن، بعث في اخوته وأهله ووزرائه؛ فبايعوه،
وبايعته العامة. ثم صلى على أبيه الحكم. فلما قضى صلاته وواراه، جلس
بالأرض متطأطئا، ليس تحته وطاء، وجلس من كان معه. ثم افتتح القول؛
فقال: (الحمد لله، الذي جعل الموت حتما من قضائه، وعزما من أمره، وأجرى
الأمور على مشيته؛ فاستأثر بالملكوت والبقاء، وأذل خلقه بالفناء؛ تبارك
(2/90)
اسمه وتعالى جده) ! وصلى الله على محمد
نبيه ورسوله، وسلم تسليما! وكان مصابنا بالإمام - رحمه الله! - مما جلت
به المصيبة، وعظمت به الرزية؛ فعند الله تحتسبه، وإياه نسأل إلهام
الصبر، وإليه ترغب في كمال الأجر والذخر! وعهد إلينا فيكم بما فيه صلاح
أحوالكم ولسنا ممن يخالف عهده، بل لكم لدينا المزيد إن شاء الله!) ثم
قام عنهم، وخرجت لهم الأموال والكسي على قدر أقدارهم.
وكان شاعرا، أديبا، ذا همة عالية. وكانت له غزوات كثيرة، وفتوحات في
دار العدو شهيرة، يخرج إليها في العدد الجم، والعسكر الضخم، يخرب
ديارهم، ويعفى آثارهم، ويقفل ظاهر الاعتلاء، قاهر الأعداء. لم يلق
المسلمون معه بؤسا، ولم يروا في مدته يوما عبوسا. وهو أول من جرى على
سنن الخلفاء في الزينة والشكل، وترتيب الخدمة. وكسى الخلافة أبهة
الجلالة (فشيد القصور، وجلب إليها المياه، وبنى الرصيف، وعمل عليه
السقائف؛ وبنى المساجد الجوامع بالأندلس؛ وعمل السقاية على الرصيف،
وأحدث الطرز، واستنبط عملها؛ واتخذ السكة بقرطبة. وفخم ملكه. وفي أيامه
دخل الأندلس نفيس الوطاء وغرائب الأشياء؛ وسبق ذلك إليه من بغداد
وغيرها. وعندما قتل محمد الأمين، ابن هارون الرشيد، وانتهب ملكه، سبق
إلى الأندلس كل نفيس غريب من جوهر ومتاع. وقصد بالعقد المعروف بعقد
الشفاء؛ وكان لزبيدة أم جعفر.
ومن مآثره أنه كان ورد عليه يوما أموال من بلاده، لعطبات أجناده؛
فأدخلت إليه، وجعلت الخرائط بين يديه. وكان بعث فتيانه؛ فخلا مجلسه إذ
ذاك، ولم يبق أحد هناك، حاشى فتى كان بين يديه واقفا، وعلى خدمته
الخاصة عاكفا؛ فغشيت الأمير عبد الرحمن نعسة، ظنها الفتى تهزة وخلسة؛
فقبض على خريطة من ذلك المال، وأسدل عليها كمة أسبغ إسدال، والأمير
يلاحظه بطرف خفيّ، ويصمت عنه صمت برّ حفيّ؛ ففاز الفتى بماله، وناط به
أسباب
(2/91)
آماله. فلما رجع الفتيان، أمرهم الأمير عبد
الرحمن برفع تلك الخرائط المبسوطة؛ فوجدوا نقصان تلك الخريطة؛ فتدافعوا
فيها إذ ذاك، كل يقول لصاحبه: (أنت أخذتها من هناك!) فقال لهم الأمير:
(أسكنوا عن هذا! فقد أخذها من لا يردها، وعاينه من لا يقولها!) فكان
هذا مما عدَّ من كرمه وفضله.
وكانت له جارية تسمى طروب، كان بها دنفا؛ فصدت عنه يوما، وأبدت هجرانه.
