المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين
فمن الحوادث فيها مسير عبد الملك بن مروان إلى العراق لحرب ابن الزبير [1]
وكان عبد الملك لا يزال يقرب من مصعب، ويخرج مصعب، ثم تهجم الشتاء فيرجع كل واحد منهما إلى موضعه، ثم يعودان. ثم إن عبد الملك خرج من الشام يريد مصعبا من سنة سبعين ومعه خالد بن عبد الله، فقال له خالد: إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلا يسيرة رجوت أن أغلبك عليها، فوجهه عبد الملك، فقدمها مستخفيا في مواليه وخاصته حتى نزل على عمرو بن أصمع الباهلي، فأجاره وأرسل إلى عباد بن الحصين- وكان على شرطة ابن معمر، وكان مصعب إذا شخص عن البصرة استخلف عبيد الله بن عبد الله بن معمر- ورجا عمرو بن أصمع أن يتابعه عباد، فقال له: إني قد أجرت خالدا، وأحببت أن تعلم ذلك لتكون لي ظهرا، فوافاه رسوله حين نزل عن فرسه، فقال له عباد: قل له: والله لا أضع لبد فرسي حتى آتيك في الخيل، فقال عمرو لخالد:
إني لا أغرك، هذا عباد يأتينا الساعة، ولا والله ما أقدر على منعك، ولكن عليك بمالك بن مسمع.
فخرج يركض، عليه قميص قوهي قد حسره عن فخذيه، وأخرج رجليه من الركابين حتى أتى مالك، فقال: إني قد اضطررت إليك فأجرني، قال: نعم. ووجه مصعب زحر بن قيس [2] مددا لابن معمر في ألف، ووجه عبد الملك عبد الله بن
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 151، والبداية والنهاية 8/ 338.
[2] في الأصل: «ابن جرير» ، وفي ت: «جزء بن قيس» ، وما أوردناه من تاريخ الطبري 6/ 153.

(6/110)


زياد بن ظبيان مددا لخالد، فلما وصل علم تفرق الناس فلحق بعبد الملك ودافع مالك بن مسمع عن خالد، وكانت تجري مناوشات وقتال، وأصيبت عين مالك بن مسمع فضجر من الحرب، ومشت السفراء بينهم، [فصولح مالك] [1] على أن يخرج خالد وهو آمن، فأخرجه من البصرة.
فصل
ولما/ جد عبد الملك في قتال [2] مصعب قيل له: لو بعثت غيرك، فقال: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة، ولا رأي له، وأني أجد في نفسي أني بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجأت إلى ذلك، ومصعب شجاع ولا علم له بالحرب، ومن معه يخالفه، ومن معي ينصح لي.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد المحسن بن محمد، قَالَ: أخبرنا عبد الكريم بن محمد المحاملي، قال: أخبرنا الدار الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد بْن سَالِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيد عَبْدُ اللَّهِ بن شبيب، قال: حدثنا الزبير، قال:
حدثني عمر بن أبي بكر القرشي، عن عبد الله بن أبي عبيدة، قال:
لما أراد عبد الملك الخروج إلى مصعب أتته امرأته عاتكة بنت يزيد فبكت وبكى جواريها، فجلس ثم قال: قاتل الله ابن أبي جمعة حيث يقول:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه ... حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت وبكى مما عناها قطينها
وسار عبد الملك حتى نزل بمسكن، وكتب إلى شيعته من أهل العراق، ثم جاء مصعب، فلما تراءى العسكران تقاعس بمصعب أصحابه [3] ، فقال لابنه عثمان: يا بني، اركب إلى عمك أنت ومن معك فأخبره بما صنع أهل العراق، ودعني فإني مقتول، فقال ابنه: الحق بالبصرة أو بأمير المؤمنين، فقال: والله لا تتحدث قريش أني فررت ولكن أقاتل، فإن قتلت فلعمري ما السيف بعار، وما الفرار لي بعادة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «ولما جاء عبد الملك إلى قتال مصعب» .
[3] في ت: «وجاء مصعب قدامى العسكر وتقاعد بمصعب أصحابه» .

(6/111)


فأرسل إليه عبد الملك بأخيه محمد بن مروان يقول له: إن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب: إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا.
فأثخن مصعب بالرمي، ثم شد عليه زائدة بن قدامة فطعنه وقال: يا لثارات المختار، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فاحتز رأسه، / وقال: إنه قتل أخي، فأتى به عبد الملك فأثابه ألف دينار، فأبى أن يأخذها وقال: إنما قتلته على وتر صنعه [1] بي، فلا آخذ في حمل رأس مالا.
وكان قتل مصعب على نهر يقال له الدجيل، ثم دعا عبد الملك أهل العراق [2] فبايعوه.
وفي هذه السنة دخل عبد الملك الكوفة [3]
ففرق أعمال العراق على عماله، هذا قول الواقدي.
وقال المدائني: كان ذلك في سنة اثنتين وسبعين.
ولما أتى الكوفة نزل بالنخيلة، ودعا الناس إلى البيعة، ثم ولى قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة أربعين يوما ثم عزله، ثم ولى بشر بن مروان، وصعد المنبر فخطب فقال: إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه ولم يغرز بذنبه [4] في الحرم، وإني قد استعملت عليكم بشر بن مروان وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة، والشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا.
واستعمل محمد بن عمير على همذان، ويزيد بن رويم على الري، وفرق العمال، وصنع طعاما كثيرا وأمر به إلى الخورنق، وأذن إذنا عاما فأكلوا، فقال: ما ألذ عيشنا لو أن شيئا يدوم، ولكن كما قال الأول:
__________
[1] راجع تاريخ الطبري 6/ 159، 160.
[2] في الأصل: «بأهل العراق» .
[3] تاريخ الطبري 6/ 162.
[4] في الأصل: «ولم يعذب» وما أوردناه من ت، وهو يوافق ما في الطبري 6/ 164.

(6/112)


وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امرئ يوما يصير إلى كان
ثم أتى مجلسه فاستلقى وقال:
اعمل على مهل فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائن قد كان
وفي هذه السنة بعث عبد الملك خالد بن عبد الله على البصرة واليا، ووجه خالد عبد الله بن أبي بكرة خليفة له على البصرة، ورجع عبد الملك إلى الشام.
وفيها: افتتح قيسارية.
وفيها: نزع ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة، واستعمل عليها طلحة/ بن عبيد الله بن عوف، وهو آخر وال لابن الزبير على المدينة، ثم قدم طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة وأقام طارق.
وفيها: قام عبد الله بن الزبير بمكة حين بلغه قتل أخيه مصعب، وقال: الحمد للَّه الذي له الخلق والأمر، إنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا، وأفرحنا، [أتانا] [1] قتل مصعب رحمه الله، فأما الذي أفرحنا أن قتله شهادة، وأما الذي أحزننا فإن الفراق للحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ألا إن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فلا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام، وما نموت إلا قعصا [2] بالرماح، وموتا نحت ظلال السيوف.
وفيها: حج بالناس عبد الله بن الزبير بن العوام.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «قصعا» . وما أوردناه من ت. والقعص: الموت السريع.

(6/113)


ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
449- مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد بن عبد الله [1] :
وأمه الرباب بنت أنيف الكلبية. كان من أحسن الناس وجها، وأشجعهم قلبا، وأجودهم كفا. ولما دعي لأخيه عبد الله بن الزبير بالخلافة ولى [أخاه مصعبا] [2] إمارة العراق، فلم يزل على ولايته إلى أن سار إليه عبد الملك بن مروان، فحاربه فقتل. وكان الذي تولى قتله عبيد الله بن زياد بن ظبيان على دجيل عند نهر الجاثليق [3] واحتز رأسه وحمله إلى عبد الملك، فسجد عبد الملك وقال: واروه فلقد كان من أحب الناس إلي وأشدهم لي لقاء ومودة، ولكن الملك عقيم. فقتل في هذه السنة.
وقال المدائني: قتل يوم الثلاثاء [لثلاث] [4] عشرة خلت من جمادى الأولى، / أو الآخرة.
وكتب إلى زوجته سكينة بنت الحسين رضي الله عنه بعد خروجه من الكوفة بليال:
وكان عزيزا إن أبيت وبيننا ... حجاب فقد أصبحت مني على عشر
وأبكاهما للعين والله فاعلمي ... إذا ازددت مثليها فصرت على شهر
وأبكى لقلبي منهما اليوم أنني ... أخاف بأن لا نلتقي آخر الدهر
وقال الماجشون [5] : دخل مصعب على سكينة يوم قتل، فنزع ثيابه، ولبس غلالة، وتوشح بثوب، وأخذ سيفه، فعلمت سكينة أنه لا يريد أن يرجع، فصاحت:
وا حزناه عليك يا مصعب، فالتفت إليها وقد كانت تخفي ما في قلبها عنه، فقال: أوكل
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 135، وتاريخ بغداد 13/ 105، والبداية والنهاية 8/ 341، والأغاني 19/ 129.
[2] في الأصل: «ولى إمارة العراق مصعب» وما أوردناه من ت.
[3] كذا في الأصول، وفي الطبري والبداية: «على نهر دجيل عند دير الجاثليق» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] الأغاني 19/ 136.

(6/114)


هذا لي في قلبك؟ قالت: وما أخفي أكثر، فقال: لو كنت أعلم هذا كانت لي ولك حال، ثم خرج فلم يرجع.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا [أحمد بن] [1] علي بن ثابت، قال:
أخبرنا عبد الكريم بن محمد الضبي [2] ، قال: أخبرنا علي بن عمر الحافظ، قال:
حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم قال: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب، قال: حدثنا أبو محلم، قال [3] :
لما قتل مصعب بن الزبير خرجت سكينة تطلبه في القتلى، فعرفته بشامة في خده، فأكبت عليه وقالت: يرحمك الله، نعم والله خليل المسلمة كنت، أدركك والله ما قال عنترة:
وحليل غانية تركت مجدلا ... بالقاع لم يعهد ولم يتكلم
فهتكت بالرمح الطويل إهابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي الأزهري، قال: أخبرنا محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، قال: أخبرنا أبو علي السجستاني، قال: حدثني عبد الله بن سلمويه، قال:
أسر مصعب بن الزبير رجلا فأمر بضرب/ عنقه، فقال: أصلح الله الأمير، ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة [فأتعلق] بأطرافك الحسنة، وبوجهك الذي يستضاء به، فأقول: يا رب سل مصعبا فيم قتلني؟ فقال: يا غلام، أعف عنه، فقال: أصلح الله الأمير، إن رأيت أن تجعل ما وهبت لي من حياتي في عيش رخي، قال: يا غلام، أعطه مائة ألف، فقال: أيها الأمير، فإني أشهد الله وأشهدك أني قد جعلت لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفا، فقال له: ولم؟ قال: لقوله فيك: [4]
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت. وقد ورد في الأصل: «علي بن محمد بن ثابت» .
[2] في الأصل: «الصيني» .
[3] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 108، وفي البداية والنهاية 8/ 345.
[4] الخبر في تاريخ بغداد 3/ 106.

(6/115)


إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أنبأنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا محمد بن الحسن، عن زافر [1] بن قتيبة، عن الكلبي، قال: قال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه:
من أشجع العرب؟ فقالوا: شبيب بن قطري [2] ، وفلان وفلان، فقال: إن أشجع العرب لرجل جمع بين سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وابنة رباب بن أنيف الكلبي [سيد ضاحية العرب] [3] وولي العراق خمس سنين، فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطي الأمان فأبى ومشى بسيفه حتى مات، ذاك مصعب بن الزبير، لا من قطع الجسور مرة هاهنا ومرة ها هنا [4] .
قال المدائني: قتل يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى أو الآخرة سنة إحدى وسبعين، وهو ابن خمس وأربعين، وقيل: خمس وثلاثين.
ومن العجائب: قول عبد الملك بن عمير الليثي: رأيت في قصر الإمارة بالكوفة رأس الحسين رضي الله عنه بين يدي عبيد الله بن زياد، ثم رأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار/ بين يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان.
__________
[1] في الأصل ت: «رافيل» والبداية والنهاية: «زفر» وما أوردناه من تاريخ بغداد.
[2] كذا في الأصول، وفي تاريخ بغداد: «مشبيب، قطري، فلان فلان» . وفي البداية والنهاية 8/ 344:
«مشبيب، وقال آخر: قطري بن الفجأة» .
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد، والبداية والنهاية.
[4] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 106، والبداية والنهاية 8/ 344.

(6/116)


ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين
فمن الحوادث فيها ما كان من أمر الخوارج والمهلب [1] .
قال علماء السير: اقتتلت الأزارقة والمهلب بسولاف ثمانية أشهر أشد القتال، فأتاهم قتل مصعب بن الزبير، فبلغ ذلك إلى الأزارقة قبل المهلب، فنادت الخوارج لعسكر المهلب: ما قولكم في مصعب؟ فقالوا: إمام هدى، قالوا: فما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: نحن براء منه، قالوا: فإن مصعب قد قتل، وستجعلون غدا عبد الملك إمامكم.
فلما كان من الغد بلغ المهلب الخبر، فبايع لعبد الملك، فقالت الخوارج: يا أعداء الله، أنتم أمس تتبرءون منه وهو اليوم إمامكم. وكان عبد الملك قد ولى على البصرة خالد بن عبد الله، فبعث خالد المهلب على خراج الأهواز، وبعث أخاه عبد العزيز على قتال الأزارقة، فهزم وأخذت زوجته بنت المنذر بن الجارود، فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت مائة ألف، وكانت جميلة، فغار رجل من قومها كان من رءوس الخوارج، فقال: تنحوا، ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم، فضرب عنقها.
وكتب خالد إلى عبد الملك يخبره بما جرى، فكتب إليه [2] : قبح الله رأيك حين
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 168، والعنوان ساقط من ت.
[2] نص الكتاب في تاريخ الطبري 6/ 171.

(6/117)


تبعث أخاك [1] أعرابيا من أهل مكة [2] على القتال وتدع المهلب يجبي الخراج وهو البصير بالحرب، فإذا أمنت عدوك فلا تعمل فيهم برأي حتى يحضر المهلب وتستشيره فيه.
وكتب عبد الملك إلى بشر بن مروان [3] : أما بعد، فإني قد كتبت إلى خالد بن عبد الله آمره بالنهوض إلى الخوارج، فسرح إليه خمسة آلاف رجل، وابعث عليهم رجلا ترضاه، فإذا قضوا غزاتهم تلك صرفتهم إلى الري فقاتلوا عدوهم.
فقطع على الكوفة خمسة آلاف، وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وقال: إذا قضيت غزاتك هذه فانصرف إلى/ الري، وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز، فقال له المهلب: إني أرى ها هنا سفنا كثيرة، فضمها إليك، فو الله ما أرى القوم إلا محرقيها، فما لبث إلا ساعة حتى أقبلت خيل من خيلهم فحرقتها.
وبعث خالد المهلب على ميمنته، وداود بن قحذم على ميسرته، ومر المهلب على عبد الرحمن بن محمد ولم يخندق، فقال له: يا ابن أخي ما يمنعك من الخندق، فقال:
والله لهم أهون علي من ضرطة الحمار [4] ، قال: فلا يهونوا عليك فإنهم سباع العرب، لا أبرح أو تضرب عليك خندقا.
فأقاموا [5] نحو عشرين ليلة، ثم إن خالدا زحف إليهم بالناس، فرأوا عددا هائلا، فولوا وأخذ المسلمون ما في عسكرهم، واتبعهم خالد وداود في جيش من أهل البصرة يقتلونهم، وانصرف عبد الرحمن إلى الري، وأقام المهلب بالأهواز، وكتب خالد إلى عبد الملك يخبره بأن المارقين انهزموا وتبعهم فقتل من قتل منهم، وقد تبعهم داود بن قحذم. [6] فكتب عبد الملك إلى بشر بن مروان: أما بعد فابعث من قبلك رجلا شجاعا
__________
[1] في الأصل: «حين بعثت أخاك» وما أوردناه من الله والطبري.
[2] في الأصل: «الكوفة» وما أوردناه من ت، والطبري.
[3] نص الكتاب في تاريخ الطبري 6/ 171.
[4] في الأصل: «ضربة الحمال» . وفي الطبري: ضرطة الجمل» ، وما أوردناه من ت.
[5] تاريخ الطبري 6/ 172.
[6] كذا في الأصول، وفي الطبري: «فرأوا أمرا أهالهم من عدد الناس» .

(6/118)


بصيرا بالحرب في أربعة آلاف فليسيروا إلى فارس في طلب المارقة، فإن خالدا كتب يخبرني أنه قد بعث في طلبهم داود بن قحذم، فمر صاحبك الذي تبعث أن لا يخالف ابن قحذم إذا التقيا.
فبعث بشر عتاب بن ورقاء على أربعة آلاف من أهل الكوفة، فخرجوا فالتقوا بداود فتبعوا القوم إلى أن نفقت [1] عامة خيولهم، ورجعوا إلى الأهواز.
وفي هذه السنة خرج أبو فديك الخارجي فغلب على البحرين [2]
فبعث خالد بن عبد الله أخاه أمية بن عبد الله بجند، فهزمهم أبو فديك، فرجع أمية إلى البصرة.
وفي هذه السنة وجه عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى مكة لقتال ابن الزبير [3]
وكان السبب في توجيهه الحجاج دون غيره، أن عبد الملك لما أراد الرجوع إلى الشام قام إليه الحجاج بن يوسف فقال: يا أمير المؤمنين، / إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه وولني قتاله. فبعثه فخرج في ألفين من أهل الشام في جمادى سنة اثنتين وسبعين فلم يعرض للمدينة، فسار حتى نزل الطائف، فكان قدومه الطائف في شعبان، وقد كتب عبد الملك لأهل مكة الأمان إن دخلوا في طاعته، وكان الحجاج يبعث البعوث إلى عرفة في الخيل، ويبعث ابن الزبير بعثا فيقتتلون هناك، وفي كل ذلك تهزم خيل ابن الزبير ويرجع الحجاج بالظفر.
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في حصار ابن الزبير ودخول الحرم عليه، ويخبره أن شوكته قد قلت، وقد تفرق عنه عامة أصحابه ويسأله أن يمده برجال.
فكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند
__________
[1] في الأصل: «تعقرت» وفي ت: «تعبت» وما أوردناه من الطبري.
[2] تاريخ الطبري 6/ 174.
[3] تاريخ الطبري 6/ 174.

(6/119)


بالحجاج، فسار في خمسة آلاف من أصحابه حتى لحق بالحجاج، فلما دخل شهر ذي القعدة رحل الحجاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون، وحصر ابن الزبير لهلال ذي القعدة. وكان قدوم طارق مكة لهلال ذي الحجة، ولم يطف بالبيت ولم يصل إليه وهو محرم، وكان يلبس الحجاج السلاح، ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل ابن الزبير.
ونحر ابن الزبير بدنا بمكة يوم النحر، ولم يحج ذلك العام ولا أصحابه لأنهم لم يقفوا بعرفة، ونحر أصحاب الحجاج وطارق فيما بين الحجون إلى بئر ميمون.
وحج الحجاج بالناس ولم يطف بالبيت، وكان العامل على المدينة طارق مولى عثمان من قبل عبد الملك، وعلى الكوفة بشر بن مروان، وعلى قضائها عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضائها هشام بن هبيرة.
ذكر قصة جرت لطارق بن عمرو مع سعيد بن المسيب
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا علي بْنُ أَحْمَدَ السَّرِيُّ [1] ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْن بطة العكبري، قال: حدثني أبو صالح مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ/ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلاءِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: وَلَّى عَلَيْنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ طَارِقًا مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه. قال عليّ: فمشيت إِلَى سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَإِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَإِلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحَمْنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقُلْتُ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ نسلم عليه ندفع بذلك عن أنفسنا. قال: فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَأَجْلَسَنَا عِنْدَهُ، ثُمّ قَالَ لَنَا: أَيُّكُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؟ قَالَ: فَكَلَّمَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، إِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَدْ رَفَعَتْ عَنْهُ الولاة إتيانها، وَقَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْمَسْجِدَ، فَلَيْسَ يَبْرَحُ مِنْهُ، قَالَ: رَغِبَ أَنْ يَأْتِيَنِي، وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّهُ، وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّهُ، وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّهُ- ثَلاثًا- قَالَ الْقَاسِمُ:
فَضَاقَ بِنَا الْمَجْلِسُ حَتَّى قُمْنَا، فَجِئْتُ الْمَسْجِدَ فَتَطَلَّعْتُ فيه فإذا سعيد بن المسيب عند
__________
[1] في أ: «الميسيري» .

(6/120)


أُسْطُوَانَتِهِ جَالِسٌ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ وَقُلْتُ لَهُ: أَرَى لَكَ أَنْ تَخْرُجَ السَّاعَةَ إِلَى مَكَّةَ فَتَعْتَمِرُ وَتُقِيمُ بِهَا، قَالَ: مَا حَضَرَتْنِي فِي ذَلِكَ نِيَّةٌ، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إليّ ما نويت، فقلت له: فإنّي أَرَى أَنْ تَخْرُجَ إِلَى بَعْضِ مَنَازِلِ إِخْوَانِكَ فَتُقِيمَ فِيهِ حَتَّى نَنْظُرَ مَا يَكُونُ مِنَ الرَّجُلِ، قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِهَذَا الدَّاعِي الَّذِي يَدْعُونِي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَاللَّهِ لا دَعَانِي إِلا أَجَبْتُهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، قُلْتُ لَهُ: فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَقُومَ مِنْ مَجْلِسِكَ هَذَا فَتَجْلِسَ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الأَسَاطِينِ فَإِنَّكَ إِنْ طَلَبْتَ فَإِنَّمَا تَطْلُبُ عِنْدَ أُسْطُوَانَتِكَ. قَالَ:
وَلِمَ أَقُومُ مِنْ مَوْضِعِي هَذَا الَّذِي قَدْ آتَانِيَ اللَّهُ فِيهِ الْعَافِيَةَ مِنْ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ، [قُلْتُ لَهُ:
رَحِمَكَ اللَّهُ، أَمَا تَخَافُ عَلَى نَفْسِكَ كَمَا يَخَافُ النَّاسُ؟ فَقَالَ لِي] [1] : وَاللَّهِ لا أَحْلِفُ باللَّه كَاذِبًا مَا خِفْتُ شَيْئًا سِوَاهُ، قُلْتُ لَهُ: فَبِمَاذَا أَقُومُ مِنْ عِنْدِكَ رَحِمَكَ اللَّهُ، فَقَدْ غَمَمْتَنِي، فَقَالَ: تَقُومُ بِخَيْرٍ، أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يُنْسِيَهُ ذِكْرِي.
قَالَ: فَانْصَرَفْتُ مِنْ عِنْدِهِ فَجَعَلْتُ أَسْأَلُ فَرَطَ الأَيَّامِ [هَلْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَبَرٌ؟] فَلا أُخْبَرُ إِلا بِخَيْرٍ. قَالَ: فَأَقَامَ عَلَيْنَا وَالِيًا سَنَةً لا يَذْكُرُهُ وَلا يَخْطُرُ بِبَالِهِ حَتَّى إِذَا عزل وصار بوادي القرى مِنَ الْمَدِينَةِ/ عَلَى خَمْسِ مَرَاحِلَ، قَالَ لِغُلامِهِ وهو يوضئه: ويحك أمسك، وا سوءتاه مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمِنَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَلَفْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ثَلاثَةَ أَيْمَانٍ لأَقْتُلَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، وَاللَّهِ مَا ذَكَرْتُهُ إِلا فِي سَاعَتِي هَذِهِ، فقال له غلامه، يا مولاي تأذن لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَرَادَ اللَّهُ لَكَ خَيْرًا مِمَّا أَرَدْتَ لِنَفْسِكَ إِذْ أَنْسَاكَ ذِكْرَهُ.
فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ.
وفي هذه السنة كتب عبد الملك إلى عبد الله بن خازم السلمي يدعوه إلى بيعته [2]
ويطعمه [3] خراسان سبع سنين، فقال للرسول: لولا أن أضرب بيني وبين بني
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 176.
[3] في الأصل: «ويعطيه» ، وما أوردناه من ت، والطبري.

(6/121)


سليم وبني عامر لقتلتك، ولكن كل هذه الصحيفة فأكلها.
وكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح، وكان خليفة ابن خازم على مرو وعلى خراسان، فوعده ومناه فخلع بكير عبد الله بن الزبير، ودعا إلى عبد الملك فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير بن وشاح بأهل مرو، فبرز له فاقتتلوا، فقتل ابن خازم وبعث برأسه إلى عبد الملك.
وبعضهم يزعم أنه إنما كتب عبد الملك إلى ابن خازم بعد قتل ابن الزبير، ونفذ رأس ابن الزبير إليه، فحلف ابن خازم أن لا يعطيه طاعة أبدا، ودعى بطست فغسل الرأس وحنطه وكفنه وصلى عليه، وبعث به إلى أهل ابن الزبير بالمدينة، وأطعم الرسول الكتاب.
وقيل: بل قطع يديه ورجليه وضرب عنقه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
450- عبيدة السلماني المرادي الهمداني، ويكنى أبا مسلم، ويقال: أبا عمرو [1] :
أسلم قبل وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنتين. وسمع من عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن الزبير، ونزل الكوفة. وروى عنه الشعبي، والنخعي.
وحضر مع علي رضي الله عنه وقعه [الخوارج] [2] بالنهروان، / وكان يوازي شريحا في القضاء، فإذا أشكل على شريح شيء دلهم عليه، وأتاه غلامان بلوحين [فيهما كتاب] [3] يتخايران، فقال: إنه حكم، وأبى.
__________
[1] كذا في الأصول وتاريخ بغداد 11/ 117، وفي طبقات ابن سعد: «عبيدة بن قيس السلماني» . وفي البداية والنهاية 8/ 353: «عبيدة السلماني القاضي، وهو عبيدة بن عمرو، ويقال: ابن قيس بن عمرو السلماني المرادي» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه في ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من طبقات ابن سعد.

(6/122)


وكان من أصحاب عبد الله الذين يقرئون ويفتون [1] .
قال ابن سيرين: ما رأيت رجلا كان أشد توقيا من عبيدة. قال: وأدركت الكوفة.
وبها أربعة ممن يعد بالفقه، فمن بدأ بالحارث [بن قيس] [2] ثنى بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث، ثم علقمة، وشريح الرابع.
[توفي في هذه السنة] [3] .
__________
[1] في ت: «الذين يقولون القرآن ويفتنون» وما أوردناه من الأصل، وتاريخ بغداد 11/ 119.
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.

(6/123)


ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين
فمن الحوادث فيها مقتل عبد الله بن الزبير [1]
قد ذكرنا أن ابن الزبير حصر لهلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وما زال الحجاج يحصره ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة. وكانوا يضربونه بالمنجنيق.
قال يوسف بن ماهك: رأيت المنجنيق يرمى به فرعدت السماء وبرقت وعلا صوت كالرعد، فأعظم ذلك أهل الشام فأمسكوا أيديهم، فرفع الحجاج حجر المنجنيق فوضعه ثم قال: ارموا، ثمّ رمى معهم، ثم جاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هذا الفتح قد حضر، فصعقت من الغد صاعقة، فأصيب من أصحاب ابن الزبير عشرة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: أخبرنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال:
كانوا يرمون المنجنيق من أبي قبيس ويرتجزون.
خطارة مثل الفنيق المزبد [2] ... أرمي بها أعواد هذا المسجد
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 187، والبداية والنهاية 8/ 353.
[2] في الأصل: «المرقد» ، وما أوردناه من ت. وفي البداية:
وحجارة مثل الفنيق المزبد ... ترمى بها أعواد هذا المسجد

(6/124)


/ قال: فجاءت صاعقة فأحرقتهم، فامتنع الناس من الرمي فخطبهم الحجاج فقال: ألم تعلموا أن بني إسرائيل كانوا إذا قربوا قربانا فجاءت نار فأكلته [1] علموا أنه قد تقبل منهم، وإن لم تأكله [2] قالوا لم تقبل، فما زال يخدعهم حتى عادوا فرموا.
قال علماء السير [3] : فلم تزل الحرب إلى قبيل مقتل ابن الزبير، فتفرق عامة أصحابه وخذلوه، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان حتى ذكر [أن] [4] ولديه حمزة وحبيب أخذوا لأنفسهما أمانا، فدخل عبد الله بن الزبير على أمه أسماء حين رأى من الناس ما رأى من الخذلان، فقال لها: خذلتني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، وقد قتل عليك أصحابك، ولا تمكن من رقبتك فينقلب [5] بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك. وإن قلت: كنت على الحق فلما وهن أصحابك ضعفت، فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل [القتل] أحسن.
فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب للَّه عز وجل أن تستحل حرمته، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك في مثل ذلك، فانظري يا أمي فإني مقتول في يومي [6] هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر للَّه، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمدا بفاحشة، ولم يجر في حكم الله عز وجل، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا
__________
[1] في الأصل: «فأكلتها» ، وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «تأكلها» ، وما أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 188.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أضفناها لاستقامة المعنى.
[5] في ت، والطبري. «فيتلعب» .
[6] في الطبري: «مقتول من يومي هذا» .

