المنتظم في تاريخ الأمم والملوك
ثم دخلت سنة إحدى
وتسعين
فمن الحوادث فيها غزاة عبد العزيز بن
الوليد الصائفة.
وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك/.
وفيها غزا مسلمة الترك.
حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح على يديه مدائن وحصون.
وفيها سار قتيبة إلى مروالروذ.
فبلغ الخبر إلى مرزبانها، فهرب إلى الفرس، فقدم قتيبة فأخذ ابنين له
فقتلهما وصلبهما، ومضى إلى الفارياب، فخرج إليه ملك الفارياب مذعنا [1]
مطيعا فرضي عنه واستعمل عليها رجلا من باهلة، وبلغ الخبر صاحب
الجوزجان، فترك أرضه وخرج إلى الجبال هاربا، وسار قتيبة إلى الجوزجان،
فلقيه أهلها مطيعين، فقبل منهم واستعمل عليها عامر بن مالك، وما زال
ينصب المنجنيق على بلدة، ويحرق بلدة، ويبالغ في الجهاد حتى قتل في مكان
واحد اثني عشر ألفا.
وفي هذه السنة ولى الوليد خالد بن عبد
القسري مكة.
فلم يزل واليا إلى أن مات الوليد، فخطب خالد الناس في ولايته، فقال:
إني والله
__________
[1] في الأصل: «مسرعا» وما أوردناه من ت والطبري.
(6/299)
ما أوتي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في
الحرم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا محمد بن عامر بن بكير، قال: أخبرنا هارون بن عيسى بن المطلب
الهاشمي، قال: أخبرنا إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى، قال: حدثنا محمد
بن الوليد المخزومي، قال: حدثنا القاسم بن أبي سفيان، قال: حدثنا عبد
الرحمن بن حبيب بن أبي حبيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت خالد بن [عبد
الله] القسري يخطب الناس فقال:
من كان منكم يريد أن يضحي فلينطلق فليضح فبارك الله له في أضحيته،
فإنّي مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم
يتخذ إبراهيم خليلا، فسبحان الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل
فذبحه.
[وفي هذه السنة حج الوليد بن عبد الملك]
حج الوليد بن عبد الملك. قال الواقدي: حدثني موسى بن أبي بكر، قال:
حدثنا صالح بن كيسان، قال: فلما حضر قدوم الوليد أمر عمر بن عبد العزيز
عشرين/ رجلا من قريش يخرجون معه، فخرجوا فلقوه بالسويداء، فلما دخل إلى
المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بنائه، فأخرج الناس منه، فما ترك فيه
أحد، وبقي سعيد بن المسيب ما يجترئ أحد من الحرس أن يخرجه، وما عليه
إلا ريطتان ما تساويان خمسة دراهم في مصلاه، فقيل له: لو قمت، قال:
والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه، فقيل له: لو سلمت على
أمير المؤمنين، فقال: لا والله لا أقوم إليه.
قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد رجاء ألا
يرى سعيد بن المسيب حتى يقوم، فحانت من الوليد التفاتة- أو قال: نظرة-
إلى القبلة، فقال من ذلك الجالس؟ أهو الشيخ سعيد بن المسيب؟ فقال عمر:
نعم يا أمير المؤمنين، من حاله ومن حاله ... ولو علم مكانك لقام مسلما
عليك، فدار في المسجد حتى وقف [على القبر، ثم أقبل حتى وقف] [1] على
سعيد بن المسيب، فقال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/300)
كيف أنت أيها الشيخ؟ [فو الله ما تحرك سعيد
ولا قام] [1] فقال: بخير والحمد للَّه، فكيف أمير المؤمنين وكيف حاله؟
فقال الوليد: بخير والحمد الله فانصرف وهو يقول: لعمر: هذا بقية الناس،
فقال: أجل يا أمير المؤمنين.
وقسم الوليد بالمدينة رقيقا كثيرا بين الناس، وآنية من ذهب وفضة
وأموالا، وخطب بها يوم الجمعة وصلى بهم.
قال الواقدي: وقدم بطيب وكسوة للكعبة.
قال المدائني: وحج محمد بن يوسف من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فقالت أم
البنين للوليد: اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها، فجاءت
أم البنين إلى محمد فيها، فأبى وقال: حتى ينظر إليها أمير المؤمنين
فيرى رأيه، وكانت هدايا كثيرة فقالت: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت
بهدايا محمد أن تصرف إلي ولا حاجة لي فيها، قال: ولم، قالت: بلغني أنه
غصبها وكلفهم عملها وظلمهم، وحمل محمد المتاع إلى الوليد، فقال له:
بلغني أنك أصبتها غصبا، قال: معاذ الله، فأمر فاستحلف بين الركن
والمقام خمسين يمينا أنه ما/ غصب شيئا منها ولا ظلم أحدا ولا أصابها
إلا من طيب، فحلف فقبلها الوليد ودفعها إلى أم البنين. ومات محمد
باليمن، أصابه داء انقطع منه.
وكان عمال الأمصار في هذه السنة من تقدم في السنة التي قبلها، غير مكة،
فإن الواقدي يقول: كان عاملها خالد بن عبد الله القسري. وقال غيره: بل
كان عمر بن العزيز
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
518- الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام: [2]
أمه خولة بنت منظور بن زبان. تزوج فاطمة بنت الحسين، فولدت له عبد
الله،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 234، وطبقات خليفة 240، والتاريخ الكبير 2/ 2502،
والجرح والتعديل
(6/301)
وتوفي عنها، فخلف عَلَيْهَا عَبْد اللَّه
بْن عَمْرو بن عثمان بن عفان.
519- سهل بن سعد الساعدي: [1]
توفي في هذه السنة عن خمس وسبعين سنة.
520- عمر بن يوسف، أخو الحجاج.
توفي باليمن واليا عليها، وتوفي بعده بستة أيام.
521- محمد بن الحجاج:
فقال الحجاج يرثيه:
وحسبي بقاء الله من كل ميت ... وحسبي بقاء الله من كل هالك.
إذا ما أتيت الله عني راضيا ... فإن شفاء النفس فيما هنالك
__________
[ () ] 3/ 17، وتاريخ بغداد 7/ 293، وتاريخ الإسلام 3/ 357، وسير أعلام
النبلاء 4/ 483، والوافي بالوفيات 11/ 416، والبداية والنهاية 9/ 170،
وتهذيب تاريخ ابن عساكر 4/ 165.
[1] طبقات خليفة 98، والتاريخ الكبير 4/ 2092، وتاريخ واسط 202، والجرح
والتعديل 4/ 853، والاستيعاب 2/ 664، وأسد الغابة 2/ 366 وسير أعلام
النبلاء 3/ 422، والتجريد 1/ 2558، وتاريخ الإسلام 4/ 11، والإصابة 2/
3533.
(6/302)
ثم دخلت سنة اثنتين
وتسعين
فمن الحوادث فيها غزوة عمر بن الوليد ومسلمة أرض الروم، ففتح على يد
مسلمة ثلاث حصون، وجلا خلقا كثيرا عن بلادهم.
وفيها: غزا طارق بن زياد الأندلس في اثني عشر ألفا ففتحها وقتل الملك.
وفيها: حج بالناس عمر بن العزيز وهو على المدينة وكان عمال الأمصار
الذين كانوا في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
522- أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن
غنم ابن عدي بن النجار: [1]
أمه أم سليم بنت ملحان. لما قدم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ
المدينة ذهبت به أمه إليه ليخدمه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّازُ، قَالَ:
أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال:
أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف، قَالَ:
حدّثنا الحسين بن الفهم،
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 10، وتهذيب ابن عساكر 3/ 139، وصفة الصفوة 1/
1/ 298، وتهذيب الكمال 3/ 353، وجميع كتب التاريخ الإسلامي والتراجم.
(6/303)
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد،
قَالَ: أَخْبَرَنَا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زَيْدٍ، عَنْ
سِنَانِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ:
[1] . ذَهَبَتْ بِي أُمِّي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خُوَيْدِمُكَ ادْعُ لَهُ، قَالَ:
«اللَّهمّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَطِلْ عُمْرَهُ وَاغْفِرْ
ذَنْبَهُ» . قَالَ أَنَسٌ: فَقَدْ دَفَنْتُ مِنْ صُلْبِي مِائَةَ
غَيْرَ اثْنَيْنِ- أَوْ قَالَ: مِائَةً واثنين، وإن ثمرتي لتحمل في
السنة مَرَّتَيْنِ، وَلَقَدْ بَقِيتُ حَتَّى سَئِمْتُ الْحَيَاةَ،
وَأَنَا أَرْجُو الرَّابِعَةَ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: [2] وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ:
كَانَ كَرْمُ أَنَسٍ يَحْمِلُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ. وَكَانَ
أَنَسٌ يُصَلِّي فَيُطِيلُ الْقِيَامَ حَتَّى تَقْطُرُ قَدَمَاهُ
دَمًا.
قال ابن سعد [3] : وحدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة الحرمي، قال:
حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، قال: حدثنا ثابت البناني، قال:
شكى قيم لأنس بن مالك في أرضه العطش، فصلى أنس فدعا، فثارت سحابة حتى
غشيت أرضه فملأت صهريجه، فأرسل غلامه فقال: انظر أنى بلغت هذه، فنظر،
فإذا هي لم تعد أرضه.
قال: وأخبرنا يوسف بن العرق، قال: حدثنا صالح المري، عن ثابت، قال:
كان أنس إذا أشفى على ختم القرآن من الليل بقي منه سور حتى يصبح فيختمه
عند عياله.
قال: وحدثنا عفان، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا ثابت
البناني، قال: كان أنس إذا ختم القرآن جمع ولده وأهله فدعا لهم.
قال: وأخبرنا عفان، قال: حدثنا خالد بن أبي عثمان، قال: حدّثنا ثمامة
بن
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 12.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 12.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 12.
(6/304)
عبد الله بن أنس، قال: كان أنس إذا صلى
المغرب لم يقدر عليه ما بين المغرب والعشاء قائما يصلي.
توفي أنس بالبصرة في هذه السنة وَهُوَ ابْن تسع وتسعين سنة. وقيل: /
ابن مائة وسبع سنين، وهو آخر من مات من أصحاب رسول الله صَلى اللهُ
عَلَيه وَسَلَّمَ بالبصرة، ورزق مائة ولد، ولا يعرف في الإسلام من ولد
له من صلبه مائة سوى أربعة [1] : أنس بن مالك، وعبد الله ابن عمير
الليثي، وخليفة السعدي، وجعفر بن سليمان الهاشمي.
523- إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، من تيم الرباب، يكنى أبا أسماء:
[2]
روى عن أبيه، والحارث بن سويد في آخرين، فكان عالما عابدا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أحمد بن يزيد، قال:
حدثنا عبد الله بن عمر، قال: حدثنا حفص الواسطي، قال: حدثنا العوام بن
حوشب، قال:
ما رأيت رجلا قط خيرا من إبراهيم التيمي، وما رأيته رافعا بصره إلى
السماء في صلاة ولا غيرها، وسمعته يقول: إن الرجل ليظلمه، فأرحمه.
أخبرنا ابن ناصر، وابن أبي عمر، قال: حدثنا رزق الله، وطراد، قالا:
أخبرنا ابن بشران قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو
بكر، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنه سمع سفيان بن عيينة يقول: قال
إبراهيم:
مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها،
ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها
وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفسي، أي شيء تريدين؟ قالت: أن أرد إلى
الدنيا فأعمل صالحا قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي.
__________
[1] في الأصل: ولا يعرف في الإسلام من له مائة ولد من صلبه سوى أربعة.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 199، وتهذيب الكمال 2/ 232.
(6/305)
أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، عن أبي محمد
الجوهري، عن أبي عمر ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف،
قَالَ: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا
علي بن محمد، قال: [1] كان سبب حبس إبراهيم التيمي أن الحجاج طلب
إبراهيم النخعي، فجاء الذي يطلبه، فقال: أريد إبراهيم، فقال إبراهيم
التيمي: أنا إبراهيم، وهو يعلم أنه أراد النخعي، فلم يستحل أن يدله
عليه، فجاء به إلى الحجاج فأمر بحبسه، ولم يكن لهم في الحبس/ ظل من
الشمس، ولا كن من البرد، وكان كل اثنين في سلسلة، فتغير إبراهيم،
فجاءته أمه في الحبس فلم تعرفه حتّى كلمها، فمات في السجن فرأى الحجاج
قائلا يقول: مات في هذه الليلة رجل من أهل الجنة، فلما أصبح قال: هل
مات الليلة أحد بواسط؟ قالوا: نعم، إبراهيم التيمي، قال: حلم نزعة من
نزعات الشيطان، وأمر به فألقي على الكناسة، وذلك في هذه السنة.
524- وضاح اليمن: [2]
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن محمد
العلاف، قال:
أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الكندي، قال:
أخبرنا جعفر بن محمد الخرائطي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن
أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق بن الضيف، عن أبي مسهر، قال:
كان وضاح اليمن نشأ هو وأم البنين صغيرين، فأحبها وأحبته، وكان لا يصبر
عنها حتى إذا بلغت حجبت عنه، وطال بهما البلاء، فحج الوليد بن عبد
الملك فبلغه جمال أم البنين وأدبها فتزوجها ونقلها إلى الشام.
قال: فذهب عقل وضاح عليها وجعل يذوب وينحل فلما طال عليه البلاء خرج
إلى الشام، فجعل يطوف بقصر الوليد بن عبد الملك في كل يوم لا يجد حيلة
حتى رأى
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 199.
[2] الأغاني 6/ 222، واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل وفوات الوفيات 1/
253، والنجوم الزاهرة 1/ 226، وتهذيب تاريخ دمشق 7/ 295، والتبريزي 2/
96، وسماه وضاح بن إسماعيل، وتبعه العيني 2/ 216.
(6/306)
يوما جارية صفراء، فما زال حتى أنس بها،
فقال لها: هل تعرفين أم البنين؟ فقالت:
إنك تسأل عن مولاتي، فقال: إنها لابنة عمي، فإنها تسر بمكاني وموضعي لو
أخبرتها، قالت: إني أخبرها فمضت الجارية فأخبرت أم البنين، فقالت ويلك،
أحي هو؟ قالت: نعم، قالت: قولي له كن مكانك حتى يأتيك رسولي. فلن أدع
الاحتيال لك، فاحتالت إلى أن أدخلته إليها في صندوق، فمكث عندها حينا
فإذا أنت أخرجته، فقعد معها وإذا خافت عين رقيب أدخلته الصندوق.
فأهدي يوما للوليد بن عبد الملك جوهر، فقال لبعض خدمه: خذ هذا الجوهر
فامض به إلى أم البنين وقل لها: أهدي هذا إلى أمير المؤمنين، فوجه به
إليك.
فدخل/ الخادم من غير استئذان ووضاح معها، فلمحه ولم تشعر أم البنين،
فبادر إلى الصندوق فدخله، فأدى الرسالة، إليها، وقال لها: هبي لي من
هذا الجوهر حجرا، فقالت: لا أم لك، وما تصنع أنت بهذا؟ فخرج وهو عليها
حنق فجاء الوليد فخبره الخبر ووصف له الصندوق الذي رآه دخله، فقال:
كذبت، لا أم لك. ثم نهض الوليد مسرعا فدخل إليها وهي في ذلك البيت وفيه
صناديق، فجاء حتى جلس على ذلك الصندوق الذي وصف له الخادم، فقال لها:
يا أم البنين، هبي لي صندوقا من صناديقك هذه، فقالت:
يا أمير المؤمنين، هي لك وأنا لك فقال لها: ما أريد غير هذا الذي تحتي،
فقالت: يا أمير المؤمنين، إن فيه شيئا من أمور النساء، قال: ما أريد
غيره، قالت: هو لك. فأمر به فحمل ودعا بغلامين وأمرهما بحفر بئر، فحفرا
حتى إذا بلغا الماء وضع فمه على الصندوق وقال: أيها الصندوق، قد بلغنا
عنك شيء فإن كان حقا فقد دفنا خبرك ودرسنا أثرك، وإن كان كذبا فما
علينا من دفن صندوق من حرج، ثم أمر به فألقي في الحفرة، وأمر بالخادم
[1] فقذف في ذلك المكان فوقه، وطم عليهما المكان. فكانت أم البنين توجد
في ذلك المكان تبكي إلى أن وجدت فيه يوما مكبوبة على وجهها ميتة.
وقد روى نحو هذه الحكاية هشام بن محمد بن السائب: أن أم البنين كانت
عند يزيد بن عبد الملك، وإن قصة وضاح اليمن جرت له وهي عند يزيد.
__________
[1] في ت: «وأمر بالغلام» .
(6/307)
ثم دخلت سنة ثلاث
وتسعين
فمن الحوادث فيها غزاة العباس بن الوليد
أرض الروم.
ففتح الله على يده بعضها، وغزاها أيضا مسلمة فافتتح بلادا منها.
وفيها صالح قتيبة ملك خوارزم [1]
قالوا: كان ملك خوارزم ضعيفا فغلبه أخوه خرزاذ على أمره، وكان خرزاذ/
أصغر منه، فكان إذا بلغه أن عند أحد جارية أو دابة أو متاعا فاخرا أرسل
فأخذه، أو بلغه أن لأحد بنتا أو أختا أو امرأة جميلة أخذها، ولا يمتنع
عليه أحد، ولا يمنعه الملك، فإذا قيل له، قال: لا أقوى عليه، فلما طال
ذلك عليه كتب إلى قتيبة في السر يدعوه إلى أرضه ليسلمها إليه، وبعث
إليه بمفتاح البلد واشترط عليه أن يسلم إليه أخاه وكل من يضاده، يحكم
فيهم بما يرى، فرجعت الرسل بما يحب، وسار قتيبة مظهرا أنه يريد الصغد
[2] ، فقال الملك لأصحابه: إن قتيبة يريد الصغد، فهل لكم أن نتنعم في
ربيعنا هذا، فأقبلوا على التنعم والشراب، وأمنوا، فلم يشعروا إلا
بقتيبة، فقال الملك: ما ترون؟ قالوا: نقاتله، قال: لا أرى ذلك لأنه قد
عجز عنه من هو أقوى منا، ولكن نصرفه عنا بشيء نؤديه إليه، فصالحه على
مال عظيم، وأخذ أخاه فدفعه إليه، ثم أتى قتيبة الصغد فصالحوه على ألفي
ألف ومائتي ألف كل عام، وأن يبنى له فيها مسجد، ويضع
__________
[1] تاريخ الطبري: 6/ 469.
[2] في تاريخ الطبري: «السغد» .
(6/308)
فيه منبرا فيخطب عليه، ففعلوا، فدخل فخطب
[وصلى] [1] فقال: لست ببارح [فاخرجوا] ، وجاءوه بالأصنام فأحرقها،
فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال،
ودخل المسلمون مدينة سمرقند فصالحوهم. ثم ارتحل قتيبة راجعا إلى مرو،
واستخلف على سمرقند عبد الرحمن بن مسلم، وخلف عنده جندا كثيفا وآلة من
آلات الحرب كثيرة.
وفي هذه السنة عزل موسى بن نصير طارق بن
زياد عن الأندلس.
فلقيه موسى في عشرة آلاف فترضى طارقا فرضي عنه ووجهه إلى طليطلة- وهي
من عظام مدائن الأندلس- وهي من قرطبة على عشرين يوما- فأصاب فيها مائدة
سليمان بن داود عليه السلام، وفيها من الذهب والجوهر ما الله به أعلم
[2] .
وفيها أجدب أهل أفريقية جدبا شديدا.
فخرج موسى بن نصير فاستسقى بالناس، ودعا وخطب، فقيل له: ألا تدعو لأمير
المؤمنين، فقال: ليس هذا موضع ذلك [3] ، فسقوا سقيا كفاهم حينا.
وفي هذه السنة ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب
بن عبد الله بن الزبير بن العوام خمسين سوطا.
وقيل: مائة سوط عن أمر الوليد بن عبد الملك بذلك، وصب على رأسه قربة
ماء بارد في يوم شات، ووقفه على باب المسجد [4] ، فمكث يوما ومات.
وكان السبب أن خبيبا حدث عن رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ أنه
قال: «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا عباد الله خولا ومال
الله دولا» . أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب الدباس، قال: أخبرنا
أبو جعفر بن المسلمة، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قَالَ: أَخْبَرَنَا
أَحْمَد بْن سليمان بن داود
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «ما الله به عليم» .
[3] في الأصل: «ليس هنا موضع ذاك» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «ماء بارد ووقفه في يوم شات على باب المسجد» .
(6/309)
الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار قال:
حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال:
كان خبيب قد لقي العلماء ولقي كعب الأحبار، وقرأ الكتب، وكان من
النساك، وأدركه أصحابنا وغيرهم يذكرون أنه كان يعلم علما كثيرا لا
يعرفون وجهه ولا مذهبه فيه يشبه ما يدعى الناس من علوم النجوم.
