البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب

خلافة محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام
كنيته: أبو عبد الله. أمه: بهير. مولده: في شهر ذي القعدة سنة 207. وزراؤه وقواده: اثنا عشر. حجابه: اثنان، ابن شهيد وابن أبي عبدة. كتابه:

(2/93)


ثلاثة، عبد الملك بن أمية، وحامد بن محمد الزجالي، وموسى بن ابان. قضاته: أحمد بن زياد، ثم عمرو بن عبد الله المعروف بالقبعة، ثم سليمان بن أسود الغافقي. نفش خلقه: بالله يثق محمد وبه يعتصم. صفته: أبيض، مشرب بحمرة: ربعة، أوقص، وافر اللحية يخضب بالحناء والكتم. بنوه: ثلاثة وثلاثون. بناته: إحدى وعشرون. بويع يوم الخميس لأربع خلون لربيع الآخر سنة 238، وهو ابن ثلاثين سنة وخمسة أشهر. وتوفي يوم الخميس لليلة بقيت من شهر صفر سنة 273. عمره: خمس وستون سنة وأربعة أشهر. وكانت خلافته أربعا وثلاثين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوما.
وفي سنة ولايته، ثار عليه أهل طليطلة، وحبسوا العامل عندهم، حتى أطلقت رهائنهم من قرطبة، وحينئذ أطلقوه.
وفي سنة 239، خرج الحكم ابن الأمير عبد الرحمن إلى طليطلة بالصائفة. وكانت قلعة رباح قد أقفرت، خوفا من أهل طليطلة. فاحتلها الحكم، وأمر ببنيان سورها، واسترجاع من فرَّ من أهلها إليها.
وفيها أخرج الأمير محمد إلى شندلة قاسم بن العباس وتمام بن أبي العطاف صاحب الخيل، ومعهما الحشم. فلما حلا بأندوجر، خرجت عليهم كمائن أهل طليطلة، ووقعت الحرب، وكثر القتل؛ فانهزم قاسم وتمام، وأصيب ما في العسكر. وفي ذلك يقول صفوان بن العباس أخو قاسم المذكور (رمل) :
ضَرَطَ القاسمُ يَوماً ... ضَرطَةً في القَرْمِيطِ
مَاتَ مِنْها كلُّ حُوتٍ ... كَانَ في البَحْرِ المُحِيطِ
وكانت هذه الوقعة في شوال.
وفي سنة 240، خرج الأمير محمد بنفسه إلى طليطلة في المحرم. فلما اتصل بأهلها ذلك، أرسلوا إلى أردن بن إذفونش صاحب جليقية، يعلمونه بحركته

(2/94)


ويستمدون به. قبعث إليهم أخاه غثون في جمع عظيم من النصارى. فلما اتصل ذلك بالأمير محمد، وقد كان قارب طليطلة، أعمل الحيلة والكيد، واستشعر الحزم؛ فعبأ الجيوش، وكمن الكمائن بناحية وادي سليط؛ ثم نصب الردود، وطلع في أوائل العسكر في قلة من العدد. فلما رأى ذلك أهل طليطلة، أعلموا العلج بما عاينوه من قلة المسلمين؛ فتحرك العلج فرحا، وقد طمع في الظفر والغنيمة وانتهاز الفرصة. فلما التقى الجمعان، خرجت الكمائن عن يمين وشمال، وتواترت الخيل أرسالا على أرسال، حتى غشى الأعداء منهم ظلل كالجبال؛ فانهزم المشركون وأهل طليطلة، وأخذتهم السلاح، هذا بالسيوف، وطعنا بالرماح؛ فقتل الله عامتهم، وأباد جماعتهم. وحيز من رؤوسهم مما كان في المعركة وحواليها ثمانية آلاف رأس، وجمعت ورصعت؛ فصار منها جبل علاه المسلمون، يكبرون ويهللون ويحمدون ربهم ويشكرون. وبعث الأمير محمد بأكثرها إلى قرطبة، وإلى سواحل البحر، وإلى العدوة. وانتهى عدد من فقد منهم في هذه الوقعة إلى عشرين ألفا. وكانت في شهر محرم من السنة.
وفي سنة 241، شحن الأمير محمد قلعة رباح وطلبيرة بالحشم، ورتب فيها الفرسان؛ وترك فيها عاملا حارث بن بزيع.
وفيها، جدد الأمير محمد طرز الجامع بقرطبة وأتقن نقوشه.
وفيها، حشد الأمير محمد ودخل إلى ألبة والقلاع، وبلغ إلى أقصاها وافتتح كثيرا من حصون المشركين.
وفي سنة 242، كتب الأمير محمد إلى موسى بن موسى بحشد الثغور والدخول إلى برشلونة؛ فغزا إليها، واحتل بها، وافتتح في هذه الغزاة حصن طراجة، وهي من آخر أحواز برشلونة؛ ومن خمس ذلك الحصن زيدت

(2/95)


الزوائد في المسجد الجامع بسرقسطة؛ وكان الذي أسسه ونصب محرابه حنش الصنعاني - رضي الله عنه - وهو من التابعين.
وفيها وجه الأمير محمد ابنه المنذر بالجيوش إلى طليطلة؛ فحاصرها، وأقام عليها ينسف معائشها.
وفي سنة 243، كانت وقعة عظيمة في أهل طليطلة، وذلك أنهم خرجوا إلى طلبيرة؛ فخرج إليهم قائدها مسعود بن عبد الله العريف، بعد أن كمن لهم الكمائن؛ فقتلهم قتلا ذريعا، وبعث إلى قرطبة بسبعمائة رأس من رؤوس أكابرهم.
وفي سنة 244، خرج الأمير محمد بنفسه إلى طليطلة، وعددهم قد قل، وحدهم قد قل، بتواتر الوقائع عليهم، ونزول المصائب بهم؛ فلم تكن لهم حرب إلا بالقنطرة. ثم أمر الأمير بقطع القنطرة، وجمع العرفاء من البنائين والمهندسين، وأداروا الحيلة من حيث لا يشعر أهل طليطلة. ثم نزلوا عنها؛ فبينما هم مجتمعون بها، إذ اندقت بهم، وتهدمت نواحيها، وانكفأت بمن كان عليها من الحماة والكماة؛ فغرقوا في النهر عن آخرهم. فكان ذلك من أعظم صنع الله فيهم.
وفي سنة 245، دعا أهل طليطلة إلى الأمان؛ فعقدة الأمير لهم؛ وهو الأمان الأول.
وفيها، خرج المجوس أيضا إلى ساحل البحر بالغرب، في اثني وستين مركبا؛ فوجدوا البحر محروسا، ومراكب المسلمين معدة، تجري من حائط إفرنجة إلى حائط جليقية في الغرب الأقصى. فتقدم مركبان من مراكب المجوس؛ فتلاقت بهم المراكب المعدة؛ فوافوا هذين المركبين في بعض كسور باجة؛ فأخذوهما بما كان فيهما من الذهب والفضة والسبي والعدة. ومرت سائر مراكب المجوس في الريف حتى انتهت إلى مصب نهر إشبيلية في البحر؛ فأخرج الأمير الجيوش، ونفر الناس من كل أوب: وكان قائدهم عيسى بن الحسن الحاجب.

