المغرب في حلى المغرب

57 - سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد ربه الْقُرْطُبِيّ
هُوَ ابْن أخي أبي عمر بن عبد ربه صَاحب العقد ذكره صاعد فِي كتاب طَبَقَات الْأُمَم وَأخْبر أَنه فصد يَوْمًا فَبعث إِلَى عَمه الْمَذْكُور رَاغِبًا فِي الْحُضُور عِنْده فَلم يسعفه فَكتب لَهُ ... لما عدمت مؤانساً وجليسا ... نادمت بقراطاً وجالينوسا
وَجعلت كتبهما شِفَاء تفردى ... وهما الشِّفَاء لكل برح يوسى ...

فجاوبه عَمه ... ألفيت بقراطاً وجالينوسا ... لَا يأكلان ويرزآن جَلِيسا ...

(1/120)


.. فجعلتهم دون الْأَقَارِب جنَّة ... ورضيت مِنْهُم صاحباً وأنيسا
وأظن بخلك لَا يرى لَك تَارِكًا ... حَتَّى تنادم بعْدهَا إبليسا ...

قَالُوا وَكَانَ جميل الْمَذْهَب طيبا شَاعِرًا منقبضاً عَن الْمُلُوك وَهُوَ الْقَائِل ... أَمن بعد غوصي فِي عُلُوم الْحَقَائِق ... وَطول انبساطي فِي مواهب خالقي
وَفِي حِين إشرافي على ملكوته ... أرى طَالبا رزقا إِلَى غير رَازِق ...

وَمن المسهب أَنه كَانَ آيَة فِي فنون الْعلم الْقَدِيم لكنه ثقيل الطلعة سيئ الْأَدَب والمقابلة وَلذَلِك كَانَ عَمه أَبُو عمر يكرههُ وَذكر أَن النَّاصِر المرواني استحضره لينْظر عَلَيْهِ فِي الْعلم الْقَدِيم فقابله من الْكَلَام الْعَاميّ الجلف بِمَا كرهه من أَجله وأبعده
58 - أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن الحناط الرعيني الْأَعْمَى الْقُرْطُبِيّ
من المسهب أَن أَبَاهُ كَانَ يَبِيع الْحِنْطَة بقرطبة وَنَشَأ هَذَا الْأَعْمَى نشأة أعانته على أَن بلغ غَايَة من الْعلم الحَدِيث وَالْعلم الْقَدِيم وَكَانَ بَنو ذكْوَان هم الَّذين كفوه مؤونة الدَّهْر وفرغوه للاشتغال بِالْعلمِ وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الْمنطق حَتَّى اتهمَ فِي دينه وَنفي عَن قرطبة وَله فِي فراره واستقراره بالجزيرة الخضراء تَحت كنف أميرها مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن حمود قصيدة مِنْهَا

(1/121)


.. تفرغت من شغل الْعَدَاوَة والظعن ... وصرت إِلَى دَار الْإِقَامَة والأمن
أمقتولة الأجفان من دمع حزنها ... افيقي فَإِنِّي قد أَفَقْت من الْحزن
وَمَا عَن قلى فَارَقت تربة ارضكم ... وَلَكِنِّي أشفقت فِيهَا من الدّفن ...

قَالَ وَكَفاك من شعره قَوْله من قصيدة فِي عَليّ بن حمود الْعلوِي ... راحت تذكر بالنسيم الراحا ... وطفاء تكسر للجنوح جنَاحا
مرت على التلعات فاكتست الربى ... حللاً أَقَامَ لَهَا الرّبيع وشاحا
فَانْظُر إِلَى الرَّوْض الأريض وَقد غَدا ... يبكي الغوادي ضَاحِكا مرتاحا
والنور يبسط نَحْو ديمتها يدا ... أهدي لَهَا ساقي الندى أقداحا
وتخاله حييّ الحيا من عرفه ... بدكيه فَإِذا سقَاهُ فاحا
روض يحاكي الفاطمي شمائلاً ... طيبا ومزن قد حَكَاهُ سماحا ...

