العبر في خبر من غبر، من سنة 461 إلى 470
سنة إحدى وستين
وأربعمئة
في نصف شعبان، احترق جامع دمشق كله، من حرب وقع بين الدولة، فضربوا
بالنار داراً مجاورةً للجامع، فقضي الأمر، واشتد الخطب، وأتى الحريق
على سائره، ودثرت محاسنه، وانقضت مدة ملاحته.
وفيها توفي الفوراني، أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن فوران المروزي،
شيخ الشافعية، وتلميذ القفّال، وذو التصانيف الكثيرة، وعنه أخذ أبو سعد
المتولّي، صاحب التتمة، وكان صاحب النهاية، يحطُّ على الفوراني بلا
حجة.
وعبد الرحيم بن أحمد البخاري الحافظ، أبو زكريا، ذو الرحلة الواسعة،
سمع ببخارى من الحليمي، وبخراسان من أبي يعلى المهلَّبي، وبدمشق من
تمام، وبمصر من عبد الغني بن سعيد، وببغداد من أبي عمر بن
(2/311)
مهدي، وعاش تسعاً وسبعين سنة.
وأبو الحسين محمد بن مكي بن عثمان الأزدي المصري، روى بمصر ودمشق عن
أبي الحسن الحلبي، ومحمد بن أحمد الأخميمي وطبقتهما، توفي في جمادى
الأولى بمصر، وله ست وسبعون سنة، وثّقه الكتّاني وغيره. ومقرئ مصر، أبو
الحسين نصر بن عبد العزيز الفارسي الشيرازي، شيخ ابن الفحام، قرأ
القراءات على السوسنجردي، وابن الحمّامي، وجماعة.
وروي الحديث.
سنة اثنتين وستين وأربعمئة
فيها أقبلت جيوش الروم، فنزلوا على منبج واستباحواها، وأسرعوا الكرّة،
لفرط القحط، أبيع فيهم رطل الخبز بدينار.
وفيها أقيمت الخطبة العباسيّة بالحجاز، وقطعت خطبة المصريين، لآشتغالهم
بما هم من القحط والوباء، الذي لم يسمع في الدهور بمثله، وكاد الخراب
يستولي على وادي مصر، حتى إن صاحب " مرآة الزمان "، نقل شيئاً الله
أعلم بصحّته، أن امرأة خرجت وبيدها مدّ جوهر، فقالت من يأخذه بمدّ برّ،
فلم يلتفت إليها أحد، فألقته في الطريق وقالت هذا ما نفعني وقت الحاجة،
فلا أريده، فلم يلتفت أحد إليه.
ولما جاءت البشارة بإقامة الدعوة بمكة، أرسل السلطان ألب أرسلان إلى
صاحبها، محمد بن أبي هاشم، ثلاثين ألف دينار وخلعاً.
وفيها توفي القاضي حسين بن محمد بن أحمد، أبو علي المروزي
(2/312)
المروروذيّ، شيخ الشافعية في زمانه، وأحد
أصحاب الوجوه، تفقه على أبي بكر القفّال، وروى عن أبي نعيم
الاسفراييني، توفي في المحرم.
وأبو غالب بن بشران الواسطي، صاحب اللغة، محمد بن أحمد بن سهل المعدَّل
الحنفي، ويعرف بابن الخالة، وله اثنتان وثمانون سنة، وله يكن بالعراق
أعلم منه باللغة، روى عن أحمد بن عبيد بن بيري وطبقته.
وأبو عبد الله محمد بن عتّاب الجذامي مولاهم المالكي، مفتي قرطبة
وعالمها ومحدّثها وروعها، توفي في صفر، ومشى في جنازته المعتمد بن
عبّاد، وله تسع وسبعون سنة، روى عن أبي المطرّف القنازعي وخلق.
سنة ثلاث وستين وأربعمئة
فيها أقام صاحب حلب، محمود بن صالح الكلابي، الخطبة العباسية، وقال
للحلبيّين: هذه دولة عظيمة نخافها، وهم يستحلّون دماءكم للتشيُّع،
فأجابوا. ولبس الخطيب السواد، وأخذت رعاع الرافضة حصر الجامع، وقالوا:
هذه حصر الإمام علي، فليأت أبو بكر بحصره. وجاءت محموداً الخلع من طراد
الزينبي، ثم قليل، جاء السلطان ألب أرسلان، وحاصر محموداً، فخرجت أمه
بتقادم وتحف، فترحّل عنهم.
