المنتظم في تاريخ الأمم والملوك
ثم دخلت سنة إحدى
وستين
فمن الحوادث فيها: مقتل الحسين بن علي بن
أبي طالب عليهما السلام [1]
وذلك أنه أقبل حتى نزل شراف، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم الخيل، فنزل
الحسين، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم
ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي- وكان صاحب شرطة ابن زياد- حتى وقفوا
مقابل الحسين عليه السلام فِي حر الظهيرة/، فأمر الحسين رجلا فأذن، ثم
خرج فقَالَ: أيها الناس إنها معذرة إلى الله 138/ أوإليكم، إني لم آتكم
حتى قدمت علي رسلكم، وأتتني كتبكم أن أقدم علينا، فليس لنا إمام، فإن
كنتم كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه، فسكتوا عنه،
وقالوا للمؤذن: أقم الصلاة، فأقام الصلاة، وصلى الحسين، وصلى الحر معه،
ثم تراجعوا، فجاءت العصر، فخرج يصلي بهم وقَالَ: أتتني كتبكم ورسلكم،
فقَالَ الحر:
ما ندري ما هذه الكتب والرسل. فقَالَ: يا عقبة بن سمعان، أخرج إلي
الخرجين.
فأخرجهما مملوءين صحفا فنشرها بين أيديهم، فقَالَ الحر: إنا لسنا من
هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على
عُبَيْد الله بن زياد، فقَالَ الحسين: الموت أدنى [إليك] [2] من ذلك.
وقام فركب وركب أصحابه وقَالَ: انصرفوا
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 400.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
(5/335)
بنا. فحالوا بينه وبين الانصراف، فقَالَ
للحر: ثكلتك أمك، ما تريد؟ قَالَ: إني لم أومر بقتالك، إنما أمرت أن لا
أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة، ولا
تردك المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد أو إلى ابن
زياد لعل الله أن يرزقني العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك، فتباشر
الحسين والحر يسايره، ثم جاءه كتاب عبيد الله بن زياد أن جعجع [1]
بالحسين حتى يبلغك كتابي، فأنزلهم الحر على غير ماء، ولا فِي قرية،
وذلك فِي يوم الخميس ثاني المحرم، فلما كان من الغد قدم عمرو بن سعد من
الكوفة فِي أربعة آلاف، وكان عبيد الله قد ولى عمرو بن سعد الري، فلما
عرض أمر الحسين قَالَ له: اكفني أمر هذا الرجل، ثم اذهب إلى عملك.
فقَالَ:
أعفني فأبى. قالَ: أنظرني الليلة، فأخره فأنظر فِي أمره، [ثم أصبح] [2]
راضيا. فبعث إلى الحسين رجلا يقول له: ما جاء بك؟ فقَالَ: كتب إلي أهل
مصركم، فإذا كرهتموني فإني أنصرف عنكم. وجاء كتاب عبيد الله إلى عمر:
حل بين الحسين وأصحابه وبين الماء كما صنع بعثمان. فقَالَ: اختاروا مني
واحدة من ثلاث: إما أن تدعوني فألحق 138/ ب بالثغور أو أذهب إلى يزيد،
أو أنصرف/ من حيث جئت. فقبل ذلك عمرو، وكتب إلى عبيد الله بذلك، فكتب
عبيد الله. لا ولا كرامة حتى يضع يده فِي يدي، فقَالَ الحسين:
لا والله لا يكون ذلك أبدا. وفِي رواية: أن عبيد الله قبل ذلك، فقَالَ
له شمر بن ذي الجوشن: والله إن رحل عن بلادك ولم يضع يده فِي يدك
ليكونن أولى بالقوة والعز، ولتكونن أولى بالضعف، والعجز، ولكن لينزلن
على حكمك هو وأصحابه، فقَالَ له عبيد الله. اخرج بكتابي إلى عمرو بن
سعد، وليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم
إلي سلما، وإن أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن أبى أن
يقاتلهم فأنت أمير الناس، فثب عليه فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه.
وكتب عبيد الله: أما بعد، فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله
ولا لتمنيه السلامة، فانظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا
فابعث بهم إليّ
__________
[1] أي: أزعجه وأخرجه، وقال الأصمعي: يعني أحبسه.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(5/336)
سلما، فإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم،
فإن قتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاق قاطع، فإن مضيت لأمرنا
جزيناك خيرا، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن
وبين العسكر، فإنا قد أمرناه، والسلام.
فلما جاء شمر بالكتاب إلى عمرو وقرأه قَالَ: ويلك، لا قرب الله دارك،
قبح الله ما قدمت به علي، والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت
به إليه، وأفسدت علينا أمرا قد كنا رجونا أن يصلح، قَالَ: فقَالَ:
أخبرني ما أنت صانع لأمر أميرك؟ أتقاتل عدوه، وإلا فخل بيني وبين الجند
والعسكر. فقَالَ: لا، ولا كرامة، ولكن أنا أتولى ذلك. قَالَ:
فدونك.
فنهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم، وجاء شمر حتى وقف على
أصحاب الحسين فقَالَ: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وعَبْد اللَّهِ
وجعفر بنو علي، فقالوا: مالك وما تريد؟ قَالَ: أنتم يا بني أختي آمنون،
قالوا: لعنك الله، ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أمان له؟! فنادى عمرو: يا خيل اركبي وأبشري.
فركب فِي الناس، ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بنيه
مجتثيا بسيفه/ إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت أخته الضجة، فقالت: يا
أخي، أما 139/ أتسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع رأسه فقَالَ: إني رأيت
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام فقَالَ لي:
«إنك تروح إلينا» فلطمت أخته وجهها وقَالَ له العباس: يا أخي، أتاك
القوم.
فنهض وقَالَ: يا عباس، اركب [بنفسك] أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم
ما لكم وما بدا لكم. فأتاهم العباس فِي نحو من عشرين فارسا، فقَالَ: ما
تريدون؟ فقالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو
نناجزكم. قالَ: فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عَبْد اللَّهِ فأعرض عليه
ما ذكرتم. فوقفوا، فرجع إلى الحسين فأخبره الخبر، ثم رجع إليهم فقَالَ:
يا هؤلاء، إن أبا عَبْد اللَّهِ يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ننظر
فِي هذا الأمر، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، وإنما أراد أن يوصي
أهله، فقَالَ عمرو للناس:
ما ترون؟ فقَالَ له عمرو بن الحجاج: سبحان الله، والله لو كان من
الديلم، ثم سألك هذا لكان ينبغي أن تجيبه، فجمع الحسين أصحابه وقَالَ:
إني قد أذنت لكم فانطلقوا فِي هذه الليلة، فاتخذوه جملا، وتفرقوا فِي
سوادكم ومدائنكم، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قد
(5/337)
أصابوني لهوا عن طلب غيري. فقَالَ أخوه
العباس: لم نفعل ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبدا.
ثم تكلم إخوته وأولاده وبنو أخيه وبنو عَبْد اللَّهِ بن جعفر بنحو ذلك،
فقَالَ الحسين: يا بني عقيل، حسبكم من الفتك بمسلم [1] ، اذهبوا فقد
أذنت لكم. فقالوا:
لا والله، بل نفديك بأنفسنا وأهلينا، فقبح الله العيش بعدك.
وقَالَ مسلم بن عوسجة: والله لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لرميتهم
بالحجارة، وقَالَ سعيد بن عَبْد اللَّهِ الحنفِي: والله لا نخليك حتى
يعلم الله أننا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك، والله لو علمت أني أقتل،
ثم أحيا، ثم أحرق حيا، ثم أذرى تسعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي
دونك.
وتكلم جماعة [من] [2] أصحابه بنحو هذا، فلما أمسى الحسين جعل يصلح سيفه
ويقول مرتجزا:
139
/ ب يا دهر أف لك من خليل ... / كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل
فلما سمعه ابنه علي خنقته العبرة، فسمعته زينب بنت علي، فنهضت إليه وهي
تقول: وا ثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت فاطمة أمي، وعلي
أبي، يا خليفة الماضي، وثمال الباقي. فقَالَ لها الحسين: أخية، لا يذهب
حلمك الشيطان.
وترقرقت عيناه، فلطمت وجهها، وشقت جيبها، وخرت مغشية عليها. فقام إليها
الحسين عليه السلام فرش الماء على وجهها، وقَالَ: يا أخية اعلمي أن أهل
الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، ولي أسوة برسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإني أقسم عليك يا أخية لا تشقي علي جيبا
ولا تخمشي وجها.
وقام الحسين وأصحابه يصلون الليل كله، ويدعون، فلما صلى عمرو بن سعد
الغداة- وذلك يوم عاشوراء- خرج فيمن معه من الناس، وعبأ الحسين أصحابه،
وكانوا
__________
[1] في الأصل: «القتل بمسلم» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(5/338)
اثنين وثلاثين فارسا، وأربعين راجلا، ثم
ركب الحسين دابته، ودعى بمصحف فوضعه أمامه، وأمر أصحابه فأوقدوا النار
فِي حطب كان وراءهم لئلا يأتيهم العدو من ورائهم.
فمر شمر فقَالَ: يا حسين، تعجلت النار فِي الدنيا. فقَالَ مسلم بن
عوسجة: ألا رميته بسهم؟ فقَالَ الحسين: لا، إني لأكره أن أبدأهم، ثم
قَالَ الحسين عليه السلام لأعدائه [1] : أتسبوني؟ فانظروا من أنا، ثم
راجعوا أنفسكم، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت
نبيكم؟ وابن ابن عمه؟ أليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ وجعفر الطيار عمي؟
فقَالَ شمر [بن ذي الجوشن] [2] : عبدت الله على غير حرف إن كنت أدري ما
تقول [3] . فقَالَ: أخبروني، أتطلبوني بقتيل [4] منكم قتلته؟ أو مال
لكم أخذته!؟ فلم يكلموه.
فنادى: يا شبث بن ربعي، يا قيس بن الأشعث، يا حجار، ألم تكتبوا إلي؟
قالوا:
لم نفعل، فقَالَ: فإذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم. فقال له قيس: أو لا
تنزل على حكم ابن عمك؟ فإنه لن يصل إليك منهم مكروه، فقَالَ: لا والله،
لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل.
فعطف عليه الحر فقاتل معه/ فأول من رمى عسكر الحسين عليه السلام بسهم:
140/ أعمرو بن سعد، وصار يخرج الرجل من أصحاب الحسين فيقتل من يبارزه،
فقَالَ عمرو بن حجاج للناس. يا حمقى. أتدرون من تقاتلون؟ هؤلاء فرسان
المصر، وهم قوم مستميتون، فقَالَ عمرو: صدقت، فحمل عمرو بن الحجاج على
الحسين، فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة أول أصحاب الحسين، وحمل شمر
وحمل أصحاب الحسين عليه السلام من كل جانب، وقاتل أصحاب الحسين قتالا
شديدا، فلم يحملوا على ناحية إلا كشفوها، وهم اثنان وثلاثون فارسا،
فرشقهم أصحاب عمرو بالنبل، فعقروا خيولهم، فصاروا رجالة، ودخلوا على
بيوتهم، يقوضونها ثم أحرقوها
__________
[1] في الأصل: «لأعدائهم» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول» .
[4] في الأصل: «تطالبوني» .
(5/339)
بالنار، فقتل أصحاب الحسين كلهم وفيهم بضعة
عشر شابا من أهل بيته منهم من أولاد علي عليه السلام: العباس، وجعفر،
وعثمان، ومُحَمَّد، وأبو بكر. ومنهم من أولاد الحسين: علي، وعبد الله،
وأبو بكر، والقاسم. ومنهم من أولاد عَبْد اللَّهِ بن جعفر:
عون، ومُحَمَّد. ومن أولاد عقيل: جعفر، وعبد الرحمن، وعَبْد اللَّهِ،
ومسلم، قتل بالكوفة. وقتل عَبْد اللَّهِ بن مسلم بن عقيل، ومُحَمَّد بن
أبي سعيد بن عقيل، وقتل عبد الله بن يقطر رضيع الحسين.
وجاء سهم فأصاب ابنا للحسين وهو فِي حجره، فجعل يمسح الدم عنه وهو
يقول: اللَّهمّ احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا. فحمل شمر
بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه، ونادى: علي بالنار حتى أحرق
هذا البيت على أهله. فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، وصاح به الحسين
عليه السلام: حرقك الله بالنار.
ثم اقتتلوا حتى وقت الظهر، وصلى بهم الحر صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعد
الظهر، وخرج علي بن الحسين الأكبر فشد على الناس وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي ... نحن ورب البيت أولى بالنبي
140/ ب/ تاللَّه لا يحكم فينا ابن الدعي
فطعنه مرة بن منقذ فصرعه، واحتوشوه فقطعوه بالسيوف، فقَالَ الحسين: قتل
الله قوما قتلوك يا بني، على الدنيا بعدك العفاء. وخرجت زينب بنت فاطمة
[تنادي] [1] : يا أخاه يا ابن أخاه. وأكبت عليه، فأخذ بيدها الحسين
فردها إلى الفسطاط، وجعل يقاتل قتال الشجاع، وبقي الحسين زمانا ما
انتهى إليه رجل منهم [إلا] [2] انصرف عنه وكره أن يتولى قتله، واشتد به
العطش فتقدم ليشرب، فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع فِي فمه، فجعل يتلقى
الدم ويرمي به السماء ويقول: اللَّهمّ أحصهم عددا واقتلهم مددا، ولا
تذر على الأرض منهم أحدا.
ثُمَّ جعل يقاتل، فنادى شمر فِي الناس: ويحكم، ما تنتظرون بالرجل،
اقتلوه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول.
(5/340)
فضربه زرعة بن شريك على كتفه، وضربه آخر
على عاتقه، وحمل عليه سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح، فوقع، فنزل
إليه فذبحه واجتز رأسه، فسلمه إلى خولى بن يزيد الأصبحي، ثم انتهبوا
سلبه، فأخذ قيس بن الأشعث عمامته، وأخذ آخر سيفه، وأخذ آخر نعليه، وآخر
سراويله، ثم انتهبوا ماله، فقَالَ عمرو بن سعد: من أخذ شيئا فليرده،
فما منهم من رد شيئا.
وجاء سنان حتى وقف على فسطاط عمرو بن سعد، ثم نادى:
أوقر ركابي فضة وذهبا ... فقد قتلت السيد المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فقَالَ له عمرو: يا مجنون، تتكلم بهذا الكلام؟ ثم قَالَ عمرو: من يوطئ
فرسه الحسين؟ فانتدب أقوام بخيولهم حتى رضوا ظهره، وأمر بقتل علي بن
الحسين، فوقعت عليه زينب وقالت: والله لا يقتل حتى أقتل. فرق لها وكف
عنه.
وبعث برأسه ورءوس أصحابه إلى ابن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا
وصاحبهم قيس بن الأشعث. وجاءت هوازن بعشرين رأسا وصاحبهم/ شمر بن ذي
141/ أالجوشن، وجاءت بنو تميم بسبعة عشر، وبنو أسد بستة، وبنو مدحج
بسبعة.
فلما وصل رأس الحسين إلى ابن زياد جعل ينكث ثنيته بقضيب فِي يده،
فقَالَ له زيد بن أرقم: والله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول
للَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هاتين الشفتين [يقبلهما]
[1] . ثم نصب رأس الحسين بالكوفة بعد أن طيف به، ثم دعي زفر بن قيس،
فبعث معه برأس الحسين ورءوس أصحابه إلى يزيد، فلما دخل على يزيد قَالَ:
ما وراءك؟ قَالَ: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، ورد علينا
الحسين فِي ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فسرنا إليهم،
فسألناهم أن يستسلموا أو ينزلوا على حكم ابن زياد أو القتال، فاختاروا
القتال، فغدونا عليهم من شروق الشمس، فأحطنا بهم، فجعلوا يهربون إلى
غير وزر ويلوذون منا بالآكام والحفر كما تلوذ الحمائم من
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
(5/341)
صقر، فو الله ما كان إلا جزر جزور أو نومة
قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وخدودهم معفرة،
تصهرهم الشمس، وتسفى عليه الريح، تزاورهم العقبان والرخم بقي سبسب [1]
.
فدمعت عينا يزيد وقَالَ: كنت أرضى من طاعتهم بدون قتل الحسين، لعن الله
ابن سمية، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه. ثم جلس يزيد، ودعى أشراف
أهل الشام، وأجلسهم حوله، ثم أدخلهم عليه.
أَخْبَرَنَا [2] عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد
الجبار قال:
أخبرنا الحسين بن علي الطناجيري قال: أخبرنا عمر بن أحمد بن شاهين
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سالم قَالَ:
حَدَّثَنَا علي بن سهل قال: حدثنا خالد بن خداس قَالَ:
حَدَّثَنَا حماد بن زيد، عن حميل بن مرة، عن أبي الوصي قال:
141/ ب/ نحرت الإبل التي حمل عليها رأس الحسين وأصحابه، فلم يستطيعوا
أكلها، كانت لحومها أمر من الصبر.
قَالَ مؤلف الكتاب [3] : ولما جلس يزيد وضع الرأس بين يديه وجعل ينكث
بالقضيب على فيه ويقول:
يفلقن هاما [4] من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقَالَ أبو برزة- وكان حاضرا: ارفع قضيبك، فو الله لرأيت فاه رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي فيه يلثمه.
أَخْبَرَنَا ابن ناصر قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن أَحْمَد السراج قَالَ:
أَخْبَرَنَا أبو طاهر مُحَمَّد بن علي العلاف قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحُسَيْنِ بْنُ أَخِي مِيمِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْنُ
صَفْوَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن محمد القرشي قال: حدثني
محمد بن صالح قال: حدثنا
__________
[1] القي من القواء، وهي الأرض القفر الخالية، والسبسب: المفازة.
[2] في ت: «حدثنا» وذلك في كل السند.
[3] في ت: «قال المصنف» .
[4] في ت: «تفلق هام الرجال» .
(5/342)
علي بن مُحَمَّد، عن خالد بن يزيد بن بشر
السكسكي، عن أبيه، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي قَالَ:
قدم برأس الحسين، فلما وضع بين يدي يزيد ضربه بقضيب كان فِي يده، ثم
قَالَ:
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
أنبأنا علي بن عبيد الله بن الزغواني قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو جعفر بن
المسلمة، عن أبي عبيد الله المرزباني قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن
أَحْمَد الكاتب قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بن أبي سعد الوراق
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن
يَحْيَى الأحمري قَالَ:
حَدَّثَنَا ليث، عن مجاهد قَالَ:
جيء برأس الحسين بن علي، فوضع بين يدي يزيد بن معاوية، فتمثل بهذين
البيتين، يقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
فأهلوا واستهلوا فرحا ... ثم قالوا لي: بقيت [1] لأتمثل
قَالَ مجاهد: نافق فيها، ثم والله ما بقي من عسكره أحدا إلا تركه.
قَالَ علماء السير: ثم [دعا] [2] يزيد بعلي بن الحسين وصبيان الحسين
ونسائه، فأدخلوا عليه/ فقَالَ لعلي: يا علي، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل
حقي، ونازعني 142/ أسلطاني، فصنع الله به ما رأيت. فقَالَ علي: مَا
أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي
كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها 57: 22 [3] . ثم دعا بالنساء
والصبيان، فأجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة، فقَالَ: قبح الله ابن
مرجانة، لو كانت بينكم وبينه قرابة ما فعل بكم هذا. فرق لهم يزيد، فقام
رجل أحمر من أهل الشام فقَالَ: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه- يعني
فاطمة بنت علي- وكانت وضيئة، فارتعدت وظنت أنهم يفعلون،
__________
[1] في الأصل: «يغيب» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول.
[3] سورة الحديد، الآية: 22.
(5/343)
فأخذت بثياب أختها زينب- وكانت زينب أكبر
منها- فقالت زينب: كذبت والله، ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقَالَ:
كذبت، إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلته، قالت:
كلا والله، ما جعل الله ذلك لك إلا أن يخرج من ملتنا ويدين بغير ديننا،
فعاد الشامين فقام وقَالَ: هب لي هذه، فقَالَ: اغرب، وهب الله لك حتفا
قاضيا، ثم قَالَ يزيد للنعمان بن بشير: جهزهم بما يصلحهم، وابعث معهم
رجلا من أهل الشام أمينا صالحا يسير بهم إلى المدينة.
ثم دخلن دار يزيد، فلم يبق من آل معاوية امرأة إلا استقبلتهن تبكي
وتنوح على الحسين، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعا علي بن
الحسين، فدعاه يوما ودعا معه عمرو بن الحسين- وكان صغيرا- فقَالَ يزيد
لعمرو: أتقاتل هذا؟ يعني ابنه خالدا. قَالَ:
لا، ولكن أعطني سكينا وأعطه سكينا، ثم أقاتله. فقَالَ يزيد: سنة أعرفها
من أحرم [1] ، ثم بعث بهم إلى المدينة، وبعث برأس الحسين إلى عمرو بن
سعيد بن العاص- وهو عامله على المدينة- فكفنه ودفنه بالبقيع عند قبر
أمه فاطمة. هكذا قَالَ ابن سعد.
وذكر ابن أبي الدنيا أنهم وجدوا فِي خزانة يزيد رأس الحسين، فكفنوه،
ودفنوه بدمشق عند باب الفراديس. 142/ ب ولما أتى أهل المدينة مقتل
الحسين عليه السلام/ خرجت ابنة عقيل [2] بن أبي طالب ومعها نساؤها
حاسرة وهي تبكي وتقول:
ماذا تقولون إن قَالَ النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم أفضل الأمم [3]
بعترتي وبأهلي عند منطلقي [4] ... منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بشر فِي ذوي رحم
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة
قال:
أخبرنا أبو طاهر المخلص قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن سليمان الطوسي
قال: حدثنا الزبير بن
__________
[1] في ت: «شنشنة أعرفها من أخزم» .
[2] في ت: «ولما أتى أهله المدينة خرجت ابنة عقيل» .
[3] في الطبري: «آخر الأمم» .
[4] في الطبري: «بعد مفتقدي» .
(5/344)
بكار قَالَ: حدثني عمي مصعب بْن عَبْد
اللَّهِ قَالَ: كان علي بن الحسين الأصغر مع أمه، وهو يومئذ ابن ثلاث
وعشرين سنة، وكان مريضا، فلما قتل الحسين قَالَ عمرو بن سعد: لا تعرضوا
لهذا المريض، قَالَ علي بن الحسين [1] : فغيبني رجل منهم فأكرم منزلي
واختصني وجعل يبكي كلما دخل وخرج، حتى كنت أقول: إن يكن عند أحد خير
فعند هذا. إلى أن نادى منادي عبيد الله بن زياد: ألا من وجد علي بن
الحسين فليأت به، فقد جعلنا فيه ثلاثمائة درهم. قَالَ: فدخل علي والله
وهو يبكي، وجعل يربط يدي إلى عنقي ويقول أخاف. وأخرجني إليهم مربوطا
حتى دفعني إليهم وأخذ ثلاثمائة درهم وأنا أنظر، وأدخلت على ابن زياد
فقَالَ: ما اسمك؟ فقلت: علي بن الحسين. فقال: أو لم يقتل الله عليا؟
قلت: كان أخي، يقال له علي أكبر مني، قتله الناس: قَالَ: بل الله قتله،
قلت: الله يتوفى الأنفس حين موتها.
فأمر بقتله، فصاحت زينب بنت علي: يا ابن زياد، حسبك من دمائنا، أسألك
باللَّه إن قتلته إلا قتلتني معه. فتركه، فلما صار إلى يزيد بن معاوية
قام رجل من أهل الشام فقَالَ: سباياهم لنا حلال، فقَالَ علي بن الحسين:
كذبت، ما ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا، فأطرق يزيد/ مليا ثم قَالَ لعلي
بن الحسين: إن أحببت أن تقيم، عندنا فنصل 143/ أرحمك فعلت، وإن أحببت
وصلتك ورددتك إلى بلدك، قَالَ: بل تردني إلى المدينة.
فوصله ورده. أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا أحمد [بن على] بن
ثابت قال: أخبرنا علي بن أحمد الرزاز، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الصواف قَالَ: حَدَّثَنَا بشر بن مُوسَى
قَالَ: حَدَّثَنَا عمر بن علي قَالَ:
قتل الحسين بن علي سنة إحدى وستين، وهو يومئذ ابن ست وخمسين سنة، فِي
المحرم يوم عاشوراء.
وقد قَالَ جعفر بن مُحَمَّد: وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
وقَالَ أبو نعيم الفضل بن دكين: وهو ابن خمس وستين أو ست وستين.
__________
[1] «قال علي بن الحسين» : ساقطة من ت.
(5/345)
قَالَ مؤلف الكتاب: وهذا لا وجه له، فإنه
إنما ولد فِي سنة أربع من الهجرة، ومن نظر في مقدار خلافة الخلفاء إلى
زمان قتله علم أنه لم يصل إلى الستين. وقول جعفر بن مُحَمَّد أصح.
وقَالَ هشام بن مُحَمَّد الكلبي: قتل سنة اثنتين وستين. وهو غلط.
أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ رِزْقٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
بَكْر مُحَمَّد بْن عُمَر الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ
الْحُبَابِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْخُزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَامِرِ
بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [1] قَالَ:
رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرَى
النَّائِمُ نِصْفَ النَّهَارِ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، بِيَدِهِ
قَارُورَةٌ، فقلت:
ما هذه القارورة؟ قَالَ: «دَمُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ مَا زِلْتُ
أَلْتَقِطُهُ مِنْذُ الْيَوْمِ» فَنَظَرْنَا فَإِذَا هُوَ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ قال: أخبرنا أحمد بن علي [2] قال: أخبرنا
أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ ميَاحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشَّافِعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ شَدَّادٍ الْمِسْمَعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
نُعْيَمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي
ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ [3] قال:
143/ ب أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ إِنِّي قَتَلْتُ بِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا
سَبْعِينَ أَلْفًا، وَإِنِّي قَاتِلٌ بِابْنِ ابْنَتِكَ سَبْعِينَ
أَلْفًا وَسَبْعِينَ أَلْفًا.
وأَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ
عَبْدِ الجبار قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْن أَحْمَد بْن
مُحَمَّد العتيقي قَالَ: سمعت أبا بكر مُحَمَّد بن الحسن بن عبدان
الصيرفي يقول: سمعت جعفر الخلدي يقول:
كان بي جرب عظيم فتمسحت بتراب قبر الحسين، فغفوت فانتبهت وليس علي منه
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 142.
[2] في الأصل: «أخبرنا الحسين بن علي» .
[3] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 142.
(5/346)
شيء. وزرت قبر الحسين فغفوت عند القبر
غفوة، فرأيت كأن القبر قد شق وخرج منه إنسان، فقلت: إلى أين يا ابن
رسول الله؟ فقَالَ: من يد هؤلاء.
وفِي هذه السنة: ولى يزيد بن معاوية سالم بن زياد سجستان وخراسان، فلما
شخص خرج معه المهلب بن أبي صفرة، ويَحْيَى بن معمر فِي خلق كثير من
أشراف البصرة وفرسانها، ورغب قوم في الجهاد، فطلبوا إليه أن يخرجهم،
وخرج معه صلة بن أشيم، فخرج سالم وأخرج معه امرأته أم مُحَمَّد بنت
عَبْد اللَّهِ بن عثمان بن أبي العاص، فغزا سمرقند، فهي أول امرأة من
العرب قطع بها النهر، وكان عمال خراسان يغزون، فإذا دخل الشتاء قفلوا
من مغازيهم إلى مرو، وإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان إلى مدينة
من مدائن خراسان مما يلي خوارزم يتشاورون فِي أمورهم، وكان المسلمون
يطلبون إلى أمرائهم غزو تلك المدينة فيأبون عليهم، فلما قدم سالم
خراسان شتا فِي بعض مغازيه، فألح عليه المهلب وسأله أن يوجه إلى تلك
المدينة، فوجهه فِي ستة آلاف- ويقال: فِي أربعة آلاف- فحاصرهم، فسألوه
أن يصالحهم على أن يفدوا أنفسهم، فأجابهم فصالحوه على نيف وعشرين ألف
ألف، فحظي بذلك المهلب عند سالم.
وفِي هذه السنة، عزل يزيد عمرو بن سعيد بن العاص عن المدينة، وولاها
الوليد بن عتبة، وذلك لهلال ذي الحجة.
وسبب ذلك: أنه لما قتل الحسين قام ابن الزبير فِي مكة، فعظم مقتل
الحسين عليه السلام، وعاب أهل الكوفة، ولام أهل العراق، فثار/ [إليه]
[1] أصحابه، [فقالوا: 44/ أأيها الرجل، لم يبق من بعد الحسين من ينازعك
بيعتك. وقد كان بايع الناس] [2] ، سرا وأظهر أنه عائذ بالبيت، فقَالَ
لهم: لا تعجلوا، فلما علم يزيد ما قد جمع ابن الزبير من الجموع أعطى
الله عهدا ليوثقن فِي سلسلة. فبعث سلسلة من فضة [3] . وغلالة وابن
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] «فبعث سلسلة من فضة» : ساقطة من ت.
(5/347)
الزبير [1] بمكة، وكاتبه أهل المدينة، وقيل
ليزيد: لو شاء عمرو بن سعيد لأخذ ابن الزبير وبعث به إليك. فعزل عمرا
وبعث الوليد أميرا.
وفِي هذه السنة: حج بالناس الوليد بن عتبة، وكان عامل يزيد على
المدينة، وكان على البصرة والكوفة: عبيد الله بن زياد، وعلى المدينة:
الوليد بن عتبة- كما ذكرنا- وعلى خراسان وسجستان: سالم بن زياد. وعلى
قضاء الكوفة: شريح، وعلى قضاء البصرة: هشام بن هبيرة.
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
408- جبير بن عتيك بن قيس، أبو عَبْد اللَّهِ [2] :
شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وكانت معه راية بني معاوية يوم الفتح.
وتوفي فِي هذه السنة وهو ابن إحدى وسبعين سنة.
409- الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام [3] :
ولد فِي شعبان سنة أربع من الهجرة، وَآَذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أذنه، وكان له من الولد: علي الأكبر،
وعلي الأصغر- وله العقب- وجعفر، وفاطمة، وسكينة.
وقد ذكرنا مقتله كيف كان فِي الحوادث.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا
أبو عمر بْن حيوية قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف الخشاب قال:
أخبرنا الحسين بن الفهم قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عمير
قال:
__________
[1] في الأصل: «وغلالة وابن الزبير» .
[2] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 37. وفي الأصل: «جبير» .
[3] تهذيب الكمال 1323، والتاريخ الكبير 2/ ترجمة 2846، وغيرها من كتب
التاريخ.
(5/348)
حج الحسين بن علي عليه السلام خمسا وعشرين
حجة ماشيا ونجائبه تقاد معه.
وقيل: علي بن الحسين بن علي هو الذي حج ماشيا والنجائب تقاد خلفه، رضي
الله عَنْهُ.
/ تم الجزء الخامس من كتاب «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» تأليف
الشيخ 144/ ب الإمام العالم الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن
محمد بن علي بن الجوزي، عفا الله عنه.
ويتلوه في [الجزء] السادس
- شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر قال: أخبرنا
أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: أخبرنا....
(5/349)
[المجلد السادس]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين
[تتمة سنة إحدى وستين]
[تتمة ذكر من توفى من الأكابر ... ]
410- شيبة بن عثمان بن أبي طلحة [1] :
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال:
أخبرنا أبو عمر بْنُ حَيْوَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ،
قَالَ: حدثنا ابْن الفهم، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعْدٍ،
قَالَ: قَالَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُ:
كَانَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ إِسْلامِهِ فَيَقُولُ
[2] : مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ لُزُومِ مَا
مَضَى عَلَيْهِ آبَاؤُنَا مِنَ الضَّلالاتِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْفَتْحِ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ مَكَّةَ
عَنْوَةً، قُلْتُ: أسير مَعَ قُرَيْشٍ إِلَى هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ
فَعَسَى أَنِ اخْتَلَطُوا أَنْ أُصِيبَ مِنْ مُحَمَّدٍ غِرَّةً
فَأَثْأَرُ مِنْهُ، فَأَكُونُ أَنَا الَّذِي قُمْتُ بِثَأْرِ قُرَيْشٍ
كُلِّهَا، وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَبَقَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ
أَحَدٌ إِلا اتَّبَع مُحَمَّدًا مَا اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا، فَلَمَّا
اخْتَلَطَ النَّاسُ اقْتَحَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله
وَسَلَّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ، وَأَصَلْتُ السَّيْفَ [3] فَدَنَوْتُ
أُرِيدُ مَا أُرِيدُ مِنْهُ، وَرَفَعْتُ سَيْفِي فَرُفِعَ لِي شُوَاظٌ
مِنْ نَارٍ كَالْبَرْقِ حَتَّى كَانَ يُمْحِشُنِي، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ
عَلَى بَصَرِي خَوْفًا عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إلي رسول الله صَلى
اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ فناداني: «يا شبيب [4] ، ادْنُ مِنِّي» ،
فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَمَسَحَ صَدْرِي وَقَالَ: «اللَّهمّ أعذه من
الشيطان» . فو الله لهو كان سَاعَتَئِذٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي
وَبَصَرِي وَنَفْسِي، فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي، ثُمَّ قَالَ:
«ادن فقاتل» فتقدمت أمامه
__________
[1] انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 5/ 1/ 331، والتاريخ الكبير
للبخاريّ 4/ 2661، وتهذيب تاريخ دمشق 6/ 439، والبداية والنهاية 8/
230.