قال عمي مصعب: وحدثت عن مولى لخالته أم هاشم بنت منظور يقال له يعلى بن
عقبة، قال:
كنت أمشي معه وهو يحدث نفسه إذ وقف ثم قال: سأل قليلا فأعطي كثيرا،
وسأل كثيرا فأعطي قليلا، فطعنه فأرداه فقتله، ثم أقبل علي فقال: قتل
عمرو بن سعيد الساعة، ثم مضى، فوجدوا ذلك اليوم الذي قتل فيه عمرو بن
سعيد.
وله أشباه هذا يذكرونها والله أعلم ما هي، وكان طويل الصمت [1] قليل
الكلام.
وكان الوليد بن عبد الملك قد كتب إلى عمر بن عبد/ العزيز إذ كان واليا
على المدينة يأمره بجلده مائة سوط [وبحبسه، فجلده عمر مائة سوط] [2] ،
وبرد له ماء في جرة، ثم صبها عليه في غداه باردة، فكن فمات فيها.
وكان عمر قد أخرجه من المسجد حين اشتد وجعه وندم على ما صنع، فانتقله
آل الزبير في دار من دورهم.
قال عمي مصعب: وأخبرني مصعب بن عثمان أنهم نقلوه إلى دار عمر بن مصعب
بن الزبير، واجتمعوا عنده حتى مات، فبينا هم جلوس إذ جاءهم الماجشون
استأذن عليهم وخبيب مسجى بثوبه، وكان الماجشون يكون مع عمر بن عبد
العزيز في ولايته على المدينة، فقال عبد الله بن عروة: ائذنوا له، فلما
دخل قال: كان صاحبك في مرية من موته، اكشفوا له عنه، فكشفوا له عنه،
فلما رآه الماجشون انصرف. قال الماجشون: فانتهيت إلى دار مروان فقرعت
الباب، فدخلت فوجدت عمر كالمرأة الماخض قائما قاعدا، فقال لي: ما
وراءك؟ فقلت: مات الرجل، فسقط إلى الأرض
__________
[1] في الأصل: «طويل الصلاة» وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/310)
فزعا، ثم رفع رأسه يسترجع، فلم تزل تعرف
فيه حتى مات، فاستعفى من المدينة، وامتنع من الولاية، وكان يقال: إنك
قد فعلت كذا فأبشر، فيقول: فكيف بخبيب.
وحدثني عمي قال: حدثني هارون بن أبي عبيد الله بن عبد الله بن مصعب،
قال: سمعت أصحابنا يقولون: قسم فينا عمر بن عبد العزيز قسما في خلافته
خصنا به، فقال الناس: دية خبيب.
وفي هذه السنة عزل الوليد عمر بن عبد
العزيز عن المدينة.
وكان السبب في ذلك أن عمر كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج أهل عمله
بالعراق، واعتدائه عليهم، وظلمه لهم بغير حق، فبلغ ذلك الحجاج فاضطغنه
[1] على عمر، وكتب إلى الوليد: إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل
الشقاق قد جلوا عن العراق [2] ولجئوا إلى المدينة، وإن ذلك وهن/.
فكتب الوليد إلى الحجاج: أن أشر علي برجلين، فكتب إليه يشير عليه
بعثمان بن حيان وخالد بن عبد الله، فولى خالدا مكة، وولى عثمان
المدينة، وعزل عمر بن عبد العزيز، فخرج عمر بن عبد العزيز من المدينة
معزولا في شعبان هذه السنة، واستخلف حين خرج أبا بكر بن عمرو بن حزم،
وجعل يقول لمولاه مزاحم: أتخاف أن تكون ممن نفته المدينة. ووليها عثمان
بن حيان في شعبان إلا أنه قدم المدينة لليلتين مضيتا من شوال.
وفي هذه السنة.
حج بالناس عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، وكانت العمال على
الأمصار عمالها في السنة التي قبلها إلا المدينة فإن عمر وليها إلى
شعبان، وعثمان بن حيان وليها من شعبان، ويقال: قدمها في سنة أربع
وتسعين.
__________
[1] في الأصل: «فاضغطه» وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «قد خلوا إلى العراق» . وما أوردناه من ت.
(6/311)
ذكر من توفي في هذه
السنة من الأكابر
525- إياس بن قتادة التميمي، ابن أخت الأحنف بن قيس [1] :
أسند عن قيس بن عباد، عن أبي بن كعب.
أنبأنا أبو بكر ابن أبي طاهر، عن أبي محمد الجوهري، عن ابن حيوية،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف، قَالَ: أخبرنا الحسين بن الفهم،
قال: حدثنا محمد بن سعد، قال:
أخبرت عن معتمر بن سليمان، عن سلمة بن علقمة، قال: [2] اعتم إياس بن
قتادة وهو يريد بشر بن مروان، فنظر في المرآة فإذا بشيبة في دقنه،
فقال: افليها يا جارية، ففلتها، فإذا هي بشيبة أخرى، فقال: أنظروا من
بالباب من قومي فادخلوا عليه، فقال: يا بني تميم، إني كنت وهبت لكم
شبيبتي، فهبوا لي شيبتي، ألا أراني حمير الحاجات وهذا الموت يقرب مني.
ثم قال: انقضي العمامة فاعتزل يؤذن لقومه، ويعبد ربه، ولم يغش سلطانا
حتى مات.
526- زرارة بن أوفى الحرشي، يكنى أبا حاجب: [3]
أسند عن أبي هريرة، وعمران، [4] وابن عباس. وتوفي في هذه السنة فجأة.
أخبرنا محمد بن طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر
البرمكي، قَالَ: أخبرنا أبو/ محمد بن ناسي، قال: حدثنا أبو جعفر أحمد
بن علي الخراز، قال: حدثنا عبد الواحد بن غياث، قال: حدثنا أبو خباب
القصار، قال:
صلى بنا زرارة بن أوفى الفجر، فلما بلغ: فَإِذا نُقِرَ في النَّاقُورِ
74: 8 [5] شهق شهقة فمات.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 102.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 102.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 109، وطبقات خليفة 197، والتاريخ الكبير 3/
1461، وأخبر القضاة 1/ 292، والجرح والتعديل 3/ 2727، ومشاهير علماء
الأمصار 701 وحلية الأولياء 2/ 258، وتاريخ الإسلام 3/ 368، وسير أعلام
النبلاء 4/ 515.
[4] «عمران» : ساقط من ت.
[5] سورة المدثر، الآية: 8.
(6/312)
527- عبد الرحمن بن يزيد بن جارية بن عامر
الأنصاري: [1] .
وأمه جميلة بنت ثابت ابن أبي الأقلح، ولد فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
528- عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، واسمه حذيفة بن المغيرة بن عبد
الله بن عمر بن مخزوم، يكنى أبا الخطاب: [2]
وكان أبو ربيعة يسمى ذا الرمحين، سمي بذلك لطوله، كأنه يمشي على رمحين.
وقيل: بل قاتل في عكاظ برمحين، فسمي بذلك.
ولد عمر ليلة قتل عمر بن الخطاب، وكانت أمه وأم إخوته نصرانية. وأبو
جهل بن هشام عم أبيه، وأم عمر بن الخطاب حثمة بنت هشام بن المغيرة بنت
عم أبيه، وإخوته عبد الله، وعبد الرحمن، والحارث بنو عبد الله بن أبي
ربيعة. وكان أخوه عبد الرحمن تزوج بنت أبي بكر الصديق بعد طلحة، وولدت
له، وأعقب الحارث ولا عقب لعمر.
وكان عمر شاعرا مجيدا.
روى الزبير بن بكار، قال: حدثني يعقوب ابن أبي إسحاق [3] ، قال: كانت
العرب تقر لقريش بالتقدم في كل شيء عليها إلا في الشعر، فلما كان عمر
أقرت له الشعراء بالشعر أيضا.
وقال ابن جريج: ما دخل على العواتق في حجالهن [شيء] [4] أضر عليهن من
شعر عمر بن أبي ربيعة. [5] وقال هشام بن عروة: لا ترووا فتياتكم شعر
عمر بن أبي ربيعة لا يتورطن في الزنا تورطا.
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 60.
[2] الأغاني 1/ 70 (دار الكتاب العلمية) ووفيات الأعيان 1/ 353، 378،
وسرح العيون 198، والشعر والشعراء 216، وخزانة البغدادي 1/ 240.
[3] الخبر في الأغاني 1/ 83، وفيه: يعقوب بن إسحاق» .
[4] الخبر في الأغاني 1/ 84.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الأغاني.
(6/313)
وكان كثير التشبيب بالنساء، قلما يرى امرأة
إلا ويتشبب بها تشبيب عاشق. وكان يحب زيارتهن، ويكثر مجالستهن، فممن
شبب بهن سكينة بنت الحسين، فقال:
قالت سكينة والدموع ذوارف ... منها على الخدين والجلباب
ليت المغيري الذي لم أجزه ... فيما أطال تصيدي وطلابي
/ كانت ترد لنا المنى أيامه ... أولا تلوم [1] على هوى وتصابي
أسكين ما ماء الفرات وطيبه ... مني على ظمأ وحب شراب
بألذ منك وقد نأيت وقلما ... ترعى النساء أمانة الغياب
وشبب بفاطمة بنت عبد الملك بن مروان، فقال:
افعلي بالأسير إحدى ثلاث ... وافهميهن ثم ردي جوابي
اقتليه قتلا سريحا مريحا ... لا تكوني عليه سوط عذابي
أو اقتدي فإنما النفس بالنفس ... قضاء مفصلا في الكتاب
أوصليه وصلا تقر به العين ... وشر الوصال وصل الكذاب
فأعطت الذي جاءها بالأبيات لكل بيت عشرة دنانير.
وحج عبد الملك فلقيه عمر، فقال له عبد الملك: يا فاسق، فقال: بئس تحية
ابن العم على طول السخط، قال: يا فاسق، أما أن قريشا لتعلم انك أطولها
صبوة وأبطؤها توبة، ألست القائل.
ولولا أن تعنفني قريش ... فقال الناصح الأوفى الشقيق
لقلت إذا التقينا قبليني ... ولو كنا على ظهر الطريق
وكان أخوه الحارث خيرا عفيفا، فعاتبه يوما. قال عمر: وكنت على ميعاد من
الثريا، فرحت إلى المسجد مع المغرب وجاءت الثريا للميعاد فتجد الحارث
مستلقيا على الفراش، فألقت نفسها عليه وهي لا تشك أنه أنا، فوثب وقال:
من هذه؟ قيل له:
الثريا، قال: ما أرى عمر ينتفع بوعظنا، فلما جئت للميعاد، قال: ويحك
كدنا نفتن بعدك، لا والله ما شعرت إلا وصاحبتك واقعة علي، قلت: لا تمسك
[النار] [2] أبدا، قال: عليك لعنة الله وعليها.
__________
[1] في الأغاني: «المنى أياما إذ لا غلام» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/314)
فلما تزوج سهيل بن عبد الرحمن بن عوف
الثريا، قال عمر:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن
مُحَمَّد بْن العلاف، قَالَ:
أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال:
حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا إسماعيل بن أحمد بن
معاوية الباهلي، عن أبيه، عن الأصمعي، عن أبي سفيان بن العلاء، قال:
لما بصرت الثريا بعمر بن ربيعة وهو يطوف حول البيت فتنكرت وفي كفها
خلوق، فرجمته فأثر الخلوق في ثوبه، فجعل الناس يقولون: يا أبا الخطاب،
ما هذا بزي محرم، فأنشأ يقول:
أدخل الله رب موسى وعيسى ... جنة الخلد من ملاني خلوقا
مسحت كفها بجيب قميصي ... حين طفنا بالبيت مسحا رفيقا
فقال له عبد الله بن عمر: مثل هذا القول تقول في هذا الموضع، فقال: يا
أبا عبد الرحمن، قد سمعت مني ما سمعت، فو ربّ هذه البنية ما حللت إزاري
على حرام قط.
وقد روى محمد بن الضحاك: أن عمر بن أبي ربيعة لما مرض مرض الموت أسف
عليه أخوه الحارث، فقال عمر: يا أخي إن كان أسفك لما سمعت من قولي قلت
لها وقالت لي، فكل مملوك لي حر إن كان كشف فرجا حراما قط، فقال الحارث:
الحمد للَّه طيبت نفسي، وكان له سبعون عبدا. [1] وقد روي عنه أنه لما
كبر حلف ألا يقول بيت شعر إلا أعتق رقبة.
وروى الزبير بن بكار، عن محمد بن الضحاك، قال: عاش عمر بن [أبي] [2]
ربيعة ثمانين سنة فتك منها أربعين سنة، ونسك أربعين سنة [3] .
__________
[1] جاءت هذه الرواية في ت آخر الترجمة.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] وقد ورد في الأصل «تقدم هذه الحكاية قبل موته» .
(6/315)
وقد روى الزبير بن بكار، قال: حدثني مصعب
بن عثمان: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وُلِّيَ الخلافة
لم تكن له همة إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص. فكتب إلى عامله على
المدينة: إني قد عرفت عمر والأحوص بالخبث والشر، فإذا أتاك كتابي هذا/
فاشددهما واحملهما إلي- فلما أتاه الكتاب حملهما إليه فأقبل عليّ عمر
وقال:
هيه فلم أر كالتجميز منظر ناظر كالرمي [1] ، فإذا لم يفلت الناس منك في
هذه الأيام فمتى يفلتون، أما والله لو أهممت بحجبك لم تنظر إلى شيء
غيرك، ثم أمر بنفيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أو خير من ذلك، قال: ما
هو؟ قال: أعاهد الله عز وجل أن لا أعود لمثل هذا الشعر، ولا أذكر
النساء في شعر، وأجدد توبة على يدك، قال: أن تفعل؟ قال: نعم.
فعاهد الله على توبته وخلاه.
ثم دعا بالأحوص، فقال: من يقول:
هي الله بيني وبين قيمها ... يفر مني بها وأتبعه
بل الله بين قيمها وبينك، ثم أمر بنفيه إلى دهلك، فلم يزل بها، فسئل في
رده، فقال: والله لا أرده ما كان لي سلطان.
وقد اختلفوا في سبب موته على قولين: أحدهما: أن عمر بن عبد العزيز سيره
إلى دهلك ثم غزا في البحر فأحرقت السفينة التي كان فيها، فاحترق هو ومن
كان معه. ذكره ابن قتيبة.
والثاني: أنه نظر إلى امرأه مستحسنة في الطواف، فكلمها فلم تجبه، فقال
لها أبياتا فبلغتها، فقيل لها: اذكريها لزوجك ينكر عليه، فقالت: كلا،
لا أشكوها إلا إلى الله فقالت: اللَّهمّ إن كان نوه باسمي ظالما فاجعله
طعاما للريح. فضرب الدهر ضربة، فغدا يوما على فرس، فهبت الريح، فنزل
إلى شجرة، فخدشه منها غصن فدمي فرمي فيه. فمات من ذلك [2] .
__________
[1] «كالرمي» : ساقط من ت.
[2] في الأصل: «قال الناقل: ولا أشك أن هذه الحكاية جرت لعبد الملك بن
مروان وإلا فقد ذكر مؤلف الكتاب موت عمر بن أبي ربيعة ها هنا في خلافة
الوليد، أو قد يكون في اختلاف الروايات أن عمر مات في زمان عمر بن عبد
العزيز، والله أعلم بذلك» .
(6/316)
ثم دخلت سنة أربع/ وتسعين
فمن الحوادث فيها غزاة العباس [1] بن الوليد أرض الروم، فقيل: إنه فتح
أنطاكية. وغزا عبد العزيز بن الوليد، وغزا الوليد بن هشام فأوغلا، وغزا
يزيد بن أبي كبشة أرض سورية.
وفيها: [2] افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند.
وفيها: [3] غزا قتيبة شاش وفرغانة حتى بلغ خجندة، وافتتح قاشان [4] ،
وجاءه الجنود الذين وجههم إلى الشاش وقد فتحوها، فانصرف إلى مرو.
وفيها: [5] أخذ عثمان بن حيان أمير المدينة جماعة من الخوارج فقتلهم،
وبعث ببعضهم في جوامع إلى الحجاج، ونادى: برئت الذمة ممن آوى عراقيا.
وفيها: [6] استقضى الوليد سليمان بن حبيب
__________
[1] تاريخ الطبري: 6/ 483.
[2] تاريخ الطبري: 6/ 483.
[3] تاريخ الطبري: 6/ 483.
[4] في الأصل: «فاشان» . وفي الطبري «كاشان» . وما أوردناه من ت.
[5] تاريخ الطبري: 6/ 485.
[6] تاريخ الطبري: 6/ 491.
(6/317)
وفيها: دامت الزلازل أربعين يوما، وشمل
الهدم الأبنية الشاهقة، وتهدمت دور مدينة أنطاكية.
وفي هذه السنة قتل الحجاج سعيد بن جبير [1]
وكان سبب ذلك خروجه عليه مع من خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث، وكان
الحجاج قد جعل سعيد بن جبير على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى
رتبيل لقتاله، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج خلعه معه سعيد بن جبير، فلما
هزم عبد الرحمن وهرب إلى بلاد رتبيل هرب سعيد إلى أصفهان، فكتب الحجاج
إلى واليها: أن خذه وكان الوالي يتحرج، فأرسل إلى سعيد أن أخرج وتنح
عنا، فتنحى إلى أذربيجان، ثم خرج إلى مكة فأقام بها. وكان أناس ممن فعل
مثله [2] يستخفون فلا يخبرون بأسمائهم.
وكتب الحجاج إلى الوليد: إن أهل الشقاق والنفاق قد لجئوا إلى مكة، فإن
رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي فيهم. فكتب إلى خالد بن عبد الله القسري،
فأخذ عطاء، وسعيد بن جبير، ومجاهدًا، وطلق بن حبيب، وعمرو بن دينار.
فأرسل عطاء وعمرو بن/ دينار لأنهما مكيان، وبعث بالآخرين إلى الحجاج،
فمات طلق في الطريق، وحبس مجاهد حتى مات الحجاج، وقتل سعيد.
واختلفوا فيمن أقام الحج للناس في هذه السنة، [3] فقال أبو معشر: مسلمة
بن عبد الملك. وقال الواقدي: عبد العزيز بن الوليد، وكان العامل على
المدينة عثمان بن حيان، وعلى الكوفة زياد بن جرير، وعلى قضائها أبو بكر
بن موسى، وعلى البصرة الجراح بن عبد الله وعلى قضائها عبد الرحمن بن
أذينة، وعلى خراسان قتيبة، وعلى مصر قرة بن شريك، وكان العراق والمشرق
كله إلى الحجاج.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 487.
[2] في ت: «وكان أناس من حزبه» وفي الطبري 6/ 488: «من ضربه» .
[3] في الأصل: «فيمن حج بالناس في هذه السنة» وما أوردناه من ت والطبري
6/ 491.
وفي مروج الذهب 4/ 499: «حج بالناس مسلمة بْن عبد الملك» .
(6/318)
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
529- سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بْن عائذ بْن عمران بْن
مخزوم بن يقظة: [1]
وكل من كان منسوبا إلى عائذ بن عمران فهو عائذي، بالذال المعجمة. ومن
نسب إلى عمرو بن مخزوم فهو عائدي بالدال المهملة. وقد يقال عائذي
بالذال المعجمة نسبة إلى عائذ الله بن سعيد، منهم حمزة العائذي، وسعيد
بن حنظلة العائذي، وابن طلق العائذي. ويقال: عائذي نسبة إلى عائذ قريش،
منهم علي بن مسهر القاضي.
وقال أبو عبد الله الصوري: اجتمع في مخزوم عائد وعائذ، وهما أبناء عم.
فأما عائذ فهو ابن عمران بن مخزوم، وأما عائد فهو ابن عمرو بن مخزوم،
وإذا جاء عمران فولده عائذ بالياء نقطتين من تحتها والذال المعجمة.
وإذا جاء عمر، فولده عابد بالباء واحدة، والدال غير معجمة.
ويكنى سعيد أبا عبد الله، ويقال: أبا عبد الملك. ويقال: أبا محمد. وجده
حزن، لقي رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، ولد سعيد لسنتين خلتا
من خلافة عمر، وقال: أصلحت بين علي وعثمان، وكان سعيد أفقه أهل الحجاز
وأعبرهم للرؤيا.
أخبرنا ابن ناصر، قال: / أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الملك الأسدي،
قال:
أنبأنا أبو الحسين بن رزمة، قال: أخبرنا عمر بن محمد بن سيف، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه اليزيدي، قَالَ: حدثنا أحمد بن زهير،
قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، يقول:
لما مات العبادلة- عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن
عمرو، وعبد الله بن الزبير- صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي،
فكان فقيه أهل مكة
__________
[1] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 128، 5/ 88، وطبقات خليفة 244، والتاريخ
الكبير 3/ 1698، والمعارف 437، والجرح والتعديل 4/ 262، وحلية الأولياء
2/ 161، ووفيات الأعيان 2/ 375، وتاريخ الإسلام 4/ 4، 118، وسير أعلام
النبلاء 4/ 217، وتذكرة الحفاظ 1/ 54.
وقد ورد في الأصل: «سعيد بن المسيب بن حرب» .
(6/319)
عطاء ابن أبي رباح، وفقيه أهل اليمن طاووس،
وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه أهل البصرة الحسن، وفقيه
[أهل] [1] الشام المكحول، وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني، إلا
المدينة فإن الله تعالى خصها بقرشي، فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن
المسيب غير مدافع.