(6/125)


ربي عز وجل، اللَّهمّ إني لا أقول هذا تزكية [مني لنفسي] ، أنت أعلم/ بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. فقالت: إني لأرجو من الله عز وجل [1] أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، أخرج حتى أنظر ما يصير أمرك، فقال: جزاك الله يا أماه خيرا، ولا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقالت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. ثم قالت: اللَّهمّ ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب في الظلماء [2] ، وذلك الصوم في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللَّهمّ إني قد أسلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
وفي رواية أخرى: أنه دخل عليها وعليه الدرع والمغفر، فوقف فسلم ثم دنا فتناول يدها فقبلها، فقالت: هذا وداع فلا تقعد [3] ، فقال: جئت مودعا، إني لأرى هذا آخر أيامي من الدنيا، واعلمي يا أماه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي، قالت: صدقت يا بني، أتمم على نصرتك، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك، ادن مني أودعك. فدنا منها فودعها وقبلها وعانقها، وقالت حيث مست الدرع: ما [هذا] [4] صنيع من يريد ما تريد، قال: ما لبست [هذا] [5] الدرع [6] إلا لأشد منك، قالت: فإنه لا يشد مني.
ثم انصرف وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ... إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
ثم إن القوم أقاموا على كل باب رجالا وقائدا، فشحنت الأبواب بأهل الشام، وكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم،
__________
[1] في الأصل: «من عند الله عز وجل» وما أوردناه من ت، والطبري.
[2] في الطبري: «النحيب في الظمأ» .
[3] في ت. والطبري. «تبعد» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[6] «ما هذا صنيع من يريد ما تريد، قال: ما لبست هذا الدرع» ساقط من ت.

(6/126)


فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية، ومرة في هذه الناحية، كأنه أسد لا يقدم عليه الرجال، وقالت لابن الزبير/ زوجته: اخرج أقاتل معك؟ فقال: لا، وأنشد:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول
فلما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير الأبواب، وبات ابن الزبير يصلي ليلته، ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى، ثم انتبه، فقال: أذن يا سعد، فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير، وركع ركعتي الفجر ثم تقدم، وأقام المؤذن، فصلى بأصحابه، فقرأ: ن وَالْقَلَمِ 68: 1. وقال:
من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول، وأنشد:
ولست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما
ثم قال: احملوا على بركة الله، ثم حمل حتى بلغ بهم الحجون، فرمي بآجرة فأصابته في وجهه فأرعش لها ودمي وجهه، فلما وجد سخونة الدم تسيل على وجهه ولحيته، قال يرتجز [1] :
فلسنا على الأعقاب تدمي كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وتغاووا عليه [2] فقتل.
وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وسار حتى وقف عليه ومعه طارق بن عمرو، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا فبعث الحجاج رأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو إلى المدينة، فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك، وسيأتي تمام قصة ابن الزبير في ذكر من مات في هذه السنة.
وفي هذه السنة اجتمع الناس على عبد الملك
فكتب إليه ابن عمر، وأبو سعيد، وسلمة بن الأكوع بالبيعة، وكان عبد الملك يجلس للناس في كل أسبوع يومين.
__________
[1] البيت للحصين بن الحمام المري (ديوان الحماسة بشرح المرزوقي 1/ 192) .
[2] في الأصل: «وتعاونوا عليه» وفي ت: «تغاءروا» وما أوردناه من الطبري.

(6/127)


أخبرنا ابن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو القاسم [عليّ بن الحسن التنوخي، قال: حدثنا مُحَمَّد بْن عبد الرحيم المازني، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو علي الحسين بْن القَاسِم] [1] الكوكبي، قَالَ: حدثنا أبو العباس الكديمي، قال: أخبرنا السلمي، عن محمد بن نافع مولاهم، / عن أبي ريحانة أحد حجاب عبد الملك بن مروان، قال:
كان عبد الملك يجلس في كل أسبوع يومين جلوسا عاما، فبينا هو جالس في مستشرف له وقد أدخلت عليه القصص، إذ وقعت في يده قصة غير مترجمة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته تغنيني ثلاثة أصوات ثم ينفذ في ما يشاء من حكمه.
فاستشاط من ذلك غضبا، وقال: يا رباح، علي بصاحب هذه القصة، فخرج الناس جميعا وأدخل عليه غلاما كما أعذر كأهنأ الصبيان وأحسنهم، فقال له عبد الملك:
يا غلام هذه قصتك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وما الذي غرك مني، والله لأمثلن بك، ولأردعن بك نظراءك من أهل الجسارة، علي بالجارية، فجيء بجارية كأنها فلقة قمر، وبيدها عود، فطرح لها كرسي وجلست، فقال عبد الملك: مرها يا غلام، فقال:
غني لي يا جارية بشعر قيس بن ذريح:
لقد كنت حسب النفس لو دام أو دنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور
وكنا جميعا قبل أن يظهر الهوى ... فأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة بظهور
فغنته وأجادت، فخرج الغلام من جميع ما كان عليه من الثياب تخريقا، ثم قال له عبد الملك: مرها تغنيك الصوت الثاني، فقال: غني بشعر جميل:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذا لسعيد
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت ثابت ويزيد
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت ذاك منك بعيد
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/128)


فلا أنا مردود بما جئت طالبا ... ولا حبها فيما يبيد يبيد
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقتها فيعود
فغنته الجارية وسقط مغشيا عليه ساعة، ثم أفاق، فقال له عبد/ الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث. فقال: يا جارية غني بشعر قيس بن الملوح:
وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة ... غزال غضيض المقلتين ربيب
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى ... ولكن من تنأين عنه غريب
فغنته الجارية، فطرح الغلام نفسه من المستشرق فلم يصل إلى الأرض حتى تقطع. فقال عبد الملك: ويحه لقد عجل على نفسه، ولقد كان تقديري فيه غير الذي فعل، وأمر فأخرجت الجارية من قصره، ثم سأل عن الغلام، فقالوا: غريب لا يعرف، إلا أنه منذ ثلاث ينادي في السوق ويده على رأسه:
غدا يكثر الباكون منا ومنكم ... وتزداد داري من دياركم بعدا
وفي هذه السنة وجه عبد الملك عمر بن عبيد الله لقتال أبي فديك
وأمره أن ينتدب معه من أحب، فقدم الكوفة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أعطياتهم [1] ، ثم سار بهم، فجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمد بن موسى بن طلحة، وجعل أهل البصرة على الميسرة وعليهم ابن أخيه عمر بن موسى بن عبيد الله، وهو في القلب، حتى انتهوا إلى البحرين، فصف عمر أصحابه، وقدم الرجالة في أيديهم الرماح، فحمل أبو فديك وأصحابه حملة واحدة فكشفوا ميسرة عمر، فارتث عمر [2] ، وحمل أهل الكوفة وأهل البصرة، واستباحوا عسكر العدو، وقتلوا أبا فديك، وحصروهم، فنزلوا على الحكم، فقتلوا منهم نحوا من ستة آلاف، وأسروا ثمانمائة، وانصرفوا إلى البصرة.
__________
[1] «أعطياتهم» ساقطة من ت.
[2] المرتث: الصريع الّذي يثخن في الحرب، ويحمل حيّا ثم يموت. وقيل: هو الّذي يحمل من المعركة وبه رمق.

(6/129)


وفيها: عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة.
وفيها: غزا محمد بن مروان الصائفة، وهزم الروم.
وكانت وقعة عثمان/ بن الوليد بالروم من ناحية أرمينية، وكان في أربعة آلاف، والروم في ستين ألفا فهزمهم وأكثر القتل فيهم.
وفي هذه السنة حج بالناس الحجاج بن يوسف وهو على مكة واليمن واليمامة، وكان على الكوفة والبصرة بشر بن مروان.
وبعضهم يقول: كان على الكوفة بشر، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضاء الكوفة شريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان بكير بن وشاح.
وقد ذكرنا في الحوادث ما فعل عبد الله بن خازم، فأقره عبد الملك على خراسان [1] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
451- أسماء بنت أبي بكر الصديق [2] :
أسلمت قديما، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ذات النطاقين.
وذلك أنها شقت نطاقها نصفين حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى الغار، فجعلت واحدا لسفرة رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ والآخر عصاما لقربته.
تزوجها الزبير وولدت عبد الله، وعروة، والمنذر، وعاصم، والمهاجر، وخديجة، وأم الحسن، وعائشة، وطلقها. وكانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك
__________
[1] «وقد ذكرنا في الحوادث ... عبد الملك على خراسان» : ساقطة من ت.
[2] طبقات ابن سعد 8/ 182، وحلية الأولياء 2/ 55، وصفة الصفوة 2/ 31، وخلاصة تهذيب الكمال والسمط الثمين 173، والجمع بين رجال الصحيحين 602، وتاريخ الإسلام 3/ 133.

(6/130)


لها. وماتت في هذه السنة بعد أن قتل ابنها عبد الله بن الزبير بليال.
452- بشر بن مروان بن الحكم، أخو عبد الملك [1] :
ولي الولايات.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن علي الصيرفي، قَالَ: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن إبراهيم الجبري، قال: أَخْبَرَنَا علي بْن الحسن بْن الفضل، قَالَ: أخبرنا أحمد بْن مُحَمَّد بْن خالد الكاتب، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن المغيرة الجوهري، قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، قال: حدثني الزبير بن بكار، عن القاسم بن عدي، عن أبيه، قال: قال لي يتاذوق [2] الطبيب الذي كان للحجاج- وكان قد أدرك كسرى بن هرمز، وأدرك الحجاج، أتت عليه ثلاثون ومائة سنة- قال:
قال/ لي أمير من أمراء العراق ولم يسمه- قال الهيثم: وظنناه يعني بشر بن مروان، وذلك أن بشرا مات بالعراق وهو أميرها: يا يتاذوق، ما ترى هذه العلة قد طالت بي؟ فقلت: أصلح الله الأمير، لا يستقيم أن أصف لك شيئا حتى أستبرئ ما بك، وإن أحب الأمير أن أستبرئ ذلك فليدع بي على ريق النفس.
فلما كان من الغد دعا بي [3] ، فدخلت عليه واضجعته على حصير ليس تحته ولا تحت رأسه شيء، فجسست ما بين أخمص قدميه إلى هامته، ثم قلت: اجلس أيها الأمير، فجلس، فقلت: أيما أحب إليك أيها الأمير، الصدق أم الكذب؟ قال: ما حاجتي إلى الكذب، بل الصدق أحب إلي، قلت: أيها الأمير، إن الله عز وجل كتب الفناء على خلقه فهم ميتون، فاعهد عهدك واكتب وصيتك. قال: يا يتاذوق، قد نعيت إلي نفسي. قلت: أيها الأمير، إن أردت أريك إمارة ما قلت [4] ؟ قال: نعم، قلت [5] :
فادع لي بلحم أحمر، فدعى بمسلوخ، فأخذت قطعة من لحم الفخذ حراء، فرققتها
__________
[1] البداية والنهاية 9/ 7، وخزانة البغدادي 4/ 117، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 3/ 248، والمعارف 121.
[2] في الأصل: «بياذوق» وفي ت: «تياذوق» وفي الأغاني: «يتاذوق» وما أوردناه عن الأغاني.
[3] في الأصل: «من غد دعاني» وما أوردناه من ت.
[4] في ت: «تحب أيها الأمير الآن أن أريك إمارة ما قلت» .
[5] «قال: نعم، قلت» : ساقط من ت.

(6/131)


حتى جعلتها مثل قشر البيض، ثم ثقبت فيها ثقبا وجعلت فيه خيط [1] إبريسم دقيق، ثم قلت: ازدردها أيها الأمير، فازدردها فتركتها في جوفه ساعة، ثم جذبتها بالخيط فأخرجتها فإذا هي مملوءة دودا، فقلت: أيها الأمير، ما بقاء جوف هذا فيه، فقال: يا يتاذوق، وأنّى أصابني هذا، فو الله لقد قدمت مصركم هذا فكتبت [2] نفسي من الحر والبرد، فقلت: أيها الأمير، منها أتيت، قدمت هذا المصر فكتبت نفسك في الشتاء باللبود [3] والنيران، فلم يصل إليك البرد، وكتبته في الصيف بثياب الكتان والماء والثلج فلم يصل إليك الحر فتفكك [4] جوفك، والأبدان لا تقوم إلا بالحر والبرد وإن أذاها.
قال: فو الله ما عاش بعد هذا الكلام إلا ثلاثة أيام حتى مات.
453- صفوان بن محرز المازني [5] :
كان من كبار العباد الصالحين. وأسند عن ابن عمر، وأبي موسى، وعمران بن حصين في آخرين.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا المعلى بن راشد، قال: أخبرنا جعفر، قال: أخبرنا المعلى بن زياد الفردوسي، قال:
كان لصفوان سرب يبكي فيه.
أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا علي بن محمد الخطيب، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين بْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر
__________
[1] في ت: «وجعلت فيه خيطا» .
[2] أي: تحزم وجمع عليه ثيابه.
[3] في ت: «في الشتاء بالبرد» .
[4] في ت: «فيغلي» .
[5] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 107، وطبقات خليفة 193، والتاريخ الكبير 4/ 2926، والمعارف 458، والجرح والتعديل 4/ 1853، وحلية الأولياء 2/ 213، وسير أعلام النبلاء 4/ 286، وتذكرة الحفاظ 1/ 60، وتاريخ الإسلام للذهبي 4/ 14.

(6/132)


القرشي، قال: حدثني شريح بن يونس، قال: حدثنا عثمان بن مطر، عن هشام بن حسان، عن الحسن، قال:
لقيت أقواما كانوا فيها أحل الله لهم أزهد منكم [فيما حرم الله عليكم] [1] ولقد لقيت أقواما كانوا من حسناتهم أشفق ألا تقبل منهم من سيئاتكم، ولقد صحبت أقواما كان أحدهم يأكل على الأرض وينام على الأرض، منهم صفوان بن محرز المازني، كان يقول: إذا آويت إلى أهلي وأصبت رغيفا أكلته، فجزى الله الدنيا عن أهلها خيرا، والله ما زاد على رغيف حتى فارق الدنيا، فيظل صائما ويفطر على رغيف ويشرب عليه من الماء حتى يتروى، ثم يقوم فيصلي حتى يصبح، فإذا صلى الفجر أخذ المصحف فوضعه في حجره يقرأ حتى يترجل النهار ثم يقوم فيصلي حتى ينتصف النهار، فإذا انتصف النهار رمى بنفسه على الأرض فنام إلى الظهر، وكانت تلك نومته حتى فارق الدنيا، وكان إذا صلى الظهر قام فصلى إلى العصر، فإذا صلى العصر وضع المصحف في حجره، فلا يزال يقرأ حتى تصفر الشمس.
454- عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن [2] :
أسلم بمكة مع أبيه وهو صغير قبل أن يبلغ، وهاجر مع أبيه، وشهد غزوة الخندق وما بعدها، وحضر يوم القادسية ويوم جلولاء [3] وما بينهما/ من وقائع الفرس.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عبد الله رجل صالح» [4] وقال جابر بن عبد الله [5] : ما أدركنا أحدا إلا وقد مالت به الدنيا إلا ابن عمر.
وقالت عائشة: ما رأيت أحدا ألزم للأمر الأول من ابن عمر.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 124، 4/ 1/ 105، وطبقات خليفة 22، 190، والتاريخ الكبير 5/ 4، وتاريخ واسط 77، 136، 180، والجرح والتعديل 5/ 492، وتاريخ بغداد 1/ 171، والاستيعاب 3/ 950، وأسد الغابة 3/ 227، وسير أعلام النبلاء 3/ 203، وتاريخ الإسلام 3/ 177، والإصابة 2/ 3834.
[3] في الأصل: «ويوم جلق» ، وما أوردناه من ت.
[4] الحديث عن حفصة، أخرجه أحمد في المسند 2/ 5، 146، والبخاري في صحيحه 2/ 61، 69، 74، 5/ 30، 31، 9/ 47، 51، ومسلم في صحيحه 7/ 158، 159، وأبو داود 3825، والترمذي 321.
[5] فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2/ 894، والإستيعاب لابن عبد البر 3/ 351.

(6/133)


وقال سعيد بن المسيب [1] : لو شهدت لأحد أنه من أهل الجنة لشهدت لعبد الله بن عمر.
وقال طاووس: ما رأيت رجلا أورع من ابن عمر، وكان يقول في سجوده: قد تعلم أنه ما يمنعني من مزاحمة قريش على هذه الدنيا إلا خوفك.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحُرَيْشِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
اجْتَمَعَ فِي الْحِجْرِ أَرْبَعَةٌ: مُصْعَبٌ، وَعُرْوَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بَنُو الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالُوا: تَمَنَّوْا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْخِلافَةَ، وَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى أَنْ يُؤْخَذَ عَنِّيَ الْعِلْمُ [2] . وَقَالَ مُصْعَبٌ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى إِمْرَةَ الْعِرَاقِ وَالْجَمْعَ بَيْنَ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ وَسُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَأَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ. قَالَ: فَنَالُوا مَا تَمَنَّوْا، وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ غُفِرَ لَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالا: أَخْبَرَنَا طَرَّادُ بْن مُحَمَّد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنِ صَفْوان، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قال: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَبًا، كُنَّا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعد ما فرغوا من حديثهم: ليقم رجل منكم فليأخذ بالركن اليماني وليسأل الله حاجته، فإنه يعطى سؤله، قم
__________
[1] تاريخ بغداد 1/ 172.
[2] في الأصل: «أن يؤخذ العلم عني» .

(6/134)


يا عبد/ الله بن الزبير فإنك أول مولد في الهجرة، فقام فأخذ بالركن اليماني، ثم قَالَ:
اللَّهمّ إِنَّكَ عَظِيمٌ تُرْجَى لِكُلِّ عَظِيمٍ أَسْأَلُكَ بِحُرْمَةِ وَجْهِكَ وَحُرْمَةِ عَرْشِكَ [وَحُرْمَةِ بَيْتِكَ] [1] وَحُرْمَةِ نَبِيِّكَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي الْحِجَازَ وَيُسَلَّمَ عَلَيَّ بِالْخِلافَةِ. وَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالُوا: قُمْ يَا مُصْعَبُ، فَقَامَ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، فَقَالَ:
اللَّهمّ إِنَّكَ رب كل شيء وإليك يصير كُلُّ شَيْءٍ، أَسْأَلُكَ بِقُدْرَتِكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِيَ الْعِرَاقَ وَتَزَوِّجَنِي سُكَيْنَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ، وَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالُوا: قُمْ يَا عَبْدَ الْمَلِكِ، فَقَامَ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، فَقَالَ: اللَّهمّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الأَرْضِ ذَاتِ النَّبْتِ بَعْدَ الْقَفْرِ أَسْأَلُكَ مَا سَأَلَكَ عِبَادُكَ الْمُطِيعِينَ لأَمْرِكَ، وَأَسْأَلُكَ بِحُرْمَةِ وَجْهِكَ، وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ عَلَى جَمِيعَ خَلْقِكَ، وَبِحَقِّ الطَّائِفِينَ حَوْلَ بَيْتِكَ أَلا تُمِيتُنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي شَرْقَ الأَرْضِ وَغَرْبَهَا، وَلا يُنَازِعَنِي أَحَدٌ إِلا أَتَيْتُ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى جَلَسَ، ثُمَّ قَالُوا: قُمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بن عمر، فقام حتى أخذ بالركن اليماني ثم قال: اللَّهمّ إنك رحمان رَحِيمٌ، أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَكَ، وَأَسْأَلُكَ بِقُدْرَتِكَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِكَ أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوجِبَ لِيَ الْجَنَّةَ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَمَا ذَهَبَتْ عَيْنَايَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى رَأَيْتُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ أُعْطِيَ مَا سَأَلَ، وَبُشِّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِالْجَنَّةِ، وَرَأَيْتُ لَهُ.
أَخْبَرَنَا ابْنُ حَبِيبٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِي بْن الْفَضْلِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ حَيْوَيَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خُرَيْمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حِمَاسٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ [2] ، قَالَ:
خَطَرَتْ هَذِهِ الآيَةُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ 3: 92 [3] فَذَكَرْتُ مَا أَعْطَانِي فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ جَارِيَتِي رُمَيْثَةَ، فَقُلْتُ: هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَلَوْلا أَنِّي لا أَعُودُ فِي شيء جعلته للَّه نكحتها، فأنكحها نافعا، فهي أم ولده.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «محمد بن حماس بن حمزة بن عبد الله بن عمير، عن عبد الله بن عمر» .
[3] سورة: آل عمران، الآية: 92.

(6/135)


أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا حمد/ بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله الأَصْفَهَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق، قال:
حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ:
كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَدَّ عَجَبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ قَرَّبَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ نافع: كان رقيقه قد عَرَفُوا ذَلِكَ مِنْهُ، فَرُبَّمَا شَمَّرَ أَحَدُهُمْ فَيَلْزَمُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَآهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ أَعْتَقَهُ، فَيَقُولُ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّهِ مَا بِهِمْ إِلا أَنْ يَخْدَعُوكَ، فَيَقُولُ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ خَدَعَنَا باللَّه انْخَدَعْنَا لَهُ.
قَالَ نَافِعٌ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ذَاتَ عَشِيَّةٍ وَرَاحَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى نَجِيبٍ لَهُ قَدْ أَخَذَهُ بِمَالٍ، فَلَمَّا أَعْجَبَهُ مَسِيرُهُ أَنَاخَهُ مَكَانَهُ ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا نَافِعُ، انْزَعُوا زِمَامَهُ وَرَحْلَهُ وَحَلِّلُوهَ وَأَشْعِرُوهَ وَأَدْخِلُوهُ فِي الْبُدْنِ. قَالَ نَافِعٌ: مَا مَاتَ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى أَعْتَقَ أَلْفَ إِنْسَانٍ [1] ، وَمَا زَادَ. وَكَانَ يُحْيِي الليل صَلاةً، فَإِذَا جَاءَ السَّحَرُ اسْتَغَفَرَ إِلَى الصَّبَاحِ، وَكَانَ يُحْيِي مَا بَيْنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ. وَكَانَ الْبِرّ لا يُعْرَفُ فِي عُمَرَ وَلا ابْنِ عُمَرَ حَتَّى يَقُولا أَوْ يَعْمَلا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ [2] : أَخْبَرَنَا الْوَاقِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
كَانَ زَجُّ رُمْحِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَجَّاجِ قَدْ أَصَابَ رِجْلَ ابْنِ عُمَرَ، فَانْدَمَلَ الْجُرْحُ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ انْتَقَضَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَدَخَلَ الْحَجَّاجُ يَعُودُهُ، فَقَالَ: مَنْ أَصَابَكَ؟ قَالَ: أَنْتَ قَتَلْتَنِي، قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: حَمَلْتَ السِّلاحَ فِي حَرَمِ اللَّهِ فَأَصَابَنِي بَعْضُ أَصْحَابِكَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَلا يُدْفَنَ فِي الْحَرَمِ، فَغُلِبَ فَدُفِنَ فِي الْحَرَمِ وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَجَّاجُ.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الخطيب، قَالَ: أَخْبَرَنَا [محمد بن أحمد] [3] بن
__________
[1] في الأصل: «ألف عبدا» . وما أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 138. وفي الأصل: «قال ابن سعيد» .
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.

(6/136)


رِزْقٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ [1] .
وكذلك قال أبو الفضل بن دكين وابن بكير.
وقيل: إنه مات في سنة أربع وسبعين.
وعن سعيد بن عفير/ قال: في سنة أربع [وسبعين] [2] مات عبد الله بن عمر بمكة، فدفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين وقيل: إنه دفن بفج وهو ابن أربع وثمانين.
قال مؤلف الكتاب رحمه [3] الله: وفي مقدار عمره قول آخر:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ [بْنُ مُحَمَّدِ] الْقَزَّازِ، [قَالَ: أخبرنا الخطيب [4]] بإسناده عن مالك، قال:
بلغ عبد الله بن عمر من السن تسعا وثمانين سنة.
455- عبد الله بن الزبير بن العوام، أبو بكر [5] :
أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهو أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بعد الهجرة.
ولد بقباء على رأس عشرين شهرا من الهجرة، وحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة، وأذن أبو بكر في أذنه. ولم يزل مقيما بالمدينة إلى أن توفي معاوية، فبعث يزيد إلى الوليد بن عتبة يأمره بالبيعة، فخرج ابن الزبير إلى مكة، وجعل يحرض الناس على بني أمية،
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 173.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «قال المصنف» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] حلية الأولياء 1/ 329، وصفة الصفوة 1/ 322، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 7/ 396، والتاريخ الكبير للبخاريّ 5/ 9، وتاريخ واسط 51، 81، 85، والجرح والتعديل 5/ 261، والاستيعاب 3/ 305، وأسد الغابة 3/ 161، وسير أعلام النبلاء 3/ 363، وتاريخ الإسلام 3/ 167، والإصابة 2/ 4682، والأغاني 4/ 215.

(6/137)


فوجد عليه يزيد إلا أنه مشى ابن الزبير إلى يحيى بن الحكم والي مكة، فبايعه ليزيد، فقال يزيد: لا أقبل حتى يؤتى به في وثاق، فأبى ابن الزبير، وقال: اللَّهمّ إني عائذ ببيتك، وجرت حروب، وحوصر ابن الزبير، ثم مات يزيد، فدعى إلى نفسه، وسمي أمير المؤمنين، وولى العمال، واستوثقت له البلاد ما خلا طائفة من الشام فإنهم بايعوا مروان.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ صَارَعَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَصَرَعَ عَبْدَ الْمَلِكِ، وَسَمَرَهُ فِي الأَرْضِ بِأَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ، فَأَرْسَلَ رَاكِبًا إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْقَى ابْنَ سِيرِينَ ويقص الرؤيا عَلَيْهِ وَلا يَذكر لَهُ مَنْ أَنْفَذَهُ، وَلا يُسَمِّيَ عَبْدَ الْمَلِكِ، فَسَارَ الرَّاكِبُ حَتَّى أَنَاخَ بِبَابِ ابْنِ سِيرِينَ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْمَنَامَ، فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: مَنْ رَأَى هَذَا؟ قَالَ: أَنَا رَأَيْتُهُ فِي رُجَلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنِي عَدَاوَةٌ، قَالَ: لَيْسَ هَذِهِ رُؤْيَاكَ، هَذَهِ رُؤْيَا ابْنِ الزُّبَيْرِ أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَحَدُهُمَا فِي الآخَرِ، فَسَأَلَهُ الْجَوَابَ، فَقَالَ: مَا أُفَسِّرُهَا أَوْ تَصْدُقَنِي فَلَمْ يَصْدُقْهُ، فَامْتَنَعَ مِنَ التَّفْسِيرِ، فَانْصَرَف الرَّاكِبُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ// فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى، فَقَالَ: ارْجِعْ وَاصْدُقْهُ أَنِّي رَأَيْتُهَا فِي عَبْدِ الْمَلِكِ، فَرَجَعَ الراكب إِلَى ابْنِ سِيرِينَ بِرِسَالَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَصَدَّقَهُ فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَبْدُ الْمَلِكِ يَغْلِبُكَ عَلَى الأَرْضِ، وَيَلِي هَذَا الأَمْرَ مِنْ وَلَدِهِ لِظَهْرِهِ أَرْبَعَةٌ بِعَدَدِ الأَوْتَادِ التي سمرتها فِي الأَرْضِ.
فَلَمَّا مَاتَ مَرْوَانُ وَلِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَأَقْبَلَ فَقَتَلَ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَبَعَثَ الْحَجَّاجَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَحَصَرَهُ وَجَرَى لَهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
قال علماء السير: قتل ابن الزبير يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأول، وصلبه الحجاج على الثنية التي بالحجون، ثم أنزله فرماه في مقابر اليهود، وكتب إلى عبد الملك يخبره، فكتب إليه يلومه، ويقول: ألا خليت أمه تواريه، فأذن لها فوارته.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَعَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَوْفَلُ بْنُ أَبِي عَقْرَبٍ:

(6/138)


أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ صَلَبَهُ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِهِ ابْنُ عُمَرَ، فوقف فقال: السلم عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ عَدُوِّ اللَّهِ [1] ، أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أنك [كُنْتَ] [2] صَوَّامًا قَوَّامًا، ثُمَّ اسْتَنْزَلَهُ الْحَجَّاجُ فَرَمَى بِهِ فِي مَقَابِرِ الْيَهِودِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى أُمِّهِ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهَا أَنْ تَأْتِيَهُ، فَأَبَتْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا: لَتَأْتِيَنِّي أَوْ لأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ حَتَّى يَأْتِيَنِي بِكِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: إِنِّي وَاللَّهِ لا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ من يسحبني بقروني، فأتاه رسوله فأخبره، فقال: يا غلام، ناولني سبتيتي [3] ، فَنَاوَلَهُ نَعْلَيْهِ فَانْتَعَلَ ثُمَّ خَرَجَ يَتَوَذَّفُ [4] حَتَّى أَتَاهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ؟ قَالَتْ:
رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُعَيِّرُهُ فَتَقُولُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ والله ذات النِّطَاقَيْنِ/ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لا تستغني عنه، وأما النطاق الآخر فإنّي كنت أَرْفَعُ فِيهِ طَعَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَامَ أَبِي مِنَ النَّمْلِ وَغَيْرِهِ، فأي ذلك ويل أمك عيّرته به، أما إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفَ رَجُلانِ: كذاب، ومبير» . فأما الكذاب فقد رَأَيْنَاهُ ابْنَ أَبِي عُبَيْدٍ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَأَنْتَ ذَلِكَ، فَوَثَبَ فَانْصَرَفَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا.
أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ [4] الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَعْلَجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: [5] دَخَلَتْ عَلَيَّ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبْيَرِ، فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّهُمْ عَلَّقُوا عَبْدَ اللَّهِ مُنَكَّسًا، وَعَلَّقُوا مَعَهُ هِرَّةً، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لا أَمُوتُ حَتَّى يُدْفَعَ إِلَيَّ فَأُغَسِّلُهُ وَأُكَفِّنُهُ وَأُحَنِّطُهُ ثُمَّ أَدْفِنُهُ، فَمَا لَبِثَتْ حَتَّى جَاءَ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ أسماء فغسلته وكفنته وحنطته ثم دفنته.
__________
[1] في ت: «نهيتك عن هذا» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] السّبت: كل جلد مدبوغ، ويقال: نعال سبتية: لا شعر عليها.
[4] الوذف والوذفان: مشية فيها اهتزاز وتبختر، والتوذف: الإسراع.
[5] في ت: «أحمد بن الحسن» .