[2] الخبر غير موجود في ابن سعد.
[3] كذا في الأصل، وفي البداية: «وانتضيت سيفي» .
[4] في ت، والبداية: «يا شيبة» .
(6/3)
أَضْرِبُ بِسَيفِي، اللَّهُ يَعْلَمُ
أَنِّي أُحِبُّ أَنْ أَقِيَهُ بِنَفْسِي كُلَّ شَيْءٍ، وَلَوْ لَقِيتُ
تِلْكَ السَّاعَةَ أَبِي لَوْ كَانَ حَيًّا لأَوْقَعْتُ بِهِ
السَّيْفَ، فَلَمَّا [1] تَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ وَكَرُّوا كَرَّةً
وَاحِدَةً [2] ، قَرُبَتْ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَوَى عَلَيْهَا فَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ
حَتَّى تَفَرَّقُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَرَجَعَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ/
فَدَخَلَ خِبَاءَهُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «يَا شَيْبَةُ [3]
، الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ بِنَفْسِكَ» ،
ثُمَّ حَدَّثَنِي بِكُلِّ مَا أَضْمَرْتُ فِي نَفْسِي مِمَّا لَمْ
أَكُنْ أَذْكُرُهُ لأَحَدٍ قَطُّ، فَقُلْتُ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا
إِلَهَ إِلا الله وأنك رسول الله، ثُمَّ قُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا
رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ. قال الواقدي: كان
عثمان بن أبي طلحة يلي فتح البيت إلى أن توفي، فدفع ذلك إلى شيبة بن
عثمان بن أبي طلحة، وهو ابن عمه، فبقيت الحجابة في ولد شيبة.
411- عبد المطلب بْن ربيعة بْن الحارث بْن عَبْد المطلب بن هاشم [4] :
صحب رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وروى عنه، ولم يزل
بالمدينة إلى عهد عمر، ثم تحول إلى دمشق فابتنى بها دارا، وتوفي بها في
خلافة يزيد [بن معاوية] [5] ، وإليه أوصى.
412- ميمونة بنت الحارث، زوج رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ
[6] :
تزوجها في عمرة القضية بسرف، بعد أن خرج من مكة، وبنى بها هناك، واتفق
أنها ماتت هناك في هذه السنة.
413- الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أبو وهب [7] :
قتل عقبة يوم بدر صبرا، وأسلم الوليد يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله
صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم علي صدقات بني المصطلق وخزاعة، وكانوا قد
أسلموا وبنوا المساجد بساحاتهم، فخرجوا
__________
[1] في الأصل: «فلم تراجع» .
[2] في الأصل: «وكروا كرة رجل واحد» .
[3] في الأصول: «يا شيب» .
[4] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 39، والإصابة 5246، وتهذيب التهذيب 6/ 383،
والبداية والنهاية 8/ 231.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] طبقات ابن سعد 8/ 94، والبداية والنهاية 8/ 63.
[7] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 15، 7/ 2/ 176، الجرح والتعديل 9/ 8.
(6/4)
يتلقونه بالسلاح، [فظنهم محاربين، فرجع
فأخبر النبي صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ أنهم لما رأوه لقوه بالسلاح]
[1] ومنعوا الصدقة، فهم رَسُولُ اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ
إِنَّ يبعث إليهم بعثا، وبلغهم ذلك، فقدموا على رسول الله صَلى اللهُ
عَلَيه وَسَلَّمَ فقالوا: سله هل ناطقنا أو كلمنا حتى رجع ونحن قوم
مؤمنون، فنزل على رسول الله صَلى اللهُ عليه وسلم وهو يكلمهم: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ... 49: 6 [2] الآية.
وولاه عمر صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ثم
عزله عنها، فلم يزل بالمدينة حتى بويع علي، فخرج إلى الرقة فنزلها
معتزلا/ لعلي ومعاوية، فمات بها، وقبره على خمسة عشر ميلا من الرقة،
كان له هناك ضيعة فمات بها.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] سورة: الحجرات، الآية: 6.
(6/5)
ثم دخلت سنة اثنتين
وستين
فمن الحوادث فيها مقدم وفد المدينة على
يزيد ومبايعتهم محمد بن حنظلة [1]
وكان السبب في ذلك أن يزيد لما عزل عمرو بن سعيد، وولى الوليد بن عتبة،
قدم الوليد [المدينة] [2] فأخذ غلمانا لعمرو، نحوا من ثلاثمائة فحبسهم،
فكلمه فيهم عمرو فأبى أن يخليهم، فخرج عمرو من المدينة وكتب إلى
غلمانه: إني باعث إلى كل رجل منكم جملا وأداته، تناخ لكم بالسوق [3] ،
فإذا أتاكم رسولي فاكسروا باب السجن، ثم ليقم كل رجل منكم إلى جمله
فليركبه، ثم أقبلوا علي [4] .
ففعل ذلك، فقدم على يزيد، فرحب به وعاتبه على تقصيره في أشياء يأمره
بها في ابن الزبير، فقال: يا أمير المؤمنين: الشاهد يرى ما لا يرى
الغائب، وإن جل أهل الحجاز مالوا إليه، ولم يكن معي جند أقوى عليه لو
ناهضته، فكنت أداريه لأتمكن منه [5] ، مع أني قد ضيقت عليه، فجعلت على
مكة وطرقها رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حتى يكتبوا لي اسمه واسم أبيه،
وما جاء به، فإن كان ممن أرى أنه يريده رددته صاغرا، وقد بعثت الوليد
وسيأتيك من عمله ما تعرف به فضل مبايعتي ومناصحتي.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 478، والبداية والنهاية 8/ 232.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[3] في الأصل: «تناح لكم بالحوف» . وما أوردناه من ت، والطبري.
[4] في الأصل: «ثم أقبلوا إليّ» ، وما أوردناه من الله والطبري.
[5] كذا في الأصل، وفي الطبري: «لأستمكر منه» وساقطة من ت.
(6/6)
فعزل يزيد الوليد، وبعث عثمان بن محمد بن
أبي سفيان وهو حدث لم يحنكه السن، وكان لا يكاد ينظر في شيء من عمله.
وبعث إلى يزيد وفدا من المدينة فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل، والمنذر
بن الزبير، فأكرمهم وأجازهم، ثم رجعوا إلى المدينة فأظهروا شتم يزيد
وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير
ويلعب بالكلاب، وإنا/ نشهدكم أنا قد خلعناه.
وقال المنذر: والله لقد أجازني بمائة ألف درهم، وإنه لا يمنعني ما صنع
إلي أن أصدقكم عنه، والله إنه ليشرب الخمر، وإنه ليسكر حتى يدع الصلاة.
ثم بايعوا عبد الله بن حنظلة.
وفيها: حج بالناس الوليد بن عتبة، وكان العمال على البلاد في هذه السنة
هم العمال فِي السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
414- بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج، أبو عبد الله:
[1]
أسلم لما مر به النبي صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ في طريق الهجرة.
وذلك أن رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ لما خرج من مكة
إلى المدينة فانتهى إلى الغميم أتاه بريدة بن الحصيب فدعاه رسول الله
صلى الله عَلَيْهِ وسلم إلى الإسلام هو ومن معه، وكانوا زهاء ثمانين
بيتا، فصلى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء
وصلوا خلفه ليلتئذ صدرا من سورة مريم، ثم قدم على رسول الله صَلى اللهُ
عَلَيه وَسَلَّمَ [المدينة] [2] بعد أن مضت بدر وأحد فتعلم بقية
السورة، وغزا معه مغازيه [3] بعد ذلك، واستعمله على أسارى المريسيع،
وأعطاه لواء يوم الفتح، وبعثه على أسلم وغفار يصدقهم، وإلى أسلم لما
أراد غزوة تبوك يستنفرهم، ولم يزل مقيما بالمدينة مع رسول الله صَلى
اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ إلى أن توفي، فلما فتحت البصرة تحول إليها
واختلط بها، ثم خرج
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 78، 7/ 1/ 3، 7/ 2/ 99، والتاريخ الكبير
للبخاريّ 2/ 1/ 141، والجرح والتعديل 1/ 1/ 424، وأسد الغابة 1/ 175،
وسير أعلام النبلاء 2/ 469، والبداية والنهاية 8/ 234.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «معونة» .
(6/7)
غازيا إلى خراسان، فمات بمرو في خلافة
يزيد.
415- الرّبيع بن خيثم، أبو يزيد الثوري [1] :
روى عن ابن مسعود وغيره.
أخبرنا علي بن عبد الواحد الدينَوَريّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن
عُمَر القزويني، قَالَ: أخبرنا أبو بكر بن شاذان، قال: أخبرنا البغوي،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن حنبل، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن فضيل،
عن أبيه، عن سعيد بن مسروق، قال: قال عبد الله للربيع بن خيثم [2] :
لو رآك رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ/ لأحبك.
قال أحمد: وحدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الواحد عن عبد الله بن
الربيع، عن أبي عبيدة، قال:
كان عبد الله يقول للربيع: ما رأيتك إلا ذكرت المخبتين [3] .
وكان الربيع إذا أتى عبد الله لم يكن عليه إذن حتى يفرغ كل واحد منهما
من صاحبه، وكان الربيع إذا جاء إلى باب عبد الله يقول للجارية: من
بالباب؟ فتقول الجارية ذلك الشيخ الأعمى.
وروى سفيان [4] بن نسير بن ذعلوق، عن إبراهيم التيمي، قال: أخبرنا من
صحب [5] الربيع بن خثيم عشرين عاما ما سمع منه كلمة تعاب.
وأخبرنا سفيان، قال: أخبرتني سرية الربيع بن خيثم قالت:
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 127، وطبقات خليفة 141، والتاريخ الكبير 3/
917، وحلية الأولياء 2/ 105، وسير أعلام النبلاء 4/ 258، والجرح
والتعديل 3/ 2068، والبداية والنهاية 8/ 234.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 127.
[3] المخبتون: المطمئنون، وقيل: هم المتواضعون الخاشعون لربهم.
[4] في الأصل: «عن سفيان» . وما أوردناه من ت، والخبر في طبقات ابن سعد
6/ 1/ 128.
[5] كذا في الأصل، وابن سعد، وفي ت: «من سمع» .
(6/8)
كان عمل الربيع بن خثيم كله سرا، كان ليجيء
الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه.
416- الرباب بنت امرئ القيس: [1]
تزوجها الحسين بن علي رضي الله عنهما، فولدت له سكينة، وكان يحبها حبا
شديدا، ويقول:
لعمرك إنني لأحب دارا ... تحل بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي [2] ... وليس لعاتب عندي عتاب
وكانت الرباب معه يوم الطف، فرجعت إلى المدينة مصابة مع من رجع، فخطبها
الأشراف من قريش، فقالت: والله لا يكون حمو آخر بعد رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فعاشت بعد الحسين رضي الله عنه سنة لم
يظلها سقف، فبليت وماتت كمدا.
417- علقمة بن قيس بن عبد الله، أبو شبل النخعي الكوفي: [3]
وهو عم الأسود وعبد الله ابني يزيد. وخال إبراهيم التيمي.
روى عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي الدرداء، وأبي
موسى، وغيرهم. روى عنه أبو وائل، والشعبي، والنخعي وابن سيرين.
وشهد حرب الخوارج بالنهروان، وكان/ من العلماء الربانيين، مقدما في
الحديث والفقه والزهد والورع، وكان يشبه بابن مسعود.
418- عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عوف، أبو الضحاك: [4]
استعمله النبي صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ على نجران اليمن وهو ابن
سبع عشرة سنة، وتوفي رسول
__________
[1] المحبر 396، وأعلام النساء 1/ 378.
[2] في الأصل: «وأبذل فوق جهدي» . وما أوردناه من ت. والبيتان في
الأغاني في 16/ 147، 148.
[3] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 57، وتاريخ بغداد 12/ 296، وحلية الأولياء 2/
98، وتذكرة الحفاظ 1/ 45، وتهذيب 7/ 276.
[4] البداية والنهاية 8/ 235، والإصابة 5812.
(6/9)
الله صلى الله عليه وسلم وهو عامله على
نجران، وعاش عمرو حتى أدرك معاوية وبيعته لابنه يزيد.
وتوفي بالمدينة.
419- عقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري: [1]
وجهه معاوية إلى أفريقية غازيا في عشرة آلاف من المسلمين فافتتحها
واختط قيروانها، وقد كان موضعه غيطة لا ترام من السباع والحيات وغير
ذلك من الدواب، فدعا الله تعالى عليها ونادى: إنا نازلون فاظعنوا، فلم
يبق شيء مما كان من السباع وغيرها إلا خرج، وجعلن يخرجن من جحرهن
هوارب، حتى أن السباع كانت تحمل [2] أولادها.
ثم قدم بعد موت معاوية على يزيد فرده واليًا على أفريقية في هذه السنة،
فعرض له جمع من الروم والبربر وهو في قل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل
عقبة شهيدا.
420- مسلمة بن مخلد بن الصامت، أبو معن، ويقال: أبو سعيد: [3]
ولد حين قدم رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ المدينة. وسمع من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر واختلط بها، وولي الجند
لمعاوية بن أبي سفيان ولابنه يزيد.
روى عنه علي بن رباح وغيره، وتوفي في ذي القعدة من هذه [4] السنة.
421- نوفل بن معاوية بن عمرو بن صخر بن يعمر: [5]
شهد بدرا مع المشركين، وأحدا والخندق، وكان له ذكر ونكاية، ثم أسلّم
بعد
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 235، والإستقصاء 1/ 36، 38، والبيان المغربي
1/ 19، وفتح العرب للمغرب 130، 152.
[2] من هنا سقاط من الله حتى باب ذكر خلافة عبد الملك بن مروان سنة خمس
وستين.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 195، والإصابة 7991، والسيرة الحلبية 2/ 138،
وتهذيب 10/ 148.
[4] في الأصل: «في» وما أوردناه من ت.
[5] البداية والنهاية 8/ 235، الإستيعاب بهامش الإصابة 3/ 509، وتهذيب
التهذيب 10/ 493.
(6/10)
ذلك وشهد مع رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه
وَسَلَّمَ فتح مكة وحنينا والطائف، ونزل المدينة، وحج مع أبي بكر سنة
تسع، / وحج مع رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ سنة عشر.
وروى عن رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وعاش ستين سنة في
الجاهلية، وستين سنة في الإسلام، وتوفي في خلافة يزيد، وكان له ولد
اسمه سلمى، وكان أجود العرب، وفيه يقول الشاعر:
يسود أقوام وليسوا بسادة ... بل السيد المحمود سلمى بن نوفل
(6/11)
ثم دخلت سنة ثلاث
وستين
فمن الحوادث فيها أخرج أهل المدينة عامل
يزيد وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان وخلعوا يزيد [1]
فذكر أبو الحسين المدائني عن أشياخه: أن أهل المدينة أتوا المنبر،
فخلعوا يزيد، فقال عبد الله بن أبي عمرو بن حفص المخزومي: قد خلعت يزيد
كما خلعت عمامتي- ونزعها عن رأسه- وإني لا أقول هذا وقد وصلني وأحسن
جائزتي، ولكن عدو الله سكير.
وقال آخر: قد خلعته كما خلعت نعلي، حتى كثرت العمائم والنعال، ثم ولوا
على قريش عبد الله بن مطيع، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة، ثم حاصر
القوم من كان بالمدينة من بني أمية ومواليهم ومن يرى رأيهم.
فكتب مروان وجماعة من بني أمية إلى يزيد: «إنا قد حصرنا في دار مروان،
ومنعنا العذب، فيا غوثاه» .
فوصل الكتاب إليه وهو جالس على كرسي واضع قدميه في ماء في طست من وجع
كان به- ويقال إنه كان به نقرس- ثم قال للرسول: أما يكون بنو أمية
ومواليهم بالمدينة ألف رجل؟ فقال: بلى وأكثر، قال: فما استطاعوا أن
يقاتلوا ساعة من نهار، فقال: أجمع الناس عليهم، فلم/ يكن بهم طاقة،
فبعث إلى عمرو بن سعيد فأقرأه
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 482 وقد ورد العنوان في الأصل: «إخراج أهل» .
(6/12)
الكتاب وأمره أن يسير إليهم، فقال: قد كنت
ضبطت لك البلاد وأحكمت الأمور، فأما الآن فإنما هي دماء قريش تهراق،
فلا أحب أن أتولى ذلك.
قال: فبعثني بالكتاب إلى مسلم بن عقبة وهو شيخ كبير، فجاء حتى دخل على
يزيد، فقال: اخرج وسر بالناس. فخرج مناديه فنادى: أن سيروا إلى الحجاز
على أخذ أعطياتكم كملا [1] ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل من
ساعته، فانتدب لذلك اثني عشر ألفا، وكتب يزيد إلى ابن مرجانة: أن اغز
ابن [2] الزبير، فقال: لا والله لا أجمعهما [3] للفاسق أبدا، أقتل ابْن
[بنت] [4] رَسُول اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وأغزو البيت.
وفصل ذلك الجيش من عند يزيد وعليهم مسلم بن عقبة، وقال له: إن حدث بك
حادث [5] فاستخلف على الجيش حصين بن نمير السكوني، وقال له: ادع القوم
ثلاثا، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا، فما
فيها من مال أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عنهم،
وانظر علي بن الحسين فاستوص به [خيرا] [6] ، أدن مجلسه فإنه لم يدخل في
شيء مما دخلوا فيه.
وأقبل مسلم بن عقبة بالجيش حتى إذا بلغ أهل المدينة إقباله وثبوا على
من معهم من بني أمية فحصروهم [7] في دار مروان، فقالوا: لا والله لا
نكف عنكم حتى نستنزلكم، ونضرب أعناقكم، أو تعطونا عهد الله وميثاقه أن
لا تبغونا غائلة، ولا تدلوا لنا على عورة، ولا تظاهروا علينا عدوا،
فأعطوهم العهد على ذلك، فأخرجوهم من المدينة، فخرجوا بأثقالهم حتى لقوا
مسلم بن عقبة بوادي القرى، فدعا بعمرو بن عثمان وقال له: أخبرني ما
وراءك، وأشر علي، قال: لا أستطيع أن أخبرك/ شيئا،
__________
[1] أي: كاملا، هكذا يتكلم به في الجميع والوحدان سواء، ولا يثنى ولا
يجمع، وليس بمصدر ولا نعت، إنما كقولك أعطيته كله.
[2] في الأصل: «أن أعزوا ابن الزبير، وما أوردناه من الطبري.
[3] في الأصل: «أجمعها» . وما أوردناه من الطبري.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[5] كذا في الأصل، وفي الطبري: «إن حدث بك حدث» .
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[7] في الأصل: «وهم محصورون» . وما أوردناه من الطبري.
(6/13)
أخذت علينا العهود والمواثيق أن لا ندلك
على عورة، فانتهره وقال: لولا أنك ابن عثمان لضربت، وأيم الله لا
أقيلها قرشيا بعدك، فخرج بما لقي من عنده إلى أصحابه، فقال مروان لابنه
عبد الملك: ادخل [1] قبلي لعله يجتزئ بك عني [2] ، فدخل عليه عبد
الملك، فقال: هات ما عندك، أخبرني خير الناس، وكيف ترى؟ فقال له: أرى
أن تسير بمن معك حتى تأتيهم من قبل الحرة، ففعل وقال: يا أهل المدينة،
إن أمير المؤمنين يزيد يزعم أنكم الأصل، ويقول: إني أكره إراقة دمائكم،
وإني أؤجلكم ثلاثا، فمن راجع الحق أمنته ورجعت عنكم وسرت إلى هذا
الملحد الذي بمكة، وإن أبيتم فقد أعذرنا إليكم، فلما مضت الأيام
الثلاثة قال: يا أهل المدينة ما تصنعون؟ قالوا:
نحارب، فقال: لا تفعلوا وادخلوا في الطاعة، فقالوا: لا نفعل. وكانوا قد
اتخذوا خندقا ونزله منهم جماعة وكان عليهم عبد الرحمن بن زهير بن عبد
عوف [3] ، وكان عبد الله بن مطيع على ربع آخر في جانب المدينة، وكان
معقل بن سنان الأشجعي على ربع آخر وكان أمير جماعتهم عبد الله بن حنظلة
الغسيل الأنصاري في أعظم تلك الأرباع وأكثرها عددا [4] .
وقيل: كان ابن مطيع على قريش، وابن حنظلة على الأنصار، ومعقل بن سنان
على المهاجرين.
فحمل ابن الغسيل على الخيل حتى كشفها، وقاتلوا قتالا شديدا، وجعل مسلم
يحرض أصحابه- وكان مريضا، فنصب له سرير بين الصفين- وقال: قاتلوا عن
أميركم، وأباح مسلم المدينة ثلاثا، يقتلون الناس ويأخذون الأموال،
فأرسلت سعدى بنت عوف المرية [5] إلى مسلم، تقول بنت عمك مر أصحابك لا/
يعترضوا الإبل لنا بمكان كذا، فقال: لا تبدءوا إلا بها. وجاءت امرأة
إلى مسلم وقالت: أنا مولاتك وابني
__________
[1] في الأصل: «أخرج» ، وما أوردناه من الطبري.
[2] في الأصل: «يجتزي بك مني» وما أوردناه من الطبري.
[3] في الأصل: «عبد الرحمن بن أزهر» وما أوردناه من الطبري.
[4] في الأصل: «وأكثرهم عددا» . وما أوردناه من الطبري.
[5] في الطبري: «سعدى بنت عوف المدينة» .
(6/14)
في الأسرى، فقال: عجلوه لمكانها، فضربت
عنقه وقال: اعطوها رأسه، أما ترضين أن لا تقتلي حتى تكلمي في ابنك،
ووقعوا على النساء، وقاتل عبد الله بن مطيع حتى قتل هو وبنون له سبعة،
وبعث برأسه إلى يزيد.
فأفزع ما جرى من كان بالمدينة من الصحابة، فخرج أبو سعيد الخدري حتى
دخل الجبل، فدخل عليه رجل بسيف، فقال: من أنت؟ فقال: أبو سعيد، فتركه.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّد بن عبد الواحد، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أبو بكر أحمد بْن إبراهيم بن شاذان، قال:
أخبرنا أحمد بن محمد بن شيبة البزاز، قال: أخبرنا أحمد بن الحارث
الخزاز، قال:
حدثنا أبو الحسن المدائني، عن أبي عبد الرحمن القرشي، عن خالد الكندي،
عن عمته أم الهيثم بنت يزيد، قالت:
رأيت امرأة من قريش تطوف، فعرض لها أسود، فعانقته وقبلته، فقلت: يا أمة
الله، أتفعلين هذا بهذا الأسود، قالت: هو ابني وقع علي أبوه يوم الحرة،
فولدت هذا.
وعن المدائني، عن أبي قرة، قال: قال هشام بن حسان [1] : ولدت ألف امرأة
بعد الحرة من غير زوج، ثم دعى مسلم بالناس إلى البيعة ليزيد، وقال:
بايعوا على أنكم خول له، وأموالكم له، فقال يزيد بن عبد الله بن ربيعة:
نبايع على كتاب الله، فأمر به فضربت عنقه، وبدأ بعمرو بن عثمان، فقال:
هذا الخبيث ابن الطيب، فأمر به فنتفت لحيته.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عبد
الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الواحد، قَالَ: أخبرنا
أبو بكر بْن شَاذَان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن محمد بن شيبة،
قال: / أخبرنا أحمد بن الحارث، قال: حدثنا المدائني، عن حويرثة وابن
جعدية:
أن مسلما نظر إلى قتلى الحرة، فقال: إن دخلت النار..... [2] بعدها ولا
إني لشقي.
__________
[1] الخبر في البداية والنهاية 8/ 239.
[2] مكان النقط في الأصل بياض.
(6/15)
وأسر مسلم أسراء فحبسهم ثلاثة أيام لم
يطعموا فجاءوا بسعيد بن المسيب إلى مسلم، فقالوا: بايع، فقال: أبايع
على سيرة أبي بكر وعمر، فأمر بضرب عنقه، فشهد له رجل أنه مجنون فخلى
عنه.
وعن المدائني، عن علي بن عبد الله القرشي، وأبي إسحاق التميمي، قال:
لما انهزم أهل المدينة والصبيان، فقال ابن عمر: بعثمان ورب الكعبة.
وعن المدائني، عن محمد بن عمر قال: قال ذكوان مولى مروان: شرب مسلم بن
عقبة دواء بعد ما انهب المدينة، ودعا بالغداء، فقال له الطبيب: لا تعجل
فإنّي أخاف عليك إن أكلت قبل أن يعمل الدواء، قال: ويحك، إنما أحب
البقاء حتى أشفي قلبي- أو قال: نفسي- من قتلة عثمان، فقد أدركت ما أردت
فليس شيء أحب إلي من الموت على طهارتي، فإني لا أشك أن الله قد طهرني
من ذنوبي بقتلي هؤلاء الأرجاس.
وعن المدائني، عن شيخ من أهل المدينة، قال: سألت الزهري: كم كانت
القتلى يوم الحرة؟ قال: سبعمائة من وجوه الناس من قريش والأنصار
والمهاجرين ووجوه الموالي، وممن لا يعرف من عبد وحر وامرأة عشرة آلاف،
وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وانتهبوا المدينة
ثلاثة أيام.
وعن المدائني، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن رجل من قريش، قال: كنت
أنزل بذي الحليفة فدخلت المسجد فإذا رجل مريض، قلت: من أنت؟ قال: أنا
رجل من خثعم أقبلت نجران فمرضت فتركني أصحابي ومضوا، فحولته إلى
المنزل، فكان عندنا حتى صح، وأقام عندنا حينا كرجل منا، وعملت لصاحبتي
حليا بمائة دينار وهو يرى ذلك، ثم خرج إلى الشام، فقدم المدينة أيام
الحرة وقد/ تحولنا من ذي الحليفة إلى المدينة، فلما انتهب مسلم المدينة
أتانا في جماعة فسمعت الجلبة في الدار، فخرجت فإذا أنابه وأصحابه
خارجا، فقلت له: قد كنا نتمناك، قال: ما جئت إلا لأدفع عن دمك، ولكني
آخذ مالك، فإن الأمير قد أمرنا بالنهب، وسيؤخذ ما عندك وأنا أحق به،
فقلت: أنت لعمري أحق به، فاصرف أصحابك وخذه وحدك، فخرج فرد أصحابه
ورجع، فقال: ما فعل الحلي؟ قلت: على حاله، قال: فهاته، قلت: هو مدفون
بذي الحليفة عند البئر التي رأيت، فإذا أمسينا خرجنا إليها فأدفعه
إليك. فلما أمسيت خرجت
(6/16)
أنا وهو وتبعني ابنان لي حتى انتهينا إلى
البئر وطولها ثلاثون ذراعا، فأخذناه أنا وابناي، فشددناه وثاقا،
وأرميناه في البئر ودفناه فيها ورجعنا، فلما أصبحنا إذا رجل ممن كان
معه بالأمس قد أتانا، فقال: أين أبو المحرش؟ قلنا: غدا حين أصبح، قال:
أراه والله خدعنا وأخذ المتاع، قلنا: ما أخذ شيئا، ادخل فانظر، فدخل
فأغلقنا عليه الباب وقتلناه.
وعن المدائني، عن سلمان بن أبي سلمان، عن أبي بكر بن إبراهيم بن نعيم
بن النحام، قال:
مر ركب من أهل اليمن إلى الشام يريدونه ومعهم رجل مريض، فأرادوا دفنه
وهو حي، فمنعهم أبي فمضوا وخلفوه، فلم يلبث أن بريء وصح، فجهزه أبي
وحمله، وكان ممن قدم مع مسلم، فرأته جاريه لنا، فعرفته، فقالت: عمرو،
فقال: نعم وعرفها، قال:
ما فعل أبو إسحاق؟ قالت: قتل، فقال لأصحابه: هؤلاء أيسر أهل [بيت] [1]
بالمدينة، فانتهبوا منزلهم، فكان يضرب به المثل بالمدينة: «وأنت أقل
شكرا من عمرو» .
ثم استخلف مسلم على المدينة روح بن زنباع، وسار إلى ابن الزبير، فاحتضر
في الطريق، فقال لحصين بن نمير: إنك تقدم بمكة ولا منعة لهم ولا سلاح،
/ ولهم جبال تشرف عليهم، فانصب عليهم المنجنيق فإنهم بين جبلين، فإن
تعوذوا بالبيت فارمه واتجه على بنيانه.
قال أبو معشر والواقدي: كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين خلتا من
ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
وقال بعضهم: لثلاث بقين منه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
422- ربيعة بن كعب الأسلمي: [2]
أسلم قديما وكان من أهل الصفة، وكان يَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبيت على بابه
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 44، وحلية الأولياء 2/ 31، والاستيعاب 4/
1727، وأسد الغابة 2/ 171.
(6/17)
لحوائجه، ويغزو معه، فلما مات رسول الله
صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ خرج فنزل [يين، وهي من بلاد أسلم، وهي]
[1] على بريد من المدينة، وبقي إلى أيام الحرة.
أَخْبَرَنَا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قَالَ: حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثِني مُحَمَّدُ
بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ نُعَيْمٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ
كَعْبٍ، قَالَ: [2] كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجِهِ نَهَارِي أَجْمَعَ
حَتَّى يُصَلِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، فَأَجْلِسُ بِبَابِهِ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ
أَقُولُ: لَعَلَّهُ أَنْ تَحْدُثَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيه وَسَلَّمَ حَاجَةً، فَمَا أَزَالَ أَسْمَعُهُ يَقُولُ: [3]
سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، [سُبْحَانَ اللَّهِ] [4]
وَبِحَمْدِهِ، حَتَّى أَمَلَّ [5] فَأَرْجِعُ أَوْ تَغْلِبَنِي [6]
عَيْنِي فَأَرْقُدُ. [قَالَ] : فَقَالَ لِي يَوْمًا لَمَّا يَرَى مِنْ
خِفَّتِي [7] [لَهُ] [8] وَخِدْمَتِي إِيَّاهُ: يَا رَبِيعَةُ، سَلْنِي
أُعْطِكَ [9] . قَالَ: فَقُلْتُ: أَنْظُرُ فِي أَمْرِي يَا رَسُولَ
اللَّهِ ثُمَّ أُعْلِمُكَ ذَلِكَ، قَالَ: فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي
فَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ، وَأَنَّ لِي
فِيهَا رِزْقًا سَيَكْفِينِي وَيَأْتِينِي. قَالَ: فَقُلْتُ: أَسْأَلُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ لآخِرَتِي، فَإِنَّهُ
مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ بِهِ، قَالَ: /
فَجِئْتُهُ فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ يَا رَبِيعَةُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ:
نَعَمْ يَا رسول الله، أَسْأَلُكَ أَنْ تَشْفَعَ لِي إِلَى رَبِّكَ
فَيَعْتِقَنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَقَالَ: «مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا
يَا رَبِيعَةُ؟» قَالَ: فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ، مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ
سَلْنِي أُعْطِكَ، وَكُنْتَ مِنَ اللَّهِ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي أَنْتَ
بِهِ نَظَرْتُ فِي أَمْرِي وعرفت أن الدنيا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ابن سعد.
[2] الخبر في مسند أحمد بن حنبل 4/ 59.
[3] في المسند: «أسمعه يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من المسند.
[5] في الأصل: «حتى أصلي» ، وما أوردناه من المسند.
[6] في الأصل: «أمر يعلى» هكذا بدون نقط، وما أوردناه من المسند.
[7] في المسند: «حقي» .
[8] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من المسند.
[9] في المسند: «سلني يا ربيعة أعطك» .
(6/18)
مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ، وَأَنَّ لِيَ
فِيهَا رِزْقًا سَيَأْتِينِي، فَقُلْتُ: أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ لآخِرَتِي، قَالَ:
فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ طَوِيلا،
ثُمَّ قَالَ لِي: «إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ
[بِكَثْرَةِ] [1] السُّجُودِ» .
423- عبد الله بن حنظلة الغسيل ابن أبي عامر الراهب: [2]
كان حنظلة لما أراد الخروج إلى أحد وقع على امرأته جميلة، فعلقت بعبد
الله في شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة، وقتل حنظلة يومئذ
شهيدا فغسلته الملائكة، فقال لولده: بنو غسيل الملائكة، وولدت جميلة
عبد الله، فقبض رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ ولعبد الله سبع
سنين.