وَمن نثره زففتها إِلَيْك بنت لَيْلَتهَا عذراء وجلوتها عَلَيْك كَرِيمَة فكرها حسناء تتلفع بحبرة حبرها وتتبجتر فِي شعار شعرهَا مؤتلف بَين رقها ومدادها ومجتمع فِي بياضها وسوادها اللَّيْل إِذا عسعس وَالصُّبْح إِذا تنفس
وَذكر أَن الْوَزير بكر بن ذكْوَان مرض لَهُ ولد جميل طبه ابْن الحناط فَلَمَّا خلا بِهِ يَوْمًا سَأَلَهُ عَن حَاله فضجر الْغُلَام من طول الْعلَّة فَقَالَ أعرف وَالله دَوَاء يريحك قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تقبلني وآتيك بِهِ فاغتاظ الْغُلَام ثمَّ سهل عَلَيْهِ ذَلِك التمَاس الرَّاحَة فَقبله وَقَامَ ليَأْتِيه بالدواء فَقَالَ عمدته خِيَار شنبر وَهَا هُوَ حَاضر وكشف عَن وَقد قَامَ فاغتاط الْغُلَام وضربه بزبدية كَانَت أَمَامه فَخرج هَارِبا وَبَلغت الْحِكَايَة أَبَاهُ فَضَحِك مِنْهَا وتمثل ... كَيفَ يَرْجُو الْحيَاء مِنْهُ جليس ... وَمَكَان الْحيَاء مِنْهُ خراب ...

(1/122)


وَقيل لَهُ كَيفَ كَانَ هِشَام المعتد فَقَالَ يَكْفِي من الدّلَالَة على اخْتِيَاره أَنه استكتبني وَاتخذ ابْن شَهِيد جَلِيسا وَكَانَ ابْن الحناط أعمى وَابْن شَهِيد أَصمّ
وَمن المتين لِابْنِ حَيَّان وَفِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة نعى إِلَيْنَا أَبُو عبد الله بن الحناط الشَّاعِر الأديب الْقُرْطُبِيّ بَقِيَّة الأدباء النحارير فِي الشّعْر هلك بالجزيرة الخضراء فِي كنف الْأَمِير مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن حمود وَكَانَ من أوسع النَّاس علما بعلوم الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وَسَائِر التعاليم وَوَصفه بِفساد الدّين وَأَنه ولد أعشى الحملاق ثمَّ طفى نور عَيْنَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ بعد الْقِرَاءَة الْكَثِيرَة فازداد براعة وَكَانَ يتطبب عِنْده الْمُلُوك والخاصة وَقَالَ فِي وَصفه ابْن بسام زعيم من زعماء الْعَصْر وَرَئِيس رُؤَسَاء النّظم والنثر وَبَينه وَبَين أبي عَامر بن شَهِيد مناقضات نظماً ونثراً أشرقت أَبَا عَامر بِالْمَاءِ وَأخذت عَلَيْهِ بفروج الْهَوَاء وَمِمَّا أنْشدهُ لَهُ قَوْله فِي مُخَاطبَة المظفر بن الْأَفْطَس ملك بطليوس ... كتبت على الْبعد مستجدياً ... لعلمي بأنك لَا تبخل
فجَاء الرَّسُول كَمَا اشتهي ... وَقد سَاق فَوق الَّذِي آمل
وَمَا كَانَ وَجهك ذَاك الْجَمِيل ... ليفعل غير الَّذِي يجمل ...

وَقَوله من قصيدة فِي عَليّ بن حمود ... لوينا بأعناق الْمطِي إِلَى اللوى ... وَقد علمتنا البث تِلْكَ المعالم
سقى منبت اللَّذَّات مِنْهَا ابْن هَاشم ... إِذا انهملت من راحتيه الغمائم
إِمَام أَمَام الدّين حد حسامه ... طرير وَمِنْه فِي يَد الله قَائِم ...

