المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

بَاب ذكر خلافة شيث أباه آدَم عَلَيْهِ السَّلام [1]
قَدْ ذكر أَن شيث بْن آدَم كَانَ وصي أَبِيهِ.
وروينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنزل عَلَى شيث خمسون صحيفة وأنه كَانَ نبيا وإلى شيث أنساب بَنِي آدَم كلهم اليوم، وَذَلِكَ أَن نسل سائر بَنِي آدَم غَيْر نسل شيث انقرضوا. ولم يزل شيث مقيما بمكة يحج ويعتمر، وجمع مَا أنزل عَلَيْهِ من الصحف إِلَى صحف أَبِيهِ آدَم فعمل بها.
ذكر الأحداث الَّتِي جرت فِي ولاية شيث
من ذَلِكَ موت أمه حواء، فإنهم ذكروا أَنَّهَا عاشت بَعْد آدَم سَنَة ثُمَّ ماتت فدفنت مع آدم، وأنهما لَمْ يزالا هنالك حَتَّى استخرجهما نوح وجعلهما فِي تابوت ثُمَّ حملهما مَعَهُ فِي السفينة، فلما ذهب الطوفان ردهما إِلَى أماكنهما.
ومن ذَلِكَ أَن شيث بْن آدَم بنى الكعبة بالحجارة والطين. وَقَدْ زعم قوم أَنَّهُ لَمْ تزل القبة التي جعلت لآدم فِي مكان الْبَيْت إِلَى أَيَّام الطوفان
. ومن الأحداث الَّتِي كَانَ ابتداؤها فِي زمن آدَم وامتدت بعده
أَن قابيل لما قتل أخاه هرب إِلَى اليمن، فأتاه إِبْلِيس، فَقَالَ: إِنَّمَا قبل قربان أخيك لأنه كَانَ يخدم النار ويعبدها فانصب أَنْتَ نارا تكون لَكَ ولعقبك. فبنى بَيْت نار فَهُوَ أول من نصب النار وعبدها [2] .
__________
[1] تاريخ الطبري 1/ 152- 154، 162 وما بعدها، ومروج الذهب 1/ 41، وتاريخ اليعقوبي 1/ 8، والكسائي 79، والبداية والنهاية 1/ 99، ومرآة الزمان 1/ 223.
[2] تاريخ الطبري 1/ 165.

(1/229)


وجاء من أولاده جبابرة وفراعنة، ثُمَّ انقرض ولده، وَكَذَلِكَ أولاد آدَم انقطع نسلهم إلا مَا كَانَ من شيث.
وقيل: إِن بَعْض أولاد قابيل [1] اتخذ آلات اللهو من المزامير والطبول والعيدان والطنابير والمعازف، فانهمك ولد قابيل فِي اللهو، فَذَهَبَ إليهم قوم من أولاد شيث، ثُمَّ نزل آخرون، وفشت الفواحش وشرب الخمر [2] .
فأما مَا يتعلق بشيث
فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ ولد لَهُ أنوش فِي زمن أَبِيهِ آدَم، وأوصى شيث إِلَى أنوش بَعْد موت أَبِيهِ بسياسة الْمَلِك وتدبير الرعايا عَلَى منهاج أَبِيهِ من غَيْر تغير ولا تبديل، وَهُوَ أول من غرس النخل وزرع الحب ونطق بالحكمة وعاش تسعمائة وخمس سنين.
وولد لأنوش قينان فِي زمن آدَم أَيْضًا، وأوصى أنوش إِلَى قينان [3] .
وولد لقينان مهلائيل [4] فِي زمن آدَم أَيْضًا فوصى قينان إِلَيْهِ، وَكَانَ مهلائيل عَلَى منهاج أَبِيهِ.
وولد لمهلائيل يرد [5] ، فأوصى إِلَيْهِ، وقيل إِن يرد ولد فِي زمان آدَم أَيْضًا.
وولد ليرد خنوخ [6] ، وهو إدريس النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
[1] ذكر الطبري أن اسمه «توبال» .
[2] تاريخ الطبري 1/ 66.
[3] تاريخ الطبري 1/ 163.
وقينان كذا ضبطه صاحب اللسان، بفتح القاف أو مدّ النون الأولى. وفي سفر التكوين 5: 12 ضبط بكسر القاف. ويقال أيضا «قينين» . بإسقاط الألف، كما نقله صاحب التاج.
وأنوش: كصبور، كذا ضبطه صاحب تاج العروس 4/ 280، وقال: ويقال: يانش كصاحب وآدم، ويقال: إنوش بكسر الهمزة بمعنى إنسان.
[4] في سفر التكوين 5: 15 «مهللئيل» .
[5] كذا ضبطه المصنف والطبري وحكى أبو الفداء 1/ 9 بإعجام الذال، وكذا ضبطه صاحب المرآة 1/ 224. وضبطه ابن الأثير في الكامل 1/ 50 «يارذ» . بياء معجمة باثنتين من تحتها وراء مهملة وذال معجمة.
[6] ضبطه ابن الأثير في الكامل 1/ 50: بحاء مهملة مفتوحة ونون بعدها واو وخاء معجمة.