(6/139)


وَعَنْ أَيُّوبَ فَأَحْسَبُهُ [1] قَالَ: فَمَا عَاشَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى مَاتَتْ.
قال إبراهيم الحربي: قتل الحجاج ابن الزبير وقطعه قطعا، فغسلته أسماء أمه- وكانت مكفوفة- فكانت تغسله قطعة قطعة، ويوضع في الأكفان.
أَخْبَرَنَا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ سَعْدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ، عَنْ أُمِّهِ، قَالَتْ:
دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْمَسْجِدَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ قُتِلَ وَصُلِبَ، فَقِيلَ لَهُ: هَذِهِ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ فِي/ الْمَسْجِدِ فَمَالَ إِلَيْهَا وَقَالَ: اصْبِرِي فَإِنَّ هَذِهِ الْجُثَثَ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا الأَرْوَاحُ عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَتْ: وَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ الصَّبْرِ وَقَدْ أُهْدِيَ رَأْسُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا إِلَى بَغِيٍّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ.
أَخْبَرَنا عَبْدُ الْحَقِّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بكر ابن بشران، قال: حدثنا الدار الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رِيَاحٌ النُّوبِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ تَقُولُ لِلْحَجَّاجِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فَدَفَعَ دَمَهُ إِلَى ابْنِي فَشَرِبَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: كَرِهْتُ أَنْ أَصُبَّ دَمَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُمْسِكِ النَّارَ» وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: «وَيْلُ النَّاسِ مِنْكَ وَوَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ» . أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عبد الله الزغواني، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْن عَلِيِّ بْن الْمَأْمُونِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّه بْن مُحَمَّد بْن [حبابة، قال: أخبرنا يحيى بن
__________
[1] كذا في الأصول.

(6/140)


أَحْمَدَ بْنِ] [1] صَاعِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلاءِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، قَالَ:
أَوْصَى إِلَى الزُّبَيْرِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ سَبْعَةٌ، فَكَانَ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ، وَيَحْبِسُ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ، وَالْمِقْدَادُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. قَالَ: وَأَوْصَى إِلَى عبد الله بن الزبير عائشة وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَقَالَ: اعْتَدَّ بِمَكْرُمَتَيْنِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِمَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَوْصَتْ لَهُ عَائِشَةُ بِحُجْرَتِهَا وَاشْتَرَى حُجْرَةَ سَوْدَةَ، فَصَارَتْ لَهُ حُجْرَتَانِ مِنْ حُجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/141)


ثم دخلت سنة أربع وسبعين
فمن الحوادث فيها أن عبد الملك عزل طارق بن عمرو عن المدينة واستعمل عليها الحجاج بن يوسف [1] :
فانصرف الحجاج إلى المدينة واليا عليها في صفر، فأقام بها ثلاثة/ أشهر يعبث بأهلها ويتعنتهم ويقول: قتلتم أمير المؤمنين، وبنى بها مسجدا في بني سلمة، فهو ينسب إليه. واستخف فيها بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فختم في أعناقهم.
ودعا سهل بن سعد، فقال: ما منعك أن تنصر عثمان؟ قال: قد فعلت. قال:
كذبت، ثم، أمر به فختم في عنقه برصاص. وختم في عنق أنس بن مالك، وكلمه بالقبيح.
فلما جاءه كتاب عبد الملك بولاية العراقين أعطى البشير ثلاثة آلاف دينار وهو يقول: الحمد للَّه الذي أخرجني منها.
وفي هذه السنة استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني.
وفيها: نقض الحجاج [2] بنيان الكعبة الذي كان بناه ابن الزبير، وأخرج الحجر منها وأعادها إلى بنيانها الأول.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 195، والبداية والنهاية 9/ 3.
[2] تاريخ الطبري 6/ 195، والبداية والنهاية 9/ 4.

(6/142)


وفيها ولى عبد الملك المهلب لحرب الأزارقة [1] .
وذلك أنه لما صار بشر إلى البصرة كتب إليه عبد الملك: أما بعد: فابعث المهلب بن أبي صفرة في أهل مصر إلى الأزارقة، ولينتخب من أهل مصر ووجوههم وفرسانهم، فإنه أعرف بهم، وخله ورأيه في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين، وابعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا شريفا، ثم انهض بأهل المصرين واتبعوهم أي وجه توجهوا.
ففعل ذلك، فلما تراءى العسكران برامهرمز لم يلبث الناس إلا عشرا حتى أتاهم نعي بشر، وتوفي بالبصرة.
وقد ذكرنا في رواية: أن بشرا توفي في السنة التي قبلها.
وفي هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح، وولى أمية بن خالد بن أسد.
وفيها: حج بالناس الحجاج وهو على مكة والمدينة، وكان ولى قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مخرمة، وكان على الكوفة والبصرة بشر بن مروان، هذا في رواية.
وقد ذكرنا أنه توفي في السنة التي قبلها.
وكان على خراسان أمية بن عبد الله/ بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
456- رافع بن خديج بن رافع بن عدي بن زيد، أبو عبد الله [2] :
شهد أحدا والمشاهد بعدها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورمي بسهم في ثندوته [3] يوم أحد،
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 195.
[2] طبقات خليفة 79، والتاريخ الكبير 3/ 1024، والمعارف 306، والجرح والتعديل 3/ 2150، والاستيعاب 2/ 479، وأسد الغابة 2/ 150، وتاريخ الإسلام 3/ 153، وسير أعلام النبلاء 3/ 181، وشذرات الذهب 1/ 1994، والبداية والنهاية 9/ 4.
[3] ويروى: «ترقوته» والثندوة: لحم الثدي، وقال ابن السكيت: هي الثندوة للحم الّذي حول الثدي. وقال غيره: الثندوة للرجل، والثدي للمرأة.

(6/143)


فأتى رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: أنزع السهم، فقال: «إن شئت نزعت السهم، والقطبة جميعا، وإن شئت نزعت السهم وتركت القطبة، وشهدت لك يوم القيامة أنك شهيد» . قال:
انزع القطبة واشهد لي. ففعل [1] ، فانتقض عليه في أول هذه السنة، فمات منه بالمدينة وهو ابن ست وثمانين سنة.
457- سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الله بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج، أبو سعيد الخدري [2] :
كان من أفاضل الأنصار، استصغر يوم أحد، فرد ثم خرج فيمن يتلقى رَسُول اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ حين رجع من أحد، فنظر إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «سعد بن مالك» .
قال: قلت: نعم بأبي وأمي، ودنوت منه فقبلت ركبته، فقال: «آجرك الله في أبيك» . وكان قتل يومئذ شهيدا.
ثم شهد أبو سعيد الخدري الخندق وما بعدها، وورد المدائن مع علي بن أبي طالب لما حارب الخوارج بالنهروان. وروى عنه من الصحابة: جابر بن عبد الله، و [عبد الله] [3] بن عباس.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ [4] ، قال: أخبرنا أبو بكر [أحمد بن علي] [5] قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ السَّبَخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أبي سفيان، عن أشياخه، قال:
__________
[1] الحديث في مسند أحمد 6/ 378، والمعجم الكبير للطبراني 4242.
[2] طبقات خليفة 96، والتاريخ الكبير 4/ 1910، والجرح والتعديل 4/ 406، وحلية الأولياء 1/ 369، وتاريخ بغداد 1/ 180، والاستيعاب 2/ 602، 4/ 1671، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 6/ 110، وتاريخ الإسلام 3/ 220، وسير أعلام النبلاء 3/ 68، وتذكرة الحفاظ، ومرآة الجنان 1/ 155.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «الجزاز» خطأ. والتصحيح من ت.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/144)


لَمْ يَكُنْ [1] أَحَدٌ مِنْ أَحْدَاثِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ مِنْ أَبِي/ سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
قَالَ أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى: مَاتَ أَبُو سَعِيدٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ.
458- سلمة الأكوع، واسم الأكوع سنان بن عبد الله بن قشير: [2]
غزا مع رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ سبع غزوات، وشهد الحديبية، وبايعه تحت الشجرة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فغزا معه سبع غزوات، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فغزا معه فقتل سبعة [أهل] [3] أبيات:
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ [4] :
خَرَجْتُ أُرِيدُ الْغَابَةَ فَلَقِيتُ غُلامًا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
أَخَذْتُ لِقَاحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطْفَانُ. قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَنَادَيْتُ: يَا صَبَاحَاهُ يَا صَبَاحَاهُ حَتَّى أَسْمَعْتُ مَنْ بَيْنَ لابَتَيْهَا. ثُمَّ مَضَيْتُ فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ.
قَالَ: وَجَاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في النَّاسِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، أَعْجَلْنَاهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا لِشِفَتِهِمْ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ الأَكْوَعِ، مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ، إِنَّهُمُ الآنَ فِي غَطْفَانَ يُقْرَوْنَ» . قَالَ: وَأَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم [خلفه] [5] .
__________
[1] «يكن» : ساقطة من ت.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 38، طبقات خليفة 111، والتاريخ الكبير 4/ 1987، والمعارف 323، والجرح والتعديل 4/ 729، والاستيعاب 2/ 639، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 6/ 232، أسد الغابة 2/ 333، وتاريخ الإسلام 3/ 158، وسير أعلام النبلاء 3/ 326، والإصابة 2/ 3389.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ابن سعد.
[4] الخبر في طبقات ابن سعد 4/ 2/ 38، 39.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/145)


قَالَ ابْنُ سَعْدٍ [1] : وَأَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِّيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَدْوِ فَأَذِنَ لَهُ.
قَالَ [2] : وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الْعَزِيزِ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ:
تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً.
459- عمرو بن ميمون الأودي [3] :
روى عن عمر، وعلي [4] ، وابن مسعود، ومعاذ، وأبي أيوب، وأبي مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس.
وكان من الصالحين إذ أري [5] ذكر الله عز وجل، وحج ستين حجة.
460- محمد/ بن حاطب بن الحارث، أبو القاسم الجمحي [6] :
وهو أول من سمي في الإسلام بمحمد بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولد في السفينة حين ذهبوا إلى النجاشي، ومسح رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم علي رأسه وتفل في فيه ودعا له بالبركة.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي بمكة في هذه السنة [7] .
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 39.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 41.
[3] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 80، وتهذيب التهذيب 8/ 109.
[4] لم تذكر المراجع أنه روى عن علي، بل أورده ابن سعد ضمن الطبقة التي لم ترو عن علي.
[5] كذا في الأصلين، وفي ابن سعد والتهذيب: «إذ رئي» .
[6] الإصابة 7767، وشذرات الذهب 1/ 882.
[7] في نسخة ترخانة (ت) : «تم المجلد الثامن، والثلث الأول، بسم الله الرحمن الرحيم» .

(6/146)


ثم دخلت سنة خمس وسبعين
فمن الحوادث فيها ضرب عبد الملك الدنانير والدراهم [1]
وقد روينا أن أول من ضرب الدراهم آدم عليه السلام.
وقد وجدوا دراهم ضرب عليها اسم أردشير بن بابك قبل الإسلام بأكثر من أربعمائة سنة، فضربها عبد الملك ونقش عليها. وكانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطا إلا حبة بالشامي، وكانت العشرة وزن سبعة.
وقيل: ضربها سنة ست وسبعين.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الملك، قَالَ: أَنْبَأَنَا محمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا أبو الحسين بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنِ الصواف، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثني هارون بن محمد، قال: حدثنا زبير [2] ، عن عبد الرحمن بن المغيرة الجزامي، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه [3] :
أن عبد الملك أول من ضرب الدنانير والدراهم في سنة خمس وسبعين.
وقال وكيع: وأخبرني محمد بن الهيثم، قال: سمعت ابن بكير يقول: سمعت مالك بن أنس يقول:
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 256.
[2] في ت: «عن زبير» .
[3] تاريخ الطبري 6/ 256.

(6/147)


أول من ضرب الدنانير عبد الملك، وكتب عليها القرآن.
قال وكيع: وأخبرني ابن أبي خيثمة، عن مصعب بن عبد الله، قال: وكان وزن الدراهم والدنانير في الجاهلية وزنها اليوم في الإسلام مرتين تدور بين العرب، وكان ما ضرب منها ممسوحا غليظا قصيرا، وليس فيها كتاب حتى كتبها عبد الملك، فجعل في وجه: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ، 112: 1 وفي الوجه الآخر: لا إله إلا/ الله. وطوقها بطوق فضة وكتب فيه: ضرب هذا الدرهم بمدينة كذا، وفي الطرف الآخر: محمد رسول الله أرسله ... بِالْهُدى [وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] 9: 33 [1] .
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد الله البقال، قال: حدثنا أَبُو الحسين بْن بشران، قَالَ: أَخْبَرَنَا عثمان بن أحمد الدقاق، قال: حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: حدثنا هارون بن معروف، قال: حدثنا سفيان، قال: قال أبو سعد:
الحجاج أول من ضرب الدراهم البيض، وكتب فيها: «قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ» 112: 1. قال:
فقالوا: قاتله الله، أي شيء [هذا] يحمل الناس على أن يأخذه الجنب والحائض.
قال هارون: وقال سفيان: أول من ضرب الدراهم السود زياد، وأول من ضرب الدنانير عبد الملك بن مروان.
قال إبراهيم النخعي: جعل عمر بن الخطاب وزن عشرة دراهم ستة دنانير، فلما ولي زياد جعل وزن عشرة سبعة.
روى أبو القاسم بن زنجي الكاتب، قال: سمعت وكيعا يقول: كان القبط يكتبون على القراطيس: بسم الأب والابن وروح القدس، وكذلك على الدراهم، فوقف على ذلك عبد الملك بن مروان فأمر بتغييرها، وأن يكتب عليها من القرآن وغيره. وأدخلت بلاد الروم على حسب ما كانت تدخل، فلما رأى ملك الروم النقش مخالفا لما كان عليه سأل عنه، فترجم له، فأنكر وأهدى إلى عبد الملك هدية وكتب إليه يسأله أن يجري الأمر في القراطيس على ما كان عليه، فرد الهدية، وأبى ذلك، فبعث إليه ملك الروم
__________
[1] سورة الصف، سورة: 9.
وما بين المعقوفتين: في ت: «ومكانها في الأصل: «الآية» .

(6/148)


يتوعده، فقطع الدنانير عن بلده، فبعث إليه إن تعامل بها المسلمون بعد هذا فافعل، وضرب الدنانير عبد الملك، فأما الدراهم فإنها كانت ثلاثة أصناف: الوافية، وهي النعلية، وزن الواحد مثقال. والصنف الآخر الجزية، وزن الواحد نصف مثقال، وكان يتعامل بها في المشرق. والصنف الثالث الطبرية، وزن العشرة منها ستة مثاقيل، فجمع عبد الملك الثلاثة أصناف عشرة عشرة، فصارت ثلاثين درهما عددا، وزنها واحد/ وعشرون مثقالا، فصير السبعة عشرة.
ومن الحوادث غزوة محمد بن مروان الصائفة حين خرجت الروم.
[ولاية الحجاج الكوفة وخطبته في أهلها] [1] .
وفيها: ولى عبد الملك يحيى بن الحكم بن أبي العاص المدينة، وولى الحجاج بن يوسف العراق دون خراسان وسجستان. فقدم الحجاج الكوفة بعد وفاة بشر بن مروان في اثني عشر راكبا [على النجائب] [2] حتى دخل الكوفة، فجأة، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الحرورية فبدأ الحجاج بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز حمراء، فلما اجتمع الناس هموا به [فكشف عن وجهه] [3] وقال [4] :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
قال مؤلف الكتاب: قد رويت لنا هذه الحالة مختلفة ونحن نذكرها بطرقها.
أخبرنا ابن المبارك الأنماطي، قال: أخبرنا أبو الحسين، ابن عبد الجبار الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن الحسن النصيبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد بْن سويد.
وأنبأنا علي بن عبيد الله، عن عبد الصمد بن المأمون، عن إسماعيل بن سعيد،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] من قصيدة لسحيم بن وثيل الرياحي، رواها الأصمعي في الأصمعيات 73.

(6/149)


قال: أخبرنا أبو بكر الأنباري، قَالَ: حَدَّثَني أبي، قَالَ: حدثنا أحمد بن عبيد الله، قال:
حدثنا محمد بن يزيد بن ريان الكلبي، عن عبد الملك بن عمير، قال:
لما اشتدت شوكة أهل العراق وطال وثوبهم بالولاة يحصبونهم ويقصرون بهم أمر عبد الملك، فنادى الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم ثم قال: أيها الناس، إن العراق قد علا لهيبها، وسطع وميضها، وعظم الخطب فيها، فجمرها ذكي وشهابها وري [1] ، فهل من رجل ينتدب لهم ذي سلاح عتيد، وقلب شديد، فيخمد نيرانها، ويبيد شبانها، فسكت الناس، فوثب الحجاج بن يوسف، وقال: أنا يا أمير المؤمنين، قال: ومن أنت؟ قال: الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعظيم القريتين، قال له: اجلس فلست هناك، ثم/ أطرق عبد الملك مليا، ثم رفع رأسه، وقال: من للعراق؟ فسكت الناس، فوثب الحجاج وقال: أنا يا أمير المؤمنين، قال: ومن أين أنت؟ قال: من قوم رغبت في مناكحتهم قريش ولم يقيت منهم، وإعادة الكلام مما ينسب صاحبه إلى العي، ولولا ذلك لأعدت الكلام الأول، فقال له: اجلس فلست هناك. ثم أطرق عبد الملك مليا ورفع رأسه وقال: من لأهل العراق؟ فسكت الناس، فقال: ما لي أرى الليوث قد أطرقت، ولا أرى أسدا يزأر نحو فريسته، فسكت الناس، فوثب الحجاج فقال: أنا للعراق، يا أمير المؤمنين، قال: وما الذي أعددت لأهل العراق؟
قال: ألبس لهم جلد النمر، ثم أخوض الغمرات، وأقتحم الهلكات، فمن نازعني طلبته، ومن لحقته قتلته بعجلة وريث، وتبسم وازورار، وطلاقة واكفهرار، ورفق وجفاء، وصلة وحرمان، فإن استقاموا كنت لهم وليا حفيا، وإن خالفوا لم أبق منهم أحدا، فهذا ما أعددت لهم يا أمير المؤمنين، ولا عليك أن تجربني، فإن كنت للطلى قطاعا وللأرواح نزاعا، وللأموال جماعا، وإلا فاستبدل بي فإن الرجال كثير.
فقال عبد الملك: أنت لها، ثم التفت إلى كاتبه، وقال: اكتب عهده، ولا تؤخره، واعطه من الرجال والكراع والأموال ما سأل.
__________
[1] ورت النار: اتقدت.

(6/150)


قال عبد الملك بن عمير: فبينا نحن جلوس في المسجد الأعظم بالكوفة إذ أتانا آت فقال: هذا الحجاج بن يوسف [وقد قام] [1] أميرا على العراق، فاشرأب الناس نحوه، وأفرجوا له إفراجة عن صحن المسجد، فإذا نحن به يتنهنس في مشيته عليه عمامة حمراء متلثما بها متنكبا قوسا عربيا يؤم المنبر فما زلت أرمقه ببصري حتى صعد المنبر فجلس عليه وما تحدر اللثام عن وجهه، وأهل الكوفة يومئذ لهم حال حسنة وهيئة جميلة، وعز ومنعة، يدخل الرجل منهم المسجد معه عشرة أو عشرون رجلا من مواليه وأتباعه/ عليهم الخزوز والقوهية، وفي المسجد رجل يقال له عمير بن ضابىء البرجمي، فقال لمحمد بن عطارد التميمي: هل لك أن أحصبه لك، قال: لا حتى نسمع كلامه، فقال: لعن الله بني أمية حيث يستعملون علينا مثل هذا، ولقد ضيع العراق حيث يكون مثل هذا أميرا عليه، والله لو أن هذا كله كلام ما كان شيئا.
والحجاج ينظر يمنة ويسرة، حتى إذا غص المسجد بالناس، قال: يا أهل العراق، إني لأعرف قدر اجتماعكم، هل اجتمعتم؟ فقال رجل: قد اجتمعنا أصلحك الله، فسكت هنيهة لا يتكلم. فقال الناس: ما يمنعه من الكلام إلا العي والحصر [2] ، فقام الحجاج فحسر لثامه، وقال: يا أهل العراق، أنا الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود، ثم قال: [2]
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا [3] ... متى أضع العمامة تعرفوني
صليت العود من سلفي نزار ... لنصل السيف وضاح الجبين
وماذا يبتغي الشعراء مني ... وقد جاوزت رأس الأربعين
أخو خمسين مجتمع لشدي ... ونجدة في مداومة الشؤون
وأني لا يعود إلي قرني ... غداة العين إلا أي حين
قال أبو بكر: قال أبي: والشعر لسحيم بن وثيل الرياحي، تمثل به الحجاج- والله
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] الحصر: ضرب من العيّ، وقيل: حصر لم يقدر على الكلام.
[3] في ت: «الثلايا» .

(6/151)


يا أهل العراق إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم
[وقال] :
قد لفها الليل بعصلبي ... وشمرت عن ساق سمري
أروع خراج من الدوي ... مهاجر ليس بأعرابي/
ما علتي وأنا شيخ رود ... والنفوس فيها وتر على عود [1]
مثل ذراع البكر أو أشد ... وتروى مثل حران العود [2]
والله يا أهل العراق ما يغمز [3] جانبي كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان ولقد فرزت [4] عن ذكاء وفتشت عن تجربة، وأجريت من الغاية، وإن أمير المؤمنين نثر كنانته [5] فعجم عيدانها عودا عودا، فوجدني أمرها عودا [6] ، وأشدها مكسرا [7] ، فوجهني إليكم، فرماكم بي.
يا أهل الكوفة، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوىء الأخلاق، فإنكم طالما أوضعتم في أودية الفتنة، اضطجعتم في منام الضلال، وسننتم سنن الغي، وأيم الله لألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غريبة الإبل، إني والله لا أحلف إلا بررت، ولا أعد إلا وفيت، وإياي وهذه الزرافات والجماعات، وقال وما يقول، وكان وما يكون وما أنتم وذاك.
يا أهل العراق، إنما أنتم أهلي قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً [مِنْ كُلِّ 16: 112
__________
[1] في الأصل: «والقوس فيها وتر عود» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «حران العدد» .
[3] في المسعودي والطبري: «ما أغمز» .
[4] في الأصل: «ولقد فرغت» وما أوردناه من ت والمسعودي.
[5] في الأصل: «نثل» وما أوردناه من ت، والطبري.
[6] في المسعودي: «أمرها طعما» .
[7] في الطبري: «أصلبها مكسرا» . وفي المسعودي: «أشدها مكسرا» .

(6/152)


مَكانٍ] فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ 16: 112 [1] فأتاها وعيد القرآن من ربها، فاستوثقوا واعتدلوا ولا تميلوا، واسمعوا وأطيعوا وتتابعوا وبايعوا [2] ، واعلموا أنه ليس مني الإكثار، لا الفرار ولا النقار، وإنما [هو] [3] انتضاء هذا السيف، ثم لا يغمد [في] الشتاء [ولا] الصيف حتى يدل [4] الله لأمير المؤمنين عزكم، ويقيم له أودكم وصفوكم [5] ، ثم أني وجدت الصدق من البر، ووجدت البر من الجنة، ووجدت الكذب من الفجور، ووجدت الفجور في النار، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وإشخاصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين، وقد أمرتكم بذلك وأجلتكم ثلاثا [6] ، وأعطيت الله عهدا يؤاخذني به ويستوفيه مني، لئن تخلف رجل منكم بعد قبض عطائه لأضربن عنقه، / ولأنتهبن ماله، ثم التفت إلى أهل الشام، فقال: يا أهل الشام، أنتم الجند والبطانة والعشيرة، والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأذفر، إنما أنتم كما قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها في السَّماءِ 14: 24 [7] .
ثم أقبل على أهل العراق، فقال: يا أهل العراق، لريحكم أنتن من ريح الأبخر [8] ، وإنما أنتم كما قال الله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها من قَرارٍ 14: 26 [9] .
اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام، فقال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى من بالعراق، [من المؤمنين
__________
[1] الآية الكريمة 112 من سورة النحل ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «وتبايعوا» ، وفي المسعودي: «وشايعوا» .
[3] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل، وت.
[4] في المسعودي: «حتى يقيم الله» .
[5] في الأصل: «صغركم» ، وفي المسعودي: «صعبكم» .
[6] في المسعودي: «أجلت لكم» .
[7] سورة: إبراهيم. الآية: 24.
[8] البخر: النتن يكون في الفم وغيره، وهو أبخر وهي بخراء.
[9] سورة: إبراهيم، الآية: 26.

(6/153)


والمسلمين] [1] ، سلام عليكم، فإنّي أحمد الله عليكم الذي لا إله إلا هو.
فسكتوا، فقال الحجاج من فوق المنبر: اسكت يا غلام، فسكت القارئ، فقال: يا أهل الشقاق، و [يا أهل] [2] النفاق، ومساوىء الأخلاق، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون عليه السلام، هذا أدب ابن أبيه [3] .
قال مؤلف الكتاب [4] : كذا في هذه الرواية، والصواب ابن أذينة [5] . وتأتي في طريق آخر.
والله لئن بقيت لكم لأؤدبنكم أدبا سوى أدبه، وليستقيمن [6] لي أو لأجعلن لكل أمرئ منكم في جسده شغلا، اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام، فقال القارئ:
بسم الله الرحمن الرحيم، فلما بلغ موضع السلام صاحوا: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.
ثم نزل فدخل دار الإمارة وحجب الناس ثلاثة أيام، وأذن لهم في اليوم الرابع، فدخل عمير بن ضابىء، فقال: أصلح الله الأمير، إني شيخ كبير وقد خرج اسمي في هذا البعث، ولي ابن هو على الحرب والأسفار أقوى مني وأشجع عند اللقاء، فإن رأى الأمير أن يجعله مكاني فعل، فقال: انصرف أيها الشيخ راشدا، وابعث ابنك بديلا، فلما ولى قال له عنبسة بن سعيد بن العاص: أيها الأمير، أتعرف هذا؟ قال: لا والله، قال: هذا عمير بن ضابىء الذي أراد أبوه [7] أن يفتك بأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فلم/ يزل محبوسا في حبسه حتى أصابته الدبيلة، فمات. ثم جاء هذا فوطئ أمير المؤمنين عثمان وهو مقتول فكسر ضلعا من أضلاعه، وأبوه الذي يقول فيما يقول:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] كذا في الأصل، وفي ت: «أدب ابن أدبه» وفي الطبري، «هذا أدب ابن نهبة» ، وفي المسعودي: «ابن سمية» وفي نسخة أخرى: «ابن نهية» .
[4] في ت: «قال المصنف» .
[5] في ت: «ابن أديبة» .
[6] في الأصل: «وليستنقمن» .
[7] في الأصل: «أبيه» وما أوردناه من ت.