(2/96)


وتقدمت المراكب من مصب نهر إشبيلية حتى حلت بالجزيرة الخضراء؛ فتغلبوا عليها، وأحرقوا المسجد الجامع بها؛ ثم جازوا إلى العدوة؛ فاستباحوا أريافها؛ ثم عادوا إلى ريف الأندلس، وتوافوا بساحل تدمير؛ ثم انتهوا إلى حصن أوربولة؛ ثم تقدموا إلى إفرنجة؛ فشتوا بها، وأصابوا بها الذراري والأموال، وتغلبوا بها على مدينة سكنوها، فهي منسوبة إليهم إلى اليوم، حتى انصرفوا إلى ريف بحر الأندلس، وقد ذهب من مراكبهم أكثر من أربعين مركبا. ولقيهم مراكب الأمير محمد؛ فأصابوا منها مركبين بريف شذونة، فيها الأموال العظيمة. ومضت بقية مراكب المجوس.
وفي سنة 246، أغزى الأمير محمد بن عبد الرحمن إلى أرض بنبلونة أحد قوَّاده؛ فخرج في هذه الغزوة خروجا لم يخرج قبله مثله جمعا وكثرة، وكمال عدة، وظهور هيبة. وكان غرسية إذ ذاك متظافرا مع أزدون صاحب جليقية؛ فأقام هذا القائد يدوخ أرض بنبلوبة، مترددا فيها اثنين وثلاثين يوما، يخرب المنازل، وينسف الثمار، ويفتح القرى والحصون. وافتتح في الجملة حصن قشتيل، وأخذ فيه قرتون بن غرسية المعروف بالأنفر، وقدم به إلى قرطبة؛ فأقام بها محبوسا نحوا من عشرين سنة؛ ثم رده الأمير إلى بلده، وعمر فرتون مائة وست وعشرون سنة.
وفي سنة 247، قال الرازي: غزا محمد بن السديم أرض الحرب، وعامل الثغر إذ ذاك عبد الله بن يحيى. وكان كتب موسى بن موسى يذكر ما ناله ونال أهل بلده في إداختهم أرض الجليقيين، وما وصل إليهم من النصب، وسأل أن يكون دخول العسكر على غير ناحيته؛ فأسعف في ذلك، ودخلت العساكر على غير بلده.
وفي سنة 248، تقدم موسى بن موسى لمقاتلة ابن سالم في وادي الحجارة؛ فنالته جراح منعته الركوب بعدها؛ وكانت سببا لهلاكه؛ فتوفي في هذه السنة.

(2/97)


وفي سنة 249، خرج عبد الرحمن ابن الأمير محمد إلى حصون ألبة والقلاع؛ وكان القائد عبد الملك بن العباس؛ فافتتحها، وقتل الرجال، وهدم البنيان؛ وانتقل في بسائطها من موضع إلى موضع يحطم الزروع، ويقطع الثمار. وأخرج أردون بن إذفونش أخاه إلى مضيق الفج ليقطع بالمسلمين، ويتعرضهم فيه؛ فتقدم عبد الملك؛ فقاتلهم على المضيق، حتى هزمهم وقتلهم وبددهم؛ ثم وافنهم بقية العساكر، وأظلتهم الخيل من كل الجهات؛ فصبر أعداء الله صبرا عظيما؛ ثم انهزموا. ومنح الله المسلمين أكتافهم؛ فقتلوا قتلا ذريعا؛ وقتل لهم تسعة عشر قومسا من كبار قوادهم.
وفي سنة 250، كملت مقصورة المسجد الجامع بقرطبة؛ وبنى فيها الأمير محمد بنيانا كثيرا في القصر الكبير والمنى الخارجة عنه. ولم تكن في هذه السنة صائفة، استغنى بالغزوة المتقدمة، وأريح العسكر فيها.
وفي سنة 251، كانت غزوة ألبة والقلاع أيضا (هزيمة المركويز - أخزاه الله! -) خرج إلى هذه الغزاة عبد الرحمن بن محمد، وتقدم حتى حل على نهر دوبر. - وتوالت عليه العساكر من كل ناحية، فرتبها. ثم تقدم؛ فاحتل بفج برذنش؛ وكانت عليه أربعة حصون؛ فتغلب العسكر عليها، وغنم المسلمون جميع ما فيها وخربوها؛ ثم انتقل من موضع إلى موضع، لا يمر بمسكن إلا خربه، ولا موضع إلا حرقه، حتى اتصل ذلك في جميع بلادهم. ولم يبق لرذريق صاحب القلاع، ولا اردمير صاحب توفة، ولا لعندشلب صاحب برجية، ولا لغومس صاحب مسانقة، حصن من حصونهم إلا وعمه الخراب. ثم قصد الملاحة، وكانت من أجل أعمال رذريق؛ فحطم ما حواليها وعفا آثارها.
ثم تقدم يوم الخروج على فج المركوبز؛ فصد العسكر عنه، وتقدم رذريق بحشوده وعسكره؛ فحل على الخندق المجاور للمركوبز. وكان رذريق قد عانى

(2/98)


توعيره أعواما، وسخر فيه أهل مملكته، وقطعه من جانب الهضبة؛ فارتفع جرفه، وانقطع مسلكه؛ فنزل عبد الرحمن ابن الأمير محمد على وادي إبره بالعسكر، وعبا القائد عبد الملك للقتال؛ وعبا المشركون، وجعلوا الكمائن على ميمنة الدرب وميسرته. وناهض المسلمون جموع المشركين بصدورهم؛ فوقع بينهم جلاد شديد. وصدق المسلمون اللقاء؛ فانكشف الأعداء عن الخندق، وانحازوا إلى هضبة كانت تليه. ثم نزل عبد الرحمن ابن الأمير محمد، ونصب فسطاطه، وأمر الناس بالنزول وضرب أبنيتهم؛ فأقامت المحلة. ثم نهض المسلمون إليهم؛ فصدقوهم القتال، وضرب الله في وجوه المشركين، ومنح المسلمين أكتافهم؛ فقتلوا أبرح قتل؛ وأسر منهم جموع. واستمروا في الهزيمة إلى ناحية الأهزون، وافتحموا نهر إنره باضطرار في غير مخاضه؛ فمات منهم خلق كثير غرقا. وكان القتل والأسر فيهم من ضحى يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب إلى وقت الظهر. وسلم الله المسلمين ونصرهم على المشركين. وكان قد لجأ منهم إلى الوعر والغياض، عندما أخذتهم السيوف، جموع؛ فتتبعوا وقتلوا؛ ثم هتك الخندق وسوى حتى سهل، وسلكه المسلمون غير خائفين ولا مضغطين. وأعظم الله المنة للمسلمين بالصنع الجميل، والفتح الجليل. والحمد لله رب العالمين. وكان مبلغ ما حيز من رؤوس الأعداء في تلك الوقيعة عشرين ألف رأس وأربعمائة رأس واثنين وسبعين رأسا.
وفي سنة 252، خرج عبد الرحمن ابن الأمير محمد غازيا إلى ألبة والقلاع؛ فحارب أهلها، وأفسد زروعها، وغادرها هشيما. وكان أهل هذا الجانب في ضعف ووهن شديد ألجأهم إلى المنع من التجمع والاحتشاد، لما نالهم في العام الفارط من النهب والقتل الذريع.
وفي سنة 253، خرج الحكم ابن الأمير محمد غازيا إلى جرنيق؛ فجال في أرض الأعداء، وحل على حصن جرنيق، وحاصره حتى فتحه عنوة.

(2/99)


وفيها كانت بالأندلس مجاعة عظيمة متوالية
وفي سنة 254، خرج الأمير محمد إلى ماردة، وأظهر أن استعداده لطليطلة. وكان بماردة قوم من المنتزين. فلما فصل من قرطبة، وتقدم بالمحلات إلى طريق طليطلة، نكب إلى ماردة؛ فاحتل بهم، وهم في أمن وعلى غفلة. فتحصنوا في المدينة أياما. ثم ناهض القنطرة؛ فوقع القتال، واشتد الحرب حتى غلبوا عليها؛ فأمر الأمير بتخريب رجل منها؛ فكان ذلك سببا إذعان أهل ماردة؛ فطاعوا على أن يخرج فرسانهم، وهم يومئذ عبد الرحمن بن مروان، وابن شاكر، ومكحول، وغير هؤلاء؛ وكانوا أهل بأس ونجدة وبسالة مشهورة. فخرج المذكورون ومن هو مثلهم إلى قرطبة بعيالهم وذراريهم. وولى عليها سعيد ابن عباس القرشي، وأمر بهدم سورها؛ ولم تبق إلا قصبتها لمن برد من العمال.
وفي سنة 255، خرج الحكم ابن الأمير محمد، وقصد مدينة سرية. وكان قد تغلب بها سليمان بن عبدوس، وخالف فيها؛ فبادرته الصائفة، وحلت به العساكر، وأحدقت بالمدينة، ورميت بالمجانيق، حتى هتكت أسوارها. فقام أهلها على سليمان بن عبدوس؛ فطاع، ونزل؛ فقدم به قرطبة؛ فسكنها.
وفي سنة 256، غدر عمروس عامل وشقة وملكها، وظهرت عاديته في الثغر؛ فأخرج الأمير إليه قطيعا من الحشم والعدة، وقصد بها لاردة ابن مجاهد المعروف بالتدميري؛ فلزمها. وحشد عبد الوهاب بن مغيث الحشود، وقدم عليهم عبد الأعلى العريف، وبعثه إلى وشقة. فلما بلغ عمروس خبره، خرج عن وشفة، وأسر بها لب بن زكرياء بن عمروس؛ وكان أحد قتلة عامل السلطان بها موسى بن غلند؛ فقتل لب وعلق من السور.