أخبرنا محمد بن طَاهِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو عمر ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن
معروف، قَالَ: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال:
أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا قدامة بن موسى الجمحي، قال: [2] كان
سعيد بن المسيب يفتي وَأَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه
وَسَلَّمَ أحياء.
قَالَ مُحَمَّد بْن سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هارون، والفضل
بن دكين، قالا: أخبرنا مسعر بن كدام، عن سعد بن إبراهيم، عن سعيد بن
المسيب، قال: [3] ما بقي أحد أعلم بكل قضاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر مني.
وقال الزبير بن بكار: [4] حدثني محمد بن الضحاك، عن عثمان الحزامي، عن
مالك بن أنس: أن سعيد بن المسيب ولد في زمان عمر بن الخطاب، وكان
احتلامه عند مقتل عثمان، وكان يقال لسعيد: رواية عمر بن الخطاب، وكان
يتتبع أقضية عمر بن الخطاب يتعلمها، وإن كان عبد الله بن عمر ليرسل
إليه يسأله/ عن القضاء من أقضية عمر فيخبره.
قال الزبير: وحدثني أبو مصعب الزهري، قال: حدثني المغيرة بن عبد الله
الأخنسي، عن رجل أهل البصرة، قال:
كان الحسن بن أبي الحسن لا يدع شيئا من فعله بقول أحد حتى يقول ان سعيد
بن المسيب قد قال خلافه فيأخذ به ويدع قوله.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] الخبر في ابن سعد 5/ 89.
[3] في الأصل: «عن سعيد بن المسيب، قال: قال سعيد» وحذفنا الزيادة.
والخبر في طبقات ابن سعد 5/ 89.
[4] في الأصل: «عن الزبير بن بكار قال» . وما أوردناه من ت.
(6/320)
قال: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا
حارثة بن أبي عمران أنه سمع محمد بن يحيى بن حيان يقول.
كان رأس من بالمدينة في دهره والمقدم عليهم في الفتوى سعيد بن المسيب،
ويقال: فقيه الفقهاء.
قال: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا ثور بن يزيد، عن مكحول، قال:
سعيد بن المسيب عالم العلماء.
قال: وأخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْمُلَيْحِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مهران، قال:
قدمت المدينة فسألت عن أفقه الفقهاء، فدفعت إلى سعيد بن المسيب [1] .
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي هشام بن
سعد، قال: سمعت الزهري يقول: وسأله سائل عن من أخذ سعيد بن المسيب
علمه، قال: عن زيد بن ثابت، وجالس سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن
عمر، ودخل على أزواج رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ عائشة وأم
سلمة، وكان قد سمع من عثمان وعلي وصهيب ومحمد بن مسلمة، وجل روايته
المسندة عن أبي هريرة، وكان زوج ابنته.
قال: وأخبرني معن بن عيسى، عن مالك، قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول:
ما كان في المدينة عالم إلا يأتيني بعلمه وأوتى بما عند سعيد بن
المسيب.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد المحسن بن محمد، قال: أخبرنا عبد
الملك بن عبد الله بن سكين الفقيه، قال: أخبرنا/ أبيض بن محمد بن أبيض،
قال، حدثنا عبد الرحمن النسائي، قال: حدثني أبو عبد الله الأسباطي،
قال: [2] لما نزل الماء في عين سعيد بن المسيب قيل له: اقدحها، قال:
فعلى من أفتحها.
__________
[1] في الأصل: تكرر هنا خبر مكحول: «سعيد بن المسيب عالم العلماء» .
[2] في ت: «قال المصنف» .
(6/321)
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: وابتلي سعيد بن
المسيب بالضرب. وذلك أن عبد الله بن الزبير ولى جابر بن الأسود الزهري
المدينة، فدعا الناس إلى بيعة ابن الزبير، فقال سعيد: لا حتى يجتمع
الناس، فضربه ستين سوطا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إليه يلومه ويقول:
ما لنا ولسعيد، دعه.
وكان عبد الملك قد خطب بنت سعيد لابنه الوليد، فأبى، فاحتال على سعيد
حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف.
أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أَحْمَد السمرقندي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو
بكر مُحَمَّد بْن هبة اللَّه الطبري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن
الحسين بْن الفضل قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن
درستويه، [1] قَالَ: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا زيد بن بشير
الحضرمي، قال:
حدثنا ضمام، [2] عن بعض أهل المدينة، قال:
لما كانت بيعة سليمان بن عبد الملك مع بيعة الوليد كره سعيد بن المسيب
أن يبايع بيعتين، فكتب صاحب المدينة إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن
سعيد بن المسيب كره أن يبايع لهما جميعا، فكتب عبد الملك إلى صاحب
المدينة. وما كان حاجتك إلى رفع هذا عن سعيد بن المسيب، ما كنا نخاف
منه، فأما إذا ظهر ذلك وانتشر في الناس فادعه إلى ما دخل فيه من دخل في
هذه البيعة، فإن أبى فاجلده مائة سوط، واحلق رأسه ولحيته، وألبسه ثيابا
من شعر، وقفه على الناس في سوق المسلمين لئلا يجترئ علينا غيره.
فلما علم بعض من حضر من قريش سألوا الوالي أن لا يعجل عليه حتى يخوفه
بالقتل فعسى أن يجيب، فأرسلوا مولى له كان في الحرس، قالوا: أذهب
فأخفه/ بالقتل، وأخبره أنه مقتول لعل ذلك يخيفه حتى يدخل فيما دخل فيه
الناس. فجاءه مولاه وهو يصلي فبكى المولى، فقال له سعيد: ما يبكيك؟
قال: يبكيني ما يراد بك، قد جاء كتاب فيك إن لم تبايع قتلت، فجئت لتطهر
وتلبس ثيابا طاهرة، وتفرغ من عهدك، قال:
ويحك قد وجدتني أصلي، فتراني كنت أصلي ولست بطاهر، وثيابي غير طاهرة،
وأما ما ذكرت من العهد فإني أضل ممن أرسلك إن كنت بت ليلة ولم أفرغ من
عهدي.
__________
[1] في الأصل: «ابن درشنونة» خطأ وما أوردناه من ت وكتب التراجم، وقد
تكرر هذا الخطأ أكثر من مرة.
[2] في الأصل: «صمصام» . وما أوردناه من ت، وهو الصحيح.
(6/322)
فانطلق، فلما أتى الوالي دعوه فأبى أن
يجيب، فأمره بالتجريد ولبس ثيابا من شعر، ثم جلده مائة سوط، وحلق رأسه
ولحيته، ووقف فقال: لو كنت أعلم أنه ليس شيء إلا هذا ما نزعت ثيابي
طائعا، ولا أجبت إلى ذلك.
قال ضمام: فبلغني أن هشام بن إسماعيل كان إذا خطب الناس يوم الجمعة
تحول إليه سعيد بن المسيب بوجهه ما دام يذكر الله عز وجل حتى إذا رفع
يذكر عبد الملك ويمدحه ويقول فيه ما يقول أعرض عنه سعيد بوجهه، فلما
فطن له هشام أمر حرسيا أن يخصب وجهه إذا تحول عنه، ففعل ذلك به، فقال
سعيد لهشام وأشار بيده إليه: هي ثلاث نحل. فما مر به إلا ثلاثة أشهر
حتى عزل هشام.
ومعنى نحل: حسب.
[أنبأنا الحسين بن عبد الوهاب، قَالَ: أخبرنا ابن المسلمة، قَالَ:] [1]
أخبرنا المخلص، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا الزبير بْن بكار، قَالَ: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال:
كان سعيد بن المسيب لا يقبل بوجهه على هشام بن إسماعيل إذا خطب يوم
الجمعة، فأمر به هشام بعض أعوانه يعطفه عليه إذا خطب فأهوى العون يعطفه
فأبى عليه فأخذه حتى عطفه، فصاح سعيد، يا هشام إنما [هي] [2] أربع بعد
أربع. فلما انصرف هشام قال: ويحكم جن سعيد، فسئل سعيد: أي شيء أربع بعد
أربع، سمعت في ذلك شيئا؟ قال: لا، / فقيل: ما أردت بقولك؟ قال: إن
جاريتي لما أردت المسجد، قالت لي: إني رأيت هذه الليلة رؤيا فلا تخرج
حتى أقصها عليك وتعبرها لي، رأيت كأن موسى غطس عبد الملك في البحر ثلاث
غطسات، فمات في الثالثة، فأولت أن عبد الملك مات، وذلك أن موسى بعث على
الجبارين بقتلهم، وعبد الملك جبار هذه الأمة. قال: فلم قلت أربع بعد
أربع؟ قال: مسافة مسير الرسول من دمشق إلى المدينة بالخبر. فمكثوا
ثماني ليال ثم جاء رسول بموت عبد الملك.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/323)
تزويج بنت سعيد
أخبرنا المحمدان ابن ناصر، وابن عبد الباقي، قالا: أخبرنا حمد بْنُ
أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أحمد بن عبد الحافظ قال:
أخبرنا عمر بن أحمد بن عثمان، قال: أخبرنا عبد الله بن سليمان بن
الأشعث، قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد
الله بن وهب، عن عطاء وابن خالد، عن ابن حرملة [1] ، عن ابن أبي وداعة،
قال:
كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياما، فلما جئته، قال: أين كنت؟ قلت:
توفيت أهلي فاشتغلت بها، قال: ألا أخبرتنا فشهدناها. قال: ثم أردت أن
أقوم فقال:
هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين
أو ثلاثة، فقال: أنا، فقلت: أو تفعل؟ نعم، ثم حمد الله وصلى على النبي
صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وزوجني على درهمين أو ثلاثة. قال: فقمت
وما أدري [ما أصنع] [2] من الفرح، فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر ممن آخذ؟
وممن أستدين؟ فصليت المغرب، وكنت وحدي، وقدمت عشائي أفطر خبزا وزيتا،
فإذا الباب يقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، قال: فأفكرت في كل إنسان
اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته
والمسجد، فقمت فخرجت، فإذا سعيد بن المسيب، فإنه قد بدا له، فقلت: يا
أبا محمد ألا أرسلت/ إلي فآتيك، قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما
تأمر؟ قال:
إنك كنت رجلا عزبا تزوجت فكرهت أن أبيتك الليلة وحدك، وهذه امرأتك
[قال:] [3] فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثمّ أخذ بيدها فدفعها في
الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب ثمّ
تقدمتها إلى القصعة التي فيها الزيت والخبز، فوضعتها [4] في ظل السراج
لكيلا تراه، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران
__________
[1] في الأصل: «عن عطاف بن خالد، عن ابن حرملة، عن أبي وداعة» خطأ، وما
أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل وت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «فوضعت» . وما أوردناه من ت.
(6/324)
فجاءوني، فقالوا: ما شأنك؟ قلت: ويحكم،
زوجني سعيد بن المسيب بنته اليوم وقد جاء بها على غفلة، فقالوا: سعيد
بن المسيب زوجك؟ قلت: نعم. وهو ذا هي في الدار. قال: ونزلوا هم إليها،
وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى
ثلاثة أيام.
قال: فأقمت ثلاثا ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وإذا هي أحفظ
الناس لكتاب اللَّه عز وجل، وأعلمهم بسنة رسوله، وأعرفهم بحق زوج. قال:
فمكثت شهرا لا يأتيني سعيد ولا آتيه، فلما كان قرب الشهر أتيت سعيدا
وهو في حلقته، فسلمت عليه، فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تفرق [1] أهل
المجلس، فلم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خيرا يا أبا محمد
على ما يحب الصديق ويكره العدو، فقال: إن رابك شيء فالعصا. فانصرفت إلى
منزلي، فوجه إلي بعشرين ألف درهم. [1] قال عبد الله بن سليمان: وكانت
بنت سعيد بن المسيب خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه
العهد، فأبى سعيد أن يزوجه، فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه
مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف.
قال عبد الله: وابن أبي وداعة هو كثير بن المطلب بن أبي وداعة.
قال مؤلف الكتاب: [2] وكان لكثير هذا ولد يقال له كثير أيضا. روى
الحديث، وكان شاعرا ولم يكن له عقب. فأما أبو/ وداعة فاسمه الحارث بن
صبيرة بن سعيد ابن سعد بن سهم. كان قد شهد بدرا مع المشركين فأسر،
فَقَالَ رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ: «تمسكوا به فإن له
ابنا كيسا بمكة. فخرج المطلب ففداه بأربعة آلاف درهم. وهو أول أسير
فدي، فشخص الناس بعده ففدوا أسراهم، وكان أبوه صبيرة قد جاز الأربعين
سنة بقليل ثم مات.
أنبأنا الحسين بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا ابن المسلمة، قال: أخبرنا
__________
[1] في الأصل: «حتى تفوض» وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «قال المصنف» .
(6/325)
المخلص، قال: حدثنا سُلَيْمَانَ بْنِ
دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي
عَلِي بْن صَالِح، عَن عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير:
أن الناس مكثوا زمانا ومن جاز من قريش في السن أربعين سنة عمر، فجازها
صبيرة بن سعيد بيسير، ثم مات فجأة، ففزع لذلك الناس، فناحت عليه الجن،
فقالت:
من يأمن الحدثان بعد ... صبيرة القرشي ماتا
عجلت منيته المشيب ... فكان منيته افتلاتا
وفي رواية أن شاعرا قال:
حجاج بيت الله إن ... صبيرة القرشي ماتا
سبقت منيته المشيب ... كأن ميتته افتلاتا
فتزودوا لا تهلكوا من ... دون أهلكم خفاتا
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: [1] ثم إن أبا وداعة أسلم يوم الفتح وبقي
إلى خلافة عمر، وأسلم ابنه المطلب يوم الفتح أيضا.
توفي سعيد بالمدينة في هذه السنة وهو ابن أربع وثمانين سنة.
530- علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أبو الحسن: [2]
أمه أم ولد اسمها غزالة. روى عن أبيه، وابن عباس، وجابر بن عبد الله،
وصفية، وأم سلمة، وشهد مع أبيه كربلاء وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكان
مريضا/ حينئذ ملقى على الفراش، فلما قتل الحسين قال شمر: [3] اقتلوا
هذا، فقال رجل من أصحابه: سبحان الله، أتقتلون غلاما حدثا مريضا لم
يقاتل، وجاء عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: لا تعرضوا للنسوة ولا لهذا
المريض، ثم أدخل على ابن زياد، فهم
__________
[1] في ت: «قال المصنف» .
[2] طبقات ابن سعد 5/ 156، ووفيات الأعيان 1/ 320، واليعقوبي 3/ 45،
وصفة الصفوة 2/ 52، وذيل المذيل 88، وحلية الأولياء 3/ 133، وابن
الوردي 1/ 180، ونزهة الجليس 2/ 15.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 5/ 157.
(6/326)
بقتله ثم تركه وبعثه إلى يزيد، فرده إلى
المدينة، فالعقب من ولد الحسين لعلي من هذا، وأما الأكبر المقتول فلا
عقب له.
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، عن عبد الغفار بن القاسم، قال: كان علي
بن الحسين خارجا من المسجد، فلقيه رجل فسبه، فثارت إليه العبيد
والموالي، فقال علي بن الحسين: مهلا عن الرجل، ثم أقبل عليه، فقال: ما
ستر الله عليك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل،
فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك
يقول: أشهد أنك من أولاد الرسل. أنبأنا البارع بإسناد له عن محمد بن
علي بن الحسين، عن أبيه، قال: قدم المدينة قوم من أهل العراق فجلسوا
إلي ثم ذكروا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فنسبوهما، ثم ابتركوا في
عثمان ابتراكا [1] ، فقلت لهم: أخبروني، أنتم من المهاجرين الأولين
الذين قال الله فيهم: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ
اللَّهِ وَرِضْواناً [2] وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ 59: 8 [3] قالوا:
لسنا منهم قال: فأنتم من الذين قال الله عز وجل فيهم: وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ
وَمن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 59: 9 [4]
قالوا: لسنا منهم. قال لهم: أما أنتم فقد تبرأتم من الفريقين أن تكونوا
منهم، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله عز وجل
فيهم: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ
فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ
رَحِيمٌ 59: 10 [5] قوموا عني، لا قرب الله قربكم فأنتم تستترون
بالإسلام، ولستم من أهله. [6]
__________
[1] أي: شتموه وتنقصوه.
[2] «قال الله فيهم: للفقراء» : ساقط من ت.
[3] سورة الحشر، الآية: 8.
[4] سورة الحشر، الآية: 9.
[5] سورة الحشر، الآية: 10.
[6] في الأصل: «مستترون» . وما أوردناه من ت.
(6/327)
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا
علي بن محمد الأنباري، قال:
أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو بكر القرشي، قال: حدّثني محمد بن أبي معشر، قال:
حدثني ابن أبي نوح الأنصاري، قال: وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين
رضي الله عنهما وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله النار،
يا ابن رسول الله النار، فما رفع رأسه حتى أطفئت، فقيل له: ما الذي
ألهاك عنها؟ قال: ألهتني النار الأخرى. أَخْبَرَنَا [1] مُحَمَّد بْن
عَبْد الباقي بإسناد لَهُ عن عبد الله بن أبي سليمان، قال: كان علي بن
الحسين رضي الله عنهما لا تجاوز يده فخذه، ولا يخطر بيده، وكان إذا قام
إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: مالك؟ فقال: تدرون بين يدي من أقوم
ومن أناجي. أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناد له عن أبي حمزة الثمالي،
قال: كان علي بن الحسين رضي الله عنهما يحمل جراب الخبز على ظهره
بالليل فيتصدق به ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل. أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد القزاز [بإسناده] [2] عن جعفر بن محمد، قال: كان
علي بن الحسين رضي الله عنهما لا يحب أن يعينه على طهوره أحد، كان
يستقي الماء لطهوره ويخمره قبل أن ينام، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك
ثم يتوضأ ثم يأخذ في صلاته، وكان لا يدع صلاة الليل في السفر والحضر،
وربما صلاها على بعيره، وكان يقول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان
بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى
خلقه، وعجبت كل العجب لمن ينكر النشأة الأخرى وهو يرى الأولى، ولمن عمل
لدار الفناء وترك دار البقاء.
وكان إذا أتاه سائل رحب به وقال: مرحبا بمن يحمل زادي إلى الآخرة.
__________
[1] هذا الخبر ساقط من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/328)
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر بإسناد لَهُ
عَنْ [1] طاووس، قال: / رأيت علي بن الحسين رضي الله عنهما ساجدا،
فقلت: رجل صالح من أهل بيت طيب، لأسمعن ما يقول:
فأصغيت إليه فسمعته يقول: عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك،
فقيرك بفنائك. فو الله ما دعوت بها في كرب إلا كشف عني. أخبرنا عبد
الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا ابن عليّ الطناجيري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصِ بْنِ
شَاهِينَ، قَالَ: حدثنا محمد بن الحَسَن، [2] قَالَ: حدثنا أحمد بن
الحارث، قال: حدثنا جدي قال: حدثنا الهيثم بن عدي، قال: حدثنا جَعْفَرِ
بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ علي بن الحسين رضي الله
عنهما: سألت الله عز وجل في دبر كل صلاة [سنة] [3] أن يعلمني اسمه
الأعظم. قال:
فو الله إني لجالس قد صليت ركعتي الفجر إذ ملكتني عيناي، فإذا رجل جالس
بين يدي قال: قد استجيب لك، فقل: اللَّهمّ إني أسألك باسمك الله الله
الله الله الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم. ثم قال لي: أفهمت
أم أعيد عليك، قلت: أعد علي، ففعل قال علي: فما دعوت بها في شيء قط إلا
رأيته، وإني لأرجو أن يدخر الله لي عنده خيرا. أخبرنا عبد الوهاب، قال:
أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: حدثنا أبو محمد الجوهري، قال:
حدثنا ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا [أَبُو بكر] [4] بْن الأنباري،
قَالَ: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال: حدثنا علي بن عبد الله،
قال: حدثنا عبد الله بن هارون بن أبي عيسى، عن أبيه، عن حاتم بن أبي
صفيرة [5] ، عن عمرو بن دينار، قال: دخل علي بن الحسين رضي الله عنهما
على أسامة بن زيد في مرضه الّذي مات
__________
[1] «أخبرنا محمد بن ناصر بإسناد له» : ساقط من ت، ومكانه: «وقال
طاووس» .
[2] في الأصل: «محمد بن الحسين» وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «حاتم بن أبي سفرة» .
(6/329)
فيه وهو يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ قال: دين
علي، قال: كم مبلغه؟ قال: خمسة عشر ألف دينار- أو بضعة عشر ألف دينار
[1]- قال: فهو علي. وقال شيبة بن نعامة الضبي: كان علي بن الحسين رضي
الله عنهما يبخل، فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت. وفي رواية: أنه
كان إذا أقرض قرضا لم يستعده، وإذا عار ثوبا لم يرتجعه [2] ، وإذا وعد
شيئا لم يأكل ولم يشرب حتى يفي بوعده، وإذا مشى في حاجة فوقفت قضاها من
ماله. وكان يحج ويغزو ولا يضرب راحلته. وكان يصلي كل يوم وليلة ألف
ركعة. وقال الزهري: لم أر هاشميا أفضل منه ولا أفقه منه.