(6/154)


هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله [1]
فقال: علي بالشيخ، فلما أتى قال: أما يوم الدار فتشهده بنفسك، وأما في قتال الخوارج فتبعث بديلا، أما والله أيها الشيخ إن في قتلك لراحة لأهل المصرين، يا حرسي اضرب عنقه، فضربت عنقه.
قال: وسمع الحجاج صوتا فقال: ما هذا؟ قالوا: البراجم ينتظرون [2] عميرا، فقال: ارموا إليهم برأسه، فرمي إليهم برأسه فولوا هاربين.
قال [3] ، وكان ابن لعبد الله بن الزبير الأسدي قد سأله أن يشفع له إلى الحجاج أن يأذن في التخلف، فلما قتل عمير خرج ولم ينتظر الإذن، فقال ابن عبد الله بن الزبير في ذلك.
أقول لإبراهيم لما لقيته [4] ... أرى الأمر أمسى مفظعا متعصبا [5]
تجهز فإما أن تزور ابن ضابىء ... عميرا وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسفا نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
وإلا فما الحجاج مغمد سيفه ... مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا [6]
فأضحى [7] ولو كانت خراسان دونه ... يراها مكان السوق أو هي أقربا
وكم قد رأينا تارك الغزو ناكثا ... ينكث حنو السرج حتى تحنبا [8]
فلما اتصل الخيل والرجال بالمهلب تعجب [9] وقال: لقد ولي العراق رجل ذكر.
__________
[1] في المسعودي: «فعلت وأوليت البكاء حلائله» .
[2] «ينتظرون» : تكررت في ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 209.
[4] في الأصل: «رأيته» ، وما أوردناه من ت والطبري، والمسعودي.
[5] كذا في الأصول، وفي الطبري: «أمسى منصبا متشعبا» . والمسعودي: «أمسى مهلكا متعصبا» .
[6] البيت ساقط من الطبري والكامل. وجاء في المسعودي 3/ 37 بعد البيت الآتي.
[7] في الطبري: «فحال» .
[8] هذا البيت ساقط من المسعودي. وفي الطبري والكامل.
فكائن ترى من مكره العدو مسمن ... تحمم حنو السرج حتى تحنبا
[9] في ت: «عجب» .

(6/155)


وقد رويت لنا هذه القصة بزيادة ونقصان.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قَالَ:
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا أَبُو علي الحسين بْن القاسم الكوكبي، قَالَ: حدثنا عثمان بن مصعب الجندي [1] ، قال: حدثنا عبد الحميد بن سلمة، قال: حدثني أبي، عن مجالد عن عبد الملك/ بن عمير الليثي قال:
كتب روح بن زنباع الجذامي إلى أهل الكوفة، أن أمير المؤمنين لما أمضه اضطرابكم واشتد بلاؤكم، وكثر توثبكم على الولاة تحصبونهم وتقصرونهم [2] ولا تنقادون جمع أهل بيته وأكابرهم ممن لهم البأس والنجدة والعز والعدد والظفر، فقال:
أيها الناس، إن العراق قد كدر ماؤها، واملولح عذبها، وعذب ملحها، وسطع لهبها، وبرق وميضها، وثار ضرامها واشتد شعابها، والتاث أفانينها، ودام بأسها، وعظم شررها، وكثر موقدها، فحرها ذكي وخطبها وبي، ومرعاها وخيم، قد صدرهم [3] الكبار، ولا يقيم درهم الصغار، فمن ينتدب لهم منكم بسيف قاطع، وفرس راتع، وسنان لامع، وجنان غير خاضع، فيخمد نيرانها، ويبيد شبانها، ويقصم كهولها، ويقتل جهولها حتى يعيش فقيرها، وينتفع بماله غنيها، ويستقر الآئب، ويرجع الغائب، ويحيى الخراج، ويداوى الجراح، وتصفو البلاد، ويسلس القياد، فقد دعوت سلبها، وجهرت لظالمها، وليتكلم رجل يقيم أودهم بسيف أدلب، أو خرج. فسكت الناس، فقام الحجاج بن يوسف، فقال: أنا للعراق يا أمير المؤمنين، قال: ومن أنت؟ قال: [أنا الليث المنضام الهزبر [4] المقصام] [5] : أنا الحجاج بن يوسف، قال: اجلس فلست هناك. ثم أطرق مليا، وقال: من للعراق، فقد أطرقت الليوث، ولست أرى أسدا يقصد نحو فريسته، فسكت الناس، فقام الحجاج بن يوسف الثقفي فقال: أنا للعراق يا أمير
__________
[1] في الأصل: «الحريري» . وما أوردناه من ت، وهو الصحيح.
[2] في الأصل: «وتقصرون بهم» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «حذرهم» ، وما أوردناه من ت.
[4] الهزبر: من أسماء الأسد.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/156)


المؤمنين، قال: ومن أنت؟ قال [1] : أنا الحجاج بن يوسف، معدن العفو والبوار. قال:
اجلس فلست هناك، ثم أطرق مليا فقال: من العراق، فقد قوي الضعيف، وخضع الشديد، فقام الحجاج فقال: أنا للعراق يا أمير المؤمنين.
فقال: يا ابن يوسف، لكل أمر آلة وقلائد، فما آلتك وقلائدك؟ قال: القتل والعفو، والمكاشفة والمداراة، والحرق [2] والرفق، والعجلة والريث، والإبراق والتبسم، والإرعاد والتنفس، والإبعاد والدنو، [والرفق] [3] والجفا طورا والزيارة والصلة آونة، والتجبر والتقمص أحيانا، والحرمان، والترهيب والترغيب ألوانا، ألبس جلد النمر، وسيفا منيعا، وتوضعا في/ تجبر وخوض غمرات الفنيق، ضحضاح الثمد عند الورود، فمن رمقني حددته، ومن لوى شدقه خدعته، ومن نازعني جذبته [4] ، ومن عض منقبة بددته، ومن تغير لونه قتلته، ومن دنا أكرمته، ومن نأى طلبته، ومن ما حكني [5] غلبته، ومن أدركته كسعته، فهذه آلتي وقلادتي، ولا عليك يا أمير المؤمنين أن تجربني، فإن كنت للأعناق قطاعا، وللأوصال جزاعا، وللأرواح نزاعا، وللخراج جماعا، ولك في [هذه] [6] الأشياء نفاعا، وإلا فاستبدل بي غيري، فإن الناس كثير، ومن يسد بهم الثلم قليل.
فقال عبد الملك: أنت لها للَّه أبوك فتناولها كيف شئت ثم التفت إلى كاتبه، فقال: اكتب له عهدا على العراق جميعا، وأطلق يده في السلاح والكراع والرجال والأموال، ولا تجعل له علة، وقد كتب عهده يوم الاثنين وهو خارج يوم السبت، فالزموا طاعته يا أهل الكوفة، واحذروا صولته.
فبينا نحن جلوس في المسجد الأعظم بالكوفة إذ أتانا آت، فقال: الحجاج بن يوسف قد قدم أميرا على العراق، فاشرأب الناس نحوه ينظرون إليه، ثم أفرجوا له
__________
[1] قال: اجلس فلست هناك ... قال: ومن أنت؟ قال: «ساقط من ت» .
[2] في الأصل: «الخوف» ، وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] «نازعني جذبته» . ساقط من ت.
[5] في الأصل: «ومن ضاحكني» .
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/157)


إفراجة واحدة عن صحن المسجد، وإذا هم به يمشي، عليه عمامة حمراء قد تلثم بها وهو متنكب قوسا له عربية [1] وهو يؤم المنبر [2] ، قال: فما زلت أرميه ببصري حتى جلس [3] على المنبر ما يحدر لثامه، ولا ينطق حرفا، وأهل الكوفة يومئذ ذو حالة حسنة وهيئة جميلة، في عز ومنعة، فكان الرجل يدخل المسجد ومعه الخمسة والعشرة والعشرون من مواليه وأتباعه عليهم الخزوز والقوهية، وفي المسجد يومئذ عمير بن ضابىء البرجمي، وعبد الرحمن بن محمد الأشعث، ومحمد بن عمير بن حاجب بن زرارة الحنظلي، فابتدرنا عمير، فقال: أحصبه لكم، فقلنا: لا حتى نسمع ما يقول، فأبى عمير إلا أن يحصبه، فمنعناه، فقال: لعن الله بني أمية حيث يستعملون مثل هذا، وضيع والله العراق حيث صار مثل/ هذا عليها واليا، فو الله لو كان هذا كله كلاما ما كان شيئا.
والحجاج ساكت ينظر يمينا وشمالا، فلما رأى المسجد قد غص بأهله، قال: اجتمعتم، فلم يرد عليه أحد شيئا، فقال: كأني أرى قدر اجتماعكم، فقال رجل من القوم: قد اجتمعنا أصلح الله الأمير، فسكت هنيهة، فلما رأى القوم أنه لا يحير جوابا قال بعضهم لبعض: ما يمنعه من الكلام إلا العي، وأهووا بأيديهم إلى الحصى ليحصبوه بها، ففطن الحجاج فوثب قائما وقد أحاط بالمسجد مائتا طائل، ومائتا دارع، ومائتا جاشن، ومائتا سائف، ومائتا رامح، على الطائلة سويد بن عدية العجلي، وعلى الدارعة السكن بن يوسف الثعلبي، وعلى السائفة بدر بن مدركة اليشكري، وعلى البرامجة عطية بن حويرثة [4] الأصبحي، فكان مما راعهم ذلك وأفزعهم، فأومأ الحجاج إلى الطائلة أن اسكتوا فسكتوا، فقال: أفعلتموها يا أهل العراق ويا أهل العير الداجنة أنا الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن عامر بن مسعود عظيم القريتين ابن معتب بن مالك بن عوف بن قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر، ثم قال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
__________
[1] في الأصل: «وهو متنكبا له قوسا عربية» وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «فأم المنبر» ، وما أوردناه من ت.
[3] في ت: «قعد» .
[4] في الأصل: «عطية بن حورثة» ، وما أوردناه من ت.

(6/158)


صليب العود من سلفي نزار ... كنصل السيف وضاح الجبين
فماذا يغمز الأقران مني ... وقد جاوزت حد الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدي ... وتحددني مداولة الشؤون
يا أهل الكوفة إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، للَّه أبوكم، كأني انظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم قال:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم
من يلقني يودى كما أودت إرم
/ قد لفها الليل بصلبي [1] ... مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساق سمهري
وأيم الله يا أهل العراق لا يغمز جنابي كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان، فلقد فرغت [2] عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وأجريت إلى الغاية القصوى، إن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان نكث [3] كنانته بين يديه، فعجم عيدانها عودا عودا فوجدني أمرها عودا وأصلبها مكسرا، فوجهني إليكم يا أهل العراق والشقاق والنفاق ومساوىء الأخلاق، إنكم والله طالما أوضعتم في أودية الفتنة واضطجعتم في منام الضلالة وسلكتم سنن الغي، والله لأقرعنكم قرع المروة، ولألحونكم لحو العود [4] ، ولأعصبنكم عصب السلمة والشاة السقيمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، واعلموا أني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أحلق إلا فريت، ولا أحلف إلا نزرت، ولا أبعد إلا شيعت، وإياكم وهذه الزرافات والخرافات والبطالات والمقالات والجماعات، وقيل وقال، وما قال وما يقول، وكان و [ما] [5] يكون، وفيم أنتم وما أنتم وذاك، يا أهل الكوفة
__________
[1] في الأصل: «يعظلني» وفي ت: «يعطلني» .
[2] في ت: والمسعودي: «فررت» .
[3] في المسعودي والطبري: «نثر» .
[4] في الأصول: لأنحرنكم نحر العود» . وما أوردناه من الطبري والمسعودي.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/159)


إنما أنتم أهل قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً [مِنْ كُلِّ مَكانٍ] [1] فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ 16: 112 [2] ، وآتاها وعيد القرى من ربها بسوء ما كسبت أيديهم ألا إن الأمور إذا استقرت لا يدركها إلا كل ذي لب برأيه، وإن خير الرأي ما هدى الله به العبد، وراقبوا الله واعتصموا بحبله، وأعطوا القياد خلفاءكم وأمراءكم من قبل زوال النعمة، ولا تكونوا كالذين لا يعقلون، ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ 7: 177 [3] ، فليعقل من كان له معقول، فقد أعذر من أنذر، فقد والله حلت بكم بائقة فيها بوائق تتلوها سطوة من سطوات الله تجتاح الأموال، وتهريق الدماء، ثم لا تستطيعون عند ذلك غبرا، ولا تبدلون نعما.
لا تغروني يا قوم بكم، ولا تسهروني بعد رقدتي، فإني/ راض بما صفا لي منكم من علانيتكم، ما لم تكن حيلة في سواد هذه الدهماء، ولا تحملوني على أكتافكم بأحجاركم في رقابتكم، وفي كل يوم ما الخبر، إن الحجاج ذو حسام باتر تجتلى به الأوصال، فكم له في كل حي من حرز إلا من استوثقت لنا طاعته، وخلصت لنا مودته، ودامت لنا مقته، فذاك منا ونحن منه، فأما من ركب الترهات وأخذ في النية بعد النية، فهيهات هيهات يا هيهات لأهل المعاصي والنفاق، ألا ترهبون، ويحكم أن تغير عليكم الخيل الملجمة فتترككم أمثال الرقاق المنتفخة المستوسقة الشائلة بأرجلها، ألا وإن نصلي سبك من دماء [أهل] العراق، فمن شاء فليحقن دمه، ومن أبى أوسعت بالوعة الموت دمه، وفتتت للسباع لحمه، وقامت الرخم على شلوه، وضعت الدعارع بعجمه، فمهلا يا أهل العراق مهلا، فإن تميلي بقرن الصعاب، وبذل الرقاب، ولو قل العقاب وتستقل الحروب، ألم تعلموا أني في الحروب ولدت، وفيها تلدت، وفيها فطمت، وفيها قطعت تمائمي، وبليت نواجذي، وصلع رأسي، أفأنتم تجلجونني أن يكون ذلك حتى يجلجل صم الصناخيد التي هي للأرض أوتاد، وإني قد سست وساسني السائسون، وأدبني المؤدبون.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] إشارة إلى الآية الكريمة 112، من سورة النحل.
[3] إشارة إلى الآية الكريمة 177، من سورة الأعراف.

(6/160)


استوثقوا واستقيموا، وتابعوا وبايعوا، وجانبوا واحذروا واتقوا، واعلموا أنه ليس مني الإكثار ولا الإهذار، ولا مع ذلك الفرار ولا النفار، وإنما هو انتضاء السيف، ثم لا يغمد الشتاء ولا الصيف حتى تفيئوا إلى أمر الله، وتجتمعوا [1] إلى طاعته وطاعة أمير المؤمنين حتى يذل الله له صعبكم، ويقيم أودكم، ويلوي به صغيركم.
ألا وإني وجدت الصدق مع البر، والبر في الجنة، وألفيت الكذب مع الفجور، والفجور في النار. وقد وجهني أمير المؤمنين إليكم وأمرني بإعطائكم عطاياكم، وإشخاصكم إلى مجاهدة عدوكم، وقد أمرت بذلك لكم، وأجلتكم ثلاثا، وأعطي الله عهدا يأخذه مني ويستوفيه/ علي، لئن بلغني أن رجلا تخلف منكم بعد قبض عطائه يوما واحدا لأضربن عنقه، ولأنهبن ماله. اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين يا غلام، فقال الكاتب:
«بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى من بالعراق من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم» . فلم يقل أحد شيئا، فغضب الحجاج وقال: يا أهل الفتن الداحية، والأهواء الراثية، والألباب الماجنة، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون عليه السلام، والله لأؤدبنكم غير أدب ابن أذينة- وكان ابن أذينة صاحب شرطة بالكوفة- ولأجعلن لكل امرئ منكم في جسده شغلا، أعد القراءة يا غلام، فأعاد الكاتب، فلما بلغ قوله: سلام عليكم، قال جميع من في المسجد، وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته، ثم نزل فدخل الدار.
فلما كان اليوم الرابع أتاه عمير بن ضابىء البرجمي ومعه ابنان له وقد ركب معه جماعة من البراجمة ألفا فارس وقالوا له: إن رأيت من الأمير ريب فدماؤنا دون دمك، فقال: أيها الأمير، إني شيخ كبير، وقد خرج اسمي في هذا البعث، وابني هذا أقوى مني على السفر، وأجلد في الحرب، فإن رأى الأمير أن يمن علي بلزوم منزلي، ويقبل ابني بديلا فعل ذلك موفقا. فقال: نعم ذلك لك يا شيخ انطلق راشدا وابعث ابنك بديلا.
فلما ولي قال له عنبسة بن سعيد بن العاص: أيها الأمير، أتعرف هذا الشيخ الّذي
__________
[1] في ت: «وتجنحوا» .

(6/161)


ناجاك آنفا؟ قال: لا، قال: هذا عمير بن ضابىء البرجمي الذي هجا أبوه ابن قطن في حال كلب لهم يقال له قرحان [وكان] [1] يصيد حمر الوحش، فاستعاره منهم، فلما طلبوه منه منعهم، فركبوا إليه فساءوه، فأنشأ يقول:
يكلف دوني وفد قرحان شقه ... تضلّ لها الوجناء وهي حسير
فأردفتهم كلبا فراحوا كأنما ... حباهم تناج الهرمزان أسير [2]
فيا راكبا أما عرضت فبلغن ... ثمامة عني والأمور تدور
فأمكم لا تتركوها وكلبكم ... فإن عقوق الأمهات كبير
إذا ما انتشى من آخر الليل نشوة ... يبيت له فوق الفراش هرير
فاستعدوا عليه عثمان فحبسه في السجن حتى مات، واتخذ حديدة لعثمان ليقتله بها، فعلم بذلك عثمان فحبسه حتى مات في السجن [3] ، وقد كان في مرضه قال:
وقائلة لا يبعد الله ضابئا ... إذا اخضر من دهر الشتاء أصائله
وقائله لا يبعد الله ضابئا ... إذا العرب الرعى تنضت سوائله
وقائلة لا يبعد الله ضابئا ... إذا الكبش لم يوجد له من ينازله
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حائله
فلا تتبعوني إن هلكت ملامة ... فليس بعار قتل قرن أنازله
فلما قتل عثمان دخل هذا فيمن دخل عليه يطلب ثأر أبيه، فكسر ضلعا من أضلاع عثمان وهو يقول:
أين تركت ضابئا يا نعثل قال: فقال الحجاج: ردوه، فردوه، فقال: أتشهد يوم الدار بنفسك وتطلب اليوم بديلا، هلا سألت بديلا يوم الدار، والله أيها الشيخ إن في قتلك صلاحا للمصرين، يا حرسي اضرب عنقه، ثم قال: إني والله لجواد بدمه إن قتله غيري، قربوه. فقربوه
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «الهرمزات أمير» .
[3] «واتخذ حديدة. حتى مات في السجن» . ساقط من ت.

(6/162)


فضرب عنقه، فإذا رأسه بين رجليه، ثم أخذ بلحيته فهزها وأخذ يتمثل بشعر يزيد بن أبي كاهل اليشكري:
ساء ما ظنوا وقد أبليتهم ... عند غايات المدى كيف أقع
كيف يرجون سقاطي بعد ما ... جلل الرأس بشيب وصلع
/ رب من أنضحت غيظا صدره ... قد تمنى لي موتا لم يطع
وتراني كالشجى في خلقه ... عسرا مخرجه ما ينتزع
ويحييني إذا لاقيته ... وإذا يخلو له الحي رتع
ثم سمع ضوضاء، فقال: ما هذه الضوضاء، قالوا: البراجم بالباب تنتظر عميرا، فقال: أتحفوهم برأسه، فرمى بالرأس إليهم، فلما نظروا إليه ولوا هاربين لاحقين بمراكزهم، ثم إنهم ازدحموا على الحسين بن أبي براء التميمي فاستنصروه، فقال: لأمهاتكم الهبل [1] ، ألا تتقون الله، تحملونني على إهراق الدماء، والله لا يترك الحجاج قدما إلا أوطأها عبد الملك بن مروان، ولا نزل بأحدكم أخرى إلا لحق بعمير وبمثله، والله يقرن الصعاب، ومر عبد الله بن الزبير الأسدي بابن عم له يقال له إبراهيم، فقال: ما وراءك أبا حبيب، قال: ورائي كل بلية، قتل والله عمير بن ضابىء، النجاء النجاء، وأنشأ يقول:
أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمر أمسى هالكا متشعبا
ترحل فإما أن تزور ابن ضابىء ... عميرا وإما أن تزور المهلبا [2]
هما خطتا كره نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشبها
وإن على الحجاج فيه ألية ... بمعدلها نابا علوفا، ومحلبا
فأضحى ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق أو هي أقربا
وإلا فما الحجاج مغمد سيفه ... مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
وكم قد رأينا تارك الغزو ناكلا ... ينكب حبو السرج حتى تنكبا
__________
[1] الهبلة: الثكلة، والهبل: الثكل.
[2] الأبيات من هنا إلى آخرها ساقط من ت.

(6/163)


فخرج الناس أرسالا يؤمون خراسان نحو المهلب، فلما قدموا عليه قال المهلب:
اليوم قوتل والله العدو، ويحكم من ولي العراق؟ قالوا له: الحجاج بن يوسف، قال المهلب: وليها والله رجل ذكر، ثم قال: يا أهل العراق/ لقد داهتكم داهية، ورميتم بالخنة، ولقد مارسكم امرؤ [1] ذكر. وقصوا عليه قصة الحجاج، فقال: والله لقد تخوفت أن يكون القادم عليكم مبير ثقيف، وليخربن دياركم، وليسجد من أبناءكم، وليمزقنكم كل ممزق، اللَّهمّ لا تسلطه علينا ولا على أحد من أوليائك إنك على كل شيء قدير.
قال مؤلف الكتاب: وفي رواية أخرى: أن الحجاج لما فرغ من خطبته قال:
الحقوا بالمهلب وأتوني بالبراءات بموافاتكم، ولا تغلقوا باب الجسر ليلا ولا نهارا، فلما قتل عمير بن ضابىء خرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرجت العرفاء إلى المهلب وهو برامهرمز فأخذوا كتبه بالموافاة، ولما وصل الحجاج إلى الكوفة بعث الحكم بن أيوب الثقفي أميرا على البصرة وأمره أن يشد على خالد بن عبد الله، فلما بلغ خالد الخبر خرج من البصرة قبل أن يدخلها الحكم، فنزل الحجاج وتبعه أهل البصرة، فلم يبرح حتى قسم فيهم ألف ألف درهم.
وفي هذه السنة ثار الناس بالحجاج بالبصرة [2]
وذلك أنه خرج من الكوفة بعد أن قتل ابن ضابىء حتى قدم البصرة، فقام فيهم بخطبة مثل التي قام بها في الكوفة، وتوعدهم مثل وعيده [3] أولئك، فأتي برجل من بني يشكر فقيل له: إن هذا عاص [4] ، قال: إن بي فتقا، وقد رآه بشر فعذرني، وهذا عطائي مردود إلى بيت المال، فلم يقبل منه وقتله، ففزع لذلك أهل البصرة، فخرجوا حتى أدركوا [5] العارض بقنطرة رامهرمز، وخرج الحجاج ونزل رستقباذ، وكان بينه وبين
__________
[1] في ت: «رجل» .
[2] تاريخ الطبري 6/ 210.
[3] في ت: «مثل وعيدهم» .
[4] في ت: «أنه عاص» .
[5] كذا في الأصل، وفي ت. وفي الطبري «تداكئوا» . وهي أصح. والمداكأة: التزاحم على المكان.

(6/164)


المهلب ثمانية عشر فرسخا، فقام في الناس، فقال: إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم زيادة فاسق منافق، ولست أجيزها، فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي، فقال: إنها ليست بزيادة فاسق منافق، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أثبتها لنا، فكذبه وتوعده/ فخرج ابن الجارود على الحجاج وبايعه وجوه الناس، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل ابن الجارود وجماعة من أصحابه، وبعث برأسه ورءوس عشرة من أصحابه إلى المهلب، ونصبت برامهرمز للناس، وانصرف إلى البصرة، وكتب إلى المهلب وإلى عبد الرحمن بن مخنف: أما بعد، فإذا أتاكم كتابي هذا فناهضوا الخوارج، والسلام.
فلما وصل الكتاب [1] إليهما ناهضا الأزارقة يوم الاثنين لعشر بقين من شعبان- وقيل: يوم الأربعاء لعشر بقين من رمضان- فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال، فذهبوا إلى أرض يقال لها كازرون، فسارا وراءهم حتى نزلا بهم في أول رمضان، فخندق المهلب عليه وقال لعبد الرحمن: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل، فأبى أصحاب عبد الرحمن، وقالوا: إنما خندقنا سيوفنا، فزحفت الخوارج إلى المهلب ليلا ليبيتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا: إلى عبد الرحمن فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل فقتل في جماعة من أصحابه.
وكتب المهلب بذلك إلى الحجاج، فبعث مكانه عتاب بن ورقاء، وأمره أن يسمع للمهلب ويطيع، فساءه ذلك ولم يجد بدا من طاعة الحجاج، فجاء حتى أقام في العسكر وقاتل الخوارج، وكان لا يكاد يستشير المهلب في شيء فأغرى به المهلب رجالا من أهل الكوفة منهم بسطام بن مصقلة.
وجرى بين المهلب وعتاب يوما كلام، فذهب المهلب ليرفع القضيب عليه، فوثب إليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب، وقال شيخ من شيوخ العرب: فاحتمله وقام عتاب فاستقبله بسطام يشتمه ويقع فيه، فكتب إلى الحجاج يشكو المهلب ويخبره أنه قد أغرى به سفهاء المصر، فبعث إليه أن أقدم.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 211.

(6/165)


وفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس وكان يرى رأي الصفرية [1]
وقيل [2] : إنه أول من خرج منهم، وكان صالح هذا ناسكا عابدا، وله أصحاب يقرئهم القرآن، ويفقههم ويقص عليهم ويقدم الكوفة فيقيم بها الشهر/ والشهرين، وكان بأرض الموصل، وله كلام مستحسن، وكان إذا فرغ ذكر أبا بكر وعمر فأثنى عليهما، وذكر ما أحدث عثمان وعلي وتحكيمه الرجال، فيتبرأ منهما، ثم يدعو إلى مجاهدة أئمة الضلال، ويقول: تيسروا للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم.
فبينا [3] هو كذلك ورد عليه كتاب شبيب يقول فيه [4] : قد كنت دعوتني يا صالح إلى أمر فاستجبت له، فإن كان ذلك من شأنك فبادر فإنك شيخ المسلمين، وإن أردت تأخير ذلك فأعلمني، فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمني المنية ولم أجاهد الظالمين، جعلنا الله وإياك ممن يريد الله بعمله.
فأجابه صالح أني مستعد فأقدم، فقدم عليه في جماعة من أهله فواعدهم الخروج في صفر سنة ست وسبعين، ثم قال صالح لأصحابه: اتقوا الله ولا تعجلوا إلى قتال أحد إلا أن يريدوكم فإنكم خرجتم غضبا للَّه.
وحج صالح في سنة خمس وسبعين ومعه شبيب بن يزيد، وسويد، والبطين وأشباههم.
وفي هذه السنة حج عبد الملك بالناس فهم [5] شبيب بالفتك به، وبلغ عبد الملك شيء من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان صالح يأتي الكوفة فيقيم
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 215.
[2] تاريخ الطبري 6/ 215.
[3] تاريخ الطبري 6/ 216.
[4] في الأصل: «يكون فيه» . وما أوردناه من ت.
[5] في ت: «وحج في هذه السنة عبد الملك بالناس» .