(1/123)


ويزهر فِي يمناه زهر من الظبا ... لَهُ من رُءُوس الدارعين كمائم
بِكُل خَمِيس طبق الأَرْض مقعه ... وضيق مسراه الجلاد الصلادم
كَأَن مثار النَّقْع إثمد عينه ... وأشفار جفنيه الشفار الصوارم ...

وَقَوله من قصيدة فِي الْقَاسِم بن حمود يذكر فِيهَا خيران الصقلى وَقتل النرتضى المرواني لما هزمهما صنهاجة على غرناطة ... لَك الْخَيْر خيران مضى لسبيله ... وَأصْبح ملك الله فِي ابْن رَسُوله
وَفرق جمع الْكفْر وَاجْتمعَ الورى ... على ابْن حبيب الله بعد خَلِيله
وَقَامَ لِوَاء النَّصْر فَوق ممنع ... من الْعِزّ جِبْرِيل إِمَام رعيله
وأشرقت الدُّنْيَا بِنور خَليفَة ... بِهِ لَاحَ بدر الْحق بعد أفوله
فَلَا تسْأَل الايام عَمَّا انت بِهِ ... فَمَا زَالَت الْأَيَّام تَأتي بسوله ...

عُلَمَاء التنجيم
59 - عبد الله بن الشمر بن نمير الْقُرْطُبِيّ منجم سُلْطَان الأندلس عبد الرَّحْمَن بن الحكم ونديمه
من المقتبس أَنه كَانَ نَسِيج وَحده مجموعاً لَهُ من الْخِصَال النبيلة مَا فرق فِي عمر من جَمِيع التعاليم وَالْأَدب وَالشعر والنثر وَكَانَ لطيفاً حلواً

(1/124)


يغلب على قلب من شَاهده وَصَحب عبد الرَّحْمَن قبل السلطنة أَيَّام وَالِد الحكم وَلما صَار الْأَمر إِلَيْهِ وفى لَهُ ونادمه
وَذكر عبَادَة أَنه كَانَ قد بشر عبد الرَّحْمَن بِأَن الْأَمر سيصير إِلَيْهِ من جِهَة التنجيم فَلَمَّا كَانَ ذَلِك أحسن جزاءه وأجرى عَلَيْهِ رزقا للشعر وَرِزْقًا للتنجيم وَكَانَ أَيَّام تمكن نصر الخصى من عيد الرَّحْمَن يقل زِيَارَة مُحَمَّد ابْن عبد الرَّحْمَن فَلَمَّا هلك نصر قَالَ شعرًا مِنْهُ ... لَئِن غَابَ وَجْهي عَنْك إِن مودتي ... لشاهدة فِي كل يَوْم تسلم
وَمَا عاقني إِلَّا عَدو مسلط ... يذل ويشجي من يَشَاء ويرغم
وَلم يستطل إِلَّا بكم وبعزكم ... وَمَا بنبغي أَن يمنح الْعِزّ مجرم
فنحمد رَبًّا سونا بهلاكه ... فَمَا زَالَ بِالْإِحْسَانِ والطول ينعم ...

وَذكر عبد الله النَّاصِر فِي كتاب العليل والقتيل أَن الْأَمِير عبد الرَّحْمَن قَالَ يَوْمًا لِابْنِ الشمر على الشَّرَاب مَا فعلت غفيرتك الَّتِي كَانَت جرداء قد صَارَت أخياطها كالعروق فَقَالَ عملت مِنْهَا لفائف لبغيلك الْأَشْهب وَكَانَ حِينَئِذٍ الْأَمِير عبد الرَّحْمَن لَيْسَ لَهُ مَا يركب إِلَّا البغيل الْمَذْكُور لِأَنَّهُ كَانَ مضيقاً عَلَيْهِ فِي زمَان وَالِده وَكَانَ لَهُ أَخ مرشح للسلطنة وَلم تتسع حَاله حَتَّى هلك أَخُوهُ
وَذكر الرَّازِيّ أَن عبد الرَّحْمَن خرج مرّة لصيد الغرانيق الَّتِي كَانَ مُولَعا بهَا فأبعد وَكَانَ الشتَاء فَقَالَ ابْن الشمر شعرًا مِنْهُ ... لَيْت شعري امن حَدِيد خلقنَا ... ام نحتنا من ضخرة صماء
كل عَام فِي الصَّيف نَحن غزَاة ... والغرانيق غزونا فِي الشتَاء
إِذْ نرى الأَرْض والجليد عَلَيْهَا ... وَاقع مثل شقة بَيْضَاء
وَكَأن الأنوف تجدع منا ... بالمواسى لزعزع ورخاء ... 0

