المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين
فمن الحوادث فيها فتح قاليقلا [1]
وقال المدائني: أغزى عبد الملك ابنه عبيد الله سنة إحدى وثمانين، ففتح قاليقلا.
وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي
وكان السبب أن بحيرا هو الذي تولى قتل بكير بن وشاح بأمر أمية بن عبد الله، فتعاقد سبعة عشر من بني عوف بن كعب على الطلب بدم بكير، فذهب بعضهم فقتله.
وفيها خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الحجاج ومن معه من جند العراق [2] :
وأقبلوا إليه لحربه، هذا قول أبي المخارق الراسبي.
وقال الواقدي: إنما كان ذلك في سنة اثنتين وثمانين.
وسبب خروجه مع ما كان في نفس كل واحد منهما على الآخر، وكان الحجاج يقول: ما رأيته إلا أردت ضرب عنقه، وكان عبد الرحمن يقول: إن طال بي وبه بقاء حاولت إزالته عن سلطانه، فلما بعثه الحجاج إلى حرب رتبيل فأصاب قطعة من مملكته، وكتب إلى الحجاج: إنا قد قنعنا بما أصبنا ثم في كل سنة نصيب شيئا من ملكه.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 331، والبداية والنهاية 9/ 38.
[2] المراجع السابقة والموضع.

(6/224)


فكتب إليه الحجاج: إنك كتبت إلي كتاب أمرئ يحب الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، لعمرك يا ابن أم عبد الرحمن، إنك حين تكف عن ذلك العدو تظنني سخي النفس عمن أصيب من المسلمين، وقد رأيت أنه لم يحملك على ما رأيت إلا ضعفك، فامض لما أمرت به من الإيغال في أرضهم، وقتل مقاتليهم، ثم أردفه كتابا آخر: أما بعد، فمر من قبلك من المسلمين أن يحرثوا ويقيموا، فإنها/ دارهم حتى يفتحها الله عز وجل عليهم. ثم أردفه كتابا آخر: أما بعد، فامض لما أمرت به وإلا فخل ما وليت لأخيك إسحاق.
فدعا الناس وقال: إن الذي رأيت وافقني فيه أهل التجارب ورضوه رأيا، وكتبت بذلك إلى الحجاج فجاءني منه كتاب يعجزني ويأمرني بتعجيل الإيغال في البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم، فثار إليه الناس، وقالوا: لا بل نأبى على عدو الله ولا نطيعه.
فقام عامر بن واثلة الكناني، فقال: إن الحجاج لا يبالي بكم فإن ظفرتم أكل البلاد، وإن ظفر عدوكم كنتم الأعداء البغضاء فاخلعوه وبايعوا للأمير عبد الرحمن، وإني أشهدكم أني أول خالع. وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي، فقال: إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم، فبايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدو الله الحجاج فانفوه عن بلادكم. فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه، فقال: تبايعونني على خلع الحجاج والنصرة لي وجهاده معي حتى ينفيه الله من أرض العراق، فبايعه الناس، ولم يذكر خلع عبد الملك، وأمر عبد الرحمن الأمراء، وبعث إلى رتبيل فصالحه على أنه إن ظهر فلا خراج عليه أبدا، وإن هزم وأراده ألجأه عنده.
وبعث الحجاج إليه الخيل، وجعل ابن الأشعث على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، فجعل لا يلقى للحجاج خيلا إلا هزمها، ثم أقبل عبد الرحمن حتى مر بكرمان، فبعث عليها خرشة بن عمرو التميمي، فلما دخل الناس فارس اجتمع بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن وبايعوه، فكان يقول لهم: تبايعونني/ على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وخلع أئمة الضلالة، وجهاد المحلين، فإذا قالوا: نعم بايع.

(6/225)


فلما بلغ الحجاج أنه قد خلعه كتب إلى عبد الملك يخبره ويسأله تعجيل بعثه الجنود له، وجاء حتى نزل البصرة، وكان قد بلغ المهلب شقاق عبد الرحمن، فكتب إليه: أما بعد، فإنك قد وضعت رجلك يا بن أم محمد في غرز طويل، فاللَّه الله، انظر لنفسك لا تهلكها، ودماء المسلمين لا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها.
ولما وصل كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله، فنزل عن سريره، وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية فأقرأه الكتاب ثم خرج إلى الناس، فقال: إن أهل العراق طال عليهم عمري، اللَّهمّ سلط عليهم سيوف أهل الشام.
وأقام الحجاج بالبصرة، وتجهز للقاء ابن محمد، وفرسان أهل الشام يسقطون إلى الحجاج من قبل عبد الملك، وكتب الحجاج ورسله تسقط إلى عبد الملك، وسار الحجاج بأهل الشام حتّى نزلت تستر، فالتقت المقدمات فهزم أصحاب الحجاج، فقال: أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة إلى معسكر وطعام ومادة، فإن هذا المكان لا يحمل الجند. فمضى ودخل البصرة، ودخل عبد الرحمن بن محمد في آخر ذي الحجة، وقال: أما الحجاج فليس بشيء، ولكنا نريد غزو عبد الملك، فبايعه الناس على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك جميع أهل البصرة من قرائها وكهولها، وبايعه عقبة بن عبد الغافر فخندق الحجاج عليه، وخندق عبد الرحمن [على البصرة] [1] .
وفي هذه السنة حج بالناس سليمان بن عبد الملك، وكان العامل على المدينة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق الحجاج، وعلى حرب خراسان المهلب، وعلى خراجها المغيرة بن المهلب من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة، وعلى قضاء البصرة ابن أذينة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري 6/ 341.

(6/226)


وفي هذه السنة [1] .
ولد ابن أبي ذئب.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
482-/ سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر، أبو أمية [2] :
رحل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فوجده قد قبض، فصحب أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا، وشهد معه صفين. وسمع من ابن مسعود، ولم يسمع من عثمان شيئا.
أخبرنا عبد الخالق بن أحمد، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبد الله ابن أخي ميمي، قال: أخبرنا الحسين بْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر القرشي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: حدثنا عبد الله بن حماد الجهني، عن محمد بن أبان الجهني، عن عمران بن مسلم، قال [3] :
كان سويد بن غفلة إذا قيل له أعط فلانا، وولّ فلانا، قال: حسبي كسرتي وملحي.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا حمد بْن أَحْمَد، قَالَ: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن أبي سهل، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا عبد السلام، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن المنهال بن خيثمة، عن سويد بن غفلة [4] ، قال:
__________
[1] في الأصل: «وفيها» .
[2] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 45، والتاريخ الكبير 4/ 2255، وتاريخ واسط 131، والجرح والتعديل 4/ 1001، وحلية الأولياء 4/ 174، والاستيعاب 2/ 679، وأسد الغابة 2/ 379، وسير أعلام النبلاء 4/ 69، وتذكرة الحفاظ 1/ 53، وتاريخ الإسلام 3/ 252، والإصابة 2/ 3606، 3720.
[3] الخبر في الجرح والتعديل 4/ ترجمة 1001.
[4] الخبر في حلية الأولياء 4/ 176.

(6/227)


إذا أراد الله أن ينسي [1] أهل النار جعل لكل واحد منهم تابوتا من نار على قدره ثم أقفل عليه بأقفال من نار، فلا يضرب فيهم عرق إلا وفيه مسمار من نار، ثم يجعل ذلك التابوت في تابوت آخر من نار، ثم يقفل عليه بأقفال من نار ثم يضرم بينهما نار، ثم يجعل ذلك في تابوت آخر من نار، ثم يقفل بأقفال من نار ثم يضرم بينهما، فلا يرى أحدا منهم في النار غيره.
كان سويد من المعمرين الأقوياء، تزوج وهو ابن ست عشرة سنة ومائة سنة. وكان يمشي إلى الجمعة، ويؤم قومه في رمضان.
وتوفي في هذه السنة، وقيل: في السنة التي بعدها، وهو ابن ثمان وعشرين [2] ومائة سنة.
483- محمد بن علي بن أبي طالب، وهو ابن الحنفية [3] :
واسمها خولة بنت جعفر بن قيس. وقيل: كانت أمه من سبي اليمامة، فصارت إلى علي.
وقالت أسماء بنت أبي بكر: رأيتها سندية [4] سوداء، وكانت أمة لبني حنيفة.
ويكنى محمد أبا القاسم.
أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: / أَخْبَرَنَا ابْنُ حيوية، قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن سعد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ، قَالا: حَدَّثَنَا قَطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ ابْنَ الحنفية يقول [5] :
__________
[1] في ت: «أن يمحى» .
[2] في الأصل: «ابن ثمانية وعشرون» .
[3] طبقات ابن سعد 5/ 66، ووفيات الأعيان 1/ 449، وصفة الصفوة 2/ 42، وحلية الأولياء 3/ 174، والبدء والتاريخ 5/ 75، ونزهة الجليس 2/ 254، والبداية والنهاية 9/ 42، والجرح والتعديل 8/ 26، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 182.
[4] في ت: «رأيتها هندية» والخبر في ابن سعد 5/ 66.
[5] الخبر في طبقات ابن سعد 5/ 66.

(6/228)


كَانَتْ هَذِهِ [1] رُخْصَةً لِعَلِيِّ [بْنِ أَبِي طَالِبٍ] [2] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وُلِدَ لِي وَلَدٌ بَعْدَكَ أُسَمِّيهِ بِاسْمِكَ، وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِكَ؟
قَالَ: نَعَمْ. قال مؤلف الكتاب رحمه الله [3] : وقد كان جماعة يسمون محمدا ويكنون بأبي القاسم، منهم: محمد بن أبي بكر، محمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن سعد ابن أبي وقاص، ومحمد عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن حاطب بن أبي بلتعة، ومحمد بن الأشعث بن قيس.
وأخبرنا محمد بن ناصر، وعلي بن عمر بإسنادهما عَنْ أبي بكر بْن أبي الدنيا، قَالَ: حدثنا الحسين بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبو عثمان المؤدب، قال: قال محمد ابن الحنفية:
من كرمت عليه نفسه لم يكن للدنيا عنده قدر.
قال أبو بكر بن عبيد: وحدثنا محمد بن عبد المجيد، أنه سمع ابن عيينة يقول:
قال محمد ابن الحنفية:
إن الله عز وجل جعل الجنة ثمنا لأنفسكم، فلا تبيعوها بغيرها.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن سلمان، قال: أخبرنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن محمد بن سنان، قال: حدثنا محمد بن إسحاق السراج، قال: حدثنا عمر بن محمد بن الحسن، قال:
حدثنا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بن زيد بن جدعان، عن علي بن الحسين، قال [4] :
كتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان يتهدده ويتواعده ويحلف أنه ليحملن
__________
[1] «هذه» : ساقطة من ت، وابن سعد.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] من ت: «قال المصنف» .
[4] الخبر في حلية الأولياء 3/ 176.

(6/229)


إليه مائة ألف في البر ومائة ألف في البحر أو يؤدي إليه الجزية فسقط في درعه، فكتب إلى الحجاج: أن اكتب لمحمد ابن الحنفية فتهدده وتواعده ثم أعلمني ما يرد إليك من جوابه. فكتب الحجاج إلى ابن الحنفية بكتاب شديد ويتواعده بالقتل. قال: فكتب إليه ابن الحنفية: إن للَّه عز وجل ثلاثمائة وستين لحظة [1] في كل يوم إلى خلقه، وأنا أرجو أن/ ينظر الله، عز وجل، إلي نظرة يمنعني بها منك. قال: فبعث الحجاج بكتابه إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى ملك الروم نسخته، فقال ملك الروم: ما خرج هذا منك ولا أنت كتبت به، وما خرج إلا من بيت نبوة.
__________
[1] في البداية والنهاية: «نظرة» .

(6/230)


ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين
فمن الحوادث فيها ما جرى بين الحجاج وابن الأشعث من الحرب [1]
فمن ذلك أن ابن الأشعث كان قد دخل البصرة في آخر ذي الحجة، واقتتلوا في محرم هذه السنة، وتزاحفوا ذات يوم فاشتد قتالهم فهزمهم أهل العراق حتى بلغت هزيمتهم إلى الحجاج، فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه وقال: للَّه در مصعب ما كان أكرمه، فعلم أنه لا يريد أن يفر، ثم هزم أهل العراق فخر ساجدا، وأقبل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث نحو الكوفة وتبعه من كان معه من أهل الكوفة، وتبعه أهل القوة من أهل البصرة، فوثب أهل البصرة حينئذ إلى عبد الرحمن بن عياش بْن ربيعة بْن الحارث بْن عَبْد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم الحجاج أشد قتال خمس ليال، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث.
وفي هذه السنة كانت وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث وذلك في شعبان
وبعضهم يقول: إنما كانت في سنة ثلاث وثمانين. وتلخيص القصة: ان ابن الأشعث لما جاء إلى الكوفة خرجوا لتلقيه، فلما دخل مال إليه أهل الكوفة كلهم، وسبقت همدان إليه، فحفوا به عند دار عمرو بن حريث، وبايعه الناس وتقوضت إليه المسالح والثغور، فأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، وبعث
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 342.

(6/231)


إليه ابن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل البصريين [1] ، فمنعوه نزول القادسية، ثم سايره حتى نزل دير قرة. ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم، وجاء ابن الأشعث فنزل دير الجماجم، وكان الحجاج يقول: ما كان عبد الرحمن/ يزجر الطير حين رآني نزلت دير قرة، ونزل دير الجماجم، فاجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة، وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من المصرين، كلهم اجتمعوا على حرب الحجاج، وكانوا مبغضين له وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل [ممن] [2] يأخذ [3] العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم. وجاءت للحجاج أمداد من قبل عبد الملك، واشتد القتال، فقيل لعبد الملك: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن ينزع عنهم الحجاج فانزعه تحقن [به] [4] الدماء، فإن نزعه أيسر من حربهم.
فأمر ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطياتهم كما تجري على أهل الشام، فإن هم قبلوا ذلك نزع عنهم الحجاج. وكان محمد بن مروان أمير العراق فإن هم لم يقبلوا ذلك فالحجاج أمير جماعة أهل الشام، وولي القتال، ومحمد وعبد الله في طاعته، فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أغيظ له من ذلك مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم.
فكتب إلى عبد الملك: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي فإنّهم لا يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على عثمان بن عفان، فلما سألهم: ما تريدون، قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تقم لهم قائمة حتى ساروا إليه فقتلوه، إن الحديد بالحديد يقرع [5] ، خار الله لك فيما ارتأيت.
فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق إرادة العافية من
__________
[1] كذا في الأصول، وفي الطبري 6/ 346: «المصرين» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[3] في الأصل: «تأخذ» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ت.
[5] في تاريخ الطبري 6/ 348: «الحديد بالحديد يفلح» .

(6/232)


الحرب، فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبد الله، فقال: يا أهل العراق، أنا عبد الله ابن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا، فذكر الخصال التي تقدم ذكرها، وقال محمد:
أنا رسول أمير المؤمنين إليكم، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، قالوا: نرجع العشية، فرجعوا واجتمعوا عند ابن الأشعث فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه، فحمد الله تعالى ثم قال: / أما بعد، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، والقوم لكم هائبون.
فوثب الناس من كل جانب فقالوا: إن الله عز وجل قد أهلكهم، فأصبحوا في الضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والمادة القريبة، لا والله لا نقبل.
وأعادوا خلعه ثانية، فرجع محمد بن مروان وعبد الله إلى الحجاج، فقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع ونطيع. وخلياه والحرب.
فبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكناني [1] ، وعلى ميسرته عمارة بن تميم، وعلى خيله سفيان بن الأبرد، وعلى رجالته عبد الله بن حبيب [2] . وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن عباس الهاشمي، وعلى رجالته محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وكان فيهم عامر الشعبي، وسعيد بن جبير، وأبو البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
ثم إنهم أخذوا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون، وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة وسوادها. فهم فيما هم فيه فيما شاءوا [من خصبهم، وإخوانهم من] أهل البصرة [3] وأهل الشام في ضيق شديد، قد قل عندهم الطعام وفقدوا اللحم وكأنهم في
__________
[1] في الطبري 6/ 349: «الكلبي» .
[2] كذا في ت وأحد نسخ الطبري المخطوط، وفي المطبوع من الطبري: «عبد الرحمن بن حبيب» . وفي ابن الأثير: «ابن خبيب» .
[3] في الأصل: «فهم فيما هم فيه فيما شاءوا وأهل البصرة» وما أوردناه من ت، وما بين المعقوفتين من تاريخ الطبري 6/ 350.

(6/233)


حصار وهم على ذلك يقتتلون أشد قتال، فخرجوا ذات يوم وقد عبى الحجاج جيشه، ثم زحف في صفوفه، وخرج ابن الأشعث في سبعة صفوف بعضها في أثر بعض.
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أخبرنا أبو عبد الله الحُمَيْدِي، قال: أخبرنا محمد بن سلامة القضاعي، قال: أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب، قال: أخبرنا ابن دريد، قال: حدثنا أبو عثمان، قال: حدثني عبد الله، قال: حدثنا أبو التياح، قال:
شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن أيام ابن الأشعث، فأما ابن الأشعث فكان يأمر بالكف وينهى عن القتال، وأما/ سعيد فكان يحرض ويأمر بالقتال، ويقول: والله ما خلعنا أمير المؤمنين ولا نريد خلعه، ولكننا نقمنا عليه الحجاج، وكان الحسن يقول: أيها الناس، تعلموا والله ما سلط الحجاج عليكم إلا عقوبة من الله، فلا تعارضوا عقوبة الله بالحمية والسيوف، ولكن عارضوها بالتضرع والاستغفار.
وفي هذه السنة توفي المغيرة بن المهلب بخراسان، وكان المهلب يومئذ وراء النهر لحرب من هناك، فولى أخاه يزيد بن المهلب مكان ولده.
وفيها: صالح المهلب من وراء النهر على شيء يؤدونه وفصل عنهم.
وفيها: توفي المهلب فولى الحجاج يزيد بن المهلب خراسان.
وفيها: عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة، وولاها هشام بن إسماعيل المخزومي، فلما وليها عزل نوفل بن مساحق العامري.
وقال الواقدي: كان هذا في سنة ثلاث وثمانين، فكانت ولاية أبان المدينة سبع سنين وثلاث عشرة ليلة.
وفيها: حج بالناس أبان بن عثمان، وكان على العراق والمشرق الحجاج، وعلى خراسان يزيد بن المهلب من قبل الحجاج.