(1/230)


وَهَذِهِ الأسماء لا يكاد الرواة يتوافقون عَلَيْهَا، فإني رأيت أبا الْحَسَن بْن المنادي، قَدْ ضبط بخطه لمك [1] بتسكين الميم، وحنوح بالحاء غَيْر معجمة.
وَقَدْ ذكر قوم [2] أَن أوشهنج هُوَ ابْن آدَم لصلبه، وأنه أول ملك/ ملك الأرض، وقوم يزعمون أنه من ولد نوح، فَقَالَ قوم: أوشهنج، وَهُوَ مهلائيل بْن قينان، وأن أوشهنج كَانَ فِي زمان آدم رجلا وأنه خلف جده خيومرث، وملك الأقاليم السبعة، وَكَانَ فاضلا محمودا وَهُوَ أول من استنبط الحديد فِي ملكه، فاتخذ منه الأدوات للصناعات، واستخرج المعادن، ورتب الممالك، وحضّ الناس عَلَى الزراعة، واتخذ الملابس من جلود السباع، وأمر بذبح البهائم والأكل من لحومها، ووضع الحدود فِي الأَحْكَام، وَكَانَ ملكه أربعين سَنَة، وأنه بنى مدينة الريّ، وأنها أول مدينة بنيت بَعْد مدينة جيومرث الَّتِي كَانَ يسكنها بدنباوند من طبرستان، وبنى مدينة بابل والسوس. بَعْد فِي البلاد، وجلس عَلَى السرير، وأنه نزل الهند وعقد عَلَى رأسه تاجا ونفى أَهْل الفساد والذعار من البلدان إِلَى البراري وجزائر البحار، وألجأهم إلى رءوس الجبال، وقرب أَهْل الصلاح وانتهى ملكه إِلَى طهمورث، وَهُوَ من ولده إلا أَن بينهما عدة آباء [3] .
فصل
فأما يرد أَبُو إدريس، فإنه عاش تسعمائة سَنَة.
وَرَوَى أَبُو صَالِح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فِي زمان يرد عبدت الأصنام [4] .
أَنْبَأَنَا عَبْد الْوَهَّاب بْنُ الْمُبَارَكِ الْحَافِظِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الحسن بن عبد الجبار، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن الْمَسْلَمَةِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ الْمَرْزَبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أبو علي الحسن بن عليل الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الصَّبَّاحِ بْنِ الْفُرَاتِ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: أَوَّلُ مَا عَبَدَتِ الأصنام ان آدم عليه
__________
[1] في أبي الفداء: «لامخ» . ويقال: لامك ولمك أيضا» .
[2] تاريخ الطبري 1/ 168، 169.
[3] في الأصل: «إلا أن بينهما جدا وأبا» . وما أوردناه من الهامش.
[4] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 170.

(1/231)


السَّلاَمُ لَمَّا مَاتَ جَعَلَهُ بَنُو شِيثٍ فِي مَغَارَةٍ فِي الْجَبَلِ الَّذِي أُهْبِطَ عَلَيْهِ بِأَرْضِ الْهِنْدِ، وَيُقَالُ لِلْجَبَلِ نَوْدٌ.
وَقَالَ هِشَامٌ: وَأَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَكَانَ بَنُو شِيثٍ يَأْتُونَ جَنْبَ آَدَمَ في الْمَغَارَةَ فَيُعَظِّمُونَهُ وَيَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بني قابيل: إن لبني شيث دوارا يدورون حَوْلَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ وَلَيْسَ لَكُمْ شَيْءٌ فَنَحَتَ لَهُمْ صَنَمًا فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا [1] .
وأَخْبَرَنِي أَبِي، قال: كان ودّ، وسواء، وبغوث، ويعوق، ونمر، قوما صالحين، فماتوا فِي شهر فجزع عليهم أهاليهم وأقاربهم، فَقَالَ رجل من بَنِي قابيل: يا قوم هل لكم أَن أعمل لكم خمسة أصنام عَلَى صورهم، غَيْر أني لا أقدر أَن أجعل فِيهَا أرواحا، قَالُوا: نعم، فنحت لَهُمْ خمسة أصنام عَلَى صورهم ونصبها لَهُمْ، وَكَانَ الرجل يَأْتِي أخاه وعمه وابن عمه ليعظمه ويسعى حوله حتى ذهب ذَلِكَ القرن الأَوَّل، وعملت عَلَى عهد يرد بْن مهلائيل، ثُمَّ جاء قرن آخر فعظموهم أشد من تعظيم القرن الأَوَّل، ثُمَّ جاء من بعدهم القرن الثالث، فَقَالُوا: مَا عظم أولونا هَؤُلاءِ إلا وَهُمْ يرجون شفاعتهم عِنْدَ اللَّه، فعبدوهم وعظم أمرهم واشتد كفرهم، فبعث اللَّه إليهم إدريس، فدعاهم، وَلَمْ يزل أمرهم يشتد حَتَّى بعث نوحا وجاء الطوفان، فأهبط الماء هذه الأصنام من أرض إِلَى أرض حَتَّى قذفها إِلَى أرض جدة [2] .
والصحيح أَن هذه الأصنام الخمسة عملت بَعْد نوح عَلَى مَا سنذكره، فيجوز أن يكونوا عملوها أتباعا لفعل قدمائهم.
__________
[1] مرآة الزمان 1/ 225.
[2] مرآة الزمان 1/ 225.

(1/232)