(1/125)


.. نطلب الْمَوْت والهلاك بإلحا
ح كأنا نشتاق وَقت الفناء ...

وَبدر مِنْهُ مَا أوجب سجنه فَكتب إِلَيْهِ شعرًا مِنْهُ ... قل لمن أَمْسَى بِأَرْض ال ... غرب لِلْخلقِ ربيعا
لَا يضيق لي مِنْك مَا قد ... وسع النَّاس جَمِيعًا ...

وَذكر ابْن حَيَّان أَن الْأَمِير عبد الرَّحْمَن كَانَ مصغياً لأحكام التنجيم وَلم يكن عِنْده فِي المنجمين مثل ابْن الشمر وغض يَوْمًا من علم المنجمين وَقَالَ إِنَّه مخرقة ورجم بِالْغَيْبِ فَأَرَادَ ابْن الشمر أَن يُقيم لَهُ برهانا على صِحَّته بَان قَالَ الامير اختبر فِي مقامك بِمَا شتئت فَقَالَ إِن أنبأتني على أَي بَاب من أَبْوَاب هَذَا الْمجْلس أخرج فِي قيامي صدقت بعلمك فَكتب ابْن الشمر فِي ورقة مختومة مَا اقْتضى لَهُ الطالع ودعا الْأَمِير من فتح لَهُ بَابا مُحدثا فِي غارب الْمجْلس الَّذِي يَلِي مَقْعَده ثمَّ خرج مِنْهُ وَترك الْخُرُوج من أَبْوَاب الْمجْلس الْأَرْبَعَة وَفتح الورقة فَوجدَ فِيهَا مَا فعله الْأَمِير فتعجب وَوَصله وَنزل بفحص السرادق أَعلَى قرطبة وَقد قفل من غزَاة مزعما على الدُّخُول إِلَى قرطبة صَبِيحَة غده فِي تعبئة كَامِلَة فَقَالَ لَهُ ابْن الشمر لتعلم أَنَّك مغلوب على ذَلِك وَلَا بُد لَك اللَّيْلَة من الْمُبين فِي قصرك فَقَالَ وَالله لأدخلنه فَقَالَ وَالله لتدخلنه مكْرها ولأكونن فِي هيئتي شبهك فِي طريقك إِلَيْهِ وسوف ترى فَغَضب ووكل بِهِ وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم مشمساً صائفاً فَمَا هُوَ إِلَّا أَن دنا الْمسَاء فانهمل من الْمَطَر وهب من الرّيح مَا ضج لَهُ النَّاس وتداعوا للدخول لقرطبة وَلم يجد الْأَمِير بدا من مبادرة قصره وَركب فِي نفر من خاصته وَابْن الشمر إِلَى جَانِبه يسايره فوطئت دَابَّة ابْن الشمر مسمارا فَلم تنهض أَمر لَهُ بفرس من جنائبه بسرجه ولجامه فَرَكبهُ

(1/126)


وشكا نُفُوذ المَاء لغفارته الَّتِي كَانَ يتوفاه بهَا ووصوله إِلَى جسده أَمر لَهُ الْأَمِير بممطر خَز من مماطره وقنزعة من قنازعه صبا عَلَيْهِ فَاسْتَوَى والأمير فِي لبوسه وَمضى يسايره فَلَمَّا نزل قَالَ لَهُ يَا مولَايَ كَيفَ رَأَيْت قولي فَقَالَ انْطلق بِمَا عَلَيْك وتحتك والصلة لاحقة بك وَكتب ابْن الشمر فِي الْحِين رقْعَة فِيهَا ... تحرّك حِين حركه ... لوقت إيابه الْقدر
فيا من دونه الحجا ... ب والأستار وَالْحجر
لَئِن كنت امْرَءًا تخشى ... بَوَادِر زَجره الْبشر
فَمَا يخشاك بهْرَام ... وَلَا زحل وَلَا الْقَمَر ...