(6/234)


ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
484- أوس بن خالد، أبو الجوزاء الربعي: [1]
صحب ابن عباس اثنتي عشرة سنة، وسأله عن جميع آيات القرآن. وروى عن عائشة، وخرج مع ابن الأشعث فقتل أيام الجماجم.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، قال: حدثنا نوح بن قيس، قال: حدثنا سليمان الربعي، قال:
كان أبو الجوزاء يواصل في الصوم بين سبعة أيام، ثم يقبض على ذراع الشاب فيكاد يحطمها.
485- أسماء/ بن خارجة، أبو مالك الفزاري الكوفي [2] :
روى عنه ابنه مالك.
روى الأصمعي، عن ابن عمرو بن العلاء، قال: دخل أسماء بن خارجة على عبد الملك بن مروان، فقال له: بلغني عنك خصال شريفة فأخبرني بهن، فقال: يا أمير المؤمنين، إن استماعهن من غيري أحسن من استماعهن مني. فقال: أقسم عليك إلا أخبرتني بهن، قال: يا أمير المؤمنين، ما سألني أحد قط حاجة إلا قضيتها كائنة ما كانت، ولا أكل رجل من طعامي ولا شرب من شرابي إلا رأيت له الفضل علي، ولا أقبل علي بحديثه إلا أقبلت عليه بسمعي وبصري حتى يكون هو المولي عني، [ولا مددت
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 162، التاريخ الكبير 1/ 2/ 17، والجرح والتعديل 1/ 1/ 305، وتاريخ الإسلام 3/ 316. وسير أعلام النبلاء 4/ 371.
وفي ت: «أويس بن خالد» .
[2] تاريخ الإسلام 2/ 372، وفوات الوفيات 1/ 11، والنجوم الزاهرة 1/ 179، ومن هذه المراجع من ذكر أن وفاته سنة 66.

(6/235)


رجلي أمام جليسي فيرى أن ذلك استطالة مني عليه] [1] . قال: حسبك يا أسماء يحق لك أن تسود وتشرف وهذه خصالك.
وبلغنا أن أسماء بن خارجة رجع يوما إلى باب داره فرأى فتى على الباب، فقال:
يا فتى، ما يجلسك هاهنا؟ فقال: خير. فألح عليه، فقال: جئت سائلا إلى هذه الدار فخرجت إلي منها جارية [ترفد] [2] فاختطفت قلبي، فجلست لكي تخرج ثانية فأنظر إليها. قال: أو تعرفها؟ قال: نعم. فدعا بالجواري، فجعل يعرضهن عليه حتى مرت به، قال: هي هذه. قال: مكانك. فخرج إليه بعد قليل فجعل يعتذر إليه ويقول: إنها لم تكن لي، كانت لبعض بناتي وقد اشتريتها لك بثلاثة آلاف درهم، خذها بارك الله لك فيها.
486- خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: [3]
كان من رجالات قريش والمعدودين من كبرائهم سخاء وفصاحة وعقلا. وكان قد شغل نفسه بعمل الكيمياء، فضاع زمانه. وكان مروان بن الحكم قد تزوج أمه أم خالد لأجل أن الناس كانوا ينظرون إلى خالد لمكان أبيه، وكان مروان يطمعه في بعض الأمر ثم بدا له فعقد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز، وأخذ يضع من خالد حتى شتمه يوما وذكر أمه بالقبح- على ما ذكرنا في أخبار مروان بن الحكم- فكان ذلك سبب قتل مروان.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن محمد العلاف، قال:
حدثنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: حدثنا/ محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا المبرد، قال: حدثنا هشام، عَنْ أبي عبيدة معمر بْن المثني، قَالَ:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] التاريخ الكبير 3/ 613، والمعارف 352، والجرح والتعديل 3/ 1615، تهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 119، وأسد الغابة 2/ 97، ومعجم البلدان 2/ 336، 3/ 402، ووفيات الأعيان 2/ 224، وتاريخ الإسلام 3/ 246، وسير أعلام النبلاء 9/ 411، والإصابة 1/ 469.

(6/236)


حج عبد الملك بن مروان وحج معه خالد بن يزيد بن معاوية، وكان من رجالات قريش المعدودين وعلمائهم. وكان عظيم القدر عند عبد الملك. فبينا هو يطوف بالبيت إذ بصر برملة بنت الزبير بن العوام فعشقها عشقا شديدا، ووقعت بقلبه وقوعا متمكنا.
فلما أراد عبد الملك القفول هم خالد بالتخلف عنه، فوقع بقلب عبد الملك تهمه، فبعث إليه يسأله عن أمره، فقال: يا أمير المؤمنين، رملة بنت الزبير رأيتها تطوف بالبيت قد أذهبت عقلي، والله ما أبديت لك ما بي حتى عيل صبري، فلقد عرضت النوم على عيني فلم تقبله، والسلو على قلبي فامتنع منه، فأطال عبد الملك التعجب من ذلك وقال: ما كنت أقول إن الهوى يستأسر مثلك، فقال: وإني لأشد تعجبا من تعجبك مني، ولقد كنت أقول إن الهوى لا يتمكن إلا من صنفين من الناس: الشعراء، والأعراب. فأما الشعراء فإنّهم ألزموا قلوبهم الفكر في النساء والغزل، فمال طمعهم إلى النساء، فضعفت قلوبهم عن دفع الهوى فاستسلموا له منقادين [1] . وأما الأعراب، فإن أحدهم يخلو بامرأته فلا يكون الغالب عليه غير حبه لها، ولا يشغله شيء عنه، فضعفوا عن دفع الهوى، فتمكن منهم. وجملة أمري ما رأيت نظرة حالت بيني وبين الحرم، وحسنت عندي ركوب الإثم مثل نظرتي هذه. فتبسم عبد الملك وقال: أو كل هذا قد بلغ بك، فقال: والله ما عرفتني هذه البلية قبل وقتي هذا، فوجه عبد الملك إلى آل الزبير يخطب رملة على خالد، فذكروا لها ذلك فقالت: لا والله، أو يطلق نساءه، فطلق امرأتين كانتا عنده، إحداهما من قريش والأخرى من الأزد [2] ، وظعن بها إلى الشام. وفيها يقول:
/ أليس يزيد الشوق في كل ليلة ... وفي كل يوم من حبيبتنا قربا
خليلي ما من ساعة تذكر انها ... من الدهر إلا فرجت عني الكربا
أحب بني العوام طرا لحبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالا يجول ولا قلبا
قال مؤلف الكتاب رحمة الله: وقد زاد بعض أعدائه في هذه الأبيات:
فإن تسلمي نسلم وإن تتنصري ... يخط رجال بين أعينهم صلبا
__________
[1] «فضعفت قلوبهم ... منقادين» : ساقطة من ت.
[2] في الأصل: «أحدهما قريشية والأخرى من الأزد» ، وما أوردناه من ت.

(6/237)


فلما سمع البيت قال من قاله: لعنة الله [عليه] وعلى من يجيبه [1] .
أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو جعفر ابن المسلمة، قَالَ: أَخْبَرَنَا المخلص، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ [بْنِ دَاوُدَ] [2] ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزبير بن بكار، قال:
دخلت رملة بنت الزبير على عبد الملك بن مروان، وكانت عند خالد بن يزيد بن معاوية، فقال لها: يا رملة، غرني عروة منك، فقالت: لم يغررك ولكن نصحك، إنك قتلت مصعبا أخي، فلم يأمني عليك. وكان عبد الملك أراد أن يتزوجها، فقال له عروة: لا أرى ذلك لك. وكان الحجاج قد بعث إلى خالد: ما كنت أراك تخطب إلى آل الزبير حتى تشاورني، فكيف خطبت إلى قوم ليسوا بأكفائك، وهم الذين نازعوا أباك [3] على الخلافة ورموه بكل قبيحة. فقال لرسوله: ارجع فقل له: ما كنت أرى أن الأمور بلغت بك إلى أن أؤامرك في خطبة النساء، وأما قولك: نازعوا أباك وشهدوا عليه بالقبيح، فإنها قريش تتقارع، فإذا أقر الله الحق مقره تعاطفوا وتراحموا. وأما قولك:
ليسوا لك بأكفاء. فقبحك الله يا حجاج ما أقل علمك بأنساب قريش، أيكون العوام كفؤا لعبد المطلب بن هاشم حتى يتزوج صفية ويتزوج رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ خديجة، ولا تراهم أكفاء لأبي سفيان.
ولما قدم الحجاج على عبد الملك مر بخالد فقال له رجل: من هذا؟ فقال خالد كالمستهزئ به: هذا عمرو/ بن العاص فرجع الحجاج إليه فقال: ما أنا بعمرو بن العاص ولكني ابن الغطاريف من ثقيف، والعقائل من قريش، ولقد ضربت بسيفي هذا أكثر من مائة ألف كلهم يشهد أن أباك وأنت وجدك من أهل النار، ثم لم آخذ لذلك عندك شكرا.
__________
[1] «فلما سمع ... وعلى من يجيبه» : ساقط من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «قارعوا أباك» . وما أوردناه من ت.

(6/238)


487- سفيان بن وهب الخولاني، أبو أيمن: [1]
وفد على رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ، وشهد مع عمرو فتح مصر، وولي الإمرة لعبد العزيز بن مروان على بعث الطليعة إلى إفريقية سنة ثمان وسبعين.
روى عنه أبو غسانة، وأبو البختري، والبرني، وبكر بن سوادة.
وتوفي في هذه السنة.
488- طلق بن حبيب العنزي: [2]
روى عن ابن عباس، وجابر [3] ، وكان متعبدا.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الجبار، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن أخي ميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر القرشي، قَالَ: حَدَّثَنِي محمد بن الحسين، قال: حدثني عبد الصمد النعماني، قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن الحجاج بن يزيد، قال:
كان طلق بن حبيب يقول: إني لأحب أن أقوم للَّه حتى أشتكي ظهري، فيقوم فيبتدئ بالقرآن حتى يبلغ الحجر ثم يركع.
489- عمر بن عبيد الله بن معمر، أبو حفص التميمي [4] ، أمير البصرة: [5]
كان جوادا صديقا لزياد الأعجم [6] قبل أن يلي، فقال له عمر: يا أبا أمية [7] ، لو قد
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 152، والبداية والنهاية 9/ 48 وفيه: «عفان بن وهب» وهو خطأ.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 165، وطبقات خليفة 210، والتاريخ الكبير 4/ 3138، وتاريخ واسط 98، والجرح والتعديل 4/ 2157، وحلية الأولياء 3/ 63، وسير أعلام النبلاء 4/ 601، وتاريخ الإسلام 4/ 129، وميزان الاعتدال 2/ 4024.
[3] «جابر» : ساقط من ت.
[4] في ت: والبداية 9/ 50: «التميمي» .
[5] البداية والنهاية 9/ 50، ورغبة الآمل 8/ 6، 7، 37، والمحبر 66، 151، ونسب قريش 189.
والنجوم الزاهرة 1/ 192، والعقد الفريد 4/ 47.
[6] في الأصل: «زياد الأعظم» . وما أوردناه من ت.
[7] في الأصل: «يا أبا أمامة» . وما أوردناه من ت.

(6/239)


وليت لتركتك لا تحتاج إلى أحد أبدا. فلما ولي عمر فارس قصده زياد، فلما لقيه أنشأ يقول:
ألا ابلغ أبا حفص رسالة ناصح ... أتت من زياد مستبينا كلامها
فإنك مثل الشمس لا ستر دونها ... فكيف أبا حفص علي ظلامها
فقال له عمر: لا يكون عليك ظلامها أبدا، فقال:
لقد كنت أدعو الله في السر أن أرى ... أمور معد في يديك نظامها
فقال: قد رأيت ذلك، فقال:
فلما أتاني ما أردت تباشرت ... بناتي وقلن العام لا شك عامها
قال: فهو عامها [1] إن شاء الله تعالى قال:
فأنى وأرض [2] أنت فيها ابن معمر ... كمكة لم يطرق لأرض حمامها
قال: فهي كذلك يا زياد، فقال:
إذا اخترت أرضا للمقام رضيتها ... لنفسي ولم يثقل علي مقامها
وكنت أمني النفس منك ابن معمر ... أماني أرجو أن تتم تمامها [3]
قال: قد أتمها الله لك، قال:
فلا أك كالمجرى إلى رأس غاية ... ترجى سماء لم تصبه غمامها
فقال: لست كذلك، فسل حاجتك، فقال نجيبة وخادمها، وفرس راتع وسائسه، وبدرة وحاملها، وجارية وخادمها، وتخت ثياب ووصيفة تحمله [4] ، فقال: قد أمرنا بجميع ما سألت، وهو لك علينا في كل سنة. فخرج من عند عمر حتى قدم على عبد الله بن الخشرج وهو بسابور، فأنزله وألطفه، فقال في ذلك:
إن السماحة والمروءة والندا ... في قبة ضربت على ابن الخشرج
__________
[1] في الأصل: «فهو عامهن» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «فاني وأرضأ» .
[3] في ت: «يتم زمامها» .
[4] في الأصل: «ووصيف يحمله» . وما أوردناه من ت.

(6/240)


لما أتيتك راجيا لنوالكم ... ألفيت باب نوالكم لم يرتج
فأمر له بأربعة آلاف درهم.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أَخْبَرَنَا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا علي ابن أبي علي المعدل، قال: حدثني أبي، قال: روى أبو روق الهمداني، عن الرياشي:
أن بعض أهل البصرة اشترى صبية فأحسن تأديبها وتعليمها، وأحبها كل المحبة، وأنفق عليها حتى أملق، وحتى مسه الضر الشديد، فقالت الجارية: إني لأرى لك يا مولاي مما أرى بك [1] من سوء الحال، فلو بعتني اتسعت بثمني فلعل الله أن يصنع لك وأقع/ أنا بحيث يحسن حالي فيكون ذلك أصلح لكل واحد منا. قال: فحملها إلى السوق، فعرضت على عمر بن عبد الله بن معمر [2] التيمي، وهو أمير البصرة يومئذ، فأعجبته فاشتراها بمائة ألف درهم، فلما قبض مولاها الثمن وأراد الانصراف استعبر كل واحد منهما إلى صاحبه شاكيا، فأنشأت الجارية تقول:
هنيئا لك المال الذي قد حويته [3] ... ولم يبق في كفي غير تذكري [4]
أقول لنفسي وهي في غشي كربة [5] ... أقلي فقد بان الحبيب أو أكثري
إذا لم يكن للأمر عندك حيلة ... ولم تجدي شيئا سوى الصبر فاصبري [6]
فاشتد بكاء المولى ثم أجابها يقول:
فلولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري [7]
أروح بهم في الفؤاد مبرح ... أناجي به قلبا شديد التفكر
__________
[1] في الأصل: «مما أرى بك يا مولاي» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «عبيد الله بن عمر» .
[3] في البداية «أخذته» .
[4] في ت: «التذكر» . وفي البداية: «تفكري» .
[5] في البداية: «وهي كرب عيشة» .
[6] الشطر الثامن في البداية: «بدا من الصبر» .
[7] في ت: «فاصبري» .

(6/241)


عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال له ابن معمر: قد شئت، خذها ولك المال، فانصرفا راشدين، فو الله لا كنت سببا لفرقة محبين.
وروى ابن عائشة، عن أبيه، قال: لما خرج ابن الأشعث أرسل عبد الملك إلى عمر بن عبد الله [1] بن معمر ليقدم عليه، فمات في الطريق بالطاعون. فقام عبد الملك على قبره وقال: أما والله لقد علمت قريش أنها فقدت اليوم نابا من أنيابها.
ورثاه الفرزدق الشاعر فقال:
كانت يداه لنا سيفا نصول به ... على العدو وغيثا ينبت الشجرا
أما قريش أبا حفص قد رزيت ... بالشأم إذا فارقتك الناس والظفرا
490- المهلب بن أبي صفرة- وكان اسم أبي صفرة ظالما- ويكنى المهلب/ أبا سعيد: [2]
وقد أدرك عمر لكنه لم يرو عنه، وروى عن سمرة وغيره، وولي خراسان، وكان جوادا.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، قال: حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا المعلي، عن حاتم، قال: أخبرني حفص بن عمر، قال:
نزل المهلب في دار محمد بن مخنف، فلما شخص قال: دعوا لهم المتاع، فترك لهم بسطا وغيرها بثلاثمائة ألف درهم.
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: حدثنا شجاع بْن فارس، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قال: أخبرنا ابْن أخي ميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان، قال:
أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني هارون بن أبي يحيى السلمي، قال: حدثني مسامر بن جميل:
__________
[1] في الأصل: «عمرو بن عبيد الله» .
[2] الإصابة 8635، والوفيات 2/ 145، ورغبة الآمل 2/ 201، 204، 3/ 60، 116، 5/ 130، 6/ 105، وسرح العيون 103، والجرح والتعديل 4/ 1/ 369.