ولما وثب أهل المدينة ليالي الحرة فأخرجوا بني أمية عن المدينة،
وأظهروا عيب يزيد، أجمعوا على عبد الله، فأسندوا أمرهم إليه فبايعهم
على الموت وقال: يا قوم، اتقوا الله وحده، فو الله ما خرجنا على يزيد
حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إن رجلا ينكح الأمهات والبنات
والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس
لأبليت للَّه فيه بلاء حسنا. فتواثب الناس يومئذ يبايعون من كل
النواحي. وما كان لعبد الله بن حنظلة تلك الليالي [3] مبيت إلا المسجد،
فلما دخلوا المدينة قاتل حتى قتل يومئذ.
424- أبو عائشة الهمداني، واسمه مسروق بن الأجدع بن مالك: [4]
/ سرق وهو صغير ثم وجد فسمي مسروقا. ورأى أبا بكر وعمر وعثمان وعليا
وابن مسعود، وحضر مع علي حرب الخوارج بالنهروان، وقال عمر بن الخطاب:
ما اسمك؟ فقال: مسروق بن الأجدع، فقال: مسروق بن عبد الرحمن [5] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من المسند.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 46، والتاريخ الكبير 5/ 168، والجرح والتعديل
5/ 131، والاستيعاب 3/ 892، وسير أعلام النبلاء 3/ 321، وتهذيب تاريخ
دمشق 7/ 373.
[3] في الأصل: «تلك الليلة» وما أوردناه من ابن سعد. 5/ 1/ 48.
[4] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 50، تاريخ بغداد 13/ 232.
[5] تاريخ بغداد 13/ 232.
(6/19)
وعمرو بن معديكرب خال مسروق [1] .
وقال ابن المديني [2] : ما أقدم على مسروق أحدا من أصحاب عبد الله.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بن محمد المعدل، قال: أخبرنا دعلج، قال:
حدثنا إبراهيم بن أبي طالب، قال:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حجاج، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال:
حج مسروق فلم ينم إلا ساجدا على وجهه حتى رجع [3] .
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: حدثنا ابن رزق، قال:
أخبرنا أحمد بن سلمان [4] ، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثني
أزهر بن مروان، قال:
حدثنا حماد بن زيد، عن أنس بن سيرين، أن امرأة مسروق قالت:
كان يصلي حتى ورمت [5] قدماه، فربما جلست خلفه أبكي [6] مما أراه يصنع
بنفسه [7] .
توفي مسروق رضي الله عنه بالكوفة في هذه السنة، وهي سنة ثلاث وستين،
وله ثلاث وستون سنة.
__________
[1] تاريخ بغداد 13/ 233.
[2] في الأصل المدائني، وما أوردناه من تاريخ بغداد 13/ 233.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 234.
[4] في الأصل: «سليمان» . والتصحيح من تاريخ بغداد 13/ 234، وهو «أحمد
بن سلمان النجاد» .
[5] في تاريخ بغداد: «حتى تورم» .
[6] في تاريخ بغداد: «جلست أبكي خلفه» .
[7] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 234.
(6/20)
ثم دخلت سنة أربع وستين
فمن الحوادث فيها مسير أهل الشام إلى مكة
لحرب عبد الله بن زبير ومن كان على مثل رأيه في الامتناع على يزيد بن
معاوية [1]
قال علماء السير [2] : لما فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة
وإنهاب جنده أموالهم ثلاثا، شخص بمن معه من الجند متوجها نحو مكة، وخلف
على المدينة روح بن زنباع الجذامي.
وقيل: خلف عمرو بن محرز الأشجعي.
فسار ابن عقبة حتى إذا انتهى إلى فقا/ المشلل [3] نزل به الموت، وذلك
في آخر المحرم سنة أربع وستين، فدعا حصين بن نمير السكوني، فقال له: يا
برذعة الحمار [4] ، أما لو كان هذا الأمر إلي ما وليتك هذا الجند، ولكن
أمير المؤمنين ولاك بعدي، وليس لأمره مترك [5] ، أسرع المسير، ولا تؤخر
ابن الزبير ثلاثا حتى تناجزه، ثم قال: اللَّهمّ إني لم أعمل عملا قط
بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 496، والبداية والنهاية 8/ 243.
[2] ورد في تاريخ الطبري 5/ 496 عن أبي مخنف.
[3] في تاريخ الطبري: «حتى إذا انتهى إلى المشلل، ويقال: إلى قفا
المشلل» .
[4] في الطبري: «يا ابن برذعة الحمار» . وفي البداية كما في الأصل.
[5] في تاريخ الطبري 5/ 496: «وليس لأمره مردّ» .
(6/21)
أحب إلي من قتل أهل المدينة، ولا أرجى
[عندي] [1] في الآخرة. ومات فدفن بالمشلل [2] .
ثم خرج الحصين بن نمير بالناس، فقدم على ابن الزبير مكة لأربع بقين من
المحرم، فحاصر ابن الزبير أربعا وستين يوما حتى جاءهم- يعني يزيد بن
معاوية- لهلال ربيع الآخر، وكان القتال في هذه المدة شديدا، وقذف البيت
بالمجانيق [3] في يوم السبت ثالث ربيع الأول، وأحرق بالنار، وكانوا
يرتجزون ويقولون: [4]
كيف ترى صنيع أم فروه ... تأخذهم بين الصفا والمروه
يريدون بأم فروة: المنجنيق.
وروى الواقدي، عن أشياخه [5] : أنهم كانوا يوقدون حول البيت، فأقبلت
شرارة فأحرقت ثياب الكعبة وخشب البيت في يوم السبت ثالث ربيع الأول.
وفي رواية: أن رجلا أخذ قبسا في رأس رمح له، فطارت به الريح فاحترق.
وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، قَالَ [6] :
لَمَّا سَارَ أَهْلُ الشَّامِ فَحَاصَرُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ سَمِعَ
أَصْوَاتًا مِنَ اللَّيْلِ فَوْقَ الْجَبَلِ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ
أَهْلُ الشَّامِ قَدْ وَصَلُوا إِلَيْهِ، وَكَانَتْ لَيْلَةً ظَلْمَاءَ
ذَاتَ رِيحٍ شَدِيدَةٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ، فَرَفَعَ نَارًا عَلَى
رَأْسِ رُمْحٍ لِيَنْظُرَ إِلَى النَّاسِ، فَأَطَارَتْهَا الرِّيحُ
فَوَقَعَتْ عَلَى أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَأَحْرَقَتْهَا
وَاسْتَطَارَتْ فِيهَا، وَجَهِدَ النَّاسُ فِي إِطْفَائِهَا فَلَمْ
يَقْدِرُوا/ فَأَصْبَحَتِ الْكَعْبَةُ تَتَهَافَتُ، وَمَاتَتِ
امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَخَرَجَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مَعَ
جِنَازَتِهَا خَوْفًا مِنْ أَنْ يَنْزِلَ الْعَذَابُ عليهم، وأصبح ابن
الزبير
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الطبري: «فدفن بقفا المشلل.
[3] في الأصل: «بالمنجنيقات» ، وما أوردناه من الطبري.
[4] كذا في الأصل، وفي الطبري: «وأخذوا يرتجزون ويقولون:
خطارة مثل الغنيق المزبد ... ترمي بها أعواد هذا المسجد
قال هشام: قال أبو عوانة: جعل عمرو بن حوط السدوسي يقول:
كيف ترى صنيع أم فروه ... تأخذهم بين الصفا والمروة
[5] تاريخ الطبري 5/ 498.
[6] أوردها ابن كثير في البداية 8/ 244، دون نسبتها، فقال: «وقيل» .
(6/22)
سَاجِدًا يَدْعُو وَيَقُولُ: «اللَّهمّ
إِنِّي لَمْ أَعْتَمِدْ مَا جَرَى، فَلا تُهْلِكْ عِبَادَكَ بِذَنْبِي،
وَهَذِهِ نَاصِيَتِي بَيْنَ يَدَيْكَ» . فَلَمَّا تَعَالَى النَّهَارُ
أَمِنَ النَّاسُ وَتَرَاجَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ: يَنْهَدِمُ فِي بَيْتِ
أَحَدِكُمْ حَجَرٌ فَيَبْنِيهِ وَيُصْلِحُهُ، وَأَتْرُكُ الْكَعْبَةَ
خَرَابًا. ثُمَّ هَدَمَهَا مُبْتَدِئًا بِيَدِهِ، وَتَبِعَهُ
الْفَعَلَةُ إِلَى أن بلغوا إلى قواعدها، ودعي بناءين مِنَ الْفُرْسِ
وَالرُّومِ. فَبَنَاهَا.
وفي هذه السنة جاء نعي يزيد بن معاوية
لهلال ربيع الآخر وفيها بويع لمعاوية بن يزيد بالشام بالخلافة، ولعبد
الله بن الزبير بالحجاز [1] .
ولما هلك يزيد مكث الحصين بن نمير وأهل الشام يقاتلون ابن الزبير ولا
يعلمون بموت يزيد أربعين يوما وقد حصروهم حصارا شديدا، وضيقوا عليهم،
فبلغ موته ابن الزبير قبل أن يبلغ حصين، فصاح بهم ابن الزبير: إن
طاغيتكم قد هلك، فمن شاء منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، ومن
كره فليلحق بشآمه، فما صدقوا، حتى قدم ثابت بن قيس بن المنقع [2]
النخعي، فأخبر الحصين بذلك، فبعث الحصين بن نمير إلى ابن الزبير: موعد
ما بيننا وبينك الليلة الأبطح. [فالتقيا] [3] ، فقال له الحصين:
إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق بهذا الأمر، هلم فلنبايعك، ثم اخرج
معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذين معي [هم] وجوه أهل الشام وفرسانهم،
فو الله لا يختلف عليك اثنان [4] ، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التي
كانت بيننا وبينك. فقال: لا أفعل، ولأقتلن بكل رجل عشرة [5] . فقال
الحصين: قد كنت أظن أن لك رأيا، أنا أدعوك إلى الخلافة وأنت تعدني
بالقتل.
ثم خرج وصاح في الناس/ فأقبل بهم نحو المدينة، وندم ابن الزبير على ما
صنع، فأرسل إليه: أما أن أسير إلى الشام فلست فاعلا لأني أكره الخروج
من مكة،
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 501.
[2] في الأصل: «ابن المقفع» وما أوردناه من الطبري.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[4] في الأصل: «لا يختلف عليك الناس» وما أوردناه من الطبري.
[5] في الطبري: «ولا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة» .
(6/23)
ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم. فقال
الحصين: أرأيت [إن] [1] لم تقدم بنفسك، ووجدت هناك أناسا كثيرا من أهل
هذا البيت يطلبونها يجيبهم الناس، [فما أنا صانع؟
فأقبل بأصحابه ومن معه نحو المدينة، فاستقبله علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب] [2] واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام فذلوا حتى
كان لا ينفرد منهم رجل إلا أخذ بلجام دابته فنكس عنها. فقالت لهم بنو
أمية: لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشام، ففعلوا ومضى ذلك الجيش
حتى دخلوا الشام وقد أوصى يزيد بالبيعة لابنه معاوية.
وفي هذه السنة بايع أهل البصرة عبيد الله
بن زياد [3]
على أن يقوم لهم بأمرهم حتى يصطلح الناس على إمام يرتضونه لأنفسهم، ثم
أرسل [4] عُبَيْد الله رسولا إلى أهل الكوفة يدعوهم إلى مثل ذلك فأبوا
عليه، وحصبوا الوالي الذي كان عليهم.
وذلك [5] أنه لما بلغت عبيد الله وفاة يزيد، قام خطيبا، فحمد الله
وأثنى عليه وقال: يا أهل البصرة، لقد وليتكم وما أحصى ديوان مقاتلتكم
إلا سبعين ألف مقاتل، ولقد أحصى اليوم ثمانين ألف مقاتل، وما أحصى
ديوان عمالكم [6] إلا تسعين ألفا، ولقد أحصى اليوم مائة ألف وأربعين
ألفا، وما تركت لكم ذا ظنة أخافه عليكم إلا وهو في سجنكم، وإن أمير
المؤمنين يزيد قد توفي، وقد اختلف أهل الشام وأنتم اليوم أكثر الناس
عددا، وأوسعهم بلادا، وأغنى عن الناس [7] ، فاختاروا لأنفسكم رجلا
ترضونه
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[3] تاريخ الطبري 5/ 503.
[4] في الأصل: «فأرسل» وما أوردناه من الطبري.
[5] تاريخ الطبري 5/ 504.
[6] في الأصل: «عيالكم» وما أوردناه من الطبري.
[7] في الطبري: «أنتم اليوم أكثر الناس عددا وأعرضه فناء، وأغناه عن
الناس، وأوسعه بلادا.
وفي ابن الأثير: «أنتم اليوم أكثر الناس عددا وأعرضهم فناء، وأغنى عن
الناس وأوسعهم بلادا» .
(6/24)
لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راض من رضيتموه،
فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترضونه دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن
كرهتم ذلك [كنتم على جديلتكم حتى تعطوا] [1] حاجتكم، فما لكم إلى [2]
أحد من أهل البلدان/ حاجة.
فقامت خطباء أهل البصرة فقالوا: والله ما نعلم أحدا أقوى منك عليها،
فهلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في ذلك، فاختاروا لأنفسكم، فأبوا غيره
وأبى عليهم حتى كرروا ذلك ثلاث مرات. فلما أبوا بسط يده فبايعوه. ثم
خرجوا يمسحون أكفهم بباب الدار وحيطانه، وجعلوا يقولون: أظن ابن مرجانة
أنا نوليه أمرنا في الفرقة. فكان يأمر بالأمر فلا ينفذ، ويرى الرأي
فيرد عليه رأيه.
فأقام كذلك ثلاثة أشهر، وقدم مسلمة بن ذؤيب فدعا الناس إلى بيعة ابن
الزبير، فمالوا إليه وتركوا ابن زياد، فكان في بيت المال يومئذ تسعة
عشر ألف ألف، ففرق ابن زياد بعضها في بني أمية وحمل الباقي معه، وخرج
في الليل يتخفى، فعرفه رجل فضربه بسهم فوقع في عمامته وأفلت، فطلبوه
فمات وانتهبوا ما وجدوا له فطلب الناس من ثار عليهم، فبايعوا عبد الله
بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، فولي أمرهم أربعة
أشهر، ثم ولي عبيد الله بن معمر على البصرة.
وفي هذه السنة وقع الطاعون الجارف بالبصرة
[3] .
فماتت أم ابن معمر الأمير، فما وجدوا من يحملها حتى استأجروا لها أربعة
أنفس، وكان وقوع هذا الطاعون أربعة أيام، فمات في اليوم الأول سبعون
ألفا، وفي اليوم الثاني واحد وسبعون ألفا، وفي اليوم الثالث ثلاثة
وسبعون ألفا، وأصبح الناس في اليوم الرابع موتى [إلا قليلا من] [4]
الآحاد.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الحافظ، قَالَ: أنبأنا أحمد بن أحمد
الحداد، قال: أخبرنا
__________
[1] في الأصل: «كنتم على حد متى تقضوا» والتصحيح من الطبري.
[2] في الطبري: «فما بكم» .
[3] تاريخ الطبري 5/ 612، أحداث سنة 65، والبداية والنهاية 8/ 283.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه لاستقامة المعنى.
(6/25)
أبو نعيم الحافظ، قال: حدثنا عبيد الله،
قَالَ: حدثنا أحمد بن عصام، قَالَ: حدثني معدي عن رجل يكنى أبا النفيد
وكان قد أدرك زمن الطاعون، قال [1] :
كنا نطوف في القبائل وندفن الموتى، ولما كثروا لم نقو على الدفن، فكنا
ندخل الدار قد مات أهلها فنسد بابها، قال: فدخلنا دارا/ ففتشناها فلم
نجد فيها أحدا حيا، فسددنا بابها، فلما مضت الطواعين كنا نطوف على
القبائل ننزع تلك السدد التي سددناها، فانتزعنا سد ذلك الباب الذي
دخلناه ففتشنا الدار فلم نجد أحدا حيا، فإذا نحن بغلام في وسط الدار
طري دهين كأنما أخذ ساعته من حجر أمه. قال: ونحن وقوف على الغلام نتعجب
منه فدخلت كلبة من شق في الحائط تلوذ بالغلام، والغلام يحبو إليها حتى
مص من لبنها، فقال معدي: رأيت هذا الغلام في مسجد البصرة قد قبض على
لحيته.
وقيل: كان هذا الطاعون في سنة تسع وستين.
وفي هذه السنة طرد أهل الكوفة عمرو بن حريث
وأمروا عامر بن مسعود [2]
وكان ابن زياد قد قتل من الخوارج ثلاثة عشر ألفا وحبس أربعة آلاف، فلما
هلك يزيد قام خطيبا فقال: إن الّذي كنا نقاتل عن طاعته قد مات، فإن
أمرتموني جبيت فيئكم [3] ، وقاتلت عدوكم. وبعث بذلك إلى أهل الكوفة
مقاتل بن مسمع، وسعيد [4] [بن قرحا] [5] المازني، فقام عمرو بن حريث،
وقال: إن هذين الرجلين قد أتياكم من قبل أميركم يدعو انكم إلى أمر يجمع
الله به كلمتكم فاسمعوا لهما، فقام ابن الحارث وهو يزيد، فقال: الحمد
للَّه الذي أراحنا من ابن سمية، فأمر به عمرو إلى السجن فحالت بينه
وبينه بكر، وصعد عمرو المنبر فحصبوه، فدخل داره، واجتمع الناس في
__________
[1] الخبر في البداية والنهاية 8/ 283.
[2] تاريخ الطبري 5/ 523.
[3] في الأصل: «جندت فيكم» .
[4] في الأصل: «وسعد» وما أوردناه أصح.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من الطبري.
(6/26)
المسجد وقالوا: نؤمر رجلا إلى أن يجتمع
الناس على خليفة، فأجمعوا على عمرو بن سعد [1] بن أبي وقاص، ثم أجمعوا
على عامر بن مسعود، وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير، فأقره، واجتمع لابن
الزبير أهل البصرة وأهل الكوفة ومن قبله من العرب وأهل الشام وأهل
الجزيرة إلا أهل الأردن.
وفي هذه السنة بويع لمروان بالخلافة في
الشام [2]
وسبب/ ذلك أن ابن الزبير كتب إلى عامله بالمدينة أن يخرج بني أمية،
فخرجوا وخرج معهم مروان بن الحكم إلى الشام- وعبد الملك يومئذ ابن ثمان
وعشرين سنة، فكان من رأي مروان أن يرحل إلى ابن الزبير ويبايعه. فقدم
عبيد الله بن زياد، فاجتمعت عنده بنو أمية، فقال لمروان: استحييت لك
مما تريده، أنت كبير قريش وسيدها، تصنع ما تصنع، فقال: والله ما فات
شيء بعد، فقام معه بنو أمية ومواليهم، فبايعوه بالجابية لثلاث خلون من
ذي القعدة، وتجمع إليه أهل اليمن، فسار وهو يقول: ما فات شيء بعد، فقدم
دمشق وقد بايع أهلها الضحاك بن قيس الفهري على أن يصلي بهم ويقيم لهم
أمرهم حتى يجتمع [أمر] [3] أمة محمد صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ.
وكان ابن الضحاك يهوى هوى ابن الزبير، فيعمل في ذلك سرا خوفا من بني
أمية، وثار زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين يبايع لابن الزبير، واختلف
أهل دمشق فخرج مروان فقتله وقتل أصحابه وقتل النعمان بن بشير الأنصاري-
وكان على حمص- وأطبق أهل الشام على مروان، فخرج مروان حتى أتى مصر
وعليها عبد الرحمن بن جحدم القرشي يدعو إلى ابن الزبير، فخرج إليه فيمن
معه من بني فهر، وبعث مروان عمرو بن سعيد الأشدق من ورائه حتّى دخل
مصر، وقام على منبرها للناس، وأمر مروان الناس فبايعوه، ثم رجع إلى
دمشق حتى إذا دنا منها بلغه أن ابن الزبير قد بعث أخاه مصعب بن الزبير
نحو فلسطين، فسرح إليه مروان عمرو بن سعيد الأسدي في جيش، فاستقبله قبل
__________
[1] في الأصل: «عمرو بن سعيد» خطأ.
[2] تاريخ الطبري 5/ 530، والبداية والنهاية 8/ 258.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري 5/ 530.
(6/27)
أن يدخل الشام، فقاتله فهزم أصحاب مصعب.
وقيل لمروان: إنما ينظر الناس إلى هذا الغلام- يعنون خالد بن يزيد بن
معاوية- فتزوج أمه فيكون في حجرك، فتزوجها، ثم جمع بني أمية فبايعوه.
وفي هذه السنة بايع أهل خراسان سالم بن
زياد
بعد موت يزيد بن معاوية، وبعد موت ابنه معاوية، على أن يقوم بأمرهم حتى
يجتمع الناس على خليفة.
وفيها كانت فتنة عبد الله بن خازم بخراسان
وذلك أن سالم بن زياد بعث بما أصاب من هدايا سمرقند وخوارزم إلى يزيد
بن معاوية مع عبد الله بن خازم، وأقام سلم [1] واليا على خراسان حتى
مات يزيد وابنه معاوية، فلما بلغه ذلك دعا الناس إلى البيعة على الرضا
حتى يستقيم الناس على خليفة، فبايعوه، وكانوا يحبونه حتى أنهم سموا في
سني ولايته أكثر من عشرين ألف مولود بسلم [2] .
وأقاموا على بيعته شهرين ثم نكثوا. فخرج عن خراسان وخلف عليها المهلب
بن أبي صفرة، فلقيه عبد الله بن خازم، فقال له: اكتب لي عهدا على
خراسان، فكتب له فقال: أعني الآن بمائة ألف درهم، ففعل، وأقبل فغلب على
مرو، وجرت له حروب كثيرة.
وفي هذه السنة تحركت الشيعة بالكوفة [3]
واتعدوا للاجتماع بالنخيلة بالمسير إلى أهل الشام للطلب بدم الحسين
عليه السلام وتكاتبوا في ذلك.
__________
[1] في الأصل: «سالم» . خطأ.
[2] في الأصل: «مولود سالما» .
[3] تاريخ الطبري 5/ 551.
(6/28)
ومنذ قتل الحسين عليه السلام كانوا
يتلاومون بينهم ويندمون على ترك نصرته، فرأوا أنهم قد جنوا جناية لا
يكفرها إلا الطلب [بدمه] .
فاجتمع من ملأهم جماعة في بيت سليمان بن صرد، وتعاهدوا وجاءوا بأموال
يجهزون بها من يعينهم، وكاتبوا شيعتهم وضربوا أجلا ومكانا، فجعلوا
الأجل غرة شهر ربيع الآخر من سنة خمس وستين، والموطن النخيلة، وابتدءوا
في أمورهم في سنة إحدى وستين وهي السنة التي قتل فيها الحسين عليه
السلام، وما زالوا في الاستعداد ودعاء الناس في السر حتى مات يزيد،
فخرجت حينئذ منهم دعاة يدعون الناس، فاستجاب لهم خلق كثير. وكان عبيد
الله بن زياد قد حبس المختار بن أبي عبيد لعلمه بميله إلى شيعة علي،
فكتب ابن عمر إلى يزيد: أن ابن/ زياد قد حبس المختار وهو صهري، فإن
رأيت أن تكتب إلى ابن زياد يخليه، فكتب إليه يأمره بتخليته فدعاه وقال:
قد أجلتك ثلاثا فإن أدركتك بالكوفة بعدها [1] برئت منك الذمة، فخرج إلى
الحجاز، وكان يقول: والله لأقتلن بالحسين عدة من قتل على دم يحيى بن
زكريا، فقدم على بن الزبير فرحب به، فقال له: ما تنتظر، ابسط يدك
نبايعك، ثم مضى إلى الطائف، ثم عاد بعد سنة فبايع ابن الزبير وقاتل معه
وأقام عنده حتى هلك يزيد، ثم وثب فركب راحلته نحو الكوفة، فقدمها في
النصف من رمضان يوم الجمعة بعد ستة أشهر من هلاك يزيد.
ورأى المختار اجتماع رءوس الشيعة على سلمان بن صرد، فقال لهم: إني قد
جئتكم من قبل المهدي محمد بن الحنفية [2] ، فانشعبت إليه طائفة من
الشيعة.
وكان المختار يقول لهم: إنما يريد سليمان أن يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم،
فإنه ليس [له] [3] بصر بالحروب.
وكان سليمان بن صرد وأصحابه يريدون الوثوب بالكوفة وأميرها يومئذ عبد
الله بن يزيد الأنصاري من قبل ابن الزبير، فبلغه ذلك فقال: وما الذي
يريدون؟ قيل: إنهم يطلبون بدم الحسين، قال: وأنا قتلت الحسين، لعن الله
قاتل الحسين. ثم خطب
__________
[1] العبارة مضطربة في الأصل، وما أوردناه من الطبري 5/ 570، 571.
[2] كذا في الأصل، وابن الأثير، وفي الطبري: «محمد بن علي بن الحنفية»
.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/29)
فقال: قد بلغني أن طائفة من أهل هذا المصر
يريدون الخروج علينا يطلبون فيما زعموا بدم الحسين، فرحم الله هؤلاء
القوم، والله ما قتلته، ولقد أصبت بمقتله. فإن هؤلاء القوم آمنون
فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين، ثم نسير إلى قاتل الحسين وأنالهم على قاتله
ظهير، هذا ابن زياد قاتل الحسين وقاتل خياركم قد توجه إليكم،
والاستعداد له أولى من أن تجعلوا بأسكم بينكم.
فخرج سليمان بن صرد [وأصحابه] [1] ينشرون السلاح ظاهرين، ويشترون
ويتجهزون لجهادهم بما يصلحهم، وجعل المختار ينتظر ما يصير إليه أمر
سليمان بن صرد.
فخرج سليمان نحو الجزيرة، فجاء قوم إلى عبد الله بن يزيد أمير البلدة
فحذروه المختار، وأخذوا المختار فحبسوه وقيدوه فجعل يقول: أما ورب
البحار، والنخل والأشجار، والمهامة والقفار، والملائكة الأبرار،
والمصطفين/ الأخيار، لأقتلن كل جبّار، بكلّ لدن خطّار، ومهند بتار في
جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار [2] ، ولا بعزل أشرار، حتى إذا أقمت
عمود الدين، ورأيت شعب صدع المؤمنين، وشفيت غليل صدور المسلمين، وأدركت
بثأر النبيين.
وفي هذه السنة هدم ابن الزبير الكعبة [3]
وكانت حيطانها قد مالت مما رميت به من حجارة المنجنيق فهدمها حتى سواها
بالأرض، وحفر أساسها وأدخل الحجر فيها، وجعل الركن الأسود عنده في سرقة
[4] من حرير في تابوت، وجعل ما كان من حلي البيت وما وجد فيه من ثياب
أو طيب عند الحجبة في خزانة البيت حتى [أعادها لما] [5] أعاد بناءه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[2] ميل: جمع أميل، وهو الّذي لا رمح له.
والأغمار: جمع غمر، بضم فسكون، وهو الّذي لا تجربة له بالأمور.
[3] تاريخ الطبري 5/ 582.
[4] السرق: شقائق الحرير، واحده سرقة.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
(6/30)
وفي هذه السنة حج بالناس عبد الله بن
الزبير، وكان عامله على المدينة أخوه عبيد الله بن الزبير، وعلى الكوفة
عبد الله بن يزيد الخطمي، وعلى قضائها سعيد بن نمران.
وأبى شريح أن يقضي فيها، وقال: لا أقضي في الفتنة. وكان على البصرة
عُمَر بْن عبيد اللَّه بْن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة،
وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
425- عبد الله بن سوار بن همام العبدي:
وكان شريفا جوادا، وولاه معاوية السند.
أنبأنا ابن ناصر، قَالَ: أخبرنا أبو عبد الله الحُمَيْدِي، قال: حدثنا
محمد بن سلامة القضاعي، قال: أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب،
قال: حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا العكلي، عن عبد الله بن أبي خالد، عن
الهيثم بن عدي، عن رجاله، قالوا:
وفد على عبد الله بن سوار بن همام العبدي رجل من أهل البصرة وهو عامل
معاوية على السند، فانتظر إذنه ثلاثا ثم دخل عليه فأنكره، فقال: من
الرجل؟ قال: من أهل البصرة من بني تميم من بني سعد، قال: وما وراءك؟
قال: حرمة أمت بها، قال:
وما هي؟ قال: كنت تمر بمجلس بني سور فتسلم فأرد عليك أتم من سلامك
بأجهر من كلامك، وأتبعك بدعائي من بين رجال قومي/ قال: حرمة والله.
وكان عبد الله بن سوار شريفا جوادا، فقال: ما حاجتك؟ قال: أملي، قال:
وما أملك؟ قال: ما أستغني به عن غيرك إن عشت، وتنمو به عقبي إن مت.
فأمر له بثلاثين ألفا، وكساه وقال: هي لك عندي في كل سنة إن أبقاني لك
الدهر.
(6/31)
426- معاوية بن يزيد بن معاوية، أبو ليلى،
ويقال: أبو عبد الرحمن [عبد الله] [1] :
ولي بعد أبيه يزيد وهو ابن تسع عشرة سنة. وقيل: ثلاثة عشر وثمانية عشر
يوما.
وبويع له بالشام فأقام نحو ثلاثة أشهر. وقيل: أربعين ليلة. وتوفي في
هذه السنة.
وكان خيرا ذا دين، سألته، أمه أم هانئ بنت أبي هشام بن عتبة بن ربيعة
في مرضه أن يستخلف أخاه خالدا بن يزيد فأبى وقال: والله لا أحملها حيا
وميتا، فقالت له:
وددت أنك كنت نسيا منسيا ولم تضعف هذا الضعف، قال: وددت أني كنت نسيا
منسيا ولم أسمع بذكر جهنم، ثم قال: يا حسان بن مالك، اضبط ما قبلك وصل
بالناس إلى أن يرضى المسلمون بإمام يحققون عليه.
وروى أبو جعفر الطبري: أنه خطب الناس فقال: إني نظرت في أمركم فصعقت
عنه فابتغيت لكم رجلا مثل عمر بن الخطاب حين فزع إليه أبو بكر فلم
أجده، فابتغيت لكم سنة الشورى مثل سنة عثمان ولم أجدهم، فأنتم أولى
بأمركم فاختاروا له من أحببتم، ثم دخل منزله ولم يخرج إلى الناس. فقال
بعض الناس: إنه دس إليه فسقي سما. وقيل: بل طاعن.
427- المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، أبو عبد
الرحمن [2]
أمة عاتكة بنت عوف، أخت عبد الرحمن بن عوف من المهاجرات المبايعات، قبض
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسور/ ابن ثمان
سنين، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يلازم عمر بن الخطاب
ويحفظ عنه، وكان من أهل الفضل والدين، ولم يزل مع خاله عبد الرحمن
مقبلا ومدبرا في أمر الشورى، ثم انحاز إلى مكة حين توفي معاوية، وكره
بيعة يزيد، فلم يزل هنالك حتى قدم الحصين بن نمير وحضر حصار ابن
الزبير.
أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ الْبَارِعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن المسلمة،
قَالَ: أَخْبَرَنَا المخلص، قال:
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 256، وتاريخ الطبري 5/ 501، والبدء والتاريخ
6/ 16، وتاريخ الخميس 2/ 301، ونسب قريش 128.
[2] الإصابة 7995، والبداية والنهاية 8/ 265.
(6/32)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ:
أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِبُرُودٍ مِنَ
الْيَمَنِ فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار، وكان فِيهَا
بُرْدٌ فَائِقٌ، فَقَالَ: إِنْ أَعْطَيْتُهُ أَحَدًا مِنْهُمْ غَضِبَ
أَصْحَابُهُ وَرَأَوْا أَنَّهُ فَضَّلْتُهُ عَلَيْهِمْ، فَدُلُّونِي
عَلَى فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ نَشَأَ نَشْأَةً حسنة أعطيه إياه، فأسمو
الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى الْمِسْوَرِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
قَالَ: كَسَانِيهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَجَاءَ سَعْدٌ إِلَى
عُمَرَ فَقَالَ: تَكْسُونِي هَذَا الْبُرْدَ وَتَكْسُو ابْنَ أَخِي
أَفْضَلَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: يَا أبا إسحاق، إني كَرِهْتُ أَنْ
أُعْطِيَهُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَيَغْضَبَ أَصْحَابُهُ فَأَعْطَيْتُهُ
فَتًى نَشَأَ نَشْأَةً حَسَنَةً حَتَّى لا يُتَوَهَّمَ فِيهِ أَنِّي
أُفَضِّلُهُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ سَعْدٌ:
فَإِنِّي قَدْ حَلَفْتُ لأَضَرِبَنَّ بِالْبُرْدِ الَّذِي
أَعْطَيْتَنِي رَأْسَكَ، فَخَضَعَ لَهُ عُمَرُ رَأْسَهُ وَقَالَ:
عِنْدَكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ فَارْفُقِ الشَّيْخَ بِالشَّيْخِ،
فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِالْبُرْدِ.