وَجعله الحجاري رَئِيس المنجمين بالأندلس إِلَى مَا حباه الله بِهِ حسن الْخلال الَّتِي بِأَقَلِّهَا يبلغ الْكَمَال
عُلَمَاء الموسيقى
60 - اسحاق بن شَمْعُون الْيَهُودِيّ القرطيى
من المسهب أحد عجائب الزَّمَان فِي الاقتدار على الألحان وَكَانَ قد لَازم ابْن باجة وَأحسن الْغناء بِلِسَانِهِ وَيَده وَأخذ طرائق كَثِيرَة عَن كلب النَّار واعتبط شَابًّا وَكَانَ لَهُ نظم رائق كَفاك مِنْهُ قَوْله ... قُم هَات كأسك فالنعيم قد اتسق ... وَالْعود عَن دَاعِي المسرة قد نطق
ولديك من حث الكووس ازهرا ... فِي الْخَزّ يمرح كالأراكة فِي الْوَرق
والزهر زهر والرياض سماوها ... وَالْفَجْر نهر والشقائق كالقدر ...

(1/127)


وَكَانَ كثير الْمقَام على شرب المدام وَهُوَ الْقَائِل ... خبرت الْعَالمين فَلم أجد من ... يثير لي المنى غير المدام
تجلى الْهم عَن فكري وتبدى ... لي اللَّذَّات أجمع فِي نظام
وتطعمني بمالا أرتجيه ... بأحلى من لذاذات الْمَنَام
وَتخرج بِي إِذا واليت حثاً ... بهَا فِي الشّرْب من خلق الطغام
وَلَو أَنِّي أحكم لم اذرها ... تحل بِغَيْر افاق الْكِرَام ...

عُلَمَاء الطِّبّ
61 - أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قادم الْقُرْطُبِيّ
من المسهب من أطباء قرطبة الْمَشْهُورين فِي الدولة المروانية وَأنْشد لَهُ من قصيدة ... بِأَيّ لِسَان أقتضى شكر نعْمَة ... منت بهَا عفوا وَلم أَتكَلّم
وَقد كَانَ حَالي فِي أخير ذمائه ... فَكنت لَهُ مثل الْمَسِيح ابْن مَرْيَم
ولولاك مَا كَانَ القريض بِنَافِع ... وَلَا كَانَ فِي جيد الْعلَا بمنظم ...

وَله فِي بدأة قصيدة يرثي بهَا وَلَده ... بني بكاك الْجُود وَالسيف والقلم ... وَلَو نستطيع الشهب لم تبد فِي الظُّلم ...

62 - أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن خَليفَة الْقُرْطُبِيّ يعرف بالمصري لطول إِقَامَته بِمصْر
من الذَّخِيرَة شيخ الفتيان وآبدة الزَّمَان وخاتمة أَصْحَاب السُّلْطَان

(1/128)