(6/242)


أن المهلب مر بقوم فأعظموه وسودوه، فقال رجل: ألهذا الأعور تسودون، والله لو خرج إلى السوق ما جاء إلا بألفي درهم. فقال لبعض من معه: أتعرف الرجل؟ قال:
نعم، فلما انتهى إلى منزله أرسل إليه ألفي درهم، وقال: أما أنك لو زدتنا في القيمة لزدناك في العطية.
قال القرشي: وحدثني محمد بن أبي رجاء، قال: أغلظ رجل للمهلب بن أبي صفرة، فسكت، فقيل له: أربا عليك، قال: لم أعرف مساوئه فكرهت أن أبهته بما ليس فيه.
قال علماء السير: انصرف المهلب من وراء النهر يريد مرو، فمرض، فجمع من حضر من ولده، ودعا بسهام فحزمت، فقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا، قال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال: فهكذا الجماعة، فأوصيكهم بتقوى الله عز وجل، وصلة الرحم، وأنهاكم عن القطيعة، واعرفوا لمن يغشاكم حقه، وكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وعليكم في الحرب بالأناة والمكيدة فإنها أنفع من الشجاعة، وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وآداب الصالحين، وإياكم وكثرة الكلام.
ومات في ذي/ الحجة من هذه السنة بمروالروذ، واستخلف على خراسان ولده يزيد فأقره الحجاج.
ومن العجائب: أنه كان للمهلب ثلاثة أولاد: يزيد، وزياد، ومدرك، ولدوا في سنة واحدة، وقتلوا في سنة واحدة، وأسنانهم واحدة، عاش كل واحد منهم ثمانية وأربعين سنة.
491- المغيرة بن المهلب: [1]
كان خليفة أبيه على عمله كله، فتوفي في رجب من هذه السنة.
__________
[1] البداية والنهاية 9/ 48.

(6/243)


ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين
فمن الحوادث فيها هزيمة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بدير الجماجم [1]
وذلك أن عبد الرحمن نزل دير الجماجم، وهو دير بظاهر الكوفة على طرف البر الذي يسلك منه إلى البصرة، وإنما سمي بدير الجماجم لأنه كان بين أياد والقين حروب فقتل من أياد والقين خلق كثير ودفنوا، فكان الناس يحفرون فتظهر لهم جماجم فسمي دير الجماجم، وذلك اليوم بيوم الجماجم.
ونزل الحجاج دير قرة- وهو مما يلي الكوفة بإزاء دير الجماجم- فقال الحجاج:
[ما اسم هذا الموضع الذي نزل فيه ابن الأشعث؟ قيل له: دير الجماجم] [2] ، فقال:
الحجاج: يقال هو بدير الجماجم فتكثر جماجم أصحابه عنده، ونحن بدير قرة ملكنا البلاد، واستقررنا فيها.
واتصلت الحرب بينهما مائة يوم كان فيها إحدى وثمانون وقعة، وكان يحمل بعضهم على بعض، فحمل أهل الشام مرة بعد مرة، فنادى عبد الرحمن بن أبي ليلى: يا معشر القراء، إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم، إني سمعت عليا عليه السلام يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنه من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبريء، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 346.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من معجم البلدان 2/ 526.

(6/244)


الهدى ونور قلبه باليقين/ فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق ولا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه. وقال أبو البختري [1] : أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم، فو الله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم، وليغلبن على دنياكم.
وقال الشعبي [2] : يا أهل الإسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فو الله ما أعلم قوما على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور منهم في الحكم.
[وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، قاتلوهم على جورهم في الحكم] [3] وتجبرهم في الدين واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة.
فحمل أصحاب عبد الرحمن على القوم حتى أزالوهم عن صفهم، ثم عادوا فإذا جبلة بن زحر بن قيس الجعفي الذي كان على الرجالة صريع، فانكسر القراء، وحمل رأسه إلى الحجاج، فقال: يا أهل الشام، أبشروا هذا أول الفتح، وما زالوا يقتتلون ويتبارز الرجل والرجل مائة يوم.
ثم إن أصحاب عبد الرحمن انهزموا في بعض الأيام، وأخذوا في كل وجه، وصعد عبد الرحمن المنبر، وأخذ ينادي الناس: [عباد الله إلي إلي عباد الله، إلي أنا ابن محمد] [4] . وجاء إلى جماعة من أصحابه، فأقبل أهل الشام فحملوا عليهم وهو على المنبر، فقال له عبد الله بن يزيد الأزدي: انزل فإني أخاف عليك أن تؤسر، ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعا يهلكهم الله به بعد اليوم. وحضر مع القوم سلمة بن كهيل، وعطاء السلمي، والمعرور بن سويد، وطلحة بن مصرف.
ورأى طلحة رجلا يضحك فقال له: أما إنك تضحك ضحك من لم يحضر الجماجم، فقيل له: وشهدت الجماجم؟، فقال: نعم ورميت فيها بسهم وليت يدي قطعت ولم أرم فيها.
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 6/ 357.
[2] الخبر في تاريخ الطبري 6/ 357.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «يا عباد الله إلي أنا ابن محمد، وجاء إلى جماعة» . وما أوردناه من ت.

(6/245)


ثم إنه نزل من على المنبر وانهزم أهل العراق لا يلوون على شيء، ومضى عبد الرحمن في أناس من أهل بيته إلى منزله، فخرجت إليه ابنته فالتزمها، وخرج أهله يبكون، فأوصاهم بوصية، / وقال: لا تبكوا، فكم عسيت أن أبقى معكم، وإن الذي يرزقكم حي، ثم ودعهم وخرج من الكوفة، فقال الحجاج: لا تتبعوهم، ومن رجع فهو آمن.
وجاء الحجاج إلى الكوفة فدخلها، فجاء الناس إليه، فكان لا يبايعه أحد إلا قال:
أتشهد أنك كفرت، فإذا قال نعم بايعه وإلا قتله، فجاء رجل من خثعم فقال له: أتشهد أنك كافر؟ فقال: بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله عز وجل ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر، قال: إذا أقتلك، قال: وإن قتلتني فو الله ما بقي من عمري ظمء حمار [1] ، وإني لأنتظر الموت صباحا ومساء، فقال: اضربوا عنقه، فضربت عنقه.
ودعا بكميل بن زياد فقتله، وأتي برجل فقال الحجاج: إني أرى رجلا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر، فقال: أخادعي أنت عن نفسي، أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد، فضحك الحجاج وخلى سبيله.
وأقام الحجاج بالكوفة شهرا.
وفي هذه السنة كانت الوقعة بمسكن بين الحجاج وابن الأشعث بعد ما انهزم من دير الجماجم [2]
وكان السبب أن محمد بن سعد بن أبي وقاص خرج بعد وقعة الجماجم حتى نزل المدائن، واجتمع إليه ناس كثير، وخرج عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد حتى قدم البصرة وهو بها، فاجتمع الناس إلى عبد الرحمن، فأقبل عبيد الله إليه وقال: إنما أخذتها لك. وخرج الحجاج قبل المدائن [3] ، فأقام بها خمسا حتى هيأ الرجال في المعابر، وخندق ابن الأشعث وأقبل نحو الحجاج والتقوا، فاقتتلوا فانهزم أهل العراق، وقتل أبو
__________
[1] في الأصل: «عظمي حمار» . في ت: «كظميء حمار» وما أوردناه من تاريخ الطبري.
[2] تاريخ الطبري 6/ 366.
[3] كذا في الأصول، وفي الطبري «فبدأ المدائن» .

(6/246)


البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ثم قاتلوا فكشفوا أهل الشام مرارا، ثم انهزم ابن الأشعث.
وقيل: بل بعث الحجاج جندا فأتوا عسكر ابن الأشعث من ورائهم في الليل، فتحيزوا لأن نهر دجيل عن يسارهم ودجلة/ أمامهم، فكان من غرق أكثر ممن قتل، ودخل الحجاج إلى عسكرهم فانتهب ما فيه، وقتل أربعة آلاف.
ومضى ابن الأشعث ومعه فل نحو سجستان، فأتبعهم الحجاج عمارة بن تميم اللخمي، فأدرك ابن الأشعث بالسوس، فقاتلهم ابن الأشعث ساعة، ومضى ابن الأشعث حتى مرّ بكرمان، وجاء إلى بلدة له فيها عامل فاستقبله العامل وأنزله، فلما عقل أصحاب عبد الرحمن وتفرقوا عنه أوثقه ذلك العامل وأراد أن يأمن بذلك عند الحجاج، فجاء رتبيل حتى أحاط بذلك البلد، وبعث إليه ذلك الرجل وقال: والله لئن آذيته أو ضررته لأقتلنك ومن معك، ثم أسبي ذراريكم، وأقسم أموالكم، فقال له: أعطنا أمانا ونحن ندفعه إليك سالما، فصالحهم على ذلك، فأخذه رتبيل فأكرمه.
ثم إن الفلول أقبلوا في أثر ابن الأشعث حتى سقطوا بسجستان، فكانوا نحوا من ستين ألفا، وكتبوا إلى عبد الرحمن بعددهم، فخرج إليهم فساروا إلى هراة، فخرج من جملتهم عُبَيْد الله بن عبد الرحمن في ألفين، ففارقهم، فلما أصبح ابن الأشعث قام فيهم فقال: إني قد شهدتكم في هذه المواطن فما من موطن إلا أصبر فيه نفسي حتى لا يبقى منكم أحد، فلما رأيت أنكم لا تصبرون أتيت مأمنا فكنت فيه، فجاءتني كتبكم بأن أقبل إلينا، فقد اجتمعنا، وهذا عبيد الله قد صنع ما رأيتم، فحسبي منكم يومي هذا، فاصنعوا ما بدا لكم، فإنّي منصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله، فمن أحب منكم أن يتبعني فليتبعني، ومن كره ذلك فليذهب حيث أحب.
فمضى إلى رتبيل، ومضت معه طائفة، وبقي معظم العسكر، فوثبوا إلى عبد الرحمن بن العباس [1] فبايعوه، وذهبوا إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة، وسار إليهم يزيد بن المهلب فقاتلهم وأسر منهم، فبعث الأسرى إلى الحجاج فقتل منهم وعفى عن بعضهم. وجيء بفيروز فعذبه بأن شد القصب الفارسي المشقق عليه، ثم جر
__________
[1] كذا في ت، والطبري 6/ 371. وفي الأصل: «محمد بن العباس» .

(6/247)


عليه، ثم نضح عليه الخل/ والملح، فلما أحس بالموت قال: لي ودائع عند الناس لا تؤدى إليكم أبدا، فأخرجوني ليعلموا أني حي فيردوا المال، فقال الحجاج: أخرجوه، فأخرج إلى باب المدينة، فقال: من كان لي عنده شيء فهو في حل منه، ثم قتل.
وذكر الحجاج [1] الشعبي فقال: أين هو؟ فقال يزيد بن أبي مسلم: بلغني أنه لحق بقتيبة بن مسلم بالري، وكان الحجاج قد نادى: من لحق بقتيبة فهو آمن، فلحق به الشعبي، فقال ليزيد: ابعث إليه فليؤت به، فكتب إلى قتيبة: أن ابعث الشعبي.
قال الشعبي وكان صديقا لابن [أبي] [2] مسلم: فلما قدمت على الحجاج لقيته، فقلت: أشر عليّ، فقال: ما أدري غير أن أعتذر ما استطعت. فلما دخلت سلمت عليه بالإمرة، ثم قلت: أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلمه الله عز وجل أنه الحق، وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقا، وقد والله حرضنا عليك وجهدنا كل الجهد، فما كنا فيما كنا أتقياء بررة، فإن سطوت فبذنوبنا، وإن عفوت فبحلمك، والحجة لك. فقال: أنت والله أحب إلي قولا ممن يدخل وسيفه يقطر من دمائنا، ثم يقول: ما فعلت. قد أمنت عندنا يا شعبي.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك وابن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا القاضي إسماعيل بن سعيد بن سويد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن الأنباري، قَالَ: حدثنا أبو الحسن بن البراء، قال: حدثنا العباس بن عبد الله، قال:
حدثني سليمان بن أحمد، عن عيسى بن موسى، عن الشعبي، قال:
انطلق بي إلى الحجاج وأنا في حلق الحديد، فلما كنت بباب القصر استقبلني يزيد بن أبي مسلم، وكان صديقا لي، فقال لي: يا شعبي وآها لما بين دفتيك من العلم، وليس بيوم شفاعة، أقر للأمير بالشرك والنفاق على نفسك فبالحرى تنجو وما أراك بناج.
ثم دخلت القصر فاستقبلني محمد بن الحجاج، فقال لي مثل مقالة يزيد، فلما دخلت على الحجاج قال لي: يا شعبي ألم أشرفك ولا يشرف مثلك؟ / ألم أوفدك ولا يوفد
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 374.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/248)


مثلك؟ ألم أكتب إلى ابن أبي بردة قاضي الكوفة ألا يقطع أمرا دونك؟ قلت: كل ذلك قد كان أصلح الله الأمير، قال: فما الذي أخرجك؟ قلت: أحزن بنا المنزل، وضاق بنا المسلك، وأجدب [بنا] الجناب، واكتحلنا السهر، واستشعرنا الخوف، ووقعنا في حرب والله ما كنا فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فقال: صدق، أطلقا عنه. فقال:
وأمرني بلزوم بابه.
وفي هذه السنة بنى الحجاج واسط القصب [1]
وكان سبب ذلك أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان، فعسكروا بحمام عمر [2] . وكان فتى من أهل الكوفة حديث عهد بعرس، فانصرف إلى منزله ليلا، فإذا سكران من أهل الشام قد طرق الباب، فقالت المرأة: هذا كل ليلة يأتينا فنلقى منه المكروه، فلما دخل ضرب الفتى رأسه فأندره، فلما أصبحوا علم الناس بالقتيل، فذهبوا به إلى الحجاج، فسأل المرأة فصدقته، فقال: قتيل إلى النار، لا قود له. ثم نادى مناديه: لا ينزلن أحد على أحد، وبعث روادا يرتادون له منزلا حتى نزل أطراف كسكر. فبينا هو في موضع واسط إذا راهب قد أقبل على حماره، فلما كان في موضع واسط بالت الأتان، فنزل الراهب فاحتفر الأرض وحمل التراب فرمى به في دجلة [3] ، فقال الحجاج: علي به، فجيء به، فقال: ما حملك على ما صنعت؟
قال: نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله عز وجل فيه ما دام في الأرض من يوحد [4] ، فبنى المسجد في ذلك الموضع.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو الحسين بن النقور، قال: أخبرنا الحسين بن هارون الضبي، قال: في كتاب والدي عن البيهقي، قال: أخبرني الرياشي، قال:
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 383.
[2] في الأصول: «حمام عمره» وما أوردناه من الطبري.
[3] كذا في الأصول: «فاحتفر ذلك البول فرمى به في دجلة» .
[4] في الأصول: «فيه كما إن في الأرض من يوحده» . وما أوردناه من الطبري.

(6/249)


لما فرغ الحجاج من بناء واسط، قال للحسن البصري بعد فراغه منها: كيف ترى بناءنا هذا؟ قال الحسن: إن الله أخذ عهود العلماء ومواثيقهم أن لا يقولوا إلا الحق، أما أهل السماء أيها الأمير [فقد] مقتوك [1] ، وأما أهل الأرض [فقد] غروك [2] ، أنفقت مال الله في غير طاعته، يا عدو/ نفسه. فنكس الحجاج رأسه حتى خرج الحسن، ثم قال:
يا أهل الشام، يدخل علي عُبَيْد أهل البصرة ويشتمني في مجلسي ثم لا يكون لذلك معير ولا نكير، ردوه، فخرجوا ليردوه، ودعا بالسيف ليقتله، فلما دخل الحسن دعا بدعوات لم يتمالك الحجاج أن قربه ورحب به وأجلسه على طنفسته، ثم دعا بالطيب فغلف لحيته وصرفه مكرما، فلما خرج من عنده تبعه الحاجب، وقال: يقول لك الأمير رأيتك تحرك شفتيك وقد كنت هممت بك، فماذا قلت في دعائك؟ فقال الحسن:
قلت: يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا ووليّ نعمتي، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ويا كهيعص، بحق طه ويس والقرآن العظيم أرزقني معروف الحجاج ومودته، واصرف عني أذاه ومعرته، فقال الحاجب عندها: بخ بخ لهذا الدعاء. وأمر الحجاج بأن يكتب له هذا [الدعاء] [3] .
قال أبو إسحاق البيهقي: قال الرياشي: لقد دعوت بهذه الدعوات في الشدائد مرارا ففرج الله عني [4] .
وفي هذه السنة حج بالناس هشام [5] بن إسماعيل المخزومي، وهو العامل على المدينة، وكان العمال على الأمصار العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها [6] .
__________
[1] في الأصل: «فمقتوك» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «فغروك» . وما أوردناه من ت.
[3] في ت: «أمر الحجاج بأن يكتب هذا الدعاء له» .
[4] في ت: «بهذا الدعاء في الشدائد مرارا وأفرج الله عني» .
[5] في ت: «حج بالناس في هذه السنة» .
[6] في ت: «وكان العمال فِي هذه السنة العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها» .