أَخْبَرَنَا محمد بْن أبي طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو محمد الجوهري،
قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين
بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا عبد الملك بن عمرو،
قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور:
أن المسور كان لا يشرب من الماء الذي يوضع في المسجد ويكرهه ويرى أنه
صدقة، وأنه احتكر طعاما/ فرأى سحابا من سحاب الخريف فكرهه، فلما أصبح
أتى السوق فقال: من جاءني وليته، فبلغ ذلك عمر الخطاب، فأتاه بالسوق
فقال: أجننت يا مسور؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت
سحابا من سحاب الخريف فكرهته، فكرهت ما ينفع المسلمين [1] ، فكرهت أن
أربح فيه وأردت ألا أربح فيه، فقال عمر:
جزاك الله خيرا.
قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ أم بكر بنت المسور، عن أبيها:
أنه كان يصوم الدهر وأنه أصابه حجر من المنجنيق، ضرب البيت فانفلق منه
فلقة
__________
[1] في البداية: «فكرهت ما فيه الناس» .
(6/33)
فأصابت جدار المسور وهو قائم يصلي، فمرض
منها أياما ثم هلك في اليوم الذي جاء فيه نعي يزيد بن معاوية بمكة،
وابن الزبير يومئذ لا يتسمى بالخلافة والأمر شورى، وهو ابن اثنتين
وستين سنة.
428- يزيد بن الأسود الجرشي [1] :
كان عبدا صالحا، وكان القطر قد احتبس في زمن معاوية، فصعد المنبر ودعاه
فصعد إليه، فقال معاوية: اللَّهمّ إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا
وأفضلنا، اللَّهمّ إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود، فسقى الناس، ثم
جرى له مثل هذا مع الضحاك بن قيس.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن هبة الله الطبري، قال:
أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن
درستويه [2] ، قال:
حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا سعيد بن أسد، قال: حدثنا ضمرة، عن
ابن أبي جميلة، قال:
أصاب الناس قحط بدمشق، وعلى الناس الضحاك بن قيس الفهري، فخرج بالناس
يستسقي، فقال: أين يزيد بن الأسود الجرشي، فلم يجبه أحد مرارا، فقال:
عزمت عليه أن يسمع كلامي إلا قام، فقام فرفع يديه فقال: اللَّهمّ يا رب
إن عبادك تقربوا إليك فاسقهم، فانصرف الناس وهم يخوضون/ الماء، فقال:
اللَّهمّ إنه قد شهرني فأرحني منه، فما أتت عليه جمعة حتى قتل الضحاك.
429- يزيد بن معاوية بن أبي سفيان [3] :
توفي لأربع عشر خلت من ربيع الأول من هذه السنة بقرية من قرى حمص يقال
لها حوارين، وهو ابن خمس وثلاثين سنة. وقيل: تسع وثلاثين.
وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر وقال الواقدي: وثمانية أشهر إلا
ثمان ليال.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 155، وتاريخ الخميس 2/ 300، والبدء والتاريخ
6/ 6.
[2] في الأصل: «درشنونة» وهو خطأ.
[3] البداية والنهاية 8/ 245.
(6/34)
ثم دخلت سنة خمس
وستين
فمن الحوادث فيها شخوص التوابين إلى ابن
زياد للطلب بدم الحسين عليه السلام [1]
وذلك أن سليمان بن صرد بعث إلى رءوس أصحابه من الشيعة، فأتوه، فلما
استهلوا هلال ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه إلى النخيلة فلم يعجبه عدد
الناس [2] ، فبعث حكيم بن منقذ الكندي في خيل، وبعث الوليد بن غصين
الكناني في خيل، فقال: اذهبا حتى تدخلا الكوفة، فناديا: يا لثارات
الحسين، فخرج منها خلق كثير، فنظر لما أصبح في ديوانه، فوجد الذين
بايعوه على الخروج ستة عشر ألفا لم يجتمع منهم [إلا] [3] أربعة آلاف
[4] ، فقال: أما يذكرون ما أعطونا من العهود، فقيل له: إن المختار يثبط
الناس [5] عنك، فأقام بالنخيلة ثلاثا يبعث إلى المتخلفين فيذكرهم الله
عز وجل، فخرج نحو من ألف رجل، فقال له المسيب ابن نجية الفزاري: إنك لا
ينفعك إلا من أخرجته النية فاكمش في أمرك [6] . فقام فقال: والله ما
نأتي غنيمة نغنمها، ولا فيئا نستفيئه، وما معنا من ذهب ولا فضة، وما هي
إلا سيوفنا في عواتقنا، ورماحنا في أكفنا وزاد بمقدار البلغة إلى لقاء
عدونا، فمن يرى غير هذا فلا يصحبنا.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 583، والبداية والنهاية 8/ 271.
[2] في الطبري: «عدة الناس» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[4] في الأصل: «أربعة أربعة آلاف» . حذفناها لتكرارها.
[5] في الأصل: «القوم» . وكتب فوقها: «الناس» .
[6] كمش الرجل في أمره: مضى وأسرع.
(6/35)
فلما عزم على المسير، قال بعض أصحابه: إن
قتلة الحسين بالكوفة عمر بن سعد ورءوس القبائل، فأنى نذهب.
وقال آخرون: بل نقصد ابن زياد فهو الذي عبى الجنود إليه فإن ظهرنا عليه
كان من بعده أهون شوكة، وكان عمر بن سعد في تلك الأيام لا يبيت إلا في
قصر الإمارة مخافة على نفسه، وجاء عبيد الله بن يزيد والي الكوفة إلى
سليمان فقال: قم حتى نبعث معك جيشا كثيفا، فلم يقم وأدلج عشية الجمعة
لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين، ولم يزل يسير إلى أن أتى قبر
الحسين عليه السلام، فأقام عنده يوما وليلة، فجعل أصحابه يبكون ويتمنون
لو أصيبوا معه، وجعلوا يستغيثون: يا رب إنا خذلنا ابن بنت نبيك فاغفر
لنا ما مضى منا وتب علينا.
ووصل كتاب عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد، وفيه: هذا كتاب ناصح
محب، بلغني أنكم تسيرون بالعدد القليل إلى الجمع الكثير، وإنه من يرد
أن ينقل الجبال عن مراتبها تكل معاوله، وينزع [وهو] مذموم العقل
والفعل، ومتى أصابكم عدوكم طمع في من وراءكم: إِنَّهُمْ إِنْ
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي
مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً 18: 20 [1] . يا قوم، إن
أيدينا وأيديكم واحدة، ومتى اجتمعت كلمتنا [نظهر] [2] على عدونا.
فلما قرأ الكتاب على أصحابه، قال: ما ترون؟ قالوا: إنا قد أبينا هذا
عليهم ونحن في مصرنا، فالآن حين دنونا من أرض العدو، ما هذا برأي.
فساروا مجدين إلى أن وصلوا عين وردة، فأقاموا بها خمسا، فأقبل أهل
الشام في عساكرهم، فقدم المسيب بن نجية فلقي أوائل القوم فأصابهم
بالجراح فانهزموا فأخذوا منهم ما خف، فبلغ الخبر ابن زياد، / فبعث
الحصين بن نمير مسرعا في اثني عشر ألفا، فاقتتلوا فكان الظفر لسليمان
إلى أن حجز بينهم الليل فأمدهم ابن زياد بذي الكلاع في ثمانية آلاف
فكثروهم، فنزل سليمان ونادى: عباد الله، من أراد البكور إلى ربه،
والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإلي، ثم كسر جفن سيفه، ونزل ناس
كثير، فقاتلوا فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة.
__________
[1] سورة: الكهف، الآية: 20.
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
(6/36)
فاكتنفهم القوم ورموهم بالنبل، فقتل سليمان
ثم المسيب وقتل الخلق.
فلما جن الليل ذهب فل القوم [1] تحت الليل، فأصبح الحصين فوجدهم قد
ذهبوا، فلم يبعث في آثارهم أحدا، وكان قد خرج جماعة من أهل البصرة
وجماعة من أهل المدائن وأهل الكوفة، فبلغهم الخبر فرجعوا إلى بلادهم،
فقال المختار لأصحابه:
عدوا لغازيكم هذا أكثر من عشر، ودون الشهر، ثم يجيئكم بضرب هبر، وطعن
نتر، وأن سليمان قد قضى ما عليه، وليس بصاحبكم الّذي به تنصرون، أنا
قاتل الجبارين والمنتقم من الأعداء.
وفي هذه السنة أمر مروان بن الحكم أهل
الشام بعقد البيعة لابنيه عبد الملك وعبد العزيز [2]
وجعلهما وليي عهده، وكان مروان قد بعث عمرو بن سعيد بن العاص إلى مصعب
بن الزبير حين وجهه أخوه عبد الله بن الزبير إلى فلسطين، فهزم ابن
الزبير ورجع إلى مروان بدمشق، وبلغ مروان أن عمرا يقول: هذا الأمر لي
من بعد مروان، فبايع مروان لابنيه.
وفي هذه السنة بعث مروان بعثين [3]
أحدهما إلى المدينة عليهم حبيش بن دلجة، والآخر إلى العراق وعليهم عبيد
الله بن زياد، فأما ابن زياد فإنه سار حتى نزل الجزيرة، فأتاه بها موت
مروان. وخرج إليه التوابون من أهل الكوفة طالبين بدم الحسين، فجرى لهم
ما سبق ذكره، وسنذكر باقي خبره/ إن شاء الله.
وأما حبيش فانتهى إلى المدينة وعليها جابر بن الأسود بن عوف بن
__________
[1] فلّ القوم: المنهزمون.
[2] تاريخ الطبري 5/ 610.
[3] تاريخ الطبري 5/ 611، 612.
(6/37)
عبد الرحمن بن عوف من قبل ابن الزبير، فهرب
جابر، فبعث الحارث بن أبي ربيعة جيشا من البصرة، وكان ابن الزبير قد
ولاه عليها، فانفذهم لمحاربة حبيش، فسار إليهم حبيش، وبعث ابن الزبير
عباس بن سهل بن سعد على المدينة، وأمره أن يطلب حبيشا، فلحقهم بالربذة،
فجاء سهم غرب فقتل حبيشا، وتحرز منهم نحو خمسمائة في المدينة، فقال
[لهم] عباس: انزلوا على حكمي، فنزلوا، فضرب أعناقهم، ورجع فل حبيش إلى
الشام.
وفي هذه السنة مات مروان، وقام مكانه ابنه عبد الملك [1] .
__________
[1] إلى هنا انتهى السقط من ت، والّذي بدأ أثناء ترجمة عقبة بن نافع بن
عبد قيس الفهري في وفيات سنة 62.
(6/38)
باب ذكر خلافة عبد
الملك بن مروان [1]
هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس،
ويكنى أبا الوليد، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص.
ولد في سنة ست وعشرين هو ويزيد بن معاوية.
وقيل: ولد في سنة أربع وعشرين، وحمل به ستة أشهر فقط، وكان أبيض.
وقيل: كان آدم طوالا كثير الشعر كبير اللحية والعينين، مشرق الأنف،
دقيق الوجه مضبب الأسنان بالذهب، كان فقيها راويا ناسكا، يدعى حمامة
المسجد، شاعرا.
وقيل لابن عمر [2] : من نسأل بعدكم، فقال: إن لمروان ابنا فقيها فسلوه.
وقال نافع: [3] أدركت المدينة وما بها شاب أنسك، ولا أشد تشميرا، ولا
أكثر صلاة، ولا أطلب للعلم من عبد الملك بن مروان.
قال مؤلف الكتاب: [4] استعمله معاوية على المدينة وهو ابن ست عشرة سنة،
وأول من سمي بعبد الملك بن عبد الملك بن مروان، وأول من سمي في الإسلام
أحمد أبو الخليل بن أحمد العروضي. وعبد الملك أول/ من أمر أن يقال على
المنابر: اللَّهمّ أصلح عبدك وخليفتك، فلما بويع له تغيرت أموره في باب
الدين.
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 281.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 389.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 389.
[4] في ت: «قال المصنف» .
(6/39)
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد
بن علي، قَالَ: أَخْبَرَنَا العتيقي، قال: أخبرنا عثمان بن محمد بن
القاسم الأدمي، قال: أخبرنا ابن دريد، قال: أخبرنا عبد الأول بن مريد،
عن ابن عائشة، قال:
أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره يقرأ فأطبقه، وقال: هذا آخر
العهد بك [1] .
قال مؤلف الكتاب [2] : وقد رواها ثعلب، عن ابن الزعفراني، قال: لما سلم
على عبد الملك بالخلافة [3] كان في حجره مصحف، فأطبقه، وقال: هذا فراق
بيني وبينك.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ
مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، قَالَ:
كُنْتُ أُجَالِسُ بَرِيرَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ فِيكَ خِصَالا خَلِيق
أَنْ تَلِيَ الأَمْرَ فَإِنْ وُلِّيتَهُ فَاتَّقِ الدِّمَاءَ فَإِنِّي
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْفَعُ عَنْ بَابِ الْجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ
يَنْظُرَ إِلَيْهَا بِمِلْءِ مِحْجَمةٍ مِنْ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ [4]
يُرِيقُهُ» .
وفي هذه السنة اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة
وفيها قتل نافع بن الأزرق
وذلك أن عبيد الله بن عبد الله بن معمر بعث أخاه عثمان إلى ابن الأزرق
في جيش فلقيهم بموضع في الأهواز يقال له: دولاب، فاقتتلوا قتالا شديدا،
وقتل نافع بن الأزرق، ثم أمرت الخوارج غيره، وجاءهم المدد وقوي القتال
وقتل خلق من المؤمنين، وقدم المهلب بن أبي صفرة على تلك الحال معه عهده
على خراسان من قبل ابن الزبير، فسأله المسلمون أن يلي الحرب، فأبى،
فكتبوا على لسان ابن الزبير إلى المهلب أن يلي قتال الخوارج، فقال: إني
لا أسير إليهم إلا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه وتعطوني
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 390.
[2] في ت: «قال المصنف» .
[3] في ت: «سلم عليه بالخلافة» .
[4] «امرئ مسلم» : ساقطة من ت.
(6/40)
من بيت المال ما أقوى به، وانتخب من فرسان
الناس/ ووجوههم من أحببت، فقال أهل البصرة: لك ذلك.
وجاءت الخوارج، فخرج إليهم فدفعهم عن البصرة، وما زال يدفعهم ويتبعهم،
ثم التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا حتى انهزم الناس إلى البصرة، فنادى
المهلب: إلي عباد الله، ثم هجم على القوم، فأخذ عسكرهم وما فيه، وقتل
الأزارقة قتلا عنيفا، وخرج فلهم إلى كرمان وأصبهان، وأقام المهلب
بالأهواز، وكتب إلى ابن الزبير بما ضمن له، فأجاز ذلك.
وقيل: إن وقعة الأزارقة كانت سنة ست وستين.
وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير عبد
الله بن يزيد عن الكوفة
وولاها عبد الله بن مطيع، ونزع عن المدينة أخاه عبيدة بن الزبير وولاها
أخاه مصعب بن الزبير.
وكان له سبب عزله أخاه عبيدة بن الزبير أنه خطب فقال: قد رأيتم ما صنع
بقوم في ناقة قيمتها خمسمائة درهم، فسمي مقوم الناقة [1] ، وبلغ ذلك
ابن الزبير، فقال: هذا لهو التكلف.
وفي هذه السنة بنى ابن الزبير الكعبة
وأدخل الحجر فيها، وقد ذكرنا أنه نقضها في السنة التي قبل هذه السنة،
فيمكن أن تكون الرواية مختلفة، ويمكن أن يكون النقض في سنة والبناء في
السنة الأخرى.
وفي هذه السنة [2] حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة
مصعب بن الزبير، وعلى
__________
[1] في ت: «مقدم الناقة» .
[2] في الأصل: «وفيها» . وما أوردناه من ت.
(6/41)
الكوفة في آخر السنة عبد الله بن مطيع،
وعلى البصرة عبد الله بن الحارث بن أبي ربيعة، وعلى قضائها هشام بن
هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
430- جميل بن معمر- وقيل ابن عبد الله- بن معمر بن الحارث بن ظبيان:
[1]
رأى بثينة وهو صبي صغير فهويها، وهما من بني عذرة وتكنى/ بثينة: أم عبد
الملك- فلما كبر خطبها فرد عنها فقال فيها الشعر، وكان يزورها وتزوره،
ومنزلهما وادي القرى، فجمع أهلها له جمعا ليأخذوه، فأخبرته [2] بثينة
[فاختفى] [3] وهجا قومها فاستعدوا عليه مروان بن الحكم [وهو] [3] يومئذ
على المدينة من قبل معاوية، فنذر ليقطعن لسانه، فلحق بخذام فأقام هناك
إلى أن عزل مروان.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أَخْبَرَنَا جعفر بْن أحمد بْن
السراج، قَالَ:
كنت مارا بين تيماء ووادي القرى مبادرا من مكة فرأيت صخرة عظيمة ملساء
فيها تربيع بقدر ما يجلس عليها النفر [4] كالدكة، فقال بعض من كان معنا
من العرب، وأظنه جهنيا: هذا مجلس جميل وبثينة فاعرفه.
ومن أشعاره المستحسنة فيها قوله:
حلت بثينة من قلبي بمنزلة ... بين الجوانح لم ينزل به أحد
صادت [5] فؤادي بعينيها ومبسمها ... كأنه حين تبديه لنا برد
وعاذلين لحوني في محبتها ... يا ليتهم وجدوا مثل الّذي أجد
__________
[1] الأغاني 8/ 95، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 3/ 395، والشعر والشعراء
166، وتزيين الأسواق 1/ 38، وخزانة البغدادي 1/ 191، وفيه: «قال ابن
الكلبي: وفي اسم أبيه فمن فوقه خلاف» .
[2] في ت: «فحذرته» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت: «التفت» .
[5] في ت: «صارت» .
(6/42)
لما أطالوا عتابي فيك قلت لهم ... لا
تفرطوا بعض هذا اللوم واقتصدوا
قد مات قبلي أخو نهد وصاحبه ... من قيس ثم اشتفى من عروة الكمد
وكلهم كان في عشق منيته ... وقد وجدت بها فوق [1] الذي وجدوا
إني لأحسبه أو كدت أعلمه ... أن سوف يوردني الحوض الذي وردوا
إن لم ينلني بمعروف يجود به ... أو يدفع الله عني الواحد الصمد
وقال أيضا [2] :
لحى الله من لا ينفع الود عنده ... ومن حبله إن مد غير متين
ومن هو إن تحدث له العين نظرة ... يقطع لها أسباب كل قرين
ومن هو ذو لونين ليس بدائم ... على خلق خوان كل يمين
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي ... وهموا بقتلي يا بثين لقوني
/ إذا ما رأوني طالعا من ثنية ... يقولون من هذا وقد عرفوني
يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا ... ولو ظفروا بي ساعة قتلوني
وكيف ولا توفي دماؤهم دمي ... ولا مالهم مالي إذا [3] فقدوني
وقال أيضا:
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها ... ويا ويح أهلي ما أصيب به أهلي
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي
خليلي فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حب قاتله قبلي
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن علي
العلاف، قال:
حدثنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال:
حدثنا محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا الحسن بن علي، قال: حدثنا
المثنى بن سعد الجعفي، قال:
__________
[1] في الأصل: «بعض الّذي» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «وله» .
[3] في الأصل: «ما لهم ذو بدهة» .
(6/43)
بلغني أن كثير عزة لقي جميلا [1] ، فقال
له: متى عهدك ببثينة؟ قال: ما لي بها عهد منذ عام أول وهي تغسل ثوبا
بوادي الدوم، فقال كثير: أتحب أن أعدها لك الليلة؟
قال: نعم، فأقبل راجعا إلى بثينة، فقال له أبوها: يا فلان ما ردك؟ أما
كنت عندنا قبيل؟
قال: بلى، ولكن حضرت أبيات قلتها في عزة، قال: وما هي؟ فقال:
فقلت لها يا عز أرسل صاحبي ... على باب داري والرسول موكل
أما تذكرين العهد يوم لقيتكم ... بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل
فقالت بثينة: اخسأ، فقال أبوها: ما هاجك، قالت: كلب لا يزال يأتينا من
وراء هذا الجبل بالليل وأنصاف النهار.
قال: فرجع إليه فقال: قد وعدتك وراء هذا الجبل بالليل وأنصاف النهار،
فالقها إذا شئت.
وحكى أبو محمد بن قتيبة عن بعض الناس أنه قال: خرجت من تيماء فرأيت
عجوزا على أتان، فقلت: ممن أنت؟ فقالت: من عذرة، قلت: هل تروين عن
بثينة وجميل شيئا؟ فقالت: والله/ إني لعلى ماء من الجناب [2] وقد
اعتزلنا الطريق وقد خرج رجالنا في سفر وخلفوا عندنا غلمانا أحداثا، وقد
انحدرا لغلمان عشية إلى صرم [3] قريب منا يتحدثون إلى جوار منهم، وقد
بقيت أنا وبثينة نستبرم غزلا لنا إذ انحدر علينا منحدر من هضبة حذاءنا،
فسلم ونحن مستوحشون، فرددت السلام ونظرت فإذا رجل واقف شبهته بجميل،
ودنا فأتيته فقلت: جميل، قال: أي والله، قلت: عرضتنا ونفسك للشر، فما
جاء بك؟ قال: هذه الغول التي من ورائك، وأشار إلى بثينة، فإذا هو لا
يتماسك، فقمت إلى قعب فيه أقط مطحون وتمر، وإلى عكة فيها سمن فعصرته
على الأقط وأدنيته منه، فقلت: أصب من هذا، ففعل وقمت إلى سقاء فيه لبن،
فصببت له في قدح، وشننت [4] عليه من الماء فشرب وتراجع، فقلت: لقد جهدت
فما أمرك؟ قال: أردت
__________
[1] في الأصل: «أن كثير لقي عزة جميلا» .
[2] الجناب: موضع بعراض خيبر وسلاح ووادي القرى.
[3] الصرم: الجماعة المنعزلة.
[4] في الأصل: «وسيبت» . وما أوردناه من ت.
(6/44)
مصر فجئت لأودعكم وأحدث بكم عهدا، وأنا
والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث أنتظر أن أجد فرصة حتى رأيت
منحدر فتيانكم [1] العشية، فجئت لأجدد بكم العهد [2] فحدثنا ساعة ثم
ودعناه وانطلق. فما لبثنا إلا يسيرا حتى أتانا نعيه من مصر.
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي بإسناد له عَنْ أبي بكر بْن
الأنباري، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن المرزبان، قال: حدثنا أَبُو بكر العامري،
قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن محمد وهو المدائني، قال: حدثني أبو عبد
الرحمن العجلاني، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، قال:
كنت بالشام فقال لي قائل: هل لك في جميل فإنه لما به، فدخلت عليه وهو
يجود بنفسه وما يخيل لي أن الموت يكتربه، فقال لي: يا ابن سعد، ما تقول
في رجل لم يسفك دما حراما قط، ولم يشرب خمرا قط، ولم يزن قط يشهد أن لا
إله إلا الله وأن محمدا رسول الله منذ خمسين سنة، قلت: من هذا؟ ما
أحسبه إلا ناجيا، قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلًا كَرِيماً 4: 31 [3] فلعلك تعني نفسك، قال: نعم، قلت: كيف
وأنت تشبب ببثينة منذ عشرين سنة، قال: هذا آخر وقت من أوقات الدنيا،
وأول وقت من أوقات الآخرة، فلا نالتني شفاعة محمد إن كنت وضعت يدي
عليها لريبة قط، وإن كان أكثر ما نلت منها إلا أني كنت آخذ يدها فأضعها
على قلبي فأستريح إليها [4] . ثم أغمي عَلَيْهِ وأفاق فأنشأ يقول:
صرح النعي وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول
ولقد أجر الذيل في وادي القرى ... نشوان بين مزارع ونخيل
قومي بثينة فاندبي بعويل ... وأبكي خليلك قبل كل خليل
ثم أغمي عليه فمات.
__________
[1] في ت: «صبيانكم» .
[2] في ت: «لأجدد بكم عهدا» .
[3] سورة: النساء، الآية: 31.
[4] في الأصل: «فأسترح إليها» ، وما أوردناه من ت.
(6/45)
أخبرنا ابن الحصين بإسناد له عن محمد بن
عبد الرحمن، عن أبيه، قال:
لما حضرت الوفاة جميلا بمصر قال: من يعلم بثينة؟ فقال رجل: أنا، فلما
مات صار إلى حي بثينة فقال:
بكر النعي وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول
[بكر النعي بفارس ذي همة ... بطل إذا حمل اللواء نديل] [1]
فخرجت بثينة مكشوفة الرأس، فقالت:
وإن سؤالي عن جميل لساعة ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها
431- سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون الخزاعي، يكنى أبا المطرف:
[2]
وكانت له صحبة وسن عالية وشرف في قومه، وحضر صفين مع علي عليه السلام.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا عبيد الله بن
عمر الواعظ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن جرير، عن رجاله، قال:
سليمان بن صرد أسلم وصحب النبي صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وكان اسمه
يسارا، فلما أسلم سماه رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ سليمان،
ونزل الكوفة حين نزلها المسلمون، وشهد مع علي رضي الله عنه صفين، وكان
فيمن كتب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما قدوم الكوفة، فلما قدمها/
ترك القتال معه، فلما قتل الحسين ندم هو والمسيب بن نجية الفزاري وجميع
من خذله فلم يقاتل معه، فلما قتل الحسين ندم هو والمسيب بن نجية
الفزاري وجميع من خذله فلم يقاتل معه، ثم قالوا: ما لنا توبة مما فعلنا
إلا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه، فعسكروا بالنخيلة وولوا أمرهم
سليمان بن صرد، وخرجوا إلى الشام في الطلب بدم الحسين رضي الله عنه،
فسموا التوابين، وكانوا أربعة آلاف، فقتل سليمان بن صرد
__________
[1] البيت بين المعقوفتين: ساقطة من ت.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 30، وتاريخ بغداد 1/ 200، وطبقات خليفة 107،
136، والتاريخ الكبير 4/ 1752، والجرح والتعديل 4/ 539، والاستيعاب 2/
649، وأسد الغابة 2/ 351، وتاريخ الإسلام 3/ 17، والإصابة 2/ 3457،
والوافي بالوفيات 15/ 392.
(6/46)
في هذه الوقعة، رماه يزيد بن حصين بن نمير
بسهم فقتله وحمل رأسه ورأس ابن نجية إلى مروان بن الحكم، وكان سليمان
يوم قتل ابن ثلاث وتسعين سنة.
432- عبد الله [1] بن عمرو بن العاص [2] :
أسلم قبل أبيه، وكان متعبدا، وقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلى اللهُ
عَلَيه وَسَلَّمَ: «ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟» قال: بلى،
فقال له: «صم وأفطر وصل ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لربك عليك حقا،
وإن لزوجك عليك حقا. أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْبَاقِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، قال: أخبرنا ابن حيوية،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ
الْفَهْمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ بِلالٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ:
اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ
مَا سَمِعْتُ مِنْهُ فَأَذِنَ لِي فَكَتَبْتُهُ. فَكَانَ عَبْدُ
اللَّهِ يُسَمِّي صَحِيفَتَهُ [تِلْكَ] [3] الصَّادِقَةَ.
وَعَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عَمْرٍو الْوَفَاةُ، قَالَ: إِنَّهُ كَانَ خَطَبَ إِلَيَّ
ابْنَتَيْ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَدْ كان مني إليه شبيه بالوعد، فو
الله لا أَلْقَى اللَّهَ بِثُلُثِ النِّفَاقِ، اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ
زَوَّجْتُهَا إِيَّاهُ.
توفي عبد الله بالشام في هذه السنة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
433- مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس [4] .
قبض رَسُول اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وهو ابن ثماني سنين،
فلم يزل مع أبيه بالمدينة حتى مات في
__________
[1] في الأصلين: «عبد الملك» . خطأ.
[2] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 125، 4/ 2/ 8، 7/ 2/ 189، والتاريخ الكبير 5/
6، والمصارف 286، 287، وحلية الأولياء 1/ 283، والاستيعاب 3/ 956، وأسد
الغابة 3/ 233، وتذكرة الحفاظ 1/ 41، وسير أعلام النبلاء 3/ 79.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ابن سعد.
[4] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 24، والبداية والنهاية 8/ 277، والإصابة 8320،
وأسد الغابة 4/ 348، وتهذيب التهذيب 10/ 91، والبدء والتاريخ 6/ 19،
وتاريخ الخميس 2/ 306.
(6/47)
خلافة عثمان بن عفان، ولم يزل/ مع ابن عمه
عثمان، وكان كاتبا له فأعطاه أموالا كثيرة يتأول صلة قرابته، فنقم
الناس ذلك على عثمان، وكانوا يرون أن كثيرا مما ينسب إلى عثمان لم يأمر
به، وإنما هو رأي مروان، فلما حصر عثمان قاتل قتالا شديدا، فلما سار
طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان سار معهم فقاتل قتالا
شديدا، فلما نظر إلى طلحة، قال: والله إن كان دم عثمان إلا عند هذا.
فرماه بسهم فقتله وتوارى إلى أن أخذ له الأمان من علي، فأتاه فبايعه ثم
انصرف إلى المدينة، فلم يزل بها حتى ولي معاوية فولاه المدينة سنة
اثنتين وأربعين، فلما وثب أهل المدينة أيام الحرة أخرجوا بني أمية من
المدينة وأخرجوه، فجعل يحرض مسلم بن عقبة عليهم، ورجع معه حتى ظفر بأهل
المدينة، فانتهبها ثلاثا، وقدم على يزيد فشكر له ذلك، فلما مات يزيد
ولي ابنه معاوية أياما ثم مات، ودعي لابن الزبير فخرج مروان يريد ابن
الزبير [ليبايعه] [1] ، فلقيه عبد الله بن زياد فرده وقال: ادع إلى
نفسك وأنا أكفيك قريشا، فبايع لنفسه بالجابية في نصف ذي القعدة سنة
أربع وستين، وبعث عماله.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم
بن البرني، عن أبي عبد الله بن بطة، قال: سمعت محمد بن علي بن شقيق،
يقول: حدثنا أبو صالح النحويّ سلمويه، قال: أخبرني عبد الله يعني ابن
المبارك قال: أخبرني يونس، عن الزهري قال:
اجتمع مروان وابن الزبير عند عائشة، فذكر مروان بيت لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب [2] وضوؤه ... يجوز رمادا بعد إذ هو ساطع
فقال ابن الزبير: لو شئت لقلت ما هو أفضل من هذا:
ففوض إلى الله الأمور إذا اعترت ... وباللَّه لا بالأقربين لدافع [3]
فقال مروان:
وداو ضمير القلب بالبر والتقى ... ولا يستوي قلبان قاس وخاشع [4]
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «كالنهار» وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «فدافع» وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «وجائع» وما أوردناه من ت.
(6/48)
فقال ابن الزبير [1] :
ولا يستوي عبدان عبد مكلم ... عتل لأرحام الأقارب قاطع
فقال مروان: [2]
وعبد تجافى جنبه عن فراشه ... يبيت يناجي ربه وهو راكع
فقال ابن الزبير:
وللخير أهل يعرفون بهداهم ... إذا حجبتهم في الخطوب الجوامع
فقال مروان:
وللشر أهل يعرفون بشكلهم ... تشير إليهم بالفجور الأصابع
فسكت ابن الزبير، فقالت عائشة: ما لك فما سمعت بمحاورة قط أحسن من هذه،
ولكن لمروان إرث في الشعر ليس لك، فقال ابن الزبير لمروان: عرضت، قال:
بل أنت أشد تعريضا، طلبت يدك فأعطيتني رجلك.
وكان قد تزوج [3] أم خالد بن يزيد بن معاوية، وكان مروان يطمعه في بعض
الأمر، ثم بدا له فعقد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز، فأراد أن يضع من
خالد ويزهد الناس فيه، وكان إذا دخل عليه أجلسه معه على سريره، فدخل
عليه يوما، فذهب ليجلس مجلسه، فزبره وقال: تنح يا ابن رطبة الاست،
والله ما وجدت لك عقلا.
فانصرف خالد وقتئذ مغضبا حتى دخل على أمه، فقال: قد فضحتني وقصرت بي،
ونكست برأسي. قالت: وما ذاك؟ قال: تزوجت هذا الرجل فصنع كذا وكذا
وأخبرها بما قال له، فقالت: لا يسمع هذا منك أحد، ولا يعلم مروان أنك
أعلمتني بشيء من ذلك، وادخل علي كما كنت تدخل، واطو هذا الأمر فإني
سأكفيك وأنتصر لك منه، فسكت خالد ودخل مروان على أم خالد فقال: ما قال
لك خالد ما قلت له اليوم؟ فقالت: ما حَدَّثَني/ بشيء ولا قال لي فقال:
ألم يشكني إليك، ويذكر تقصيري به.