أنبأنا [3] محمد بن أبي منصور الحافظ، قال: أخبرنا أبو الفضل جعفر بن
يحيى بن إبراهيم المكي، قال: أخبرنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن
صخر، قال: أخبرني علي بن أحمد بن عبد الرحمن الأصبهاني، قال: حدثنا
أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، قال: سمعت الزهري
يقول:
وجه عبد الملك بن مروان رسلا في حمل علي بن الحسين فوجدوه بمكة، فحملوه
مكبلا بالحديد ومنع الناس أن يدخلوا عليه.
قال ابن شهاب: فأذنت عليه، فصرفني البوابون من عند عبد الملك فأذنوا
لي، فدخلت عليه الحبس وجعلت أتوجع له وأقول له: يعز عليّ يا ابن رسول
الله أن أراك على مثل هذه الحالة، فلما رأى شدة حزني وبكائي، قال: يا
زهري، لا تجزع إن هذا الحديد لا يؤذيني، ثم نزعه من رجله ووضعه بين
يدي، وقال: لست أجوز معهم ذات عرق.
قال: ثم مضوا به محمولا، فما لبثنا بعد ذلك إلا أربعة أيام حتى [أتت]
[4] رسل عبد الملك يسألون عن علي بن الحسين وقد فقدوه، فقلت كيف كان
أمره؟ قالوا: لما
__________
[1] «أو بضعة عشر ألف دينار» : سقط من ت.
[2] في الأصل: «يرجعه» وما أوردناه من ت.
[3] من هنا ساقط من ت الرواية كلها.
[4] ما بين المعقوفتين: أضفناها لاستقامة المعنى.
(6/330)
نزلنا ذات عرق فبتنا بها ليلتنا تلك فلما
أصبحنا وجدنا حديده وفقدناه.
قال ابن شهاب: فقدمت بعد ذلك بأسبوع على عبد الملك وهو بالشام فسألني
عن علي بن الحسين، فقلت: أنت أعلم به مني، فقال: إنه قدم علي في اليوم
الذي فقده فيه أصحابي بذات عرق فدخل علي من هذا الباب فقال: ما أنا
وأنت، فقلت:
أريد أن تقيم عندي [1] ... قال علماء السير: حج هشام بن عبد الملك ولم
يل الخلافة بعد، فطاف بالبيت فجهد أن يصل إلى الحجر فيستلمه، فلم يقدر
عليه، فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس، فأقبل علي بن الحسين
فطاف بالبيت، فلما بلغ إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلمه، / فقال رجل
من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟
فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق
حاضرا، فقال الفرزدق: ولكني أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس؟،
فقال:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمى إلى ذروة العز [2] التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم [3]
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه ... لخر يلثم منه الكف والقدم [4]
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
من جده دان فضل الأنبياء له. ... وفضل أمته دانت له الأمم
__________
[1] إلى هنا انتهى السقط الّذي بدأ من أول الرواية: «أنبأنا محمد بن
أبي منصور الحافظ، قال: أخبرنا أبو الفضل ... » . وهنا جاء في الأصل
بعدها: «قال الناقل: وجدت هذه الحكاية في الأصل: إلى هاهنا لا غير،
ووجدت مكتوبا في الأصل هذا: ولم أجد في الأصل تمامها» .
[2] في الأغاني: «ذروة الدين» .
[3] الشطر الثاني من البيت في الأغاني: «عنها الأكف وعن إدراكها القدم»
.
[4] هذا البيت غير موجود في الأغاني، والبداية، وت.
(6/331)
ينشق نور الهدى عن نور غرته ... كالشمس
ينجاب عن إشراقها القتم [1]
مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره [2] والخيم والشيم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
الله شرفه قدما وفضله [3] ... جرى بذاك له في لوحه القلم
وليس قولك: من هذا؟ بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما العدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والشيم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا ... رحب الفناء أريب حين يعتزم
عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنه الغيابة والإملاق والعدم
من معشر حبهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطا من أكفهم ... سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
يستدفع السوء والبلوى بحبهم ... ويسترب به الإحسان والنعم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل بدء ومختوم به الكلم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم ... خيم كريم وأيد بالندى هضم
أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأوّليّة هذا أو له نعم
ما قال لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاءه نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا ... الدين من بيت هذا ناله الأمم
قال: فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بعسفان- بين مكة والمدينة. وبلغ ذلك
علي بن الحسين، فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، وقال: أعذر أبا
فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به، فردها الفرزدق وقال: يا
ابن رسول الله ما قلت
__________
[1] في البداية: «الغيم» وفي الأغاني: «الظلم» .
[2] في الأغاني 21/ 379: «طابت مغارسه» .
[3] في الأغاني: «وعظمه» .
(6/332)
الذي قلت إلا غضبا للَّه عز وجل ولرسوله،
وما كنت لأزرأ عليه شيئا، فقال: شكر الله لك، إلا أنا أهل البيت إذا
أنفذنا أمرا لم نعد فيه، فقبلها، وجعل يهجو هشاما وهو في الحبس، فكان
مما هجاه به قوله:
أتحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد ... وعين له حولاء باد عيوبها
توفي علي بن الحسين بالمدينة في هذه السنة، ودفن بالبقيع، وهو ابن ثمان
وخمسين سنة.
ومن العجائب: ثلاثة كانوا في زمان واحد، وهم بنو/ أعمام، كل واحد منهم
اسمه عليّ، ولهم ثلاثة أولاد كل واحد اسمه محمد، والآباء والأبناء
علماء أشراف:
علي بن الحسين بن علي، وعليّ بن عبد الله بن عباس، وعلي بن عبد الله بن
جعفر.
531- عروة بن الزبير بن العوام، أبو عَبْد اللَّهِ: [1]
أمه أسماء بنت أبي بكر. روى عن أبيه، وعن زيد بن ثابت، وأسامة، وأبي
أيوب، والنعمان بن بشير، وأبي هريرة، ومعاوية، وابن عمر، وابن عمرو،
وابن عباس في آخرين، وكان فقيها فاضلا يسرد الصوم، مات صائما.
أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أَحْمَد السمرقندي، قَالَ: أَخْبَرَنَا
مُحَمَّد بْن هبة اللَّه الطبري، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن الحسين
بْن الفضل، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه
[2] ، قَالَ: حَدَّثَنَا يعقوب بْن سفيان، قال: حدثني سعيد بن أسد،
قال: حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب، قال:
كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه، فيدخل الناس فيأكلون
ويحملون، وكان إذا دخله ردد هذه الآية فيه حتى يخرج منه: وَلَوْلا إِذْ
دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ 18: 39 [3] .
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 132، وصفة الصفوة 2/ 47، وحلية الأولياء 2/ 176،
والتاريخ الكبير 4/ 1/ 33، والجرح والتعديل 6/ 395.
[2] في الأصل: «درشنونة» خطأ، وما أوردناه من ت.
[3] سورة: الكهف، الآية: 39.
(6/333)
وكان عروة يقرأ ربع القرآن كل يوم نظرا في
المصحف، ويقوم به الليل فما تركه إلا ليلة قطعت رجله، ثم عاود من
الليلة المقبلة.
قال يعقوب: وحدثني العباس بن مزيد، قال: أخبرني أبي قال: قال أبو عمرو
يعني الأوزاعي:
خرجت في بطن قدمه بثرة- يعني عروة- فترامى به ذلك إلى أن نشرت ساقه،
فقال لما نشرت: اللَّهمّ إنك تعلم أني لم أمش بها إلى سوء قط.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي بإسناده عَنْ هشام بن عروه،
قال: خرج أبي إلى الوليد بن عبد الملك، فوقعت في رجله الأكلة، فقال له
الوليد، يا أبا عبد الله، أرى لك قطعها. قال: فقطعت وإنه لصائم، فما
تضور وجهه. قال: ودخل ابن له- أكبر ولده- اصطبله، فرفسته دابة فقتلته،
فما سمع من أبي في ذلك شيء حتى قدم المدينة، فقال:
اللَّهمّ إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدا وأبقيت لي ثلاثة، فلك
الحمد. وكان لي بنون أربعة/ فأخذت واحدا وبقيت لي ثلاثة فلك الحمد،
وأيم الله لئن أخذت لقد أبقيت ولئن ابتليت لطالما عافيت.
توفي عروة بناحية الفرع في هذه السنة، ودفن هناك. وقيل: توفي في السنة
التي قبلها.
532-[أبو بكر] [1] بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة: [2]
ولد في خلافة عمر، وليس له اسم. وروى عن أبي مسعود الأنصاري، وأبي
هريرة، وعائشة، وأم سلمة، وكان يقال له: راهب قريش لكثرة صلاته، وكان
فقيها جوادا، أودع مالا، فذهب فغرمه حفظا لعرضه، وذهب بصره، فذهب يوما
إلى مغتسله فمات فجأه في هذه السنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 153.
(6/334)
ثم دخلت سنة خمس
وتسعين
فمن الحوادث فيها غزوة العباس بن الوليد بن عبد الملك أرض الروم، ففتح
الله على يديه ثلاثة حصون، وفتح قنسرين.
وفيها: قتل الوضاحي بأرض الروم وقتل معه نحو من ألفي رجل.
وفيها: انصرف موسى بن نصير إلى إفريقية من الأندلس.
وفيها: غزا قتيبة الشاش، فلما وصل إليها جاءه موت الحجاج، فقفل راجعا
إلى مرو، فجاءه كتاب من الوليد يقول فيه: عرف أمير المؤمنين بلاءك
وجهادك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك ما
تحب، فلا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك حتّى كأني أنظر إلى بلادك، والثغر
الذي أنت به.
- وفي هذه السنة مات الحجاج، فاستخلف على الصلاة ابنه عبد الرحمن وقيل:
بل استخلف [يزيد بن أبي كبشة على الصلاة، و] [1] على الخراج يزيد بن
أبي مسلم، وأقرهما الوليد، وأقر عمال الحجاج كلهم.
وفي هذه السنة ولد المنصور بن عبد الله بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس رضي الله عنه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت، وفي الأصل: «بن أبي مسلم» .
(6/335)
وفي هذه السنة حج بالناس بشر بن الوليد بن
عبد الملك، وكان العمال فيها العمال/ في السنة التي قبلها إلا ما كان
من الكوفة والبصرة، فإنها ضمت إلى من ذكرنا بعد موت الحجاج.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
533- الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل، وهو عتبة بن مسعود بن عامر
بن معتب بن مالك بن كعب بن عوف بن سعد بن عوف بن ثقيف، من الأحلاف: [1]
وأمه الفارعة بنت همام، وكانت عند المغيرة بن شعبة، فولدت له بنتا.
وكان الحجاج أخفش، دقيق الصوت فصيحا حسن الحفظ للقرآن [2] ، إلا أنه قد
أخذ عليه فيه لحن.
قال ليحيى بن يعمر: أتجدني ألحن، قال: الأمير أفصح من ذلك، قال: عزمت
عليك لتخبرني، قال: نعم: وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ
9: 24 [3] بالرفع وأحب منصوب، قال: لا تسمعني ألحن بعدها فنفاه إلى
خراسان.
وكان الحجاج أول أيامه معلما، وكان يقرأ في كل ليلة ربع القرآن. وسمع
الحديث وأسنده، وليس بأهل أن يروى عنه.
وكان الحجاج قد أذل أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأهل المدينة خاصة، واحتج بأنهم لم ينصروا عثمان، وقتل الخلق الكثير
يحتج عليهم بأنهم خرجوا على عبد الملك.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ الْكَرُوخِيُّ، [قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
عامر الأزدي، وأبو بكر الكروخي،
__________
[1] مروج الذهب 3/ 132 وما بعدها، ووفيات الأعيان 1/ 123، وتهذيب
التهذيب 2/ 210، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 4/ 48، والبدء والتاريخ 6/ 28،
وتقريب التهذيب 1/ 154، والبداية والنهاية 5/ 131، والجرح والتعديل 3/
168، والتاريخ الكبير 1/ 2/ 373، وتاريخ الطبري 6/ 493، وراجع الفهرس.
[2] في الأصل: حسن اللفظ» وما أوردناه من ت.
[3] سورة: التوبة، الآية: 24.
(6/336)
قالا: أخبرنا عبد الجبار بن محمد بن
الجراح، عن أبي العباس بن محبوب] [1] ، عن الترمذي، عن هشام بن حسان،
قال:
أحصينا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف رجل.
وأخبرنا عبد الوهاب بإسناد له عن الأصمعي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن
عباد بن كثير، عن قحذم، قال:
وجد في سجن الحجاج ثلاثة وثلاثين ألفا ما يجب على أحد منهم قطع ولا قتل
ولا صلب، ووجد [2] فيهم أعرابي رئي جالسا يبول عند ربض المدينة- يعني
واسط- فخلى عنه، فانصرف وهو يقول:
/ إذا نحن جاوزنا مدينة واسط ... خرينا وصلينا بغير حساب
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ
الْبُسْرِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَني أَبِي،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْن مُحَمَّد الْكَلْبِيُّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ
الْحَكَمِ، قَالَ: [3] دَخَلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَلَمَّا وَقَفَ سَلَّمَ
عَلَيْهِ، فَقَالَ له الحجاج: إيه إِيهِ يَا أَنَسُ، يَوْمٌ لَكَ مَعَ
عَلِيٍّ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ
ابْنِ الأَشْعَثِ، وَاللَّهِ لأَسْتَأْصِلَنَّكَ كَمَا تُسْتَأْصَلُ
الشَّأْفَةُ [4] ، وَلأدَمْغَنَّكَ كَمَا تُدْمَغُ الصَّمْغَةُ،
فَقَالَ أَنَسٌ: إِيَّايَ- يَعْنِي الأَمِيرَ- أَصْلَحَهُ اللَّهُ؟
قَالَ: إِيَّاكَ صَكَّ [5] اللَّهُ سَمْعَكَ، قَالَ أَنَسٌ: إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 وَاللَّهِ لَوْلا
الصِّبْيَةُ الصِّغَارُ مَا بَالَيْتُ أَيَّ قَتْلَةٍ قُتِلْتُ، وَلا
أَيَّ مِيتَةٍ مِتُّ.
ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدَهُ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فلما قرأ كتابه
__________
[1] ما بين المعقوفتين: في الأصل «أخبرنا أبو الفتح الكروخي بإسناده
إلى الترمذي» وأوردناه من ت.
[2] في ت: «وأحد فيهم» .
[3] الخبر في البداية والنهاية 9/ 149.
[4] في ت «الناقة» وفي البداية: «الشاة» .
[5] في الأصل: «سد» ، وما أوردناه من ت والبداية والنهاية، وفي التهذيب
«أصم الله سمعك» .
(6/337)
اسْتَشَاطَ غَضَبًا وَصَفَّقَ عَجَبًا
وَتَعَاظَمَ ذَلِكَ مِنَ الْحَجَّاجِ. وَكَانَ كِتَابُ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَمَّا
بَعْدُ، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِي هُجْرًا، وَأَسْمَعَنِي
نُكْرًا، وَلَمْ أَكُنْ لَهُ مِنْكَ وَمِنْهُ أَهْلا، فَخَذِّلْنِي
عَلَى يَدَيْهِ وَأَعِنِّي عَلَيْهِ فَإِنِّي أَمُتُّ إِلَيْكَ
بِخِدْمَتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَصُحْبَتِي إِيَّاهُ، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ.
فَبَعَثَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
الْمُهَاجِرِ، وَكَانَ مُصَافِيًا لِلْحَجَّاجِ، فَقَالَ:
دُونَكَ كِتَابَيَّ هَذَيْنِ فَخُذْهُمَا وَارْكَبِ الْبَرِيدَ إِلَى
الْعِرَاقِ، فَابْدَأْ بِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَادْفَعْ إِلَيْهِ
كِتَابَهُ وَأَبْلِغْهُ مِنِّيَ السَّلامَ، وَقُلْ لَهُ: يَا أَبَا
حَمْزَةَ، قَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْمَلْعُونِ الْحَجَّاجِ كِتَابًا
إِذَا قَرَأَهُ كَانَ أَطْوَعَ لَكَ مِنْ أَمَتِكَ.
وَكَانَ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى أَنَسٍ: بِسْمِ الله الرحمن
الرحيم، من عبد الملك بن مَرْوَانَ، أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ قَرَأْتُ
كِتَابَكَ وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ مِنْ شِكَايَتِكَ/ الْحَجَّاجَ،
وَمَا سَلَّطْتُهُ عَلَيْكَ، وَلا أَمَرْتُهُ بِالإِسَاءَةِ إِلَيْكَ،
فَإِنْ عَادَ لِمِثْلِهَا فَاكْتُبْ إِلَيَّ بِذَلِكَ أُنْزِلْ بِهِ
عُقُوبَتِي، وَتَحْسُنْ لَكَ مَعُونَتِي، وَالسَّلامُ.
فَلَمَّا قَرَأَ أَنَسٌ كِتَابَهُ قَالَ: جَزَى اللَّهُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَنِّي خَيْرًا، وَعَافَاهُ، فَهَذَا كَانَ ظَنِّي بِه
وَالرَّجَاءَ مِنْهَ. فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ،
الْحَجَّاجُ عَامِلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ بِكَ عَنْهُ
غِنًى، وَلا بِأَهْلِ بَيْتِكَ، وَلَوْ جَعَلَ لَكَ فِي جَامِعَةٍ
ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْكَ قَدْرَ أَنْ يَضُرَّ وَيَنْفَعَ، فَقَارِبْهُ
وَدَارَهُ، قَالَ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ خَرَجَ
إِسْمَاعِيلُ مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا
رَآهُ قَالَ: مَرْحَبًا بِرَجُلٍ أُحِبُّهُ، وَقَدْ كُنْتُ أُحِبُّ
لِقَاءَهُ، قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ كُنْتُ أُحِبُّ لِقَاءَكَ
فِي غَيْرِ مَا أَتَيْتُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا أَتَيْتَنِي بِهِ؟
قَالَ: فَارَقْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ
عَلَيْكَ غَضَبًا وَمِنْكَ بُعْدًا، فَاسْتَوَى جَالِسًا مَرْعُوبًا،
فَرَمَى إِلَيْهِ بِالطُّومَارِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِيهِ مَرَّةً
وَيَعْرَقُ، وَيَنْظُرُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ أُخْرَى، فَلَمَّا فَهِمَهُ
قَالَ: مُرْ بِنَا إِلَى أَبِي حَمْزَةَ نَعْتَذِرُ إِلَيْهِ
وَنَتَرَضَّاهُ، قَالَ: لا تَعْجَلْ، قَالَ: كَيْفَ لا أَعْجَلُ وَقَدْ
أَتَيْتَنِي بِآبِدَةٍ، ثُمَّ رَمَى الطُّومَار إِلَيْهِ فَإِذَا
فِيهِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ عبد الملك بن مَرْوَانَ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى
(6/338)
الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ. أَمَّا بَعْدُ،
فَإِنَّكَ عَبْدٌ طَمَتْ بِكَ الأُمُورُ، فَسَمَوْتَ فِيهَا وَعَدَوْتَ
طَوْرَكَ وَجَاوَزْتَ قَدْرَكَ، وَأَرَدْتَ أَنْ تَرُوزَنِي، فَإِنْ
سَوَّغْتُكَهَا مَضَيْتَ قُدُمًا، وَإِنْ [لَمْ] رَجَعْتَ الْقَهْقَرَى
فَلَعَنَكَ اللَّهُ عَبْدًا أَخْفَشَ الْعَيْنَيْنِ، مَنْقُوصَ
الْجَاعِرَتَيْنِ، أَنَسِيتَ مَكَاسِبَ آبَائِكَ بِالطَّائِفِ،
وَحَفْرَهُمُ الآبَارَ بِأَيْدِيهِمْ، وَنَقْلَهُمُ الصُّخُورَ عَلَى
ظُهُورِهِمْ فِي الْمَنَاهِلِ، يَا ابْنَ الْمُسْتَفْرِمَةِ بِعُجْمِ
الزَّبِيبِ، وَاللَّهِ لأَغْمِزَنَّكَ غَمْزَةَ اللَّيْثِ الثَّعْلَبَ،
وَالصَّقْرِ الأَرْنَبَ، وَثِبْتَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أصحاب رسول الله
صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَلَمْ تَقْبَلْ لَهُ
إِحْسَانَهُ، وَاسْتِخْفَافًا مِنْكَ بِالْعَهْدِ، وَاللَّهِ لَوْ
أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى رأت رجلا خدم عُزَيْرِ بْنَ عُزْرَةَ
وَعِيسَى بْنَ مَرْيَمَ لَعَظَّمَتْهُ وَشَرَّفَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ،
فَكَيْفَ وَهَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَدَمَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ يُطْلِعُهُ
عَلَى سِرِّهِ، وَيُشَاوِرُهُ فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا
بِقَيَّةٌ مِنْ بَقَايَا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَكُنْ أَطْوَعَ
لَهُ مِنْ خُفِّهِ وَنَعْلِهِ، وَإِلا أَتَاكَ مني سهم مثكل بحتف قاض،
ولِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 6: 67 [1] .