(6/166)


بها الشهر ونحوه، فنبت بصالح الكوفة لما طلبه الحجاج، فتنكبها، ووفد يحيى بن الحكم في هذه السنة على عبد الملك، واستخلف على عمله بالمدينة أبان بن عمرو ابن عثمان، فأقر عبد الملك يحيى على ما كان عليه بالمدينة، وعلى الكوفة والبصرة الحجاج، وعلى خراسان أمية بن عبد الله، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أبي أوفى.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
461- الأسود بن يزيد بن قيس بن عبد الله، أبو عمرو [1] :
وهو ابن أخي علقمة بن قيس، وهو أكبر من علقمة.
روى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، ومعاذ، وسلمان، وأبي موسى/ وعائشة. ولم يرو عن عثمان شيئا. وكان يصوم الدهر فذهبت إحدى عينيه، وكان لسانه يسود من شدة الحر، فيقال له: لا تعذب هذا الجسد، فيقول: إنما أريد له الراحة.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمرو [2] البرمكي، قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز بن مردك، قال: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بن أبي حاتم، قَالَ: حدثنا أبو حميد الحمصي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا يزيد بن عطاء، عن علقمة بن مرثد، قال:
كان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة، يصوم حتى يخضر ويصفر، فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: ما لي لا أجزع، ومن أحق بذلك مني، والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لأهمني الحياء منه مما قد صنعت. إن الرجل ليكون بينه
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 46، والجرح والتعديل 1/ 1/ 291، وحلية الأولياء 2/ 102، وتذكرة الحفاظ 1/ 48.
[2] في ت: «ابن محمد» .

(6/167)


وبين الرجل الذنب الصغير، فيعفو عنه فلا يزال مستحييا منه. قال: ولقد حج الأسود ثمانين حجة.
توفي الأسود بالكوفة، في هذه السنة.
462- توبة بن الحمير من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن خفاجة [1] :
كان شاعرا، وكان أحد عشاق العرب، مشهورا بذلك، وصاحبته ليلى الأخيلية، وكان يقول فيها الشعر ولا يراها إلا متبرقعة، فأتاها يوما فسفرت له عن وجهها فأنكر ذلك، وعلم أنها لم تسفر إلا عن حدث، وكان إخوتها قد أمروها أن تعلمهم بمجيئه، فسفرت لتنذره، ففي ذلك يقول:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
وأول الشعر:
نأتك بليلى دارها لا تزورها ... وشطت نواها واستمر مريرها
يقول رجال لا يضيرك حبها ... بلى كلما شف النفوس يضيرها
أظن بها خيرا وأعلم أنها ... ستنعم يوما أو يفك أسيرها
/ حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعما ... ولا زلت في خضراء دان بريرها
أرى اليوم يأتي دون ليلى كأنما ... أتت حجج من دونها وشهورها
أرتنا حياض الموت ليلى وراقنا ... عيون نقيات الحواشي تديرها
ألا يا صفي النفس كيف تقولها ... لو أن طريدا خائفا يستجيرها
علي دماء البدن [2] إن كان بعلها ... يرى لي ذنبا غير أني أزورها
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وله أيضا فيها:
فإن تمنعوا ليلى وحسن حديثها ... فلن تمنعوا عيني البكا والقوافيا
__________
[1] الأغاني 11/ 63، وفوات الوفيات 1/ 95، والآمدي 68، والشعر والشعراء 169، وسمط اللآلئ 120، 757، والبداية والنهاية 8/ 383.
[2] في الأصل: «دماء البيت» . وما أوردناه من ت.

(6/168)


فهلا منعتم إذ منعتم كلامها ... خيالا يمسينا على النأي هاديا
يلومك فيها اللائمون نصاحة ... فليت الهوى باللّائمين مكانيا
لعمري لقد أسهرتني يا حمامة ... العقيق وقد أبكيت ما كان باكيا
ذكرتك بالغور التهامي فأصعدت ... شجون الهوى حتى بلغن التراقيا
كان توبة يشن الغارة على بني الحارث بن كعب وهمدان، وكانت بين أرض بني عقيل وبني مهرة مفازة، وكان يحمل معه الماء إذا أغار، فغزا هو وأخوه عبد الله وابن عم له فنذروا بهم، فانصرف محققا، فمر بجيران لبني عوف، فاطرد إبلهم وقتل رجلا من بني عوف، فطلبوه فقتلوه، وضربوا رجل أخيه فأعرجوه، فبلغ الخبر ليلى، فقالت:
فآليت أبكي [1] بعد توبة هالكا ... وأحفل إذا دارت عليه الدوائر
لعمرك ما بالقتل عار على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المعايرة [2]
463- سليم بن عتر بن سلمة بن مالك:
هاجر في خلافة عمر بن الخطاب، وحضر/ خطبته بالجابية. وروى عنه، وشهد فتح مصر، وجمع له بها القضاء والقصص. وكان يسمى الناسك لشدة عبادته، وكان يختم القرآن في كل ليلة ثلاث مرات، وكان يقول: لما قدمت من البحر تعبدت في غار سبعة أيام بالإسكندرية لم أصب فيها طعاما ولا شرابا، ولولا أني خشيت أن أضعف لزدت.
روى عنه علي بن رباح، وأبو قتيل، ومسرح بن هاعان وغيرهم.
وتوفي بدمياط في هذه السنة.
464- صلة بن أشيم أبو الصهباء العدوي البصري [3] :
وكان ثقة ورعا عابدا، أسند عن ابن عياض وغيره.
وروى عنه الحسن، وحميد، وهلال.
__________
[1] في الأغاني: «أقسمت إرثي بعد» .
[2] أي: المعايب.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 97. والبداية والنهاية 9/ 17، 18.

(6/169)


أخبرنا محمد بن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد أبو علي التميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن مالك، قَالَ: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن جعفر، عن يزيد الرشك، عن معاذة، قالت:
كان أبو الصهباء يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفا.
قال عبد الله: وحدثنا أبي، قال: حدثنا أحمد بن الحجاج، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن المبارك، قَالَ: أخبرنا المسلم بن سعيد الواسطي، قال: حدثنا حماد بن جعفر بن زيد، أن أباه أخبره قال:
خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة [1] ، فقلت: لأرمقن عمله فأنظر ما يذكر الناس من عبادته، فصلى العتمة ثم اضطجع والتمس غفلة الناس حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثب فدخل غيضة قريبا منه، ودخلت في أثره، فتوضأ ثم قام يصلي.
قال: وجاء أسد حتى دنا منه. قال: فصعدت في شجرة. قال: فتراه التفت أو عند [جروا] [2] حتى إذا سجد، فقلت: الآن يفترسه. فجلس ثم سلم، فقال: أيها السبع، اطلب الرزق من مكان آخر، فولى وإن له لزئيرا تصدع منه الجبال، فما زال كذلك. فلما كان الصبح جلس فحمد الله عز وجل بمحامد لم أسمع بمثلها إلى ما شاء الله، ثم قال:
اللَّهمّ إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة، ثم رجع/ فأصبح كأنه بات على الحشايا. وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عليم.
قال: فلما دنونا من أرض العدو قال الأمير: لا يشدن أحد من العسكر، قال:
فذهبت بغلته بثقلها فأخذ يصلي، فقالوا له: إن الناس قد ذهبوا. فمضى ثم قال: دعوني أصلي ركعتين. فقالوا: الناس قد ذهبوا، قال: إنهما خفيفتان، قال: فدعى ثم قال:
اللَّهمّ إني أقسم عليك أن ترد بغلتي وثقلها. قال: فجاءت حتى قامت بين يديه.
__________
[1] في ت: «فنزل الناس عندها» .
[2] ما بين المعقوفتين: من البداية والنهاية.

(6/170)


فلما لقينا العدو حمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعنا وضربا وقتلا. فكسر ذلك العدو، فقالوا [1] : رجلان من العرب صنعا بنا هذا، فكيف لو قاتلونا. فأعطوا المسلمين حاجتهم [2] .
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي، قال: أنبأنا أبو الفتح أحمد بن محمد الحداد، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، أن أبا أحمد بن محمد بن محمد الحاكم النيسابورىّ أخبره قال: أخبرني أبو يوسف محمد بن سفيان الصفار، قال: حدثنا سعيد، قال: سمعت ابن المبارك، عن السري بن يحيى [3] ، قال: حدثنا العلاء بن هلال الباهلي:
أن رجلا من قوم صلة قال لصلة: يا أبا الصهباء إني رأيت أني أعطيت شهدة وأنت [4] شهدتين، فقال: خيرا رأيت، تستشهد وأستشهد أنا وابني. فلما كان يوم يزيد بن زياد لقيهم الترك بسجستان، فكان أول جيش انهزم من المسلمين ذلك الجيش. فقال صلة لابنه: يا بني، ارجع إلى أمك، فقال: يا أبه أتريد الخير لنفسك وتأمرني بالرجوع [بل ارجع] [5] أنت والله كنت خيرا مني لأمي [6] . قال: أما إن قلت هذا فتقدم، فقاتل حتى أصيب فرمى صلة عن جسده- وكان رجلا راميا- حتى تفرقوا عنه، وأقبل يمشي حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قتل.
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو علي التميمي، قال: أخبرنا أحمد بْن جَعْفَر، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثنا أبي، قال:
حدثنا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أخبرنا ثابت البناني:
أن صلة بن أشيم كان في مغزى له ومعه ابنه، فقال: أي بني، تقدم فقاتل حتى أحتسبك. فتقدم فقاتل حتى قتل، ثم تقدم هو فقتل. فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة
__________
[1] أي العدو.
[2] الخبر في البداية والنهاية 9/ 16، 17.
[3] في الأصل: «أنس بن يحيى» خطأ، والتصحيح من ت.
[4] في ت: «وأعطيت» .
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] في ت: «كنت خير لأمي منى» .

(6/171)


العدوية، فقالت: إن كنتن جئتن لتنهنئني/ فمرحبا بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: كانت هذه الغزاة في أول إمارة الحجاج.
465- عبد الرحمن بن مل بن عمرو بن عدي، أبو عثمان النهدي [1] :
كان في زمن رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ ولم يلقه. وأسند عن عمر، وابن مسعود، وأبي موسى، وسلمان في آخرين.
وكان يسكن الكوفة، فلما قتل الحسين تحول إلى البصرة، وقال: لا أسكن بلدا قتل فيه ابْن بنت رَسُول اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ.
وهو يعد من المخضرمين: قال: أبو الحسن الأخفش: المخضرم من قولهم: ماء مخضرم. إذا تناهى في الكثرة واتسع، فسمي الذي يشهد الجاهلية والإسلام مخضرما، كأنه استوفى الأمرين. ويقال: أذن مخضرمة إذا كانت مقطوعة، فكأنه انقطع عن الجاهلية إلى الإسلام.
وتوفي أبو عثمان بالبصرة في أول ولاية الحجاج، وهو ابن ثلاثين ومائة سنة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: حدثنا عثمان بن أحمد، قال: حدثنا حنبل، قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ أبي عثمان، قال:
بلغت نحوا من ثلاثين ومائة سنة، ما من شيء إلا قد عرفت النقص فيه إلا أملي كما هو.
466- ليلى الأخيلية، وهي ليلى بنت عبد الله بن الرحال بن شداد بن كعب بن معاوية، ومعاوية هو الأخيل بن عبادة بن عقيل [2] :
أحبها توبة بن الحمير، وكانت من أشعر النساء، لا يقدم عليها في الشعر غير
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 69.
[2] الأغاني 11/ 210، فوات الوفيات 2/ 141، والنجوم الزاهرة 1/ 193، ومعجم ما استعجم 3/ 715، ورغبة الآمل 5/ 219، 8/ 177، 79، 184.

(6/172)


خنساء. وكانت هاجت النابغة الجعدي، فكان مما هجاها قوله:
فكيف أهاجي شاعرا رمحه استه ... خضيب البنان ما يزال مكحلا
فقالت في جوابه:
أعيرتني هذا بأمك مثله ... وأي حصان لا يقال لها هلا
/ ودخلت [1] على عبد الملك بن مروان وقد أسنت، فقال لها: ما رأى توبة منك حتى عشقك، فقالت: ما رأى الناس منك حتى جعلوك خليفة، فضحك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها.
أخبرنا ابن المبارك بن علي الصوفي [2] ، قال: أخبرنا ابن العلاف [3] ، قال:
أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: أخبرنا أبو بكر الخرائطي [4] ، قال: حدثني إسماعيل بن أبي هاشم، قال: حدثنا عبد الله بن أبي الليث، قال:
قال عبد الملك بن مروان [5] لليلى الأخيلية: باللَّه هل كان بينك وبين توبة سوء قط؟ قالت: والذي ذهب بنفسه وهو قادر على [ذهاب] [6] نفسي ما كان بيني وبينه سوء قط إلا أنه قدم من سفر فصافحته فغمز يدي فظننت أنه يخضع [7] لبعض الأمر، قال: فما بعد ذلك؟ فقلت له [8] :
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
__________
[1] الخبر في الأغاني 11/ 241.
[2] في الأصل: الصيرفي، وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «أخبرنا العلاء» وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «المرابطي» . وما أوردناه من ت.
[5] في الأغاني: «قال الحجاج» .
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] في ت: «يغنع لبعض الأمر» .
[8] في الأصل: «فما معنى ذلك؟ فقلت» وفي ت: «فما معنى» بسقوط باقي العبارة، وما أوردناه موافق للسياق وما في الأغاني.

(6/173)


لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى فارغ [1] وحليل
فقالت: لا والذي ذهب بنفسه ما كلمني بسوء قط حتى فرق بيني وبينه الموت.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر الحافظان، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا الحسين بن محمد النصيبي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سويد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن الأنباري، قَالَ: حَدَّثَني أبي، قال: حدثني أحمد بن عبيد، قال: حدثني أبو الحسن المدائني [2] ، عمن حدثه، عن مولى لعنبسة بن سعيد بن العاص، قال:
كنت أدخل مع عنبسة بن سعيد [بن العاص] [3] إذا دخل على الحجاج، فدخل يوما ودخلت إليهما وليس عند الحجاج غير عنبسة، فقعدت، فجاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال الحجاج: ادخلها. فلما رآها الحجاج طأطأ برأسه حتى ظننت أن ذقنه قد أصابت الأرض، فجاءت حتى قعدت بين يديه فنظرت إليها فإذا امرأة قد أسنت، حسنة الخلق ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى/ الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها، فانتسب له، فقال لها: يا ليلى ما أتاني بك؟ فقالت: اختلاف النجوم، وقلة الغيوم، وكلب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله عز وجل الرفد، فقال لها: صفي لنا الفجاج. فقالت:
الفجاج مغبرة، والأرض مقشعرة، والمبرك معتل، وذو العيال مختل، والهالك المقل، [4] والناس مسنتون، رحمة الله يرجون، وأصابتنا سنون مجحفة لم تدع لنا هبعا [5] ولا ربعا ولا عافطة ولا نافطة، أذهبت الأموال، وفرقت الرجال، وأهلكت العيال. ثم قالت: إني قد قلت في الأمير قولا، قال: هاتي، فأنشأت تقول:
أحجاج لا تفلل سلاحك إنما ... المنايا تكن [6] باللَّه حيث يراها
__________
[1] في الأصل: «صاحب» . وما أوردناه من ت، والأغاني.
[2] في ت: «عن أبي الحسين المدائني» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت مقل.
[5] الهبع: الفصيل الّذي ينتج في الصيف، وقيل: هو الفصيل الّذي ينتج في الصيف.
[6] في الأغاني: «بكف الله» .

(6/174)


أحجاج لا تعط العصاة مناهم ... ولا الله يعطي للعصاة [1] مناها
إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال حيث قال حساها
إذا سمع الحجاج رز كتيبة ... أعد لها قبل النزول قراها
أعد لها مسمومة [2] فارسية ... بأيدي رجال يحلبون صراها
[فما ولد الأبكار والعون مثله ... هجره لا أرض تحف ثراها]
قال: فلما قالت هذا البيت، قال الحجاج: قاتلها الله، ما أصاب صفتي شاعر منذ دخلت العراق غيرها. ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال: إني والله لأعد للأمر عسى أن يكون أبدا، ثم التفت إليها فقال: حسبك، فقالت: إني قد قلت أكثر من هذا، قال: حسبك هذا، ويحك حسبك. ثم قال: اذهب يا غلام إلى فلان فقل له اقطع لسانها، قال: فأمر بإحضار الحجام، فالتفتت إليه فقالت: ثكلتك أمك، أما سمعت ما قال: إنما أمر بقطع لساني بالصلة، فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضبا وهم بقطع لسانه، وقال: ارددها. / فلما دخلت عليه قالت: كاد وأمانة الله يقطع مقولي، ثمّ أنشأت [تقول] [3] :
حجاج أنت الذي ما فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفر الصمد
حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنت للناس نور في الدجى [4] يقد
ثم أقبل الحجاج على جلسائه، فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير، إلا أنا لم نر امرأة قط أفصح لسانا ولا أحسن محاورة، ولا أملح وجها، ولا أرصن شعرا منها. فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها. ثم التفت
__________
[1] في الأصل: «القضاة» . وما أوردناه من ت والأغاني.
[2] كذا في الأصول، وفي الأغاني: «مصقولة» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت: «نجم في الدجى» .

(6/175)


إليها، فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة، فقالت: نعم أيها الأمير هو الذي يقول:
وهل تبكين ليلى إذا مت قبلها ... وقام على قبري النساء النوائح
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها ... وجاد لها دمع من العين سافح
وأغبط من ليلى بما لا أناله ... ألا كل ما قرت به العين صالح
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... على ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فقال لها الحجاج: زيدينا يا ليلى من شعره، فقالت: هو الذي يقول:
حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعما ... ولا زلت في خضراء غض نضيرها [1]
وأشرف بالغور اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
يقول رجال لا يضيرك نأيها ... بلى كل ما شفت النفوس يضيرها
كل بلى قد يضير العين أن يكثر البكاء ... ويمنع منها نومها وسرورها
ولقد علمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
فقال/ لها الحجاج: ما الذي رابه من سفورك، قالت: أيها الأمير، كان يلم بنا كثيرا، فأرسل إلي يوما أني آتيك، وفطن الحي فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت له، فعلم أن ذلك لشر، فلم نزد على التسليم والرجوع، فقال: للَّه درك، فهل رأيت منه شيئا تكرهينه؟ قالت: لا والله الذي أسأله أن يصلحك غير أنه قال لي مرة قولا ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشأت أقول:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى فارغ وخليل
__________
[1] في الأغاني: «وإن بريرها» .

(6/176)


ولا والذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئا حتى فرق الموت بيني وبينه. قال:
ثم قالت: ثم لم يلبث أن خرج في غزاة له وأوصى إلى ابن عم له: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فناد بأعلى صوتك:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلة ... من الدهر لا يسري إلي خيالها
فخرجت وأنا أقول:
وعنه عفى ربي وأحسن حاله ... فعز علينا حاجة لا ينالها
قال: ثم قالت: ثم لم يلبث أن مات، فأتانا نعيه. قال: فأنشدينا بعض ما أتاك فيه، فأنشدت تقول:
أتتك العذارى من خفاجة نسوة ... بماء شئون العبرة المتحادر
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص ينفجن الحصى بالكراكر
فأنشدته، فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي، وكان من جلساء الحجاج: من هذا الذي تقول هذه فيه، والله إني لأظنها كاذبة، فنظرت إليه ثم قالت:
أيها الأمير إن هذا القائل لو رأى توبة لسره ألا يكون في داره عذراء إلا وهي حامل منه.
قال الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنت عن هذا غنيا، ثم قال لها: سلي يا ليلى تعطي، قالت: أعط فمثلك أعطى فأحسن. قال: لك عشرون، قالت: زد فمثلك زاد/ فأجمل. قال: لك أربعون. قالت: زد فمثلك زاد فأفضل، قال: لك ستون، قالت: زد فمثلك زاد فأكمل، قال: لك ثمانون، قالت: زد فمثلك زاد فتمم، قال: لك مائة واعلمي [يا ليلى] [1] : أنها غنم، قالت: معاذ الله أيها الأمير أنت أجود جودا، وأمجد مجدا، وأورى زندا من أن تجعلها غنما، قال: فما هي ويحك يا ليلى؟ قالت:
مائة ناقة برعاتها. فأمر لها بها. ثم قال: ألك حاجة بعدها؟ قالت: تدفع إلي النابغة الجعدي في قرن، قال: قد فعلت، وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك، فخرج هاربا، عائذا بعبد الملك، فاتبعته إلى الشام، فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان، فاتبعته على البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة، فماتت بقومس.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/177)


ويقال: بحلوان، وفي رواية: بساوه، فقبرها هناك.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، قال: حدثنا القاضي أبو الفرج، ابن الطراز، قال: حدثنا أبو علي الجيلي [1] ، قال: حدثنا عمر بن محمد بن الحكم النسائي، قال: حدثني إبراهيم بن زيد النيسابوري:
أن ليلى الأخيلية بعد موت توبة تزوجت، ثم إن زوجها بعد ذلك مر بقبر توبة وليلى معه، فقال لها: يا ليلى أتعرفين لمن هذا القبر؟ فقالت: لا، فقال: هذا قبر توبة فسلمي عليه، فقالت: امض لشأنك، فما تريد من توبة وقد بليت عظامه، قال: أريد تكذيبه، أليس هو القائل في بعض أشعاره:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فو الله لا برحت أو تسلمي عليه، فقالت: السلام عليك يا توبة ورحمة الله، بارك الله لك فيما صرت إليه. فإذا طائر قد خرج من القبر حتى ضرب صدرها، فشهقت شهقة فماتت فدفنت إلى جانب قبره، فنبتت على قبره شجرة وعلى قبرها شجرة فطالتا فالتفتا.
__________
[1] في ت: «أبو محمد الختّليّ» .

(6/178)


ثم دخلت سنة ست وسبعين
فمن الحوادث فيها خروج صالح بن مسرح [1]
وقد ذكرنا أنه كان يتنسك، وكان يقول لأصحابه: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين، وحب المؤمنين، ألا إن من نعمة الله عز وجل على المؤمنين أن بعث فيهم رسولا منهم- أو قال: من أنفسهم- فعلمهم الكتاب والحكمة، ثم ولي من بعده الصديق فاقتدى بهداه، واستخلف عمر فعمل بكتاب الله عز وجل، وأحيا سنة رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، ولم يخف لومة لائم، وولي بعده عثمان، فاستأثر بالفيء، وجار في الحكم فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين، وولي علي بن أبي طالب فلم ينشب أن حكم في أمر الله عز وجل الرجال، وأدهن، فنحن منه ومن أشياعه براء، فتيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وأئمة الضلال الظلمة، وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل في الله سبحانه فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم، ألا فبيعوا الله أنفسكم طائعين تدخلوا الجنة آمنين.
وقد ذكرنا أنه كتب إلى شبيب، فجاءه شبيب في أصحابه، وقال: أخرج بنا رحمك الله، فو الله ما تزداد السنة إلا دروسا، ولا المجرمون إلا طغيانا. فبث صالح رسله في أصحابه وواعدهم الخروج في هلال صفر سنة ست وسبعين، فاجتمعوا عنده تلك
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 216، والبداية والنهاية 9/ 14.

(6/179)


الليلة، فقام إليه شبيب فقال: يا أمير المؤمنين، كيف ترى في هؤلاء الظلمة؟ أنقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني برأيك فيهم، [1] أما أنا فأرى أن تقتل كل من لا يرى رأينا قريبا كان أو بعيدا، فإنا نخرج على قوم طاغين قد تركوا أمر الله عز وجل، فقال: لا [بل] [2] ندعوهم، فلعمري ما يجيبك إلا من يرى رأيك، والدعاء/ أقطع لحجتهم، قال: فما تقول في دمائهم وأموالهم؟ قال: إن قتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا.
فلما هموا بالخروج قال لهم صالح: اتقوا الله عز وجل ولا تعجلوا إلى قتال أحد إلا أن يكونوا قوما يريدونكم وينصبون لكم، فإنكم إنما خرجتم غضبا للَّه عز وجل، حيث انتهكت محارمه، وسفكت الدماء بغير حلها، ولا تعيبوا على قوم أعمالهم ثم تعملوا بها، وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرّستاق، فابدءوا بها، فشدوا عليها، وتقووا بها على عدوكم.
فخرجوا وأخذوا تلك الدواب فحملوا رجالتهم عليها، وكانوا مائة وعشرة أنفس، وأقاموا بأرض دارا ثلاثة عشر ليلة، وتحصن منهم أهل دارا وأهل نصيبين وأهل سنجار، وبلغ مخرجهم محمد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخف بأمرهم، وبعث إليهم عدي بن عدي في خمسمائة، فقال له: أتبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة وقد خرج معه رجال، الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة. فزاده خمسمائة، فسار في ألف من حران وكأنما يساق إلى الموت، وكان عدي رجلا يتنسك، فلما وصل بعث رجلا إلى صالح يقول له: إن عديا يسألك أن تخرج من هذا البلد إلى بلد آخر فإنه كاره للقائك، فقال للرسول: قل له هل أنت على رأينا، فجاءه الجواب: لا ولكن أكره قتالك، فحبس الرسول عنده وقال لأصحابه: اركبوا، وحملوا عليهم وهم على غفلة، فانهزموا وحووا ما في عسكرهم، وذهب فل عدي وأوائل أصحابه حتّى دخلوا على محمد بن مروان، فغضب، ثم دعا خالد ابن جزي السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة ودعا الحارث بن جعونة العامري، فبعثه في ألف وخمسمائة، وقال: اخرجا إلى هذه
__________
[1] في ت: «تخبرني فيهم برأيك» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/180)


الخارجة القليلة الخبيثة، وأغذا السير، فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه.
فانتهيا إلى صالح وقد نزل آمد، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من الخوارج أكثر من سبعين، ومن المؤمنين/ نحو من ثلاثين، فلما جن الليل ذهب الخوارج فقطعوا الجزيرة ودخلوا أرض الموصل، فبلغ ذلك الحجاج، فسرح إليهم الحارث بن عميرة الهمداني في ثلاثة آلاف رجل، فلقيهم ومع صالح تسعون رجلا، فشد عليهم فقتل صالح ولاذ الباقون بحصن هناك، فقال الحارث لأصحابه احرقوا الباب، فإذا صار جمرا فدعوهم فإنهم لا يقدرون على الخروج، فإذا أصبحنا قتلناهم ففعلوا، فقال شبيب فدعوهم فإنهم لا يقدرون على الخروج، فإذا أصبحنا قتلناهم ففعلوا، فقال شبيب لأصحابه: لئن صبحكم هؤلاء إنه لهلاككم، فأتوا باللبود فبلوها بالماء، ثم ألقوها على الجمر، ثم خرجوا على القوم فضربوهم بالسيوف، فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا، وخلوا العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن [1] ، فكان ذلك أول جيش هزمه شبيب.
وفي هذه السنة دخل شبيب الكوفة [2]
وذلك أنه لما قتل صالح، كان قتله يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقين من جمادى الآخرة- فقال شبيب لأصحابه: بايعوني أو بايعوا من شئتم، فبايعوه، فخرج فقتل من قدر عليه، وبعث الحجاج جندا في طلبه فهزمهم، فبعث إليهم سورة بن الأبجر، فذهب شبيب إلى المدائن فأصاب منها وقتل من ظهر له، ثم خرج فأتى النهروان، فتوضأ هو وأصحابه وصلوا، وأتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب، فاستغفروا لإخوانهم وتبرءوا من على وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم خرجوا فقطعوا جسر النهروان ونزلوا في جانبه الشرقي، ثم التقوا فهزموا سورة، فمضى فله إلى الحجاج، فقال: قبح الله سورة، ثم دعا عثمان بن سعيد، فقال: تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق النزق [3] ، ولا تحجم إحجام الواني الفرق: فقال:
__________
[1] في ت: «حتى نزل المدائن» . وما أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 224.
[3] النزق: خفة في كل أمر وعجلة في جهل وحمق» .