(2/100)


وفي سنة 257، خرج إلى الثغر عبد الغافر بن عبد العزيز؛ وكان بتطيلة. فقبض على زكريا. بن عمروس وعلى أولاده وجماعة من أهل بيته، ونزل بهم على باب مدينة سرقسطة، وقتلهم بها. وقفل إلى قرطبة بالرؤوس.
وفي سنة 258، كانت في الثغر ثورات وحركات، منها أن مطرفا وإسماعيل ابني لبّ، ويونس بن زنباط غدروا بعبد الوهاب بن مغيث، عامل تطيلة، وابنه محمد عامل سرقسطة. فتقبضوا عليهما، وملكوا في هذا العام الثغر. وكان توفي مطرف في صفر، ودخل إسماعيل سرقسطة في ربيع الأول.
وفي سنة 259، خرج الأمير محمد بنفسه إلى الثغر، وحل في وجهته بطليطلة، وأخذ رهائنهم، وعقد أمانهم، وقاطعهم على قطيع من العشور يودونه في كل عام، وهو الأمان الثاني. واختلفت أهواؤهم في عمالهم؛ فطلب قوم منهم تولية مطرف بن عبد الرحمن، وطلب آخرون تولية طربيشة؛ فولى كل واحد منهما جانبا، وتقسما المدينة وأقاليمها على حدود مفهومة معلومة؛ ثم تنازعا، وأراد كل واحد منهما الانفراد بملك طليطلة. ثم غلب الداعون إلى تقديم طربيشة ابن ماسوية، وتأخير مطرف المذكور. وكان الأمير محمد تتلقاه في وجهته هذه، في الارتحال والاحتلال، طلائع الظفر، وبوادر النجح والنصر. وتجول في الثغر محاصرا لبني موسى، ومضيقا عليهم. ثم تقدم إلى بنبلونة؛ فوطئ أرضها، وأذل أهلها، وخربها؛ قم قفل؛ فحل بقرطبة، ومعه جماعة من الثوار الناكثين المفسدين. فلما أخذ راحته، أمر بقتل مطرف بن موسى وبنيه، وأمر بإطلاق كاتبهم، وكان لا ذنب له. فلما أخرج مطرف وبنوه للقتل، وأخرج كاتبهم للإطلاق، وكان يعرف بالأصبحي، قال: (لا خير في العيش بعد هؤلاء!) فقدم للقتل قبلهم، ورفعت رؤوسهم.

(2/101)


وفي سنة 260، خرج المنذر بن الأمير محمد إلى سرقسطة وبنبلونة؛ وكان القائد هاشم بن عبد العزيز. فاحتل سرقسطة، وانتهب زروعها، وأذهب ثمارها وأشجارها، ونقل أطعمتها إلى وشفة، وتقدم إلى بنبلونة؛ فجال في أرضها، وأتلف معايش أهلها.
وفيها، كانت المجاعة التي عمت الأندلس؛ ومات فيها أكثر الخلق.
وفي سنة 261، هرب ابن مروان الجليقي من قرطبة مع رجال ماردة المنزلين منها، واستقروا بقلعة الحنش. فغزاه الأمير محمد، وحاصره حصارا قطعه وضيق عليه مدة من ثلاثة أشهر، ألجأه فيها إلى أكل الدواب؛ وقطع عنه الماء، ورماه بالمجانيق، حتى أذعن، وطلب الأمان، وشكى ثقل الظهر وضيق الحال؛ فأباح له الأمير محمد الرحيل إلى بطليوس والحلول بها؛ وهي يومئذ قرية؛ فخرج إليها، وقفل عنه.
وفي سنة 262، خرج المنذر بن الأمير محمد إلى ابن مروان؛ وكان القائد هاشم بن عبد العزيز؛ وهو الذي كان سبب هروب ابن مروان، لأنه قال له من بين الوزراء: (الكلب خير منك!) وأمر يصفع قفاه، واستبلغ في خزيه؛ فهرب مع أصحابه، وذلك في خبر طويل. وكان ابن مروان قد ابتنى بطليوس حصنا، وجعله موطنا، وأدخل فيه أهل ماردة وغيرهم من أهل المكانفة له على الشر. فلما انتهى إلى ابن مروان تحرك العسكر إليه، تنقل عن بطليوس، وحل بحصن كركي؛ واجتمع أهل ماردة إليه فيه؛ فنزل العسكر بمقربة من الحصن. وكان هاشم قد يعث إلى منت شلوط خيلا ورجلا لضبطه. وكان سعدون الرماري قد دخل إلى بلاد الشرك مستمدا؛ فجاء بمدد من المشركين، وأظهر أنه في قلة؛ فكتب بذلك عامل حصن منت شلوط إلى

(2/102)


هاشم؛ فرأى هاشم أن ذلك فرصة في سعدون؛ فبادر بالخروج من العسكر على غير تعبئة ولا أهبة، في خيل قليلة. وأفحص هاشم، وجاوز الوعر، وأبعد عن العسكر؛ فأخذت المضايق عليه، وناشبوه القتال؛ فأخذته جراح، وقتل من أصحابه جماعة؛ وأسر هاشم المذكور. ولما اتصل خبر هاشم بالأمير محمد، وقع في جانبه، وقال: (هذا أمر جناه على نفسه بطيشه وعجلته!) ثم رد ولده عوضا منه. وحصل هاشم أسيرا بيد ابن مروان الذي صنعه في أسره في قرطبة؛ فبره ابن مروان، وأكرمه، وأحسن إليه، ولم يعاقبه بما فعل معه.
وفي سنة 263، خرج المنذر بن الأمير محمد، وجعل طريقه على ماردة فلما انتهى ذلك إلى ابن مروان، زال عن بطليوس؛ واحتل بها قائد المنذر الوليد بن غانم؛ فخرب ديارها. وتقدم ابن مروان إلى بلاد العدو.
وفي سنة 264، حارب المنذر سرقسطة، وأفسد ما ألقى من زروعها؛ ثم تقدم إلى تطيلة والمواضع التي صار فيها بنو موسى؛ فانتسقها، وأجال العسكر عليها.
وفيها، دخل البراء بن مالك من باب فلنبرية إلى جليقية بحشود الغرب، وتردد هنالك حتى أذهب نعيمهم.
وفيها، أطلق هاشم من الأسر.
وفي سنة 265، ظهرت الفتنة وظهر الشر في جانب كورة ربة والجزيرة وتاكرنا؛ وظهر يحيى المعروف بالجزيري؛ فغزاه هاشم؛ فأذعن له، وقدم به إلى قرطبة.
وفي سنة 266، خرج عبد الله بن الأمير محمد إلى كورة ربة ونواحي الجزيرة، وبنى حصونا في تلك النواحي؛ ثم قفل.
وفيها، أمر الأمير محمد بإنشاء المراكب بقرطبة ليتوجه بها إلى البحر

(2/103)