(6/250)


ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
492- روح بن زنباع، أبو زرعة الجذامي الشامي [1] :
يقال: له صحبة. ولا يصح، وإنما يروي عن الصحابة، وكان من كتاب عبد الملك. وكان عبد الملك يقول: إن روحا الشامي الطاغية عراقي الخط، حجازي الفقه، فارسي الكتابة. وكان معاوية هم بروح بن زنباع فقال له: لا تشمتن بي عدوا أنت وقمته [2] ، ولا تسوؤنّ بي صديقا أنت سررته، ولا تهدمن مني ركنا أنت بنيته، هلا آتي حلمك وإحسانك على جهلي وإساءتي. فأمسك عنه.
493- زيد بن وهب الجهني، أبو سليمان: [3]
[رحل إلى حضرة رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم] [4] / وزيد [5] في الطريق.
روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وكبار الصحابة.
494- زاذان أبو عمرو، مولى كندة [6] :
روى عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وجرير، وسلمان [7] .
__________
[1] الإصابة 2707، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 337، والبداية والنهاية 9/ 54، وسمط اللآلي 179.
[2] وقم الرجل وقما ووقمه: أذله وقهره.
[3] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 69، وطبقات خليفة 158، والتاريخ الكبير 3/ 352، والجرح والتعديل 3/ 2600، وحلية الأولياء 4/ 171، والإستيعاب 2/ 559، وأسد الغابة 2/ 242، وتاريخ الإسلام 3/ 251، وسير أعلام النبلاء 4/ 196، وميزان الاعتدال 2/ 3031، وتذكرة الحفاظ 1/ 66.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الأصل.
[5] في الأصل: «فلقيه وزيد في الطريق» وما أوردناه من ت.
[6] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 124، وطبقات خليفة، والتاريخ الكبير 3/ 1455، والجرح والتعديل 3/ 2781، وحلية الأولياء 4/ 199، وتاريخ بغداد 8/ 487، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 347، وتاريخ الإسلام 3/ 248، وسير أعلام النبلاء 4/ 280، وميزان الاعتدال 2/ 2817.
[7] قال ابن سعد: «كان ثقة قليل الحديث» . وقال يحيى بن معين: «كان يتغنى ثم تاب» . قال ابن عدي في الكامل: «أحاديثه لا بأس بها إذا روى عن ثقة، وكان يبيع الكرابيس، وإنما رماه من رماه لكثرة كلامه» . ووثقه العجليّ.

(6/251)


وعن سالم بن أبي حفصة، أن زاذان كان يبيع الثياب، فإذا عرض الثوب ناول شر الطرفين.
495- عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو عيسى الأنصاري: [1]
وفي اسم أبي ليلى أربعة أقوال: أحدهما يسار، والثاني بلال، والثالث بليل، والرابع داود بن أحيحة بن الحلاج بن الحريش بن جحجبا [بن كلفة] .
ولد عبد الرحمن لست سنين بقين من خلافة عمر بن الخطاب، وروى عن عمر، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، أبي، وكعب بن عجرة، والمقداد، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، وغيرهم.
روى عنه مجاهد، وثابت البناني، والأعمش، وغيرهم.
وكان ثقة، سكن الكوفة، وشهد حرب الخوارج بالنهروان مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ بإسناد لَهُ عن يزيد ابن أبي زياد، قال:
قال لي عبد الله بن الحارث: اجمع بيني وبين ابن أبي ليلى، فجمعت بينهما، فقال عبد الله بن الحارث: ما شعرت أن النساء ولدت مثل هذا.
قتل عبد الرحمن في الجماجم سنة ثلاث وثمانين. وقيل سنة إحدى وثمانين.
والأول أصح.
496- عبد الرحمن بن حجيرة، أبو عبد الله الخولاني: [2]
روى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وغيرهما.
وكان عبد الرحمن قد اجتمع له القضاء بمصر، والقصص، وبيت المال. وكان
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 74، تهذيب التهذيب 6/ 260.
[2] تهذيب التهذيب 6/ 160، التاريخ الكبير 3/ 1/ 276، والجرح والتعديل 5/ 227، والبداية والنهاية 9/ 56.

(6/252)


يأخذ رزقه في القضاء مائتي دينار، وفي بيت المال مائتي دينار، وعطاؤه مائتا دينار، وجائزته مائتا دينار، فكان يأخذ في السنة ألف دينار، فلا يحول الحول وعنده ما يجب فيه الزكاة.
توفي في محرم هذه السنة.
497- عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث، أبو المصبح، وهو أعشى همدان [1] :
شاعر فصيح، كوفي، من شعراء بني أمية، وكان/ زوج أخت الشعبي، والشعبي زوج أخته. وكان أحد القراء الفقهاء ثم ترك ذلك وقال الشعر، ورأى في المنام أنه دخل بيتا فيه حنطة وشعير، فقيل له: خذ أيهما شئت، فأخذ الشعير، فقال له الشعبي: إن صدقت رؤياك تركت القرآن وقلت الشعر، فكان كذلك.
وخرج مع الأشعث فأخذه الحجاج فقتله صبرا.
498- شقيق بن سلمة، أبو وائل الأسدي [2] :
أدرك رسول اللَّه صَلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يلقه. وسمع عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعمارا، وخبابا، وأبا مسعود، وأبا موسى، وأسامة بن زيد، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وأبا الدرداء، وابن عباس، وجرير بن عبد الله، والمغيرة بن شعبة.
روى عنه منصور بن المعتمر، وعمرو بن مرة، والأعمش وغيرهم.
وكان من سكان الكوفة، وورد المدائن مع علي بن أبي طالب حين قاتل الخوارج بالنهروان.
قال الأعمش: [3] قال لي شقيق: يا سليمان، لو رأيتني ونحن هراب من خالد بن
__________
[1] الأغاني 6/ 41، والإكليل 10/ 58، وفيه: «عبد الرحمن بن الحارث» .
[2] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 64، وطبقات خليفة 155، والتاريخ الكبير 4/ 2681، والمعارف 449، والجرح والتعديل 4/ 1613، وحلية الأولياء 4/ 101، وتاريخ بغداد 9/ 268، والاستيعاب 2/ 710، 4/ 177، وأسد الغابة 3/ 3، وسير أعلام النبلاء 4/ 161، وتذكرة الحفاظ 1/ 60، والإصابة 2/ 3982، وتهذيب تاريخ دمشق 6/ 336.
[3] الخبر في مصنف ابن أبي شيبة 13/ 15740، وطبقات ابن سعد 6/ 1/ 64.

(6/253)


الوليد يوم بزاخة، فوقعت عن البعير فكادت تندق عنقي، فلو مت يومئذ كانت النار أولى بي، وكنت يومئذ ابن إحدى عشرة سنة.
وقيل له [1] : أيما أكبر أنت أو الربيع بن خيثم؟ فقال: أنا أكبر منه سنا، وهو كان أكبر مني عقلا. وقيل له: بأي شيء تشهد على الحجاج؟ فقال: أتأمروني أنا أحكم على الله.
وكان يسمع موعظة إبراهيم التيمي فينتفض انتفاض الطير. وكان لا يلتفت في صلاة.
وقال: درهم [من] [2] تجارة أحب إلي من عشرة من عطائي.
وعن سعيد بن صالح، قال: كان أبو وائل يؤم جنائزنا وهو ابن خمسين ومائة سنة، وعن عاصم قال: كان أبو وائل ينشج [سرا] [3] ، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل.
وعن عاصم قال: كان لأبي وائل خص من قصب، وهو فيه وفرسه، فكان إذا غزا نقضه، وإذا قدم بناه.
499-/ معاذة بنت عبد الله العدوية، تكنى أم الصهباء [4] :
روت عن عائشة، وروى عنها الحسن، وأبو قلابة.
وكانت تحيي الليل، [وكانت] [5] تقول: عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلم القبور.
ولما قتل زوجها صلة بن أشيم وابنها في بعض الغزوات اجتمع النساء عندها، فقالت: مرحبا بكن إن كنتن جئتن لتهنئتي فمرحبا بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 6/ 1/ 64، والتاريخ الكبير 4/ 2681، عن يزيد بن أبي زياد، قال: قلت لأبي وائل» وساقه، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن الثوري 13/ 15769.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] طبقات ابن سعد 8/ 355.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/254)


فارجعن. ولم تتوسد فراشا بعد ذلك، وكانت تقول: والله ما أحب البقاء إلا لأتقرب إلى ربي عز وجل بالوسائل لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة.
فلما احتضرت بكت ثم ضحكت، فسئلت عن ذلك، فقالت: أما البكاء فإني ذكرت مفارقة الصيام والصلاة والذكر، وأما الضحك، فإني نظرت إلى أبي الصهباء وقد أقبل في صحن الدار وعليه حلتان خضراوان وهو في نفر ما رأيت لهم في الدنيا شبها فضحكت إليه. ولا أراني أدرك بعد ذلك فرضا. فماتت قبل دخول وقت الصلاة.

(6/255)


ثم دخلت سنة أربع وثمانين
فمن الحوادث فيها قتل الحجاج أيوب بن القرية [1]
وكان ممن كان مع ابن الأشعث، وكان يدخل بعد ذلك على حوشب بن يزيد- وحوشب عامل الحجاج- فيقول حوشب: أنظروا إلى هذا الواقف معي وغدا أو بعد غد يأتي كتاب من الأمير لا أستطيع إلا إنفاذه. فبينا هو ذات يوم واقف أتاه كتاب من الحجاج: أما بعد، فإنك قد صرت كهفا لمنافقي أهل العراق، فإذا نظرت في كتابي هذا فابعث إلي بابن القرية مشدودة يده إلى عنقه مع ثقة من قبلك.
فلما قرأ الكتاب رمى به إليه، [فقرأه] [2] وقال: سمعا وطاعة، فبعث به موثقا، فدخل عليه، فقال: أصلح الله الأمير، أقلني عثرتي، فإنه ليس جواد إلا وله كبوة، فأمر به فقتل.
وفي هذه السنة غزا عبد الله بن عبد الملك بن مروان/ الروم ففتح المصيصة.
وفيها: [3] فتح يزيد بن المهلب قلعة كان يراصدها، وكتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو فمنحنا الله أكتافهم، وقتلنا طائفة وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة برءوس الجبال
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 385.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 387.

(6/256)


وعراعر الأودية، وأهضام الغيطان. فقال الحجاج: من يكتب ليزيد؟ فقيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد ليحمله على البريد، فلما دخل عليه رأى أفصح الناس، فقال:
أين ولدت؟ قال: بالأهواز، فقال: من أين لك هذه الفصاحة؟ قال: حفظت كلام أبي وكان فصيحا. قال: فأخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال: نعم كثيرا، قال: ففلان؟
قال: نعم، قال: فأخبرني عنّي أألحن [1] : قال: نعم تلحن لحنا خفيفا، تزيد حرفا وتنقص حرفا، وتجعل أن في موضع إن، قال: أجلتك ثلاثا، فإن أجدك بعد ثلاث بأرض العراق قتلتك. فرجع إلى خراسان.
وفيها: [2] حج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان عمال الأمصار عمالها في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
500- بديح، مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب [3] :
[وكان يقال بديح المليح، فكانت فيه فكاهة ومزاح، وكان يغني، وروى الحديث عن عبد الله بن جعفر] [4] .
قال العتبي: [5] دخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وهو يتأوه، فقال: مالك؟ قال: هاج بي عرق النسا [في ليلتي] [6] هذه فبلغ مني، قال: فإن بديحا مولاي أرقى الخلق له، فوجه إليه عبد الملك، فجاء فقال: كيف رقيتك لعرق النسا؟ قال:
أرقى خلق الله، فمد رجله فتفل عليها ورقاها مرارا، فقال عبد الملك: الله أكبر وجدت [والله] خفا. يا غلام، ادع لي فلانة تجيء وتكتب الرقية، فإنا لا نأمن هيجها بالليل فلا ندعو بديحا. فلما جاءت الجارية قال بديح: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كتبتها
__________
[1] في الأصل: «ألحن» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «وحج في هذه السنة هشام» .
[3] الأغاني 15/ 169 (دار الكتب العلمية) .
[4] ما بين المعقوفتين: جاء في الأصل في آخر الترجمة.
[5] الخبر في الأغاني 15/ 170.
[6] في الأصل: «قريبا» في هذه السنة» والتصحيح من الأغاني.

(6/257)


حتّى تعجل حبائي، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فلما صارت بين يديه، قال: وامرأته طالق إن كتبتها أو يصير المال في منزلي، فأمر فحمل إلى منزله، فلما أحرزه قال: امرأته طالق إن كنت/ قرأت على رجلك إلا أبيات نصيب:
ألا إن ليلى العامرية أصبحت ... على النأي مني غير ذنبي فتنقم [1]
قال: ويلك ما تقول؟ قال: امرأته طالق إن كان رقى إلا بما قال، قال: فاكتمها علي، قال: وكيف وقد سارت بها البرد إلى أخيك بمصر؟ فضحك عبد الملك حتى جعل يفحص برجليه.
توفي بديح في هذه السنة.
__________
[1] في الأغاني: «على النأي مني ذنب غير تنقم» .

(6/258)


ثم دخلت سنة خمس وثمانين
فمن الحوادث فيها هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث [1]
وسبب ذلك أنه لما رجع إلى رتبيل قال له رجل [كان] [2] معه يقال له علقمة بن عمرو: ما أريد أن أدخل معك، قال: لم؟ قال: لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بكتاب من الحجاج قد جاء إلى رتبيل يرغبه ويرهبه فإذا هو قد بعث بك سلما أو قتلكم، ولكن ها هنا خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصن فيها، ونقاتل حتى نعطى أمانا أو نموت كراما. فقال له عبد الرحمن: أما إنك لو دخلت معي لآسيتك وأكرمتك. فأبى عليه. فدخل عبد الرحمن إلى رتبيل، وخرج هؤلاء الخمسمائة [3] فبعثوا عليهم مودودا النضري [4] ، وأقاموا حتى قدم عليهم عمارة بن تميم، فقاتلوه وامتنعوا منه حتى آمنهم، فخرجوا إليه فوفى لهم.
وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن: أن ابعث به إليّ، وإلا فو الله الّذي لا إله إلا هو لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل. وكان عند رتبيل رجل من بني تميم يقال له عُبَيْد بن أبي سبيع، [5] فقال له: أنا آخذ لك من الحجاج عهدا ليكفّنّ الخراج
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 389.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «الخمسة» خطأ وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «مودود البصري» وما أوردناه من الله والطبري.
[5] في الأصل: «ابن أبي سميع» . وما أوردناه من الله والطبري.

(6/259)


عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن، فقال: إن فعلت ذلك فلك عندي ما سألت.
فكتب إلى الحجاج [1] يخبره [أن رتبيل لا يعصيه، وأنه لن يدع رتبيل حتى يبعث إليه بعبد الرحمن، فأعطاه الحجاج على ذلك مالا وأخذ من رتبيل عليه مالا] [2] ، وبعث رتبيل برأس/ عبد الرحمن إلى الحجاج، وترك له الذي كان يأخذه منه سبع سنين.
وفي رواية [3] : أن عبد الرحمن أصابه سل، فلما مات وأرادوا دفنه حز رتبيل رأسه وبعث به إلى الحجاج.
وفي رواية: [4] أن الحجاج كتب إلى رتبيل: إني قد بعثت إليك عمارة بن تميم في ثلاثين ألفا من أهل الشام يطلبون ابن الأشعث. فأبى رتبيل أن يسلمه إليهم، وكان مع ابن الأشعث عبيد بن أبي سبيع قد خص به، وتقرب من رتبيل وخص به، فقال القاسم بن محمد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا آمن غدر هذا [5] ، فاقتله، فهم به، وبلغه ذلك، فخاف فوشى به إلى رتبيل، وخوفه الحجاج، وخرج سرا إلى عمارة، فاستعجل في ابن الأشعث، [فجعل له] [6] ألف ألف، فكتب بذلك عمارة إلى الحجاج، فكتب إليه الحجاج: أن أعط عبيدا ورتبيل ما سألاك، فاشترط رتبيل أشياء [7] فأعطيها، وأرسل [رتبيل] إلى ابن الأشعث وثلاثين من أهل بيته وقد أعد لهم الجوامع والقيود، فقيدهم وأرسل بهم جميعا إلى عمارة، فلما قرب ابن الأشعث من عمارة ألقى نفسه من فوق قصر فمات. فاحتز رأسه، فأتى به الحجاج، فأرسل به إلى عبد الملك.
وذكر بعضهم [8] : أن مهلك عبد الرحمن كان في سنة أربع وثمانين.
__________
[1] من هنا ساقط من الله إلى: «برأس عبد الرحمن إلى الحجاج» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[3] الرواية في الطبري 6/ 390.
[4] الرواية في الطبري 6/ 390.
[5] أي: عبيد بن أبي سبيع.
[6] ما بين المعقوفتين: أضفناها لاستقامة المعنى.
[7] الشروط التي اشترطها كما في الطبري 6/ 391: «ألا تغزى بلاده عشر سنين، وأن يؤدي بعد العشر سنين في كل سنة تسعمائة ألف» .
[8] تاريخ الطبري 6/ 393.