وفيها كانت الملحمة الكبرى. قال ابن الأثير: خرج أرمانوس في مائتي ألف
من الفرنج والروم والروس والكرج، فوصل إلى منازجرد، فبلغ السلطان
كثرتهم، وهو نجوى وما عنده سوى خمسة عشر ألف فارس، فصمّم على الملتقى،
وقال إن استشهدت فابني ملكشاه ولي عهدي، فلما التقى الجمعان، أرسل يطلب
المهادنة، فقال طاغية الروم: لا هدنة إلا بالريّ، فاحتدّ ألب أرسلان،
وجرى المصافّ يوم الجمعة، والخطباء على المنابر، ونزل السلطان وعفَّر
(2/313)
وجهه في التراب، وبكي وتضرّع، ثم ركب وحمل،
فصار المسلمون في وسط القوم، وصدقوا اللقاء، وقتلوا الروم كيف شاءوا،
ونزل النصر، وانهزمت الروم، وامتلأت الأرض بالتقتلى، وأسر أرمانوس،
فأحضر إلى السلطان، فضربه ثلاثة مقارع بيده، وقال: ألم أرسل إليك في
الهدنة فأبيت؟ فقال: دعني من التوبيخ وافعل ما تريد، قال: ما كنت تفعل
لو أسرتني؟. قال: فما كنت تظن أن أفعل بك؟ قال: إما أن تقتلني، وإمّا
أن تشهِّر بي في بلادك، وأبعدها العفو.
قال: ما عزمت على غير هذه، ثم فدى نفسه بألف ألف وخمسمئة ألف دينار،
وبكل أسير في مملكته، فخلع عليه، وأطلق له عدّة من البطارقة، وهادنه
خمسين سنة، وشيَّعه فرسخاً، وأعطاه عشرة آلاف دينار برسم الطريق، فقال:
أين جهة الخليفة، فعرّفوه. فكشف رأسه وأومأ إلى الجهة بالخدمة، وأما
المنهزمون ففقدوه، وملّكوا عليهم ميخائيل، فلما وصل هذا إلى أطراف
بلاده، ترهّب وتزهَّد، وجمع ما أمكنه، فكان مئتين وتسعين ألف دينار،
فأرسله وحلف أنه لا يقدر على غيره، ثم إنه استولى على بلاد الأرمن.
قال: وفيها سار أتسز بن أوق الخوارزمي، أحد أمراء الملك ألب أرسلان،
فدخل الشام وافتتح الرَّملة، أخذها من المصريين، ثم حاصر بيت المقدس،
فأخذه منهم، ثم حاصر دمشق، وعاث عسكره وأخربوا أعمال دمشق.
وفيها توفي أبو حامد الأزهري، أحمد بن الحسن بن محمد بن الحسن ابن
الأزهر النيسابوري الشُّرطي الثقة. روى عن أبي محمد المخلدي وجماعة،
ومات في رجب، عن تسع وثمانين سنة، وآخر أصحابه وجيه.
وأبو بكر الخطيب، أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي
(2/314)
البغدادي الحافظ، أحد الأئمة الأعلام،
وصاحب التواليف المنتشرة في الإسلام.
قال: ولدت سنة اثنتين وتسعين وثلاثمئة، وسمعت في أول سنة ثلاث
وأربعمئة.
قال ابن ماكولا: لم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثل الخطيب.
قلت: روى عن أبي عمر بن مهدي، وابن الصَّلت الأهوازي وطبقتهما، ورحل
إلى البصرة ونيسابور وأصبهان ودمشق والكوفة والريّ، توفي ببغداد في
سابع ذي الحجة.
وابن زيدون، شاعر الأندلس، أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد ابن
غالب بن زيدون المخزومي القرطبي، توفي في رجب بإشبيليّة، وكان عزيزاً
على المعتمد بن عبّاد، كأنه وزيرٌ له.
وأبو علي حسان بن سعيد بن سعيد المنيعي، ورئيس مرو الروذ، الذي عمّ
خراسان ببرّه وأفضاله، وأنشأ الجامع المنعيعي، وكان يكسو في العام نحو
ألف نفس، وكان أعظم من وزير، رحمه الله. روى عن أبي طاهر بن محمش
وجماعة.