وَكَانَ رَحل إِلَى مصر واسْمه خامل وسماؤه عاطل فَلم يلبث أَن طَرَأَ على الأندلس وَقد نَشأ خلقا جَدِيدا وَجرى إِلَى النباهة طلقا بَعيدا فتهادتهه الدول وانتهت إِلَيْهِ التفاصيل والجمل وَكلما طَرَأَ على ملك فَكَأَنَّهُ مَعَه ولد وَإِلَيْهِ قصد يجْرِي مَعَ كل أحد ويجول فِي كل بلد وتلون فِي الْعَالم تلون الزَّمَان وتلاعب بملوك الطوائف تلاعب الرِّيَاح بالأغصان حَتَّى ظفر بِهِ الْمَأْمُون بن ذِي النُّون فَشد عَلَيْهِ يَد الضنين وَذكر أَنه اشْتهر بالطب وَكَانَ كثير النادرة حَاضر الْجَواب ووقفت لَهُ على شعر أَكْثَره عاطل من حلية البديع وَلما انصرفت الدولة الذنونية تحيز إِلَى إشبيلية فأنس الْمُعْتَمد بمكانه وَجعل لَهُ حظاً من سُلْطَانه وَذكر أَنه بَقِي بعد خلع الْمُعْتَمد مُشْتَمِلًا على فضل جدة إِلَى أَن توفّي سنة سِتّ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة يَوْم الْجُمُعَة منتصف رَجَب
وَذكر ابْن حَيَّان أَنه كَانَ ابْن جَار لَهُ خفاف وَأخذ فِي ذمه وَأنْشد لَهُ فِي المامون ذِي النُّون ... وَقد كَانَ لي فِي مصر دَار إِقَامَة ... وَلَكِن إِلَى الْمَأْمُون كَانَ التشوق
حللت عَلَيْهِ والمكارم جمة ... وسحب العطايا فَوْقهَا تتألق ...

وَقَوله ... الْحبّ دَاء دواؤه الْقبل ... وَالرسل بَين الْأَحِبَّة الْمقل
يَا حفظ الله لَيْلَة سلفت ... حيت ببدر سماؤه الْكل
بيتنا وَرَاح العفاف تلحفنا ... برد وَفَاء والشمل مُشْتَمل ...

(1/129)


.. اثْنَان من شدَّة التعانق قد ... صَارا كفرد بِالروحِ يتَّصل
حَتَّى إِذا غرَّة الصَّباح بَدَت ... وجفنة بالعبير مكتحل
فارقني وَهُوَ خَائِف وَجل ... نشوان من خمرة الصِّبَا ثمل
عَيْنَايَ مِنْهُ قريرة أبدا ... وَالنَّار بَين الضلوع تشتعل ...

ومدح بلقين بن حَمَّاد صَاحب القلعة ومدح باديس بن حبوس صَاحب غرناطة بقصيدة مِنْهَا ... رخست أصُول علاكم تَحت الثرى ... وَلكم على خطّ المجرة دَار
تبدو شموس الدجن من أطواقكم ... وَتفِيض من بَين البنان بحار
إِن المكارم صُورَة مَعْلُومَة ... أَنْتُم لَهَا الأسماع والأبصار
ذلت لكم قمم الْخَلَائق مِثْلَمَا ... ذلت لشعري فِيكُم الْأَشْعَار
فَمَتَى مدحت وَلَا مدحت سواكم ... فمديحكم فِي مدحه إِضْمَار ...

وَقَوله ... أَلا يَا هِنْد قد قضيت حجى ... فهات شرابك الْعطر العجيبا
فقد ذهب ذُنُوبِي فِي طوافي ... فقومي الْآن نقترف الذنوبا
خلطنا مَاء زَمْزَم فِي حشانا ... بِمَاء الْكَرم فامتزجا قَرِيبا ...

وَقَوله ... أَي هِلَال أطل فِينَا ... مطلعه الطوق فِي الْجُيُوب
كحيل طرف ثقيل ردف ... مبسمه اللُّؤْلُؤ الرطيب
يقودنا كَيفَ شَاءَ طَوْعًا ... لِأَن أعوانه الْقُلُوب ...

(1/130)


وَذكر الحجاري ذمّ ابْن حَيَّان لَهُ وَقَالَ مَا كَانَ لَهُ عِنْده ذَنْب إِلَّا جواره فبئس الذمام وَذكر أَنه قصد بعد ابْن ذِي النُّون الْمُعْتَمد بن عباد فَلم يحمده وَكتب لَهُ رِسَالَة بعد انْفِصَاله عَنهُ فِيهَا ... رحلت وَفِي الْقلب جمر الغضا ... وهجري لكم دون شكّ صَوَاب
كَمَا تهجر النَّفس طيب الطَّعَام ... إِذا مَا تساقط فِيهِ الذُّبَاب ...