__________
[1] «فقال ابن الزبير» ساقطة من ت.
[2] «فقال مروان: ساقطة من ت.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 29، 30.
(6/49)
فقالت: يا أمير المؤمنين، أنت أجل في عين
خالد وهو أشد لك تعظيما من أن يحكي عنك شيئا أو يجد من شيء تقوله،
وإنما أنت له بمنزلة الوالد. فانكسر مروان وظن أن الأمر على ما حكت،
فسكت حتى إذا كان بعد ذلك، وحانت القائلة فنام عندها، فوثبت هي
وجواريها فغلقن الأبواب على مروان، ثم عمدت إلى وسادة فوضعتها على
وجهه، فلم تزل هي وجواريها يغممنه حتى مات.
ثم قامت فشقت جيبها وأمرت جواريها وخدمها فشققن وصحن وقلن: مات أمير
المؤمنين فجأة. وذلك لهلال رمضان سنة خمس وستين، ومروان ابن أربع
وستين، وكانت ولايته على الشام ومصر لم يعد ذلك ثمانية أشهر. وقيل: ستة
أشهر.
وقد قال له علي بن أبي طالب: ليحملن راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه وله
إمرة كلحسة الكلب أنفه [1] .
__________
[1] في الأصل: «كلسحة الكلب أنفه» .
(6/50)
ثم دخلت سنة ست
وستين
فمن الحوادث فيها وثوب المختار بن أبي عبيد
طالبا بدم الحسين رضي الله عنه [1]
وذلك أن أصحاب سليمان بن صرد لما قتلوا بعد قتل من قتل منهم كتب إليهم
المختار وهو في السجن: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإن الله عز
وجل أعظم لكم الأجر، وحط عنكم الوزر بمفارقة القاسطين، وجهاد المحلين،
وإنكم لم تنفقوا نفقة، ولم تقطعوا عقبة، ولم تخطوا خطوة إلا رفع الله
عز وجل لكم بها درجة، وكتب لكم بها حسنة، فأبشروا، فإني لو خرجت إليكم
جردت فيما بين المشرق والمغرب من عدوكم السيف بإذن الله عز وجل.
فبعثوا إليه في الجواب: إنا قد قرأنا كتابك [2] ونحن بحيث يسرك، فإن
شئت أن نأتيك حتى نخرجك فعلنا، فقال لهم: إني أخرج في أيامي هذه. وشفع
فيه عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن يزيد/ وإبراهيم بن محمد الأميرين
على الكوفة، فضمنوه جماعة من الأكابر وأخرجوه ثم أحلفاه باللَّه الذي
لا إله إلا هو، لا يبغيهما [غائلة] ، ولا يخرج عليهما ما كان لهما
سلطان، فإن هو فعل فعليه ألف بدنة ينحرها [لدى] [3] رتاج الكعبة [4] ،
ومماليكه كلهم أحرار، فحلف لهما.
__________
[1] تاريخ الطبري، والبداية والنهاية 8/ 284.
[2] في ت: «إنا قد آتانا كتاب» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من ت.
[4] في ت: «ألف بدنة يذبحها لرتاج الكعبة» .
(6/51)
ثم جاء إلى داره فنزلها، فقال: قاتلهم
الله، ما أحمقهم حين يرون أني أفي لهم، أما حلفي باللَّه عز وجل فإنه
ينبغي لي إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها أن أكفره، وخروجي
عليهم خير من كفي عنهم. وأما ألف بدنة فما قدر ثمنها، وأما عتق مماليكي
فوددت إن استتب لي أمري، ثم لم أملك مملوكا أبدا.
ولما استقر في داره اختلفت الشيعة إليه ورضيت به، فلم يزل أمره يقوى
إلى أن عزل عبد الله بن الزبير عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد،
وبعث عبد الله بن مطيع على عملهما بالكوفة، وبعث الحارث بن أبي ربيعة
على البصرة، فقدم ابن مطيع الكوفة لخمس بقين من رمضان سنة خمس وستين،
فقيل له: خذ المختار واحبسه، فبعث إليه فتهيأ للذهاب، فقرأ زائدة بن
قدامة: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ... 8: 30 [1] ففهمها المختار، فجلس
وألقى ثيابه، وقال: ألقوا علي القطيفة، ما أراني إلا قد وعكت، ثم قال:
أعلموا ابن مطيع حالتي واعتذروا عنده، فأخبر بعلته، فصدقه ولهى عنه،
وبعث المختار إلى أصحابه، وأخذ يجمعهم في الدور حوله، وأراد أن يثب
بالكوفة في المحرم، فقال: بعض أصحابه لبعض: إن المختار يريد أن يخرج
بنا وقد بايعناه ولا ندري أرسله إلينا ابن الحنفية أم لا، فانهضوا بنا
إلى ابن الحنفية، فإن رخص لنا في اتباعه تبعناه، فذهبوا إليه فأخبروه
فقال: والله لوددت أن الله انتصر لنا بمن أشاء، فلما قدموا قالوا: أذن
لنا، ففرح المختار، وكان قد انزعج/ من خروجهم وخاف أن لا يأذن لهم، وقد
كان إبراهيم بن الأشتر بعيد الصوت كثير العشيرة، فأرادوه أن يخرج مع
المختار، فقال: بل أكون أنا الأمير، قالوا: إن محمد بن الحنفية قد أمر
المختار بالخروج، فسكت، فصنع المختار كتابا عن ابن الحنفية إليه يأمره
بالموافقة للمختار، وأقام من يشهد أنه كتاب ابن الحنفية، فبايعه وتردد
إليه، فاجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع
الأول سنة ست وستين.
فأتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع، فقال: إن المختار خارج عليك إحدى
الليلتين، فأخرج الشرط، وأقامهم على الطريق في الجبابين، خارج البلد،
فخرج إبراهيم بن الأشتر، وقال: والله لأمرن على دار عمرو بن حريث إلى
جانب القصر وسط
__________
[1] سورة: الأنفال، الآية: 30.
(6/52)
السوق، ولأرهبن عدونا [1] ، ولأرينهم
هوانهم علينا، فمر فلقيه إياس بن مضارب في الشرط مظهرين السلاح، فقال
له ولأصحابه: من أنتم؟ فقال: أنا إبراهيم بن الأشتر، فقال: ما هذا
الجمع معك؟ إن أمرك لمريب وما أنا بتاركك حتى آتي بك الأمير، فتناول
إبراهيم رمحا من بعض أصحاب إياس فطعن به إياسا فقتله، وقال لرجل من
قومه: انزل فاحتز رأسه، ففعل، فتفرق أصحابه ودخل إبراهيم على المختار،
وكانت ليلة الأربعاء، فقال له: إنا اتعدنا للخروج ليلة الخميس، وقد حدث
أمر لا بد له من الخروج الليلة، فقال: وما هو؟ فقال: عرض لي إياس بن
مضارب فقتلته، فقال المختار: بشرك الله بخير، هذا أول الفتح، قم يا
سعيد بن منقذ، فأشعل في الهرادي [2] النيران ثم ارفعها للمسلمين، وقم
يا عبد الله بن شداد، فناد: «يا منصور أمت» ، وقم أنت يا سفيان بن ليل،
وأنت يا قدامة بن مالك وقل: «يا لثارات الحسين» . ثم قال [المختار] :
علي بدرعي وسلاحي، فأتي به، فأخذ يلبس سلاحه ويقول:
قد علمت بيضاء حسناء الطلل ... واضحة الخدين عجزاء الكفل
/ أني غداة الروع مقدام بطل
ثم إن إبراهيم قال للمختار: إن هؤلاء الذين وضعهم ابن مطيع في الجبابين
يمنعون إخواننا أن يأتونا، ويضيقون عليهم، فلو أني خرجت بمن معي من
أصحابي حتى آتي قومي، فيأتيني كل من قد بايعني، ثم سرت بهم في نواحي
الكوفة، ودعوت بشعارنا، فخرج إلي من أراد الخروج، قال: فاعجل، ولا
تقاتل إلا من قاتلك.
فخرج إبراهيم، واجتمع إليه جل من كان بايعه، فسار بهم في سكك الكوفة،
وخرج فهزم كل من لقيه من المسالح، وخرج المختار حتى نزل في ظهر دير
هند. وخرج أبو عثمان النهدي ونادى: يا لثارات الحسين، ألا إن أمير آل
محمد قد خرج فنزل دير هند، وبعثني إليكم داعيا، فاخرجوا رحمكم الله،
فخرجوا من الدور يتداعون: يا لثارات الحسين. فوافى المختار منهم ثلاثة
آلاف وثمانمائة من اثني عشر ألفا كانوا
__________
[1] في الطبري: «لأرغبن عدونا» .
[2] الهردية: قصبات تضم ملوية بطاقات الكرم، تحمل عليها قضبانه.
(6/53)
بايعوه، واجتمعوا له قبل انفجار الصبح [1]
. وجمع ابن مطيع الناس في المسجد وبعث شبث بن ربعي إلى المختار في نحو
من ثلاثة آلاف، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط، وخرج
إبراهيم بن الأشتر في جماعة كثيرة واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل راشد
وانهزم أصحابه، وجاء البشير بذلك إلى المختار، فقويت نفوس أصحابه،
وداخل أصحاب ابن مطيع الفشل. ودنا إبراهيم من شبث وأصحابه، فحمل عليهم
فانكشفوا حتى انتهوا إلى أبيات الكوفة، ورجع الناس من السبخة منهزمين
إلى ابن مطيع، وجاءه قتل راشد بن إياس، فأسقط في يده.
وخرج فحض الناس على القتال، وقال: امنعوا حريمكم [2] وقاتلوا عن مصركم،
فقال إبراهيم للمختار: سر بنا، فما دون القصر أحد يمنع، ولا يمتنع كبير
امتناع، فقال المختار: ليقم هاهنا كل شيخ وكل ذي علة، وضعوا ما كان لكم
من ثقل ومتاع [3] بهذا الموضع. واستخلف عليهم أبا عثمان النهدي، وقدم
إبراهيم أمامه.
وبعث عبد الله بن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفين، فبعث المختار إلى
إبراهيم أن أطوه ولا تقم، وأمر يزيد بن أنس/ أن يصمد لعمرو. ومضى
المختار في أثر إبراهيم، وأقبل شمر بن ذي الجوشن في ألفين، فبعث إليه
المختار سعيد بن منقذ، فواقعه [4] ، وبعث إلى إبراهيم أن أطوه وامض على
وجهك، فمضى حتى انتهى إلى سكة شبث، وإذا نوفل بن مساحق في نحو من خمسة
آلاف، وقد أمر ابن مطيع سويد بن عبد الرحمن فنادى في الناس أن يلحقوا
بابن مساحق.
وولى حصار القصر إبراهيم بن الأشتر، ويزيد بن أنس، ويحمر بن شميط.
وخرج ابن مطيع فاستتر في دار، وخلى القصر، وفتح أصحابه الباب، وقالوا:
يا ابن الأشتر، نحن آمنون [5] ؟ قال: نعم، فبايعوا المختار [6] .
__________
[1] في الطبري 6/ 23: «قبل انفجار الفجر» .
[2] كذا في الأصول، وتاريخ الطبري 6/ 28.
[3] في ت: «متاع وثقل» .
[4] في الأصل، وت: «فوافقه» وما أوردناه من تاريخ الطبري 6/ 29.
[5] في تاريخ الطبري 6/ 32: «آمنون نحن» .
[6] كذا في الأصل، وفي ت: «قال: فبايعوا المختار» بإسقاط: «قال: نعم» .
وفي تاريخ الطبري 6/ 32:
«قال: أنتم آمنون، فخرجوا فبايعوا المختار» .
(6/54)
ودخل المختار القصر، فبات به، وخرج من الغد
فصعد المنبر، فقال [1] : الحمد للَّه الذي وعد وليه النصر، وعدوه
الخسر، ثم نزل فبايعه الناس، فجعل يقول: تبايعون على كتاب الله وسنة
رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ [2] ، والطلب بدماء أهل البيت،
وجهاد المحلين، وأخذ المختار في السيرة الجميلة، فقيل له: إن ابن مطيع
في الدار الفلانية [3] ، فسكت، فلما أمسى بعث إليه بمائة ألف درهم،
وقال له: تجهز بهذه واخرج فإني قد شعرت بمكانك، وكان صديقه قبل ذلك.
وأصاب [4] المختار في بيت مال الكوفة سبعة آلاف ألف، فأعطى أصحابه
الذين حصروا ابن مطيع في القصر- وهم ثلاثة آلاف وثمانمائة رجل [5]- كل
رجل خمسمائة درهم، وأعطى ستة آلاف من أصحابه مائتين مائتين، وأدنى
الأشراف، فكانوا جلساءه.
وأول رجل عقد له المختار راية عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، عقد له
على أرمينية. وبعث محمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، وبعث عبد
الرحمن بن سعيد على الموصل. فلما قدم عليه عبد الرحمن بن سعيد من قبل
المختار أميرا تنحى له عن الموصل، ثم شخص إلى المختار فبايع له.
وكان المختار يقضي بين الناس، ثم قال: لي فيما أحاول شغل عن القضاء،
فأجلس للناس شريحا، فقضى بين الناس، ثم تمارض/ شريح، فأقام المختار
مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود.
وفي هذه السنة وثب المختار بمن كان بالكوفة
من قتلة الحسين والمشايعين على قتله [6]
فقتل من قدر عليه، وهرب منه بعضهم. وكان سبب ذلك أن مروان لما استوثق
__________
[1] الخطبة كلها في تاريخ الطبري 6/ 32.
[2] في ت، وتاريخ الطبري: «تبايعوني على كتاب الله وسنة نبيه» .
[3] كذا في الأصول: وفي تاريخ الطبري 6/ 33: «في دار أبي موسى» .
[4] في الأصل: «فأصاب» . وما أوردناه من ت.
[5] في أحد نسخ الطبري المخطوطة: «ثلاثة آلاف وخمسمائة» .
[6] تاريخ الطبري 6/ 38.
(6/55)
لَهُ أمره بعث عبيد الله بن زياد إلى
العراق، وجعل له ما غلب عليه، وأمره أن ينهب الكوفة إذا ظفر بأهلها
ثلاثا.
فمر بأرض الجزيرة فاحتبس بها وبقتال أهلها عن العراق نحوا من سنة، ثم
أقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار على الموصل إلى
المختار:
أما بعد، فإني أخبرك أيها الأمير أن عبيد الله بن زياد قد دخل إلى أرض
الموصل، وقد وجه خيله قبلي ورجاله، وأني انحزت إلى تكريت حتى يأتيني
أمرك.
فكتب إليه المختار: أصبت فلا تبرح من مكانك حتى يأتيك أمري، ثم قال
ليزيد بن أنس: اذهب إلى الموصل فإني ممدك بالرجال. فقال: سرح معي ثلاثة
آلاف [فارس] [1] أنتخبهم، فإن احتجت إلى الرجال فسأكتب إليك. قال
[المختار] : فانتخب من أحببت [2] . فانتخب ثلاثة آلاف فارس.
ثم فصل من الكوفة [3] ، فخرج معه المختار يشيعه، وقال له: إذا لقيت
عدوك فلا تناظرهم، وإذا أمكنتك الفرصة فلا تؤخرها، وليكن خبرك في كل
يوم عندي، وإن احتجت [4] إلى مدد فاكتب إلي، مع أني ممدك ولو لم تستمد.
فقال يزيد: وأيم الله لئن لقيتهم ففاتني النصر لا تفوتني الشهادة. فكتب
المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد: أما بعد، فخل بين يزيد وبين البلاد،
والسلام عليكم.
فسار حتى أتى أرض الموصل، فسأل عبيد الله بن زياد عن عدة أصحاب يزيد،
فقيل: خرج مع ثلاثة آلاف، فقال: أنا أبعث إلى كل ألف ألفين.
فمرض يزيد فقال: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فإن هلك
فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، / فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر
[5] الحنفي. ثم قال: قدموني وقاتلوا وقاتلوا عني. فأخرجوه في يوم عرفة
سنة ست وستين، فجعل يقول:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] «أنتخبهم فإن احتجت.... فانتخب من أحببت» العبارة ساقطة من ت.
[3] في الأصل: «ثم فصل عن الكوفة» .
[4] في ت: «وإذا احتجت» .
[5] في ت: «ابن أبي سعير» .
(6/56)
اصنعوا كذا، افعلوا كذا، ثم يغلبه الوجع
فيوضع. فاقتتل القوم قبل شروق الشمس، فهزم أصحاب عبيد الله وقتل
قائدهم. ثم اقتتلوا يوم الأضحى، فهزم أصحاب عبيد الله، وقتلوا قتلا
ذريعا. وأتى يزيد بن أنس بثلاثمائة أسير، فأمر بقتلهم، فقتلوا، فما
أمسى يزيد حتى مات، فانكسر أصحابه بموته.
فقال ورقاء: يا قوم: إنه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل إلينا في ثمانين
ألفا من أهل الشام، ولا طاقة لنا به، فماذا ترون؟ فإني أرى أن نرجع،
قالوا: افعل، فرجع ورجعوا.
فبلغ الخبر إلى المختار، فبعث إبراهيم بن الأشتر على تسعة آلاف، ثم
قال: اذهب فارددهم معك، ثمّ سر حتى تلقى عدوك فتناجزهم.
ثم إن أهل الكوفة تغيروا على المختار، وقالوا: أتأمر علينا بغير رضا
منا، وزعم أن ابن الحنفية أمره بذلك ولم يفعل، فاجتمع رأيهم على قتاله،
وصبروا حتى بلغ ابن الأشتر ساباط، ثم وثبوا على المختار، فمنعوا أن يصل
إليه شيء وعسكروا، فبعث المختار إلى إبراهيم بن الأشتر: لا تضع كتابي
من يدك حتى تقبل بجميع من معك إلي.
ثم بعث المختار إليهم: أخبروني ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تعتزلنا،
فإنك زعمت أن ابن الحنفية بعثك ولم يبعثك، فقال المختار: ابعثوا إليه
من قبلكم وفدا، وأبعث من قبلي وفدا حتى تنظروا، إنما أراد أن يشغلهم
بالحديث حتى يقدم ابن الأشتر، فأسرع إبراهيم حتى قدم صبيحة ثلاثة من
مخرجهم على المختار. ثم خرج إليهم المختار فاقتتلوا كأشد قتال، ونصر
عليهم المختار، وهربوا، وأدرك منهم قوم فقتلوا منهم شمر بن ذي الجوشن،
وأسر سراقة بن مرداس، فقال: ما أسرتموني، وإنما أسرني قوم على دواب
بلق، وجاء سراقة يحلف باللَّه الذي لا إله إلا هو، لقد رأيت الملائكة
تقاتل على خيول/ بلق بين السماء والأرض، فقال له المختار: فاصعد المنبر
وأعلم المسلمين، ففعل، فلما نزل خلا به المختار، فقال: قد علمت أنك لم
تر الملائكة، وإنما أردت أن لا أقتلك، فاذهب عني حيث شئت، ولا تفسد علي
أصحابي.
ونادى المختار: من أغلق بابه فهو آمن إلا رجلا أشرك في دم آل محمد،
وخرج أشراف أهل الكوفة فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة، وتجرد المختار
لقتلة الحسين، وكان يقول: لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض
منهم، وأنقي المصر
(6/57)
منهم، فجعل يتبع من خرج في قتال الحسين
عليه السلام فيقتلهم شر قتل، وبعث إلى خولي الأصبحي- وهو صاحب رأس
الحسين- فأحاطوا بداره، فاختبأ في المخرج، فقالوا لامرأته: أين هو؟
فقالت: لا أدري، وأشارت بيدها إلى المخرج، فأخرجوه فقتلوه وأحرقوه.
وبعث إلى عمر بن سعد من قتله، وكان قد أعطاه في أول ما خرج أمانا بشرط
أن لا يحدث.
وكان أبو جعفر الباقر [يقول] [1] : إنما أراد بالحدث دخول الخلاء، فجيء
برأسه وابنه حفص بن عمر بن سعد جالس عند المختار، فقال له: أتعرف هذا
الرأس؟
فاسترجع وقال: نعم، لا خير في العيش بعده، فقال المختار: صدقت فإنك لا
تعيش بعده، فقتل، فإذا رأسه مع رأس أبيه، فقال المختار: هذا بحسين،
وهذا بعلي بن حسين، ولا سواء، والله لو قتل به ثلاثة أرباع قريش ما
وفوا أنملة من أنامله. ثم بعث برأسيهما إلى محمد بن علي ابن الحنفية
[2] ، وكان الذي هيج على قتل عمر بن سعد، أنه بلغه عن ابن الحنفية أنه
يقول: يزعم المختار أنه لنا شيعة وقتلة الحسين جلساؤه يحدثونه. فلما
لبث أن قتل عمر وابنه، وطلب المختار سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل
الحسين، فوجده قد هرب إلى البصرة، فهدم داره، وما زال يتبع القوم
ويقتلهم بفنون القتل، فإذا لم يجد الرجل هدم داره.
وفي هذه السنة بعث المختار جيشا إلى
المدينة للمكر بابن الزبير [3]
وهو مظهر له أنه وجههم معونة/ له لحرب الجيش الذي كان بعثه عبد الملك
لحربه. وسبب ذلك أنه لما ظهر المختار بالكوفة كان يدعو إلى ابن
الحنفية، والطلب بدماء أهل البيت، وأخذ يخادع ابن الزبير، فكتب إليه:
أما بعد، فإنك قد عرفت
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «محمد بن الحنفية» .
[3] تاريخ الطبري 6/ 71.
(6/58)
مناصحتي وما كنت أعطيتني إذا فعلت ذلك من
نفسك، فلما وفيت لك، وقضيت مالك عليّ، لم تف لي بما عاهدتني، فإن ترد
مراجعتي أراجعك، أو مناصحتي أنصح لك، وإنما أراد بذلك كفه عنه حتى
يستجمع الأمر، فأراد ابن الزبير أن يعلم أسلم هو أم حرب. فدعا عمر بن
عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فقال له: تجهز إلى الكوفة فقد
ولّيناكها، فقال: كيف وبها المختار، فقال: إنه يزعم أنه لنا سامع مطيع.
فتجهز بما بين الثلاثين ألف درهم إلى الأربعين ألف درهم، ثم خرج مقبلا
إلى الكوفة. فبلغ الخبر المختار، فدعا زائدة بن قدامة، فقال له: اجعل
معك [1] سبعين ألف درهم، ضعف ما أنفق هذا في مسيره إلينا وتلقه في
المفاوز، وأخرج معك بمسافر بن سعيد بن نمران في خمسمائة فارس دارع
رامح، ثم قل له: خذ هذه النفقة فإنها ضعف نفقتك وانصرف، فإن فعل وإلا
فأره الخيل وقل له: إن وراء هؤلاء مثلهم مائة كتيبة.
فخرج زائدة فتلقاه وعرض عليه المال وأمره زائدة بالانصراف، فقال: إن
أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة ولا بد من إنفاذ أمره، فدعا زائدة
بالخيل، [فلما رآها] [2] قال:
هذا الآن عذري، فهات المال، فأخذه وذهب نحو [البصرة، ولما أخبر المختار
أن أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق خشي أن يأتيه] [3] مصعب بن الزبير
من قبل البصرة، فوادع ابن الزبير وداراه وكتب إليه: قد بلغني أن عبد
الملك بن مروان قد بعث إليك جيشا، فإن أحببت أن أمدك بمدد أمددتك.
فكتب إليه عجل بالجيش. فدعا المختار شرحبيل الهمداني يسرحه في ثلاثة
آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم إلا سبعمائة من العرب، وقال: سر حتى
تدخل المدينة، فإذا/ دخلتها فاكتب إلي بذلك حتى يأتيك أمري.
__________
[1] كذا في الأصلين، وفي تاريخ الطبري 6/ 72: «احمل معك» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/59)
وفي هذه السنة قدمت
الخشبية مكة [1]
وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير حبس محمد ابن الحنفية ومن معه
من أهل بيته، وسبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة بزمزم، وكرهوا البيعة
لمن لم تجتمع عليه الأمة، وهربوا إلى الحرم، وتوعدهم بالقتل والإحراق،
وأعطى الله عهدا إن لم يبايعوه أن ينفذ فيهم ما توعدهم به [2] ، وضرب
لهم في ذلك أجلا، فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى
المختار وإلى من بالكوفة رسولا يعلمهم حالهم وما توعدهم به ابن الزبير،
فوجه ثلاثة نفر إلى المختار وأهل الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم،
وكتب إليهم يعلمهم بالحال ويسألهم أن لا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل
بيته، فقدموا على المختار، فدفعوا إليه الكتاب، فنادى في الناس وقرأ
عليهم الكتاب، وقال:
هذا كتاب مهديكم، وصريح أهل بيت نبيكم، وقد تركوا ينتظرون التحريق
بالنار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرا مؤزرا، وإن لم أسرب إليهم
الخيل في أثر الخيل كالسيل حتى يحل بابن الكاهلية الويل.
ووجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكبا ومعه ظبيان بن عمير [3] في
أربعمائة راكبا، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وعمير بن
طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين. وخرج أبو عمران حتى نزل ذات
عرق، ولحقه ابن طارق وسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام وهم ينادون: يا
لثارات الحسين، حتى انتهوا إلى زمزم وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم،
وكان قد بقي من الأجل يومين، فطردوا الحرس وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا
على ابن الحنفية، فقالوا له: خل بيننا وبين عدو
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 75، 76.
[2] في الأصل: «ما وعدهم به» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصلين: ظبيان بن عمير» . وهو خطأ. وما أوردناه من تاريخ
الطبري. وفي أحد نسخ الطبري المخطوطة: «ظبيان بن عثمان» وهو خطأ.
(6/60)
الله ابن الزبير [1] ، فقال لهم: إني لا
أستحل القتال في حرم الله عز وجل، ثم تتابع المدد فخرج ابن الحنفية في
أربعة آلاف.
وفي هذه السنة [2] حج عبد الله بن الزبير/ بالناس، وكان على المدينة
مصعب بن الزبير، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى
قضائها هشام بن هبيرة، وكان المختار غالبا على الكوفة، وبخراسان عبد
الله بن خازم.
وفي هذه السنة توجه إبراهيم بن الأشتر إلى
عبيد الله بن زياد لحربه، وذلك لثمان بقين من ذي الحجة [3]
وقد ذكرنا أن المختار وجه إبراهيم بن الأشتر لقتال أهل العراق، فلما
وثب أهل الكوفة لقتال المختار بعث إلى ابن الأشتر فرده.
فلما نصر عليهم عاد فأشخصه إلى الوجه [4] الذي بعثه فيه، فخرج يوم
السبت لثمان بقين من ذي الحجة، وخرج معه المختار وبين يديه كرسي كان
يستنصر به، فناجزهم ساعة تلقاهم.
وفي ذلك الكرسي قولان: [5] أحدهما: أن طفيل بن جعدة قال: كنت قد أملقت،
فرأيت جارا لي زياتا [6] له كرسي قد أعلاه الوسخ، فخطر ببالي أن لو قلت
للمختار في هذا، فأخذت الكرسي وأتيت المختار وقلت: إني كنت أكتمك شيئا
وقد بدا لي أن أذكره، وهو كرسي كان لجعدة بن هبيرة كان يجلس عليه ويرى
أن فيه أثرة من علم، فقال: ابعث به، وأمر لي باثني عشر ألفا، ثمّ دعا:
الصلاة جامعة، وقال: إنه لم
__________
[1] في الأصل: «عبد الله بن الزبير» . وما أوردناه من ت.
[2] جاء هذا العنوان في الله في آخر أحداث هذه السنة.
[3] تاريخ الطبري 6/ 81.
[4] في ت: «فأشخصه للوجه الّذي» .
[5] تاريخ الطبري 6/ 82.
[6] في الأصل: «فرأيت جار إلى زياتا» . وما أوردناه من ت.
(6/61)
يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في
هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت، وإن هذا فينا مثل
التابوت، فرفعوا أيديهم، فلما قيل لهم: هذا عبيد الله بن زياد قد نزل
بأهل الشام خرج بالكرسي على بغل يمسكه عن يمينه سبعة، وعن يساره سبعة،
فندم طفيل على ما فعل.
القول الثاني [1] : إن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة- وكانت أم جعدة
أم هاني.
أخت علي بن أبي طالب: ائتوني بكرسي علي بن أبي طالب، فقالوا: والله ما
هو عندنا، فقال: ائتوني به، وظن القوم أنهم لا يأتونه بكرسي، ويقولون:
هذا هو إلا قبله منهم. فجاءوا بكرسي وقالوا: هذا هو. ثم قال المختار
لابن الأشتر: خذ عني ثلاثا:
خف الله عز وجل في سر أمرك وعلانيته، وعجل السير، وإذا لقيت عدوك
فناجزهم/ ساعة تلقاهم.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن أَحْمَد الأنصاري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو
محمد بن السمرقندي، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا القاضي أَبُو الحسين عَلي بْن مُحَمَّد بْن حبيب البصري، قال:
حدثنا محمد بن المعلى بن عبد الله الأزدي، قال:
أخبرنا أبو جزء محمد بن حمدان القشيري، قال: حدثنا أبو العيناء، عن أبي
أنس الحراني، قال: قال المختار لرجل من أصحاب الحديث:
ضع لي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أني كائن بعده خليفة وطالب له
ثرة ولده، وهذه عشرة آلاف درهم وخلعة ومركوب وخادم، فقال الرجل: أما عن
النبي صلى الله عليه وسلم فلا، ولكن اختر من شئت من الصحابة واحطط من
الثمن ما شئت، قال: عن النبي آكد، قال: والعذاب عليه أشد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
434- أسماء بن حارثة بن سعيد بن عبد الله [2] :
كان محتاجا من أهل الصفة، توفي في هذه السنة وَهُوَ ابْن ثمَانين سنة.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 84.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 50.
(6/62)
ثم دخلت سنة سبع
وستين
فمن الحوادث فيها مقتل عبيد الله بن زياد
[1]
وذلك أن إبراهيم بن الأشتر خرج يقصد ابن زياد، فالتقوا قريبا من
الموصل، فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل خلق كثير من الفريقين، وقال ابن
الأشتر: قتلت رجلا وجدت منه ريح المسك تحت راية مفردة على شاطئ نهر
فالتمسوه، فإذا هو عبيد الله بن زياد، ضربه فقده نصفين، وقتل الحصين بن
نمير، وانهزم أصحاب ابن زياد، وتبعهم أصحاب إبراهيم، فكان من غرق أكثر
ممن قتل، وأصابوا عسكرهم وفيه من كل شيء وخرج المختار من الكوفة، فنزل
ساباط، وجاءته البشرى بقتل ابن زياد وهزيمة أصحابه، وانصرف المختار إلى
الكوفة، ومضى ابن الأشتر إلى الموصل، وبعث عماله عليها.
وفي هذه السنة ولى عبد الله بن الزبير
أخاه/ مصعب بن الزبير على البصرة.
فدخلها فصعد المنبر فخطب فقال: بسم الله الرحمن الرحيم طسم تِلْكَ
آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ من نَبَإِ مُوسى
وَفِرْعَوْنَ 28: 1- 3 إلى قوله: إِنَّهُ كانَ من الْمُفْسِدِينَ 28:
4- وأشار بيده إلى الشام- وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوارِثِينَ 28: 5- وأشار بيده نحو الحجاز- وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ 28: 6
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 86، والبدآية والنهاية 8/ 303.
(6/63)
وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا
يَحْذَرُونَ 28: 6 [1]- وأشار بيده نحو الشام.
وفي هذه السنة [2] سار مصعب بن الزبير إلى
المختار فقتله
وسبب ذلك أن شبث بن ربعي كان فيمن قاتل المختار، فهزمهم المختار،
فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة، فقدم شبث على مصعب وهو على بغلة قد
قطع ذنبها وطرف أذنها وشق قباءه وهو ينادي: يا غوثاه يا غوثاه. فدخل
عليه ومعه أشراف الناس من المنهزمين، فأخبره بما أصيبوا به، وسألوه
النصر على المختار، ثم قدم محمد بن الأشعث بن قيس أيضا، وكان المختار
قد طلبه فلم يجده فهدم داره، فكتب مصعب إلى المهلب، وهو عامله على
فارس: أن أقبل إلينا تشهد أمرنا، فإنا نريد المسير إلى الكوفة.