المحيط عبد الحميد الرُّعبطي المعروف بابن مغيث؛ وكان قد رفع إليه رافع أن جليقية من ناحية البحر المحيط لا سور لها، وأن أهلها لا يمتنعون من جيش إن غشيهم من تلك الناحية. فلما كملت المراكب بالإنشاء، قدم عبد الحميد بن مغيث عليها. فلما دخل البحر، تقطعت المراكب كلها وتفرقت، ولم يجتمع بعضها إلى بعض. ونجا ابن مغيث.
وفي سنة 267، التاثت الحصون المبتناة برية وتاكرنا وجهة الجزيرة. وفيها، ابتدأ شر اللعين عمر بن حفصون، الذي أعبى الخلفاء أمره، وطالت في الدنيا فتنته، وعظم شره؛ فقام في هذه السنة على الأمير محمد بناحية رية. فتقدم إليه عامر بن عامر؛ فانهزم عامر وأسلم قبته؛ فأخذها ابن حفصون، وهو أول رواق ضريه؛ فاستكن إليه أهل الشر. وعزل الأمير عامرا عن كورة رية، وولاها عبد العزيز بن عباس؛ فهادنه ابن حفصون، وسكنت الحال بينهما. ثم عزل عبد العزيز، وتحرك ابن حفصون، وعاد إلى ما كان عليه من الشر. وخرج هاشم بن عبد العزيز إلى كورة رية يطلب كل من كشف وجهه في الفتنة وأظهر الخلاف، وأخذ رهائن أهل تاكرنا على إعطاء الطاعة.
ومن العجائب في هذا العام، ما ذكره الرازي وغيره. قالا: زلزلت الأرض بقرطبة زلزالا شديدا، وهاجت ريح عند صلاة المغرب؛ فأثارت سحابا فيه ظلمات ورعد وبرق؛ فصعق ستة نفر، وانقلبوا على ظهورهم، مات اثنان؛ وخر جميع الناس سجدا إلا الإمام، فإنه ثبت قائما؛ وكان الرجلان اللذان ماتا أقرب الناس إلى الإمام؛ فاحترق شعر أحدهما واسود وجهه وشقه الأيسر؛ والآخر ظهر بشقه الأيمن سواد؛ والأربعة الصرعى مكثوا حتى فرغ الإمام؛ فسئلوا عما أحسوا؛ فقالوا: (أحسسنا نارا كأنها الموج الثقيل.) ووجد أهل المسجد رائحة النار، ولم يوجد للصاعقة أثر في سقف ولا حائط. واهتزت لهذا

(2/104)


الزلزال القصور والجبال، وهرب الناس إلى الصحارى، ضارعين إلى الله تعالى. وعم هذا الزلزال من البحر الشامي إلى آخر الجوف وإلى آخر أرض الشرك، لم يختلف في ذلك مختلف.
وفي سنة 268، خرج المنذر ابن الأمير محمد، والقائد هاشم بن عبد العزيز؛ فقصد الثغر الأقصى، وحطم سرقسطة، وافتح حصن روطة؛ ثم تقدم إلى ألبة والقلاع، وافتتح حصونا كثيرة، وأخلى حصونا كثيرة، خوفا من مهرة العسكر، وتوقعا من تغلبه.
وفيها، فسد ما بين المنذر وبين الوزير هاشم بن عبد العزيز.
وفي سنة 269، قال الرازي: وفي سنة 269، غزا محمد بن أمية بن شهيد إلى كورة رية وكورة إلبيرة. وكانوا بحال توحش ونفار؛ فسكن أحوال أهلها، وهدن الناس بها، ونظر في استنزال رجال بجبال رية وغيرها من بني رفاعة وغيرهم.
وفي سنة 270، استتم محمد بن أمية بن شهيد استنزال بني رفاعة. وأتاه في هذه الغزاة كتاب الأمير محمد بتولية عبد العزيز بن العباس كورة إلبيرة؛ فولاه، وقفل.
وفيها، غزا هاشم كورة رية، وإستنزل عمر بن حفصون من جبل بربشتر وقدم به قرطبة؛ فأنزله الإمام، وأوسع له في الإكرام.
وفي سنة 271، هرب عمر بن حفصون من قرطبة، ولجأ إلى جبل بربشتر؛ فانتدب الأمير محمد إلى حربه؛ وحوصر في السنة الآتية.
وفي سنة 272، خرج عبد الله ابن الأمير محمد، والقائد هاشم بن عبد العزيز. وقصد الغرب إلى ابن مروان، وهو بجبل اشبرغزة؛ فنازله وحاربه.

(2/105)


قال حيان بن خلف في عمر بن حفصون: هو كبير الثوار بالأندلس ونسبه: عمر بن حفص، المعروف بحفصون، بن عمر بن جعفر بن شتيم بن ذيبان ابن فرغلوش بن إذفونش، من مسالمة الذمة، من كورة تاكرنا من عمل رندة. وكان الذي أسلم منهم جعفر بن شتيم؛ ففشا نسله في الإسلام. وكان له من الولد الذكور عمر وعبد الرحمن؛ فولد عمر بن جعفر حفصا. وولد حفصون هذا عمر هذا الثائر الملعون؛ فعمر هذا هو الذي ثار على الأمير محمد أولا، ثم بلغ بعد ذلك في الشقاق والفتن مبلغا لم يبلغه ثائر بالأندلس. واستوطن لأول نفاقه حصن بربشتر قاعدة وحضرة، وهي أمنع قلاع الأندلس قاطبة، وذلك في هذه السنة، وهو تأريخ صعوده الآخر إليها الذي توطد له ملكه فيه، وخالف على السلطان حتى رضى عنه بالمناركة. واتصلت أيامه في ظهور وعزة حتى قدم فيها ثلاثة من خلفاء المروانيين أئمة الجماعة بالأندلس - رحمهم الله! - أولهم هذا الأمير محمد؛ وتخلف بعدهم إلى أن هلك على يد الرابع منهم، وهو عبد الرحمن الناصر، على ما يأتي مفسرا.
وفي سنة 273، خرج المنذر بن الأمير محمد إلى كورة رية، والقائد محمد ابن جهور. فقصد مدينة الحامة، وفيها حارث بن حمدون من بني رفاعة؛ وكان مظاهرا لعمر بن حفصون، وكانا قد اجتمعا بالحامة. فنازلهم، وناهضهم، وأحدق بهم من كل ناحية؛ وأقام محاصرا لهم شهرين. فلما وصل إليهم الضيق، برزوا إلى باب المدينة خارجا، مستقبلين للحرب. وقام بها؛ فنالته جراح، وشلت يده؛ ثم انهزم هو وأصحابه، وصاروا بين قتيل وفليل. ودخل باقيهم في الحامة. فبينا المنذر في هذه الحال من السرور، إذ أتاه الخبر بموت أبيه الأمير محمد بن عبد الرحمن، ليلة الخميس لليلة بقيت من شهر صفر من السنة؛ ودفن في القصر. وأدركه المنذر قبل مواراته وصلى عليه.

(2/106)


بعض أخباره وسيره
كان الأمير محمد - رحمه الله! - فصيحا، بليغا، عظيم الأناة، متنزها عن القبح، يؤثر الحق وأهله، لا يسمع من باغ، ولا يلتفت إلى قول زائغ. وكان عاقلا، على أخلاق جميلة ومكارم حميدة، ذا بديهة وروية، يرى كل من باشره وحدثه أن له الفضل المستبين في إدراكه، وفهمه، ودقة ذهنه، ولطيف فطنته، وجزالة رأيه. وكان أعلم الناس بالحساب وطرق الخدمة. وكان متى أعضل منها شئ، رجع إليه فيه؛ وإذا أخل أحد من خزانه وأهل خدمة الحساب بشيء من ذلك، لم يجز عليه بأدنى لحظة أو نظرة. ولقد استدرك على بعض خزانه في صك يشتمل على مائة ألف دينار خُمُسَ درهم؛ فرد الصك، وأمر بتصحيحه؛ فتجمع الخدمة والكتاب عليه؛ فلم يقعوا على ذلك النقصان لدقته وخفائه؛ فرجعوا إليه معترفين بالتقصير، وأعلموا الرسول؛ فرد الصك إليه وأعلمه باعترافهم؛ فعلم لهم على موضع الخطاء؛ فإذا هو خُمُسَ درهم.
وقال هاشم بن عبد العزيز: كان الأمير محمد - رحمه الله! - أصح الناس عقلا، وأحسنهم تمييزا، وأبصرهم بوجه الرأي. وكان يستشيرنا؛ فنجتهد ونقول ونحصل؛ فإن أصبنا، أمضى ذلك؛ وإن كان في الرأي خلل، قام فيه بالحجة، وأبانه بما تعجز الأوهام عنه تنقيحا وتهذيبا.
ومما يحفظ عنه أنه قال لهاشم في شئ أنكره عليه من عدم التثبت: (يا هاشم! من آثر السرعة أمضت به إلى الهفوة. ولو أنا أصغينا إلى محو زلاتك، وأصخنا إلى هفواتك، لكنا شركاءك في الزلة، وقسماءك في العجلة! فمهلا عليك، ورويدا بك! فإنك إن يعجل يعجل لك!) وكان، مع تشبثه وأناته، وافيا لمواليه في أنفسهم وأعقابهم، لا يكدح عنده كادح في شئ عن أحدهم، فيسمعه أو يسمِعه.
ولقد ولي الكناية عبد الملك بن عبد الله بن أمية اصطناعا له، وعائدة