وذمه ابْن اللبانة فِي كتاب سقيط الدُّرَر لِأَن الْمُعْتَمد بن عباد كَانَ يعظمه ويجزل إحسانه لَهُ فَلَمَّا خلع ظهر مِنْهُ فِي حَقه قلَّة وَفَاء وَادّعى أَن جَارِيَة ولدت من ولد الْمُعْتَمد فِي ملكه وانها غضِبت لَهُ فَأَخذهَا وَمَعَهَا ولد صَغِير من ولد الْمُعْتَمد اسعبده وَصَارَ يصرفهُ فِيمَا يصرف فِيهِ العبيد
وَمن كتاب مصابيح الظلام فِي حلى الناظمين لدر الْكَلَام
63 - أَبُو الأجرب جَعونَة الْكلابِي
من المقتبس أَنه كَانَ مداحاً للصميل وَزِير يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن الفِهري سُلْطَان الاندلس افنى فِيهِ قوافيه وَكَانَ الصميل قطّ أغْلظ الْقسم على نَفسه أَلا يرَاهُ إِلَّا اعطاه ماحضره فَكَانَ أَبُو الأجرب يعْتَمد إغباب لِقَائِه وَكَانَ لَا يزوره إِلَّا مرَّتَيْنِ فِي الْعِيدَيْنِ وَكَانَ قد هجاه وهجا قومه فَلَمَّا حصل فِي يَده عَفا عَنهُ فنسخ هجوه بمدحه
قَالَ وَكَانَ فَارِسًا شجاعاً يدعى عنترة الأندلس لم يلْحق دولة بني أُميَّة قيل إِنَّه مَاتَ قبل وقْعَة المصارة الَّتِي كَانَت لعبد الرَّحْمَن عَليّ يُوسُف

(1/131)


وَمن الجذوة أَنه جَعونَة بن الصمَّة وَأنْشد لَهُ ... وَلَقَد أَرَانِي من هواي بمنزل ... عَال ورأسي ذُو غدائر أفرع
والعيش أغيد سَاقِط أفنانه ... وَالْمَاء أطيبه لنا والمرتع ...

وَجعله ابْن حزم فِي طبقَة جرير والفرزدق وعصرهما وَذكر الحجاري أَنه من الْعَرَب الطارئين على الأندلس كَانَ يرحل وَيحل بِأَكْنَافِ قرطبة
64 - مُؤمن بن سعيد بن إِبْرَاهِيم بن قيس مولى الْأَمِير عبد الرَّحْمَن المرواني الدَّاخِل
من المقتبس أَنه فَحل شعراء قرطبة كَانَ يهاجي ثَمَانِيَة عشر شَاعِرًا فيعلوهم وَكَانَت آفته التهكم بِالنَّاسِ وتتبع زلاتهم وتمزيق أعراضهم فَرَمَوْهُ عَن قَوس وَاحِدَة ورحل إِلَى الْمشرق فلقي أَبَا تَمام الطَّائِي وروى عَنهُ شعره وَكَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ بالأندلس وَقَرَأَ عَلَيْهِ يَوْمًا أحد المتعلمين قَول حبيب ... أَرض خلعت اللَّهْو خلعي خَاتمِي ... فِيهَا وَطلقت السرُور ثَلَاثًا ...

فَقَالَ لَهُ من سرُور هَذِه أصلحك الله فَقَالَ هِيَ امْرَأَة حبيب وَقد رَأَيْتهَا بِبَغْدَاد
وَحمله طبعه الذميم عل أَن أفسد حَاله عِنْد مستخلصه هَاشم بن عبد الْعَزِيز وَزِير الْأَمِير مُحَمَّد وَلما أسر هَاشم شمت بِهِ وَقَالَ مُخَاطبا أَبَا حَفْص

(1/132)


ابْن عَم هَاشم وعدوه ... تصبح ابا حَفْص على أسر هَاشم ... ثَلَاث زجاجات وَخمْس رواطم
وبح بِالَّذِي قد كنت تخفيه خُفْيَة ... فقد قطع الرَّحْمَن دولة هَاشم ...