فَأَتَاهُ فَتَرَضَّاهُ. وَمَا عُرِفَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ مَنْقَبَةٌ
أَكْرَمُ مِنْهَا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ
عَلِيٍّ النَّرْسِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو عبد الله محمد بن علي بن
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَسَنِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ
جَعْفَرِ بْنِ حَاجِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ
الْكِنَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمَعْمَرِ مُحَمَّدُ بْنُ
مُسْلِمِ بْنِ عُثْمَانَ الأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي محمد بن
سَهْلُ بْنُ عُمَيْرٍ الْمَازِنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قال:
عرض الحجاج بْنُ يُوسُفَ خَيْلا لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَنَسِ بن مالك
خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ
لَهُ: أَيْنَ هَذِهِ مِنَ الَّتِي كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَنَسٌ: تِلْكَ وَاللَّهِ كَمَا
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ وَمن رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ به عَدُوَّ الله
وَعَدُوَّكُمْ 8: 60 [2] وَهَذِهِ هُيِّئَتْ لِلرِّيَاءِ
وَالسُّمْعَةِ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: لَوْلا كِتَابُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَتَانِي لَفَعَلْتُ
وَفَعَلْتُ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ: تاللَّه، لَمْ تَقْدِرْ عَلَى
ذَلِكَ، عَلَّمَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كلمات أتحرز بهن
من كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، وَمِنْ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، قَالَ:
فَجَثَا الْحَجَّاجُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ قَالَ: عَلِّمْنِيهِنَّ
يَا عَمُّ، قَالَ: تاللَّه لَسْتَ لَهُنَّ
__________
[1] سورة الأنعام، الآية: 67.
[2] سورة: الأنفال، الآية: 60.
(6/339)
بِأَهْلٍ. قَالَ: [1] فَدَسَّ إِلَيْهِ
وَإِلَى وَلَدِهِ وَإِلَى أَهْلِهِ، فَأَبَوْا أَنْ يُعَلِّمُوهُ.
قَالَ أَبُو الْمَعْمَرِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ: قَالَ أَبِي،
قَالَ أَنَسٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «هِيَ بِسْمِ اللَّهِ [عَلَى نَفْسِي وَدِينِي، بِسْمِ
اللَّهِ] [2] عَلَى أَهْلِي وَمَالِي، بِسْمِ اللَّهِ عَلَى مَا
أَعْطَانِي/ رَبِّي، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ
أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا،
أَجِرْنِي مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [3] ، وَمِنْ كُلِّ جَبَّارٍ
عَنِيدٍ، إِنَّ وَلِيَّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ، وَهُوَ
يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ 9: 129 [4] . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ: وَحَدَّثَنِي
أَبِي، قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ [فِيهِ] [5] الْحَسَنُ بْنُ أَبِي
الحسن البصري جالسا إذ مَرَّ بِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ عَلَى
بِرْذَوْنٍ لَهُ، فَنَزَلَ فَشَقَّ النَّاسَ حَتَّى قَعَدَ إِلَى جانب
الحسن، وجعل الحسن يُحَدِّثُ النَّاسَ وَيُهْوِي بِيَدِهِ إِلَى
بَغْلَةٍ كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقِيَامَ، فَلَمَّا رَأَى الْحَجَّاجُ
مَا يَصْنَعُ قَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، لَعَلَّكَ تَفْعَلُ هَذَا مِنْ
أَجْلِي، قَالَ: لا، وَلَكِنْ يَمُرُّ بِنَا الضَّعِيفُ وَذُو
الْحَاجَةِ فَيَشْتَغِلُ بِكَلامِنَا عَنْ حَاجَتِهِ، فَالْتَفَتَ
الْحَجَّاجُ إِلَى جُلَسَاءِ الْحَسَنِ، فَقَالَ: نِعْمَ الشَّيْخُ
شَيْخُكُمْ، وَنِعْمَ الْمُؤَدِّبُ مُؤَدِّبُكُمْ، وَلَوْلا
الرَّعِيَّةُ وَهَذِهِ الْبَلِيَّةُ لأَحْبَبْتُ مُشَاهَدَةَ
شَيْخِكِمْ. ثُمَّ قَامَ فركب، فقام رجل من أَهْلِ الدِّيوَانِ،
فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أُخْرِجَ عَطَائِي، وَأُمِرَ بِبَعْثِي،
وَأَخَذْتُ بِفَرَسٍ وَسِلاحٍ، وَلا والله ما فيه ثم الْفَرَسِ وَلا
نَفَقَةُ عِيَالِي. قَالَ: فَأَرْسَلَ الْحَسَنُ عَيْنَيْهِ
بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ: مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ اتَّخَذُوا
عِبَادَ اللَّهِ خَوْلا، وَمَالَ اللَّهِ دُوَلا، وَكِتَابَ اللَّهِ
دَغَلا، وَاسْتَحَلُّوا الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ، وَالنَّجَسَ
بِالزَّكَاةِ، يَأْخُذُونَ مِنْ غَيْرِ حَقِّ اللَّهِ، وينفقون في سخط
الله، فستردون فتعلمون وَالْحِسَابُ عِنْدَ الْبَيْدَرِ، وَإِذَا
أَقْبَلَ عَدُوُّ اللَّهِ ففي سرادقات محفوفة- ويقال: رفافة- وَإِذَا
أَقْبَلَ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَطَارَ وَأَجَّلَ مَنْفَعَةً قَلِيلَةً
وَنَدَامَةً طَوِيلَةً.
قَالَ: فَمَا لَبِثَ أَنْ سَعَى بِكَلامِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ شُرْطِيَّيْنِ فأخذا بضبعيه
__________
[1] «فجثا الحجاج على ركبتيه ... لهن بأهل، قال» : ساقطة من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] في ت: «شيطان مريد» .
[4] سورة التوبة، الآية: 129.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/340)
حَتَّى أَدْخَلاهُ عَلَى الْحَجَّاجِ،
وَتَبِعَهُ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَمَعَهُ
الْكَفَنُ وَالْحَنُوطُ، فَلَمَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: يَا ابْنَ
أُمِّ الْحَسَنِ، أَنْتَ الْقَائِلُ مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ
اتَّخَذُوا عِبَادَ اللَّهِ خَوْلا وَمَالَ اللَّهِ دُوَلا وَكِتَابَ/
اللَّهِ دَغَلا، وَاسْتَحَلُّوا الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ، وَالنَّجَسَ
بِالزَّكَاةِ، فَذكر الْكَلامَ إِلَى آخِرَهِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:
وَمَا الَّذِي جَرَّأَكَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى
مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ
وَاشْتَرَوْا به ثَمَناً قَلِيلًا 3: 187 [1] فَكَرِهْتُ أَنْ أَكُونَ
مِنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ، قَالَ: نِعْمَ الشَّيْخُ أَنْتَ، وَنِعْمَ
الْمُؤَدِّبُ أَنْتَ، وَلَيْسَ مِثْلُكَ أَخَذَ بِكَلِمَةٍ
اسْتَخْرَجَهَا، وَلَئِنْ بَلَغَنِي عَنْكَ ثَانِيًا لأُفَرِّقَنَّ
بَيْنَ رَأْسِكَ وَجَسَدِكَ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: لَيْسَ ذَاكَ
إِلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ يَا جَارِيَةُ، هَاتِ الْغَالِيَةِ، فَجَاءَتْ
جَارِيَةٌ فَقَالَ: أَفْرِغِيهِ عَلَى رَأْسِهِ، فَكَشَفَ الْحَسَنُ
عَنْ شَعْرِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَرَأْسٌ مَا أَصَابَهُ الدُّهْنُ
مُنْذُ كَذَا وَكَذَا.
فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: ابْنُ سِيرِينَ وَثَابِتٌ
الْبُنَانِيُّ، مَا قَالَ لَكَ الطَّاغِيَةُ؟ وَمَا رَدَدْتَ عَلَيْهِ؟
قَالَ: قَالَ لِي كَذَا وَقُلْتُ لَهُ كَذَا، وَإِنَّكُمْ
سَتُطْلَبُونَ. فَخَرَجَ ابْنُ سيرين إلى بلاد الهند، خرج ثَابِتٌ
إِلَى كَابُلَ، وَأَقَامَ الْحَسَنُ حَتَّى صَلَّى الْجُمُعَةَ خَلْفَ
الْحَجَّاجِ، فَرَقِيَ الْحَجَّاجُ الْمِنْبَرَ فَأَطَالَ الْخُطْبَةَ
حَتَّى دَخَلَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: أَمَا مِنْ
رَجُلٍ يَقُولُ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ تَلامِذَةِ
الْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَتَأْمُرُنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ
وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَالَ: إنما أمرنا أن نُنْصِتُ لَهُمْ إِذَا
أَخَذُوا فِي أَمْرِ دِينِنَا، فَإِذَا أَخَذُوا فِي أَمْرِ
دُنْيَاهُمْ أَخَذْنَا فِي أَمْرِ دِينِنَا، قُومُوا الصَّلاةُ
جَامِعَةٌ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ: بَعَثَ
إِلَيْكُمْ أُخَيْفِشُ [2] أُعَيْمِشُ مَلْعُونٌ مُعَذَّبٌ، قُومُوا
الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَقَامَ الْحَسَنُ، وَقَامَ النَّاسُ لِقِيَامِ
الْحَسَنِ، فَقَطَعَ الْحَجَّاجُ الْخُطْبَةَ وَنَزَلَ فصلى بِهِمْ،
وَطَلَبَ الْحَجَّاجُ الْحَسَنَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
الْعَبَّاسِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابن عائشة، عن أبيه، قال:
__________
[1] سورة آل عمران، الآية: 187.
[2] خنفس عن الأمر: عدل عن الأمر.
«بعث إليكم أخنفس» ساقط من ت.
(6/341)
كَانَ سِجْنُ الْحَجَّاجِ بِوَاسِطَ،
إِنَّمَا هُوَ حَائِطٌ مَحُوطٌ، لَيْسَ فِيهِ مَآلٌ/ وَلا ظِلٌّ وَلا
بيت [1] ، فإذا آوى المسجونون إِلَى الْجُدْرَانِ يَسْتَظِلُّونَ بِهَا
رَمَتْهُمُ الْحَرَسُ بِالْحِجَارَةِ، وَكَانَ يُطْعِمُهُمْ خُبْزَ
الشَّعِيرِ مَخْلُوطًا بِهِ الْمِلْحُ وَالرَّمَادُ، فَكَانَ لا
يَلْبَثُ الرَّجُلُ فِيهِ إِلا يَسِيرًا حَتَّى يَسْوَدَّ فَيَصِيرَ
كَأَنَّهُ زِنْجِيٌّ، فَحُبِسَ فِيهِ مَرَّةً غُلامٌ، فَجَاءَتْهُ
أُمُّهُ تَتَعَرَّفُ خَبَرَهُ فَصِيحَ بِهِ لَهَا، فَلَمَّا رَأَتْهُ
أَنْكَرَتْهُ وَقَالَتْ: لَيْسَ هَذَا ابْنِي، كَانَ ابْنِي أَشْقَرَ
أَحْمَرَ وَهَذَا زِنْجِيٌّ، فَقَالَ لَهَا: أَنَا وَاللَّهِ يَا أماه
ابنك، أنا فلان وَأُخْتِي فُلانَةُ وَأَبِي فُلانٌ، فَلَمَّا
عَرَفَتْهُ شَهِقَتْ فَمَاتَتْ.
قَالَ: وَقَالَ الْحَجَّاجُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ: كَمْ قَدْ
قَتَلْنَا فِي الظَّنَّةِ؟ قَالَ: ثمانين ألفا [2] .
قال: وحرج مِنْ سِجْنِهِ يَوْمَ مَاتَ الْحَجَّاجُ مَا مِنْهُمْ مَنْ
حَلَّ مِنْ قَيْدٍ وَلا غَيَّرَ حَالا إِلا فِي بَلَدِهِ الَّذِي كَانَ
مِنْهُ.
أَخْبَرَنَا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو
الحسين بن عبد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ الْحُسَيْنِ
بْنِ الْمُنْذِرِ القاضي، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد
بْن سويد، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حَدَّثَني أبي، قال:
حدثنا أحمد بن إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ
الْوَرَّاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الدينَوَريّ، قَالا:
مَرِضَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ مَرَضًا أَشْرَفَ مِنْهُ عَلَى
الْمَوْتِ، فَبَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَرْجِعُونَ
بِمَوْتِهِ، فَلَمَّا بريء صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم
قَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ والنفاق ومساوىء
الأَخْلاقِ، قَدْ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي مَعَاطِسِكُمْ-[3] أَوْ
قَالَ:
مَنَاخِرِكُمْ [4]- زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحَجَّاجَ قَدْ مَاتَ، فَإِنْ
مَاتَ الْحَجَّاجُ فَمَهْ، وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنِي أَنِّي لا أَمُوتُ
وَمَا أَرْجُو الْخَيْرَ كُلَّهُ إِلا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى الْخُلُودَ لأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ إِلا لأَهْوَنِهِمْ
عَلَيْهِ إبليس، ولقد سَأَلَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ رَبَّهُ فَقَالَ:
رَبِّ [اغْفِرْ لِي] وَهَبْ لِي مُلْكاً 38: 35
__________
[1] في ت: «ليس فيه سقف ولا بيت» .
[2] هذه الروآية ساقطة من ت.
[3] في ت: «مناخركم» .
[4] أو قال مناخركم» : ساقطة من ت.
(6/342)
لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من بَعْدِي 38: 35
[1] ثُمَّ اضْمَحَلَّ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ
وَكُلُّكُمْ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي [بِي] [2] /
وَبِكُمْ، وَقَدْ صَارَ كُلُّ حَيٍّ مِنَّا مَيِّتًا، وَكُلُّ رَطْبٍ
مِنَّا يَابِسًا، وَنُقِلَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فِي ثِيَابِ طُهْرِهِ
إِلَى ثَلاثِ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ، فَأَكَلَتِ الأَرْضُ لَحْمَهُ
وَمَصَّتْ دَمَهُ وَصَدِيدَهُ، وَرَجَعَ الْخَبِيثَانِ يُقِيمُ
أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ خَبِيثَةً مِنْ وَلَدِهِ يُقَسِّمُ خَبِيثَةً
مِنْ مَالِهِ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ مَا
أَقُولُ، ثُمَّ نَزَلَ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بْنُ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ الطبري، قال:
حدثنا المعافى بن زكريا، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ
الْكَلْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَائِشَةَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ:
لَمَّا أَرَادَ الْحَجَّاجُ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مَكَّةَ
خَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، إِنِّي أُرِيدُ
الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدًا
ابْنِي، وَأَوْصَيْتُهُ فِيكُمْ بِخِلافِ مَا أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَنْصَارِ، فَإِنَّهُ أَوْصَى
فِي الأَنْصَارِ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيُتَجَاوَزَ عَنْ
مُسِيئِهِمْ، أَلا وَإِنِّي قَدْ أَوْصَيْتُهُ بِكُمْ أَلا يَقْبَلَ
مِنْ مُحْسِنِكُمْ، وَلا يَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِكُمْ، أَلا
فَإِنَّكُمْ قَائِلُونَ: لا أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ الصَّحَابَةَ،
وَإِنِّي مُعَجِّلٌ لَكُمُ الْجَوَابَ: لا أَحْسَنَ الله عليكم
الخلافة.
تم الجزء السادس من كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تأليف الشيخ
الإمام العالم الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن
الجوزي عفى الله عنه وعن جميع المسلمين. يتلوه في الجزء السابع ذكر
وفاة الحجاج. قد ذكرنا أن عبد الملك بن مروان أوصى الوليد بالحجاج ثم
لم يلبث الحجاج.....
__________
[1] سورة: ص، الآية: 35.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(6/343)
[المجلد السابع]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين
[تتمة سنة خمس وتسعين]
[تتمة ذكر من توفى في هذه السنة]
[تتمة 553- الحجاج بن يوسف]
ذكر وفاة الحجاج
قد ذكرنا أن عبد الملك بن مروان أوصى ولده الوليد بالحجاج، ثم لم يمت
الحجاج حتى ثقل على الوليد، وكان الوليد قد مرض فغشي عليه، فمكث عامة
يومه يحسبونه ميتا، فقدمت البرد على الحجاج بذلك فاسترجع، وأمر بحبل
فشد في يده ثم أوثق إلى أسطوانة، وقال: اللَّهمّ لا تسلط علي من لا
رحمة له فقد طال ما سألتك أن تجعل منيتي قبل منيته، وجعل يدعو. فقدم
البريد بإفاقته، فلما أفاق الوليد، قال: ما أَحَدٌ أَسَرَّ بعافيتي من
الحجاج، فقال عمر: كأني بكتاب الحجاج قد أتاك يذكر أنه لما بلغه بُرؤك
خر ساجدا وأعتق كل مملوك له، فجاء الكتاب بذلك، وبقي الحجاج في إمرته
[1] على العراق تمام عشرين سنة، وكان مقدما على القتل والظلم، وآخر من
قتل سعيد بن جبير، فوقعت الأكلة في بطنه [2] ، فأخذ الطبيب لحما وجعله
في خيط وأرسله في حلقه ثم استخرجه وقد لصق الدود به، فعلم أنه ليس
بناج، فقال:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا ... أيمانهم أنني من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويلهم ... ما علمهم بعظيم العفو غفار
أخبرنا محمد بن [أبي] [3] القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا حمد بْن أَحْمَد،
قَالَ: حدثنا أبو نعيم الحافظ، قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، قال:
حدثنا محمد بن إسحاق، قال:
__________
[1] في الأصل: «على إمرته» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «فأكلت الأكلة في بطنه» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/3)
حدثنا هارون بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مسلمة، قال: حدثنا مالك، عن يحيى بن سعيد،
عن كاتب كان [1] للحجاج يقال له يعلى، قال:
كنت أكتب للحجاج وأنا يومئذ غلام حديث السن، فدخلت عليه يوما بعد قتل
سعيد بن جبير وهو في قبة لها أربعة أبواب، فدخلت مما يلي ظهره، فسمعته
يقول: ما لي ولسعيد بن جبير، فخرجت رويدا وعلمت أنه إن علم بي قتلني،
[ثم لم يلبث الحجاج إلا يسيرا حتى مات] [2] .
وفي رواية أخرى: أنه كان يقول: ما لي ولسعيد بن جبير كلما أردت النوم
أخذ برجلي.
ومات في شوال هذه السنة. وقيل: لخمس بقين من رمضان، وهو ابن أربع
وخمسين سنة. وقيل: ثلاث وخمسين سنة.
وقال أبو عمر الجرمي [3] ، قال يونس النحوي: أنا أذكر عرس العراق، فقيل
له:
وما عرس العراق؟ قال: موت الحجاج سنة خمس وتسعين.
ولما مات ولى عليها الوليد بن عبد الملك مكانه يزيد بن أبي شبل [4] .
وذكر أبو عمر أحمد بن عبد ربه في كتاب «العقد» : أن رجلا حلف بالطلاق
أن الحجاج في النار، فسأل الحسن البصري، فقال: لا عليك يا ابن أخي فإن
لم يكن الحجاج في النار فما ينفعك [5] أن تكون مع امرأتك في زنا.
وقال يزيد الرقاشي: إني لأرجو للحجاج، فقال الحسن: إني لأرجو أن يخلف
الله رجاءك [6] .
وقيل لإبراهيم النخعي: ما ترى في لعن الحجاج؟ فقال: ألم تسمع إلى قول
الله تعالى: (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) 11: 18 [7] .
وأشهد أن الحجاج كان منهم.
__________
[1] «كان» . ساقط من ت.
[2] في الأصل: «فلم ينشب الحجاج يسيرا» والتصحيح من «ت» .
[3] في الأصل: «الحزمي» . وما أوردناه من ت، وهو الصحيح.
[4] كذا في الأصلين، وفي الطبري 6/ 493: «ابن أبي كبشة» .
[5] في الأصل: «فما ينفك» . وفي ت: «فما بضرك» .
[6] في الأصول: «رجاءك» .
[7] سورة: هود، الآية: 18.
(7/4)
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن
ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا الحسين بن
محمد النصيبي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سويد، قال: حدثنا أبو بكر بن
الأنباري، قال: حَدَّثَني أبي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، قال:
حدثنا أبو الحسن المدائني، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
إذا أتت قوم فارس بأكاسرتها، والروم بقياصرتها أتينا بالحجاج فكان عدلا
بهم [1] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن الحسين
بن خيرون، قال:
أخبرنا [2] مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ رَزَمَةَ، قَالَ:
أخبرنا أبو محمد علي بن عبد الله [3] بن المغيرة، قَالَ: حَدَّثَنَا
أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الأسدي، قال: حدثنا العباس بن فرح
الرياشي [4] ، قال: حدثنا ابن أبي سمية، عن أبي بكر بن عياش، عن
الأعمش، قال:
قيل ليزيد بن أبي مسلم: أن الحجاج يسمع صياحه من قبره، قال: فانطلق في
نفر من أصحابه إلى قبره فسمع الصياح، فقال: يرحمك الله أبا محمد، ما
تدع تهجدك حيا ولا ميتا.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْن أَحْمَد السمرقندي، قَالَ: أَخْبَرَنَا
محمد بن هبة الله الطبري، قال: حدثنا أبو الحسين بن بشران، قال: أخبرنا
الحسين بْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر عَبْد اللَّهِ بْن
مُحَمَّد القرشي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ جَمِيلٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ:
أُغْمِيَ عَلَى الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ:
أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى مَعَ: (الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) 4: 69 [5]
وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَالْحَجَّاجُ يَجُرَّانِ أَمْعَاءَهُمَا فِي
النَّارِ.