وأبو عمر المليحي، عبد الواحد بن أحمد بن أبي القاسم الهروي المحدّث،
رواي الصحيح عن النعيمي، في جمادى الآخرة، وله ست وتسعون سنة، سمع
بنيسابور من المخلدي، وأبي الحسين الخفاف وجماعة، وكان ثقة صالحاً،
أكثر عنه محي السنّة.
وكريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم، أم الكرام المروزيّة المجاورة
(2/315)
بمكة، روت الصحيح عن الكشميهني وروت عن
زاهر السرخسي، وكانت تضبط كتابها وتقابل نسخها، ولها فهم ونباهة، وما
تزوّجت قط، وقيل إنها بلغت المائة، وسمع منها خلق.
وأبو الغنائم بن الدجاجي، محمد بن علي البغدادي. روي. عن علي بن عمر
الحربي، وابن معروف وجماعة. توفي في شعبان، وله ثلاث وثمانون سنة.
وأبو علي محمد بن وشاح الزينبي، روى عن أبي حفص بن شاهين وجماعة. قال
الخطيب: كان معتزلياً.
قلت: توفي في رجب.
وابو عمر بن عبد البر، يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم
النَّمري الحافظ القرطبي، أحد الأعلام، وصاحب التصانيف، توفي في سلخ
ربيع الآخر، وله خمس وتسعون سنة وخمسة أيام، روى عن سعيد بن نصر وعبد
الله بن أسد، وابن ضيفون وطبقتهم، وأجاز له من مصر، أبو الفتح بن
سيبخت، الذي يروي عن أبي القاسم البغوي، وليس لأهل المغرب أحفظ منه، مع
الثقة والدين والنزاهة، والتبحر في الفقه والعربية والأخبار.
سنة أربع وستين وأربعمئة
فيها توفي أبو الحسن، جابر بن ياسين البغدادي الحنَّائي العطار، روى عن
أبي حفص الكتَّاني، والمخلّص.
والمعتضد بالله، أبو عمرو عبّاد بن القاضي محمد بن إسماعيل بن عبّاد
اللَّخمي، صاحب إشبيليّة، ولي بعد أبيه، وكان شهماً مهيباً صارماً
داهية
(2/316)
مقداماً، جرى على سنن أبيه مدة، لم يلقب
بأمير المؤمنين، وقتل جماعة صبراً، وصادر آخرين، ودانت له الملوك.
وابن حيدٍ، أبو منصور بكر بن محمد بن علي بن محمد بن حيدٍ النيسابوري
التاجر، ويلقب بالشيخ المؤتمن. روى عن أبي الحسين الخفاف وجماعة، وكان
ثقة، حدَّث بخراسان والعراق، وتوفي في صفر.
سنة خمس وستين وأربعمئة
فيها قتل ألب أرسلان، وتسلطن ابنه ملكشاه، فجاء قاروت بك بجيشه من
كرمان، ليستولي على ممالك ألب أرسلان أخيه، فالتقاه ابن أخيه ملكشاه
بناحية همذان، فانهزم جيش قاروت بك، وأسر هو، فخنقه ابن أخيه ملكشاه.
وفيها افترق جيش مصر، واقتتلوا عند كوم الرّيش، وكانت ملحمة مشهورة،
وقتل نحو الأربعين ألفاً، ثم التقوا مرَّة ثانية، وكثر القتل في
العبيد، وانتصر الأتراك، وضعف المستنصر، وأنفق خزائنه في رضاهم، وغلبت
العبيد على الصعيد، ثم جرت لهم وقعات، وعاد الغلاء المفرط والوباء،
ونهبت الجند دور العامة. قال ابن الأثير: اشتد الغلاء والوباء، حتى
إنَّ أهل البيت، كانوا يموتون في ليلة، وحتى حكى أنَّ امرأة أكلت
رغيفاً بألف دينار، فاستبعد ذلك، فقيل إنها باعت عروضاً لها ألف دينار،
بثلاثمئة دينار، واشترت بها حملة قمح وحمله الحمّال على ظهره، فنهبت
الحملة، فنهبت المرأة مع الناس، فحصل لها رغيف واحد.