وَقَالَ هَذِه القصيدة سرا وصنع على وَزنهَا قصيدته ... مَتى ترجع الْأَيَّام دولة هَاشم ... ويشملها نور الْعلَا والمكارم ...

وَلم يخف على هَاشم وبنيه قصيدة الشماتة فَلَمَّا عَاد هَاشم إِلَى وزارته وخلص من الْأسر نصب لَهُ حبائل السّعَايَة عِنْد الْأَمِير مُحَمَّد حَتَّى أَطَالَ حَبسه الَّذِي أدّى بِهِ إِلَى الهلكة وَلم يفده مَا أطاله فِي حَبسه من النّظم والنثر وَأكْثر التشفع بجد هَاشم مُحَمَّد بن جهور فَلم يفده فأقذع فِي هجائه وَفِي أبي حَفْص الْمُتَقَدّم الذّكر يَقُول ... أخاطر فِي هوى عمر برأسي ... أَلَيْسَ أعز من رَأْسِي عليا ...

وَلما كسر أهل سجن قرطبة السجْن وفروا مِنْهُ رغب مُؤمن عَن الْفِرَار وَظن أَن ذَاك يخلصه فَلَمَّا وقف هَاشم بِبَاب الْحَبْس لمعاينة من فِيهِ وَالنَّظَر فِي أمره خرج إِلَيْهِ مُؤمن واستعطفه فَلم يلْتَفت اليه وَأوصى السجان بإيصاده فَقتله الْيَأْس إِلَى سِتَّة أَيَّام لَيْلَة الثُّلَاثَاء لأَرْبَع خلون من رَجَب سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
وَجعله الحجاري دعبل الأندلس
وَأنْشد لَهُ الْحميدِي ... حرمتك مَا عدا نظرا مضرا ... بقلب بَين أضلاع مُقيم
فعيني مِنْك فِي جنَّات عدن ... مخلدة وقلبي فِي الْجَحِيم ...

(1/133)


65 - مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز العتيبي
من المسهب أَنه من نبهاء شعراء دولة الامير مُحَمَّد وَكَانَ مَخْصُوصًا بالقاسم من الامير مُحَمَّد كَمَا كَانَ مومن بن سعيد مَخْصُوصًا بِمسلمَة بن الْأَمِير مُحَمَّد وَكَانَ بَينهمَا مهاجاة
وَله حكايات مَعَ الْقَاسِم مِنْهَا أَنه نَاوَلَهُ قدحاً كَبِيرا ليشربه من يَده فَقَامَ وَاقِفًا وصب الْقدح فِي حلقه من غير أَن يُبَاشر شفة الكأس فَأمر أَن يمْلَأ لَهُ دَنَانِير
وَأنْشد ... إِذا نفخ النسيم فَقُمْ وباكر ... رياض النَّهر والأنداء تهمى
وَلَا تشرب بَنَات الْكَرم إِلَّا ... على روض ند وَبَنَات كرم ...

66 - أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَسْعُود الْقُرْطُبِيّ
من الذَّخِيرَة كَانَ ظريفاً فِي أمره كثير الْهزْل فِي نظمه ونثره وَأرَاهُ فِيمَا انتحاه تقيل منهاج ابْن حجاج بالعراق فضاقت ساحته وَقصرت رَاحَته وأعياه الصَّرِيح فمذق وَلم يحسن الصهيل فنهق وَمِمَّا أنْشد لَهُ ... وَخَرجْنَا كَمَا دَخَلنَا بِلَا فل ... س وَلَكِن ربحت صفع قفاء
مد فِي ذَا الْمَكَان ذَا الْحَرْف لما ... مده صفع ظَالِم ذِي اعتداء ...

وَجعله الحجاري من مشهوري شعراء الْمِائَة الْخَامِسَة

(1/134)