(6/181)


لا تبعث معي أحدا من أهل هذا الفل، قال: لك ذاك، ثم أخرج معه أربعة آلاف، فجعل كلما مضى/ إلى مكان رحل شبيب إلى مكان أراده أن يتعجل إليه في فل من أصحابه، فما زالوا يتراوغون ويذهبون من مكان إلى مكان، ويقتتلون إذا التقوا وينهزمون. فطال ذلك على الحجاج، فولى سعيد بن المجالد على ذلك الجيش، وقال له: اطلبهم طلب السبع، ولا تفعل فعل عثمان.
فلقوهم فانهزم أصحاب سعيد، وثبت هو، فضربه شبيب فقتله، ورجع الناس إلى أميرهم الأول عثمان، فبعث الحجاج سويد بن عبد الرحمن في ألفي فارس، وقال:
اخرج إلى شبيب فالقه، فخرج فلقيه فحمل عليه شبيب حملة منكرة، ثم أخذ نحو الحيرة، فتبعه سويد، وخرج الحجاج نحو الكوفة، فبادره شبيب إليها، فنزل الحجاج الكوفة صلاة العصر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب، ثم دخل الكوفة، وجاء حتى ضرب باب القصر بعموده، ثم خرج من الكوفة، فنادى الحجاج وهو فوق القصر: يا خيل الله اركبي.
وبعث بسر [1] بن غالب في ألفين، وزائدة بن قدامة في ألفين، وأبا الضريس في ألف من الموالى. وخرج شبيب من الكوفة فأتى المردمة ثم مضى نحو القادسية، ووجه الحجاج زحر بن قيس في جريدة خيل نقاوة ألف وثمانمائة فارس، فالتقيا، فنزل زحر فقاتل حتى صرع وانهزم أصحابه.
وانعطف شبيب على الأمراء المبعوثين [إليه، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، وكانت الكرة لشبيب، فقال الناس: ارفعوا السيف وادعوا الناس] [2] : إلى البيعة،. ثم إنه ارتحل، وكان الحجاج يقول: أعياني شبيب.
ثم دعا [3] عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقال: انتخب ستة آلاف واخرج في طلب هذا العدو، فلما اجتمع العسكر كتب إليهم الحجاج: أما بعد، فإنكم قد اعتدتم عادة الأذلاء، وقد صفحت لكم مرة بعد مرة، وإني أقسم باللَّه عز وجل قسما
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 242.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 249.

(6/182)


صادقا إن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا يكون أشد عليكم من هذا العدو الذي تهربون منه في بطون الأودية والشعاب.
وبعث إلى عبد الرحمن عند طلوع الشمس، فقال: ارتحل/ الساعة، وناد في الناس: برئت الذمة من رجل من هذا البعث وجدناه متخلفا، فخرج حتى مر بالمدائن، فنزل بها يوما وليلة، واشترى أصحابه حوائجهم، ثم نادى بالرحيل، ودخل على عثمان بن قطن، فقال له عثمان: إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل [1] ، والله لكأنهم خلقوا من ضلوعها [2] ، الفارس منهم أشد من مائة، فلا تلقهم إلا في تعبية أو في خندق، فخرج في طلب شبيب، فارتفع شبيب إلى دقوقاء. وكتب الحجاج إلى عبد الرحمن:
أن اطلب شبيبا أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه.
وكان شبيب يدنو من عبد الرحمن فيجده قد خندق [على نفسه] [3] وحذر، فيمضي عنه، فإذا بلغه أنه قد سار انتهى إليه، فوجده قد صف الخيل، فلا يصيب له غرة، فإذا دنا منه عبد الرحمن ارتحل خمسة عشر فرسخا أو عشرين، فنزل منزلا غليظا خشنا.
ثم إن الحجاج عزل عبد الرحمن، وولى عثمان بن قطن، [وعلى أصحابه، فخرج شبيب في مائة وواحد وثمانين رجلا، فحمل عليهم فانهزموا، ودخل شبيب عسكرهم، وقتل] [4] نحوا من ألفين من ذلك العسكر، وقيل لابن الأشعث: قد ذهب الناس [5] ، وتفرقوا وقتل خيارهم، فرجع إلى الكوفة، فاختبأ من الحجاج حتى أخذ له الأمان بعد ذلك.
__________
[1] واحدتها: حلس، والجمع أحلاس، وحلوس: كل شيء، ولى ظهر الدابة تحت الرحل، وهو كساء رقيق يكون تحت البرذعة.
[2] في الأصل، ت: «طلوعها» ، وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في ت: «وقتل ابن الأشعث فذهب الناس» .

(6/183)


في هذه السنة ولى عبد الملك أبان بن عثمان المدينة في رجب. وأقام أبان الحج للناس في هذه السنة، واستقضى أبان نوفل بن مساحق. وكان على خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وكان قد استعفى من القضاء قديما، فولى مكانه أبو بردة، وعلى البصرة زرارة بن أوفى.
وفيها: ولد مروان بن محمد بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
467- حبة بن جوين بن علي، أبو قدامة العرني، الكوفي [1] :
ورد المدائن في حياة حذيفة. وحدث عن ابن مسعود، وعن علي رضي الله عنه.
وشهد وقعة/ النهروان. وكان ثقة عند قوم، وضعفه الأكثرون [2] .
[وتوفي في هذه السنة] [3] .
468- زهير بن قيس بن شداد البلوي [4]
يقال: إن له صحبة، شهد الفتح بمصر، وقتله الروم ببرقة في هذه السنة.
وكان سبب قتله أن الصريخ أتى بنزول الروم على برقة، فأمره عبد العزيز بالنهوض إليهم، فنهض فقتل.
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 123، وطبقات خليفة، والتاريخ الكبير 3/ 322، وأحوال الرجال للجوزجانيّ 22، والمعارف 624، والجرح والتعديل 3/ 1130، والضعفاء للدار للدّارقطنيّ 178، وتاريخ بغداد 8/ 274، وأسد الغابة، وميزان الاعتدال 1/ 450، وديوان الضعفاء للذهبي 819، وتاريخ الإسلام 3/ 15، والوافي بالوفيات 11/ 289.
[2] قال سليمان بن معبد عن يحيى بن معين: حبة العرني ليس بثقة. وقال الجوزجاني: غير ثقة، وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال العجليّ: كوفي، تابعي ثقة.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] البداية والنهاية 9/ 19.

(6/184)


469- شريح بن الحارث بن قيس، أبو أمية القاضي [1] :
ولاه عمر الكوفة، وأسند الحديث عن عمر، وعلي.
أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، عن أبي محمد الجوهري، عن ابن حيوية، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف، قَالَ: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، عن داود، عن عامر [2] :
أن ابنا لشريح قال لأبيه: إن بيني وبين قوم خصومة فانظر فإن كان الحق لي خاصمتهم، وإن لم يكن لي الحق أخاصم. فقص قصته عليه، فقال: انطلق فخاصمهم. فانطلق إليهم فتخاصموا إليه فقضى على ابنه، فقال له لما رجع داره [3] :
والله لو لم أتقدم إليك لم ألمك، فضحتني. فقال: يا بني، والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم، ولكن الله هو أعز عليّ منك، خشيت أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فيذهب ببعض حقهم.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا الحسين بن أحمد بن عبد الله الملطي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي محمد بن عبد الكريم، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، قال: حدثنا مجالد، عن الشعبي، قال [4] :
شهدت شريحا وجاءته امرأة تخاصم رجلا، فأرسلت عينيها فبكت، فقلت: أبا أمية ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة، فقال: يا شعبي، إن أخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون.
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 90، وطبقات خليفة 145، والتاريخ الكبير 4/ 2611، والمعارف 433، 434، والقضاة لوكيع 2/ 189، والجرح والتعديل 4/ 1458، وحلية الأولياء 4/ 132، والإستيعاب 2/ 701، وتهذيب تاريخ دمشق 6/ 305، وسير أعلام النبلاء 4/ 100، وتذكرة الحفاظ 1/ 59، وتاريخ الإسلام 3/ 160، وشذرات الذهب 1/ 85.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 6/ 1/ 92.
[3] في ابن سعد: «لما رجع أهله» .
[4] الخبر في تهذيب الكمال 12/ 440.

(6/185)


أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الحافظ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو حامد بن جبلة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق، قَالَ:
حَدَّثَنَا/ محمد بن مسعود، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن عون، عن إبراهيم، عن شريح [1] :
أنه قضى على رجل باعترافه، فقال: يا أبا أمية قضيت علي بغير بينة، فقال:
أخبرني ابن أخت خالتك [2] .
أخبرنا محمد بن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْن مالك، قَالَ: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال:
حدثني أبي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبي حيان التيمي، قال: حدثنا أبي، قال:
كان شريح إذا مات لأهله سنور أمر بها فألقيت في جوف داره، ولم يكن له مثعب شارع إلا في جوف داره اتقاء لأذى المسلمين.
توفي شريح في هذه السنة. وقيل: سنة ثمان وسبعين. وقد بلغ مائة وثماني سنين.
[وذكر ابن عبد البر أنه توفي سنة سبع وثمانين، وأنه بلغ من العمر مائة سنة] [3] .
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد، وتهذيب الكمال 12/ 440.
[2] في ت: «ابن أخت خالك» . والمعنى واحد.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/186)


ثم دخلت سنة سبع وسبعين
فمن الحوادث فيها قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي [1] ، وزهرة بن حيوية [2] .
وذلك أن شبيبا لما هزم الجيش الذي بعثه الحجاج مع ابن الأشعث، وقتل عثمان بن قطن، أوى من الحر إلى بلده يصيف بها، ثم خرج في نحو من ثمانمائة رجل، فأقبل نحو المدائن، فندب الحجاج الناس، فقام إليه زهرة بن حيوية وهو شيخ كبير، فقال: إنك إنما تبعث الناس متقطعين، فاستنفر الناس كافة، وابعث إليهم رجلا شجاعا ممن يرى الفرار عارا. فقال له الحجاج: فأنت لها، فقال: إني قد ضعفت، ولكن أخرجني مع الأمير أشير عليه برأيي.
فكتب الحجاج إلى عبد الملك: إن شبيبا قد شارف المدائن [3] ، وإنما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، في كلها يقتل أمراءهم، ويفل جنودهم فإن رأى أمير المؤمنين [أن] [4] يبعث إلى أهل الشام فيقاتلون عدوهم ويأكلون فيئهم فليفعل.
فلما قرأ الكتاب [5] بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف/ وبعث حبيب بن
__________
[1] في الأصل: «ورقاء بن عتاب الرياحي» خطأ.
[2] تاريخ الطبري 6/ 257.
وفي الأصل: «بن حيويه» وسيتكرر هذا الخطأ في الخبر.
[3] في الأصل: «شارف المدينة» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت، والطبري.
[5] تاريخ الطبري 6/ 264.

(6/187)


عبد الرحمن في ألفين، وتجهز أهل الكوفة أيضا، وقد بعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء وهو مع المهلب، فبعثه على ذلك الجيش، فاجتمعوا خمسين ألفا، ومع شبيب ألف رجل، فخرج في ستمائة، وتخلف عنه أربعمائة، فقال: قد تخلف عنا من لا يحب أن يرى فينا.
ثم عبى أصحابه، وحمل على الميمنة ففضها، وانهزمت الميسرة، وكان عتاب في القلب وزهرة جالسا معه، فغشيهم، فطعن عتاب بن ورقاء، ووطئت الخيل زهرة، وجاءه الفضل بن عامر الشيباني [1] فقتله، وتمكن شبيب من العسكر، وحوى ما فيه، فقال: ارفعوا عنهم السيف، ثم دعا إلى البيعة فبايعه الناس من ساعتهم وهربوا تحت الليل، فأقام شبيب يومين، وبعث إلى أخيه فأتاه من المدائن، ثم أقبل إلى الكوفة، وبعث الحجاج إليه جيشا فهزمهم، وجاء شبيب حتّى ابتنى مسجدا في أقصى السبخة، فلما كان في اليوم الثالث أخرج الحجاج مولاه أبو الورد عليه تجفاف، وأخرج مجففة كثيرة، جعلهم على هيئة الغلمان له، وقالوا: هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال:
إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه. ثم أخرج إليه غلاما آخر فقتله.
ثم خرج [2] الحجاج وقت ارتفاع النهار من القصر، فقال: ائتوني ببغل أركبه إلى السبخة، فأتوه، فلما نظر إلى السبخة وإلى شبيب وأصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائة فارس، فقعد الحجاج على كرسي، وأخذ يمدح أهل الشام ويقول: أنتم أهل السمع والطاعة، فلا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة.
فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم حمل شبيب بجميع أصحابه، ونادى الحجاج بجماعة الناس، فوثبوا في وجهه، فما زالوا يطعنون ويضربون، فنادى شبيب: يا أولياء الله، الأرض، ثم نزل وأمر أصحابه، فنزل بعضهم، / فقال خالد بن عتاب: ائذن لي في قتالهم، فإني موتور، وأنا ممن لا يتهم في نصيحته، فقال: قد أذنت، فأتاهم من
__________
[1] في الأصل: «ابن عتاب الشيبانيّ» ، وما أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 269.

(6/188)


ورائهم، فقتل مصادا [1] أخا شبيب، وغزالة امرأة شبيب. وجاء الخبر إلى الحجاج، فقال لأهل الشام: شدوا عليهم فقد أتاهم ما أرعب قلوبهم، فشدوا عليهم فهزموهم.
وتخلف شبيب في حامية الناس، ثم عبر على الجسر وقطعه.
وفي رواية: أن غزالة امرأة شبيب نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران، فدخل بها شبيب الكوفة فوفت بنذرها.
ولما رحل شبيب بعث الحجاج حبيب بن عبد الرحمن الحكمي في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام، وقال له: حيث ما لقيته فنازله، وبعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب أن من جاءنا منهم فهو آمن، فكان كل من ليست له تلك البصيرة ممن قد هده القتال يجيء فيؤمن، فتفرق عنه ناس كثير من أصحابه، وبلغ شبيب أن عبد الرحمن بالأنبار، فأقبل بأصحابه فبيتهم فما قدر عليهم بشيء لأنهم قد احترزوا، وجرت مقتلة وسقطت أيد، وفقئت أعين، فقتل من أصحاب شبيب نحو من ثلاثين، ومن الآخرين نحو من مائة، فمل الفريقان بعضهم بعضا من طول القتال، ثم انصرف عنهم شبيب وهو يقول لأصحابه: ما أشد هذا الّذي بنا، لو كنا إنما نطلب الدنيا، وما أيسر هذا في جانب ثواب الله عز وجل، ثم حدث أصحابه، فقال: قتلت أمس منهم رجلين أحدهما أشجع الناس، والآخر أجبن الناس، خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا القرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته ثم خرج قبل أصحابه وخرجت معه، فقال لي: أتشتري علفا، فقلت: إن لي رفقاء قد كفوني ذلك، أين ترى عدونا هذا؟ فقال: قد بلغني أنه نزل قريبا منا، وأيم الله لوددت أني قد لقيت شبيبهم هذا، قلت فتحب ذلك، / قال: نعم، قلت: فخذ حذرك فأنا والله شبيب، فانتضيت سيفي، فخر والله ميتا وانصرفت، فلقيت الآخر خارجا من القرية، فقال لي:
أين تذهب الساعة؟ وإنما يرجع [2] الناس إلى عسكرهم، فلم أكلمه، ومضيت فتبعني حتى لحقني فعطفت عليه [3] ، فقلت له: مالك؟ فقال: أنت والله عدونا؟ فقلت: أجل
__________
[1] في الأصل: «فقتل معاذا» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «وثم يرجع الناس» .
[3] تاريخ الطبري 6/ 178: «فقطعت عليه» .

(6/189)


والله، فقال: والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك، فحملت عليه وحمل عليّ فاضطربنا بسيفنا ساعة، فو الله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه، فقتلته.
وفي هذه السنة هلك شبيب الخارجي [1]
في قول هشام بن محمد ... وقال غيره: كان هلاكه في سنة ثمان وسبعين.
والسبب في هلاكه أن الحجاج أمر سفيان بن الأبرد أن يسير إلى شبيب، وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى انجبر واستراش هو وأصحابه، ثم أقبل راجعا فاستقبله سفيان بجسر دجيل الأهواز، وكان الحجاج قد كتب إلى الحكم بن أيوب، وهو زوج بنت الحجاج وعامله على البصرة في أربعة آلاف إلى شبيب، ومره فليلحق [بسفيان بن الأبرد، وليسمع له وليطع.
فبعث إليه زياد بن عمرو العتكي في أربعة آلاف، فلم ينته إلى سفيان حتى التقى] [2] سفيان بشبيب بجسر دجيل، فعبر شبيب إلى سفيان فاقتتلوا، وكر شبيب عليهم أكثر من ثلاثين كرة، فجالدهم أصحاب سفيان حتى اضطروهم إلى الجسر، فنزل شبيب ونزل معه نحو من مائة، فاقتتلوا حتى المساء، فدعا سفيان الرماة، فقال:
ارشقوهم بالنبل، فركب شبيب وأصحابه وكروا على أصحاب النبل كرة صرعوا منهم أكثر من ثلاثين، ثم عطف خيله على الناس، فطاعنوه حتى اختلط الظلام ثم انصرف عنهم. وقد أحب الناس انصرافه لما يلقون منه، فلما أراد العبور نزل حافر فرسه عن جنب السفينة [3] ، فسقط في الماء فقال: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا 8: 44 [4] .
فارتمس [5] في الماء، ثم ارتفع فقال: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 6: 96 [6] .
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 224، ومروج الذهب 3/ 146، والبداية والنهاية 9/ 22.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] كذا في الأصل، وفي ت: «في جوف السفينة» ، وفي الطبري 6/ 280. «على حرف السفينة» .
[4] سورة: الأنفال، الآية: 42.
[5] ارتمس في الماء: إذا انغمس فيه حتى يغيب رأسه وجميع جسده فيه.
[6] سورة: الأنعام، الآية: 96، وغيرها.

(6/190)


وفي/ رواية [1] : أنه كان معه قوم لم يكن لهم تلك البصيرة النافذة، وقد كان قد قتل من عشائرهم خلقا كثيرا، فأوجع بذلك قلوبهم، فلما تخلف في أواخر أصحابه حين العبور قال بعضهم لبعض: هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة، فقطعوا الجسر فمالت السفن، ففزع الفرس ونفر، فوقع في الماء.
والحديث الأول هو المشهور، وجاء صاحب الجسر إلى سفيان فقال: إن رجلا منهم وقع في الماء، فتنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين وانصرفوا وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان ثم أقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث مهاجر بن صيفي، فعبر إلى عسكرهم فإذا ليس فيه منهم صافر [2] ولا آثر، فنزل فيه فإذا أكثر خلق الله [3] خيرا.
فاستخرجوا شبيبا وعليه الدرع، فزعموا أنه شق عن بطنه فأخرج قلبه، فكان مجتمعا صلبا كأنه صخرة، وإنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة الإنسان.
وكان لما نعي إلى أمه [4] وقيل قتل، لم تصدق، فلما قيل لها: إنه غرق، صدقت وقالت: إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار، فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء.
وقد روى أبو مخنف، عن فروة بن لقيط: أن يزيد بن نعيم أبا شبيب كان ممن دخل في جيش سلمان بن ربيعة إذ بعث به الوليد بن عقبة على أمر عثمان بن عفان إياه بذلك مددا لأهل الشام إلى أرض الروم، فلما قفل المسلمون أقيم السبي للبيع، فرأى يزيد بن نعيم جارية حمراء، لا شهلاء، ولا زرقاء، طويلة جميلة، تأخذها العين، فابتاعها وذلك سنة خمس وعشرين أول السنة، فلما أدخلها الكوفة قال: أسلمي، فأبت فضربها فلم تزدد إلا عصيانا، فأمر بها فأصلحت له، ثم أدخلت عليه، فلما تغشاها حملت فولدت له شبيبا في ذي الحجة يوم النحر، وكان يوم/ السبت، وأسلمت قبل أن تلده وقالت: إني قد رأيت في النوم أنه خرج من قبلي شهاب نار فسطع حتى بلغ السماء والآفاق كلها، فبينا هو كذلك إذ وقع في ماء كثير جار، فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 281.
[2] يقال: ما في الدار من صافر، أي أحد يصفر، وهو مثل.
[3] في الأصول: «خلقه» . وما أوردناه من الطبري.
[4] تاريخ الطبري 6/ 282.

(6/191)


الّذي تهريقون [1] فيه الدماء، وإني قد أولت رؤياي هذه أني أرى ولدي سيكون صاحب دماء يهريقها، وإني أرى أمره سيعلو ويعظم.
وفي هذه السنة خرج مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك بن مروان، ولحق بالجبل فقتل [2] .
وسبب ذلك أن الحجاج ولى أولاد المغيرة فاستعمل عروة بن المغيرة على الكوفة، ومطرف على المدائن، وحمزة على همدان. وأقبل شبيب الخارجي إلى المدائن، فكتب مطرف إلى الحجاج بخبره، فأمده بالرجال، فلما نزل شبيب بهرسير قطع مطرف الجسر فيما بينه وبينه، وبعث إلى شبيب: ابعث رجالا من صلحاء أصحابك أدارسهم القرآن فأنظر ما تدعون إليه، فبعث إليه: ابعث إلي رجالا يكونون عندي حتى ترد أصحابي، فقال له: كيف آمنك على أصحابي، وأنت لا تأمنني على أصحابك؟
فقال: إنك قد علمت أننا لا نستحل في ديننا الغدر وأنتم تفعلونه، فبعث إليهم رجالا وبعثوا إليه رجالا، فقال لأصحابهم: إلى ما تدعون؟ فقالوا: إلى كتاب الله وسنة نبيه، والذي نقمنا على قومنا الاستئثار بالفيء، وتعطيل الحدود، والتسلط بالجبرية، وما زالوا يترددون إليه حتى وقع في نفسه خلع عبد الملك والحجاج، فقيل له: إن هذا الخبر يبلغ القوم فلا تقم في مقامك، فخرج وجمع رءوس أصحابه وقال لهم: إني أشهدكم أني قد خلعت عبد الملك والحجاج فمن أحب فليصحبني ومن أبى فليذهب حيث شاء، فإني لا أحب أن يتبعني من ليست/ له نية في جهاد أهل الجور.
ثم بايعه أصحابه، ثم بعث إلى أخيه حمزة: أمددني بما قدرت عليه من مال أو سلاح، فقال للرسول: ثكلتك أمك، أنت قتلت مطرفا؟ فقال: لا، ولكن مطرفا قتل نفسه وقتلني، وليته [3] لا يقتلك، قال: ويحك، من سول له هذا الأمر؟ قال: نفسه.
ثم قوي أمر مطرف، فأخبر الحجاج، فبعث الجيوش لقتاله، وبعث إلى أخيه
__________
[1] في الأصل: «تفور» وما أوردناه من الله والطبري.
[2] تاريخ الطبري 6/ 284.
[3] في الأصل: «فليته» وما أوردناه من ت.

(6/192)


حمزة من أوثقه بالحديد وحبسه، فالتقت الجيوش بمطرف فاقتتلوا، فخرج من عسكر مطرف بكير بن هارون [1] ، فصاح: يا أهل ملتنا، نسألكم باللَّه عز وجل الذي لا إله إلا هو لما أنصفتمونا، خبرونا عن عبد الملك وعن الحجاج، ألستم تعلمونهما جائرين مستأثرين يتبعان الهوى، ويأخذان على الظنة، ويقتلان على الغضب. فنادوه: كذبت.
فقال: ويلكم لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى 20: 61 [2] .
فخرج إليه رجل فاقتتلا، فقتل الرجل، ثم اشتد القتال، فانكشفت خيل مطرف فوصلوا إليه، واحتز رأسه عمرو بن هبيرة، ثم طلب الأمان لبكير بن هارون [3] ، من أمير الجيش فأمنه.
وفي هذه السنة وقع الاختلاف بين الأزارقة [4]
أصحاب قطري بن الفجاءة، فخالفه بعضهم واعتزله، وبايع عبد رب الكبير [5] .
وسبب اختلافهم أن المهلب أقام يقاتل قطريا وأصحابه من الأزارقة نحوا من سنة، وكانت كرمان في أيدي الخوارج، وفارس في يد المهلب، فضاق على الخوارج مكانهم، إذ لا يأتيهم من فارس مادة، فخرجوا إلى كرمان وتبعهم المهلب، فقاتلهم وأبعدهم عن فارس كلها، فصارت في يده، فبعث الحجاج عليها عماله وأخذها من المهلب.
فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إلى الحجاج: دع بيد المهلب خراج جبال فارس، فإنه لا بد للجيش من قوة، ودع له كورة إصطخر ودرابجرد [6] / فتركها له.
وكتب له الحجاج: أما بعد، فإنك لو شئت فيما أرى اصطلمت هذه الخارجة
__________
[1] في ت: «ابن معروف» خطأ.
[2] سورة: طه، الآية: 61.
[3] في ت: «ابن معروف» . خطأ.
[4] تاريخ الطبري 6/ 301.
[5] في إحدى نسخ الطبري: «عبد ربه» .
[6] في الطبري 6/ 31: «كورة فسا ودرابجرد، وكورة إصطخر» .

(6/193)


المارقة، ولكنك تحب طول بقائهم لتأكل الأرض حولك، وقد بعثت إليك البراء بن قبيصة لينهضك إليهم إذا قدم عليك بجميع المسلمين، ثم جاهدهم أشد الجهاد، وإياك والعلل.
فأخرج المهلب الكتائب، وأقام البراء على تل، وقاتل الخوارج من بكرة إلى نصف النهار، فقال له البراء: والله ما رأيت كتائب ككتائبك، ولا فرسانا كفرسانك، ولا رأيت مثل قوم يقاتلونك أصبر منهم، أنت والله المعذور. ثم عاد وقت العصر، فقاتل حتى حجز الليل بينهم.
وكتب المهلب إلى الحجاج: أتاني كتاب الأمير واتهامه إياي في هذه المارقة، وقد رأى الرسول ما فعلت، فو الله لو قدرت على استئصالهم ثم أمسكت عن ذلك لقد غششت المسلمين.
ثم قاتلهم المهلب ثمانية عشر شهرا، ثم إن رجلا منهم كان عاملا لقطري على ناحية من كرمان قتل رجلا كان ذا بأس من الخوارج، فوثب الخوارج إلى قطري وقالوا:
أمكنا منه لنقتله بصاحبنا، فقال: ما أرى أن أقتل رجلا تأول فأخطأ في التأويل، قالوا:
بلى، قال: لا، فوقع الاختلاف بينهم، فولوا عبد رب الكبير وخلعوا قطريا، فلم يبق معه إلا ربعهم أو خمسهم، فجعلوا يقتتلون فيما بينهم نحوا من شهر غدوة وعشية [فكتب بذلك المهلب إلى الحجاج وقال: إني أرجو أن يكون اختلافهم سببا لهلاكهم] [1] .
فكتب إليه الحجاج: ناهضهم على اختلافهم قبل أن يجتمعوا. فكتب إليه المهلب.
لست أرى أن أقاتلهم ما دام يقتل بعضهم بعضا، فإن أتموا على ذلك فهو الذي نريد، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضا، فيكونون أهون شوكة.
فسكت عنه الحجاج- ثم إن قطريا خرج بمن اتبعه نحو طبرستان، وبايع عامتهم عبد رب الكبير، فنهض المهلب فقاتلوه قتالا شديدا، ثم إن الله تعالى قتلهم فلم ينج منهم إلا القليل، وأخذ عسكرهم وما فيه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/194)


وفي هذه السنة هلك قطري، وعبد رب الكبير، وعبيدة بن هلال ومن كان معهم من الأزارقة [1] .
وقيل: بل كان/ هلاكهم في سنة ثمان وسبعين. وسبب هلاكهم أنهم لما اختلفوا، وتوجه قطري إلى طبرستان، ووجه الحجاج جيشا مع سفيان بن الأبرد، فاتبعهم، فلحق قطريا في شعاب طبرستان، فقاتلوه فتفرق عنه أصحابه، ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتدهدى إلى أسفله [2] . فأتاه علج من أهل البلد، فقال له قطري:
أسقني ماء، فقال: أعطني شيئا حتى أسقيك، قال: ويحك، والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأشرف العلج عليه وحدر عليه حجرا عظيما فأصاب إحدى وركيه فأوهنه، وصاح بالناس، فأقبلوا فقتلوه.
فبعث سفيان برأسه مع أبي جهم [3] بن كنانة الكلبي إلى الحجاج، ثم أتى به عبد الملك، ثم إن سفيان أقبل إلى عسكر عبيدة بن هلال وقد تحصن في قصر بقومس فأحاط به وبأصحابه، فجهدوا حتى أكلوا دوابهم، ثم خرجوا فقاتلوه فقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحجاج.
وفي هذه السنة عبر أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد النهر، نهر بلخ، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعد أن أشرفوا على الهلاك، فانصرفوا إلى مرو.
وفي هذه السنة غزا الصائفة الوليد بن عبد الملك.
وفيها: حج بالناس أبان بن عثمان بن عفان، وهو أمير على المدينة، وكان على خراسان أميه بن عبد الله، وعلى الكوفة والبصرة الحجاج.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 308.
[2] في ت: «ووقع دابته في أعلى الشعب فتدهده إلى أسفله» .
[3] في تاريخ الطبري: «مع أبي الجهم» .