(6/260)


وفي هذه السنة عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان وولاها المفضل [1] بن المهلب أخا يزيد
وسبب ذلك [2] أن بعض أهل الكتاب قال له: يلي الأمر بعدك رجل يقال له يزيد، فقال: ليس إلا ابن المهلب، فعزله وولى المفضل فبقي تسعة أشهر، وكان يزيد قد ولي سنة اثنتين، وعزل سنة خمس.
وفيها غزا المفضل باذغيس [3]
ففتحها وأصاب منها مغنما، فقسمه بين الناس. ثم غزا مواضع أخر فظفر وغنم ولم يكن له بيت مال وإنما كان يقسم ما يغنم.
وفيها أراد عبد الملك خلع أخيه عبد العزيز [4]
فنهاه عن ذلك قبيصة بن ذؤيب، وقال: لا تفعل فإنك تبعث بهذا على نفسك العار [5] ، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه. فكف/ عن ذلك ونفسه تنازعه، ودخل عليه روح بن زنباع، فقال: يا أمير المؤمنين، لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، قال: ترى ذلك يا أبا زرعة؟ قال: إي والله، وأنا أول من يجيبك إلى ذلك، فقال: نصبح إن شاء الله.
فبينا هو على ذلك وقد نام عبد الملك- ونفسه تنازعه- وروح بن زنباع دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب طروقا، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه فقال: لا يحجب عني قبيصة أي ساعة جاء ليلا أو نهارا [6] ، إن كنت خاليا أو عندي أحد، وإن كنت عند النساء أدخل المجلس وأعلمت بمكانه، فدخل وكانت الأخبار تأتي إليه قبل عبد الملك، فدخل عليه فسلم وقال: آجرك الله في أخيك عبد العزيز، قال: وهل
__________
[1] في الأصل: «الفضل» . والتصحيح من الله وكتب التواريخ.
[2] تاريخ الطبري 6/ 393.
[3] تاريخ الطبري 6/ 397.
[4] تاريخ الطبري 6/ 412.
[5] كذا في الأصل، وابن الأثير، وفي الطبري: «على نفسك صوت نعار» ومن ت: «على نفسك ضربا من العار» .
[6] في ت: «من ليل أو نهار» .

(6/261)


توفي؟ قال: نعم، فاسترجع عبد الملك، ثم أقبل على روح، فقال: كفانا الله ما كنا نريد وما اجتمعنا عليه، فقال قبيصة: ما هو؟ فأخبره بما قد كان، فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين، إن الرأي كله في الأناة، والعجلة فيها ما فيها.
وفي رواية [1] : أن عبد الملك لما أراد خلع عبد العزيز ويبايع لابنه الوليد، كتب إلى أخيه: إن رأيت أن تصير هذا الأمر لابن أخيك، فأبى، فكتب إليه: فاجعلها له من بعدك، فكتب إليه: إني أرى في ولدي ما ترى في ولدك، وإني وإياك قد بلغنا أشياء لم يبلغها [2] أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلا، وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولا، فإن رأيت لا تغثث [3] علي بقية عمري فافعل. فرق عبد الملك، وقال: لا أغثث عليه بقية عمره [وقال العمري: لا أعيب عليه بقية عمره] [4] . فلما مات عبد العزيز بن مروان بايع لولديه.
وفي هذه السنة بايع] [5] عبد الملك لولديه الوليد ثم سليمان بعده
وجعلهما وليي عهده، فكتب ببيعتهما إلى البلدان، وكتب إلى هشام بن إسماعيل المخزومي أن يدعو الناس إلى بيعة ابنيه الوليد وسليمان، فبايعوا غير سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبد الملك حي فضربه هشام ستين سوطا، وطاف به في ثياب شعر وسرحه إلى ذباب-[ثنية] [6] بظاهر المدينة [7] كانوا يقتلون عندها ويصلبون- فظن أنهم يريدون قتله، فلما انتهوا به إلى ذلك الموضع ردوه، فقال: لو ظننت أنهم لا يقتلونني ما لبست سراويل مسوح. فبلغ عبد/ الملك، فقال: قبح الله هشاما، إنما كان
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 414.
[2] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «قد بلغنا سنا لم يبلغها» .
[3] أي: «لا تفسد» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من ت.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] «بظاهر المدينة» : ساقط من ت.

(6/262)


ينبغي له أن يدعوه إلى البيعة فإن أبى كف عنه أو يضرب عنقه.
وقد ذكرنا أن ابن المسيب ضرب في بيعة ابن الزبير أيضا لأنه قال: لا أبايع حتى يجتمع الناس، فضربه جابر بن الأسود، وكان عامل ابن الزبير في أيامه على المدينة.
وفي هذه السنة [1] ولي قتيبة بن مسلم خراسان.
وفيها: حج بالناس هشام [2] بن إسماعيل المخزومي، وكان العامل على المشرق والعراق الحجاج.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
501- عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث:
وقد ذكرنا هلاكه في الحوادث.
502- عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، يكنى أبا الأصبغ: [3]
روى عن أبي هريرة، وعقبة بن عامر. وكان مروان قد فتح مصر وولاه عليها، وأقره على ذلك عبد الملك، وعقد مروان العهد لعبد الملك، وبعده عبد العزيز. ثم أراد عبد الملك خلعه ليبايع لابنيه الوليد، وسليمان. فتوفي عبد العزيز بمصر في جمادى الأولى من هذه السنة.
وقيل: بل في جمادى الآخرة [4] من سنة ست وثمانين.
وكان يقول حين حضرته الوفاة: ليتني لم أكن شيئا مذكورا. فلما بلغ الخبر عبد الملك
__________
[1] في الأصل: «وفيها» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة هشام» .
[3] طبقات ابن سعد 5/ 175، والبداية والنهاية 9/ 62، وخزانة البغدادي 3/ 583، وخطط مبارك 10/ 583.
[4] «من هذه السنة. وقيل بل في جمادى الآخرة» : ساقط من ت.

(6/263)


ليلا أصبح يدعو الناس، ويبايع للوليد بالخلافة، ثم لسليمان بعده [1] أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بن محمد بن عثمان البجلي، قَالَ: أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد بن موسى بن إسحاق الأنصاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، قال: حدثنا محمد بن يحيى ابن أبي حاتم، قال: حدثني محمد بن هانئ الطائي، قال: حدثنا محمد بن أبي سعيد، قال: قال عبد العزيز بن مروان:
ما نظر إلي رجل قط فتأملني فاشتد تأمله إياي إلا سألته عن حاجته، ثم أبيت من ورائها، فإذا تعار من وسنه مستطيلا ليله مستبطئا لصبحه مقارفا/ للقائي، ثم غدا إلي أن تجارته في نفسه وغدا التجار إلى تجارتهم إلا رجع من غدوة إلى أربح من تجر.
وعجبا لمؤمن موقن أن الله يرزقه ويوقن أن الله يخلف عليه، كيف يحبس مالا عن عظيم جزاء وحسن سماع.
أَخْبَرَنَا مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، والمبارك بن علي، قالوا: أخبرنا علي بن العلاف، قال: أخبرنا أحمد بن علي الحمامي، قال: أخبرنا عبد الواحد بن عمر بن [أبي هاشم، قال: حدثنا موسى بن عبد الله، قال: حدثنا ابن أبي سعيد الوراق، قال: حدثنا أحمد بن عمر] بن إسماعيل بن عبد العزيز الزهري، قال: حدثني محمد بن الحارث المخزومي، قال:
دخل على عبد العزيز بن مروان رجل يشكو صهرا له، فقال: إن ختني فعل بي كذا وكذا، فقال له عبد العزيز: من ختنك؟ فقال له: ختنني الختان الذي يختن الناس، فقال عبد العزيز لكاتبه: ويحك، ما أجابني، فقال له: أيها الأمير، إنك لحنت وهو لا يعرف اللحن، كان ينبغي أن تقول له: ما ختنك، فقال عبد العزيز: أراني أتكلم بكلام لا يعرفه العرب، لا شاهدت الناس حتى أعرف اللحن. قال: فأقام في البيت جمعة لا يظهر ومعه من يعلمه العربية، قال: فصلى بالناس الجمعة وهو من أفصح الناس. قال:
وكان يعطي على العربية، ويحرم على اللحن حتى قدم عليه زوار من أهل المدينة وأهل مكة من قريش، فجعل يقول للرجل منهم ممن أنت؟ فيقول من بني فلان، فيقول
__________
[1] في الأصل: «ثم لسليمان بعد الوليد» .

(6/264)


للكاتب: أعطه مائتي دينار، حتى جاءه رجل من بني عبد الدار بن قصي فقال: ممن أنت؟ قال: من بنو عبد الدار [1] ، فقال له: خذها في جائزتك، وقال للكاتب: أعطه مائة دينار.
503- واثلة بن الأسقع بن عبد العزيز [2] بن عبد يا ليل بن ناشب، أبو قرصافة: [3]
أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قَالَ: حدثنا محمد بْنُ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ وَاثِلَةُ لَمَّا نَزَلَ [نَاحِيَةَ] الْمَدِينَةِ وَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى مَعَهُ الصُّبْحَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى وَانْصَرَفَ تَصَفَّحَ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ وَاثِلَةَ، قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟
فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُ، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: / علي مَا أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فِيمَا أَطَقْتَ، قَالَ: نَعَمْ. فَأَسْلَمَ وَبَايَعَهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّزُ يَوْمَئِذٍ إِلَى تَبُوكَ، فَخَرَجَ وَاثِلَةُ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَقِيَ أَبَاهُ الأَسْقَعَ، فَلَمَّا رَأَى حَالَهُ قَالَ: قَدْ فَعَلْتَهَا، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَبُوهُ: وَاللَّهِ لا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا، فَأَتَى عَمَّهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلامَهُ أَيْسَرَ مِنْ لائمة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لَكَ أَنْ تَسْبِقَنَا بِأَمْرٍ.
فَسَمِعَتْ أُخْتَ وَاثِلَةَ كَلامَهُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ، فَقَالَ وَاثِلَةُ: أَنَّى لَكِ هَذَا يَا أُخَيَّةُ؟ قَالَتْ: سَمِعْتُ كَلامَكَ وَكَلامَ عَمِّكَ وَأَسْلَمْتُ، فَقَالَ: جَهِزِّي أَخَاكَ جَهَازَ غَازٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ. فَجَهَّزْتُهُ فَلَحِقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَحَمَّلَ إِلَى تَبُوكَ، وَبَقِيَ غَبَرَاتٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُمْ عَلَى الشُّخُوصِ، فَجَعَلَ يُنَادِي بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ:
مَنْ يَحْمِلُنِي وَلَهُ سَهْمِي؟ قَالَ: فَدَعَانِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَنَا أَحْمِلُكَ، عَقَبَةً بِاللَّيْلِ وَعَقَبَةً بِالنَّهَارِ، وَيَدُكَ أُسْوَةٌ بِيَدِي، وَسَهْمُكَ لِي. قَالَ وَاثِلَةُ: فَقُلْتُ: نَعَمْ وَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، لَقَدْ كَانَ يَحْمِلُنِي وَيَزِيدُنِي، وَآكُلُ مَعَهُ وَيَرْفَعُ لِي حَتَّى إِذَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدَرِ بْنِ عَبْد الْمَلِكِ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ خَرَجَ كَعْبٌ فِي جَيْشِ خَالِدٍ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ فَأَصَبْنَا فَيْئًا كَثِيرًا، فَقَسَّمَهُ خَالِدٌ بَيْنَنَا، فَأَصَابَنِي سِتُّ قَلائِصَ، فَأَقْبَلْتُ أَسُوقُهَا حَتَّى جِئْتُ
__________
[1] في الأصل: «بني عبد الدار» وما أوردناه من ت، وهو الصحيح، لأن المقصود أنه أخطأ.
[2] كذا في الأصلين، وفي ابن سعد: «ابن عبد العزى» .
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 129، والتاريخ الكبير 4/ 2/ 187، والجرح والتعديل 9/ 47.

(6/265)


بها خَيْمَةَ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَقُلْتُ: اخْرُجْ رَحِمَكَ اللَّهُ فَانْظُرْ إِلَى قَلائِصِكَ فَاقْبِضْهَا.
فَخَرَجَ وَهُوَ يبتسم وَيَقُولُ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، مَا حَمَلْتُكَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آخُذَ مِنْكَ شَيْئًا.
وَكَانَ وَاثِلَةُ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى الشَّامِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: [1] حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ [2] ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، قَالَ: مَاتَ وَاثِلَةُ بْنُ الأَسْقَعِ بِالشَّامِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً فِي آخِرِ خلافة عبد الملك بن مروان.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 129.
[2] في الأصل: «محمد بن صالح» . خطأ، وما أوردناه من ت وابن سعد.

(6/266)


ثم دخلت سنة ست وثمانين
فمن الحوادث فيها وقوع الطاعون، ويقال طاعون الفتيات، ماتت فيه الجواري، وكان بالشام والبصرة وواسط، والحجاج يومئذ بواسط.
وقيل: إنه كان في سنة سبع وثمانين.
وفيها: مرض عبد الملك. ومات، وبويع لولده الوليد بن عبد الملك بن مروان.

(6/267)


باب ذكر خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان [1]
ويكنى أبا العباس، أمه ولادة العبسية، وكان أسمر طوالا، حسن الوجه، وكان له تسعة عشر ابنا: عبد العزيز، ومحمد أمهما أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، وأبو عبيدة أمه فزارية، والعباس، وإبراهيم وليا الخلافة، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، ومسرور، وصدقة، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمر [2] وهو فحل بني مروان وكان يركب ومعه ستون من صلبه ذكورا، وروح، وبشر [3] ، ويزيد وهو الناقص ولي الخلافة، ويحيى، لأمهات شتى.
وقد ذكرنا [4] أن عبد الملك بايع للوليد قبل موته، وكان أهل الشام يرون للوليد فضلا ويقولون: بنى مسجد دمشق ومسجد المدينة، وأعطى المجذمين، وقال: لا تسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائدا، وكان الوليد يمر بالبقال فيقف عليه فيأخذ حزمة البقل بيده، فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها. وما مات الحجاج حتى ثقل على الوليد، وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ مصانع، وكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع، فولي سليمان، وكان صاحب نكاح وطعام، وكان/ الناس يلتقون فيسأل الرجل الرجل عن التزويج
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 423، والبداية والنهاية 9/ 77، ومروج الذهب 3/ 166.
[2] في الأصل: «عمرو» وما أوردناه من ت والطبري.
[3] في الأصول: «سبره» وما أوردناه من الطبري.
[4] تاريخ الطبري 6/ 496، 497.

(6/268)


والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى ختمت ومتى تختم؟
وكثرت الفتوح في أيام الوليد، وكان مسلمة بن عبد الملك يتغلغل في بلاد الروم، وقتيبة بن مسلم في بلاد العجم والترك، وفتح كاشغر، وافتتح محمد بن القاسم بلاد الهند، وفتح محمد بن نصير أرض الأندلس ووجد بها مائدة سليمان بن داود عليهما السلام المرصعة بالجواهر.
وكان في الوليد نوع ذكاء وفطنة، وسمع صوت ناقوس فأمر بهدم البيعة [1] ، فكتب إليه ملك الروم: إن هذه البيعة أقرها من كان قبلك، فإن كانوا أصابوا فقد أخطأت، وإن تكن أصبت فقد أخطأوا، فقال الوليد: من يجيبه؟ فأحجم الناس، فأمر الوليد أن يكتب إليه فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً 21: 79 [2] .
وكان الوليد لحانة وكان عبد الملك يقول: أضر بالوليد حبنا له فلم نعربه في البادية- وقال لرجل: ما شأنك؟ فقال له: شيخ يانعي، فقال له عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول لك: ما شأنك؟ قال: ختني ظلمني، فقال له الوليد: من ختنك، فنكس الأعرابي رأسه وقال: ما سؤال أمير المؤمنين عن هذا؟ فقال له عمر: إنما أراد أمير المؤمنين من ختنك؟ فقال: هذا، وأشار إلى رجل معه.
وكان الوليد أول من كتب من الخلفاء في الطوامير، وعظم الكتب، وحلل الخط، وقال: لتظهر كتبي على كتب غيري.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا محفوظ بن أحمد الفقيه، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الجازري، قَالَ: أَخْبَرَنَا المعافى بن زكريا، قال: حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد الكلبي، قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك، ومهدي بن سابق [3] ، قالا: حدثنا الهيثم بن عدي، عن صالح بن كيسان [4] ، قال:
__________
[1] البيعة بالكسر: كنيسة النصارى، وقيل: كنيسة اليهود.
[2] سورة: الأنبياء، الآية: 79.
[3] في الأصل: «ومهدي بن طارق» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «حسان» . وما أوردناه من ت.

(6/269)


كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب صديقا للوليد يأتيه ويؤانسه، فجلسا يوما يلعبان بالشطرنج إذ أتاه الإذن، فقال: أصلح الله الأمير/ رجل من أخوالك من أشراف ثقيف قدم غازيا وأحب السلام عليك، فقال: دعه، فقال عبد الله:
وما عليك ائذن له، فقال: نحن على لعبنا وقد انحجبت، قال: فادع بمنديل وضعه عليها ويسلم الرجل ونعود، ففعل ثم قال: ائذن له، فدخل وله هيئة، بين عينيه أثر السجود، وهو معتم قد رجل لحيته، فسلم وقال: أصلح الله الأمير، قدمت غازيا فكرهت أن أجوزك حتى أقضي حقك، قال: حياك الله وبارك عليك. ثم سكت عنه، فلما أنس أقبل عليه الوليد فقال: يا خال هل جمعت القرآن؟ قال: لا كانت تشغلنا عنه شواغل، قال:
هل حفظت من سنة رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ ومغازيه أو أحاديثه شيئا؟ قال: كانت تشغلنا عن ذلك أموالنا [1] ، قال: فأحاديث العرب وأيامها وأشعارها؟ قال: لا، قال: فأحاديث أهل الحجاز ومضاحكها؟ قال: لا، قال: فأحاديث العجم وآدابها؟ قال: ذلك شيء ما كنت أطلبه. فرفع الوليد المنديل، وقال: شاهك، قال عبد الله بن معاوية: سبحان الله، قال: لا والله ما معنا في البيت أحد. فلما رأى ذلك الرجل منهما خرج وأقبلوا على لعبهم.
ولما دفن [2] عبد الملك دخل الوليد المسجد فصعد المنبر، فخطب فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، الله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين، والحمد للَّه على ما أنعم به علينا من الخلافة قوموا فبايعوا.
فكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السكوني وهو يقول:
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد المشركون [3] عوقها
عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها
ثم تتابع الناس على البيعة.
__________
[1] في ت: «عن ذلك شواغل» .
[2] تاريخ الطبري 6/ 423.
[3] في الطبري: «الملحدون» .