__________
[1] في ت: «عدلا لهم» .
[2] في ت: «حدّثنا» .
[3] في ت: «عبيد بن المغيرة» .
[4] «حدّثنا العباس بن فرح الرياشي» ساقط من ت.
[5] سورة: النساء، الآية: 69.
(7/5)
534- سعيد بن جبير، يكنى أبا عبد الله،
مولى لبني والبة [1] بن الحارث من بني أسد بن خزيمة:
[2] روى عن علي، وأبي مسعود البدري، وابن عمر، وابن عمرو، وأبي موسى
[الأشعري] [3] ، وعبد الله بن المغفل، وعدي بن حاتم، وأبي هريرة، وأكثر
عن ابن عباس. وكان عالما، وكان ابن عباس يقول له: حدث وأنا حاضر.
وقال لأهل الكوفة: تسألوني وفيكم سعيد بن جبير.
وجاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن فريضة، فقال له: ائت سعيد بن جبير فإنه
أعلم بالحساب مني.
وكان سعيد يقص على أصحابه بعد الفجر وبعد العصر، ويختم القرآن كل
ليلتين، وكان إذا وقف في الصلاة [4] كأنه وتد. وكان يبكي [بالليل] [5]
حتى عمش.
وكان يخرج في كل سنة مرتين: مرة للحج، ومرة للعمرة.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار،
قال:
أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الدَّقَّاق، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو الحسين
بْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر القرشي، قال: حدثنا عمر بن
إسماعيل الهمداني، قال: حدثنا محمد بن سعيد الأموي، عن معاوية بن
إسحاق، قال: حدثنا سعيد بن جبير عند الصباح فرأيته ثقيل اللسان، فقلت
له: ما لي أراك ثقيل اللسان؟
فقال: قرأت القرآن البارحة مرتين ونصفا.
قال عمر: وحدثنا أبو معاوية، عن موسى بن المغيرة، عن حماد: أن سعيد بن
__________
[1] في الأصل: «لبني واثلة» . خطأ. وما أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 204، التاريخ الكبير 3/ 1533، وأخبار القضاة
لوكيع 2/ 411، والجرح والتعديل 4/ 29، وحلية الأولياء 4/ 272، ووفيات
الأعيان 2/ 371، وتاريخ الإسلام 4/ 2، وسير أعلام النبلاء 4/ 321،
والبداية والنهاية 9/ 96، وطبقات المفسرين 1/ 181.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت: «وقف في الجماعة» .
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/6)
جبير قرأ القرآن في ركعة واحدة في الكعبة،
وقرأ في الثانية بقل هو الله أحد.
ذكر مقتله [1]
كان سعيد قد خرج مع القراء الذين خرجوا على الحجاج، وشهد دير الجماجم،
فلما انهزم أصحاب ابن الأشعث هرب فلحق بمكة، فبقي زمانا طويلا. ثم إن
خالد بن عبد الله القسري- وكان واليا للوليد بن عبد الملك على مكة-
أخذه فبعثه إلى الحجاج مع إسماعيل بن أوسط البجلي، فقال له: ما الذي
أخرجك؟ قال: كانت لابن الأشعث بيعة في عنقي، وعزم علي، فقال: رأيت لعدو
الله عزمة لم ترها للَّه ولا لأمير المؤمنين، والله لا أرفع قدمي [2]
حتى أقتلك فأعجلك إلى النار سيف رعيب، فقام مسلم الأعور ومعه سيف فضرب
عنقه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ بن سلمان،
قال: أخبرنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أحمد
بن عبد الله الأصبهاني، قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق، قَالَ: حَدَّثَنَا واصل بن عبد الأعلى،
قال: حدثنا أبو بكر بن عباس، عن أبي حصين، قال:
أتيت سعيد بن جبير بمكة، فقلت: إن هذا الرجل قادم- يعني خالد بن عبد
الله- ولا آمنه عليك فأطعني واخرج، فقال: والله لقد فررت حتى استحييت
من الله، قلت:
والله إني لأراك كما سمتك أمك سعيدا.
قال: فقدم مكة فأرسل إليه فأخذه. قال: فأخبرني يزيد بن عبد الله قال:
أتينا سعيد بن جبير حين جيء به، فإذا هو طيب النفس وبنية له في حجره
فنظرت إلى القيد فبكت، قال: فشيعناه إلى باب الجسر، فقال له الحرس:
أعطنا كفيك فإنا نخاف أن تغرق نفسك، قال: يزيد: فكنت فيمن كفل به.
قال محمد بن إسحاق: وحدثنا محمد بن عبد العزيز الجزري [3] ، قال: حدثنا
يحيى بن حسان، قال: حدثنا صالح بن عمر، عن داود بن أبي هند، قال:
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 487، البداية والنهاية 9/ 107.
[2] في ت: «لا أرفع يدي» .
[3] في الأصل: «الحروي» . وما أوردناه من ت.
(7/7)
لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال: ما أراني
إلا مقتولا وسأخبركم أني كنت أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة
الدعاء، ثم سألنا الله الشهادة، فكلا صاحبي رزقها [1] ، وأنا أنتظرها،
قال: فكأنه رأى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء.
أخبرنا إسماعيل بْنُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالا:
أَخْبَرَنَا أبو طاهر محمد بن أحمد بن أبي الصقر الأنباري، قال: حدثنا
أبو عبد الله محمد بن الفضل بن نظيف الفراء، قال: حدثنا أبو العباس
أحمد بن الحسن بن إسحاق بن عتبة الرازي، قال:
حدثنا هارون بن عيسى، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري [2] ، قال:
حدثنا حرملة بن عمران، قال: حدثنا ابن ذكوان:
أن الحجاج بن يوسف بعث إلى سعيد بن جبير فأصابه الرسول بمكة، فلما سار
به ثلاثة أيام رآه يصوم نهاره ويقوم ليله، فقال له الرسول: والله إني
لأعلم أني أذهب بك إلى من يقتلك فاذهب أي الطرق شئت [3] ، فقال له
سعيد: إنه سيبلغ الحجاج أنك قد أخذتني فإن خليت عني خفت أن يقتلك، ولكن
اذهب بي إليه.
قال: فذهب به إليه، فلما أدخل عليه قال له الحجاج: ما اسمك؟ قال: سعيد
بن جبير، قال: بل شقي بن كسير، قال: أمي سمتني [سعيدا] [4] ، قال: شقيت
أنت وأمك، قال: الغيب يعلمه غيرك، قال له الحجاج: أما والله لأبدلنك من
دنياك نارا تلظى، قال سعيد: لو علمت أن ذلك إليك ما اتخذت إلها غيرك،
ثم قال له الحجاج: ما تقول فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نبي مصطفى خير الباقين وخير الماضين، قال:
فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: ثاني اثنين إذ هما في الغار، أعز به
الدين وجمع به بعد الفرقة، قال: وما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: فاروق
الله وخيرته من خلقه [5] ، أحب الله أن يعز الدين بأحد الرجلين، فكان
أحقهما بالخيرة والفضيلة، قال: فما تقول في عثمان؟ قال: مجهز جيش
العسرة، والمشتري بيتا في الجنة، والمقتول ظلما، قال:
__________
[1] في الأصل: «رزقاها» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «أبو عبد الله المقري» .
[3] في ت: «أي الطريق شئت» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في ت: «فاروق وخيرة الله من خلقه» .
(7/8)
فما تقول في علي [بن أبي طالب] [1] ؟ قال:
أولهم إسلاما، تزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أحب
بناته، قال: فما تقول في معاوية؟ قال: كاتب رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فما تقول في الخلفاء منذ كَانَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الآن؟ قال:
سيجزون بأعمالهم فمسرور ومثبور لست عليهم بوكيل، قال: فما تقول في عبد
الملك بن مروان؟ قال: إن يكن محسنا فعند الله ثواب إحسانه، وإن يكن
مسيئا فلن يعجز الله، قال: فما تقول في؟
قال: أنت أعلم بنفسك، قال: بث في علمك، قال: إذن أسوؤك ولا أسرك، قال:
بث، قال: نعم ظهر منك جور في حد الله وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء
الله، قال: والله لأقطعنك قطعا، ولأفرقن أعضاءك عضوا عضوا، قال: إذن
تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك، والقصاص أمامك، قال: الويل لك من
الله، قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، قال: اذهبوا به
فاضربوا عنقه، قال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله أستحفظكها [2] حتى ألقاك يوم القيامة. ولما ذهبوا به ليقتل
تبسم، فقال له الحجاج: مم ضحكت؟ قال: من جرأتك على الله عز وجل، فقال
الحجاج: أضجعوه للذبح، فأضجع فقال: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) 6: 79 [3] فقال الحجاج: اقلبوا ظهره
إلى القبلة، فقرأ سعيد: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله) 2:
115 [4] فقال: كبوه على وجهه، فقرأ سعيد: (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها
نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) 20: 55 [5] فذبح من
قفاه.
قال: فبلغ ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري، فقال: اللَّهمّ يا قاصم
الجبابرة اقصم الحجاج، فما بقي إلا ثلاثا حتى وقع الدود في بطنه فمات.
وفي رواية أخرى: أنه عاش بعده خمسة عشر يوما.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد [6] بْن أَحْمَد، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أخبرنا أبو حامد بن
جبلة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «استحفظ بها» . وما أوردناه من ت.
[3] سورة: الأنعام، الآية: 79.
[4] سورة: البقرة، الآية: 115.
[5] سورة: طه، الآية: 55.
[6] في الأصل: «أحمد بن أحمد» . خطأ، والتصحيح من ت.
(7/9)
قال: حدثنا الحسن بن عبد العزيز، قال:
حدثنا سنيد [1] ، عن خلف بن خليفة، عن أبيه، قال:
شهدت مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله، لا إله
إلا الله، ثم قال الثالثة [2] فلم يتمها.
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أخبرنا أبو عبد الله الحُمَيْدِي، قال: أخبرنا
القضاعي، قال: أخبرنا أبو مسلم الكاتب، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن دريد،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عثمان، قال:
حدثنا عبد الله [3] ، قال: حدثنا غسان بن مضر، قال: حدثنا سعيد بن
يزيد، قال:
كنا عند الحسن وهو متوار في بيت أبي خليفة، فجاءه رجل فقال له: يا أبا
سعيد، قتل الحجاج سعيد بن جبير، فقال الحسن: لعنة الله على الفاسق بن
يوسف، ثم قال:
والله لو أن أهل المشرق والمغرب اجتمعوا على قتل سعيد لأدخلهم الله
النار.
وفي مقدار عمر سعيد بن جبير ثلاثة أقوال: أحدها سبع وخمسون، والثاني
تسع وأربعون، والثالث اثنان وأربعون.
535- عبد الرحمن بن معاوية بن خديج، أبو معاوية التجيبي [4] :
روى عن ابن عمر، وابن عمرو، وأبي نضرة، وأبيه [5] جمع له عبد العزيز بن
مروان بين القضاء والشرط بمصر [6] .
[وتوفي في هذه السنة] [7] .
536- قيس بن أبي حازم، واسمه حصين بن عوف، ويقال: اسمه عبد عوف بن
الحارث، أبو عبد الله الأحمسي: [8]
أدرك الجاهلية، وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليبايعه فوجده قد
توفي.
__________
[1] في الأصل: «سند» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «لا إله إلا الله، ثم قال الثانية» .
[3] في الأصل: «عبيد الله» . وما أوردناه من ت.
[4] تقريب التهذيب 1/ 498، وتهذيب التهذيب 6/ 271، والجرح والتعديل 5/
284.
[5] في الأصل: «وابنه» وما أوردناه من ت.
[6] في الأصل: «عبد العزيز بن مروان بمصر القضاء والشرط» .
[7] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[8] تهذيب التهذيب 8/ 386، 387، وتقريب التهذيب 2/ 127، والجرح
والتعديل 7/ 102.
(7/10)
روى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي،
وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وابن مسعود، وبلال بن أبي رباح، وعمار،
وخباب، وحذيفة، وجرير [في آخرين] [1] .
وقال أبو داود: روى عن تسعة من العشرة، [ولم يرو عن عبد الرحمن بن عوف،
وقال غيره: روى عن العشرة] [2] .
قال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش الحافظ: ليس في التابعين من روى عن
العشرة غيره.
وشهد النهروان مع علي رضي الله عنه.
روى عنه أبو إسحاق، وإسماعيل بن خالد، والأعمش وجاز المائة بسنين كثيرة
فتغير. وتوفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ثمان وتسعين.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/11)
ثم دخلت سنة ست
وتسعين
فمن الحوادث فيها أن قتيبة بن مسلم افتتح كاشغر، وغزا الصين [1] .
وفيها: أن الوليد أراد الشخوص إلى أخيه سليمان ليخلعه ويبايع لابنه عبد
العزيز بعده.
وقد ذكرنا أن عبد الملك جعلهما وليي عهده، فأراد الوليد سليمان على ذلك
فأبى، وعرض عليه أموالا كثيرة فأبى. فكتب إلى عماله أن يبايعوا عبد
العزيز، ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه إلى ذلك إلا الحجاج وقتيبة بن
مسلم وخواص من الناس، فقال له عباد بن زياد: إن الناس لا يجيبونك إلى
هذا، ولو أجابوك لم آمن الغدر منهم بابنك، فاكتب إلى سليمان فليقدم
عليك فإن عليه طاعة فأرده على البيعة فإنه لا يقدر على الامتناع وهو
عندك، وإن أبى كان الناس عليه.
فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم فأبطأ، فاعتزم الوليد على المسير
إليه ليخلعه، فأمر الناس بالتأهب، فمرض فمات قبل أن يسير، فاستخلف
سليمان.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 500، والبداية والنهاية 9/ 157، والكامل لابن
الأثير 4/ 289.
(7/12)
باب ذكر خلافة
سليمان بن عبد الملك [1]
ويكنى أبا أيوب، بويع يوم موت أخيه الوليد، وكان بالرملة، فوصل الخبر
إليه بعد سبعة أيام، [فبويع] ، وسار إلى دمشق، فورد على فاقة من الناس
إليه لما كانوا فيه من جور الوليد وعسفه، فأحسن السيرة، ورد المظالم،
وفك الأسرى، وأطلق أهل السجون، واتخذ عمر بن عبد العزيز وزيرا، ثم عهد
إليه.
وكان طويلا أسمرا أعرج أكولا [2] ، نشأ بالبادية عند أخواله، فلما قدم
صعد المنبر، فخنقته العبرة، ثم قال:
ركب القلا به المطي فغافل ... عن سيره ومشمر لم يغفل
لا بد أن يرد المقصر والذي ... حب النجاء محله لم تحلل
يا أيها الناس، رحم الله من ذكر فاذكر، فإن العظة تجلو العمى، إنكم
أوطنتم أنفسكم دار الرحلة، واطمأننتم إلى دار الغرور فألهاكم الأمل
وغرتكم الأماني، فأنتم سفر وإن أقمتم، ومرتحلون وإن وطنتم، لا تشتكي
مطاياكم ألم الكلال، ولا يتعبها دأب السير، ليل يدلج بكم وأنتم نائمون،
ونهار يجد بكم وأنتم غافلون، لكم في كل يوم مشيع لا يستقبل، ومودع لا
يؤوب. أولا ترون- رحمكم الله- إلى ما أنتم فيه منافسون، وعليه مواظبون،
وله مؤثرون، من كثير يفنى، وجديد يبلى، كيف أخذ به المخلفون له،
وحوسبوا عليه [3] دون المتنعم به، فأصبح كل منهم رهنا بما كسبت يداه.
وما الله بظلام للعبيد.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 505، والبداية والنهاية 9/ 186.
[2] ذكرت جميع المراجع أنه كان طويلا أبيض، ولم تذكر المراجع أنه أعرج.
[3] في ت: «وحوسبوا به دون» .
(7/13)
فيا أيها اللبيب المستبصر فيهم تذهب أيامك
ضياعا؟ وعما قليل [1] يقع محذورك، وينزل بك ما اطرحته وراء ظهرك،
فأسلمك عشيرك، وفر منك قريبك، فنبذت بالعراء، وانفضت عنك الدنيا.
فامهد لنفسك أيها المغرور، واعمل قبل ركوب المضيق وسد الطريق، فكأني بك
قد أدرجت في أطمارك، وأودعت ملحدك، وتصدع عنك أقربوك، واقتسم مالك
بنوك، ورجع القوم يرعون في زهرات موبق دنياك التي كدحت لها وارتحلت
عنها، فأنت كما قال الشاعر:
سترحل عن دنيا قليل بقاؤها ... عليك، وإن تبقى فإنك فان
إن الله عبادا فروا منه إليه فجالت فكرتهم في ملكوت العظمة، فعزفت عن
الدنيا نفوسهم.
أيها الناس، أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد خلفاء الله، وأمراء
المؤمنين، وساسة الرعية؟ أسمعهم الداعي، وقبض العارية معيرها، فاضمحل
ما كان كأن لم يكن، وأتى ما كأنه لم يزل، وبلغوا الأمد، وانقضت بهم
المدة، ورفضتهم الأيام وشمرتهم الحادثات، فسلبوا عن السلطنه، ونفضوا
لدة الملك، وذهب عنهم طيب الحياة، فارقوا والله القصور وسكنوا القبور،
واستبدلوا بلينة الوطاء خشونة الثرى، فهم رهائن التراب إلى يوم الحساب.
فرحم الله عبدا مهد لنفسه، واجتهد لدينه، وأخذ بحظه، وعمل في حياته،
وسعى لصلاحه، وعمل ليوم (تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ
مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها
وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً، وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ) 3: 30
[2] أيها الناس، إن الله عز وجل [3] جعل الموت حتما سبق به حكمه، ونفذ
به قدره، لئلا يطمع أحد في الخلود، ولا يطغي المعمر عمره، وليعلم
المخلف بعد المقدم أنه غير مخلد. وقد جعل الله الدنيا دارا لا تقوم إلا
بأئمة العدل، ودعاة الحق، وإن للَّه عبادا
__________
[1] في الأصل: «وعن قليل يقع» . وما أوردناه من ت.
[2] سورة: آل عمران، الآية: 30.
[3] في الأصل: «إن الله جل وعز» . وما أوردناه من ت.
(7/14)
يملكهم أرضه، ويسوس بهم عباده، ويقيم بهم
حدوده، ويجعلهم رعاة عباده، وقد أصبحت في هذا المقام الذي أنا به غير
راغب فيه، ولا منافس عليه، ولكنها إحدى الربق أعلقها الواهق مساغ
المزدرد ومخرج النفس، ولولا أن الخلافة تحفة من الله كفر باللَّه
[خلفها] [1] لتمنيت أني كأحد المسلمين يضرب لي بسهمي.
فعلى رسلكم بني الوليد، فإني شبل عبد الملك، وناب مروان، لا تظلعني حمل
النائبة، ولا يفزعني صريف الأجفر. وقد وليت من أمركم ما كنت له مكفيا،
وأصبحت خليفة وأميرا، وما هو إلا العدل أو النار، وليجدني الممارس لي
[2] أخشن من مضرس الكذاب، فمن سلك المحجة حذي نعل السلامة، ومن عدل عن
الطريق وقع في وادي الهلكة والضلالة. ألا فإن الله سائل كلا عن كل، فمن
صحت نيته ولزم طاعته كان الله له بصراط التوفيق، وبرصد المعونة، وكتب
له بسبيل الشكر والمكافأة، فاقبلوا العافية فقد رزقتموها، والزموا
السلامة فقد وجدتموها، فمن سلمنا منه سلم منا، ومن تاركنا تاركناه، ومن
نازعنا نازعناه.
فارغبوا إلى الله في صلاح نياتكم وقبول أعمالكم، وطاعة سلطانكم، فإني
والله غير مبطل حدا، ولا تارك له حقا حتى أنكثها عثمانية عمرية، وقد
عزلت كل أمير كرهته رعيته، ووليت أهل كل بلد من أجمع عليه خيارهم
واتفقت عليه كلمتهم، وقد جعلت الغزو أربعة أشهر، وفرضت لذرية الغازين
سهم المقيمين، وأمرت بقسمة صدقة كل مصر في أهله إلا سهم العامل عليها،
وفي سبيل الله، وابن السبيل، فإن ذلك لي وأنا أولى بالنظر فيه، فرحم
الله امرأ عرف منا سهو المغفل عن مفروض حق أو واجب فأعان برأي، وأنا
أسأل الله العون على صلاحكم فإنه مجيب السائلين، جعلنا الله وإياكم ممن
ينتفع بموعظته، ويوفي بعهده فإنه سميع الدعاء، وأستغفر الله لي ولكم.