(2/317)
وفيها توفي السلطان الكبير، عضد الدولة أبو
شجاع، محمد ألب أرسلان، ابن الملك جغرايبك، وهو داود بن ميكائيل بن
سلجوق بن نفاق بن سلجوق - ونفاق بالتركي: قوس حديد - ونفاق أول من دخل
في دين الإسلام، وألب أرسلان، أوَّل من قيل له السلطان على منابر
بغداد، وكان في أواخر دولته من أعدل الناس، ومن أحسنهم سيرة، وأرغبهم
في الجهاد، وفي نصر الإسلام، لم عبر بهم جيحون، في صفر، ومعه نحو مئتي
ألف فارس، وقصد تكين بن طمغاخ، فأتى بمتولّي قلعة، اسمه يوسف
الخوارزمي، فأمر بأن يشبح بأربعة أوتاد، فقال: يا مخنّث، مثلي يقتل
هكذا؟ فغضب السلطان، فأخذ القوس والنشّاب وقال: خلّوه، ورماه فأخطأه -
وكان قلّ أن يخطئ - فشدّ يوسف عليه، فنزل السلطان عن السرير، فعثر،
فبرك عليه يوسف، وضربه بسكين معه، في خاصرته، فشدّ مملوك على يوسف
قتله، ثم مات السلطان من ذلك الجرح، عن أربعين سنة وشهرين، وكان أهل
سمرقند قد خافوه، وابتهلوا إلى الله، وقرأوا الختم ليكفيهم أمر ألب
أرسلان، فكفوا.
وابن المأمون، أبو الغنائم عبد الصمد بن علي بن محمد بن محمد الهاشمي
العباسي البغدادي، في شوال، وله تسع وثمانون سنة. سمع جدّه أبا الفضل
بن المأمون، والدارقطني وجماعة. قال أبو سعد بن السمعاني: كان ثقة
نبيلاً مهيباً، تعلوه سكينة ووقار، رحمه الله.
(2/318)
وأبو القاسم القشيري، عبد الكريم بن هوازن
النيسابوري الصوفي الزاهد، شيخ خراسان، وأستاذ الجماعة، ومصنّف "
الرسالة " توفي في ربيع الآخر، وله تسعون سنة، روى عن أبي الحسين
الخفّاف، وأبي نعيم الإسفراييني وطائفة. قال أبو سعد السمعاني: لم ير
أبو القاسم مثل نفسه، في كماله وبراعته، جمع بين الشريعة والحقيقة.
وصرَّدرَّ الشاعر، صاحب الديوان، أبو منصور علي بن الحسن بن علي ابن
الفضل البغدادي الكاتب المنشئ، وقد روى عن أبي الحسين بن بشران وجماعة.
وابو جعفر بن المسلمة، محمد بن أحمد بن محمد بن عمر بن الحسن السلمي
البغدادي، ثقة نبيل، عالي الإسناد، كثير السّماع، متين الديانة، توفي
جمادى الأولى، عن إحدى وتسعين سنة، وهو آخر من روى عن أبي الفضل
الزُّهري، وأبي محمد بن معروف.
وابن الغريق الخطيب، أبو الحسين محمد بن علي بن محمد بن عبيد الله ابن
عبد الصمد بن محمد بن الخليفة المهتدي بالله محمد، بن الواثق العباسي،
سيّد بني العباس في زمانه وشيخهم، مات في أول ذي الحجة، وله خمس وتسعون
سنة، وهوآخر من حدَّث عن ابن شاهين والدارقطني، وكان ثقةً نبيلاً
صالحاً متبتلاً، كان يقال له راهب بني هاشم لدينه وعبادته، وسرده
الصوم.
وهنّاد بن إبراهيم، أبو المظفر النسفي، صاحب مناكير وعجائب، روى
(2/319)
عن القاضي أبي عمر الهاشمي، وغنجار
وطبقتهما.
وأبو القاسم الهذلي، يوسف بن علي بن جبارة المغربي، المقرئ المتكلم
النحوي، صاحب كتاب " الكامل في القراءات " وكان كثير الترحال، حتى وصل
إلى بلاد التُّرك، في طلب القراءات المشهورة والشاذة.