(6/270)


وفي هذه السنة قدم قتيبة بن مسلم خراسان واليا عليها من قبل الحجاج [1]
قدم والمفضل يعرض الجند، وهو يريد أن يغزو/ فخطب قتيبة وحثهم على الجهاد، ثم عرض الجند وسار واستخلف بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان بن السعدي، فعبر النهر وتلقته الملوك بهدايا، وافتدوا منه بلادهم فرضي ورجع إلى مرو.
وقد زعم بعضهم أن قدوم قتيبة خراسان كان في سنة خمس وثمانين، وكان فيما سبى امرأة برمك، أبي خالد بن برمك.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم
روى أبو بكر بن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي معمر، عن رجل من أهل الكوفة، قال: كنا مع مسلمة بن عبد الملك ببلاد الروم، فسبى سبيا كثيرا وأقام ببعض المنازل، فعرض السبي على السيف، فقتل خلقا كثيرا حتى عرض عليه شيخ ضعيف، فأمر بقتله، فقال: ما حاجتك إلى قتل شيخ مثلي، إن تركتني جئتك بأسيرين من المسلمين شابين، قال: ومن لي بذلك؟ قال: إني إذا وعدت وفيت، قال: لست أثق بك، قال:
فدعني أطوف في العسكر [2] لعلي أعرف من يكلفني إلى أن أمضي وأجيء بالأسيرين.
فوكل به من أمره بالطواف معه في عسكره والاحتفاظ به، فما زال الشيخ يتصفح الوجوه حتى مر بفتى من بني كلاب قائما يحس فرسا له، فقال: يا فتى اضمني للأمير، وقص عليه قصته.
قال: فجاء الفتى معه إلى مسلمة فضمنه، فأطلقه مسلمة، فلما مضى قال:
أتعرفه؟ قال: لا والله، قال: فلم ضمنته؟ قال: رأيته يتصفح الوجوه فاختارني من بينهم فكرهت أن أخلف ظنه. [3]
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 424.
[2] في ت: «عسكرك» .
[3] في ت: «يكفل بي» .

(6/271)


فلما كان من الغد عاد الشيخ ومعه أسيران من المسلمين شابان، فدفعهما إلى مسلمة وقال: أسأل الأمير أن يأذن لهذا الفتى أن يصير معي إلى حصني لأكافئه على فعله بي، قال مسلمة للفتى: إن شئت فامض معه، فمضى فلما صار إلى حصنه، قال: يا فتى، تعلم أنك ابني؟ قال: وكيف أكون ابنك وأنا رجل من العرب مسلم وأنت رجل نصراني/ من الروم [1] ؟ قال: أخبرني عن أمك ما هي؟ قال: رومية، قال: فإني أصفها لك، فباللَّه إن صدقت إلا صدقتني، قال: أفعل. وأقبل الرومي يصف أن الفتى لا يحترم منها شيئا، قال: هي كذلك، فكيف عرفت إني ابنها؟ قال: بالشبه، وتعارف الأرواح، وصدق الفراسة، ووجود شبهي فيك. ثم أخرج إليه امرأة، فلما رآها الفتى لم يشك أنها أمه لشدة شبهها بها، وخرجت معها عجوز كأنها هي، فأقبلا يقبلان رأس الفتى، فقال له الشيخ: هذه جدتك وهذه خالتك. ثم اطلع من حصنه فدعا بشباب في الصحراء فأقبلوا فكلمهم بالرومية، فجعلوا يقبلون رأس الفتى ويديه ورجليه، فقال: هؤلاء أخوالك وبنو خالاتك، وبنو عم والدتك. ثم أخرج إليه حليا كثيرة، وثيابا فاخرة، وقال: هذه لوالدتك عندنا منذ سبيت، فخذه معك وادفعه إليها فإنها ستعرفه، ثم أعطاه لنفسه مالا كثيرا وثيابا جليلة، وحمله على عدة دواب وبغال وألحقه بعسكر مسلمة وانصرف.
وأقبل الفتى قافلا حتى دخل منزله، وأقبل يخرج الشيء بعد الشيء مما عرفه الشيخ أنه لأمه، فتراه فتبكي، فيقول لها: قد وهبته لك، فلما كثر هذا عليها، قالت: يا بني، أسألك باللَّه، أي بلدة دخلت حتى صارت إليك هذه الثياب؟ وهل قتلتم أهل الحصن الذي كان فيه هذا؟ فقال لها الفتى صفة الحصن كذا، وصفة البلد كذا، ورأيت فيه قوما من حالهم كذا، فوصف لها أمها وأختها، وهي تبكي وتقلق، فقال: ما يبكيك؟
فقالت: الشيخ والله أبيك، والعجوز أمي، وتلك أختي، فقص عليها الخبر وأخرج بقية ما كان أنفذه معه أبوه إليها فدفعه إليها.
وفي هذه السنة حج بالناس هشام بن إسماعيل، [وكان الأمير على العراق والمشرق كله الحجاج،
__________
[1] في ت: «رجل من الروم نصراني» .

(6/272)


وعلى الصلاة بالكوفة المغيرة بن عبد الله، وعلى البصرة أيوب بن الحكم، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم] [1] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
504- عبد/ الملك بن مروان [2] :
مرض فجعل في مرضه يذم الدنيا ويقول: إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لقليل، وأنا منك لفي غرور.
ونظر إلى غسال يلوي ثوبا بيده، فقال: لوددت أني كنت غسالا آكل من كسب يدي ولم آل شيئا من هذا الأمر، فبلغ ذلك أبا حازم، فقال: الحمد للَّه الذي جعلهم إذا احتضروا يتمنون ما نحن فيه، وإذا احتضرنا لم نتمن ما هم فيه.
ودخل عليه الوليد فتمثل عبد الملك يقول:
كم عائد رجلا وليس يعوده ... إلا ليعلم [3] هل يراه يموت
وتمثل أيضا يقول:
ومستخبر [4] عنا يريد بنا الردى ... ومستخبرات [5] والعيون سواجم
فجلس الوليد يبكي، فقال: ما هذا؟ أتحن حنين الحمامة والأمة إذا مت فشمر واتزر، والبس جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه.
__________
[1] في الأصل: «وكان على الأمصار من كان في السنة التي قبلها» . وما أوردناه من ت، وهو يوافق ما في تاريخ الطبري 6/ 426.
[2] تاريخ الطبري 6/ 418، واليعقوبي 3/ 14، وميزان الاعتدال 2/ 153، وتاريخ الخميس 2/ 308، 311، ومروج الذهب 3/ 99، وتاريخ بغداد 10/ 388، وفوات الوفيات 2/ 14، والبداية والنهاية 9/ 73.
[3] في مروج الذهب: «إلا ليعلم» .
[4] في المروج: «ومشتغل» .
[5] في المروج: «ومستعبرات» .

(6/273)


وفي رواية أن الأطباء منعوه أن يشرب الماء ريا، فكان يشرب قليلا قليلا، فاشتد عطشه فشرب ريا فمات.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، وابن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا القاضي أبو عبد الله الْحُسَيْن بن محمد النصيبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد بْن سويد، قال: حدثنا أبو بكر ابن الأنباري، قَالَ:
حَدَّثَني أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْد، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المدائني، قال:
لما اشتد مرض عبد الملك بن مروان، أيقن بفراق الدنيا والإفضاء إلى الآخرة، دعى أبا علاقة مولاه فقال له: يا أبا علاقة، والله لوددت أني كنت منذ يوم ولدت إلى يومي هذا حمالا. ولم يكن لي من البنات إلا واحدة، يقال لها فاطمة، وكان قد أعطاها/ قرطي مارية والدرة اليتيمة- فقال: اللَّهمّ إني لم أخلف شيئا أهم إلي منها فاحفظها. فتزوجها عمر بن عبد العزيز. وكان عند عبد الملك بنوه: الوليد، وسليمان، ومسلمة، وهشام ويزيد، فقال لآذنه: اخرج فانظر من الباب ثم أعلمني، فخرج فنظر ثم أتاه، فقال: بالباب خالد بن يزيد بن معاوية، وخالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العاص، فقال: ائتني بسيفي، فأتاه به، فقال: جرده، فجرده، ثم قال: ضعه تحت ثني فراشي، ففعل ثم قال: ائذن لهما، فلما دخلا قال: أتعرفاني؟ قالا: سبحان الله يا أمير المؤمنين، أنت أمير المؤمنين وسيد الناس وولي أمرهم، قال: لا إلا باسمي واسم أبي، قالا: أنت عبد الملك بن مروان، قال: فمن هذا، وأشار إلى الوليد، وكان خلفه قد تساند إليه، قالا: هذا سيد الناس بعدك، وولي أمرهم، قال: لا إلا باسمه واسم أبيه، قالا: هذا الوليد بن عبد الملك، قال: أتدريان لماذا أذنت لكما؟ قالا: لترينا أثر نعمة الله عندك وما قد صرت إليه من التماثل والآفاقة، قال: لا ولكنه قد نزل بي من الأمر ما قد تريان، فهل في أنفسكما من بيعة الوليد شيء؟ قالا: لا ما نرى أن أحدا هو أحق بها منه بعدك، قال: أولى لكما، أما والله لو غير ذلك قلتما لضربت الّذي فيه عيناكما- ثم رفع فراشه فإذا بالسيف مجرد قد هيأه لهما، فخرجا عند ذلك.
ثم أقبل على بنيه فقال: يا بني أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلة، وأحصن كهف، وأخرز جنة. وأن يعطف الكبير منكم على الصغير، وأن يعرف الصغير منكم حق

(6/274)


الكبير. وإياكم والفرقة والاختلاف، فإن بها هلك الأولون، وذل به ذو العز، أنظروا مسلمة وأصدروا عن رأيه، فإنه مجنكم الذي به تستجنون، ونابكم الذي عنه تفترون، وكونوا بني آدم برره، ولا تدنوا العقارب منكم، وكونوا في الحرب أحرارا، وللمعروف منارا، فإن الحرب لن تدني منية قبل وقتها، وإن المعروف يبقى آخره وذكره، واحلولوا/ في مرارة ولينوا في شدة، وضعوا الصنائع عند ذوي الأحساب والأخطار فإنهم أصون لأحسابهم، وأشكر لما يؤتى إليهم، وإياكم أن تخالفوا وصيتي، وكونوا كما قال ابن عبد الأعلى الشيبانيّ:
إني أؤمل يا بني حرب الذرى ... أن تخلدوا وجدودكم لم تخلد
فاتقوا الضغائن والتخاذل عنكم ... عند المغيب وفي الحضور الشهد
بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مد في عمري، وإن لم يمدد
وتكون أيديكم معا في عونكم ... ليس اليدان لذي التعاون كاليد
إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش أيد
عزت فلم تكسر إن هي بددت ... فالكسر والتوهين للمتبدد
ثم أقبل على الوليد فقال: يا وليد، اتق الله فيما أخلفك فيه، واحفظ وصيتي، وخذ بأمري، وانظر أخي معاوية، فإنه ابن أمي، وقد ابتلي في عقله بما قد علمت، ولولا ذلك لآثرته بالخلافة عليك، فصل رحمه واعرف حقه، واحفظني فيه. وانظر أخي محمد بن مروان فأقرره على عمله بالجزيرة ولا تعزله عنه، وانظر أخاك عبد الله بن عبد الملك، ولا تؤاخذه بشيء كان في نفسك عليه، واقرره على عمله بمصر. وانظر ابن عمنا هذا علي بن عبد الله بن عباس فإنه قد انقطع إلينا بمودته وهواه ونصيحته، وله نسب وحق، فصل رحمه، واعرف حقه، وأحسن صحبته وجواره. وانظر الحجاج بن يوسف فأكرمه فإنه هو الذي وطئ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك على من ناوأك، فلا تسمعن فيه قول أحد، واجعله الشعار دون الدثار، وإن كان في نفسك عليه إحنة [1] فلا تؤاخذه بها، فإن الإحنة ليست من الخلافة في شيء، وأنت إليه أحوج منه إليك، وإلا ألفينك إذا أنا مت تعصر عينيك، وتحن/ كما تحن الأمة، شمر وائتزر
__________
[1] الإحنة: الحقد في الصدر.

(6/275)


وألبس جلد النمر، وضعني في حفرتي، وخلني وشأني، وعليك بشأنك، وخذ سيفي هذا، فإنه السيف الّذي قتلت به عمرو بن سعيد، وادع الناس إلى البيعة، فمن قال بسيفه هكذا فقل بسيفك هكذا، ثم تمثل بقول عيسى بن زيد حيث يقول:
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس [1] عار
فلم يزل يردد هذا البيت حتى طفئ، فقام هشام بعد موته وكان أصغر الأربعة من ولده يقول:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
فلطمه الوليد وقال: اسكت يا ابن الأشجعية فإنك أحول أكشف تنطق بلسان شيطانك، ألا قلت كما قال أخو بني أسد بن حجر حيث يقول:
إذا مقرم منا ذرا حد نابه ... تخمط [2] فينا ناب آخر مقرم
قال: فقال مسلمة: فيم الصياح إنكم إن صلحتم صلح الناس بكم، وإن فسدتم فالناس إلى الفساد أسرع، ثم قال: أوه، وأنشد:
لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى ... على يومه علق إلي حبيب
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلي لقد عادت لهن ذنوب
أتى دون حلو العيش حتى أمره ... كروب على آثارهن كروب
فقال سليمان: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، مات والله أمير المؤمنين، فأصبح بمنزلة هو فيها والذليل سواء. وسمع الناس الداعية، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى أخرجت الجنازة، وخرج الوليد في أثرها وهو محرم، فنظر إلى سعيد بن عمرو بن سعيد يحمل السرير، فقال: أشماتة يا ابن اللخناء، ثم قصده بالقضيب، فحاصره فحذفه. فلما دفن عبد الملك صعد الوليد الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: يا لها من مصيبة/ ما أعظمها وأفجعها وأخصها وأعمها وفاة أمير المؤمنين، ويا لها نعمة ما أجلها وأوجب
__________
[1] في البداية: «بالموت للباقين» .
[2] في الأصل: «تحظم» ، والتصحيح من اللسان مادة «قرم» .

(6/276)


الشكر للَّه عليها خلافة سربلنيها، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون على الرزية [1] ، والحمد للَّه على العطية.
ثم قام رجل من ثقيف والناس لا يدرون أيبتدئونه بالتعزية أم بالتهنئة، فقال: أصبحت يا أمير رزيت خير الآباء، وسميت بخير الأسماء، وأعطيت خير الأشياء، فعزم الله لك الصبر، وأعطاك في ذلك نوافل الأجر، وأعانك في حسن ثوابه على الشكر، قال: ممن أنت؟ قال: من ثقيف، قال: في كم أنت من العطاء؟ قال: في مائة، فزاده وجعله في أشرف العطاء، فكان أول من قضى له الوليد حاجة ذلك الثقفي، ثم تسايل الناس عليه بالتعزية والتهنئة.
وقد روينا أن عبد الملك كان يقول: أخاف الموت في شهر رمضان لأنني ولدت فيه، وفطمت فيه، وأعذرت فيه، واحتملت فيه، وختمت القرآن فيه، وأتتني الخلافة فيه، فكان موته في نصف شوّال من هذه السنة حين ظن أنه آمن من الموت، وصلى عليه الوليد، ودفن بالجابية وهو ابن إحدى وستين سنة.
وقيل: أربع وستين، وقيل: سبع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين.
واستقامت له الخلافة منذ أجمع عليه بعد قتل ابن الزبير إلى وقت وفاته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر، وعلى حساب بيعته بعد موت أبيه إحدى وعشرين سنة وستة عشر يوما. وقيل اثنتين وعشرين سنة ونصفا.
__________
[1] كذا في الأصل، وفي ت: «الهدية» .

(6/277)


ثم دخلت سنة سبع وثمانين
فمن الحوادث فيها أن الوليد بن عبد الملك عزل هشام بن إسماعيل عن المدينة [1]
فورد عزله عنها في ليلة الأحد لسبع ليال خلون من شهر ربيع الأول، وكانت إمارته عليها أربع سنين غير شهر أو نحوه.
وفيها ولي عمر بن عبد العزيز/ المدينة.
فقدم واليا في ربيع الأول وهو ابن خمس وعشرين سنة، فقدم على ثلاثين بعيرا، فنزل دار مروان، فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة [2] ، وسليمان بن يسار، والقاسم بْن مُحَمَّد، وسالم بْن عَبْد اللَّه بن عمر، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة [3] ، وخارجة بن زيد، فدخلوا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا استعدى [4] أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرج على من بلغه ذلك إلا بلغني، فجزوه خيرا وانصرفوا.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 427.
[2] كذا في الأصول: وفي إحدى نسخ الطبري المخطوط. وفي المطبوع من الطبري: «ابن أبي حثمة» .
[3] في الأصل: «أبي عارم» . وما أوردناه من ت.
[4] كذا في الأصول، وفي الطبري: «يتعدى» .