فأقبل المهلب بجموع كثيرة وأموال عظيمة، فدخل على مصعب، فأمر مصعب
الناس بالمعسكر عند الجسر الأكبر، ودعا عبد الله بن مخنف وقال له: ائت
الكوفة فاخرج إلي جميع من قدرت أن تخرجه، وادعهم إلى بيعتي سرا. وخذل
أصحاب المختار، فمضى حتى جلس في بيته مستترا لا يظهر، وخرج مصعب ومعه
المهلب، والأحنف بن قيس، وبلغ المختار الخبر، فقام في أصحابه فقال: يا
أهل الكوفة، يا أعوان الحق وشيعة الرسول، إن فراركم الذين بغوا عليكم
أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم، انتدبوا مع أحمد بن شميط، ودعا
الرءوس الّذي كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع أحمد بن/ شميط، وإنما
فارقوا ابن الأشتر لأنهم رأوه كالمتهاون بأمر المختار.
فخرج ابن شميط حتى ورد المدائن، وجاء مصعب فعسكر قريبا منه، فقال: يا
هؤلاء، إنا ندعوكم إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صَلى اللهُ عَلَيه
وَسَلَّمَ، وإلى بيعة المختار، وإلى
__________
[1] سورة: القصص، الآيات: 1: 6.
[2] تاريخ الطبري 6/ 93، وفي الأصل: «وفيها سار ... » .
(6/64)
أن يجعل هذا الأمر شورى في آل رسول الله
صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ. فاقتتلوا، فقتل ابن شميط، وانهزم أصحابه.
وبلغ الخبر إلى المختار، فقال: ما من موتة أموتها أحب إلي من موتة ابن
شميط، وساروا فالتقوا وقد جعل مصعب على ميمنته المهلب بن أبي صفرة،
وعلى ميسرته عمر بن عبيد بن معمر التيمي [1] ، وعلى الخيل عباد بن
الحصين، وعلى الرجالة مقاتل بن مسمع البكري، ونزل هو يمشي متنكبا قوسا،
وتزاحف الناس ودنا بعضهم إلى بعض، فبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة:
أن أحمل على من يليك، فحمل فكشفهم حتى انتهوا إلى مصعب، فجثى على
ركبتيه، ولم يكن فرارا، ورمى بأسهمه، ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعة ثم
تحاجزوا، وحمل المهلب فحطم أصحاب المختار حطمة منكرة فكشفهم وقتل محمد
بن الأشعث وعامة أصحابه، وتفرق أصحاب المختار، وجاء هو حتى دخل قصر
الكوفة فحصر هو وأصحابه، فكانوا لا يقدرون على الطعام والشراب إلا
بحيلة، وكان يخرج هو وأصحابه فيقاتلون قتالا ضعيفا، وكانت لا تخرج له
خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت، وصب عليهم الماء القذر، وصار
المختار وأصحابه يشربون من البئر فيصبون عليه العسل ليتغير طعمه.
ثم أمر مصعب أصحابه فاقتربوا من القصر ثم دخلوه، فقال المختار لأصحابه:
ويحكم، إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفا، فانزلوا بنا نقاتل لنقتل كراما،
والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم أن ينصركم الله. فتوقفوا عن قبول قوله
فقال: أما أنا فو الله لا أعطي بيدي.
ثم أرسل إلى امرأته أم ثابت بنت سمرة بن جندب، فأرسلت إليه بطيب كثير،
فاغتسل وتحنط ووضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثم خرج في تسعة عشر
رجلا، فقال لهم: أتؤمنونني وأخرج إليكم؟ فقالوا: لا إلا على الحكم،
فقال: لا أحكمكم في نفسي أبدا، فضارب بسيفه حتى قتل، ونزل أصحابه على
الحكم فقتلوا، وأمر مصعب بكف المختار فقطعت ثم سمّرت بمسمار حديد إلى
جنب حائط المسجد، ولم يزل
__________
[1] في ت: «ابن معمر التيمي» ، وما أوردناه من الأصل والطبري.
(6/65)
على ذلك حتى قدم الحجاج بن يوسف، فنظر
إليها فقال: ما هذه؟ فقالوا: كف المختار، فأمر بنزعها.
وبعث مصعب عماله على الجبال والسواد، وكتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى
طاعته ويقول له: إن [أنت] [1] أجبتني ودخلت في طاعتي فلك الشام وأعنة
الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان. وكتب عبد
الملك بن مروان من الشام إليه يدعوه إلى طاعته، ويقول: إن أجبتني ودخلت
في طاعتي فلك العراق، فدعا إبراهيم بن الأشتر أصحابه وقال: ما تقولون-
أو ماذا ترون؟ فقال بعضهم تدخل في طاعة عبد الملك، وقال بعضهم: تدخل في
طاعة ابن الزبير، فقال ابن الأشتر: لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد
ولا رؤساء أهل الشام تبعت عبد الملك. وأقبل بالطاعة إلى ابن الزبير.
ولما قتل مصعب المختار ملك البصرة والكوفة، غير أنه أقام بالكوفة ووجه
المهلب على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية، وأن مصعبا لقي عبد
الله بن عمر، فقال له ابن عمر: أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في
غداة واحدة، فقال مصعب:
إنهم كانوا كفرة سحرة، فقال ابن عمر: والله لو قتلت عدتهم غنما من تراث
أبيك لكان ذلك سرفا.
والتراث هو الميراث.
وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه
مصعب بن الزبير عن البصرة وبعث ابنه حمزة بن عبد الله إليها [2]
قال المدائني: وفد مصعب إلى عبد الله بعد قتل المختار، فعزله وحبسه
عنده، واعتذر إليه من عزله، وقال: / والله إني لأعلمك أنك أكفأ من حمزة
ولكني رأيت فيه ما رأى عثمان في عبد الله بن عامر حين عزل أبا موسى
وولاه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 117.
(6/66)
فقدم حمزة البصرة، وكان يجود تارة حتى لا
يدع شيئا يملكه، ثم يبخل مما لا يمنع مثله، فظهر منه ضعف وتخليط. وكتب
الأحنف بن قيس إلى ابن الزبير بذلك وسأله أن يعيد مصعبا، فعزله فأخذ
مالا كثيرا، وخرج إلى المدينة، فأودعه رجالا فذهبوا سوى يهودي كان
أودعه فإنه وفى له. وعلم ابن الزبير بذلك، فقال: أبعده الله، أردت أن
أباهي به بني مروان.
وفي هذه السنة حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان القاضي على الكوفة
عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وكان على
خراسان عبد الله بن خازم السلمي، وكان بالشام عبد الملك بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
435- عبيد الله بن زياد بن أبية [1] :
وقد ذكرنا قتله في الحوادث.
436- المختار بن أبي عبيد، واسم أبي عبيد مسعود بن عمرو بن عمير بن
عوف: [2]
وأمه دومة بنت عمرو بن وهب، ويكنى المختار أبا إسحاق، وهو أخو صفية
زوجة عبد الله بن عمر بن الخطاب.
خرج طالبا بدم الحسين رضي الله عنه، وجرت له عجائب قد ذكرنا بعضها.
وكان يقول: قام الآن عن هذه الوسادة جبريل، وعن الأخرى ميكائيل.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قَالَ: أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حدثني أبي، قال: حدّثنا ابن نمير، قال:
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 305.
[2] البداية والنهاية 8/ 308: 315، تاريخ الطبري 6/ 93، والإصابة 8547.
وفي الأصل: «أبي عوف المختار» .
(6/67)
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا السّريُّ [1] ، عَنْ رِفَاعَةَ الْقَتْبَانِيِّ، قَالَ [2]
: دَخَلْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ، فَأَلْقَى إِلَيَّ وِسَادَةً وَقَالَ:
لَوْلا أَنَّ أَخِي جِبْرِيلَ قَامَ عَنْ هَذِهِ لأَلْقَيْتُهَا لَكَ.
قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَذَكَرْتُ حَدِيثًا
حَدَّثَنِي بِهِ أَخِي عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَمَّنَ
مُؤْمِنًا عَلَى دَمِهِ/ فَقَتَلَهُ فَأَنَا مِنَ الْقَاتِلِ بَرِيءٌ»
. قتل المختار لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة سبع وستين، وهو ابن
سبع وستين [سنة] [3] .
__________
[1] في الأصول: «السدي» . وما أوردناه من المسند.
[2] الخبر في مسند أحمد بن حنبل 5/ 437.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/68)
ثم دخلت سنة ثمان
وستين
فمن الحوادث فيها أن عبد الله بن الزبير رد
أخاه مصعب بن الزبير أميرا على العراق [1]
بعد عزله إياه، فبدأ بالبصرة فدخلها. وبعث الحارث بن أبي ربيعة على
الكوفة أميرا.
وفي هذه السنة رجعت الأزارقة من فارس إلى
العراق [2]
حتى صاروا إلى قرب الكوفة، ودخلوا المدائن، وذلك أن الأزارقة كانت قد
لحقت بفارس وكرمان ونواحي أصبهان بعد ما أوقع بهم المهلب بالأهواز.
فلما وجه مصعب المهلب إلى الموصل ونواحيها عاملا عليها، وبعث عمر بن
عبيد الله بن معمر على فارس انحطت الأزارقة على عمر فلقيهم بنيسابور،
فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل منهم قوم وانهزموا، وتبعهم فقطعوا قنطرة
طبرستان ثم ارتفعوا إلى نحو من أصبهان وكرمان فأقاموا بها حتى قووا
واستعدوا وكثروا.
ثم إن القوم أقبلوا حتى مروا بفارس، فشمر في طلبهم عمر مسرعا حتى أتى
أرّجان، فوجدهم قد خرجوا منها متوجهين إلى الأهواز، وبلغ مصعبا
إقبالهم، فخرج فعسكر بالناس بالجسر الأكبر، وقال: والله ما أدري ما
الذي أغنى عني عمر، وضعت
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 119، والبداية والنهاية 8/ 315.
[2] تاريخ الطبري 6/ 119، والبداية والنهاية 8/ 315.
(6/69)
معه جندا بفارس أجري عليهم أرزاقهم وأمده
بالرجال، فقطعت الخوارج أرضه، والله لو قاتلهم لكان عندي أعذر.
وجاءت للخوارج عيونهم بأن عمر في آثارهم، وأن مصعبا قد خرج من البصرة
إليهم، فذهبوا إلى المدائن فشنوا الغارة على أهلها، يقتلون الولدان
والنساء والرجال ويبقرون الحبالى. وأقبلوا إلى ساباط فوضعوا أسيافهم في
الناس، ثم تبعهم الناس وقاتلوهم وقتل أميرهم، فانحازوا إلى قطري
فبايعوه، فذهب/ بهم إلى ناحية كرمان، فأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع
كثيرة وقوي، ثم أقبل حتى أخذ في أرض أصبهان، ثم خرج إلى الأهواز، وكتب
للحارث بن أبي ربيعة وهو عامل مصعب على البصرة يخبره أن الخوارج قد
انحدرت إلى الأهواز وأنه ليس لهذا الأمر إلا المهلب، فبعث إلى المهلب
فأمره بقتال الخوارج والمصير إليهم، وبعث إلى عامله إبراهيم بن الأشتر،
فجاء المهلب إلى البصرة وانتخب الناس، وسار بمن أحب، ثم توجه نحو
الخوارج، وأقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا بها ثمانية أشهر
أشد القتال.
وفي هذه السنة كان القحط الشديد بالشام [1]
ولم يقدروا لشدته على الغزو، وشتى عبد الملك بأرض قنسرين ثم انصرف منها
إلى دمشق.
وفي هذه السنة وافت عرفات أربعة ألوية [2]
ابن الحنفية في أصحابه في لواء أقام عند جبل المشاة، وعبد الله بن
الزبير في لواء، فقام مقام [3] الإمام اليوم، ثم تقدم ابن الحنفية
بأصحابه حتى وقفوا حذاء ابن الزبير، ونجدة الحروري قام خلفهما في لواء
بني أمية يسارهما. فكان أول من أفاض
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 127، والبداية والنهاية 8/ 316.
[2] تاريخ الطبري 6/ 138، والبداية والنهاية 8/ 317.
[3] في الأصول: «قام مقام» ، وما أوردناه من الطبري.
(6/70)
لواء محمد ابن الحنفية، ثم تبعه نجدة في
لواء بني أمية، ثم لواء ابن الزبير، وتبعه الناس.
وقد روى سعيد بن جبير عن أبيه، قال: خفت الفتنة فجئت إلى محمد بن علي
فقلت: اتّق الله فإنا في بلد حرام، والناس وفد الله إلى هذا البيت، فلا
تفسد عليهم حجتهم. فقال: والله ما أريد ذلك، ولا يؤتى أحد من الحاج من
قبلي، ولكني رجل أدفع عن نفسي، فجئت إلى ابن الزبير فكلمته في ذلك
فقال: أنا رجل قد أجمع الناس علي، فقلت: أرى الكف خيرا لك، قال: أفعل.
فجئت نجدة فكلمته في ذلك، فقال: أما أن أبتدئ أحدا بقتال فلا، ولكن من
بدأ بقتالي قاتلته. ثم جئت شيعة/ بني أمية فكلمتهم بنحو ذلك، فقالوا:
نحن عزمنا على أن لا نقاتل أحدا إلا أن يقاتلنا.
وفي هذه السنة حج ابن الزبير بالناس، وكان عامله على المدينة جابر بن
الأسود بن عوف الزهري، وعلى البصرة والكوفة مصعب، وعلى قضاء البصرة
هشام بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى
خراسان عبد الله بن خازم، وبالشام عبد الملك بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
437- الحارث بن مالك- وقيل: الحارث بن عوف، وقيل: عوف بن الحارث- أبو
واقد الليثي: [1]
أسلم قديما، وكان يحمل لواء بني ليث وضمرة وسعد بن بكر يوم الفتح،
وبعثه رَسُول اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ حين أراد الخروج إلى
تبوك يستنفر بني ليث. وخرج إلى مكة فجاور بها فمات في هذه السنة وَهُوَ
ابْن خمس وثمانين سنة، ودفن بمكة في مقبرة المهاجرين التي بفج، وإنما
سميت مقبرة المهاجرين لأنه دفن فيها من مات ممن كان هاجر إلى المدينة.
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 230.
(6/71)
438- عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن
هاشم، يكنى آبا العباس [1] :
وأمه لبابة بنت الحارث بن حرب الهلالية أخت ميمونة زوج النبي صَلى
اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ.
ولد بمكة في شعب بني هاشم قبل الهجرة بثلاث سنين، وَدَعَا لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «اللَّهمّ فقهه في
الدين وعلمه الحكمة والتأويل» . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يدنيه ويحضره مع شيوخ الصحابة وأهل بدر ويقول
له: والله لأنك أصبح فتياننا وجها وأحسنهم عقلا، وأفقههم في كتاب الله
عز وجل. وكان يستشيره ويقول: غص غواص. وكان ابن مسعود يقول [2] : لو أن
ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد، وقال: نعم ترجمان القرآن ابن
عباس.
وقال جابر بن/ عبد الله حين مات ابن عباس: مات أعلم الناس، وأحكم
الناس.
وقال ابن الحنفية [3] : مات رباني هذه الأمة.
وقال مجاهد: كان ابن عباس يسمى البحر من كثرة علمه.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ، قَالَ: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ،
قَالَ: حَدَّثَنَا أبو حامد بن جبلة، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجُعْفِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَة
الثُّمَالِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَجْلِسًا لَوْ أَنَّ جَمِيعَ
قُرَيْشٍ فَخَرَتْ بِهِ لَكَانَ لَهَا فَخْرًا، رَأَيْتُ النَّاسَ قد
اجتمعوا حَتَّى ضَاقَ بِهِمُ الطَّرِيقُ، فَمَا كَانَ أَحَدٌ يقدر
[على] [4] أن يجيء
__________
[1] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 119، والبداية والنهاية 8/ 317، والتاريخ
الكبير 5/ 5، وتاريخ واسط 85، 86، 92، 99، 101، والاستيعاب 3/ 933،
وتاريخ بغداد 1/ 173، وأسد الغابة 3/ 192، وسير أعلام النبلاء 3/ 331.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 2/ 2/ 120.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 2/ 2/ 121.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/72)
وَلا أَنْ يَذْهَبَ، قَالَ: فَدَخَلْتُ
عَلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَكَانِهِمْ عَلَى بَابِهِ، فَقَالَ لِي:
ضَعْ [لِي] [1] وَضُوءًا. قَالَ: فَتَوَضَّأَ وَجَلَسَ وَقَالَ:
اخْرُجْ وَقُلْ لهم: من أراد أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقُرْآنِ
وَحُرُوفِهِ وَمَا أَرَادَ مِنْهُ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ
فَآذَنْتُهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى ملأ والبيت والحجرة وَحُرُوفِهِ وَمَا
أَرَادَ مِنْهُ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فآذنتهم فدخلوا حتى
ملئوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلا
أخبرهم بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ أَوْ أَكْثَرَ.
ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانُكُمْ، فَخَرَجُوا.
ثُمّ قَالَ: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ
وَتَأْوِيلِهِ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ:
فَخَرَجْتُ فَآذَنْتُهُمْ فدخلوا حتى ملئوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ،
فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أخبرهم بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا
سَأَلُوا عَنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانُكُمْ. قَالَ:
فَخَرَجُوا.
ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ
الْحَلالِ وَالْحَرَامِ وَالْفِقْهِ فَلْيَدْخُلْ، فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ
لهم. قال: فدخلوا حتى ملئوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ
عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوهُ.
ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانُكُمْ قَالَ: فَخَرَجُوا.
ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ
الْفَرَائِضِ وما أشبهها فليدخل. قال:
فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا
سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا
سَأَلُوهُ، ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانُكُمْ. قَالَ: فَخَرَجُوا.
ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ/ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ
الْعَرَبِيَّةِ والشعر وكلام العرب فليدخل. قال: فدخلوا حتى ملئوا
الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلا
أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ.
قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَلَوْ أَنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا فَخَرَتْ
بِذَلِكَ لَكَانَ فَخْرًا، فَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا لأَحَدٍ مِنَ
النَّاسِ.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ القادر بن محمد،
قال: أخبرنا الحسن بن علي التميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ
بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ، قَالَ: حدثني أبي، قال: حدثنا إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابْنَ
عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ رُسْتُمَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي مليكة، قال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/73)
صَحِبْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ مَكَّةَ
إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ قَامَ شَطْرَ اللَّيْلِ يرتل
ويكثر في ذلك التَّسْبِيحَ.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن أبي رجاء،
قال:
كان هذا الموضوع مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ- مَجْرَى الدُّمُوعِ- كَأَنَّهُ
الشَّرَكُ الْبَالِي.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَمِيرُ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْمُقْتَدِرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
الْيَشْكُرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ دُرَيْدٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ خَضِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ
عن سليمان بن عُمَرَ، عَنْ رِشْدِينَ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ:
ثَلاثَةٌ لا أُكَافِئُهُمْ: رَجُلٌ ضَاقَ مَجْلِسِي فَأَوْسَعَ لِي،
وَرَجُلٌ كُنْتُ ظَمْآنَ فَسَقَانِي، وَرَجُلٌ أَغْبَرَتْ قَدَمَاهُ
فِي الاخْتِلافِ إِلَى بَابِي، وَرَابِعٌ لا يَقْدِرُ عَلَى [1]
مكافئته وَلا يُكَافِئْهُ عَنِّي إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، رَجُلٌ
حَزَبَهُ أَمْرٌ فَبَاتَ لَيْلَتَهُ سَاهِرًا فَلَمَّا أَصْبَحَ لَمْ
يَجِدْ لِحَاجَتِهِ مُعْتَمَدًا غَيْرِي.
قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي لأَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ يَطَأُ
بِسَاطِي [2] ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ لا يَرَى عَلَيْهِ أثر مِنْ آثَارِ
بِرِّي.
توفي ابن عباس بالطائف سنة ثمان وستين، ويقال: خمس وستين، ويقال: أربع
وستين. والأول أصح.
وكان ابن إحدى وسبعين سنة [3] .
أخبرنا محمد بن عبد الباقي الحاجب، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال:
أخبرنا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحسن علي
بن محمد بن إبراهيم، قال: حدّثنا محمد بن سليمان/ البصري، قال: حدثنا
حفص بن عمر الرملي، قال: حدثنا الفرات [4] بن السائب، عن ميمون بن
مهران، قال:
__________
[1] في الأصل: «لا أقدر على» .
[2] في الأصل: «لأستحي أن يطأ الرجل بساطي» .
[3] «سنة» : ساقطة من ت.
[4] في الأصل: «الفزاز» خطأ، وما أوردناه من ت.
(6/74)
شهدت جنازة عبد الله بن عباس بالطائف، فلما
وضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى دخل في أكفانه، فالتمس فلم يوجد،
فلما سوي سمعنا صوتا ولم نر الشخص: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ [ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً
فَادْخُلِي في عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي] 89: 27- 30 [1] .
439- عدي بن حاتم الطائي، وأمه النوار بنت برمكة بن عكل، ويكنى أبا
طريف: [2]
أَخْبَرَنَا أَبُو بكر مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّازُ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ معروف، قال:
أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي عُمَيْرٍ الطَّائِيِّ، قَالَ:
كَانَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ يَقُولُ [3] :
مَا كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ أَشَدَّ كَرَاهِيَةً لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ مِنِّي، وَكُنْتُ امْرَأً
شَرِيفًا قَدْ سُدْتَ قَوْمِي، فَقُلْتُ: إِنِ اتَّبَعْتُهُ كُنْتُ
دَنِيًّا. وَكُنْتُ نَصْرَانِيًّا، فَقُلْتُ لِغُلامٍ لِي: أَعِدَّ لِي
مِنْ إِبِلِي أَجْمَالا ذُلَلا [4] سِمَانًا أَحْبِسُهَا قَرِيبًا
مِنِّي، فَإِذَا سَمِعْتَ بِجَيْشِ مُحَمَّدٍ قَدْ وَطِئَ هَذِهِ
الْبِلادِ فَآذِنِّي فَإِنِّي أَرَى خَيْلَهُ قَدْ وَطِئَتْ بِلادَ
الْعَرَبِ كُلَّهَا. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ غَدَاةٍ جَاءَنِي غُلامِي
[5] فَقَالَ: مَا كُنْتَ صَانِعًا إِذَا غَشِيَتْكَ خَيْلُ مُحَمَّدٍ
فَاصْنَعْهُ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَايَاتٍ فَسَأَلْتُ عَنْهَا
فَقِيلَ: هَذِهِ جُيُوشُ مُحَمَّدٍ. قُلْتُ: قَرِّبْ لِي أَجْمَالِي،
فَقَرَّبَهَا فَاحْتَمَلْتُ بِأَهْلِي وَوَلَدِي، ثُمَّ قُلْتُ:
أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي مِنَ النَّصَارَى بِالشَّامِ، وَخَلَّفْتُ
ابْنَةَ حَاتِمٍ [6] بِالْحَاضِرِ [7] .
__________
[1] سورة: الفجر، الآية: 28. وما بين المعقوفتين من ت.
[2] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 6، وتاريخ الطبري 1/ 189، والإصابة 5477.
[3] الخبر غير موجود في ابن سعد، وهو في سيرة ابن هشام 2/ 578.
[4] ذللا، جمع ذلول: وهو الجمل السهل الّذي قد ريض.
[5] في ت: «جاءني غلام» .
[6] ابنة حاتم هذه سفانة، كما رجحه السهيليّ، إذ لا يعرف له بنت غيرها.
[7] الحاضر: الحي.
(6/75)
وَتَخَالَفَتْنِي [1] خَيْلُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَنُّوا الْغَارَةَ
عَلَى مَحِلَّةِ آلِ حَاتِمٍ، فَأَصَابُوا نِسَاءً وَأَطْفَالا وَشَاءً
وَابْنَةَ حَاتِمٍ، فَقُدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ. وَقَدْ بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَرَبِي، فَجُعِلَتِ ابْنَةُ حَاتِمٍ فِي حَظِيرَةٍ
بِبَابِ الْمَسْجِدِ- كَانَتِ النِّسَاءُ يُحْبَسْنَ فِيهَا- فَمَرَّ
بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَامَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَتِ
امْرَأَةً جَمِيلَةً جَزِلَةً، / فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
مَاتَ الْوَلَدُ وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْكَ، قَالَ: فَإِنِّي فَعَلْتُ فَلا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى
تَجِدِي مِنْ قَوْمِكِ مَنْ يَكُونُ لَكِ ثِقَةٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ
الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْكَ [2] ، قَالَ: وَمَنْ وَافِدُكِ؟ قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ
حَاتِمٍ، قَالَ: الْفَارُّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ
مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَنِي
حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ مَرَّ بِي فَقُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ
وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بعد الغد مرّ بي وقد يئست،
فلم أقل شيئا، فأشار إلى رَجُلٌ خَلْفَهُ أَنْ قُومِي فَكَلِّمِيهِ،
فَقُمْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ
الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، قَالَ: فَإِنِّي
قَدْ فَعَلْتُ فَلا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكِ
مَنْ يَكُونُ لَكِ ثِقَةً حَتَّى يَبْلُغَكِ إِلَى بِلادِكِ، ثُمَّ
آذِنِينِي.
قَالَتْ: فَسَأَلْتُ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيَّ أَنْ
أُكَلِّمَهُ، فَقِيلُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَأَقَمْتُ حتى
قدم رَكِبَ مِنْ قُضَاعَةَ. قَالَتْ: وَإِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَ
أَخِي بِالشَّامِ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: قَدْ جَاءَ مِنْ قَوْمِي مَنْ لِي ثِقَةٌ
وَبَلاغٌ، فَكَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ
وَحَمَلَنِي وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، وَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى
قَدِمْتُ الشَّامَ. قَالَ عدي: فو الله إِنِّي لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي
إِذْ نَظَرْتُ إِلَى ظَعِينَةٍ [3] تُصَوِّبُ إِلَيَّ تَؤُمُّنَا [4] .
قُلْتُ: ابْنَةُ حَاتِمٍ، فَإِذَا هِيَ هِيَ، فَلَمَّا قَدِمَتْ
عَلَيَّ انْسَحَلَتْ [5] تَقُولُ: الْقَاطِعُ الظَّالِمُ، احْتَمْلَتْ
أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ. وَتَرَكْتَ بَقِيَّةَ وَالِدِكَ، قُلْتَ: يَا
أُخَيَّةُ لا تَقُولِي إلا خيرا، فقلت:
__________
[1] في ت، وابن هشام: «وتحالفني» .
[2] «قال: فإنّي فعلت فلا تعجلي ... من الله عليك» : العبارة ساقطة من
ت.
[3] الظعينة: المرأة في هودجها، وقد تسمى ظعينة، وإن لم تكن فيه.
[4] تقصد وتؤم.
[5] في الأصل: «قدمت علي جعلت تقول» وما أوردناه من ت، وابن هشام،
وانسحلت: أخذت في اللوم ومضت فيه مجدة.
(6/76)
وَاللَّهِ مَا لِيَ مِنْ عُذْرٍ قَدْ
صَنَعْتُ مَا ذَكَرْتِ، ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَقَامَتْ عِنْدِي، فَقُلْتُ:
مَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ، وَكَانَتْ حَازِمَةً-
وَكَانَتِ امْرَأَةً حَازِمَةً- فَقَالَتْ: أَرَى وَاللَّهِ أَنْ
تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعًا، فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ نَبِيًّا فَالسَّبْقُ
إِلَيْهِ أَفْضَلُ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا فَلَنْ تُذَلَّ فِي عِزِّ
الْيَمَنِ، وَأَنْتَ أَنْتَ، وأبوك أبوك، مع إِنِّي قَدْ نُبِّئْتُ
أَنَّ عِلْيَةَ أَصْحَابِهِ قَوْمُكَ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ.
فَخَرَجْتُ حَتَّى أُقْدِمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيه وَسَلَّمَ، فَدَخَلْتُ وَهُوَ/ فِي مَسْجِدِهِ، فَسَلَّمْتُ
[عَلَيْهِ] [1] ، فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: عَدِيُّ بْنُ
حَاتِمٍ، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى بيته، فو الله إِنَّهُ لَعَامِدٌ بِي
إِلَى بَيْتِهِ إِذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ
فَاسْتَوْقَفَتْهُ فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلا تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا،
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ، إِنَّ لِلْمَلِكِ
حَالا غَيْرَ هَذَا. ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ
تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةٍ لِيفًا، فَقَدَّمَهَا
إِلَيَّ [2] ، فَقَالَ: «اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ» فَقُلْتُ: لا بَلْ
أَنْتَ. فَجَلَسَ عَلَيْهَا فَرَأَى فِي عُنُقِي وثنا من ذَهَبَ،
فَتَلَا هَذِهِ الآيَةَ:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ
9: 31 [3] ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ،
فَقَالَ: «أَلَيْسَ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا
اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ»
قُلْتُ:
بَلَى، قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» . وَقَالَ: «إِيهِ يَا
عَدِيُّ، أَلَمْ تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِكَ بِالْمِرْبَاعِ فِي مَالٍ
فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ» ، قُلْتُ:
أَجَلْ والله. فعرفت أنه نبي مرسل. ثم قَالَ: لَعَلَّكَ يَا عَدِيُّ
إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الدُّخُولِ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى
مِنْ حاجتهم، فو الله لَيَوشَكَنَّ [هَذَا] الْمَالُ [أَنْ] [4]
يَفِيضَ فِيهِمْ حَتَّى لا يُوجَدُ مَنْ يَأْخُذُهُ، وَلَعَلَّكَ
إِنَّمَا يَمْنَعُكَ ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فو الله
لَيُوشَكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنَ
الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرٍ حَتَّى تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ، لا
تَخَافُ، وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الدُّخُولِ أَنَّ
الْمَلِكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَايْمُ اللَّهِ
لَيُوشَكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ
قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ» . قَالَ عَدِيٌّ: فَأَسْلَمْتُ. وَكانَ عدي
يقول: قَدْ مَضَتِ اثْنَتَانِ وَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ: ليقض الْمَال.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ت.
[2] في ابن هشام: «فقذفها إليّ» .
[3] سورة: التوبة، الآية: 31.
[4] في الأصول: «فو الله ليوشكن المال يفيض» . وما بين المعقوفتين من
ابن هشام.
(6/77)
قال علماء السير: لما قدم عدي على رسول
الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ أسلم وحسن إسلامه ورجع إلى بلاد
قومه، فلما قبض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وارتدت العرب ثبت عدي وقومه على الإسلام، وجاء بصدقاتهم إلى أبي بكر،
وحضر فتح المدائن، وشهد مع علي الجمل وصفين والنهروان. وكان جوادا يفت
للنمل الخبز ويقول: إنهن جارات.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ/ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أخبرنا
أَحْمَدُ بْنُ على بْن ثابت، قَالَ:
حَدَّثَنَا محمد بن الحسين بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يَحْيَى الآدَمِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ [1] :
أَنَّهُ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي أُنَاسٍ مِنْ طيِّئ- أَوْ
قَالَ مِنْ قَوْمِهِ- فَجَعَلَ يَفْرِضُ لِرِجَالٍ مِنْ طيِّئ فِي
ألفين أَلْفَيْنِ، فَاسْتَقْبَلْتُهُ فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَقُلْتُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ إِنِّي
وَاللَّهِ أعرفك، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذا أَدْبَرُوا، وَوَفَيْتَ
إِذْ غَدَرُوا، وَإِنَّ أَوَّلَ صَدَقَةٍ بيضت وجه رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوهَ أَصْحَابِهِ صَدَقَةُ طيِّئ،
جِئْتَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ.
أَنْبَأَنَا عبد الوهاب الحافظ، قَالَ: أخبرنا أبو الحسين بْنُ عَبْدِ
الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ علي
الطَّنَاجِيرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شَاهِينَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ:
أَرْسَلُ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ إِلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ
يَسْتَعِيرُ مِنْهُ قُدُورَ حَاتِمٍ، فَأَمَرَ بِهَا عَدِيٌّ
فَمُلِئَتْ وَحَمَلَهَا الرِّجَالُ إِلَى الأَشْعَثِ، فَأَرْسَلَ
الأَشْعَثُ: إِنَّمَا أَرَدْنَاهَا فَارِغَةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ:
إِنَّا لا نُعِيرُهَا فَارِغَةً.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ، قال أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا
ابن بشران، قال:
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 190.
(6/78)
أخبرنا ابن صَفْوان، [قَالَ: أخبرنا] [1]
ابن أبي الدنيا، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال [2] :
مَاتَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ.
وقد قال هشام بن الكلبي: مات سنة تسع وستين، وهو ابن مائة وعشرين سنة.
واختلفوا أين مات على قولين: أحدهما بالكوفة. قاله ابن خياط. والثاني
بقرقيسياء.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الرَّزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبراهيم الشافعي، قال: أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَزَّازُ [3] ، قَالَ: / حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ [4] ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ
عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ [5] :
خَرَجَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
وَحَنْظَلَةُ الْكَاتِبُ مِنَ الْكُوفَةِ، فَنَزَلُوا قِرْقِيسِيَا
وَقَالُوا: لا نُقِيمُ بِبَلَدٍ يُشْتَمُ فِيهِ عُثْمَانُ [6] .