سنة ست وستين وأربعمئة
فيها كان الغرق الكثير ببغداد، فهلك خلق تحت الردم، وأقيمت الجمعة في
الطيّار على ظهر الماء، وكان الموج كالجبال، وبعض المحال غرقت
بالكليّة، وبقيت كأن لم تكن، وقيل إنّ ارتفاع الماء، بلغ ثلاثين
ذراعاً.
وفيها توفي أبو سهل الحفصي، محمد بن أحمد بن عبيد الله المروزيّ، راوي
الصحيح عن الكشميهني. كان رجلاً عامياً مباركا ً، سمع منه نظام الملك،
وأكرمه وأجزل صلته.
وابو محمد الكتَّاني، عبد العزيز بن أحمد التميمي الدمشقي الصوفي
الحافظ. روى عن تمّام الرازي وطبقته ورحل سنة سبع عشرة وأربعمئة، إلى
العراق والجزيرة، وكان يفهم ويذاكر. قال ابن ماكولا: مكثر متقن.
قلت: توفي في جمادى الآخرة.
وأبو بكر العطار، محمد بن إبراهيم بن علي الحافظ الأصبهاني، مستملي
الحافظ أبي نعيم. روى عن ابن مردويه والقاضي أبي عمر الهاشمي وطبقتهما،
قال الدقاق: كان من الحفّاظ يملي من حفظه، توفي في صفر.
(2/320)
وابن حيُّوس، الفقيه أبو المكارم، محمد بن
سلطان الغنوي الدمشقي الفرضي. روى عن خاله أبي نصر بن الجندي، وعبد
الرحمن بن أبي نصر، توفي في ربيع الآخر.
ويعقوب بن أحمد، أبو بكر الصيرفي النيسابوري العدل. روى عن أبي محمد
المخلدي والخفاف، توفي في ربيع الأول.
سنة سبع وستين وأربعمئة
قال ابن الأثير: قد مرّ في سنة خمسٍ، تغلّب الأتراك وبني حمدان على
مصر، وعجز المستنصر عنهم، وما صار إليه من الشدّة والفقر، وقتل ابن
حمدان، فراسل المستنصر بدراً الجمالي، وهو بساحل الشام، فاستخدم جيشاً،
وسار في هذه السنة من عكّا في البحر زمن الشتاء، وخاطر لأنه أراد أن
يبغت مصر، وكان هذا الأمر بينه وبين المستنصر سراً، فسلم ودخل مصر،
فولاه المستنصر الوزارة، ولقَّبه أمير الجيوش، فبعث طوائف من أصحابه،
إلى قوّاد مصر الكبار، فبعث إلى كل أميرٍ طائفة ليأتوه برأسه، ففعلوا.
وأصبح وقد فرغ من أمر الديار المصرية، ونقل جميع حواصلهم إلى دار
الخلافة، فعاد إليه جميع ما كان أخذ منه إلا القليل، ثم سار إلى دمياط،
وقد عصى بها طائفة فقتلهم، ثم أخذ الاسكندرية عنوةً، وقتل جماعة، ثم
سار إلى الصعيد فهذّبه، وقتل به اثني عشر ألفاً، وأخذ النساء والمتاع،
فتجمّع لحربه عشرون ألف فارس، وأربعون ألف راجل، وعسكروا.
فبيّتهم نصف الليل فانهزموا، وقتل منهم خلائق، ثم عمل بعد ذلك معهم
مصافّاً، فهزمهم. ثم أخذ يعمرِّ البلاد، فأطلق للفلاحين الكلف، ثم عث
الهدايا إلى صاحب مكّة، فأعاد خطبة المستنصر، بعد أن كان خطب للقائم
بأمر الله أربعة أعوام.
(2/321)
وفيها عمل السلطان ملكشاه الرّصد، وأنفق
عليه أموالاً عظيمة.
وفيها توفي أبو عمر بن الحذَّاء، محدِّث الأندلس، أحمد بن محمد بن يحيى
القرطبي، مولى بني أميّة، حضَّه أبوه على الطَّلب في صغره، وكتب عن عبد
الله بن أسد، وعبد الوارث بن سفيان، وسعيد بن نصر، والكبار، في سنة
ثلاث وتسعين وثلاثمئة، وانتهى إليه علوّ الإسناد بقطره، توفي في ربيع
الآخر، عن سبع وثمانين سنة.