فأرسل فيها؛ فامتنعت عليه، وأغلقت على نفسها بيتا. فأمر ببنيان الباب
بالخرائط المملؤة من الدراهم، استرضاء لها، واستعطافا لوصلها. فلما
فتحت الباب، تساقطت الخرائط من كل جانب؛ فأخذتها؛ فألفت فيها نحوا من
عشرين ألفا؛ وأمر لها يعقد قيمته عشرة آلاف دينار؛ فجعل بعض من حضر من
وزرائه يعظم الأمر عليه؛ فقال له الأمير عبد الرحمن: (إن لابسه أنفس
منه خطرا وأرفع قدرا! ولئن راق من هذه الحصباء منظرها، ورصف في النفس
جوهرها، فلقد برأ الله من خلقه جوهرا يغشى الأبصار، ويذهب بالألباب.
وهل على وجه الأرض من زبرجدها وشريف جوهرها أقر لعين، وأجمع لزين، من
وجه أكمل الله فيه الحسن ونضرته، وألقى عليه الجمال بهجته؟) ثم قال
لعبد الله بن الشمر الشاعر وكان حاضرا: (هل يحضرك شئ في المعنى؟) فأنشد
(طويل) :
أتُقرَنُ حَصباءُ البواقِيت والشذرِ ... بِمَنْ يتَعَالى عن سَنَا
الشَمسِ والبَدْرِ
بِمَن قَد بَرَت قِدما يَدُ الله خلقَهُ ... وَلَم يَكُ شيئاً قَبَلهُ
أبَداً يَبْرِى
فأكْرِمْ به مِنْ صَنْعةٍ اللهِ جَوهراً ... تَضَاءلَ عنه جَوَهَرُ
البَرِّ والبحرِ
فأعجبت الأمير الأبيات وطرب لها طربا شديدا. وأنشد الأمير مرتجلا
(طويل) :
فَريضُكَ يَا ابن الشَّمر عني على الشِعرِ ... وجَلَّ عن الأوهامِ
والذِّهْنِ والفِكرِ
إذا شافَهتْهُ الأذنُ أدَّى بسحرها ... إلى القلب إبداعاً فجَلَّ عن
السِحرِ
وَهَل بَرأ الرّحْمنُ من كلِّ ما برأ ... أقرَّ لعِينٍ من منَهمةٍ
بِكرِ
تَرَى الوردَ فوقَ اليَاسَمينِ بخدِّها ... كَمَا فوق الرَّوْضُ
المُنَعَّمُ بالزَّهرِ
فَلَو أنَّني ملكتُ قَلبي وناظِري ... نَظَمُتُهما مِنها على الجِيدِ
والنَّحرِ
(2/92)
ثم أمر لابن الشمر ببدرة فيها خمسمائة دينار؛ فخرج مع الوصيف يحملها له
تحت إبطه. فلما تواريا عن الأمير، قال له الوصيف: (أين لذات العمر، يا
ابن الشمر؟) فقال: (تحت إبطك يا سيدي!) ودخل عليه الغزال الشاعر يوما؛
فقال الأمير (كامل) : جاء الغزال بحسنة وجماله فقال له الوزير: أجز. ما
بدأ به الأمير! فقال الغزال (كامل) :
قالَ الأميرُ مُدَاعِباً بِمَقَالهِ ... جاء الغَزَالُ بحُسنِهِ
وَجَمَاله
أين الجَمَالُ من أمري أربي على ... مُتَعَدِّدِ السَّبعِينَ من
أحوالهِ
وهَلْ الجَمالُ لهُ؟ الجمالُ مِنْ امرِئ ... ألقاهُ رَيبُ الدَّهرِ في
أغلالِهِ
وأعَادهُ من بَعْدِ جِدَّتِهِ بِلَى ... وأحالَ رَوْنَقَ وَجهِهِ عَن
حالِهِ
وهي طويلة.
ومن قول الإمام عبد الرحمن - رحمه الله! - يصف حال المعزول، فأبدع
(طويل) :
أرى المَرءَ بَعدَ العزلِ يَرجِعُ عَقلُهُ ... وقد كان في سُلطَانِهِ
لَبسَ بَعقِلُ
فتلفيهِ جَهْمَ الوَجهِ ما كانَ وَالياً ... وَيَسهُلُ عَنه ذَاكَ
ساعَةَ يُعزَلُ
وكتب إليه بعض عمناله يسأله عملا رفيعا ليس من شاكلته؛ فوقع له في أسفل
كتابه: (من لم يصب وجه مطلبه، كان الحرمان أولى به!) ومثل هذا كثير مما
يدل على فضله. |