ذكر طرف من أخباره وسيرته [3]
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو
الحسين بن
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] «لي» : ساقطة من ت.
[3] في الأصل: «أخباره وسيره» . وما أوردناه من ت. وانظر ترجمته في:
تاريخ الطبري 6/ 546، والكامل 4/ 311، ومروج الذهب 3/ 184. وفوات
الوفيات 2/ 14.
(7/15)
عبد الجبار، قال: أخبرنا القاضي أَبُو
الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، قَالَ: أخبرنا
المعافى بن زكريا، قال: أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: أخبرنا
ابن أبي سعيد، قَالَ: حَدَّثَنِي علي بن مُحَمَّد بن سليمان الهاشمي،
قال: حدثني عبد الله بن سليمان، عن سليمان بن عبد الله، عن أبيه عبد
الله بن عبد الله بن الحارث، قال:
كان سليمان بن عبد الملك أكولا، وكانت بينه وبين عبد الله بن عبد الله
وصلة.
قال: قال لنا سليمان يوما: إني قد أمرت قيم بستان لي أن يحبس علي
الفاكهة ولا يجني منها شيئا حتى يدرك، فاغدوا علي مع الفجر- يقول
لأصحابه الذين كان يأنس بهم- لنأكل الفاكهة في برد النهار. فغدونا في
ذلك الوقت، وصلى الصبح وصلينا، فدخلنا معه فإذا الفاكهة متهدلة على
أغصانها، وإذا كل فاكهة مختارة قد أدركت كلها، فقال:
كلوا. ثم أقبل عليها وأكلنا بمقدار الطاقة، وأقبلنا نقول: يا أمير
المؤمنين، هذا العنقود، فيخرطه في فيه، يا أمير المؤمنين هذه التفاحة،
وكلما رأينا شيئا نضيجا أومأنا إليه فيأخذه فيأكله حتى ارتفع الضحى
وارتفع النهار ثم أقبل على قيم البستان، فقال:
ويحك يا فلان إني قد استجعت فهل عندك شيء تطعمنيه؟ قال: نعم يا أمير
المؤمنين عناق حولية حمراء، قال: آتني بها، ولا تأتني معها بخبز. فجاء
بها على خوان لا قوائم له وقد ملأت الخوان، فأقبل يأخذ العضو فيجيء معه
فيخرطه في فيه ويلقي العظم حتى أتى عليها، ثم عاد لأكل الفاكهة، فأكل
فأكثر، ثم قال للقيم: ويحك ما عندك شيء تطعمنيه؟ قال: بلى يا أمير
المؤمنين دجاجتان بحريتان قد عميتا شحما، قال: ائتني بهما، فأتى بهما
ففعل بهما كما فعل بالعناق، ثم عاد لأكل الفاكهة، فأكل مليا، ثم قال
للقيم: هل عندك شيء تطعمنيه فإني قد جعت؟ قال: عندي سويق [كأنه قطع
الأوتار] [1] ، وسمن، وسكر. قال: أفلا أعلمتني قبل هذا به، ائتني به
وأكثر، فأتاه بقعب يقعد فيه الرجل وقد ملأه من السويق وقد خلطه بالسكر
وصب عليه السمن، وأتى بجرة من ماء بارد وكوز، فأخذ القعب على كفه وأقبل
القيم يصب عليه الماء [فيحركه ويأكله- أو قال] [2]- ويشربه حتى كفاه
[3] على وجهه فارغا، ثم عاد للفاكهة، فأكل مليا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «فصب عليه الماء وهو يشرب، لم يزل كذلك حتى ألقاه.
(7/16)
حتى علت الشمس [1] ، ودخل وأمرنا أن ندخل
إلى مجلسه، فدخلنا وجلسنا، فما مكث أن خرج علينا، فلما جلس قام كبير
الطباخين حياله يؤذنه بالغداء، فأومأ إليه أن ائت بالغداء، فأتاه به
فوضع يده فأكل، فما فقدنا من أكله شيئا.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا ثابت بن بندار، وأحمد بن علي بن
سوار، وأبو الفضل محمد بن عبد الله الناقد، قالوا: أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بن رزقه، قال: أخبرنا
أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي، قال:
حدثني محمد بن يحيى، عن معن بن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه،
قال:
كان سليمان بن عبد الملك في نادية له، فسمر ليلة على ظهر سطح، ثم تفرق
عنه جلساؤه، فدعا بوضوء، فجاءت به جارية له، فبينا هي تصب عليه إذ
استمدها بيده وأشار إليها فإذا هي ساهية مصغية بسمعها مائلة بجسدها كله
إلى صوت غناء تسمعه في ناحية العسكر، فأمرها فتنحت واستمع هو الصوت،
فإذا صوت رجل يغني، فأنصت له حتى [إذا] [2] فهم ما يغنى به من الشعر،
ثم دعا جارية من جواريه غيرها، فتوضأ.
فلما أصبح أذن للناس إذنا عاما، فلما أخذوا مجالسهم أجرى ذكر الغناء
ومن كان يسمعه ولين فيه حتى ظن القوم أنه يشتهيه، فأفاضوا في ذلك في
التليين والتحليل والتسهيل، وذكروا من كان يسمعه من أهل المروءات
وسروات [3] الناس، ثم قال: هل بقي أحد يسمع منه؟ فقال رجل من القوم:
عندي رجلان من أهل أيلة حاذقان، فقال:
أين منزلك من العسكر، فأومأ إلى الناحية التي كان فيها الغناء. فقال
سليمان: يبعث إليهما، فوجد الرسول أحدهما فأقبل به حتى أدخله على
سليمان، فقال له: ما اسمك؟
قال: سمير، قال: فسأله عن الغناء كيف هو فيه؟ قال: حاذق محكم، قال:
فمتى عهدك به؟ قال: في ليلتي هذه الماضية، قال: وفي أي نواحي العسكر
كنت؟ فذكر له الناحية التي سمع فيها الصوت، قال: فما غنيت؟ قال: فذكر
الشعر الذي سمع سليمان، فأقبل سليمان، يقول: هدر الجمل فضبعت [4]
الناقة، وهب التيس [5] فشكرت الشاة، وهدر
__________
[1] في الأصل: «غلبته الشمس» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «سرات» . وما أوردناه من ت.
[4] في ت: «فصنعت» .
[5] في ت: «ونب التيس» .
(7/17)
الحمام فرافت، [1] وغنى الرجل فطربت
المرأة. ثم أمر به فخصي. وسأل عن الغناء أين أصله، وأكثر ما يكون؟
قالوا: بالمدينة وهو في المخنثين وهم الحذاق به والأئمة فيه، فكتب إلى
عامله بالمدينة وهو أبو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ أن أخص [2] من قبلك من المخنثين.
قال الزبير: وأخبرني محمد بن يحيى بن موسى بن جعفر بن أبي كثير، عن عبد
الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه مثله.
وكان ابن أبي عبلة وسليمان بن حرب يقصان عند سليمان بن عبد الملك.
وفي هذه السنة عزل سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيان عن المدينة لسبع
بقين من رمضان.
وكانت إمرته عليها ثلاث سنين. وقيل: سنتين إلا سبع ليال.
وفيها: عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق. [3] [وأمر عليها يزيد
بن المهلب.
وفيها: جعل سليمان صالح بن عبد الرحمن على الخراج] [4] وأمره أن يقتل
آل أبي عقيل ويبسط عليهم العذاب وكان يلي عذابهم عبد الملك بن المهلب.
وفيها قتل قتيبة بن مسلم بخراسان [5] وسبب قتله أن الوليد لما أراد خلع
سليمان وافقه قتيبة، فلما مات الوليد خاف قتيبة من سليمان، وحذر أن
يولي يزيد بن المهلب خراسان، فكتب إلى سليمان كتابا يهنئه بالخلافة،
ويعزيه على الوليد [6] ، ويعلمه بلاءه
__________
[1] في الأصل: «فزافت» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «أحضر» . وما أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 506.
[4] ما بين المعقوفتين: كتب على هامش الأصل هكذا: «وفيها جعل سليمان
يزيد بن أبي مسلم على العراق» . والتصحيح من ت، والطبري 6/ 506.
[5] تاريخ الطبري 6/ 506.
[6] في الأصل: «ويعزيه بالوليد» . وما أوردناه من ت والطبري.
(7/18)
وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه له على
مثل ما كان لهما من الطاعة والنصيحة، إن لم يعزله عن خراسان. ثم كتب
كتابا يعلمه فيه فتوحه وعظم قدره عند ملوك العجم، وهيبته في صدورهم،
ويذم المهلب وآل المهلب، ويحلف باللَّه عز وجل لئن استعمل يزيد على
خراسان ليخلعنه. ثم كتب كتابا ثالثا [فيه خلعه، وبعث بالكتب الثلاثة]
[1] مع رجل من باهلة، وقال: ادفع هذا الكتاب إليه فإن قرأه وألقاه إلى
يزيد فادفع هذا الكتاب إليه، وإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس
الكتابين الآخرين.
فقدم الرسول فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلب، فدفع إليه الكتاب
فقرأه ثم رمى به إلى يزيد، ثم دفع إليه الكتاب الثاني فقرأه ثم رمى به
إلى يزيد، فأعطاه الثالث فتمعر لونه [2] ، ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه
بيده، ثم أمر بالرسول إلى دار الضيافه، فلما أمسى دعا به فأعطاه دنانير
وقال: هذه جائزتك، وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر، وهذا رسولي معك
بعهده. فخرج فلما كان بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة لسليمان، وكان
قتيبة قد خلعه ودعا الناس إلى خلعه، فكره الناس خلع سليمان، فصعد قتيبة
المنبر وسب الناس لكونهم لم يوافقوه، واجتمعوا على خلافه وخلعه، ثم
قتلوه.
وفي هذه السنة عزل سليمان خالد بن عبد الله القسري عن مكة وولاها طلحة
بن داود الحضرمي [3] .
وفيها: غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الصائفة ففتح حصنا يقال له: حصن
عوف.
وفيها: حج بالناس [4] أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وهو
الأمير [5]
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] أي: تغير لونه.
[3] تاريخ الطبري 6/ 522.
[4] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[5] في ت: «وهو كان الأمير» .
(7/19)
على المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن
عبد الله بن خالد بن أسيد. وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب،
وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن، وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي
من قبل يزيد بن المهلب، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن ابن أذينة، وعلى
قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى، وعلى حرب خراسان [1] وكيع بن أبي
بردة [2] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
537- إبراهيم بن يزيد بن الأسود، أبو عمران النخعي: [3]
كان إماما في الفقه، يعظمه الأكابر، وكان سعيد بن جبير يقول: أتستفتوني
وفيكم إبراهيم.
وكان شديد الهيبة، يهاب كما يهاب الأمير، وكان يتخوف من الفتوى ويحتقر
نفسه ويقول: احتيج إليّ. ويكره أن يستند إلى السارية، ولا يتكلم حتى
يسأل وحمل الناس عنه العلم وهو ابن ثماني عشرة سنة. وكان يصوم يوما
ويفطر يوما.
أنبأنا زاهر بن طاهر، قَالَ: أخبرنا أبو بكر أَحْمَد بْن الحسين
البيهقي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم،
قال: سمعت أبا علي الحسين بن علي بن يزيد الحافظ، يقول: سمعت أبا عبد
الرحمن محمد بن عبد الله البيروتي، يقول: حدثنا محمد بن أحمد بن مطر بن
العلاء، قال: حدثني محمد بن أحمد بن يوسف بن بشير القرشي، قال: حدثني
الوليد بن محمد الموقري [4] ، قال: سمعت محمد بن مسلم الزهري، يقول:
قدمت على عبد الملك بن مروان، فقال لي: من أين [قدمت] [5] يا زهري؟
__________
[1] في ت: «على حربها» .
[2] كذا في الأصلين، وفي الطبري والبداية: «وكيع بن أبي سود» .
[3] طبقات خليفة 157، وطبقات ابن سعد 6/ 270، والجرح والتعديل 1/ 1/
144، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 333، وحلية الأولياء 4/ 219.
[4] في ت: «الموقدي» .
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/20)
قلت: من مكة، فقال: من خلفت بها يسود
أهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال:
فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: وبم سادهم؟ قلت:
بالديانة والرواية، قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا،
فمن يسود أهل اليمن؟ قلت:
طاوس بن كيسان، قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال:
وبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء، قال: إنه لينبغي. قال: فمن يسود
أهل مصر؟
قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من
الموالي، [عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل] [1] ، قال: فمن يسود أهل
الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من
الموالي [2] ، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسين بن أبي الحسن،
قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: ويلك، فمن يسود
أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت:
من العرب، قال: ويلك يا زهري، فرجت عني، والله ليسودن الموالي على
العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، قلت: يا أمير المؤمنين،
إنما هو أمر الله ودينه، فمن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط.
أخبرنا يحيى بن علي المدير، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ النَّقُّورِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عمران، قال: حدثنا البغوي، قال:
حدثنا محمد بن بكار، قال: حدثنا محمد بن طلحة، عن ميمون بن أبي حمزة،
عن إبراهيم أنه قال:
قد تكلمت ولو وجدت بدا ما تكلمت، وإن زمانا أكون فيه فقيه الكوفة لزمان
سوء.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد الفقيه، قال: أخبرنا عبد
الله بن أحمد بن عثمان الصوفي [3] ، قال: حدثنا أبو أحمد الأنباري،
قال: حدثنا أبي، قال:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الكتاني، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا
الأعمش، قال:
خرجت أنا وإبراهيم النخعي ونحن نريد الجامع، فلما صرنا في خلال طرقات
الكوفة قال لي: يا سليمان، قلت: لبيك، قال: هل لك أن تأخذ في خلال
طرقات
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
[2] «قلت: من الموالي» : ساقطة من ت.
[3] في ت: «الصيرفي» .
(7/21)
الكوفة كي لا نمر بسفهائها فينظرون إلى
أعور وأعمش فيغتابونا ويأثمون؟ قلت: يا أبا عمران، وما عليك في أن نؤجر
ويأثمون؟ قال: يا سبحان الله، بل نسلم ويسلمون خير من أن نؤجر ويأثمون.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي [1] ، قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد،
قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بن
محمد، قَالَ: [حدثنا] [2] أحمد بن روح، قَالَ: حدثنا حماد بن المؤمل،
قال: حدثني إسحاق بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن سوقة،
عن عمران الخياط، قال:
دخلنا على إبراهيم النخعي نعوده وهو يبكي، فقلنا: ما يبكيك؟ قال: أنتظر
ملك الموت، لا أدري يبشرني بالجنة أم بالنار.
أدرك إبراهيم النخعي أبا سعيد الخدري، وعائشة، وعامة ما يروى عن
التابعين كعلقمة، ومسروق، والأسود. وتوفي هذه السنة وهو ابن تسع
وأربعين سنة. وقيل: ابن نيف وخمسين سنة [3] .
وكان الشعبي يقول: والله ما ترك بعده مثله.
538- عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان:
أمه حفصة بْنت عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الخطاب، توفي بمصر في هذه
السنة [4] .
وهذا الرجل تزوج إليه أربعة من الخلفاء، كان له بنت اسمها عبدة تزوجها
الوليد بن عبد الملك، وبنت تكنى أم سعيد تزوجها يزيد بن عبد الملك،
ورقية تزوجها هشام بن عبد الملك، وبنت اسمها عائشة تزوجها سليمان بن
عبد الملك.
539- قتيبة بن مسلم، [أبو حفص] [5] :
كان يروي عن أبي سعيد الخدري، والشعبي. تولى خراسان سنة ست وثمانين،
__________
[1] في الأصل: «محمد بن عبد الباقي بن أحمد» خطأ.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] طبقات خليفة 259، والتاريخ الكبير للبخاريّ 5/ 466، والجرح
والتعديل 5/ 537، وتاريخ الإسلام 4/ 19، وتهذيب التهذيب 5/ 338.
[4] «في هذه السنة» : سقطت من ت.
[5] ما بين المعقوفتين: جاءت في الأصل بعد «الشعبي» وترجمته في: وفيات
الأعيان 1/ 428، وتاريخ
(7/22)
وغزا بها غزوات إلى أن مات الحجاج، ثم قتله
وكيع بن أبي الأسود الحنظلي بفرغانة، وقد سبق خبره.
540- الوليد بن عبد الملك بن مروان [1] :
توفي يوم السبت منتصف جمادى الآخرة [سنة ست وتسعين] [2] بدير مران وحمل
إلى دمشق فدفن بها في مقابر الفراديس، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز،
لأن أخاه سليمان الذي كان ولي عهده كان غائبا بالرملة. وعاش اثنتين
وخمسين سنة. وقيل: اثنتين وأربعين. وقيل: خمسا وأربعين.
قال الزهري: كانت خلافته عشر سنين إلا شهرا.
وقال أبو معشر: تسع سنين وأربعة أشهر.
وقال الواقدي: وثمانية أشهر.
وقال هشام بن محمد الكلبي: كانت خلافته- يعني الوليد- ثماني سنين
وثلاثة أشهر.
__________
[ () ] الطبري 6/ 506، وابن خلدون 3/ 59، 66، وخزانة البغدادي 3/ 657،
ورغبة الآمل 3/ 6، 6/ 118.
[1] مروج الذهب 3/ 165، وتاريخ الطبري 6/ 495، وتاريخ الخميس 2/ 211،
314.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/23)
ثم دخلت سنة سبع
وتسعين
فمن الحوادث فيها تجهيز سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية، واستعمال
ابنه داود على الصائفة.
وفيها: غزا مسلمة أرض الروم ففتح الحصن الذي كان الوضاح افتتحه.
وفيها: غزا عمر بن هبيرة الفزاري أرض الروم، فشتى بها [1] .
وفيها: ولي سليمان يزيد بن المهلب خراسان
[2]
وكان السبب في ذلك أن سليمان لما ولى يزيد بن المهلب حرب العراق
والصلاة وخراجها، فنظر يزيد فإذا الحجاج قد أخرب العراق، فقال في نفسه:
متى أخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت مثل الحجاج، ومتى لم آت
سليمان بمثل ما كان يأتي به الحجاج لم يقبل مني. فجاء يزيد إلى سليمان
فقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه؟ صالح بن عبد الرحمن مولى بني
تميم، فقبل منه. فأقبل يزيد إلى العراق وقد قدم قبله عبد الرحمن، فنزل
واسط، فخرج الناس يتلقون يزيد، ولم يخرج صالح حتى قرب يزيد، وكان صالح
لا ينفذ أمر يزيد ويضيق عليه ويعاتبه [3] في كثرة إنفاقه، ويقول: هذا
لا يرضي أمير المؤمنين.
__________
[1] كذا في الأصل والطبري، وفي ت: «فسبى بها» .
[2] تاريخ الطبري 6/ 253.
[3] في الأصل: «ويعتبه» . وفي ت: «ويعيبه» .
(7/24)
فبينا هو كذلك إذ جاء كتاب سليمان بتولية
يزيد خراسان، وكان قد وليها وكيع بن أبي الأسود بعد قتل قتيبة تسعة
أشهر أو عشرة، فقدمها يزيد واليا عليها، وكان جوادا.
وفي هذه السنة حج بالناس [1] سليمان بن عبد الملك، وحج الشعراء معه،
فلما صدر من الحج عزل طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، وكان قد عمل عليها
ستة أشهر، وولي عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان عمال
الأمصار هم العمال فِي السنة الَّتِي قبلها، إلا خراسان فإن عاملها كان
يزيد بن المهلب بن أبي صفرة [2] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
541- طلحة بن عبد الله بن عوف [ابن أخي عبد الرحمن بن عوف] يكنى أبا
محمد: [3]
ولي المدينة، وكان من سراة [4] قريش وأجوادهم، ومدحه الفرزدق ومدح عشرة
من أهل المدينة، فأعطاه طلحة ألف دينار، فلم يتجاسر أحد على نقيصة
الفرزدق لئلا يتعرضوا للسانه فأتعب الناس.
وتوفي طلحة في هذه السنة عن اثنتين وسبعين [5] سنة.
__________
[1] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[2] «ابن أبي صفرة» : ساقطة من ت..
[3] طبقات ابن سعد 5/ 119، والتاريخ الكبير للبخاريّ 4/ 3074، والقضاة
لوكيع 1/ 120، والجرح والتعديل 4/ 2078، وسير أعلام النبلاء 4/ 174،
وتاريخ الإسلام 4/ 6، وتهذيب التهذيب، والتقريب 1/ 379.
[4] سراة، جمع سريّ ومن السّرو وهو المروءة والشرف.
[5] في ت: «تسعين سنة» . خطأ.