قال ابن ثابت: قال لي محمد بن علي الصوري: أنا رأيت قبورهم بقرقيسياء.
440- عابس بن سعيد القطيفي قاضي مصر [7] :
ولي القضاء والشرطة لمسلمة بن مخلد، روى عنه أبو قتيل المغافري.
وتوفي في هذه السنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 190، ولفظه: «عدي بن حاتم أحد بني ثعل،
مات في زمن المختار سنة ثمان وستين» .
[3] كذا في الأصول، وفي تاريخ بغداد: «البراء» .
[4] في الأصل وفي ت: «المدبر» . وما أوردناه من تاريخ بغداد.
[5] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 191.
[6] كذا في الأصول، وفي تاريخ بغداد، وفي كتب التراجم الأخر: «يشتم فيه
علي» .
[7] الأنساب للسمعاني 10/ 206، وفتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم 233:
235.
(6/79)
441- قيس بن ذريح بن الحباب بن شبه بن
حذافة [1] :
كان رضيع الحسين [2] بن علي بن أبي طالب، أرضعته أم قيس، وكان منزل
قومه [في] [3] ظاهر المدينة، وكان هو وأبوه من حاضرة المدينة.
وقيل [4] : كان منزله بسرف.
فمر قيس ببعض حاجته بخيام بني كعب من خزاعة والحي خلوف [5] ، فوقف على
خيمة للنّبيّ بنت الحباب الكعبية، فاستسقى الماء، فخرجت إليه فسقته،
وكانت امرأة مديدة القامة، شهلة [6] حلوة المنظر والكلام، فلما رآها
وقعت في نفسه وشرب الماء، فقالت له: انزل فتبرد عندنا، فنزل [بهم] [7]
، وجاء أبوها فنحر له وأكرمه. فانصرف قيس وفي نفسه [8] من لبني حرّ لا
يطفأ، فجعل يقول الشعر [9] فيها حتى شاع وروي.
ثم أتاها يوما آخر وقد اشتد وجده بها، فسلم فظهرت له وردت سلامه ولحقت
به، فشكى إليها ما يجد من حبها، فبكت وشكت إليه مثل ذلك، وعرف كل واحد
منهما ما له عند صاحبه، فانصرف إلى أبيه وأعلمه [10] حاله وسأله أن
يزوجه إياها، فأبى عليه، وقال: يا بني عليك بإحدى بنات عمك فهن أحق بك،
وكان ذريح كثير المال موسرا،
__________
[1] الأغاني 9/ 210 (دار الكتب العلمية) ، وفوات الوفيات 2/ 134،
والنجوم الزاهرة 1/ 182، وسمط اللآلئ 710، والشعر والشعراء 239، وتزين
الأسواق 1/ 53، وعصر المأمون 2/ 152، ورغبة الآمل 5/ 242.
[2] في الأصل: «الحسين» . وما أوردناه من ت، والأغاني، وهو يوافق ما في
المراجع. وستتكرر في الأصل «حسين» في جميع أخباره.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول.
[4] هذا القول نسبه في الأغاني 9/ 12، لخالد بن كلثوم.
[5] الحي خلوف: أي غيّب. والخلوف الحيّ: إذا خرج الرجال وبقي النساء.
[6] الشهلاء: التي يخالط سواد عينيها زرقة.
[7] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[8] في الأغاني: «في قلبه» .
[9] في الأغاني: «ينطق بالشعر» .
[10] في الأصول: «فأعلمه» .
(6/80)
فأحب ألا يزوج [1] ابنه إلى غريبة [2] ،
فانصرف قيس وقد ساءه ما خاطبه به أبوه، فأتى أمه فشكى إليها واستعان
بها على أبيه، فلم يجد/ عندها ما يحب. فأتى الحسين [3] بن علي رضي الله
عنهما وابن أبي عتيق، وكان صديقه، فشكى إليهما ما به وما رد عليه
أبواه، فقال له الحسين [3] : أنا أكفيك، فمشى معه إلى أبي لبنى، فلما
بصر به أعظمه ووثب إليه وقال: يا ابن رسول الله، ما حاجتك [4] ؟ قال:
إن الذي جئت فيه يوجب قصدك، قد جئتك خاطبا ابنتك لبنى لقيس بن ذريح،
فقال: يا ابن رسول الله، ما كنا لنعصي لك أمرا، وما بنا عن الفتى رغبة،
ولكن أحب الأمرين إلينا أن يخطبها ذريح أبوه عليه، وأن يكون ذلك عن
أمره، فإنا نخاف إن لم يسمح أبوه [5] في هذا أن يكون عارا علينا [6] ،
فأتى الحسين [7] ذريحا [8] وقومه مجتمعون، فقاموا إليه إعظاما وقالوا
له مثل الخزاعيين، فقال لذريح: أقسمت عليك إلا ما خطبت لبنى على قيس،
فقال: السمع والطاعة لأمرك، فخرج معه في وجوه قومه حتى أتوا حي لبني،
فخطبها ذريح على ابنه إلى أبيها، فزوجه إياها، وزفت عليه، فأقام معها
مدة، وكان أبر الناس بأمه [9] ، فألهته لبنى وعكوفه عليها عن بعض ذلك،
فوجدت أمه وأخذت في نفسها، وقالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن بري.
ومرض قيس، فقالت أمه لأبيه: لقد خشيت أن يموت ولم يترك خلفا وقد حرم
الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال فيصير مالك إلى الكلالة، فزوجه غيرها
لعل الله أن يرزقه ولدا، وألحت عليه في ذلك، فلما اجتمع قومه دعاه
فقال: يا قيس، إنك اعتللت
__________
[1] في الأغاني: «ألا يخرج ابنه» .
[2] في الأصل: «غريب» .
[3] في الأصل: «الحسن» . خطأ.
[4] في الأغاني: «ما جاء بك» .
[5] في الأغاني: «لم يسع أبوه» .
[6] في الأغاني: «عارا وسبة» .
[7] في الأصل: «الحسين» .
[8] في الأصل: «ذريحا وأبوه» . وحذفنا «أبوه» ، لأن المقصود أبو قيس.
[9] في الأصل: «أبيه» .
(6/81)
فخفت عليك [ولا] [1] ولد لي سواك، وهذه
المرأة ليست بولود فتزوج إحدى بنات عمك لعل الله أن يرزقك ولدا تقر به
عينك وأعيننا، فقال قيس: لست متزوجا غيرها أبدا، قال أبوه، فتسر
بالإماء، قال: ولا أسوءها بشيء والله أبدا، قال أبوه: فإني أقسم عليك
إلا طلقتها، فأبى وقال: الموت عندي والله أسهل من ذلك، ولكني أخيرك
خصلة من [ثلاث] [2] خصال، قال: وما هي؟ قال: تتزوج/ أنت فلعل الله أن
يرزقك ولدا غيري، قال: ما في فضلة لذلك، قال: فدعني أترحل عنك بأهلي
واصنع ما كنت صانعا لو مت في علتي هذه، قال: ولا هذه، قال: فأدع لبنى
عندك وارتحل عنك فلعلي أسلوها فإني ما أحب [3] بعد أن تكون نفسي طيبة
فإنها في خيالي، قال: لا أرضى أو تطلقها، وحلف لا يكنه سقف أبدا حتى
يطلق لبنى. وكان يخرج فيقف في حر الشمس، فيجيء قيس فيقف إلى جانبه
فيظله بردائه ويصطلي هو بحر الشمس ثم يدخل إلى لبنى فيعانقها ويبكي
وتبكي هي معه، وتقول له: يا قيس، لا تطع أباك فتهلك وتهلكني، فيقول: ما
كنت لأطيع فيك أحدا أبدا.
فيقال: إنه مكث لذلك سنة، وقيل: عشرين سنة، وهجره أبواه لا يكلمانه،
فطلقها، فلما طلقها استطير عقله، ولحقه مثل الجنون، وجعل يبكي، فبلغها
الخبر فأرسلت إلى أبيها ليحتملها، فأقبل أبوها بهودج وإبل، فقال قيس:
ما هذا؟ فقالوا: لبنى ترحل الليلة أو غدا، فسقط مغشيا عليه ثم أفاق،
وجعل يقول [4] :
وإني لمفن دمع عيني بالبكا ... حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غدا أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفيك إلا أن ما حان حائن
وقال:
يقولون لبنى فتنة كنت قبلها ... بخير فلا تندم عليها وطلّق
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناها من الأغاني.
[3] في ت: «فآتي ما تحب» .
[4] الأبيات في الأغاني 9/ 216.
(6/82)
فطاوعت أعدائي وعاصيت ناصحي ... وأقررت عين
الشامت المتخلق
وددت وبيت الله أني عصيتهم ... وحملت في رضوانها كل موثق
وكلفت خوض البحر والبحر زاخر ... أبيت على أثباج موج مغرق
كأني أرى الناس المحبين بعدها ... عصارة ماء الحنظل المتفلق [1]
/ فتنكر عيني بعدها كل منظر ... ويكره سمعي بعدها كل منطق
وسقط غراب قريبا منه فجعل ينعق مرارا، فتطير منه وقال:
لقد نعق [2] الغراب ببين لبنى ... فطار القلب من حذر الغراب
وقال غدا تباعد دار لبنى ... وتنأى بعد ود واقتراب
فقلت تعست ويحك من غراب ... وكان الدهر سعيك في تباب
فلما ركبت هودجها تبعها وقال:
ألا يا غراب البيت هل أنت مخبري ... بخير كما خبرت بالنأى والشر
وقلت كذاك الدهر ما زال فاجعا ... صدقت وهل شيء بباق على الدهر
ثم علم أنهم يمنعونه منها، فوقف ينظر إليهم حتى غابوا، فكر راجعا ينظر
إلى [أثر] [3] خف بعيرها يقبله ويقبل موضع مجلسها وأثر قدمها فعنفوه
[4] على تقبيل التراب، فقال:
وما أحببت أرضكم ولكن ... أقبل إثر من وطئ الترابا
لقد لاقيت من كلفي بلبنى ... بلاء [5] ما أسيغ له شرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى ... عييت فما أطيق له جوابا
وقال له بعض الأطباء: منذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت؟ فقال:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنّا نطافا وفي المهد
__________
[1] في ت: «المتعلق» .
[2] في الأغاني: «لقد نادى» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الأغاني 9/ 217.
[4] في ت: «فعزموه» .
[5] في ت: «ثلاثة» . خطأ.
(6/83)
فزاد كما زدنا فأصبح ناميا ... وليس إذا
متنا بمنصرم [1] العهد
ولكنه باق على كل حادث ... وزائرنا في ظلمة القبر واللحد
فقال له الطبيب: إن مما يسليك عنها أن تذكر مساوئها وما تعافه النفس
منها من أقذار بني آدم، فقال:
إذا عبتها شبهتها البدر طالعا ... وحسبك من عيب لها شبه البدر
لقد فضلت لبنى على الناس مثلما ... على ألف شهر فضلت ليلة القدر
إذا ما مشت شبرا من الأرض أرجفت ... من البهر حتى ما تزيد على شبر
لها كفل يرتج منها إذا مشت ... وقد كغصن البان منضمر [2] الخصر
فدخل أبوه والطبيب عنده، فجعل يعاتبه ويقول: يا بني الله الله في نفسك،
فإنك إن دمت على هذا مت.
فقال:
وفي عروة العذري إن مت أسوة ... وعمرو بن عجلان الذي قتلت هند
وبي مثل ما ماتا به غير أنني ... إلى أجل لم يأتني وقته بعد
وقال:
هل الحب إلا عبرة بعد زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع تستهل إذا بدا ... لنا علم من أرضكم لم يكن يبدو
قال: فلما طال على قيس ما به أشار قومه على أبيه أن يزوجه امرأة جميلة
لعله يسلوبها، فدعاه إلى ذلك فأبى، فأعلمهم أبوه بما رد عليه، فقالوا
له: مره بالمسير في أحياء العرب والنزول عليهم لعله يبصر امرأة تعجبه،
فأقسم عليه أن يفعل، فسار حتى نزل بحي فرأى جارية كالبدر، فقال: ما
اسمك يا جارية؟ فقالت: لبنى، فسقط على وجهه فارتاعت، وقالت: إن لم يكن
هذا قيس بن ذريح، إنه لمجنون، فلما أفاق سألته أن يصيب من طعامهم، فأكل
وارتحل، فأتى أخوها فرأى مناخ الناقة فلحقه فرده، فلم
__________
[1] في الأصول: «وليس وإن متنا بمنقصم» .
[2] في ت والأغاني «مفطمر» .
(6/84)
يزل به حتى زوجه من أخته، فلما زفت إليه لم
يلتفت إليها، وبلغ حديثه لبني، فقالت:
إنه لغدار ولقد كنت أمتنع من التزويج فالآن أتزوج، فزوجت، فاشتد جزعه.
وإن أبا لبنى شخص إلى معاوية فشكى إليه، وإنه يتعرض للبنى بعد الطلاق،
فكتب/ إليه بإهدار دمه، فبعثت لبنى إليه تحذره، فقال:
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها ... مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ... ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري [1]
إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى ... ومن حرق [2] تعتادني وزفير
ومن حرق للحب في باطن الحشى ... وليل طويل الحزن غير قصير
وكنا جميعا قبل أن يظهر الهوى ... بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لهم [3] ... بطون الهوى مقلوبة لظهور
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور
ثم حج بعد ذلك وحجت، فلقيها فوقف باهتا، وبعثت إليه بالسلام. ثم إنه
اقتطع قطعة من إبله وأعلم أباه أنه يريد بها المدينة ليبيعها ويمتار
لأهله بثمنها، فعرف أبوه [أنه] [4] إنما يريد لبنى، فعاتبه فلم يقبل،
وقدم المدينة، فبينا هو يعرضها [إذ] [4] ساومه زوج لبنى بناقة منها
وهما لا يتعارفان، فباعه إياها، فقال: إذا كان في غد فاتني في دار كثير
بن الصلت فاقبض الثمن، فمضى، وقال زوج لبنى لها: إني ابتعت ناقة من رجل
بدوي وهو يأتينا غدا ليقبض الثمن، فأعدي له طعاما. ففعلت، فلما كان من
الغد جاء فصوت بالخادم وقال: قولي لسيدك: صاحب الناقة بالباب، فعرفت
لبنى نغمته فلم تقل شيئا، فقال زوجها للخادم: قولي له يدخل، فدخل فجلس،
فقالت لبنى للخادم:
قولي له: مالك أشعث أغبر، فقالت له، فتنفس وقال: هكذا تكون حال من فارق
الأحبة، وبكى. فقالت لبنى: قولي له: حدثنا حديثك، فلما ابتدأ يحدث كشفت
__________
[1] في الأصل: «ضمير» ، وما أوردناه من ت، والأغاني 9/ 233.
[2] في الأصول: «ومن كرب يعتادني» ، وما أوردناه من الأغاني.
[3] في الأصول: «حتى بدت لنا» . وما أوردناه من الأغاني.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الأغاني 9/ 237.
(6/85)
الحجاب، فبهت لا يتكلم ثم بكى ونهض يخرج،
فناداه زوجها: ما قصتك؟ ارجع فاقبض الثمن، فلم يكلمه وخرج، فقالت لبنى
لزوجها: هذا والله قيس.
وقال في طريقه فيها:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا [1] أنت أقدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت ... فللدهر والدنيا بطون وأظهر [2]
لقد كان فيها للأمانة موضع ... وللكف مرتاد وللعين منظر
كأني لها أرجوحة بين أحبل [3] ... إذا ذكرة منها على القلب تخطر
ثم عاد إلى منزله فمرض مرضا أشفى منه، فدخل عليه أبوه وأهله فعاتبوه،
فقال:
ويحكم، أتروني أمرضت نفسي أو وجدت لها سلوة فاخترت البلاء، أو لي في
ذلك صنع، هذا ما اختاره لي أبواي فقتلاني به، فجعل أبوه يبكي ويدعو له
بالفرج، ودست إليه لبنى رجلا فقالت له: قل له: لم تزوجت بعدها؟ فجاء
يسأله، فحلف له أن عينه ما اكتحلت بالمرأة التي تزوجها، وأنه لو رآها
في نسوة ما عرفها، وأنه ما مد إليها يدا، ولا كشف لها عن ثوب، قال:
فحملني إليها ما شئت، فقال:
ألا حي لبنى اليوم إن كنت غاديا ... وألمم بها من قبل أن لا تلاقيا
وقل إنني والراقصات إلى منى ... بأجبل جمع ينظرون المناديا
أصونك عن بعض الأمور مظنة ... وأخشى عليك الكاشحين الأعاديا
أقول إذا نفسي من الوجد أصعدت ... بها زفرة تعتادني هي ما هيا
وبين الحشى والنحر مني حرارة ... ولوعة وجد تترك القلب ساهيا
ألا ليت لبنى لم تكن خلة لنا [4] ... ولم ترني لبنى ولم أدر ما هيا
خليلي ما لي قد بليت ولا أرى ... لبينى على الهجران إلا كما هيا
جزعت [5] عليها لو أرى لي مجزعا ... وأفنيت دمع العين لو كان فانيا
__________
[1] في ت: «عليها بالمد» .
[2] في الأغاني: «تقلبت عليّ فللدنيا بطون وأظهر» .
[3] في الأصول: «كأني في أرجوحة» .
[4] في الأغاني: «لم تكن لي خلة» .
[5] في الأصل: «وعبت» . وما أوردناه من ت والأغاني.
(6/86)
تمر الليالي والشهور ولا أرى ... ولوعي بها
يزداد إلا تماديا
واشتهر أمر قيس بالمدينة، وغنى بشعره الغريض ومالك ومعبد وغيرهم، / ولم
يبق شريف ولا وضيع إلا سمع بذلك وحزن له، وجاء زوج لبنى فعاتبها فقال:
فضحني بذكرك، فقالت: والله ما تزوجتك إلا بعد أن أهدر دمه، ولا حاجة لي
فيك. وكان بالمدينة دار ضيافة لرجل من قريش وله زوجة يقال لها بريكة،
فدخل الدار قيس في جنونه، فقال: أين بريكة؟ فلقيها، فقال لها: حاجتي
نظرة إلى لبنى، فقالت: لك ذلك، فنزل فأقام عندهم وأهدى لها هدايا
كثيرة، وقال لاطفيهم حتى يأنسوا بك، ففعلت وزارتهم مرارا وقالت لزوج
لبنى: أخبرني أنت خير من زوجي، قال: لا، قالت: فلبنى خير مني، قال: لا،
قالت: فما لي أزورها ولا تزورني، قال: ذاك إليها، فأتتها وسألتها
الزيارة، وأعلمتها أن قيسا عندها فأسرعت إليها فبكيا حتى كادا يتلفان،
ثم قالت له:
أنشدني ما قلت في علتك، فقال:
أعالج من نفسي بقايا حشاشة ... على ظمأ [1] والعائدات تعود
فإن ذكرت لبنى هششت لذكرها ... كما هش للثدي الدرور وليد
ورحل قيس إلى معاوية، فدخل على ابنه يزيد فامتدحه وشكى ما به، فقال: إن
شئت أن أحتم على زوجها أن يطلقها، قال: لا بل أحب أن أقيم حيث تقيم
وأعرف أخبارها من غير أن يهدر دمي، فأجابه، وغير ما كان كتب في إهدار
دمه.
وقد اختلفوا في آخر أمر قيس [2] . فروى قوم أن لبنى ماتت فخرج قيس في
جماعة من قومه، فوقف على قبرها، فقال:
ماتت لبينى فموتها موتي ... هل تنفعن حسرتي على الفوت
وسوف أبكي بكاء مكتئب ... قضى حياة وجدا على ميت
ثم أكب على القبر يبكي حتى أغمي عليه، فرفعه أهله إلى منزله وهو لا
يعقل، فلم يزل عليلا لا يفيق ولا يجيب مكلما ثلاثا، ثم مات فدفن إلى
جنبها.
__________
[1] في الأغاني: «على رمق» .
[2] الأغاني 9/ 251.
(6/87)
وروى/ محمد بن عبد الباقي بإسناده عن أيوب
بن عباية، قال: خرج قيس بن ذريح إلى المدينة يبيع ناقة له، فاشتراها
زوج لبنى وهو لا يعرفه، فقال له: انطلق معي اعطك الثمن، فمضى معه، فلما
فتح الباب إذا لبنى قد استقبلت قيسا، فلما رآها ولى هاربا، وخرج الرجل
في أثره بالثمن ليدفعه إليه، فقال له قيس: لا تركب لي مطيتين أبدا،
فقال: وأنت قيس بن ذريح؟ قال: نعم، فقال له: هذه لبنى قد رأيتها قف حتى
أخيرها فإن اختارتك طلقتها، وظن القرشي أن في قلبها له موضعا وأنها لا
تفعل، قال له قيس: افعل. فدخل القرشي عليها فاختارت قيسا فطلقها، وأقام
قيس ينتظر انقضاء العدة ليتزوجها فماتت في العدة.
وروى آخرون أن ابن أبي عتيق جاء إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما وابن
جعفر وجماعة من قريش، فقال: إن لي حاجة إلى رجل وأخشى أن يردني، وإني
أستعين بجاهكم، فمضى بهم إلى زوج لبنى، فلما رآهم أعظم مصيرهم إليه،
فقالوا:
جئنا لحاجة لابن أبي عتيق، فقال: هي مقضية ما كانت، قال ابن أبي عتيق:
فهب لي ولهم زوجتك لبنى وتطلقها، قال: فأشهدكم أنها طالق ثلاثا،
فاستحيا القوم وقالوا: والله ما عرفنا أن حاجته هذه، وعوضه الحَسَن رضي
الله عنه عن ذلك مائة ألف درهم، وحملها ابن أبي عتيق إليه، فلما انقضت
العدة سأل القوم أباها فزوجها منه، فلم تزل معه حتى ماتا.
وقال قيس يمدح ابن أبي عتيق:
جزى الرحمن أفضل ما يجازي ... على الإحسان خيرا من صديق
فقد جربت إخواني جميعا ... فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي حدت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بقلبي ... أغصتني حرارتها بريقي
(6/88)
ثم دخلت سنة تسع
وستين
فمن الحوادث فيها/ خروج عبد الملك بن مروان
إلى عين وردة [1]
قال الواقدي [2] : واستخلف عمرو بن سعيد بن العاص على دمشق فتحصن بها،
فبلغ ذلك عبد الملك، فرجع إلى دمشق فحاصره.
وقال غيره [3] : خرج معه إلى بعض الطريق ثم رجع إلى دمشق فتحصن بها.
قال عوانة بن الحكم [4] : خرج عبد الملك من دمشق يريد قرقيسياء، وفيها
زفر بن الحارث الكلابي حتى إذا كان في بعض الطريق رجع عمرو بن سعيد عنه
ليلا ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلابي حتى أتى دمشق وعليها عبد
الرحمن بن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك، فلما بلغه رجوع عمرو
هرب وترك عمله، فدخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنها.
وقال آخرون: كانت هذه القصة [5] في سنة سبعين، وذلك حين سار عبد الملك
إلى مصعب نحو العراق، فقال له عمرو بن سعيد [6] : إنك تخرج إلى العراق
وقد كان
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 140.
[2] المرجع السابق والصفحة.
[3] المرجع السابق والصفحة.
[4] المرجع السابق والصفحة.
[5] في الأصل: «هذه القضية» . وما أوردناه من ت.
[6] تاريخ الطبري 6/ 140.
(6/89)
أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى ذلك
جاهدت معه، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك فلم يجبه، فانصرف راجعا إلى
دمشق فرجع عبد الملك في أثره حتى انتهى إلى دمشق.
قالوا: لما غلب عمرو على دمشق طلب عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يصبه،
فأمر بداره فهدمت، وصعد المنبر، وقال: لكم علي حسن المؤاساة والعطية.
ثم نزل، ولما أصبح عبد الملك فقد عمرو، فسأل عنه فأخبر خبره، فرجع عبد
الملك إلى دمشق فاقتتلوا، ثم إن عبد الملك وعمرا اصطلحا وكتبا بينهما
كتابا وأمنه عبد الملك، وذلك عشية الخميس، ثم أنه بعث إليه فأتاه في
مائة رجل من مواليه، وأمر بحبس من معه وأذن له، فدخل فرأى بني مروان
عنده، فأحس بالشر، وأمر عبد الملك بالأبواب فغلقت، فلما دخل عمرو رحب
به عبد الملك وقال: ها هنا يا أبا أمية، وأجلسه معه على السرير، وجعل
يحدثه طويلا، ثم قال يا غلام، خذ السيف عنه، فقال عمرو:
إنا للَّه يا أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: أو تطمع أن تجلس معي
متقلدا سيفك، فأخذ السيف عنه، ثم تحدثا ما شاء/ الله، ثم قال: يا أبا
أمية، قال: لبيك، قال: إنك حيث خلعتني [1] آليت إذا أنا ملأت عيني منك
وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة، فقال بنو مروان [2] : ثم تطلقه يا
أمير المؤمنين، قال:
ثم أطلقه [3] ، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية، فقال بنو مروان: أبر قسم
أمير المؤمنين، فقال عمرو: وأبر قسمك يا أمير المؤمنين. فأخرج من تحت
فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام قم فاجمعه فيها، فقام الغلام
فجمعه فيها، فقال عمرو:
أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رءوس الناس، فقال عبد
الملك: ما كنا لنخرجك في جامعة على رءوس الناس، ثم اجتبذه اجتباذة أصاب
فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن
يدعوك كسر عظم مني إلى أن تركب ما هو أعظم من ذلك، فقال: والله لو أعلم
أنك تبقي علي إن أبقي عليك [4]
__________
[1] في ت: «حيث خالفتني» .
[2] في ت: «فقال بنو مروان» .
[3] في الأصل: «ثم نطلقه» وما أوردناه من ت.
[4] في ت والأصل: «تبقى على أن تفي لي» وما أوردناه من الطبري.
(6/90)
أو تصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان
قط في بلدة على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه.
فلما عرف عمرو ما يريد به، قال: أغدرا يا بن الزرقاء. فأمر به عبد
العزيز بن مروان أن يقتله، فقام إليه بالسيف، فقال له عمرو: اذكرك الله
والرحم أن تلي أنت قتلي وأن تولي ذلك من هو أبعد منك رحما، فألقى السيف
وجلس. وصلى عبد الملك صلاة خفيفة ودخل وغلقت الأبواب، ورأى الناس عبد
الملك وليس معه عمرو، فجاء إلى باب عبد الملك يحيى بن سعيد ومعه ألف
عبد لعمرو فجعلوا يصيحون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية، وكسروا باب القصر
وضربوا الناس بالسيوف، وضرب عبد من عبيد عمرو يقال له مصقلة الوليد بن
عبد الملك ضربة على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان،
فأدخله بيت القراطيس، ودخل عبد الملك فوجد عمرا حيا، فقال لعبد العزيز:
ما منعك أن تقتله؟ قال: منعني/ أنه ناشدني الله والرحم فرققت له، فقال
عبد الملك:
أخزى الله أمك، وكانت أم عبد العزيز ليلى، وأم عبد الملك عائشة بنت
معاوية بن المغيرة ...
ثم إن عبد الملك قال: يا غلام ائتني بالحربة، فأتاه بها فهزها ثم طعنه
فلم تجز فيه، فضرب بيده إلى عضد عمرو، فوجد مس الدرع، فضحك ثم قال:
ودارع أيضا، يا غلام ائتني بالصمصامة [1] ، فأتاه بسيفه، ثم أمر بعمرو
فصرع، وجلس على صدره فذبحه. وانتفض عبد الملك رعدة، وزعموا أن الرجل
إذا قتل ذا قرابة له أرعد.
فحمل عبد الملك عن صدره، فوضع على سريره، ودخل يحيى بن سعيد ومن معه
على بني مروان الدار فجرحوهم [2] ومن معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى
وأصحابه، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس. فألقاه
إلى الناس.
وقد قيل إن عبد الملك بن مروان لما خرج إلى الصلاة أمر غلامه أبا
الزعيزعة بقتل عمرو، فقتله وألقى رأسه إلى أصحابه.
وأمر عبد الملك بسريره فأبرز إلى المسجد وخرج فجلس عليه، وفقد الوليد
__________
[1] سيف صمصام، وصمصامة: صارم لا ينثني.
[2] في الأصل: «فخرجوا هم ومن معهم» . وما أوردناه من ت.
(6/91)
فجعل يقول: ويحكم أين الوليد؟ وأبيهم إن
كانوا قتلوه فلقد أدركوا بثأرهم، فأتاه إبراهيم ابن عربي، فقال: هذا
الوليد عندي قد أصابته جراحة وليس عليه بأس. فأتى عبد الملك بيحيى بن
سعيد، فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز، فقال: أذكرك الله يا
أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وإهلاكها. وأمر بعنبسة فحبس، ثم أتي
بعامر بن الأسود الكلبي فضرب عبد الملك رأسه بقضيب خيزران كان معه، ثم
قال: أتقاتلني مع عمرو وتكون معه علي؟ قال: نعم لأن عمرا أكرمني
وأهنتني، وقربني وأبعدتني، وأحسن إلي وأسأت إلى، فكنت معه عليك. فأمر
به عبد الملك أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز، فقال: أذكرك الله يا أمير
المؤمنين في خالي، فوهبه له، وأمر ببني سعيد فحبسوا، ومكث يحيى في
الحبس شهرا أو أكثر/. ثم إن عبد الملك صعد المنبر، فحمد الله وأثنى
عليه، ثم استشار الناس في قتله، فقام بعض خطباء الناس، فقال: يا أمير
المؤمنين، هل تلد الحية إلا حية [1] ، نرى والله أن تقتله، فإنه منافق
عدو. ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري، فقال: يا أمير المؤمنين، إن
يحيى ابن عمك، وقرابته ما قد علمت، وقد صنعوا ما صنعوا، وصنعت بهم ما
قد صنعت، وما أرى لك قتلهم، ولكن سيرهم إلى عدوك، فإن هم قتلوا كنت قد
كفيت أمرهم، وإن هم رجعوا رأيت فيهم رأيك. فأخذ رأيه، فأخرج آل سعيد
فألحقهم بمصعب بن الزبير.
ثم إن عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو الكلبية: ابعثي إلي بالصلح الذي
كنت كتبته لعمرو، فقالت لرسوله: ارجع إليه فقل له إني قد لففت ذلك
الصلح معه في أكفانه ليخاصمك به عند ربك. ثم جمع أولاده فرق لهم وأحسن
جائزتهم.
وكان الواقدي يقول [2] : إنما تحصن بدمشق في سنة تسع وستين، أما قتله
إياه فكان في سنة سبعين.
وقال يحيى بن أكثم يرثيه:
أعيني جودا بالدموع [3] على عمرو ... عشية تبتز الخلافة بالغدر
__________
[1] في الأصل: «إلا حوية» . وما أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 148.
[3] في ت: «بالدمع» . وكتب على هامشها: «بالدموع» .
(6/92)
كأن بني مروان إذ يقتلونه ... بغاث من
الطير اجتمعن على صقر
لحى الله دنيا تدخل النار أهلها ... وتهتك ما دون المحارم من ستر
وفي هذه السنة أقام الحج للناس ابن الزبير، وكان عامله فيها على
المصرين: الكوفة والبصرة أخوه المصعب، وكان على قضاء الكوفة شريح، وعلى
قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن حازم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
442-/ الأحنف بن قيس بن معاوية [بن حصين] السعدي التميمي، واسمه
الضحاك، وقيل: صخر، ويكنى أبا بحر [1] :
ولدته أمه وهو أحنف، فكانت ترقصه [2] ، وتقول:
والله لولا حنفة برجله ودقة في ساقه من هزله ما كان في فتيانكم من مثله
أدرك زمان رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وبعث رسول الله صَلى
اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ إلى قومه من يعرض عليهم الإسلام، فقال الأحنف:
إنه ليدعو إلى خير، وما أسمع إلا حسنا، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقال: «اللَّهمّ اغفر للأحنف» . وكان الأحنف يقول: ما من
شيء أرجى عندي من ذلك.
وقد روى عن عمر، وعلي، وأبي ذر. وهو الّذي افتتح مروالروذ، وكان الحسن
وابن سيرين في جيشه، وكان عالما سيدا، وكان يحضر عند معاوية فيطيل
السكوت،
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 66، وتهذيب الكمال 2/ 282.
[2] كذا في الأصول، وتهذيب الكمال، وفي ابن سعد: «وهي ترضعه» . وقد
ذكرت معظم المصادر التي ترجمت له الأبيات باختلاف لفظي.
(6/93)
فقال: يا أبا بحر، تكلم، فقال: أخشى الله
إن كذبت، وأخشاكم إن صدقت [1] .