(6/195)


ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
470- زر بن حبيش، أبو مريم الأسدي [1] :
روى عن عمر، وعلي، وابن عوف، وابن مسعود، وأبي بن كعب.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب الأنماطي، قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بن عبد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الله الدقاق، قال: أخبرنا الحسين بْنُ صَفْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن محمد بن عبيد، قال: حدثنا خلف بن هشام، قال: حدثنا حماد، عن عاصم بن أبي النجود، قال:
أدركت أقواما كانوا يتخذون هذا الليل/ جملا منهم زر، وأبو وائل.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا ثَابِت بْن بْندار، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر البرقاني، قال: حدثنا عمر بن نوح، قال: حدثنا عبيد الله بن سليمان، قال: حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري، قال: حدثنا نعيم بن حماد، عن عبد الله بن إدريس، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال:
افتض زر بن حبيش جارية وهو ابن مائة وعشرين سنة، وتوفي وهو ابن اثنين وعشرين ومائة سنة.
471- شبيب بن يزيد الخارجي [2] :
مات في هذه السنة. وقد ذكرنا قتله في الحوادث.
472- عبيد بن عمير بن قتادة، أبو عاصم الليثي الواعظ [3] :
أسند عن أبي بن كعب، وأبي ذر، وأبي قتادة، وابن عمر، وابن عمرو، وأبي هريرة، وابن عباس، وعائشة.
__________
[1] حلية الأولياء 4/ 181، والإصابة 1/ 577، وطبقات ابن سعد 6/ 1/ 71، وطبقات خليفة 140، والتاريخ الكبير 3/ 1495، والجرح والتعديل 3/ 2817، والاستيعاب 2/ 563، وتهذيب تاريخ دمشق 5/ 377، وأسد الغابة 2/ 300، وتاريخ الإسلام 3/ 249، وسير أعلام النبلاء 4/ 166، وتذكرة الحفاظ 1/ 57.
[2] في الأصل: «شبيب بن زيد» خطأ، وما أوردناه من ت.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 341.

(6/196)


وروى عنه من كبار التابعين: مجاهد، وعطاء، وأبو حازم.
وكان مجاهد يقول: كنا نفخر بفقيهنا وبقاضينا: فأما فقيهنا فابن عباس، وأما قاضينا فعبيد بن عمير.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم البغدادي، قال: أخبرنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد، قَالَ:
حدثنا محمد بن أبي سهل، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن قيس بن سعيد، عن عبيد بن عمير، قال:
إن أهل القبور ليتلقون الموتى كما [1] يتلقى الراكب، يسألونه، فإذا سألوه: ما فعل فلان؟ فمن كان قد مات يقول: ألم يأتكم؟ فيقولون: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 ذهب به إلى أمه الهاوية.
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ ثَابِتِ بْنِ بُنْدَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّلَمَاسِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ بَكْرٍ الأَنْدَلُسِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بن أحمد بن زكريا الهاشمي، قال: حدثنا صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْعِجْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ:
كَانَتِ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ بِمَكَّةَ، وَكَانَ لَهَا زَوْجٌ، فَنَظَرَتْ يَوْمًا إِلَى وَجْهِهَا فِي الْمِرْآةِ، فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَتَرَى أَحَدًا يَرَى هَذَا الْوَجْهَ لا يُفْتَتَنُ بِهِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: وَمَنْ؟ قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ/ قَالَتْ: فَأْذَنْ لِي فِيهِ فَلأَفْتِنَنَّهُ، قَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكِ.
قَالَ: فَأَتَتْهُ كَالْمُسْتَفْتِيَةِ، فَخَلا مَعَهَا فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ: فَأَسْفَرَتْ عَنْ وَجْهٍ مِثْلَ فِلْقَةِ الْقَمَرِ، فَقَالَ لَهَا: اسْتَتِرِي يَا أَمَةَ اللَّهِ، قَالَتْ: إِنِّي قَدْ فُتِنْتُ بك فانظر في أمري، قال: إني سَائِلُكِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنْ أَنْتِ صَدَقْتِ نَظَرْتُ فِي أَمْرِكِ، قَالَتْ: لا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ إِلا صَدَقْتُكَ. قَالَ: أَخْبِرِينِي، لَوْ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ أَتَاكَ لِيَقْبِضَ رَوْحَكِ كَانَ يَسُرُّكِ أَنِّي قَضَيْتُ لَكِ هَذِهِ الْحَاجَةَ؟ قَالَتْ: اللَّهمّ لا. قال: صدقت، فلو أدخلت
__________
[1] في ت: «الميت» .

(6/197)


قَبْرَكِ فَأُجْلِسْتِ لِلْمُسَاءَلَةِ أَكَانَ يَسُرُّكِ أَنِّي قَضَيْتُ لَكِ هَذِهِ الْحَاجَةَ؟ قَالَتْ: اللَّهمّ لا، قَالَ: صَدَقْتِ، فَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أُعْطُوا كُتُّبَهُمْ فَلا تَدْرِينَ أَتَأْخُذِينَ كِتَابَكِ بِيَمِينِكِ أَوْ بِشِمَالِكِ، أَكَانَ يَسُرُّكِ أَنِّي قَضَيْتُ لَكِ هَذِهِ الْحَاجَةَ؟ قَالَتْ: اللَّهمّ لا، قَالَ: صَدَقْتِ، فَلَوْ أَرَدْتِ الْمَمَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ فَلا تَدْرِينَ تَنْجِينَ أَمْ لا تَنْجِينَ، أَكَانَ يَسُرُّكِ أَنِّي قَضَيْتُ لَكِ هَذِهِ الحاجة؟ قالت: اللَّهمّ لا. قال: صدقت، فلو جِيءَ بِالْمَوَازِينِ وَجِيءَ بِكِ لا تَدْرِينَ تَخِفِّينَ أَمْ تَثْقُلِينَ، أَيَسُرُّكِ أَنِّي قَضَيْتُ لَكِ هَذِهِ الْحَاجَةَ؟ قَالَتْ: اللَّهمّ لا، قَالَ: صَدَقْتِ قَالَ: فَلَوْ وَقَفْتِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُسَاءَلَةِ، كَانَ يَسُرُّكِ أَنِّي قَضَيْتُ لَكِ هَذِهِ الْحَاجَةَ؟
قَالَتْ: اللَّهمّ لا، قَالَ: صَدَقْتِ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا أَمَةَ اللَّهِ، فَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَأَحْسَنَ إِلَيْكِ.
قَالَ: فَرَجَعَتْ إِلَى زَوْجِهَا، قَالَ: مَا صَنَعْتِ؟ قَالَتْ: أَنْتَ بَطَّالٌ وَنَحْنُ بَطَّالُونَ.
فَأَقْبَلَتْ عَلَى الصَّلاةِ وَالصَّوْمِ وَالْعِبَادَةِ.
قَالَ: فَكَانَ زوجها يقول: ما لي وَلِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَفْسَدَ عَلَيَّ امْرَأَتِي كَانَتْ لِي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ عَرُوسًا، فَصَيَّرَهَا رَاهِبَةً.

(6/198)


ثم دخلت سنة ثمان وسبعين
فمن الحوادث فيها عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله عن خراسان، وضمه خراسان إلى سجستان إلى الحجاج [1] .
وكان السبب أن الحجاج لما فرغ من أمر شبيب/ ومطرف شخص من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل، فقدم عليه المهلب وقد فرغ من الأزارقة، فأجلسه معه وأحسن أعطيات أصحابه، وزادهم، وكان الحجاج قد ولى المهلب سجستان مع خراسان، فقال له المهلب: ألا أدلك على رجل هو أعلم مني بسجستان [2] ، قال: بلى، قال: عبد الله بن أبي بكرة، فبعثه على سجستان، وكان العامل هناك أمية بن عبد الله.
وفي هذه السنة فرغ الحجاج من بناء واسط [3]
[وسبب تسميتها] [4] أن الحجاج قال: هذا وسط ما بين المصرين: الكوفة والبصرة، وكان كتب إلى عبد الملك يستأذنه في بناء مدينة بين المصرين، فأذن له، فابتدأ في البناء من سنة خمس وسبعين، فبنى القصر والمسجد والسورين، وحفر
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 319.
[2] «بسجستان» : مطموسة في الأصل.
[3] تاريخ الطبري 6/ 383، في أحداث سنة 83.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/199)


الخندق في ثلاث سنين، وفرغ في هذه السنة، فأنفق عليها خراج العراق كله خمس سنين، ثم نقل إليها من وجوه أهل الكوفة، وأمرهم أن يصلوا عن يمين المقصورة، ونقل من وجوه أهل البصرة، وأمرهم أن يصلوا عن يسار المقصورة، وأمر من كان معه من أهل الشام أن يصلوا بحياله مما يلي المقصورة، وأنزل أصحاب الطعام والبزازين والصيارف والعطارين عن يمين السور، وأنزل البقالين وأصحاب السقط، وأصحاب الفاكهة في قبلة السور، وأنزل الروزجارية، والصناع عن يسار السور إلى دجلة، وجعل لأهل كل تجارة قطعة لا يخالطهم غيرهم، وأمر أن يكون مع أهل كل قطعة صيرفي، وجعل لقصره أربعة أبواب، واتخذ لهم مقبرة من الجانب الشرقي، وعقد الجسر وضرب الدراهم، وولاها لابن أخيه.
وقد جرت لابن أخيه في توليته البلد قصة طريفة [1] :
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أَخْبَرَنَا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس/ قال: حدثنا عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم الزَّيْنبيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن خلف، قال: حدثنا أبو بكر العامري، قال: حدثنا عبد الله بن عمر، قال: حدثنا أبو عباد، قال:
أدركت الخادم الذي كان يقوم على رأس الحجاج، فقلت له: أخبرني بأعجب شيء رأيته من الحجاج، قال [2] : كان ابن أخيه أميرا على واسط، وكانت بواسط امرأة يقال إنه لم يكن بواسط في ذلك الوقت أجمل منها، فأرسل ابن أخيه إليها يريدها عن نفسها مع خادم له، فأبت عليه وقالت: إن أردتني فاخطبني إلى إخوتي. قال: وكانت لها [3] إخوة أربعة، فأبى وقال: لا إلا كذا، وعاودها فأبت عليه إلا أن يخطبها، فأما حرام فلا، وأبى هو إلا الحرام، فأرسل إليها بهدية فأخذتها فعزلتها.
قال: فأرسل إليها عشية جمعة: إني آتيك الليلة، فقالت لأمها: إن الأمير بعث إلي بكذا وكذا. قال: فأنكرت أمها ذلك، وقالت أمها لإخوتها: إن أختكم قد زعمت
__________
[1] في ت: «وولى ابن أخيه واسطا وجرت لابن أخيه قصة عجيبة» .
[2] «فقلت له أخبرني ... من الحجاج قال» : ساقطة من ت.
[3] في ت: «وكان لها» .

(6/200)


كذا وكذا، فأنكروا ذلك وكذبوها، فقالت: إنه قد وعدني أن يأتيني الليلة وسترونه، قال: فقعد إخوتها في بيت حيال البيت الذي هي فيه وفيه سراج وهم يرون من يدخل إليها وجويرية لها على باب الدار قاعدة، حتى جاء فنزل عن دابته وقال لغلامه: إذا أذن المؤذن في الغلس فاتني بدابتي.
ودخل فمشت الجارية بين يديه وقالت له: ادخل وهي على سرير مستلقية، فاستلقى إلى جانبها ثم وضع يده عليها وقال: إلى كم ذا المطل؟ فقالت له: كف يدك يا فاسق.
قال: ودخل إخوتها ومعهم سيوف، فقطعوه ثم لفوه في نطع وجاءوا به إلى سكة من سكك واسط فألقوه فيها. وجاء الغلام بالدابة فجعل يدق الباب رفيقا، فلم يكلمه أحد، فلما غشي الصبح، [وخشي] [1] أن تعرف الدابة انصرف. وأصبحوا فإذا هم به، فأتوا به الحجاج، فأخذ أهل تلك السكة، فقال: أخبروني ما هذا وما قصته؟ قالوا: لا نعلم حاله غير أنا وجدناه ملقى، ففطن الحجاج، فقال: علي بمن كان يخدمه/ فأتي بذلك الخصي الذي كان الرسول، فقيل: هذا كان صاحب سره، فقال له الحجاج: ما كان حاله، وما [كانت] [2] قصته؟ فأبى، فقال: إن صدقتني لم أضرب عنقك، وإن لم تصدقني فعلت بك وفعلت.
قال: فأخبره بالأمر على جهته، فأمر بالمرأة وأمها وإخوتها، فجيء بهم فعزلت المرأة عنهم فسألها فأخبرته بمثل ما أخبره الخصي، ثم عزلها وسأل الإخوة فأخبروه بمثل ذلك وقالوا: نحن الذي صنعنا به الذي ترى، قال: فعزلهم وأمر برقيقه ودوابه وماله للمرأة، فقالت المرأة: عندي هديته، فقال: بارك الله لك فيها وأكثر في النساء مثلك، هي لك، وكل ما ترك من شيء، فهو لك، وقال: مثل هذا لا يدفن، فألقوه للكلاب.
ودعا بالخصي وقال: أما أنت فقد قلت لا أضرب عنقك، فأمر بضرب وسطه.
وفي هذه السنة حج بالناس الوليد بن عبد الملك، وكان أمير المدينة أبان، وأمير الكوفة والبصرة
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/201)


وخراسان وسجستان الحجاج، وعلى قضاء الكوفة شريح، وفي رواية: وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
وأغزى عبد الملك في هذه السنة يحيى بن الحكم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
473- جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة، أبو عبد الله [1] :
شهد العقبة مع السبعين، وكان أصغرهم، وأراد شهود بدر فخلفه أبوه على أخواته وكن تسعه، وخلفه أيضا حين خرج إلى أحد، وشهد ما بعد ذلك.
وتوفي في هذه السنة وهو ابن أربع وتسعين سنة، وكان قد ذهب بصره، وصلى عليه أبان بن عثمان وهو والي المدينة يومئذ.
__________
[1] طبقات خليفة 102، والتاريخ الكبير 2/ 1/ 207، والجرح والتعديل 1/ 1/ 492، والاستيعاب 1/ 219، وتهذيب تاريخ دمشق 2/ 389، وسير أعلام النبلاء 3/ 189، وتاريخ الإسلام 3/ 143.

(6/202)


ثم دخلت سنة تسع وسبعين
فمن الحوادث فيها وقوع الطاعون بالشام حتى كاد الناس يفنون من شدته. ولم يغز تلك/ السنة.
وفيها: أصابت الروم أهل أنطاكية.
وفيها غزا عبيد الله رثبيل [1] :
وذلك أن الحجاج كتب [إليه] [2] : لا ترجع حتى تستبيح أرضه، وتهدم قلاعه، وتقتل مقاتلته، وتسبي ذريته، فخرج بمن معه من المسلمين وأهل الكوفة والبصرة.
وكان من أهل الكوفة شريح بن هانئ الحارثي، وكان من أصحاب علي رضي الله عنه، فمضى حتى أوغل في بلاد رثبيل، فأصاب من الغنم والبقر والأموال ما شاء، وهدم قلاعها وحصونها، ودنوا من مدينة الترك، فأخذوا على المسلمين بالعقاب والشعاب، وخلوهم والرساتيق، فسقط في يد المسلمين، فظنوا أن قد هلكوا، فبعث ابن أبي بكرة إلى شريح بن هاني: إني مصالح القوم على أن أعطيهم مالا ويخلوا بيني وبين الخروج، فأرسل إليهم فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، فقال له شريح: إنك لا تصالح على شيء إلا حسبه السلطان عليكم في أعطياتكم [3] ، فقالوا: منعنا العطاء أهون من هلاكنا، فقال شريح: والله لقد بلغت سنا وما أظن ساعة تأتي علي فتمضي
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 322، والبداية والنهاية 9/ 32.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «عليك من أعطياتكم» .

(6/203)


حتّى أموت، ولقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان، فأتتني اليوم، يا أهل الشام [1] ، تعاونوا على عدوكم. فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت، فقال له شريح: إنما حسبك أن يقال: بستان ابن أبي بكرة، أو حمام ابن أبي بكرة، يا أهل الشام [2] ، من أراد الشهادة فليأت، فتبعه ناس من المتطوعة، فقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه ثم خرج المسلمون من تلك البلاد.
وفي هذه السنة قدم المهلب خراسان أميرا عليها، وانصرف أمية بن عبد الله.
وفيها: حج بالناس أبان بن عثمان، وكان أميرا على المدينة من قبل عبد الملك، وكان على العراق والمشرق كله الحجاج، وعلى خراسان المهلب من قبل الحجاج.
وقيل: إن المهلب كان على حربها، وابنه المغيرة كان على خراجها، وكان على قضاء الكوفة/ أبو بردة، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
474- الحارث المتنبي الكذاب [2] :
روى عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قَالَ: حدثنا محمد بن المبارك، قَالَ:
حدثنا الوليد بْن مسلم، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حسان، قال [3] :
كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له أب بالحولة، فعرض له إبليس، وكان متعبدا زاهدا لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه زهادة، وكان إذا أخذ في التحميد لم يسمع السامعون بأحسن من كلامه. قال: فكتب إلى أبيه:
يا أبتاه، أعجل علي فإني قد رأيت شيئا أتخوف أن يكون من الشيطان. قال: فزاده أبوه
__________
[1] في تاريخ الطبري: «يا أهل الشام» .
[2] البداية والنهاية 9/ 30، ومعجم البلدان 2/ 323.
[3] الخبر في المراجع السابقة، وجاء في البداية محرف.

(6/204)


غيا، فكتب إليه: يا بني، أقبل على ما أمرت به إن الله يقول: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ 26: 221- 222 [1] ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به، وكان يجيء إلى أهل المسجد رجلا رجلا، فيذاكرهم أمره. ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو رأى ما يرضي قبل، وإلا كتم عليه، وكان يريهم الأعاجيب، كان يأتي إلى رخامة [في] المسجد فينقرها بيده فتسبح. وكان يطعمهم فاكهة الصيف في الشتاء ويقول: اخرجوا حتى أريكم الملائكة، فيخرجهم إلى دير المران، فيريهم رجالا على خيل. فتبعه بشر كثير، وفشا الأمر وكثر أصحابه حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة [2] [فعرض على القاسم، وأخذ عليه العهد والميثاق إن رضي أمرا قبله، وإن كره كتم عليه] [3] فقال له: إني نبي، فقال القاسم: كذبت يا عدو الله، فقال له أبو إدريس: بئس ما صنعت، إذ لم تلين له حتى نأخذه، الآن يفر وقام [القاسم] [4] من مجلسه حتى دخل على عبد الملك فأعلمه بأمره، فبعث عبد الملك [5] في طلبه فلم يقدر عليه، وخرج عبد الملك حتى نزل الصبيرة [6] واتهم عامة عسكره بالحارث أن يكونوا يرون رأيه، وخرج الحارث حتى أتى بيت المقدس فاختفى فيه، وكان أصحابه يخرجون فيلتمسون الرجال، فيدخلونهم عليه، وكان رجل من أهل البصرة قد أتى بيت المقدس فدخل على الحارث فأخذ في التحميد، ثم أخبره بأمره وأنه نبي مبعوث/ مرسل، فقال له: إن كلامك لحسن ولكن في هذا نظر. قال: فانظر. فخرج البصري ثم عاد إليه فرد عليه كلامه، فقال: إن كلامك لحسن، قد وقع في قلبي وقد آمنت بك وهذا الدين المستقيم، فأمر ألا يحجب، فأقبل البصري يتردد إليه ويعرف مداخله ومخارجه وأين يهرب حتى إذا صار أخص الناس به. ثم قال له: ائذن لي، قال:
إلى أين؟ قال: إلى البصرة أكون أول داعية لك بها، فأذن له.
__________
[1] سورة: الشعراء، الآية: 221، 222.
[2] في الأصل: «إلى الحارث بن مخيمرة» . وما أوردناه من ت، وهو يوافق ما في المراجع.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من معجم البلدان.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] «فأعلمه بأمره فبعث عبد الملك» : ساقط من ت.
[6] في الأصل: «فنزل ضمير» خطأ. والتصحيح من الله ومعجم البلدان.

(6/205)


فخرج مسرعا إلى عبد الملك وهو بالصبيرة [1] ، فلما دنا من سرادقه صاح:
النصيحة النصيحة، فقال أهل العسكر: وما نصيحتك؟ قال: نصيحة لأمير المؤمنين، قالوا: قل، قال [2] : حتى أدنو [3] من أمير المؤمنين، فأمر عبد الملك أن يأذنوا له، فدخل وعنده أصحابه. قال: فصاح: النصيحة النصيحة النصيحة، قال: اخلني لا يكن عندك أحد، فأخرج من في البيت، ثم قال له: ادنني، قال: أدن، فدنا من عبد الملك على السرير، قال: ما عندك؟ قال: الحارث، فلما ذكر الحارث رمى بنفسه عن السرير ثم قال: وأين هو؟ قال: يا أمير المؤمنين هو بيت المقدس، عرفت مداخله ومخارجه، فقص عليه قصته وكيف صنع به، فقال: أنت صاحبه، وأنت أمير بيت المقدس وأمير ها هنا فمرني بما شئت، فقال: يا أمير المؤمنين، ابعث معي قوما لا يفهمون [4] الكلام، فأمر أربعين رجلا من فرغانة، فقال: انطلقوا مع هذا فما أمركم من شيء فأطيعوه. وكتب إلى صاحب بيت المقدس: إن فلانا الأمير عليك حتى تخرج فأطعه فيما أمرك به.
فلما قدم بيت المقدس أعطاه الكتاب، فقال: مرني بما شئت، فقال: اجمع لي كل شمعة تقدر عليها ببيت المقدس، وادفع كل شمعة إلى رجل ورتبهم على أزقة بيت المقدس، وزواياها فإذا قلت: أسرجوا أسرجوا جميعا. فرتبهم في أزقة بيت المقدس وزواياها [5] بالشمع وتقدم البصري وحده إلى منزل الحارث، فأتى الباب، فقال للحاجب: استأذن لي على نبي الله، قال: في هذه الساعة ما يقدرون عليه وما يؤذن عليه حتى يصبح، قال: أعلمه أني إنما رجعت شغفا [6] إليه قبل أن أصل/ فدخل عليه فأعلمه بكلامه، فأمره ففتح، قال: ثم صاح البصري: أسرجوا، فأسرجت الشموع حتى كانت كأنها النهار [7] . ثم قال: من مر بكم فاضبطوه، ودخل هو إلى الموضع الّذي يعرفه
__________
[1] في الأصل: «بالضمير» . وفي ت: «بالبصيرة» . وكلاهما خطأ.
[2] «قالوا: قل، قال» : ساقط من ت.
[3] في ت: «حتى دنا من أمير المؤمنين» .
[4] في معجم البلدان: «لا يفقهون» .
[5] «فإذا قلت أسرجوا ... بيت المقدس وزواياها» : ساقط من ت.
[6] في ت: ومعجم البلدان: «شوقا» والمعنى واحد.
[7] في ت: «كأنها النار» . وفي معجم البلدان: «حتى كان بيت المقدس كأنه نهار» .

(6/206)


فطلبه فلم يجده، فقال أصحابه: هيهات تريدون أن تقتلوا نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء، قال: فطلبه في شق كان قد هيأه سربا، فأدخل البصري يده في ذلك السرب فإذا هو بثوبه، فاجتره فأخرجه إلى خارج، ثم قال للفرغانيين: اربطوه، فربطوه. فبينا هم يسيرون على البريد إذ قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، فقال أهل فرغانة أولئك العجم: هذا كراننا فهات كرانك أنت، فساروا به حتى أتي به عبد الملك، فلما سمع به أمر بخشبة فنصبت فصلبه، وأمر بحربة وأمر رجلا فطعنه فأصاب ضلعا من أضلاعه فكفت [1] الحربة، فجعل الناس يصيحون: الأنبياء لا يجوز فيهم السلاح، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين تناول الحربة ثم مشى إليه، ثم أقبل يتحسس حتى وافى بين ضلعين فطعنه بها فأنفذه فقتله.
وروى أبو الربيع عن شيخ أدرك القدماء، قال: لما حمل الحارث على البريد، وجعلت في عنقه جامعة من حديد فجمعت يده إلى عنقه، فأشرف على عقبة بيت المقدس تلى هذه الآية: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي 34: 50. فتقلقلت الجامعه ثم سقطت من يده ورقبته إلى الأرض، فوثب الحرس فأعادوها، ثم ساروا به فأشرف على عقبة أخرى فقرأ آية فسقطت من رقبته فأعادوها، فلما قدموا على عبد الملك حبسه وأمر رجالا من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويخوفوه ويعلموه أن هذا من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم. فصلب وجاء رجل بحربة فطعنه فانثنت، فتكلم الناس وقالوا: ما ينبغي لمثل هذا أن يقتل. ثم أتاه حرسي برمح دقيق فطعنه بين ضلعين من أضلاعه فأنفده.
قال مؤلف الكتاب [2] : وسمعت من قال: قال/ عبد الملك للذي ضربه بالحربة فانثنت: أذكرت الله حين طعنته؟ قال: نسيت، قال: فاذكر الله. ثم اطعنه، وطعنه فأنفذها.
__________
[1] في معجم البلدان: «فكاعت الحربة» .
[2] «قال مؤلف الكتاب» : ساقطة من ت.

(6/207)


475- قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة، أبو ليلى [1] :
وهو النابغة، نابغة بني جعدة، وقيل: اسمه عبد الله بن قيس، والأول أصح [2] .
كان جاهليا وأدرك الإسلام، ووفد على رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ وأنشده. وقال له عمر:
أنشدنا مما عفا الله عنه. فأنشده قصيدة، وعمر في الإسلام حتى أدرك الأخطل النصراني ونازعه الشعر. قال ابن قتيبة: فغلبه الأخطل ومات بأصبهان وهو ابن عشرين ومائة سنة.
وقال الأصمعي: عاش مائة وستين.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ [3] ، وَأَبُو القاسم السمرقندي، وأبو عبد الله بن البناء، وَأَبُو الْفَضْلِ الْمُقْرِي، وَأَبُو الْحَسَنِ الْخَيَّاطُ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النَّقُّورِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّقَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ الأَشْدَقِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّابِغَةَ يَقُولُ [4] :
أَنْشَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو بَعْدَ ذَلِكَ مَظْهَرًا [5]
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ الْمَظْهَرُ يَا أَبَا لَيْلَى» ، فَقُلْتُ: الْجَنَّةَ، فَقَالَ: «أَجَلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ، ثُمَّ قُلْتُ:
وَلا خَيْرَ فِي حُلُمٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ ... بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا
وَلا خَيْرَ فِي جَهْلٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... حَلِيمٌ إِذَا مَا أَوْرَدَ الأَمْرُ أَصْدَرَا
فقال النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «أَجَدْتَ لا يُفَضِّضُ اللَّهُ فَاكَ» . مَرَّتَيْنِ.
__________
[1] الأغاني 5/ 5 (دار الكتب العلمية) . وفيه: اسمه «حبان بن قيس بن عبد الله» وقال: وهو الصحيح، وشرح شواهد المغني 209، وفيه: «حسان بن قيس بن عبد الله، وأكد هذا بقوله: «كذا صححه صاحب الأغاني» ، والإصابة 3/ 537، وأمالي المرتضى 1/ 190، وسمط اللآلي 247، وطبقات فحول الشعراء 103.
[2] راجع هذا الاختلاف في اسمه في الأغاني 5/ 5، وباقي المراجع.
[3] في الأصل: «أبو نصر الطوسي» . وما أوردناه من ت.
[4] الخبر في الأغاني 5/ 12.
[5] في الأغاني: «وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا» .