(6/278)


وفيها [1] : كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان سيئ الرأي فيه، فقال سعيد بن المسيب لولده ومواليه: إن هذا الرجل وقف للناس فلا يتعرض له أحد ولا يؤذه بكلمة، فإنا سنترك ذلك للَّه وللرحم، فأما كلامه فلا أكلمه، أبدا، فوقف عند دار مروان، وكان قد لقي منه علي بن الحسين أذى كثيرا، فتقدم إلى خاصته ألا يعرض له أحد [بكلمة] ، فمر عليه علي فناداه هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
وفيها: غزا مسلمة أرض الروم في عدد كثير، فقتل منهم خلقا كثيرا، وفتح الله على يديه حصونا.
وقيل: إن الذي غزا الروم في هذه السنة هشام بن عبد الملك، وساق الذراري والنساء.
وفيها غزا قتيبة بن مسلم بيكند
وعبر النهر فاستنصروا عليه الصغد، وأخذوا بالطرق، فلم ينفذ له رسول، ولم يصل إليه رسول شهرين، وأبطأ خبره على الحجاج، فأمر/ الناس بالدعاء في المساجد، ونهض قتيبة يقاتل العدو فهزموا عدوهم، وركبهم المسلمون قتلا وأسرا، وأراد هدم مدينتهم، فصالحوه واستعمل عليهم رجلا ثم سار عنهم مرحلة أو مرحلتين، فنقضوا وقتلوا العامل [فبلغه الخبر] [2] فرجع وقاتلهم شهرا، فطلبوا الصلح، فأبى وظفر بهم عنوة فقتل مقاتلتهم وأصاب في المدينة من الأموال وأواني الذهب والفضة ما لا يحصى، ورجع قتيبة إلى مرو، وقوي المسلمون واشتروا السلاح.
وفي هذه السنة حج بالناس عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة، وكان على قضاء المدينة أبو بكر بن عمرو، وكان العراق والمشرق كله للحجاج، وكان خليفته على البصرة الجراح بن عبد الله، وعلى قضائها عبد الله بن أذينة، وعامله على الحرب بالكوفة
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 428.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/279)


زياد بن جرير بن عبد الله، وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى الأشعري، وعلى خراسان قتيبة.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ الأصمعي، قال: كان أعرابيان متواخيين بالبادية غير أن أحدهما استوطن الريف والآخر اختلف إلى باب الحجاج بن يوسف فاستعمل على أصفهان، فسمع أخوه الذي بالبادية فضرب إليه فأقام ببابه حينا لا يصل إليه، ثم أذن له بالدخول وأخذه الحاجب فمشى به وهو يقول: سلام على الأمير، فلم يلتفت إلى قوله، وأنشأ يقول:
فلست مسلما ما دمت حيا ... على زيد بتسليم الأمير
فقال زيد: لا أبالي، فقال الأعرابي:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة ... وإذ نعلاك من جلد البعير
فقال: نعم. فقال الأعرابي:
فسبحان الذي أعطاك ملكا ... وعلمك الجلوس على السرير
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
505- قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي الكعبي كناه البخاري أبا سعيد، وكناه ابن سعد أبا إسحاق [1] :
ولد فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وسمع من أبي الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة. وكان [أعلم] [2] الناس بقضاء زيد بن ثابت.
روى عنه الزهري، وكان ثقة سكن الشام وبها توفي.
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 131، 7/ 2/ 157، والبداية والنهاية 9/ 81، والجرح والتعديل 7/ 125، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 174.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/280)


506- مطرف بن عبد الله بن الشخير، أبو عبد الله [1] :
روى عن عثمان، وعلي، وأبي، وأبي ذر. وكان ثقة ذا فضل وورع وعقل وافر.
وكان أكبر من الحسن البصري بعشرين سنة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد بإسناد له، عن مهدي بن ميمون، قال: حدثنا غيلان، قال [2] : كان مطرف يلبس البرانس، ويلبس المطارف، ويركب الخيل ويغشى السلطان، غير أنك [3] كنت إذا أفضيت إليه أفضيت إلى قرة عين.
حدثنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: حدثنا الحسن بن علي، قال: حدثنا جعفر بن أحمد بن حمدان، قَالَ: حَدَّثَنَا [عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
حدثني أبي، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، قال [4] :
كان مطرف بن عبد الله إذا دخل بيته سبحت معه آنية بيته.
قال أحمد بن حنبل: وحدثنا بهز بن أسد، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال:
حدثنا] [5] ثابت، قال:
مات عبد الله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد أدهن فغضبوا وقالوا: يموت عبد الله ثم تخرج في ثياب مثل هذه ومدهنا؟ قال: أفأستكين لها وقد وعدني ربي [تبارك وتعالى] [6] ثلاث خصال كل خصلة منها أحب إلي من الدنيا وما فيها [7] ، قال الله تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ من رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 2: 156- 157 [8] أفأستكين بعد هذا قال:
فهانت.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 103، حلية الأولياء 2/ 198، ورغبة الآمل 3/ 68، ومرآة الجنان وفيات سنة 95، وتهذيب التهذيب 10/ 173، ووفيات الأعيان 2/ 97، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 396.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 105.
[3] في ابن سعد: «ولكنك» .
[4] الخبر في حلية الأولياء 2/ 205.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] في ت: «من الدنيا كلها» .
[8] سورة: البقرة، الآية: 156.

(6/281)


وقال مطرف: ما شيء أعطى به في الآخرة قدر كوز من ماء لا وددت أنه أخذ مني في الدنيا.
[وروي] [1] عن ثابت البناني ورجل آخر قد سماه: أنهما دخلا على مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو مغمى عليه، قال: فسطعت منه ثلاثة أنوار: نور من رأسه، ونور من وسطه، ونور من رجليه. قال: فهالنا ذلك، فأفاق فقلنا: كيف تجدك يا أبا عبد الله، قال: صالح قلنا: لقد رأينا شيئا هالنا، قال: وما/ هو؟ قلنا: أنوار سطعت منك، قال:
وقد رأيتم ذلك؟ [قلنا: نعم، قال] [2] تلك ألم تنزيل السجدة وهي تسع وعشرون آية، سطع أولها من رأسي، وأوسطها من وسطي، وآخرها من قدمي، وقد صعدت لتشفع لي، وهذه تبارك تحرسني.
507- نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة، أبو سعد القرشي [3] :
يروي عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، قال: أخبرنا الْمُخَلِّصُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنُ داود، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني مصعب بن عبد الله، قال:
كان نوفل بن مساحق من أشراف قريش، وكانت له ناجية من الوليد بن عبد الملك، وكان الوليد يعجبه الحمام ويتخذه له ويطير له، فأدخل نوفل عليه وهو عند الحمام، فقال له الوليد: إني خصصتك بهذا المدخل لأنسي بك، فقال: يا أمير المؤمنين، والله إنك ما خصصتني ولكن خسستني، إنما هذه عورة، وليس مثلي يدخل على مثل هذا. فسيره [إلى] المدينة وغضب عليه. وكان يلي المساعي، فأخذه بعض الأمراء في الحساب. فقال: أين الغنم؟ قال: أكلناها بالخبز، قال: فأين الإبل؟ قال:
حملنا عليها الرحال. وكان لا يرفع للأمراء من المساعي شيئا يقسمها ويطعمها، وكان ابنه من بعده سعد بن نوفل يسعى على الصدقات.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 179، والإصابة 8911، وتهذيب التهذيب 10/ 491، وسمط اللآلي 3/ 47، والجرح والتعديل 8/ 488، والتاريخ الكبير 4/ 2/ 108.

(6/282)


ثم دخلت سنة ثمان وثمانين
فمن الحوادث فيها أن مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد فتحا حصنا من حصون الروم يدعى طوانة [1]
في جمادى الآخرة، وهزموا العدو هزيمة بلغوا فيها إلى كنيستهم، ثم رجعوا فانهزم الناس حتى ظنوا أنهم لا يجتبرونها أبدا [2] ، وبقي العباس معه نفير، منهم ابن محيريز الجمحي، فقال العباس لابن محيريز: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟
فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك، فنادى العباس: يا أهل القرآن، فأقبلوا جميعا، فهزم الله العدو حتى دخلوا طوانة، وشتوا بها.
وفيها أمر الوليد عبد الملك بهدم مسجد رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وهدم بيوت أزواج رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وإدخالها في المسجد [3] .
فقدم الرسول إلى عمر بن عبد العزيز في ربيع الأول. وقيل: في صفر- سنة ثمان وثمانين بكتاب الوليد يأمره بإدخال حجر أزواج رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ في مسجد رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وأن يشتري ما في مؤخره ونواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع، ويقول له: قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، فإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فمر أهل المصر [4] فليقوموه قيمة عدل، ثم اهدم عليهم وادفع لهم الأثمان، فإن لك في ذلك سلف صدق، عمر وعثمان.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 434.
[2] «أبدا» : سقطت من ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 436.
[4] في الأصل: «أهل البصرة» . وما أوردناه، من ت.

(6/283)


فأقرأهم كتاب الوليد وهم عنده، فأجاب القوم إلى الثمن، فأعطاهم إياه، وبدأ بهدم بيوت أزواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يمكث إلا يسيرا حتى قدم الفعلة، بعث بهم الوليد.
وبعث الوليد إلى صاحب الروم يعلمه أنه أمر بهدم مسجد رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وأن يعينه فيه، [فبعث إليه] [1] بمائة ألف مثقال من ذهب، وبمائة عامل، وبأربعين حملا من الفسيفساء، فبعث به إلى عمر، وتجرد عمر لذلك، واستعمل صالح بن كيسان على ذلك.
أَنْبَأَنَا أبو بكر بن أبي طاهر، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا [أَبُو] عمر [2] بْن حيويه، قَالَ: أخبرنا أحمد بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن يَزِيدَ الْهُذَلِيُّ، قَالَ: رَأَيْتُ مَنَازِلَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَدَمَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي خِلافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَزَادَهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَتِ بُيُوتًا/ بِاللَّبِنِ، وَلَهَا حُجَرٌ مِنْ جَرِيدٍ مَطْرُودٍ بِالطِّينِ، عَدَدْتُ تِسْعَةَ أَبْيَاتٍ بِحُجَرِهَا وَهِيَ مَا بَيْنَ بَيْتِ عَائِشَةَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِي بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ إِلَى مَنْزِلِ أَسْمَاءَ بِنْتِ حَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَرَأَيْتُ بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ وَحُجْرَتُهَا مِنْ لَبِنٍ، فَسَأَلْتُ ابْنَ ابْنِهَا، فَقَالَ: لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ بَنَتْ أُمُّ سَلَمَةَ حُجْرَتَهَا بِلَبِنٍ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى اللَّبِنِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَوَّلَ نِسَائِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الْبِنَاءُ؟ قَالَتْ: أَرَدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أَكُفَّ أَبْصَارَ النَّاسِ، فَقَالَ: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّ شَرَّ مَا ذَهَبَ فِيهِ مَالُ الْمُسْلِمِ الْبُنْيَانُ» . قال محمد بن عمر: حدثني معاذ بن محمد الأنصاري، قال: سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس، يقول وهو فيما بين القبر والمنبر:
أدركت حجر أزواج رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ من جرائد النخل، على أبوابها المسوح من
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/284)


شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد [بن عبد الملك] [1] يقرأ، يأمر بإدخال حجر أزواج النبي صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ [2] في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، فما رأيت يوما باكيا أكثر بكاء من ذلك اليوم.
قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ: والله لوددت أنهم تركوها على حالها فينشأ ناشئ من أهل المدينة، ويقدم القادم من الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس من التكاثر والتفاخر فيها.
قال معاذ: فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه، قال عمر بن أنس: كان بينها أربعة أبيات بلبن، لها حجر من جرائد، وكانت خمسة أبيات من جرائد مطينة لا حجر لها، على أبوابها المسوح من الشعر ذرعت الستر [منها] فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع، فأما ما ذكرت من كثرة البكاء فلقد رأيت في مجلس فيه نفر من أبناء أصحاب رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ/ منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، وخارجة بن زيد بن ثابت، وانهم ليبكون حتى أخضل لحاهم الدمع.
وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تركت فلم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء، ويرون ما رضي الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ ومفاتيح خزائن [3] الدنيا بيده.
وفي هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بحفر الآبار بالمدينة.
وبعمل الفوارة التي عند دار يزيد بن عبد الملك، فعملها وأجرى ماءها، فلما حج الوليد وقف فنظر إليها فأعجبته، وأمر أن يسقى أهل المسجد منها.
وفي هذه السنة بنى الوليد مسجد دمشق فانفق عليه مالا عظيما.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله بن أحمد السمرقندي، قال: أخبرنا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «بإدخال حجر أزواج رسول الله صَلى اللهُ عليه وسلم» .
[3] في الأصل: وما افتتح خزائن الدنيا» . وما أوردناه من الأصل.

(6/285)


عبد العزيز بن أحمد الكناني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الحسين الدوري، [قال: حدثنا أبو عمر محمد بن موسى بن فضالة، قال: حدثنا أبو قصي سعيد بن محمد بن إسحاق العدوي، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن [1]] ، قال: حدثنا الوليد بن مسلم. عن عمرو بن مهاجر، وكان على بيت مال الوليد بن عبد الملك، أنهم حسبوا ما انفق على الكرمة التي في قبلة مسجد دمشق فكانت سبعين ألف دينار.
قال أبو قصي: وحسبوا ما أنفق على مسجد دمشق، وكان أربعمائة صندوق، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار.
قال أبو قصي: وأتاه حرسته فقالوا: يا أمير المؤمنين، ان أهل دمشق يتحدثون إن الوليد أنفق الأموال في غير حقها، فنادى: الصلاة جامعة، وخطب الناس فقال: إنه بلغني حرستي أنكم تقولون إن الوليد أنفق الأموال في غير حقها، ألا يا عمر بن مهاجر قم فأحضر ما قبلك من الأموال من بيت المال، قال: فأتيت البغال تحمل المال، وتصب في القبلة على الأنطاع حتى لم يبصر من في الشام من في القبلة، ولا من في القبلة من في الشام، وأتت الموازين- يعني القبابين فوزنت الأموال، وقال لصاحب الديوان:
أحضر من قبلك ممن يأخذ/ رزقنا، فوجدوا ثلاثمائة ألف ألف في جميع الأمصار، وحسبوا ما يصيبهم فوجد عنده رزق ثلاث سنين، ففرح الناس وكبروا وحمدوا الله عز وجل، وقال: إلى ما تذهب هذه الثلاث سنين قد أتانا الله بمثله ومثله، ألا وأني إنما رأيتكم يا أهل الشام تفخرون على الناس بأربع خصال فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس، تفخرون على الناس بمائكم، وهوائكم، وفاكهتكم، وحماماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس، فاحمدوا الله تعالى فانصرفوا وهم شاكرين [داعين] [2] .
وقد حكى محمد بن عبد الملك الهمداني، أن الجاحظ حكى عن بعض السلف أنه قال: ما يجوز أن يكون أحد أشد شوقا إلى الجنة من أهل دمشق لما يرون من حسن مسجدهم.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/286)


قال: ودخله المأمون ومعه المعتصم ويحيى بن أكثم، فقال المأمون: أي شيء يعجبكم من هذا المسجد؟ فقال المعتصم: ذهبه فإنا نصنعه [1] فلا تمضى عشرون سنة حتى يتحول [2] ، وهذا بحاله كأن الصانع قد فرغ منه الآن، فقال: ما أعجبني هذا، فقال يحيى بن أكثم: الذي أعجبك يا أمير المؤمنين تأليف رخامه [3] فإن فيه عقودا ما يرى مثلها، قال: كلا، بل أعجبني أنه شيء على غير مثال شوهد.
قال: وأمر الوليد أن يسقف بالرصاص، فطلب من كل البلاد، وبقيت قطعة لم يوجد لها رصاص إلا عند امرأة، فأبت أن تبيعه إلا بوزنه ذهبا، فقال: اشتروه منها ولو بوزنه مرتين، ففعلوا ووزنوا مثله، فلما قبضته قالت: إني ظننت من صاحبكم أنه يظلم الناس في بنائه فلما رأيت إنصافه رددت الثمن. فلما بلغ ذلك الوليد أمر أن يكتب على صفائح المرأة للَّه، ولم يدخله فيما عمله، وفيما كتب عليه اسمه.
قال محمد بن عبد الملك: وقد قيل إنه أنفق عليه خراج الدنيا ثلاث مرات، وأنه بلغ ثمن البقل الذي أكله الصناع/ فيه ستة آلاف دينار، وكان فيه ستمائة سلسلة ذهب، فلم يقدر أحد أن يصلي فيه لعظم شعاعها فدخِّنت.
وعمل هذا الجامع في تسع سنين.
قال: وقال موسى بن حماد البربري: رأيت في مسجد دمشق كتابا بالذهب في الزجاج محفورا عليه سورة ألهاكم التكاثر إلى آخرها، ورأيت جوهرة حمراء ملصقة في قاف المقابر، فسألت عن ذلك، فقيل لي: كان للوليد ابنة ولها هذه الجوهرة، وكانت ابنة نفيسة فماتت، فأمرت أمها أن تدفن هذه الجوهرة معها في قبرها، فأمر الوليد بها فصيرت في قاف المقابر من ألهاكم التكاثر، ثم حلف لأمها أنه قد أودعها في المقابر فسكتت.
وفي هذه السنة حبس الوليد المجذمين أن يخرجوا على الناس، وأجرى عليهم أرزاقا.
__________
[1] في الأصل: «نهيئه» وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «سنة إلا حتى يتحول» وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «زخارفه» وما أوردناه من ت.