وكان يتهجد بالليل كثيرا، وكان يضع المصباح قريبا منه، ثم يقدم إصبعه
إلى النار، ثم يقول: يا أحنف، ما حملك على ما فعلت في يوم كذا. وكان
يصوم، فيقال له: إنك شيخ كبير والصيام يضعفك، فيقول: إني لأعده لشر
طويل.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بْن حيويه، قَالَ:
أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حَدَّثَني أبي، قال: حدثنا علي بن
عبيد الله الطوسي، قال: قال معاوية بن هشام بن عبد الملك لخالد بن
صفوان:
لم بلغ فيكم للأحنف بن قيس ما بلغ؟ قال: إن شئت حدثتك ألفا، وإن شئت
حذفت لك الحديث حذفا، [قال: احذفه حذفا] [2] ، قال: إن شئت ثلاثا، وإن
شئت فاثنتين، وإن شئت فواحدة، [قال: ما الثلاث؟] [3] قال: أما الثلاث
فإنه كان لا يشره، ولا يحسد ولا يمنع حقا. قال: فما الثنتان؟ قال: كان
موفقا للخير معصوما عن الشر.
قال: فما الواحدة؟ قال: كان أشد الناس على نفسه سلطانا.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ
الْبَنَّاءُ، قَالَ: / أخبرنا عبيد الله بن أحمد، قال: أخبرنا عبيد
الله بن عثمان، قال: أخبرنا ابن المنادي، أن إبراهيم بن مهدي الأيلي
حدثهم قال: حدثني أحمد بن داود بن زياد الضبي، قال:
حدثنا كعب بن مالك الكوفي، قال: حدثنا عبد الحميد بن عبد الملك بن أبي
سليمان العرزمي [4] ، عن أبيه، عن الشعبي، قال: قال لي الأحنف بن قيس:
يا شعبي، قلت: لبيك، قال: ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم،
قلت: من هم؟ قال: الآتي إلى مائدة لم يدع إليها، والداخل بين اثنين في
حديثهما ولم يدخلاه،
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 67.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «الدوحي» خطأ. وما أوردناه من ت. وهو الصحيح.
(6/94)
والمتآمر على رب البيت في بيته، والمندلق
بالدالة على السلطان، والجالس في المجلس الّذي ليس له بأهل، والمقبل
بحديثه إلى من لا يسمع منه، والطامع في فضل البخيل، والمنزل حاجته
بعدوه.
قال: يا شعبي، ألا أدلك على الداء الدوي [1] ؟ قلت: بلى، قال: الخلق
الرديء واللسان البذيء.
قال: قلت له: دلني على مروءة ليس فيها مرزية، فقال: بخ بخ يا شعبي،
سألت عظيما، الخلق الشحيح والكف عن القبيح.
وكان الأحنف يقول: إن من السؤدد الصبر على الذل، وكفى بالحلم ناصرا.
وقال: ما نازعني أحد إلا أخذت من أمري بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له
قدره، وإن كان دوني رفعت نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه.
وقال زياد بن الأحنف: قد بلغ من الشرف والسؤدد ما لا تنفعه [معه] [1]
الولاية، ولا يضره العزل.
وقال خالد بن صفوان: كان الأحنف بن قيس يفر من الشرف والشرف يتبعه.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا الحسن
بن علي التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال:
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال:
اشتكى ابن أخي الأحنف إلى الأحنف بن قيس وجع ضرسه، فقال له الأحنف:
لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة ما ذكرتها لأحد.
أخبرنا عبد/ الخالق بن أحمد، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار،
قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبد الله الدقاق، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين
بْن صفوان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن
الحسين، قال: حدثنا قبيصة، قال:
قيل للأحنف بن قيس: ألا تأتي الأمراء؟ قال: فأخرج جرة مكسورة، فكبها
فإذا كسر، فقال: من يجزيه مثل هذا ما يصنع بإتيانهم.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/95)
قال محمد بن سعد: كان الأحنف صديقا لمصعب
بن الزبير، فوفد عليه الكوفة ومصعب واليها، فتوفي عنده فرئي مصعب في
جنازته يمشي بغير رداء [1] .
443- ظالم بن عمر [2] بن سفيان، أبو الأسود الدؤلي [3] :
قال يوسف بن حبيب: الدول من بني حنيفة ساكن الواو، والديل عبد القيس
ساكنة الياء، والدؤل في كنانة رهط أبي الأسود الدؤلي.
وقد روى أبو الأسود عن عمر، وعلي، والزبير، وأبي ذر، وعمران بن حصين.
واستخلفه عبد الله بن عباس لما خرج من البصرة، فأقره علي بن أبي طالب
رضي الله عنه، وكان يحب عليا رضي الله عنه الحب الشديد، وهو القائل [4]
:
يقول الأرذلون بنو قشير ... طوال الدهر لا تنسى عليا
أحب محمدا حبا شديدا ... وعباسا وحمزة الوصيا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... ولست بمخطئ إن كان غيا
وهو أول من وضع النحو. قال محمد بن سلام: أول من أسس العربية ووضع
قياسها، فوضع باب الفاعل والمفعول به، والمضاف، وحروف الرفع والنصب
والجر والجزم، وأخذ ذلك عنه يحيى بن يعمر.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: أخذ أبو الأسود عن علي بن أبي طالب
العربية، فكان لا يخرج شيئا مما أخذه عن علي إلى آخر حتى بعث إليه
زياد: اعمل شيئا يكون إماما نعرف به كتاب الله، فلم يفعل حتى سمع قارئا
يقرأ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ 9: 3 [5]
فقال: ما ظننت أن/ أمر الناس قد صار إلى هذا. وقال لزياد: أبغي كاتبا
لقنا يفعل ما أقول، فأتي بكاتب من عبد القيس، فلم يرضه، فأتي بآخر،
فقال له أبو
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 69.
[2] هكذا في الأصول، وفي ابن سعد والأغاني: «ابن عمرو» .
[3] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 70، والأغاني (دار الكتب العلمية) ، 12/ 346،
وصبح الأعشى 3/ 161، ووفيات الأعيان 7/ 240، والإصابة 4322، وتهذيب
تاريخ ابن عساكر 7/ 104، وإنباه الرواة 1/ 13، وخزانة البغدادي 1/ 136.
[4] الأبيات في الأغاني 12/ 372.
[5] سورة: التوبة، الآية: 3. وحكم رسوله الرفع هنا موضع الخطأ في
اللفظ.
(6/96)
الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف
فانقطه نقطة فوقه على أعلاه، وإذا ضممت فمي بالحرف فانقطه نقطة بين يدي
الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإذا اتبعت شيئا من ذلك عنة
فاجعل مكان النقطة نقطتين، فهذه نقط أبي الأسود.
وروى أبو العباس المبرد، قال: حدثنا المازني قال: السبب الذي وضعت له
أبواب النحو وعليه أصلت أصوله أن ابنة أبي الأسود قالت له: ما أشد
الحر، قال:
الحصباء بالرمضاء، قالت: إنما تعجبت من شدته، فقال: أو قد لحن الناس.
فأخبر بذلك عليا رضي الله عنه، فأعطاه أصولا بنى منها، وعمل بعده
عليها.
وهو أول من نقط المصاحف، وأخذ النحو عن أبي الأسود عنبسة الفيل، ثم
أخذه عن عنبسة ميمون الأقرن، ثم أخذه عن ميمون عبد الله بن أبي إسحاق
الحضرمي، ثم أخذه عنه عيسى بن عمر، وأخذه عن عيسى الخليل بن أحمد
الفراهيدي، ثم أخذه عن الخليل سيبويه، ثم أخذه عن سيبويه الأخفش، وهو
سعيد بن مسعدة المجاشعي.
وروى أبو حامد السجستاني قال: حدثني يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال:
حدثنا سعيد بن سالم الباهلي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي،
عَنْ أَبِي الأسود الدؤلي، قال: دخلت على أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عنه فرأيته مطرقا متفكرا،
فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: إني سمعت ببلدكم لحنا فأردت أن
أضع في أصول العربية، فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا، فأتيته بعد أيام
فألقى إلي صحيفة فيها:
الكلام كله: اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ
عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. ثم قال لي:
تتبعه وزد فيه ما وقع لك، / فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه. أَخْبَرَنَا
مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، والمبارك بن علي،
قالوا: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلافُ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَمامِيُّ، قَالَ:
أخبرنا أبو طاهر عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الثَّوْرِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُحَمَّدٍ يَعْنِي الثَّوْرِيَّ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ يَقُولُ:
أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ النَّحْوَ أَبُو الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، ثُمَّ
مَيْمُونُ الأَقْرَنُ، ثُمَّ عَنْبَسَةُ الْفِيلُ، ثُمَّ
(6/97)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ.
قَالَ: وَوَضَعَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ فِي النَّحْوِ كِتَابَيْنِ سَمَّى
أَحَدَهُمَا «الْجَامِعَ» ، وَالآخَرَ «الْمُكَمِّلَ» . فَقَالَ
الشَّاعِرُ:
بَطُلَ النَّحْوُ جَمِيعًا كُلُّهْ ... غَيْرَ مَا أَحْدَثَ عِيسَى
بْنُ عُمَرَ
ذَاكَ إِكْمَالٌ وَهَذَا جَامِعٌ ... فَهُمَا لِلنَّاسِ شَمْسٌ
وَقَمَرْ
قال عمر بن شبة: وحدثنا حيان بن بشر، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي
بكر بن عاصم، قال:
أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي، فجاء إلى زياد بالبصرة، فقال:
إني أرى العرب قد خالطت الأعاجم، فتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع
للعرب كلاما يعرفون به ويقيمون به كلامهم؟ قال: لا، قال: فجاء رجل إلى
زياد، فقال أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنون، فقال: ادع لي أبا
الأسود، فقال: ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم.
قال الجاحظ: أبو الأسود معدود في طبقات الناس، وهو في كلها مقدم، كان
معدودا في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان
والأمراء والدهاة والنحويين والحاضري الجواب والنجلاء والشيعة والصلع
الأشراف.
توفي أبو الأسود في هذه السنة، وَهُوَ ابْن خمس وثمانين سنة.
444- عامر بن عبد الله، وهو الذي يقال له عامر بن عبد قيس [1] :
أدرك الصدر الأول، وروى عن عمر، وكان ملازما للتعبد، غاية في التزهد،
وكان كعب الأحبار يقول: هذا راهب هذه الأمة.
أخبرنا ابن ناصر، وعلي بن عمر، قالا: أخبرنا فاروق اللَّه، وطراد،
قالا: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن بشران، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْن صفوان، / قَالَ: حدثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني سلمة بن شبيب
بن سهل بن عاصم، عن عبد الله بن غالب، عن عامر بن يسياف، قال: سمعت
المعلى بن زياد يقول:
كان عامر بن عبد الله قد فرض على نفسه كل يوم ألف ركعة، وكان إذا صلّى
__________
[1] حلية الأولياء، 2/ 87، تهذيب التهذيب 5/ 77 وجامع كرامات الأولياء،
2/ 51، ورغبة الآمل، 2/ 37، وفي الأصول: «وهو الذي يقال له: «عامر بن
عبد الله بن عبد قيس» وما حذفناه تكرار خطأ.
(6/98)
العصر جلس وقد انتفخت ساقاه من طول القيام،
فيقول: يا نفس، بهذا أمرت، ولهذا خلقت، يوشك أن يذهب العناء.
وكان يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوءة، فو عزّة ربك لأزحفن بك زحوف
البعير، وإن استطعت ألا تمس الأرض من زهمك [1] لأفعلن، ثم يتلوى كما
يتلوى الحب على المقلاة، ثم يقوم فينادي: اللَّهمّ إن النار قد منعتني
من النوم فاغفر لي.
445- عمرو بن سعيد بن العاص [2] :
قتله عبد الملك بن مروان بيده، وقد ذكرنا قصته في الحوادث.
446- فضالة بن عبيد بن نافذ، أبو محمد الأنصاري [3] :
صاحب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسكن الشام،
وكان قاضيا لمعاوية، وتوفي في هذه السنة.
447- يزيد بن ربيعة بن مفرغ، أبو عثمان الحميري [4] :
سمي جده مفرغا لأنه راهن على سقاء لبن أن يشربه كله، فشربه حتى فرغه،
فسمي مفرغا. وكان يزيد شاعرا محسنا غزلا، والسيد من ولده [5] .
ومدح مروان بن الحكم، فقال [6] :
وأقمتم سوق الثناء ولم تكن ... سوق الثناء تقام في الأسواق
فكأنما جعل الإله إليكم ... قبض النفوس وقسمة الأرزاق
وكان [7] يزيد يهوى أناهيد بنت الأعنق، وكان الأعنق دهقان من دهاقين
الأهواز،
__________
[1] الزهم: الريح المنتنة.
[2] الإصابة: 6850، وفوات الوفيات 2/ 118، وتهذيب التهذيب 8/ 37.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 124.
[4] الأغاني 18/ 262، وخزانة البغدادي 2/ 212، والوفيات 2/ 289، وإرشاد
الأريب 7/ 297، والشعر والشعراء 319، ورغبة الآمل 2/ 70، 4/ 63، 163.
[5] في الأصل: «غزلا والسيد وولده» . وهو خطأ والتصحيح من ت.
والسيد هو: إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، أبو
هاشم أو أبو عامر. شاعر إمامي يشار إليه في التصوف والورع. توفي سنة
173 هجرية.
[6] الأبيات في الأغاني 18/ 297.
[7] الخبر في الأغاني 18/ 298.
(6/99)
فنزل مرة بالموصل فزوجوه امرأة، فلما كان
اليوم الذي يكون البناء في ليلته خرج يتصيد ومعه غلامه برد، فإذا هو
بدهقان على حمار، فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من الأهواز، قال: ما
فعلت دهقانة يقال لها أناهيد بنت أعنق؟ فقال: صديقة بان مفرغ؟
قال: نعم، قال: ما تجف جفونها من البكاء عليه، فقال لغلامه برد: أتسمع؟
قال:
نعم، قال: هو بالرحمن كافر إن لم يكن/ وجهي هذا إليها، فقال له برد [1]
: أكرمك القوم، وزوجوك كريمتهم، ثم تصنع هذا بهم، وتقدم على ابن زياد
بعد خلاصك منه، فقال: دع ذا عنك، هو بالرحمن كافر إن رجع عن الأهواز،
ومضى على وجهه إلى البصرة، ثم جعل يختلف إلى الأهواز فيزور أناهيد،
وقدم على عبيد الله بن أبي بكرة، فأمر له بمائة ألف درهم، ومائة وصيف،
ومائة نجيبة، وكان يزيد قد لزمه غرماؤه بدين عليه، فقال لهم: انطلقوا،
فجلس على باب الأمير، فخرج من عند الأمير أبو عمر بن عبيد الله بن
معمر، وأبو طلحة الطلحات، فلما رآه قال: أبا عثمان ما أقعدك ها هنا؟
قال: غرمائي هؤلاء قد لزموني بدين، قال: وكم هو؟ قال: سبعون ألفا، قال:
علي منها عشرة آلاف، ثم خرج الآخر فسأله، فقال: علي عشرة آلاف، فجعل
الناس يخرجون فيضمن كل واحد منهم شيئا إلى أن خرج عبد الله بن أبي
بكرة، فسأله، فأخبره، فقال: وكم ضمن عنك؟ قال: أربعون ألفا، قال:
استمتع بها وعلي دينك أجمع.
وكان عم يزيد يعنفه في حب أناهيد، ويعزله ويعيره، فقال له: يا عم، إن
لي بالأهواز حاجة، لي على قوم بها ثلاثون ألف درهم، فإن رأيت أن تتجشم
[العناء] [2] معي وتطالب بحقي، فأجابه، فاستأجر سفينة وتوجه إلى
الأهواز، فكتب إلى أناهيد:
تهيئي وتزيني واخرجي إلي مع جواريك، فإني موافيك، فلما نزلوا منزلها
خرجت إليهم في هيئتها، فلما رآها عمه قال له: قبحك الله، هلا علقت مثل
هذه، قال: يا عم، أوقد أعجبتك؟ قال: ومن لا تعجبه هذه، قال: أبجد [منك]
[3] تقول هذا، قال: نعم والله، قال: فإنها والله هذه بعينها. فقال:
إنما أشخصتني لأجلها. [قال: نعم] [4] ، ثم انصرف وأقام هو معها إلى أن
مات في زمن الطاعون أيام مصعب بن الزبير.
__________
[1] في الأصل: «يزيد» خطأ.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الأغاني.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/100)
ثم دخلت سنة سبعين
فمن الحوادث فيها أن الروم ثارت على من
بالشام من المسلمين.
فصالح عبد الملك ملك الروم على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار خوفا
منه على المسلمين.
وفيها/ شخص مصعب بن الزبير إلى مكة
فقدمها بأموال عظيمة فقسمها في قومه وغيرهم، وقدم بدواب كثيرة وظهر
وأثقال، فأرسل إلى عبد الله بن صفوان، وجبير بن شيبة، وعبد الله بن
مطيع مالا كثيرا، ونحر بدنا كثيرة.
وفيها: حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان عماله على أمصاره عماله في
السنة التي قبلها على المعاون والقضاء، وبالشام عبد الملك بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
448- قيس بن الملوح بن مزاحم، وهو مجنون ليلى [1] :
وقيل: قيس بن معاذ، وقيل: اسمه البحتري بن الجعدي، وقيل: هو الأقرع بن
__________
[1] الأغاني 2/ 3 (دار الكتب العلمية) . وفوات الوفيات 2/ 163، والنجوم
الزاهرة 1/ 182، وسمط اللآلئ، 350 خزانة البغدادي 2/ 170، والآمدي 188،
والشعر والشعراء 220، وتزين الأسواق 1/ 58، وأخبار القضاة لوكيع 1/
128.
(6/101)
معاذ، وهو أحد بني جعدة بن كعب بن عامر بن
صعصعة، وقيل: هو من بني عقيل بن كعب بن سعد. وقد أنكر قوم وجوده وليس
بشيء لأن العمل على المثبت [1] .
وأما ليلى فهي بنت مهدي، وقيل: بنت ورد من بني ربيعة. وتكنى أم مالك،
وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن جسما وعقلا وأدبا وشكلا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن محمد
البخاري، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال أخبرنا ابن حيوية، قَالَ:
حدثنا محمد بن خلف، قَالَ: أخبرني أبو محمد البلخي، قال: أخبرني عبد
العزيز، عن أبيه، عن ابن [2] دأب، قال: حدثني رجل من بني عامر بن صعصعة
يقال له: رباح [3] ، قال:
كان في بني عامر جارية من أجمل النساء، لها عقل وأدب يقال لها ليلى بنت
مهدي، فبلغ المجنون خبرها وما هي عليه من الجمال والعقل، وكان صبا
بمحادثة النساء، فعمد إلى أحسن ثيابه فلبسها وتهيأ، فلما جلس إليها
وتحدث بين يديها أعجبته ووقعت بقلبه، فظل يومه ذلك يحدثها وتحدثه حتى
أمسى، فانصرف إلى أهله بأطول ليلة حتى إذا أصبح مضى إليها فلم يزل
عندها حتى أمسى ثم انصرف، فبات بأطول من ليلته الأولى، وجهد/ أن يغمض
فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
فوقع في قلبها مثل الذي وقع في قلبه لها، فجاء يوما يحدثها، فجعلت تعرض
عنه وتقبل على غيره، تريد أن تمتحنه وتعليم ما لها في قلبه، فلما رأى
ذلك منها اشتد عليه وجزع، فلما خافت عليه أقبلت عليه وقالت:
كلانا مظهر للناس بغضا ... وكل عند صاحبه مكين
فسرى عنه، وقالت: إنما أردت أن أمتحنك، والذي لك عندي أكثر من الّذي لي
__________
[1] راجع اختلاف الرواة في وجود قيس وجنونه في الأغاني 2/ 4.
[2] في الأصل: «عن أبيه بن دأب» . وما أوردناه من ت.
[3] الخبر في الأغاني عن ابن دأب، عن رباح بن حبيب العامري، دون ذكر ما
بينهما 2/ 41.
(6/102)
عندك، وأنا معطية الله عهدا إن أنا جالست
بعد يومي هذا رجلا سواك حتى أذوق الموت إلا أن أكره على ذلك، فانصرف
وهو أسر الناس، فأنشأ يقول:
أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض [1] لا مال لدي ولا أهل
ولا أحد أفضي إليه وصيتي ... ولا صاحب إلا المطية والرحل
[محا حبها حب الألى كن قبلها ... وحلت مكانا لم يكن حل من قبل] [2]
وقد روي لنا في بداية معرفتها قول آخر:
أخبرنا ابن نصر، قال: أخبرنا أحمد بن محمد البخاري، قال: أخبرنا
الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف،
قَالَ: قَالَ العمري، عن لقيط بن بكير المحاربي:
أن المجنون علق ليلى علاقة الصبي، وذلك أنهما كانا صغيرين يرعيان
أغناما لقومهما، فتعلق كل واحد منهما صاحبه، إلا أن المجنون كان أكبر
منها [فلم يزالا على ذلك حتى كبرا] [3] ، فلما علم بأمرهما حجبت ليلى
عنه فزال عقله، وفي ذلك يقول:
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ
عَبْد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم التنوخي، / قَالَ:
أَخْبَرَنَا ابْن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن خلف، قال: قال أبو
عبيدة:
كان المجنون يجلس في نادية [4] قومه وهم يتحدثون، فيقبل عليه بعض القوم
فيحدثه وهو باهت ينظر إليه، وهو لا يفهم ما يحدثه به، ثم يثوب عقله
فيسأل عن
__________
[1] في الأصل: «من الأهل» ما أوردناه من ت، والأغاني.
[2] هذا البيت ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] كذا في الأصول، وفي الأغاني 2/ 38: «نادي قومه» .
(6/103)
الحديث فلا يعرفه. فحدثه مرة بعض أهله
بحديث [1] ثم سأله عنه في غداة غد فلم يعرفه، فقال: إنك لمجنون، فقال:
إني لأجلس في النادي أحدثهم ... فأستفيق وقد غالتني الغول
يهوي بقلبي حديث النفس نحوكم ... حتى يقول جليسي أنت مخبول
قال أبو عبيدة: فتزايد الأمر به حتى فقد عقله، فكان لا يقر في موضع،
ولا يأويه رحل ولا يعلوه ثوب إلا مزقه، وصار لا يفهم شيئا مما يكام به
إلا أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت أتى بالبداية، فيرجع عقله.
و [قد] [2] روينا أن قوم ليلى شكوا منه إلى السلطان فأهدر دمه، فقال:
الموت أروح لي، فعلموا أنه لا يزال يطلب غرتهم [3] ، فرحلوا، فجاء
فأشرف فرأى ديارهم بلاقع [4] ، فقصد منزل ليلى فألصق صدره به وجعل يمرغ
خديه على ترابه، ويقول:
أيا حرجات الحي حيث تحملوا ... بذي سلم لا جادكن ربيع
وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى ... بلين بلى لم تبلهن ربوع
ندمت على ما كان مني ندامة ... كما يندم المغبون حين يبيع
وقال بعض مشايخ بني عامر [5] : إن المجنون لقي ليلى وقومها قد رحلوا،
فغشي عليه، فأقبل فتيان الحي فمسحوا وجهه وأسندوه إلى صدورهم، وسألوا
ليلى أن تقف له، فقالت: لا يجوز أن أفتضح، ولكن يا فلانة- لأمة لها-
اذهبي إليه وقولي له: ليلى تقرأ عليك السلام، وتقول لك أعزز علي بما
أنت فيه، ولو وجدت سبيلا إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي، فمضت فأخبرته،
فقال: أبلغيها السلام وقولي لها: إن دائي/ ودوائي أنت، وقد وكلت بي
شقاء طويلا وبكى [6] ، وأنشأ يقول:
__________
[1] في ت: «فيحدثه عن بعض أهله بحديث» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت. وهذا الخبر في
الأغاني 2/ 26.
[3] غرتهم: غفلتهم.
[4] أي: خالية.
[5] الخبر في الأغاني 2/ 59.
[6] في الله انتهى الخبر دون ذكر البيت.
(6/104)
وكيف ترى ليلى تقول رجال ... الحي تطمع أن
ترى ... [1]
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ محمد
البخاري، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف، قَالَ: قَالَ أبو عمرو الشيباني:
لما ظهر من المجنون ما ظهر، ورأى قومه ما ابتلي به اجتمعوا إلى أبيه
وقالوا: يا هذا، قد ترى ما ابتلي ابنك به، فلو خرجت به إلى مكة فعاذ
ببيت الله، وزار قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ودعا الله عز وجل رجونا أن يرجع عقله ويعافيه الله عز وجل،
فخرج أبوه حتى أتى إلى مكة، فجعل يطوف [به] [2] ويدعو له بالعافية وهو
يقول:
دعا المجرمون الله يستغفرونه ... بمكة وهنا أن تمحى ذنوبها
فناديت أن يا رب أول سولتي ... لنفسي ليلى ثم أنت حبيبها
[فإن أعط ليلى في حياتي لا يتب ... إلى الله خلق توبة لا أتوبها] [3]
حتى إذا كان بمنى نادى مناد من بعض تلك الخيام: يا ليلى، فخر مغشيا
عليه، واجتمع الناس حوله، ونضحوا الماء على وجهه [4] وأبوه يبكي عند
رأسه، ثم أفاق وقال:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان [5] الفؤاد وما يدري
دعى باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري
أخبرتنا شهدة بإسناد لها عن أبي عمرو الشيباني، عن ابن دأب، عن رباح،
قال:
حدثني بعض المشايخ، قال:
خرجت حاجا حتى إذا كنت بمنى إذا جماعة على جبل من تلك الجبال فصعدت
إليهم، فإذا معهم فتى أبيض حسن الوجه وقد علاه الصفار وبدنه ناحل وهم
يمسكونه،
__________
[1] في الأصل بياض مكان النقط قدر سطر ونصف. وفي الأغاني أبيات أخرى.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] هذا البيت ساقط من الأصل.
[4] في ت: على وجهه الماء.
[5] في الأصل: «أطراب» . وما أوردناه من الأغاني.
(6/105)
قال: فسألتهم عنه، فقالوا: هذا قيس الذي
يقال له المجنون، خرج به أبوه لما بلي به يستجير له ببيت الله الحرام
وقبر محمد عليه السلام فلعل الله أن يعافيه. قال: فقلت لهم: فما لكم
تمسكونه؟ / قالوا: نخاف أن يجني على نفسه جناية تتلفه. قال: وهو يقول:
دعوني أتنسم صبا نجد، فقال لي بعضهم: ليس يعرفك [1] ، لو شئت دنوت منه
فأخبرته أنك قدمت من نجد، وأخبرته عنها، قلت: نعم أفعل، فدنوت منه،
فقالوا: يا قيس، هذا رجل قدم من نجد. قال: فتنفس حتى ظننت أن كبده قد
تصدعت، ثم جعل يسائلني عن موضع موضع وواد واد، وأنا أخبره وهو يبكي، ثم
أنشأ يقول:
ألا حبذا نجد وطيب ترابه ... وأرواحه إن كان نجد على العهد
أخبرنا ابن ناصر بإسناد له عن زياد بن الأعرابي، قال: لما تشبث المجنون
بليلى واشتهر بحبها [2] اجتمع إليه أهلها فمنعوه من محادثتها وزيارتها
وتهددوه وتوعدوه بالقتل، وكان يأتي امرأة فتعرف [له] [3] خبرها، فنهوا
تلك المرأة عن ذلك، فكان يأتي غفلات الحي في الليل، فلما كثر ذلك خرج
أبو ليلى ومعه نفر من قومه إلى مروان بن الحكم فشكوا إليه ما ينالهم من
قيس بن الملوح، وسألوه الكتاب إلى عامله بمنعه من كلام ليلي، ويتقدم
إليه في ترك زيارتها، فإذا أصابه أهلها عندهم فقد أهدر دمه.
فلما ورد الكتاب على عامله بعث إلى قيس وأبيه وأهل بيته، فجمعهم وقرأ
عليهم كتاب مروان، وقال لقيس: اتق الله في نفسك لا تذهب دمك هدرا،
فانصرف قيس وهو يقول:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها ... علي يمينا جاهدا لا أزورها
وواعدني [4] فيها رجال أبوهم ... أبي وأبوها خشنت لي صدورها
على غير شيء [5] غير أني أحبها ... وأن فؤادي عند ليلى أسيرها [6]
__________
[1] في الأصل: «لعله يعرفك» وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «نسب المجنون بليلى، وشهر بحبها» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأغاني: «وأوعدني» .
[5] في الأغاني: «على غير جرم» .
[6] في الأغاني: «وإن فؤادي رهنها وأسيرها» .
(6/106)
فلما يئس منها وعلم أن لا سبيل إليها صار
شبيها بالتائه العقل، / وأحب الخلوة وحديث النفس، وتزايد الأمر به حتى
ذهب عقله، ولعب بالحصى والتراب، ولم يكن يعرف شيئا إلا ذكرها، وقول
الشعر فيها، وبلغها ما صار إليه قيس فجزعت أيضا لفراقه، وضنيت ضنى
شديدا.
وقد روينا عن يونس النحوي [1] : أن أم قيس سألت ليلى فحضرت عنده ليلا،
وقالت: إن أمك تزعم أنك جننت على رأسي، فقال:
قالت جننت على رأسي [2] فقلت لها ... الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
فبكت معه وتحدثا حتى كاد الصبح [أن] [3] يسفر، ثم ودعته وانصرفت، فكان
آخر عهده بها.
وقد روينا أن أبا المجنون قيده، فجعل يأكل لحم ذراعيه، ويضرب بنفسه
الأرض، فأطلقه يدور في الفلاة عريانا.
ولما زوجت ليلى، وقيل غدا ترحل، قال المجنون ينشد:
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
وروينا أن ليلى لما زوجت جاء المجنون إلى زوجها وهو يصلي في يوم شات،
فوقف عليه ثم أنشأ يقول:
بربك هل ضممت إليك ليلى ... قبيل الصبح أو قبلت فاها
وهل رفت عليك قرون ليلى ... رفيف الأقحوانة في نداها
فقال: اللَّهمّ إذ حلفتني فنعم، فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من
الجمر، فما فارقهما حتّى سقط مغشيا عليه، فسقط الجمر مع لحم راحتيه.
__________
[1] الخبر في الأغاني: 2/ 34.
[2] في الأغاني: «قالت جننت على أيش» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الأغاني.
(6/107)
وكانت له داية يأنس بها، وكانت تخرج إلى
الصحراء فتحمل له رغيفا وماء، فربما أكله وربما تركه، حتى جاءت يوما
وهو ملقى بين الأحجار ميتا، فاحتملوه/ إلى الحي، فغسلوه ودفنوه، ولم
يبق في بني جعدة ولا في بني الحريش امرأة إلا خرجت حاسرة صارخة عليه
تندبه، واجتمع فتيان الحي يبكون عليه أشد بكاء، وينشجون أشد نشيج [1] ،
وحضرهم حي ليلى معزين وأبوها معهم، وكان أشد القوم جزعا وبكاء عليه،
وجعل يقول: ما علمت أن الأمر يبلغ كل هذا، ولكني امرؤ عربي أخاف من
العار، وقبح الأحدوثة، فزوجتها وخرجت عن يدي، ولو علمت [2] أن أمره
يجري على هذا ما أخرجتها عن يده، فما رئي يوما كان أكثر باكيا منه.
وبينما هم يقلبونه وجدوا خرقة فيها مكتوب:
ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضى ... شقيت ولا هنيت من عيشك الخفضا
شقيت كما أشقيتني وتركتني ... أهيم مع الهلاك لا أطعم الغمضا
كأن فؤادي في مخاليب طائر ... إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم ... علي فما تزداد طولا ولا عرضا
ومن أشعاره الرائقة قوله [3] :
وشغلت عن فهم الحديث سوى ... ما كان منك فإنه شغلي [4]
وأديم لحظ محدثي ليرى ... أن [5] قد فهمت وعندكم عقلي
وقوله [6] :
عجبت لعروة العذري أمسى ... أحاديثا لقوم بعد قوم
__________
[1] في الأصل: «ينشجون أشد تشنج» وما أوردناه من الله والأغاني.
[2] في ت: «ولو كان» .
[3] الأغاني: 2/ 65.
[4] في الأصول: «فأنتم شغلي» وما أوردناه من ت.
[5] في الأصول: «وأديم نحو محدثي نظري إن قد» . وما أوردناه من
الأغاني.
[6] الأغاني 2/ 77.
(6/108)
وعروة مات موتا مستريحا ... وها أنا ذا
أموت بكل يوم
وقد روينا متقدما أنه كان يهيم في البرية مع الوحش لا يأكل إلا ما ينبت
في البر من بقل، ولا يشرب إلا مع الظباء إذا وردت مناهلها، وطال شعر
جسده ورأسه، وألفته الوحش وكانت لا تفر منه، وجعل يهيم حتى بلغ حدود
الشام، فإذا ثاب عقله إليه رجع وسأل من يمر من أحياء العرب عن نجد،
فيقال له: أين أنت من نجد، قد شارفت الشام، فيقول: فأروني الطريق،
فيدلونه.
(6/109)
|