(2/107)


عليه؛ فرد عليه يوما جوابا يقول فيه: (قد فهمنا عنك، ولم نأت ما أتيناه عن جهل بك، لكن اصطناعا لك، وعائدة عليك. وقد أبحنا لك الاستعانة بأهل اليقظة من الكتاب. فتخير منهم من تثق به وتعتمد عليه. ونحن نعينك على أمرك بتفقد كتبك والإصلاح عليك، إلى أن تركب الطريقة وتبصر الخدمة إن شاء الله تعالى!) فحسده على الخطة لشرفها من رأى نفسه أولى بها لاستكمال أدواتها؛ فطولب عليها. وكان أشد الناس في ذلك هاشم بن عبد العزيز، يثير سقطانه، ويتتبع هفواته، ويشنع عليه؛ والأمير محمد بفطنته يتغافل له. فلما طال عليه الصبر، دعا هاشما، وقال له: (قد أكثر أهل خدمتنا وأكثرت في هذا الكاتب: تذكرون جهله وفدامته، وقد ضممنا إليه من الكتاب من يستعين به، ويستظهر على خدمته بمكانه؛ وإنما تقفو بخدمتنا، وننسلك بمراتبنا طريق من ابتدأها وأسسها ووضع أهلها فيها. وإذا كنا لا نخلف آباءكم بكم، ولا نخلفكم بأبنائكم، فعند من نصنع إحساننا ونرب أيادينا؟ أعند أبناء القرانين أو الجزارين أو أمثالهم من الممتهنين) ؟ وأنت كنت أحق بالحص على هذا، وتصويب الرأي فيه، لما ترجو من مثله في أولادك وعقبك!) فرجع هاشم إلى الشكر له وتقبيل يده ورجله.
وكان - رحمه الله! - مأمولا محبوبا في جميع البلدان. وكان محمد بن أفلح صاحب ناهرات لا يقدم ولا يؤخر في أموره ومعضلاته إلا عن رأيه وأمره؛ وكذلك بنو مدرار بسجلماسة. وكان قرولش ملك إفرنجة يسترجح عقله؛ فيهاديه ويتحفه؛ وهو (أعني قرولش) الذي عمل صورة عبسي من ثلاثمائة رطل من ذهب خالص، وصفها بالياقوت والزبرجد، وجعل لها كرسيا من ذهب خالص مفصص بالياقوت والزبرجد أيضا؛ فلما اكمل ذلك، سجد له وأسجد له جميع أهل إفرنجة في ذلك التاريخ؛ ثم دفعه إلى صاحب كنيسة الذهب برومة.

(2/108)


وكان الأمير محمد - رحمه الله! - مهتبلا بأمور رعيته، مراقبا لمصالحها. ووضع عن أهل قرطبة ضريبة الحشود والبعوث. وقال ابن حبان: كانت عدة الفرسان المستنفرين لغزو الصائفة المجردة إلى جليقية في مدة الأمير محمد مع الولد عبد الرحمن ابنه على هذه التسمية المفصلة: من ذلك كورة إلبيرة: ألفان وتسعمائة؛ جيان: ألفان ومائتان؛ قبرة: ألف وثمانمائة؛ باغه: تسعمائة؛ تاكرنا: مائتان وتسعة وتسعون؛ الجزيرة: مائتان وتسعون؛ إسنجة: ألف ومائتان؛ قرمونة: مائة وخمسة وثمانون؛ شذونة: ستة آلاف وسبعمائة وتسعون؛ رية: ألفان وستمائة؛ فحص البلوط: أربعمائة؛ مورور: ألف وأربعمائة؛ تدمير: مائة وستة وخمسون؛ ربينة: مائة وستة؛ قلعة رباح وأوربط: ثلاثمائة وسبعة وثمانون. قال: ونفر من أهل قرطبة لهذه الغزوة عدد لم يوقف على قدره. وكان هذا العدد الذي غزا به بعد أن رفع الضريبة التي كانت على أهل قرطبة وأقاليمها وغيرها من البلاد؛ وقطع عنهم الحشود التي كانوا يؤخذون بتجديدها في كل سنة للصوائف الغازية لدار الحرب، وأسقطها منهم ووكلهم إلى اختيار أنفسهم في الطواعية للجهاد من غير بعث. فحسن موقع ذلك منهم، وتضاعف حمدهم له وشكرهم واغتباطهم بدولته.
وذكر جماعة من المؤرخين، عن بقى بن مخلد، أنه قال: ما كلمت أحدا من ملوك الدنيا أكمل عقلا ولا أبلغ فضلا من الأمير محمد. دخلت عليه يوما في مجلس خلافته؛ فافتتح الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم ذكر الخلفاء خليفة خليفة؛ فحلى كل واحد منهم بتحليته، ووصفه بصفته، وذكر مآثره ومناقبه بأفصح لسان وأبلغ بيان، حتى انتهى إلى نفسه؛ فسكت.
وفي صدر دولته سعى ببقى بن مخلد إلى الأمير محمد؛ وذلك أنه لما قدم بقى بن مخلد من المشرق عن رحلته الطويلة بما جمع من العلوم الواسعة والروايات العالية والاختلافات النقهية، أغاظ ذلك فقهاء قرطبة أصحاب الرأي والتقليد،

(2/109)


الزاهدين في الحديث، الفارين عن علوم التحقيق، المقصرين عن التوسع في المعرفة؛ فحسدوه، ووضعوا فيه القول القبيح عند الأمير، حتى ألزموه البدعة، وشنؤوه إلى العامة. وتخطى كثير منهم برميه إلى الإلحاد والزندقة، وتشاهدوا عليه تغليظ الشهادة، داعين إلى سفك دمه؛ وخاطبوا الأمير محمدا في شأنه، يعرفونه بأمره، ويكثرون عليه بكل ما يرجون به الوصول إلى سفك دمه، ويسألونه تعجيل الحكم فيه. فاشتد خوف بقي بن مخلد جدا، واستتر خوفا على دمه، وعمل على الفرار عن الأندلس إن أمكنه ذلك. فأرشده الله إلى التعلق بحبل هاشم بن عبد العزيز، وسؤاله الأخذ بيده؛ وكتب إلى الأمير محمد، ينشده الله في دمه، ويسأله التثبت في أمره، والجمع بينه وبين خصومه، وسماع حجته، فيأتي في ذلك بما يوفقه الله له. فألقى الله في نفس هاشم الإصغاء إلى شكواه، والاعتناء بأمره؛ فشمر له عن ساعده، وأوصل كتابه إلى الأمير محمد يشرح حاله؛ فعطف عليه، وإنهم الساعين به إليه؛ فأمر بتأمين بقي بن مخلد، وإحضاره مع الطالبين له؛ فتناظروا بين يديه؛ فأدلى بقي بحجته، وظهر على خصومه؛ واستبان الأمير محمد حسدهم إياه لتقصيرهم عن مداه. فدفعهم عنه، وتقدم إليه يطأطأه قدمه، ونشر علمه. وأمر بإيصاله إليه في زمرة من الفقهاء، والرفع من منزلته؛ فاعتلى ذروة العلم، ولم يزل عظيم القدر عند الناس وعند الأمير محمد إلى أن مات - رحمه الله! وفي صدر دولته، توفي عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب، وذلك في رمضان سنة 239. وهو عبد الملك بن سليمان بن مروان بن جيهلة بن عباس ابن مرداس السُّلميُّ، يُكنى أبا هارون؛ أوله من كورة إلبيرة، ونقله الأمير محمد إلى قرطبة، بل نقله أبوه عبد الرحمن بن الحكم. وكان محمد بن عمر بن لبابة يقول: عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى، وفقيهها عيسى بن دينار. قال ابن وضاح وغيره: لم يقدم الأندلس أحد أفقه

(2/110)