(6/287)


وفيها: غزا مسلمة الروم ففتح على يديه حصونا، وقتل من المستعربة نحو من ألف مع سبي الذرية وأخذ الأموال.
وفيها: حج بالناس عمر بن عبد العزيز، فأحرم من ذي الحليفة، وساق بدنا، فلما كان بالتنعيم لقيه نفر من قريش فأخبروه أن مكة قليلة الماء، وأنهم يخافون على الحاج العطش، فقال عمر: تعالوا ندعو الله تعالى فدعا ودعوا، فما وصلوا إلى البيت إلا مع المطر، فجاء سيل خاف منه أهل مكة، فكثر الخصب في تلك السنة. هذا في رواية الواقدي.
وزعم أبو معشر أن الذي حج بهم في هذه السنة عمر بن الوليد بن عبد الملك، وكان العمال على الأمصار من تقدم في السنة التي قبلها. [1] وما عرفنا من الأكابر أحدا توفي في هذه السنة.
__________
[1] في ت: «وكان العمال على الأمصار هم العمال فِي السنة الَّتِي قبلها» .

(6/288)


ثم دخلت سنة تسع وثمانين
فمن الحوادث فيها افتتاح المسلمين سورية [1]
وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك. وذكر/ الواقدي أن مسلمة والعباس دخلا جميعا في هذه السنة أرض الروم غازيين، ثم افترقا، فافتتح مسلمة حصن سورية، وافتتح أذرولية [2] ، ووافق من الروم جمعا فهزمهم، وقصد مسلمة عمورية، وغزا الترك حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح حصونا ومدائن وغزا العباس الصائفة من ناحية البدندون.
وفيها: غزا قتيبة بخارى، ففتح بعض بلدانها، ولقيه الصغد فظفر بهم [3] .
وفي هذه السنة ابتدئ بالدعاء لبني العباس، وكان الدعاء لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وسمي بالإمام، وكوتب وأطيع [4] ، ثم لم يزل الأمر ينمى ويقوى ويتزايد إلى أن توفي في سنة أربع وعشرين ومائة.
وفيها: حج بالناس عمر بن عبد العزيز، وكان العمال في هذه السنة على الأمصار من كان في السنة التي قبلها.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 439.
[2] في الأصل: «أرذولية» وما أوردناه من ت والطبري.
[3] كذا في الأصول، وفي الطبري 6/ 439: «السّغد» .
[4] في ت: «وأطمع» .

(6/289)


ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
508- ربيعة بن عباد الديلي:
من أصحاب رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، غزا أفريقية مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة سبع وعشرين ...
روى عنه محمد بن المنكدر، وأبو الزناد، وبكير بن الأشج، [وغيرهم] .
توفي بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك.
509-[عبد الله] بن محيريز، أبو محيريز:
أسند عن أبي سعيد، ومعاوية، وأبي محذورة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد بإسناده عن بشير بن صالح، قال: دخل ابن محيريز حانوتا بدابق وهو يريد أن يشتري ثوبا، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز، فأحسن بيعه، فغضب ابن محيريز وخرج وقال: إنما نشتري بأموالنا لسنا نشتري بديننا.
510- عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية:
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بن الحسن، / قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال: أخبرنا أبو علي بْن صفوان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن عبيد، قال: قال الحسن بن عثمان: سمعت أبا العباس الوليد يقول عن عبد الرحمن بن جابر، قال:
كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية خلا لعبد الملك بن مروان، فلما مات عبد الملك وتصدع الناس عن قبره وقف عليه، فقال: أنت عبد الملك الذي كنت تعدني فأرجوك، وتتوعدني فأخافك، أصبحت وليس معك من ملكك غير ثوبيك، وليس لك غير أربعة أذرع في عرض ذراعين من الأرض، ثمّ انكفأ إلى أهله واجتهد في العبادة حتى صار كأنه شن.
قال: فدخل عليه بعض أهله فعاتبه في نفسه وإضراره بها، وقال للقائل: أسألك عن شيء تصدقني عنه؟ قال: نعم، قال: أخبرني عن حالك التي أنت عليها، أترضاها للموت؟ قال: اللَّهمّ لا، قال: فعزمت على الانتقال منها إلى غيرها، قال، ما انتصحت

(6/290)


رأي في ذلك، قال: أفتأمن أن يأتيك الموت على حالك التي أنت عليها، قال: اللَّهمّ لا، قال: فحال ما أقام عليها عاقل، ثم انكفأ إلى مصلاه.
511- عمران بن حطان السدوسي البصري:
روى عن أبي موسى، وابن عمر، وعائشة. وروى عنه محمد بن سيرين، ويحيى بن أبي كثير. وكان شاعرا.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن محمد العلاف، قال:
أخبرنا ابن بشران، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: أخبرنا محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا أحمد بن علي الأنباري، قال: أخبرنا الحسن بن عيسى، عن أبي الحسن المدائني، قال:
دخل عمران بن حطان على امرأته- وكان عمران قبيحا دميما قصيرا- وقد تزينت، وكانت امرأة حسناء، فلما نظر إليها ازدادت في عينه حسنا، فلم يتمالك أن يديم النظر إليها، فقالت: ما شأنك، فقال: لقد أصبحت والله جميلة، فقالت: أبشر فإني وإياك في الجنة، قال: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: لأنك أعطيت/ مثلي فشكرت، وابتليت بمثلك فصبرت، والصابر، والشاكر في الجنة.
512- مذعور:
كان من كبار الصالحين. قال مطرف: ما تحاب اثنان في الله إلا كان أشدهما حبا لصاحبه أفضلهما، وأنا لمذعور أشد حبا، وهو أفضل مني، فكيف هذا؟ قال: فلما أمر بالرهط أن يخرجوا إلى الشام أمر بمذعور فيهم. قال: فلقيني فأخذ بلجام دابتي، فجعلت كلما أردت أن أنصرف منعني، فقلت: إن المكان بعيد، فجعل يحبسني، فقلت: أنشدك الله إلا تركتني فيم تحبسني، [فلما نشدته] [1] قال: كلمة يخفيها جهده مني، اللَّهمّ فيك، فعرفت أنه أشد حبا لي منه.
513- يزيد بن مرثد، أبو عثمان الهمداني: [2]
أسند عن معاذ، وأبي الدرداء. وكان كثير البكاء.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] التاريخ الكبير 4/ 2/ 357، والجرح والتعديل 9/ 288، وتقريب التهذيب 2/ 370.

(6/291)


قرأت على أبي الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْحَرِيرِيُّ، عَنْ أَبِي طَالِبٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ العشاري، قال: أخبرنا أحمد بن محمد الخوارزمي، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، قَالَ: أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا منصور بن عمار، قال: حدثنا الوليد بْن مسلم، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يزيد بن جابر، قال:
قلت ليزيد بن مرثد: ما لي لا أرى عيناك تجفان من الدموع، قال: وما سؤالك عن هذا؟ قلت: عسى أن ينفعني الله به، قال: هو ما ترى، قلت: [1] هكذا تكون في خلواتك قال: والله إن ذلك ليعتريني وقد قرب إلي طعامي فيحول بيني وبين أكله، وإن ذلك ليعتريني وقد دنوت من أهلي فيحول بيني وبين ما أريد حتى تبكي أهلي لبكائي ويبكي صبياننا وما يدرون ما يبكينا، وحتى تقول زوجتي: يا ويحها، ماذا خصت به من نساء المسلمين من الحزن معك، ما ينفعني معك عيش، ولا تقر عيني بما تقر به عين النساء مع أزواجهن، قلت: يا أخي ما الذي أحوجك؟ قال: والله يا أخي لو أن الله تعالى لم يتواعدني إن أنا عصيته إلا أن يحبسني في حمام لكنت حريا أن لا تجف لي دمعة، فكيف وقد تواعدني أن يسجنني في النار.
[وروي] [2] / عن سويد بن عبد العزيز، عن الوضين بن عطاء، قال: أراد الوليد بن عبد الملك أن يولي يزيد بن مرثد فبلغ ذلك يزيدا، فلبس فروة وقلبها فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجا، وأخذ بيده رغيفا وعرقا، وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ولا نعل ولا خف، وجعل يمشي في الأسواق ويأكل، فقيل للوليد: يزيد قد اختلط، وأخبر بما فعل، فتركه.
514- يحيى بن يعمر، أبو سليمان الليثي البصري [3] :
كان صاحب علم بالقرآن والعربية. روى عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي الأسود
__________
[1] في ت: «قال» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 101، وتهذيب التهذيب 11/ 305، وفيه: قال ابن الأثير في الكامل: «مات سنة تسع وعشرين ومائة وفيه نظر وقال غيره في حدود العشرين» ومرآة الجنان 1/ 271، وإرشاد الأريب 7/ 296، والوفيات 2/ 226، ونزهة الألباء 19، وطبقات النحويين للزبيدي 22، وأخبار النحويين 22،

(6/292)


الديليّ [1] . وروى عنه عبد للَّه بن أبي بريدة، وإسحاق بن سويد. ونزل مرو، وولي القضاء، وكان عالما فصيحا ثقة.
قال الأصمعي: كان يحيى قاضيا فتقدم إليه رجل وامرأته، فقال يحيى للرجل:
أرأيت إن سألتك حق شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها. قال: يقول الرجل لامرأته:
لا والله لا أدري ما يقول قومي حتى تنصرف [شبرة] تطلها: تبطل حقها. وتضهلها:
تعطيها حقها قليلا قليلا، والكناية بالشكر والشبر عن النكاح.
__________
[ () ] وبغية الوعاة 417، ورغبة الآمل 1/ 234، 3/ 142، والنجوم الزاهرة 1/ 217، وغاية النهاية 2/ 381.
[1] كذا في الأصول، وفي التهذيب: أبي الأسود الدؤلي» .

(6/293)


ثم دخلت سنة تسعين
فمن الحوادث فيها.
غزوة مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، ففتح حصونا خمسة بسورية.
وفيها: غزا العباس بن الوليد حتى بلغ الأردن [1] ، وقيل: بل بلغ سورية.
وفيها: قتل محمد بن القاسم الثقفي ملك السند، وكان على جيش من قبل الحجاج.
وفيها: ولى الوليد قرة بن شريك على مصر موضع عبد الله بن عبد الملك.
وفيها: أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فذهبوا به إلى ملكهم، فأهداه ملك الروم إلى الوليد بن عبد الملك.
وفيها: فتح قتيبة [بن مسلم بخارى وهزم جموع العدو بها.
وفيها: جدد قتيبة] [2] الصلح بينه وبين طرخون ملك الصغد. وذلك أنه لما أوقع/ قتيبة بأهل بخاري ففض جمعهم هابه أهل الصغد، فرجع طرخون ملك الصغد حتى وقف قريبا من عسكر قتيبة وبينهم نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلا يكلمه، فبعث قتيبة إليه رجلا، فسأل الصلح على فدية يؤديها، فأجابه قتيبة.
__________
[1] في تاريخ الطبري 6/ 442: «الأرزن» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.

(6/294)


وفيها: [1] غدر نيزك، فنقض الصلح الذي كان بينه وبين المسلمين، وامتنع بقلعة، فغزاه قتيبة.
وذلك أن قتيبة فصل من بخارى ومعه نيزك وقد ذعره ما رأى من الفتوح، وخاف قتيبة فاستأذنه في الرجوع إلى بخارى فأذن له، فذهب وخلع قتيبة وكتب إلى جماعة من الملوك منهم ملك الطالقان فوافقوه على ذلك وواعدوه الغزو معه في الربيع، فبعث قتيبة أخاه عبد الله إلى بلخ في اثني عشر ألفا، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئا، فإذا انكسر الشتاء فعسكر، واعلم أني قريبا منك، فدخل قتيبة الطالقان، فأوقع بأهلها البلاء، وقتل منهم قتلة عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد.
وقيل: كان هذا في سنة إحدى وتسعين.
وفي هذه السنة هرب [2] يزيد بن المهلب بإخوته الذين كانوا في سجن الحجاج.
فلحقوا بسليمان بن الملك مستجيرين به من الحجاج، والوليد بن عبد الملك.
وسبب ذلك وسبب خلاصهم أن الحجاج خرج إلى رستقباذ للبعث، لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على عامة أرض فارس، فخرج بيزيد وبإخوته المفضل وعبد الملك حتى قدم بهم رستقباذ، فجعلهم في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريبا من حجرته، وجعل عليهم حرسا من أهل الشام، وأغرمهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، وكان يزيد يصبر صبرا حسنا، وكان ذلك يغيظ الحجاج، فبعثوا إلى مروان بن المهلب وهو بالبصرة ليهيئ لهم الخيل، وصنع يزيد طعاما كثيرا، فأطعم الحرس وسقاهم، ولبس يزيد ثياب طباخه، ووضع على لحيته لحية بيضاء وخرج فرآه [3] / بعض الحرس في الليل فقال: كأنه يزيد، ثم طالعه فقال: هذا الشّيخ. وخرج المفضل في أثره ولم يفطن له، فجاءوا إلى سفن قد هيئوها في البطائح، وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخا، فأبطأ عليهم عبد الملك وشغل عنهم، ثم جاء فركبوا السفن وساروا ليلتهم حتى أصبحوا، ولما أصبح الحرس علموا بذهابهم، ورفع ذلك إلى
__________
[1] في ت: «وفي هذه السنة» .
[2] في الأصل: «وفيها هرب» .
[3] في الأصل: «فرأى» وما أوردناه من ت.

(6/295)


الحجاج، ففزع وذهب وهمه إلى أنهم ذهبوا قبل خراسان، وبعث إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم، ويأمره أن يستعد لهم، وكان يظن أن يزيد يريد ما أراد ابن الأشعث، ولما دنا يزيد من البطائح استقبلته الخيل، قد هيئت له ولأخوته، فخرجوا عليها ومعهم دليل من كلب [1] ، فأخذ بهم على السماوة، فنزل يزيد على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي، وكان كريما على سليمان، فجاء وهيب حتى دخل على سليمان، فقال: هذا يزيد وإخوته في منزلي وقد أتوا هرابا من الحجاج متعوذين بك، قال: فأتني بهم فإنهم آمنون، لا يوصل إليهم أبدا وأنا حي، فجاء بهم حتى أدخلهم عليه.
وكتب الحجاج: إن آل المهلب خانوا مال الله عز وجل وهربوا مني ولحقوا بسليمان، وكان الوليد قد أمر الناس بالتهيؤ إلى خراسان ظنا منه أن يزيد قد ذهب إلي ثمّ، فلما عرف هذا هان عليه الأمر، وكتب سليمان إلى الوليد: إنما على يزيد ثلاثة آلاف ألف، والحجاج قد أغرمهم ستة آلاف ألف، [فأدوا ثلاثة آلاف ألف، وبقي ثلاثة آلاف ألف] [2] ، فهي علي.
فكتب إليه: لا والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي، فكتب إليه: لئن أنا بعثت به إليك لأجيئن معه، فأنشدك الله أن تفضحني ولا تخفرني. فكتب إليه: والله لئن جئتني لا أؤمنه. فقال يزيد: ابعثني إليه، والله ما أحب أن أوقع بينك وبينه عداوة، فابعثني وأرسل معي ابنك، واكتب إليه باللطف [3] . فأرسل معه ابنه أيوب، فقال: يا أمير المؤمنين، نفسي فداؤك، لا تخفر ذمة أبي. فأمنه وعاد إلى سليمان، فمكث عنده تسعة أشهر وتوفي الحجاج.
وفي هذه السنة [4] حج [بالناس] عمر بن عبد العزيز [5] ، وكان عامل الوليد على مكة والمدينة
__________
[1] سماه في الطبري 6/ 449: «عبد الجبار بن يزيد بن الربعة» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري 6/ 451.
[3] في الطبري: «بألطف ما قدرت عليه» .
[4] تاريخ الطبري 6/ 447.
[5] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز.

(6/296)


والطائف، وكان على العراق/ والمشرق الحجاج بن يوسف، وكان عامل الحجاج على البصرة الجراح بن عبد الله، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى الكوفة زياد بن جرير بن عبد الله، وعلى قضائها ابن أبي موسى، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
515- رفيع أبو العالية الرياحي: [1]
أعتقته امرأة من بني رياح. قال: كنت مملوكان لأعرابية، فدخلت المسجد معها، فوافينا الإمام على المنبر، فقبضت على يدي وقالت: اللَّهمّ أذخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة للَّه، ثم ذهبت، فما تراءينا بعد.
أسند أبو العالية عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي، وأبي موسى، وأبي هريرة، وابن عباس. وكان عالما ثقة.
أخبرنا ابن ناصر بإسناده عن سفيان بن عيينة، عن عاصم، قال: كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام [2] .
516- عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة:
وكان شاعرا مجيدا، وهو القائل لما بلغ بلكثة الشام.
بينما نحن في بلاكث بالقاع ... سراعا والعيش تهوي هويا
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 81، وطبقات ابن خليفة 202، والتاريخ الكبير 3/ 1103، والمعارف 454، والجرح والتعديل 3/ 2312، والحلية 2/ 217، وأخبار أصبهان 1/ 314، وطبقات الشيرازي 88، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 326، وأسد الغابة 2/ 186، وسير أعلام النبلاء 4/ 307، وتذكرة الحفاظ 1/ 61، وغاية النهاية 1/ 284، والإصابة 1/ 528، 4/ 838، وطبقات المفسرين للداوديّ 1/ 172.
[2] الخبر في حلية الأولياء 2/ 218.

(6/297)


خطرت خطرة على القلب ... من ذكراك وهنا فما أطقت مضيا
قلت للشوق إذ دعاني لبيك ... وللحادثين ردي المطيا
517- مرثد بن عبد الله، أبو الخير الكلاعي اليزني:
يروي عن أبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وعقبة بن عامر، ومالك بن هبيرة، وعمرو بن العاص، وغيرهم.
وكان مفتي أهل مصر في أيامه.
توفي في هذه السنة.

(6/298)