والقائم بأمر الله، أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله أحمد بن إسحاق
بن المقتدر العباسي، توفي في شعبان، وله ست وسبعون سنة، وبقي في
الخلافة أربعاً وأربعين سنة وتسعة أشهر، وأمُّه أرمنيّ ة، كان أبيض
مليح الوجه مشرباً حمرة، ورعاً ديِّناً كثير الصدقة، له وفضل من خير
الخلائق، ولا سيَّما بعد عوده إلى الخلافة، في نوبة البساسيري، فإنه
صار يكثر الصيام والتَّهجُّد، غسَّله الشريف أبو جعفر بن أبي موسى، شيخ
الحنابلة، وبويع حفيده المقتدي بأمر الله، عبد الله بن محمد بن القائم.
وأبو الحسن الدَّاوودي، جمال الإسلام عبد الرحمن بن محمد بن المظفَّر
البوشنجي، شيخ خراسان علماً وفضلاً وجلالة وسنداً، روى الكثير عن أبي
محمد بن حمويه، وهو آخر من حدَّث عنه، وتفقه على القفّال المروزيّ،
وأبي الطيّب الصُّعلوكي، وأبي حامد الإسفراييني، توفي في شوال، وله
أربع وتسعون سنة.
(2/322)
وأبو الحسن الباخرزي، الرئيس الأديب، علي
بن الحسن بن أبي الطيّب، مؤلف كتاب " دمية القصر " وكان رأساً في
الكتابة والإنشاء والشعر، قتل بباخزر، في ذي القعدة مظلوماً.
وأبو الحسن بن صصري، علي بن الحسن بن أحمد بن محمد التَّغلبي البلدي ثم
الدمشقي المعدَّل. روى عن تمَّام الرازي وجماعة. توفي في المحرم.
وأبو بكر الخيّاط، مقرئ العراق، محمد بن علي بن محمد بن موسى الحنبلي،
الرجل الصالح، سمع من إسماعيل بن الحسن الصَّرصري، وأبي الحسن
المجبِّر، وقرأ على أبي أحمد الفرضي، وأبي الحسن السُّوسنجردي وجماعة،
توفي في جمادى الأولى.
ومحمود بن نصر بن صالح بن مرداس، الأمير عزّ الدولة الكلابي صاحب حلب،
ملكها عشرة أعوام، وكان شجاعاً فارساً جواداً ممدَّحاً، يداري المصريين
والعباسيين، لتوسط داره بينهما، وولي بعده ابنه نصر، فقتله بعض الأتراك
بعد سنة.
سنة ثمان وستين وأربعمئة
فيها حاصر أتسز الخوارزمي دمشق، واشتدّ بها الغلاء، وعدمت الأقوات، ثم
تسلَّم البلد بالأمان، وعوَّض انتصار المصمودي ببانياس ويافا، وأقيمت
الخطبة العباسية، وأبطل شعار الشِّيعة من الأذان
(2/323)
وغيره، واستولى تسز على أكثر الشام، وعظم
ملكه.
وفيها توفي أبو علي، غلام الهرَّاس، مقرئ واسط، الحسن بن القاسم
الواسطي، ويعرف أيضاً بإمام الحرمين، كان أحد من عني بالقراءات، ورحل
فيها إلى بلاد، وصنّف فيها. قرأ على أبي الحسن السوسنجردي والحمامي
وطبقتهما، ورحل القرَّاء إليه من الآفاق، وفيه لينٌ، توفي في جمادي
الأولى، عن أربع وتسعين سنة.
وعبد الجبار بن عبد الله بن إبراهيم بن برزة، أبو الفتح الرّازي الواعظ
الجوهري التاجر، روى عن علي بن محمد القصّار وطائفة، وعاش تسعين سنة،
وآخر من حدَّث عنه، إسماعيل الحمّامي.
وأبو نصر التاجر، عبد الرحمن بن علي النيسابوري المزكّي، روى عن يحيى
بن إسماعيل الحربي النيسابوري وجماعة.
وأبو الحسن الواحدي المفسّر، علي بن أحمد النيسابوري، تلميذ أبي إسحاق
الثَّعلبي، وأحد من برع في العلم. روى في كتبه عن ابن محمش، وأبي بكر
الحيري وطائفة، وكان رأساً في اللغة والعربية، توفي في جمادى الآخرة،
وكان من أنباء السبعين.