من سحنون، إلا أنه قدم علينا من هو أطول لسانا منه، يعني ابن حبيب. وكان ابن حبيب أديبا، نحويا، حافظا، شاعرا، متصرفا في فنون العلم من الأخبار والأنساب والأشعار. وله مؤلفات حسان في الفقه والأدب والتواريخ كثيرة. قال ابن العزبى: بضاعته في الحديث مزجاة. وكانت علته التي مات منها الحصى. وتوفي وسنه أربع وستون سنة. وكتب إلى الأمير عبد الرحمن بن الحكم في ليلة عاشوراء (بسيط) :
لا تَنْسَ، لا يَنسَكَ الرَّحْمنُ، عَاشُورَا ... وَأذْكُرهُ لا زلْتَ في الأخبارِ مّذكُورَا
مَنْ بَاتَ في لَيْلِ عَاشُوراء ذَا سَعةٍ ... يَسكُنْ بعِيِشَتِهِ في الحَولِ مَحسُورَا
فأرغَبْ، فَديتُكَ، فِيمَا فيِهِ رَغبَنَا ... خَيرُ الوَرَى كُلّهِمْ حَيِّا وَمَقبُورَا
وخرج الأمير محمد بن عبد الرحمن إلى الرصافة يوما متنزها، ومعه هاشم ابن عبد العزيز؛ فكان بها صدر نهاره على لذته؛ فلما أمسى، واختلط الظلام انصرف إلى القصر، وبه اختلاط. فأخبر من سمعه وهاشم يقول له: (يا ابن الخلائف! ما أطيب الدنيا لولا الموت!) فقال له الأمير: (يا ابن اللخناء! لحنت في كلامك! وهل ملكنا هذا الملك الذي نحن فيه إلا بالموت؟ فلولا الموت، ما ملكناه أبدا!) وكان الأمير محمد - رحمه الله! - غزاه لأهل الشرك والاختلاف. وربما أوغل في بلاد العدو الستة الأشهر والأكثر، بحرق وبنسف. وله وقعة وادي سليط، وهي من أمهات الوقائع؛ ولم يعرف بالأندلس قبلها مثلها. وفيها يقول عباس بن فرناس، وشعره يكفينا من صفتها؛ وهو (طويل) :
ومُختَلِفِ الأصواتِ مؤتَلفِ الزَّحفِ ... لهومِ الفَلاَ عَبلِ القَنَابل مُلتَفِ
إذَا أومَضت فِيهِ الصَّوَارِمُ خِلتَهَا ... بُرُوقاً تَرَاءى في الجَهَامِ وتَسْتَخْفِي

(2/111)


كأنَّ ذُرَى الأعلامِ في مَيَلاَنِهِ ... قَرَاقِيرُ في يَمِّ عَجَزْنَ عن القَذْفِ
وإن طحَنَت أرحاؤها كان قُطبُها ... حِجَى مَلِكٍ نَدبٍ شَمَائُله عَفِّ
سَمِيُّ ختام الأنبياء مُحمِّدٌ ... إذا وُصِفَ الأملاكُ جَلَّ عَن الوَصفِ
فَمِن أجله يومَ الثلاثاء غُدْوةً ... وقد نفضَ الإصبَاحُ حَبلَ عُرى السِّجْفِ
بَكَى جبلاً وادي سَلِيطِ فَأعوَلاَ ... على النَّفَرِ العُبدَانِ والعُصبةِ الغُلفِ
دَعَاهُم صريخ الحينِ فاجتمَعَوا لًهُ ... كَمَا اجتمَعَ الجُعلانُ للبَعرِ في وَقفِ
فَمَا كَانَ إلا أن رَمَاهم ببعضِها ... فَوَلوا على أعقَابِ مهزولة كُشفِ
كانَّ مسَاعيرَ الموَالي علَيهِمُ ... شَوَاهِينُ جادت للغرانيِقِ بالنَّسفِ
بنفِسي تنانيِنَ الوَغى حيِنَ صمَّمَت ... إلى الجَبَلِ المسحونِ صفَّا عَلَى صَفِّ
يَقُول ابن بُولبش لمُوسَى وَفَدوَني: ... أرى المَوتَ قُدَّامِي وتَحتيِ ومن خَلفي
قتلنا لَهُم ألفاً وألفاً وَمِثلَهَا ... وألفا وألفاً بَعدَ ألفٍ إلى ألفٍ
سِوَى مَن طواهُ النَّهرُ في مُسلحِبهِ ... فأغِرقَ فيه أو تذأذأ مِن جُرفٍ
قال أبو عمر السالمي: كانت أول غزواته إلى بلد العدو، وقد حشد لها وجند، وصوب كيف شاء وصعد، ألقى العدو وقد ضاق بخيله الفضاء الواسع، والمكان الداني والشاسع، وهو متأهب للقائه! متوجه إلى تلقائه. فخامر الأمير محمدا الجزع، وشابه الروع والفزع، وظن أن لا منجاة من الكفار، وأن المسلمين هناك طعن الشفار؛ فرأى من الحزم الأوكد، والنظر الأحمد الأرشد، الرجوع عن تلك الحركة، لقوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة؛ فقام رجل؛ فقال: (أيها الأمير! قال الله تبارك وتعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم الآية. فقال له الأمير محمد: (والله! ما جبنت نفسي، إلا أنه لا زأى لمن لا يطاع، ولست أستطيع أن أجاهد وحدي!) فقال له العتبي: (والله! ما أراه قذف بها على لسانه إلا ملك! فأستخر الله في ليلك

(2/112)


هذا وفي يومك!) فأراه الله في مقابلة العدو الرشاد، وألهمه التوفيق والسداد. فندب الناس إلى لقاء أعداء الله ونصر دينه، وأن يكون كلُّ على حسن ظنه من الظفر ويقينه. فلما انعقدت راياتهم، وتأكدت على المقارعة نياتهم. قدَّم عليهم الأمير محمد ابنه المنذر، إذ كان مشهورا بالبأس، محبوبا في الناس. فسار المسلمون إلى أن التقى الجمعان، والتفَّ الفريقان فأعقب الله لأوليائه ظفرا ونصرا، وجعل بعد عسر يسرا. قال: ولم يؤذن مؤذن الظهر إلا ومن رؤوس الأعداء جملة آلاف مقطوعة لأعداء الله؛ وذلك من فضل الله. وفي هذا الفتح يقول العنبي، يمدح الأمير محمدا في قصيد طويل أذكر هنا بعضه، وهو (كامل) :
سَايِلْ عَنِ الثَّغرِ الصَّوارِمَ تَصدُقِ ... واستَنطِقِ السُّمرَ العوَاليِ تنَطِقِ
تَرَكَتْ وَقَائعَ في الثُّغورِ وَقَد غَدَتْ ... مَثَلاً بِكُلِّ مُغَرِبٍ ومُشَرِّقِ
وأدّاخَ أرْضَ المُشْرِكِينَ بِوقعَةٍ ... تَرَكَتهُمْ مِثلَ الأشاء المُحرَقِ
جَادَت عَليهِم حَربُهُ بِصَوَاعقٍ ... تَرَكَتهُم مِثلَ الرَّمَادِ الأزرَقِ
خلافة المنذر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم كُنيته: أبو الحكم. مولده: سنة 229. أمه: تسمى أثل، ولدته لسبعة أشهر. وزراؤه: أحد عشر. كتابه: اثنان: سعيد بن مبشر، وعبد الملك بن عبج الله بن أمية بن شهيد. حاجبه: عبد الرحمن بن أمية بن شهيد. قوَّاده: سبعة. قاضبه: أبو معاوية عامر بن معاوية اللخمي. نقش خاتمه: المنذر بقضاء الله راض. صفته: أسمر، جعد الشعر، بوجهه أثر جدري، يخضب بالحناء والكتم. أولاده الذكور: خمسة، والإناث: ثمان. بويع يوم الأحد لثمان خلون من ربيع الأول سنة 273، وهو ابن أربع وأربعين سنة، وسبعة عشر يوما؛ وتوفي في

(2/113)