(6/208)


أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النَّقُّورِ، قال: أخبرنا علي بن عيسى الْوَزِيرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْن بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي هَارُونُ بْنُ أبي بَكْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبيه، عن عمه عبد الله بن عَمْرٍو، قَالَ [1] :
أَقْحَمَتِ السُّنَّةُ النَّابِغَةَ- نَابِغَةَ بَنِي جَعْدَةَ- فَدَخَلَ عَلَى الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَأَنْشَدَهُ:
حَكَيْتَ لَنَا الصِّدِّيقُ لَمَّا وَلِيتَنَا ... وَعُثْمَانَ وَالْفَارُوقَ فَارْتَاحَ مُعْدِمُ
وَسَوَّيْتَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [2] فَاسْتَوَوْا ... فَعَادَ صَبَاحًا حَالِكُ اللَّوْنِ مُظْلِمُ [3]
أَتَاكَ أَبُو لَيْلَى يَجُوبُ بِهِ الدُّجَى ... دُجَى اللَّيْلِ جَوَّابُ الفلاة عشمشم [4]
لتجبر منه جانبا دغدغدت بِهِ [5] ... صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالزَّمَانُ الْمُصَمِّمُ
فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَوِّنْ عَلَيْكَ أَبَا لَيْلَى، فَإِنَّ الشِّعْرَ أهون وسائلك عندنا، أما صفوة مالنا فَلآلِ الزُّبَيْرِ، وَأَمَّا عَفْوَةُ فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ تَشْغِلُنَا عَنْكَ وَتَيْمَاءَ، وَلَكِنَّ لَكَ فِي مَالِ اللَّهِ حَقَّانِ: حَقٌّ بِرُؤْيَتِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَحَقٌّ بِشِرْكَتِكَ أَهْلِ الإِسْلامِ فِي فَيْئِهِمْ. ثم أخذ بيده فدخل به دار النّعم، فَأَعْطَاهُ قَلائِصَ سَبُعًا وَجَمَلا رَجِيلا [6] ، وَأَوْقَرَ لَهُ الرِّكَابَ بُرًّا وَتَمْرًا وَثِيَابًا، فَجَعَلَ النَّابِغَةُ يَسْتَعْجِلُ فَيَأْكُلُ الْحَبَّ صرفًا، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَيْحَ أَبِي لَيْلَى، لَقَدْ بَلَغَ مِنْهُ الْجَهْدُ، فَقَالَ النَّابِغَةُ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا وُلِّيَتْ قُرَيْشٌ [فَعَدَلْت] [7] فَرَحَمَتْ وَاسْتُرْحِمَتْ فَرَحَمَتْ، وَحَدَّثَتْ فَصَدَقَتْ، وَوَعَدَتْ خَيْرًا فَأَنْجَزَتْ، فأنا والنبيون فرّاط القاصفين» .
__________
[1] الخبر في الأغاني 5/ 32.
[2] على هامش ت: «بالمسجد» .
[3] البيت ساقط من الأغاني. والعثمثم: الجمل الشديد الطويل.
[4] البيت ساقط من ت.
[5] في الأغاني: «زعزعت به» .
[6] الجمل الرجيل: القوي على السير. وقد وردت في الأصل: «وخيلا» .
[7] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الأغاني.

(6/209)


رواه محمد بن العباس الزبيري، عن الزبير بن بكار، وإسناد الحديث ومتنه له، قال الزبيري: والفارط الذي يتقدم فيسقي الماء للإبل التي للقوم [1] .
وأنشد القطامي:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجل فراط لورّاد
والقاصفون: المسرعون بعضهم إثر بعض، ومنه الرعد القاصف، الريح/ يتبع بعضها بعضا. والرجيل القوي الشديد.
أَنْبَأَنَا زاهر بْن طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن الحسين الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ، قال: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: سمعت محمد بن داود الخطيب يقول: سمعت أحمد بن أبي سريج يقول: سمعت النضر بن شميل يقول وسئل من أكبر من لقيت؟ قال: المنتجع الأعرابي. قال: وقلت للمنتجع: من أكبر من لقيت؟ قال [2] : النابغة الجعدي، فقلت للنابغة: كم عشت في الجاهلية؟ قال:
[عشت] [3] دارين، ثم أدركت محمدا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فأسلمت.
قال النضر: الداران مائتا سنة. قال النابغة: فكنت أجيب عن النبي صَلى الله عليه وآله وسلم حتى قبضه الله عز وجل.
__________
[1] في ت: «لإبل القوم» .
[2] «قال المنتجع الأعرابي ... من أكبر من لقيت؟ قال» : ساقط من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/210)


ثم دخلت سنة ثمانين
فمن الحوادث فيها [1] .
سيل وقع بمكة ذهب بالحاج، وغرق بيوت مكة، فسمي ذلك [العام] [2] عام الجحاف لأنه جحف كل شيء مر به، حتى أنه كان يأخذ الإبل عليها الحمولة والرجال والنساء ليس لأحد فيهم حيلة، وبلغ السيل الركن وجاوزه.
وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ لقتال الكفار، وصالحهم على فدية.
وفيها: كان بالبصرة الطاعون الجارف، في قول الواقدي رحمه الله.
وفيها وجه الحجاج محمد بن عبد الرحمن بن الأشعث إلى سجستان لحرب رتبيل صاحب الترك [3]
وذلك أن الحجاج جهز عشرين ألفا من أهل الكوفة، وعشرين ألفا من أهل البصرة، وأعطى الناس أعطياتهم كملا [4] ، وأخذهم بالخيول الروائع، والسلاح الكامل، وأخذ يعرض الناس، ولا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، ثم بعث عليهم عبد الرحمن بن/ الأشعث، فقدم بالجيش سجستان، وصعد منبرها،
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 325.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 326، والبداية والنهاية 9/ 35.
[4] يقال: أعطاه المال كملا، أي: كاملا.

(6/211)


فقال: إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم، وأباد أجنادكم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فتحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا مع الناس.
فعسكر الناس ووضعت لهم الأسواق، وتهيأوا للحرب. فبلغ ذلك رتبيل. فكتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه من مصاب المسلمين، ويخبره أنه كان لذلك كارها، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، ويسأله الصلح، ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج، فلم يجبه، وسار في الجنود إليه حتى دخل أول بلاده، وأخذ رتبيل يضم جنده إليه، ويدع له الأرض رستاقا وحصنا حصينا، وطفق [1] ابن الأشعث كلما حوى بلدا بعث إليه عاملا وأعوانا، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا ملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة حبس الناس عن الإيغال [2] في أرض رتبيل، وقال: نكتفي بما قد أصبنا العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لا نزال ننتقص في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم على كنوزهم وذراريهم، وفي ممتنع حصونهم، ثم كتب إلى الحجاج بذلك.
وذكر بعض علماء السير في سبب تولية ابن الأشعث غير هذا، فقال: كان الحجاج قد وجه هميان بن علي السدوسي [3] إلى كرمان، وكان عاملا على سجستان، فكتب الحجاج عهد ابن الأشعث عليها، وجهز إليها جيشا أنفق عليه ألفي درهم سوى أعطياتهم، وأمره بالإقدام على رتبيل.
وفي هذه السنة أغزى عبد الملك ابنه الوليد.
وفيها حج بالناس أبان بن عثمان، وكان على المدينة، وقيل: بل سليمان بن عبد الملك، وكان على العراق والمشرق كله الحجاج، وعلى خراسان المهلب بن أبي
__________
[1] في ت: «وجعل ابن الأشعث» .
[2] كذا في الأصول، وفي تاريخ الطبري: «عن الوغول» .
[3] كذا في الأصول، وفي الطبري: «هميان بن عدي السدوسي» .

(6/212)


صفرة من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة، وعلى/ قضاء البصرة موسى بن أنس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
476- خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة [1] ، واسمه يزيد بن مالك الجعفي [2] :
أدرك علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعدي بن حاتم، والنعمان بن بشير في آخرين من الصحابة.
وكان عالما عابدا زاهدا، ورث مائتي ألف درهم فأنفقها على الفقهاء والقراء [3] .
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، قَالَ:
حَدَّثَنَا هناد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قال:
ربما دخلنا على خيثمة فيخرج العسكر من تحت السرير عليها الخبيص [4] والفالوذج، فيقول: ما أشتهيه، كلوا أما إني ما جعلته إلا لكم.
وكان موسرا، وكان يصر الدراهم، فإذا رأى الرجل من أصحابه متخرق القميص أو الرداء أو به خلة تحينه، فإذا خرج من الباب خرج هو من باب آخر حتى يلقى فيقول:
اشتر قميصا، اشتر رداء، اشتر حاجة كذا.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: حدثنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أَحْمَد بْن عَلي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن مَالِكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حدثني خلاد بن أسلم، قال: حدثنا سعيد بن خيثم، [قال:
حدثنا] [5] محمد بن خالد الضبي، قال:
__________
[1] في الأصول: «ابن أبي سبط» . وهو خطأ.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 200، وطبقات خليفة 156، والتاريخ الكبير 3/ 732. والجرح والتعديل 3/ 1808، وحلية الأولياء 4/ 113، وتاريخ الإسلام 3/ 247، وسير أعلام النبلاء 4/ 320.
[3] في ت: «والفقراء» .
[4] خبص الحلواء يخبصها خبصا: خلطها وعملها.
[5] ما بين المعقوفتين: من ت، ومكانها في الأصل: «عن» .

(6/213)


لم نكن ندري كيف يقرأ خيثمة القرآن حتى مرض فثقل، فجاءته امرأته فجلست بين يديه فبكت، فقال لها: ما يبكيك؟ الموت لا بد منه، فقالت له المرأة: الرجال بعدك علي حرام، فقال لها خيثمة: ما كل هذا أردت منك، إنما كنت أخاف رجلا واحدا وهو أخي محمد بن عبد الرحمن، وهو رجل فاسق يتناول الشراب فكرهت أن يشرب في بيتي الشراب بعد أن القرآن يتلى فيه كل ثلاث.
قال عبد الله بن أحمد: وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: وحدثنا معاوية/ بن هشام [1] ، عن سفيان، عن رجل، عن خيثمة أنه أوصى أن يدفن في مقبرة فقراء قومه.
477- عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ويكنى أبا جعفر [2] :
وأمه أسماء بنت عميس. ولد بأرض الحبشة لما هاجر والداه إليها، وقال: أنا أحفظ حين دخل رسول الله صَلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ على أمي فنعى لها أبي فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهراقان بالدموع حتى تقطر على لحيته، ثم قال: «اللَّهمّ إن جعفر قد قدم إلي أحسن الثواب فأخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته» . أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّازُ، قَالَ: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابْن معروف، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن الفهم، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ رِبْعِيِّ بْنِ خراش، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ لَمْ أُعَلِّمْهُنَّ حَسَنًا وَلا حُسَيْنًا: إِذَا سَأَلْتَ اللَّهَ مَسْأَلَةً فَأَرَدْتَ أَنْ تَنْجَحَ فَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، قال:
__________
[1] في ت: «وحدثنا هشام، عن سفيان» .
[2] مروج الذهب 3/ 176، والبداية والنهاية 9/ 36، وتهذيب الكمال 4/ 367.

(6/214)


حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ النَّخَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ:
جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدِي، وَهَبَتْ لِي بَعْضُ جَارَاتِي بَيْضَةً فَحَضَنْتُهَا تَحْتَ ثَدْيَيَّ حَتَّى خَرَجَتْ فَرُّوجَةٌ، فَغَذَوْتُهَا بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ حَتَّى بَلَغَتْ وَقَدْ ذَبَحْتُهَا وَشَوَيْتُهَا وَكَفَّنْتُهَا بِرقَاقَتَيْنِ وَجَعَلْتُ للَّه عَلَيَّ أَنْ أَدْفِنَهَا فِي أَكْرَمِ بُقْعَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا أَعْلَمُ وَاللَّهِ بُقْعَةً أَكْرَمَ/ مِنْ بَطْنِكَ. فَكُلْهَا. فَقَالَ: يَا بَدِيحُ، خُذْهَا مِنْهَا وَامْضِ فَانْظُرْ إِلَى الدَّارِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَهَا فَاشْتَرِ لَهَا مَا حَوْلَهَا مِنَ الدُّورِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا فَاشْتَرِهَا وَاشْتَرِ لَهَا مَا حَوْلَهَا. فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: قَدِ اشْتَرَيْتُ الدَّارَ لَهَا وَمَا حَوَالَيْهَا، فقال: احمل لها على ثلاثين بعير حِنْطَةً وَشَعِيرًا وَأَرْزًا وَزَبِيبًا وَتَمْرًا وَدَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ. قَالَتِ الْعَجُوزُ: لا تُسْرِفْ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
قال النخعي: وأخبرني داود بن الهيثم، عن أبيه، عن جده، عن إسحاق: أن أعرابيا أتى عبد الله بن جعفر وهو محموم، فأنشأ يقول:
كم لوعة للندى وكم قلق ... للجود والمكرمات من قلقك
ألبسك الله منه عافية ... في يومك المعترى وفي أرقك
أخرج من جسمك السقام كما ... أخرج دم الفعال من عنقك
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَطَرٍ [1] الْحَنْبَلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ أَخِي مِيمِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ:
جَلَبَ رَجُلٌ سُكَّرًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَسَدَ عَلَيْهِ، فَذكر ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَأَمَرَ قَهْرَمَانَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَيُنْهِبَهُ [2] النَّاسَ.
أخبرتنا شهدة بنت [أحمد] [3] الكاتبة، قال: أخبرنا أبو محمد جعفر بن أحمد
__________
[1] في الأصل: «الحسن بن نظر» وما أوردناه من ت.
[2] في البداية والنهاية: «ويهديه» .
[3] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.

(6/215)


السراج، قال: حدثنا أبو علي محمد بن الحسن الجازري [1] إجازة إن لم يكن سماعا، قال: حدثنا المعافى بن زكريا، قال: حدثنا أبو النضر العقيلي، عن جماعة من مشايخ أهل المدينة، قالوا:
كانت عند عبد الله بن جعفر جارية مغنية يقال لها: عمارة، وكان يجد بها وجدا شديدا، وكان لها منه مكان لم يكن لأحد من جواريه، فلما/ وفد عبد الله بن جعفر على معاوية وخرج بها معه، فزاره يزيد ذات يوم فأخرجها إليه، فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه، فأخذه عليها ما لا يملكه، وجعل لا يمنعه [2] من أن يبوح بما يجد بها إلا مكان أبيه مع يأسه من الظفر بها، فلم يزل يكاتم أمرها إلى أن مات معاوية، وأفضى الأمر إليه، فاستشار بعض من قدم عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها، وكيف الحيلة فيها، فقيل له: إن أمر عبد الله بن جعفر لا يرام، ومنزله من الخاصة ومن العامة ومنك ما قد علمت، وأنت لا تستحسن [3] إكراهه، وهو لا يبيعها بشيء أبدا، وليس يغني في هذا إلا الحيلة.
فقال: انظروا لي رجلا عراقيا له أدب وظرف ومعرفة، فطلبوه، فأتوه به. فلما دخل رأى بيانا وحلاوة وفهما، فقال يزيد: إني دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظك عندي آخر الدهر، ويد أكافئك عليها إن شاء الله. ثم أخبره بأمره، فقال له: إن عبد الله [ابن جعفر] [4] لا يرام ما قبله إلا بالخديعة، ولن يقدر أحد على ما سألت فأرجو أن أكونه، والقوة باللَّه، فأعني بالمال. قال: خذ ما أحببت، فأخذ من طرف الشام وثياب مضر، واشترى متاعا للتجارة من رقيق ودوآب وغير ذلك، ثم شخص إلى المدينة، فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر، واكترى منزلا إلى جانبه، ثم توسل إليه، وقال: رجل من أهل العراق قدمت بتجارة فأحببت أن أكون في عز جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به، فبعث عبد الله بن جعفر إلى قهرمانه: أن أكرم الرجل ووسع عليه في منزله [5] فأنزله.
__________
[1] في الأصل: «الخماروي» خطأ. وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «ما يمنعه» . وما أوردناه من ت.
[3] في ت: «لا تستجيز» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في ت: «ووسع عليه في نزله» .

(6/216)


فلما اطمأن العراقي سلم عليه وعرفه نفسه، وهيأ له بغلة فارهة وثيابا من ثياب العراق وألطافا، فبعث بها إليه، وكتب معها: يا سيدي، إني رجل تاجر، ونعم الله علي سابغة، وقد بعثت إليك بشيء من طرف [1] وكذا من الثياب والعطر، وبعثت ببغلة خفيفة العنان وطية الظهر، وأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صَلى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ/ إلا قبلت هديتي، ولا توحشني بردها، إني أدين للَّه تعالى بحبك وحب أهل بيتك، وإن أعظم أملي في سفرتي أن أستفيد الأنس بك، والتحرم بمواصلتك. فأمر عبد الله بقبض هديته وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مر بالعراقي في منزله، فقام إليه وقبل يده، فرأى أدبا وظرفا وفصاحة، فأعجب به وسر بنزوله عليه، فجعل العراقي في كل يوم يبعث إلى عبد الله بطرف، فقال عبد الله: جزى الله ضيفنا هذا خيرا، قد ملأنا شكرا وما نقدر على مكافأته. فإنه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله، ودعا بعمارة في جواريه، فلما طاب لهما المجلس وسمع غناء عمارة تعجب وجعل يزيد في عجبه، فلما رأى كذلك عبد الله سر به إلى أن قال:
هل رأيت مثل عمارة؟ قال: لا والله يا سيدي ما رأيت مثلها، وما تصلح إلا لك، وما ظننت أن تكون في الدنيا مثل هذه الجارية، حسن وجه، وحسن عمل، قال: فكم تساوي عندك؟ قال: ما لها ثمن إلا الخلافة، فقال: تقول هذا لتزين لي رأيي فيها وتجلب سروري، قال له: يا سيدي، والله إني لأحب سرورك وما قلت لك إلا الجد، وبعد فإني تأجر أجمع الدرهم على الدرهم طلبا للربح، ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها، فقال عبد الله: عشرة آلاف؟ قال: نعم. ولم يكن في ذلك الزمان جارية تعرف بهذا الثمن. فقال له عبد الله: أنا أبيعكها بعشرة آلاف، قال: قد أخذتها، قال: هي لك، قال: قد وجب البيع.
وانصرف العراقي، فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلا بالمال قد وافى به، فقيل لعبد الله: قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار وقال: هذا ثمن عمارة، فردها وكتب إليه إنما كنت أمزح معك، وإنما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها. فقال: جعلت فداك، إن الجد والهزل في البيع سواء، فقال له عبد الله: ويحك ما أعلم جارية تساوي ما بذلت، ولو
__________
[1] في ت: «من لطف» .

(6/217)


كنت بايعها من أحد لآثرتك ولكني كنت مازحا وما أبيعها بملك الدنيا/ لحرمتها بي وموضعها من قلبي، فقال العراقي: إن كنت مازحا فإني كنت جادا، وما اطلعت على ما في نفسك، وقد ملكت الجارية وبعثت إليك بثمنها، وليست تحل لك، وما لي من أخذها بد، فمانعه أياما، فقال: ليست لي بينة ولكني استحلفك عند قبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ومنبره.
فلما رأى عبد الله الجد، قال: بئس الضيف أنت، ما طرقنا طارق ولا نزل بنا نازل أعظم بلية منك، أتحلفني فيقول الناس: اضطهد عبد الله ضيفه وقهره فألجأه إلى أن استحلفه، أما والله ليعلمن الله عز وجل أني سأبليه في هذا الأمر الصبر وحسن العزاء، ثم أمر قهرمانه بقبض المال منه وتجهيز الجارية. فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار، وقال: هذا لك ولك عوضا مما ألطفتنا، والله المستعان.
فقبض العراقي الجارية وخرج بها، فلما برز من المدينة قال لها: يا عمارة، إني والله ما ملكتك قط ولا أنت لي، ولا مثلي يشتري جارية بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأقدم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وأسلبه أحب الناس إليه لنفسي، ولكني دسيس من يزيد بن معاوية، وأنت له، وفي طلبك بعث بي، فاستتري مني، فإن داخلني الشيطان في أمرك أو تاقت نفسي إليك فامتنعي.
ثم مضى بها حتى ورد دمشق، فتلقاه الناس بجنازة يزيد وقد استخلف ابنه معاوية بن يزيد، فأقام أياما ثم تلطف للدخول إليه فشرح له القصة.
ويروى أنه لم يكن أحد من بني أمية يعدل بمعاوية بن يزيد في زمانه نبلا ونسكا، فلما أخبره قال: هي لك وكل ما دفعه إليك من أمرها فهو لك، فارحل من يومك فلا أسمع بخبرك في شيء من بلاد الشام.
فرحل العراقي ثم قال للجارية: إني قد قلت لك ما قلت حين خرجت بك من المدينة، فأخبرتك/ أنك ليزيد وقد صرت لي، وأنا أشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر، وإني قد رددتك عليه فاستتري مني. ثم خرج بها حتى قدم المدينة، فنزل قريبا من عبد الله، فدخل عليه بعض خدمه فقال له: هذا العراقي ضيفك الذي صنع ما صنع، وقد نزل العرصة لا حياه الله. فقال عبد الله: مه، انزلوا الرجل وأكرموه، فلما استقر بعث

(6/218)


إلى عبد الله: جعلت فداك إن رأيت أن تأذن لي أذنة خفيفة لأشافهك بشيء فعلت، فأذن له، فلما دخل عليه قبل يده وقربه عبد الله، ثم قص عليه القصة حتى إذا فرغ قال: والله وهبتها لك قبل أن أراها أو أضع يدي عليها فهي لك ومردودة عليك، وقد علم الله تعالى أني ما رأيت لها وجها إلا عندك، وبعث إليها فجاءت، وجاء بما جهزها به موفرا.
فلما نظرت إلى عبد الله خرت مغشية عليها، وأهوى إليها عبد الله فضمها إليه، وخرج العراقي، وتصايح أهل الدار: عمارة عمارة. فجعل عبد الله يقول ودموعه تجري: أحلم هذا، أحق هذا، أصدق هذا، فقال العراقي: ردها عليك إيثارك الوفاء، وصبرك على الحق وانقيادك له. فقال عبد الله: الحمد للَّه، اللَّهمّ إنك تعلم أني قد تصبرت عنها وأثرت الوفاء، وأسلمت لأمرك فرددتها على يمنك، فلك الحمد. ثم قال:
يا أخا العراق، ما على الأرض [1] أعظم منة منك، وسيجازيك الله تعالى. وأقام العراقي أياما وباع عبد الله غنما بثلاثة عشر ألف دينار، وقال لقهرمانه: احملها إليه، وقل له:
أعذر عبد الله، واعلم أني لو وصلتك بكل ما أملك لرأيتك أهلا لأكثر منه، فرحل العراقي محمودا.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد يحيى بن الحسن/ بن المقتدر القاضي، قَالَ:
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد بْن سويد، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثنا محمد بن أحمد المقري، قال: حدثنا عبد الله بن عمر، قال: حدثنا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن سليمان النوفلي، عَنْ أبيه، عن مشيخة له، قالوا:
لما أمسك عبد الملك بن مروان يده عن عبد الله بن جعفر واحتاج وضاق إضاقة شديدة، فكان يصلي في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم عشاء الآخرة، ويقيم في المسجد إلى أن لا يبقى فيه أحد، فدنا منه ذات ليلة رجل، فشكى إليه الحاجة، فقال له: أنا في إضاقة غير أن لك عليّ وعدا إذا جاءني شيء من غلتي أن أعطيك، قال: أنا مرهق لا أجد سبيلا إلى الصبر، قال: أيقنعك أخذ ثوبي هذين- وكان عليه بردان يمانيان- قال: نعم، قال:
فما لبث حتى انصرف، فلما انصرف دفع إليه البرد ثم استقبل القبلة، فقال: اللَّهمّ إنه
__________
[1] في ت: «ما في الأرض» .

(6/219)


لم يكن إلا ما أرى فاقبضني إليك. فحم ولم يخرج من منزله بعد هذا حتى خرجت جنازته.
وتوفي عبد الله بالمدينة في هذه السنة، وكان الوالي على المدينة أبان بن عثمان في خلافة عبد الملك، وهو صلى عليه وكان عمره تسعين سنة.
478- عبد الله بن أبي الهذيل، أبو المغيرة [1] :
سمع من عمار، وخباب، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة وجرير، وابن عباس، وابن أبزى. وأرسل الحديث عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود.
وكان شديد الخوف من الله تعالى، كأنه مذعور.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا أبو بكر بن حيان، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسين، قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا عبد الله بن خراش [2] ، عن العوام بن حوشب، عن عبد الله بن الهذيل أنه قال:
لقد شغلت النار من يعقل عن ذكر الجنة.
479- عبيد الله بن أبي بكرة [3] :
ولي سجستان/ أيام زياد بن أبي سفيان، وغزا رتبيل في أيام الحجاج.
وتوفي في هذه السنة.
وكان جوادا، وذكر ابن قتيبة في المعارف [4] : أن أول من قرأ بالألحان عبيد الله ابن أبي بكرة.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 78.
[2] في الأصل: «عبد الرحمن بن خراش» خطأ، وما أوردناه من ت.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 138، وتاريخ الإسلام 3/ 189، والنجوم الزاهرة 1/ 202.
[4] المعارف لابن قتيبة 533، وقال: «كان أول من قرأ بالألحان عبيد الله بن أبي بكرة، وكانت قراءته حزنا، ليست على شيء من ألحان الغناء ولا الحداء» .

(6/220)


عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بْن حيويه، قَالَ:
أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حَدَّثَني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، قال:
أخبرنا المدائني، قال:
كان عبيد الله بن أبي بكرة يوما جالسا مع أصحابه، فأتي بوصيف ووصيفة أهديا إليه، فقال لبعض جلسائه: خذهما إليك. ثم فكر فقال: إيثار بعض الجلساء على بعض قبيح، فقال: يا غلمان، يضم إلى كل واحد من جلسائنا وصيف ووصيفة، فضم إليهم ثمانين بين وصيف ووصيفة.
أنبأنا مُحَمَّد بْن عبد الباقي البزاز، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، عن أبيه، أن شيخا من أهل الكوفة قال:
أملقت حتى نقضت منزلي، فلما اشتد علي الأمر جاءتني الخادمة فقالت: والله ما لنا دقيق ولا معنا ثمنه. فقلت: أسرجي حماري، فأسرجته، فخرجت هاربا حتى انتهيت إلى البصرة، فلما شارفتها فإذا أنا بالموكب مقبل، فدخلت في جملتهم، فرجعت الخيل تريد البصرة، فصرت معهم حتى دخلتها، وانتهى صاحب الموكب إلى منزله، فنزل، ونزل الموكب، ونزلت معهم، ودخلنا فإذا الدهليز مفروش والناس جلوس مع الرجل، فدعا بغداء، فجاءوه بأحسن غداء، فتغديت مع الناس، ثم دعا بالغالية فضمخنا [1] ، ثم قال: يا غلمان، هاتوا سفطا، فجاء غلمانه بسفط أبيض مشدود، ففتح فإذا فيه أكياس مشدودة، في كل كيس ألف درهم، فبدأ يعطي فأمرها عليهم، ثم انتهى إلي [فأعطاني كيسا، ثم ثنى فأعطاني آخر، ثم ثلث] [2] فأعطاني آخر، فأخذت الجماعة وبقي في السفط كيس واحد، فأخذه بيده وقال: هاك يا هذا الذي لا أعرفه، فأخذت/ أربعة أكياس، وخرجت، فقلت لإنسان: من هذا؟ فقال: عبيد الله بن أبي بكرة.
وبلغنا أن رجلا انقطع إلى عبيد الله بن أبي بكرة، فألحقه بحشمه، وكفاه مئونته، فبطر النعمة، فسعى به إلى عبيد الله بن زياد، فبلغ ذلك ابن أبي بكرة، فأطرق مفكرا،
__________
[1] الغالية: الطيب، الضمخ: لطخ الجسد بالطيب.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/221)


فقيل له: فيم فكرت [1] ؟ فقال: أخاف أن أكون قصرت في الإحسان إليه فحملته على مساوىء أخلاقه.
480- معاوية بن قرة بن إياس، يكنى أبا إياس [2] :
روى عن أنس، وابن عباس وغيرهما.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الأصفهاني، قال: حدثنا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عيسى، قال: حدثنا عيسى بن خالد، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن تمام بن نجيح، عن معاوية بن قرة، قال [3] :
أدركت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئا مما أنتم عليه إلا الآذان.
قَالَ أَبُو نعيم: وحدثنا عَبْد اللَّه بْن محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، قال: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي، عن عبيد الله بن ميمون، قال: سمعت معاوية بن قرة يقول [4] :
إن الله يرزق العبد رزق شهر في يوم واحد، فإن أصلحه أصلح الله على يديه، وعاش هو وعياله بقية شهرهم في خير، وإن هو أفسده أفسد الله تعالى عليه وعاش هو وعياله بقية شهر هم بشر.
481- همام بن الحارث النخعي [5] :
روى عن عمر، وابن مسعود، وأبي مسعود، وحذيفة، وأبي الدرداء، وعدي بن حاتم، وجرير، وعائشة.
__________
[1] في الأصل: «فيم فكرتك» وما أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 160، وتهذيب التهذيب 2/ 261، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 330، والجرح والتعديل 8/ 387.
[3] الخبر في حلية الأولياء 2/ 299.
[4] الخبر في حلية الأولياء 2/ 299.
[5] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 81، الجرح والتعديل 9/ 106، والتاريخ الكبير 4/ 2/ 236.

(6/222)


وكان الناس يتعلمون من هديه وسمته. وكان طويل السهر.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا حرب بن شداد [1] ، قال: حدثنا حصين، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث:
أنه كان يدعو: اللَّهمّ اشفني من النوم بالسهر، وارزقني سهرا في طاعتك، وكان لا ينام من الليل إلا هنيهة وهو قاعد.
__________
[1] في الأصل: «حرب بن سواد» وما أوردناه من ت. وهو الصحيح.

(6/223)