وابن عليّك، أبو القاسم علي بن عبد الرحمن بن الحسن النيسابوري، روى عن
أبي نعيم الإسفراييني وجماعة. وقال ابن نقطة، حدَّث عن أبي الحسين
الخفّاف، مات في رجب بتفليس.
(2/324)
وأبو بكر الصفّار، محمد بن القاسم بن حبيب
بن عبدوس النيسابوري الشافعي، أحد الكبار المفتيين تفقّه على أبي محمد
الجويني، وجلس بعده في حلقته، وروى عن أبي نعيم الإسفراييني وطائفة،
توفي في ربيع الآخر.
وأبو القاسم المهرواني، يوسف بن محمد الهمذاني الصوفي العبد الصالح،
الذي خرّج له الخطيب خمسة أجزاء. روى عن أبي أحمد الفرضي، وأبي عمر بن
مهدي، ومات في ذي الحجة.
ويوسف بن محمد بن يوسف، أبو القاسم الخطيب، محدّث همذان وزاهدها، روى
عن أبي بكر بن لال، وأبي أحمد الفرضي، وأبي عمر بن مهدي وطبقتهم. وجمع
ورحل، وعاش سبعاً وثمانين سنة.
سنة تسع وستين وأربعمئة
فيها سار أتسز صاحب الشام، فقصد مصر وحاصرها، ولم يبق إلا أن يملكها،
فاجتمع الخلق وتضرّعوا إلى الله مما هم فيه، فترحَّل عنهم شبه المنهزم
من غير سبب، وأتى القدس، فعصوا عليه، فقاتلهم. ثم دخل البلد عنوةّ،
وعمل كل قبيح، وذبح القاضي والشهود، وقتل بها نحواً من ثلاثة آلاف نفس.
وفيها كانت فتنة أبي نصر بن القشيري ببغداد، قدم فوعظ بالنظاميّة وحاب
في الوعظ الاعتقاد، ونصر الأشاعرة، وحطَّ على الحنابلة، فهاجت أحداث
السُّنّة، وقصدوا النظاميّة، وحميت الفتنة، وقتل بها نحواً من ثلاثة
آلاف نفس.
وفيها كانت فتنة أبي نصر بن القشيري ببغداد، قدم فوعظ بالنظامية، وحاب
في الوعظ الاعتقاد، ونصر الأشاعرة، وحطَّ على الحنابلة، فهاجت أحداث
السُّنّة، وقصدوا النظاميّة، وحميت الفتنة، وقتل جماعة، نعوذ بالله من
الفتن.
وفيها توفي أبو الحسن أحمد بن عبد الواحد بن أبي الحديد السُّلمي،
(2/325)
أحد رؤساء دمشق وعدولها، روى عن جدّه أبي
بكر محمد بن أحمد بن عثمان، وجماعة. وسمع بمكة من ابن جهضم، توفي في
ربيع الأول، في عشر التسعين.
وحاتم بن محمد بن الطرابلسي، أبو القاسم التميمي القرطبي، المحدِّث
المتقن، مسند الأندلس، في ذي القعدة، وله إحدى وتسعون سنة. روى عن عمر
بن نابل، وأبي المطرَّف بن فطيس وطبقتهما. ورحل فأكثر عن أبي الحسن
القابسي، وسمع بمكة من ابن فراس العبقسي، وكان فقيهاً مفتياً، قيل إنه
دعي إلى قضاء قرطبة فأبى.
وحيَّان بن خلف بن حسين بن حيّان، أبو مروان القرطبي الأديب، مؤرِّخ
الأندلس ومسندها، توفي في ربيع الأول، وله اثنتان وتسعون سنة. سمع من
عمر بن نابل وغيره، وله كتاب " المتين " في تاريخ الأندلس، ستّون
مجلداً، وكتاب " المقتبس " في عشر مجلدات، وقد رئي في النوم، فسئل عن
التاريخ الذي عمله فقال: لقد ندمت عليه، إلا أنَّ الله تعالى أقالني
وغفر لي بلطفه.
وحيدرة بن علي الأنطاكي، أبو المنجَّا المعبِّر حدّث بدمشق عن عبد
الرحمن بن أبي نصر وجماعة. قال ابن الأكفاني: كان يذكر أنه يحفظ في علم
التعبير، عشرة آلاف ورقة وزيادة.
وأبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ المصري الجوهري النحوي، صاحب
التصانيف، دخل بغداد تاجراً في الجوهر، وأخذ عن علمائها، وخدم بمصر في
ديوان الإنشاء، ثم تزهّد بآخرة، ثم سقط من السطح فمات.
(2/326)
وكرَّكان الزاهد القدوة، أبو القاسم عبد
الله بن علي الطوسي، شيخ الصوفية، وصاحب الدويرة والأصحاب، روى عن حمزة
المهلَّبي وجماعة، ومات في ربيع الأول.
وأبو محمد الصَّريقيني، عبد الله بن محمد بن عبد الله بن هزارمرد
المحدّث، خطيب صريفين، توفي في جمادى الآخرة، عن خمس وثمانين سنة، روى
عن أبي القاسم بن حبابة، وأبي حفص الكتّابي وطائفة، وكان ثقة.
سنة سبعين وأربعمئة
وفيها كانت فتنة هائلة ببغداد، بسبب الاعتقاد، ووقع النهب في البلد،
واشتدّ الخطب، وركب العسكر، وقتلوا جماعة، حتى فتر الأمر.
وفيها توفي أبو صالح المؤذِّن، أحمد بن عبد الملك بن علي النيسابوري
الحافظ، محدّث خراسان في زمانه، روى عن أبي نعيم الإسفراييني، وأبي
الحسن العلوي، والحاكم، وخلق. ورحل إلى أصبهان وبغداد ودمشق، في حدود
الثلاثين وأربعمئة، وله ألف حديث، عن ألف شيخ، وثّقه الخطيب وغيره،
ومات في رمضان، عن اثنتين وثمانين سنة، وله تصانيف ومسوَّدات.
وابو الحسين بن النَّقور، أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي البزاز،
المحدّ! ث الصدوق. روى عن علي الحربي، وأبي القاسم بن حبابة وطائفة،
وكان يأخذ على نسخة طالوت ديناراً، أفتاه بذلك الشيخ أبو إسحاق، لأن
الطلبة
(2/327)
كانوا يفوّتونه الكسب لعياله، مات في رجب،
عن تسعين سنة.
وابو نصر بن طلاب الخطيب، الحسين بن أحمد بن محمد القرشي مولاهم
الدمشقي، خطيب دمشق، روى عن ابن جميع " معجمه " وعن أبي بكر بن أبي
الحديد، وكان صاحب مالٍ وأملاك، وفيه عدالة وديانة، توفي في صفر، وله
إحدى وتسعون سنة.
وعبد الله بن الخلال، أبو القاسم بن الحافظ أبي محمد الحسن بن محمد
البغدادي، سمَّعه أبوه من أبي حفص الكتَّاني والمخلّص، ومات في صفر، عن
خمس وثمانين سنة. قال الخطيب: كان صدوقاً.
وأبو جعفر بن أبي موسى الهاشيم، شيخ الحنابلة، عبد الخالق بن عيسى ابن
أحمد، وكان ورعاً زاهداً، علاَّمة كثير الفنون، رأساً في الفقه، شديداً
على المبتدعة، نافذ الكلمة. روي عن أبي القاسم بن بشران، وقد أخذ في
فتنة ابن القشيري وحبس أياماً، ومات في صفر، عن تسع وخمسين سنة.
وأبو القاسم عبد الرحمن بن مندة الأصبهاني الحافظ، صاحب التصانيف، ولد
الحافظ الكبير الجوّال، أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد العبدي،
كان ذا سمتٍ ووقار، وله أصحاب وأتباع، وفيه تستُّن مفرط، أوقع بعض
العلماء في الكلام، في معتقده، وتوهّموا فيه التجسيم، وهو برئ منه فيما
علمت، ولكن لو قصّر من شأنه لكان أولى به، أجاز له زاهر بن أحمد
السرخسي، وروى الكثير عن أبيه، وأبي جعفر الأبهري وطبقتهما وسمع
بنيسابور، من أصحاب الأصمّ، وبمكة من ابن جهضم، وبهمذان والدينور
وشيراز وبغداد، وعاش تسعاً وثمانين سنة.
(2/328)
|