غزاة له على بربشتر يوم السبت للنصف من صفر سنة 275. عمره: ستة وأربعون سنة. خلافته: سنتان إلا سبعة عشر يوما. ودفن بقصر قرطبة، وصلى عليه أخوه عبد الله، جد الناصر.
واتصل به موت أبيه، وهو على حصن الحامة يقاتل المرتد اللعين عمر ابن حفصون؛ فقفل إلى قرطبة. وتمت له البيعة في اليوم الثاني من وصوله؛ ففرق العطاء في الجند، وتحبب إلى أهل قرطبة والرعايا بأن أسقط عنهم عشر العام وما يلزمهم من جميع المغرم.
وكانت أكثر حصون رية قد حصلت في طوع ابن حفصون؛ فبعث إليها الإمام المنذر الأجناد؛ فانصرفت إلى الطاعة.
ولما بلغ ابن حفصون موت الأمير محمد، وانصرف عنه المنذر على ما تقدم، نهض من فوره؛ فراسل الحصون التي بينه وبين الساحل كلها؛ فأجابته وطاعت له. ونهض إلى باغه وجبل شيبة؛ فأخذ من الأموال ما لا يوصف، كل ذلك منه بلا قوة، ولا كثرة من مال، ولا عدد؛ ولكنه كان عذابا من الله ونقمة انتقم بها من عبيده. وانفق له زمان هرج وقلوب قاسية فاسدة ونفوس خبيثة، متطلعة إلى الشرّ، مشرئبة إلى الفتنة. فلما ثار، وجد من الناس انقيادا وقبولا للمشاكلة والموافقة؛ فتألبت له الدنيا، ودخل إلى الناس من جهة الألفة، وقال: (طال ما عنَّف عليكم السلطان، وانتزع أموالكم، وأخرجكم من عبوديتكم!) فكان ابن حفصون لا يورد هذا على أحد إلا أجابه وشكره. فكانت طاعة أهل الحصون بهذا الوجه. وكان أتباعه شطار الناس وشرارهم. فكان يمنيهم بفتح البلاد، وغنائم الأموال. وكان مع ذلك متحببا لأصحابه، متواضعا لألافه. وكان، مع شره وفسقه، شديد الغيرة، حافظا للحرمة؛ فكان ذلك مما يميل النفوس إليه. ولقد كانت المرأة في أيامه تجئ بالمال والمتاع من بلد إلى بلد منفردة، لا يعترضها أحد من خلق الله. وكانت عقوبته السيف، يصدق المرأة

(2/114)


والرجل والصبي أو من كان على من كان، لا يطلب على ذلك شاهدا أكثر من الشكوى. وكان يأخذ الحق من ابنه، ويبر الرجال، ويكرم الشجعان؛ وإذا قدر عليهم، عفا عنهم. وكان يسورهم بأسورة الذهب إذا اختصلوا. فكانت هذه الأشياء كلها عونا له. وانتهى ابن حفصون بعاديته إلى قبرة وما أمامها إلى قرية الجالية، وأغار على القبذيق من إلبيرة، وعلى أحواز جيان، وأسر عبد الله ابن سماعة عامل باغه.
وكان اجتمع إلى حصن آشر من حوز رية وبمقربة من قبرة جمع الشر من أصحاب ابن حفصون. فراع أهل قبرة أمرهم وهابوهم. واتصل بالأمير المنذر خبرهم؛ فأرسل أصبغ بن فطيس في خيل كثيفة إلى حصن آشر؛ فحاصرهم حتى افتتحه، وقتل من كان فيه. وأخرج الأمير المنذر عبد الله بن محمد بن مضر وأبدون الفتى بخيل إلى ناحية لجانة من قبرة؛ وكان بها مسلحة لابن حفصون؛ فنازلوهم وقاتلوهم حتى أفنوهم.
قال الرازيّ: وفي سنة ولاية الإمام المنذر، غزا محمد بن لبّ إلى ألبة والقلاع ومعه جموع المسلمين؛ ففتح الله للمسلمين، وقتلوا المشركين قتلا ذريعا.
وفي هذه السنة، أعني سنة 273، في جمادى الأولى، أمر الأمير المنذر بسجن هاشم بن عبد العزيز وزير أبيه وخاصته، وأمر بقتله في جمادى الأولى؛ وسبب ذلك أن هاشما كان يجسد لمكانه من الأمير محمد وخاصته به؛ فكانوا يسعون به عند المنذر، ويكررون ذلك عليه، حتى تنافرت النفوس. فلما مات الأمير محمد، وولى المنذر، أراد أن يفي له ويتبع فيه فعل أبيه؛ فولاه الحجابة. ثم تمالئوا عليه، وأمثروا، وحرفوا عليه الكلام، وتأولوا عليه أقبح التأويل، حتى نفذ قضاء الله فيه. وكان مما تأولوا عليه أن هاشما أنشد عند مواراة الأمير محمد - رحمه الله! - (وافر) :

(2/115)


أعَزّى يَا مُحَمِّدُ عَنكَ نَفسِي ... أمين الله ذَا المِنَنِ الجِسَامِ
فَهَلاً مَاتَ قَومٌ لَم يَمُوتُوا ... وَدُوفِعَ عَنكَ لِي كاسُ الحِمَام
فتأوَّلوا أنه يريد بقوله (لم يموتوا) المنذر. وكتب هاشم من حبسه إلى جاريته عاج (طويل) :
وَإنّي عَدَاني أن أزُورَكِ مَطبَقٌ ... وبَابٌ مَنِيعٌ بالحديدِ مُضّبَّبُ
فإن تَعجبِي يا عَاجُ ممَّا أصابني ... فَفِي رَيبِ هذا الدَّهرِ مَا يُتعَجبُ
تَرَكتُ رَشادَ الأمِر إذ كنتُ قادِراً ... عَليهِ فَلاقَيتُ الذِي كُنت أرهَبُ
وكم قَائِلٍ قَالَ: أنجُ وَيحَكَ سَالماً ... فَفِي الأرضِ عَنهمُ مسترادٌ ومذهبُ
فَقُلتُ لَهُ: إنَّ الفِرارَ مّذَلةٌ ... ونَفسِي علَى الأسواء أحلَى وأطيَبُ
سأرضَى بِحُكمِ الله فِيمَا يَنُوبُنِي ... ومَا مِن قضَاء اللهِ للِمَرء مَهرَبُ
فَمَن يَكُ أمسَى شَامِناً بي فإنَّهُ ... سَيَنهَلُ في كاسِي وَشِيكاً وَيشرَبُ
ثم بعث فيه الأمير ليلا؛ فقتله، وسجن أولاده وحاشيته، وانتهب ماله، وهدم داره، وألقى أولاده في السجن، وألزمهم غرم مائتي ألف دينار؛ فلم يزالوا في السجن والغرم إلى موت المنذر وولاية أخيه عبد الله؛ ثم أطلقهم عبد الله، وصرف عليهم ضياعهم، وولى أحدهم الوزارة والقيادة.
وفيها، كانت الوقعة على أهل طليطلة وكانوا قد جيشوا البربر المنفيين من ترجيله، فقتل منهم ألوف.
وفي سنة 274، خرج الأمير المنذر بجيوشه إلى عمر بن حفصون؛ فافتتح حصونه برية، والحصون التي بجهة قبرة؛ ثم توجه إلى حضرته بربشتر؛ فحاصره فيها، وأفسد ما حواليه، وضيق عليه؛ ثم انتقل عنه إلى أرجذونة، وبها عيشون؛ فأقام عليها محاصرا لها ومضيقا على أهلها، إلى أن نبذوا عيشونا وأهله، وأسلموه بذنبه؛ فدخلها الأمير المنذر، وقبض على عيشون وأصحابه. وظفر أيضا ببني مطروح، وهم: حرب، وعون، وطالوت، وافتتح حصونهم بجبل باغه، وأتى بهم

(2/116)


إلى الأمير أسارى؛ فبعث ببني مطروح إلى قرطبة، وأمر بقتلهم وصلبهم؛ وكانوا اثنين وعشرين رجلا؛ فصلبوا بأجمعهم؛ وصلب مع عيشون في الخشبة خنزير وكلب. وكان السبب في ذلك أن عيشونا كان يقول: (إذا ظفر بي، فليصلبني وليصلب عن يميني خنزيرا وعن يساري كلبا!) وكان يثق بنفسه في القتال ثقة شديدة، ويأمن من أن يؤخذ لشدته وشجاعته. فلما يئس الأمير منه، دس إلى بعض أهل أرجذونة بأن يتحيل في أخذ عيشون؛ فأجابه، ووعده بأخذه. فلما كان في يعض الأيام، دخل بيت أحدهم بغير سلاح، وقد استعد له بكبل؛ فأوثق به وبعث به إلى الأمير المنذر.
شأن عمر بن حفصون في أيام المنذر - رحمه الله! ولما كان في العام الثاني من ولايته وهي هذه السنة المؤرخة، خرج في عديده الأكثر، وقصد بربشير. فحل عليها أحفل احتلال، وقاتل ابن حفصون بها أشد قتال؛ وانتشرت خيله في تلك الأقطار، واستولت على السهول والأوعار. ثم عطف الأمير إلى مدينة أرجذونة ليتبرها تتبيرا، ويولي أهلها يوما عبوسا قمطريرا، لدخولهم في طاعة ابن حفصون، ونزوعهم إلى ما نزع إليه أهل تلك الحصون، فخرجت رسلهم إلى الأمير؛ فتلقته بالسمع والطاعة، والدخول في جمهور الجماعة؛ فتقبل نزوعهم، وأنس جميعهم. وتغلب على القصبة إثر ذلك؛ وأسر عامل ابن حفصون هنالك. واستمر اللعين ابن حفصون على ضلالته وغيه، ولم يئن عنانا عن عاديته وبغيه. فخرج إليه الأمير ثانية وحاصره حصارا، وقد عدم ابن حفصون أعوانا وأنصارا. فلما رأى الأمير أخذ بمخنقه، وسدَّ أفواه طرقه، أعمل سوانح الفكر، في الخديعة والمكر، ليعتصم بذلك من تلك الجبال المنصوبة، والأشراك المعترضة المضروبة؛ فأظهر الإنابة إلى الطاعة، وشهر النصيحة جهد الاستطاعة، على أن يكون عند الأمير من خاصة جنده، ويسكن قرطبة بأهله وولده، وأن يلحق أبناءه في الموالي، ويتابع الإحسان قبله ويوالي. فأجابه

(2/117)


الأمير إلى مطلبه بأكبد الأيمان؛ وكتب له بذلك مبادرا عقد أمان، وقطع لأولاده أرفع الثياب؛ وأوفرت لهم الدواب، بالأموال والأسباب، إسباغا عليهم بالإفضال، وتوسيعا لهم في الأماني والآمال. وسألا اللعين مائة بغل يحمل عليها جملة متاعه وعياله، وجعل طلبها قوة لمكره واحتياله. فأمر الأمير بالبغال أن تحمل إليه، وتوضع بين يديه؛ وقد جعل عليها عشرة من العرفاء بمائة وخمسين فارسا إتماما للإكرام، وإنعاما على إنعام. فأرسل عمر بن حفصون جميعهم إلى بربشتر حيث أهله وولده، وطريفة من المال ومتلده. وانحل العسكر عن الحصن إذ ذاك، وقفل القاضي والفقهاء عن تمام الصلح من هناك، وظنهم قد غلب أن لا كذب ولا مين، وأن قد نيل من الراحة من شغبه أملا وقرة عين. فلما انفض جمع ذلك العسكر، وانتفض ذلك المعسكر، ودخل الليل، وامتد للفاتك الذَّبل، هرب عمر بن حفصون من ذلك الحصن، وسار إلى بربشتر في ظل الأمن. فلقي العرفاء؛ فناصبهم القتال، وأخذ تلك البغال، وعاد إلى سيرته الأولى، وقال لشيعته: [أنا ربكم الأعلى!] فأقسم الأمير المنذر أن يقصده ويحل عليه، ولا يقبل منه أو يلقى بيده إليه؛ فأعمل الغزو إلى بربشتر، وجمع لها الجمع الأكبر. فلما احتل عليها، أمر أن يحدق بها، ويحاط بجوانبها، وأن يعتزم لقتالها اعتزاما، ويلتزم محاصرتها التزاما.
فظهر من حزم الأمير المنذر وعزمه ما يئس معه ابن حفصون، من البقاء في تلك الحصون. فبقى الأمير على حصن بربشتر، برومه روما، مدة من ثلاثة وأربعين يوما. وكان قد أصابته علة أكرثت نفسه، وكدرت أنسه؛ فبعث في أخيه عبد الله لينوب منابه، وينتدب في تلك الحال انتدابه. فلما وصل إليه، وحصل في المظلة لديه، خرجت في الحين روحه، وبكاه من كان يغدوه ويروحه. فوقع الخرم في العسكر إثر موته، وتفرق الناس عند فوته. ولم يقدر أخوه عبد الله على ضبطهم، وعقد ما انحل من ربطهم. واستطال عمر بن حفصون

(2/118)


في المحلة، وانتهبها بالجملة. وحمل الأمير المنذر على جمل إلى قرطبة؛ فدفن مع أجداده هنالك، وصار عند الناس أهون مفقود وأيسر هالك، إذ كان قد اضطرهم في ذلك المقام، وندبهم إلى الثبات هنالك والمقام.
وفي هذه السنة، كان القحط الشديد بالأندلس؛ فاستسقى الناس. فنزل ثلج كثير في أول يوم من ينير، ولم ينزل غيث. ثم استسقوا مرارا؛ فلم يمطروا؛ فخامر الناس القنط. فلما دخل من فبرير بعض أيام، سقى الناس، وارتفع الناس؛ فاستبشروا بفضل الله، وأعلنوا بشكره. فقال العكي في ذلك، يمدح الأمير المنذر (كامل) :
نَزَلَ الحَيَا المُحيي وطابَتْ أنفُسُ ... إذ كان سُوء الظَّنِّ فيها يَهجِسُ
أحْيَى الإلهُ عِبَادَهُ من بَعْدِ ما ... كانت من القنطِ النفوسُ تُوسَوِسُ
مُتلافياً فيه بعائدِ رَحمةٍ ... لَولا عَوَائدُها طَوَتنَا الأبْؤُسُ
مَلِك الملوك تقدَّسَت أسماؤهُ ال ... حُسنى وعَزَّ جَلالَه المُتَقَدِّسُ
ومنها:
بالمنُذرِ المَيمُونِ طَلبَ زَمانُنا ... ويِطيبِ دَولَتِهِ تِطيبُ الأنفُسُ
إلى قوله:
خُذْها أمِين الله وابن أمِينِهِ ... من شاكِرٍ في الشُّكرِ لَيْسَ يُدَلِسُ
وفي سنة 275، توفي الأمير المنذر - رحمه الله! - وقد ذكر موته على حصن بربشتر محاصرا للخبيث ابن حفصون. وكانت وفاته منتصف شهر صفر من السنة المذكورة، وهو ابن ست وأربعون سنة. وملك سنتين إلا أياما.

(2/119)


بعض سيره وأخباره
كان الأمير المنذر - رحمه الله! - يحبُّ إخوته، ويكرمهم، ويدنى مجالسهم، ويصلهم، ويحضرهم مجالس أنسه. وكان يجزل العطاء للشعراء؛ فينشدونه غازيا وراجعا. وكان من شعرائه أحمد بن عبد ربه، والعكي، وغيرهما. ولم يكن أحد من الخلفاء قبله مثله شجاعة وصرامة وعزما وحزما. ولقد بلغ في سنة بذلك ما لم يبلغه غيره في الدهر. ولقد كان أبطال الرجال وأنجادهم من أهل الفتنة يذعنون إليه دون محنة، ويرسلون إليه بالطاعة قبل أن يطلبها. وإن الخبر المستفيض عن الشيوخ أنه، لو عاش المنذر عاما واحدا زائدا، لم يبق برية منافق؛ وأخباره تدل على ذلك. وأول أخباره الدالة على ذلك أنه، لما أتاه موت أبيه، لم يمنعه ذلك من التعريج عن القصد واختصار الطريق، ولا شغله أمر مهم ولا أمر جليل عن آخر؛ فجعل طريقه على رية؛ فهذب أمورها، وولى عليها سليمان بن عبد الملك بن أخطل، وعبد الرحمن بن حريش، وأدخل معهما أهل المعاقل من العرب والحشم. ثم جمع في يوم ولحد مبايعته، وإعطاء الجند، والنظر فيما أسقط من الأزمة عن الرعية، وما فعله من الاستحماد إلى أهل قرطبة بإسقاط العشور عنهم، والنظر في الندب وإخراج القائد. وهكذا كان فعله في جميع أسبابه؛ ويحسب ذلك كان انقياد الأشياء له.