(7/25)
ثم دخلت سنة ثمان
وتسعين
فمن الحوادث فيها غزو سليمان القسطنطينية
فنزل دابق ووجه أخاه مسلمة إليها وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو
يأتيه أمره، فشتى بها وصاف. ولما دنا من قسطنطينية أمر كل فارس أن يحمل
على عجز فرسه مدين [1] من طعام حتى يأتي به القسطنطينية، فأمر بالطعام
فألقي ناحية مثل الجبال، ثم قال للمسلمين: لا تأكلوا منه شيئا، أغيروا
في أرضهم. وعمل بيوتا من خشب، فشتى فيها، وزرع الناس، ومكث ذلك الطعام
[2] في الصحراء لا يكنه شيء، والناس يأكلون ما أصابوا من الغارات، ثم
أكلوا من الزرع، وأقام مسلمة بالقسطنطينية قاهرا لأهلها، معه وجوه أهل
الشام: خالد بن معدان، وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي، ومجاهد بن
جبير، حتى أتاه موت سليمان.
وفي هذه السنة بايع سليمان بن عبد الملك
لابنه أيوب [3]
وجعله ولي عهده، وكان عبد الملك قد أخذ على الوليد وسليمان أن يبايعا
لابن عاتكة، ولمروان بن عبد الملك من بعده، فمات مروان في خلافة سليمان
في منصرفه
__________
[1] المد: مكيال ضخم لأهل الشام ومصر.
[2] في الأصل: «ذلك العام» . وما أوردناه من ت والطبري.
[3] تاريخ الطبري 6/ 531.
(7/26)
من مكة، فبايع سليمان حين مات لأيوب، وأمسك
عن يزيد وتربص [به] [1] ، ورجا أن يهلك، فهلك وأيوب ولي عهده.
وفيها: فتحت مدينة الصقالبة.
وفيها: غزا الوليد بن هشام، فأصاب ناسا من نواحي الروم فأسر منهم خلقا
كثيرا.
وفيها غزا يزيد بن المهلب جرجان وطبرستان
[2]
في مائة ألف مقاتل سوى الموالي والمتطوعين. وجاء فنزل بدهستان فحاصرها
ومنع عنهم المواد، فبعث إليه ملكهم: إني أريد أن أصالحك على أن تؤمنني
على نفسي وأهل بيتي ومالي، وأدفع إليك المدينة وما فيها وأهلها. فصالحه
ووفى له ودخل المدينة، وأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز، ومن السبي
ما لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبرا، وكتب بذلك إلى سليمان بن
عبد الملك، ثم خرج حتى أتى جرجان، وقد كانوا يصالحون أهل الكوفة على
مائة ألف، ومائتي ألف، وثلاثمائة ألف، وقد كانوا صالحوا سعيد بن العاص،
ثم امتنعوا وكفروا، فلم يأت بعد سعيد إليهم أحد، ومنعوا ذلك الطريق فلم
يسلكه أحد إلا على وجل [وخوف] [3] منهم.
فلما أتاهم يزيد استقبلوه بالصلح، فاستخلف رجلا. ودخل طبرستان، فعرض
ملكها عليه الصلح [4] ، فصالحه على سبعمائة ألف درهم- أو أربعمائة ألف
درهم- نقدا، وثلاثمائة ألف مؤجلة، وأربعمائة ألف حمار موقرة زعفران،
وأربعمائة رجل على رأس كل رجل برنس، وعلى البرنس [5] طيلسان وجام من
فضة وسرقة من حرير.
وكان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب، فرفع إليه أنه أخذ خريطة
فسأله عنها، فأتاه بها، فقال: هي لك، فقال: لا حاجة لي فيها، فقال
القطامي: [6]
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 532.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[4] «فاستخلف رجلا ... عليه الصلح» : سقطت من ت.
[5] في الأصل: «كل رجل ترس، وعلى الترس» . وما أوردناه من ت والطبري.
[6] في الطبري بعدها: «ويقال سنان بن مكحل النميري» .
(7/27)
لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن
القراء بعدك يا شهر؟!
وكان فيما أصاب يزيد بن المهلب بجرجان تاج فيه جوهر، فقال: أترون أحدا
يزهد في هذا التاج؟ قالوا: لا، فدعا محمد بن واسع فقال: خذ هذا التاج
فهو لك، قال: لا حاجة لي فيه، قال: عزمت عليك إلا أخذته، فأخذه، وخرج
فأمر يزيد رجلا ينظر ما يصنع به، فلقي سائلا فدفعه إليه، فأخذه الرجل
السائل، فأتى به يزيد، فأخذ يزيد التاج وعوض السائل مالا.
وكان سليمان يقول ليزيد بن المهلب كلما رأى قتيبة يفتح حصنا: أما ترى
ما يصنع الله عز وجل على يدي قتيبة؟ فيقول يزيد: الشأن في جرجان. فلما
ولي لم يكن له همة غير جرجان، فجاء فصالحوه على ما ذكرنا.
ثم إنهم غدروا بجنده، فقتلوا منهم، ونقضوا العهد، فأعطى الله عهدا لئن
ظفر بهم لا يرفع عنهم السيف [1] حتى يطحن بدمائهم ويختبز من ذلك الطحين
ويأكل.
فنزل عليها سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء، ولا يعرف لها مأتى إلا من
وجه واحد، فكانوا يخرجون فيقاتلونهم ويرجعون إلى حصنهم، فدله رجل على
[طريق] [2] آخر يشرف عليهم، فبعث معه جندا، ونهض هو لقتالهم [3] ،
فركبهم المسلمون، فأعطوا بأيديهم ونزلوا على حكمه، فسبى ذراريهم وقتل
مقاتليهم وصلبهم على الشجر عن يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثني عشر
ألفا إلى الوادي فقتلوا فيه، فأجرى فيه دماءهم [4] وأجرى فيه الماء
وعليه أرحاء، فطحن واختبز وأكل، وبنى مدينة جرجان، ولم تكن قبل ذلك
مدينة، واستعمل عليهم جهم بن زحر الجعفي، ورجع إلى خراسان، وكتب يزيد
إلى سليمان [5] :
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الله تعالى ذكره قد فتح لأمير
المؤمنين فتحا عظيما، وصنع للمسلمين أحسن الصنع، فلربنا الحمد [6] على
نعمه وإحسانه،
__________
[1] في ت: «لا يرفع السيف عنهم» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «ونهض هو لنيلهم» .
[4] في الأصل: «فأجرى فيهم» وما أوردناه من ت والطبري.
[5] نص الكتاب في تاريخ الطبري 6/ 544.
[6] في الأصل: «فلزمنا الحمد» . وما أوردناه من ت والطبري.
(7/28)
وأظهر في خلافة أمير المؤمنين على جرجان
وطبرستان، وقد أعيا ذلك سابور ذا الأكتاف، وكسرى بن قباد، وكسرى بن
هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطاب، وذا النورين ومن بعدهما، حتى فتح
الله سبحانه ذلك لأمير المؤمنين، كرامة من الله عز وجل له، وزيادة في
نعمه عليه، وقد صار عندي من خمس ما أفاء الله عز وجل على المسلمين بعد
أن صار إلى كل ذي حق حقه من الفيء والغنيمة سبعة [1] آلاف ألف، وأنا
حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله.
وفي هذه السنة كثرت الزلازل ودامت ستة أشهر. وفتح حصن المرأة مما يلي
ملطية.
وفيها: حج بالناس [2] عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وهو
يومئذ أمير على مكة. وكان عمال الأمصار هم الذين كانوا في السنة التي
قبلها، غير أن عامل ابن المهلب على البصرة كان سفيان بن عبد الله
الكندي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
542- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، ويكنى أبا عبد
الله، وهو حليف بني زهرة بن كلاب: [3]
روى عن أبي هريرة، وابن عباس، وأبي طلحة، وسهل بن حنيف، وزيد بن خالد،
وأبي سعيد الخدريّ، وعائشة.
وكان ثقة فقيها، وهو أحد الفقهاء السبعة ومن أكابرهم، وهو مع ذلك شاعر
فصيح. وجده عتبة بن مسعود أخو عبد الله بن مسعود لأبويه، قديم الإسلام
ولم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ومات في خلافة عمر.
وأما ابنه عبد الله فإنه نزل الكوفة ومات بها في خلافة عبد الملك. ومات
عبيد الله بالمدينة في سنة ثمان وتسعين. وقيل: في سنة تسع. وكان الزهري
يسميه بحرا.
__________
[1] كذا في الأصول، وفي الطبري: «ستة ألف ألف» .
[2] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[3] الأغاني 9/ 162، تذكرة الحفاظ 1/ 74، الوفيات 1/ 271، وتهذيب
التهذيب 7/ 23، وصفة الصفوة 2/ 57، وحلية الأولياء 2/ 188.
(7/29)
قال عمر بن عبد العزيز: لو أدركني إذ وقعت
فيما وقعت فيه. وكان عمر يقول: من لي بليلة من ليالي عبيد الله بن عبد
الله بألف دينار. وكان قد ذهب بصره، [وقال شعرا] [1] .
روى عبد الرحمن بن أبي الزناد [2] ، عن أبيه، قال [3] : قدمت المدينة
امرأة من هذيل، وكانت جميلة جدا، فرغب الناس فيها فخطبوها وكادت تذهب
بعقول أكثرهم، فقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود:
أحبك حبا لا يحبك مثله ... قريب ولا في العاشقين بعيد
أحبك حبا لو شعرت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد [4]
وحبك يا أم الصبي مدلهي ... شهيدي أبو بكر فنعم شهيد
ويعرف وجدي القاسم بن محمد ... وعروة ما ألقى بكم وسعيد
ويعلم ما أخفي سليمان علمه [5] ... وخارجة يبدي بنا ويعيد
14/ أ/ متى تسألي عما أقول وتخبري ... فلله عندي طارف وتليد
فقال سعيد بن المسيب: أما أنت والله قد أمنت أن تسألنا وما طمعت إن
سألتنا أن نشهد لك بزور.
قال الزبير: هؤلاء الذين استشهدهم عبيد الله وهو معهم فقهاء المدينة
السبعة الذين أخذ عنهم الرأي.
توفي في هذه السنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «عن عبد الرحمن» . وما أوردناه من ت.
[3] الخبر في الأغاني 9/ 173 (دار الكتب العلمية) .
[4] في الأغاني:
أحبك حبا لو علمت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد
وحبك يا أم الصبي مدلهي ... شهيدي أبو بكر وأي شهيد
ويعلم وجدي القاسم بن محمد ... وعروة ما ألقى بكم وسعيد
ويعلم ما أخفي سليمان علمه ... وخارجة يبدي لنا ويعيد
متى تسألي عما أقول فتخبري ... فللحب عندي طارف وتليد
[5] في الأصل: «سليمان خامسا» ، وما أوردناه من ت.
(7/30)
ثم دخلت سنة تسع
وتسعين
فمن الحوادث فيها وفاة سليمان بن عبد الملك [1] وخلافة عمر بن عبد
العزيز.
باب ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز [2]
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، ويكنى أبا حفص، وأمه أم عاصم
بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
روى عن ابن عمر، وأنس، وعبد الله بن جعفر، وعمر بن أبي سلمة، والسائب
بن يزيد. وأرسل الحديث عن جماعة من القدماء، وروى عن خلق [كثير] [3] من
التابعين، وكان عالما دينا.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 546، والكامل 4/ 311.
[2] تاريخ الطبري 6/ 550، 565، ومروج الذهب 3/ 192، والكامل 4/ 312،
327، والبداية والنهاية 9/ 206، 214 والأغاني 9/ 292.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/31)
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ
الْبَزَّازُ، قَالَ: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمرو بن
حيوية، قال: أخبرنا سليمان بن إسحاق الجلاب، قَالَ: حَدَّثَنَا
الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدٍ [قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن أبي إسحاق، قال: حدثنا إبراهيم
بن عياش، قال: حدثني ضمرة] [1] ، قال: قال ابن شوذب:
لما أراد عبد العزيز بن مروان أن يتزوج أم عمر بن عبد العزيز قال
لقيمه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي فإني أريد أن أتزوج إلى أهل
بيت لهم صلاح. فتزوج أم عمر بن عبد العزيز.
وما زال عمر يميل إلى الخير والدين مع أنه ولي الإمارة، وكانوا يفزعون
إليه في أحوالهم. ولما مرض سليمان كتب العهد لابنه أيوب، ولم يكن
بالغا، فرده عن ذلك رجاء بن حيوة فقال له: فما ترى في ابني داود، فقال
له: هو بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت، قال: فمن؟ فقال: رأيك
يا أمير المؤمنين، قال: كيف ترى في عمر؟
فقال: أعلمه والله فاضلا خيرا [2] مسلما، فقال: لئن وليته ولم أول أحدا
من ولد عبد الملك لتكونن فتنة، ولا يتركونه، فكتب له، وجعل من بعده
يزيد، وختم الكتاب، وأمر أن يجمع أهل بيته، وأمر رجاء بن حيوة أن يذهب
بكتابه إليهم، وأمرهم أن يبايعوا من فيه [3] ، ففعلوا، ثم دخلوا على
سليمان والكتاب بيده، فقال: هذا عهدي فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا.
قال رجاء: فجاءني عمر بن عبد العزيز، فقال: يا رجاء، قد كانت لي
بسليمان حرمة وأنا أخشى أن يكون قد أسند إلي من هذا الأمر شيئا، فإن
كان فأعلمني أستعفيه، فقال رجاء: والله لا أخبرك بحرف، فمضى [قال:] [4]
وجاءني هشام فقال: لي حرمة وعندي شكر فأعلمني، فقلت: لا والله لا أخبرك
[5] [بحرف] [6] . فانصرف هشام وهو يضرب بيد على يد ويقول: فإلى من؟
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ابن سعد 5/ 243.
[2] في الأصل: «خيارا» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «فليبايعوا لمن فيه» . وما أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «لا أخبرتك» . وما أوردناه من ت.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/32)
فلما مات سليمان جددت البيعة قبل أن يخبر
بموته، فبايعوا، ثم قرأ الكتاب، فلما ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام:
والله لا نبايعه، فقال له رجاء: إذن والله أضرب عنقك، قم فبايع، فقام
يجر رجليه ويسترجع إذ خرج عنه الأمر، وعمر يسترجع إذ وقع فيه.
ثم جيء بمراكب الخلافة، فقال عمر: قربوا لي بغلتي، ثم أنشد يقول: [1]
ولولا التقى ثم النهى خشية الردى ... لعاصيت في حب الهوى كل زاجر
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى ... له صبوة أخرى الليالي الغوابر
ثم قال: إن شاء الله، ثم خطب فقال: يا أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا
الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا مشورة. وإني قد خلعت ما في أعناقكم
من بيعتي فاختاروا لأنفسكم، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير
المؤمنين ورضينا بك فلي أمرنا باليمن والبركة. فقال: أوصيكم بتقوى
الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف، فاعملوا
لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم
يصلح الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت وأحسنوا الاستعداد له قبل أن
ينزل بكم، وإن امرأ لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم أبا حيا لمعرق
[2] له في الموت.
ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت
وأمر ببيعها وإدخال ثمنها في بيت المال ورد المظالم.
أخبرنا علي بن أبي عمر، قال: أخبرنا محمد بن الحسن الباقلاوي، قال:
أخبرنا عبد الملك [بن بشران] [3] ، قال: أخبرنا أبو بكر الآجري، قال:
حدثنا أبو عبد الله بن مخلد، قال: حدثني سهل بن عيسى المروزي، قال:
حدثني القاسم بن محمد بن الحارث المروزي، قال: حدثني سهل بن يحيى بن
محمد، قال: أخبرني أبي، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال:
لما بلغ الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم قالوا: ما ينبغي لنا أن
نقاتل هذا
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 250.
[2] أي: صار فيه عريقا وله به صلة.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/33)
الرجل. وبلغ ذلك عمر بن الوليد بن عبد
الملك، فكتب إليه: إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء، وعبت
عليهم وسرت بغير سيرتهم بغضا لهم وسبى لمن بعدهم من أولادهم، قطعت
ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم،
فأدخلتها في بيت المال جورا وعدوانا، ولن تترك على هذا، فلما قرأ
كتابه كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمر بن
الوليد، السلام على المرسلين والحمد للَّه رب العالمين، أما بعد،
فإنني بلغني كتابك وسأجيبك بنحو منه: أما أول شأنك ابن الوليد كما
زعم فأمك بنانة أمة السكون، كانت تطوف في سوق حمص وتدخل في
حوانيتها، ثم الله أعلم بما اشتراها ذبيان من فيء المسلمين،
فأهداها لأبيك، فحملت بك، فبئس المحمول وبئس المولود. ثم نشأت فكنت
جبارا عنيدا، أتزعم أني من الظالمين لما حرمتك وأهل بيتك فيء الله
عز وجل الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل، وإن أظلم مني
وأترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين تحكم فيهم
برأيك، ولم تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، فويل لك وويل
لأبيك، ما أكثر خصماء كما يوم القيامة، وكيف ينجو أبوك من خصمائه.
وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف يسفك الدم
الحرام، ويأخذ المال الحرام. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من
استعمل قرة بن شريك أعرابيا جافيا على مصر أذن له في المعازف
واللهو والشرب. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لعالية
البربرية سهما في خمس فيء العرب فرويدا يا ابن بنانة، فلو التقى
خلقا البطان ورد الفيء إلى أهله لتفرغت لك ولأهل بيتك فوضعتهم على
المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وأخذتم في بنيات الطريق، ومن
وراء هذا ما أرجو أن أكون رأيته بيع رقبتك وقسم ثمنك بين اليتامى
والمساكين والأرامل فإن لكل فيك حقا، والسلام علينا ولا ينال سلام
الله الظالمين.
أخبرنا هبة الله بن أحمد الحريري بإسناده عن عمرو بن مهاجر [1]
قهرمان عمر بن عبد العزيز، قال:
كان نقش خاتم عمر بن عبد العزيز «الوفاء عزيز» .
__________
[1] في ت: «وروى عن عمر بن مهاجر» .
(7/34)
أخبرنا علي بن أبي عمر بإسناد له عن [1]
قبيصة، قال: سمعت سفيان الثوري يقول:
الخلفاء خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز
[رضي الله عنهم] .
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بْنُ عَبْدِ
الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ الْمَرْزُبَانُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا
الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ
[2] :
لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفَدَ
الشُّعَرَاءُ إِلَيْهِ [3] ، فَأَقَامُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لا
يُؤْذَنُ لَهُمْ. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ وَقَدْ أَزْمَعُوا عَلَى
الرَّحِيلِ إِذْ مَرَّ بِهِمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ- وَكَانَ مِنْ
خُطَبَاءِ أَهْلِ الشَّامِ- فَلَمَّا رَآهُ جَرِيرٌ دَاخِلا عَلَى
عمر أنشأ يقول:
يا أيها الرَّجُلُ الْمُرْخِي عِمَامَتَهُ ... هَذَا زَمَانُكَ
فَاسْتَأْذِنْ لَنَا عُمَرَا
قَالَ: فَدَخَلَ وَلَمْ يَذكر مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْئًا، ثُمَّ
مَرَّ بِهِمْ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَأَةَ، فقال له جرير [4] :
يا أيّها الرَّجُلُ الْمُرْخِي مَطِيَّتَهُ ... هَذَا زَمَانُكَ
إِنِّي قَدْ مَضَى زَمَنِي [5]
أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إِنْ كُنْتَ لاقِيَهُ ... أَنِّي لَدَى
الْبَابِ كَالْمَصْفُودِ فِي قَرَنِ
لا تنس حاجتنا لقّيت مَغْفِرَةً ... قَدْ طَالَ مُكْثِي عَنْ
أَهْلِي وَعَنْ وَطَنِي
قَالَ: فَدَخَلَ عَدِيٌّ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، الشُّعَرَاءُ بِبَابِكَ وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ
وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي، ما لي وَلِلشُّعَرَاءِ، قَالَ:
أَعَزَّ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد امتدح وأعطى، ولك فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ، قَالَ:
كَيْفَ؟ قَالَ: امْتَدَحَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ
السُّلَمِيُّ فَأَعْطَاهُ حُلَّةً قَطَعَ بِهَا لِسَانَهُ، قال:
__________
[1] في ت: «بإسناده» .
[2] الخبر في البداية والنهاية 9/ 295.
[3] في ت: «وفد الشعراء عليه» .
[4] ديوانه 588.
[5] في الأصل: «المزجي مطيته» وفي ت: «المزحي» وفي الديوان:
«المرخي عمامته» .
(7/35)
أَوَ تَرْوِي مِنْ قَوْلِهِ شَيْئًا؟
قَالَ: نَعَمْ، فَأَنْشَدَهُ يَقُولُ:
رَأَيْتُكَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلَّهَا ... نَشَرْتَ
كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ مُعَلِّمًا
[شَرَعْتَ لَنَا دِينَ الْهُدَى بَعْدَ جَوْرِنَا ... عَنِ
الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الْحَقُّ مُظْلِمًا] [1]
وَنَوَّرْتَ بِالتِّبْيَانِ أَمرًا مُدَلَّسًا ... وَأَطْفَأْتَ
بِالْقُرْآنِ نَارًا تَضَرَّمَا
فَمَنْ مُبَلِّغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... وَكُلُّ
امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا كَانَ قَدَّمَا
أَقَمْتَ سَبِيلَ الْحَقِّ بَعْدَ اعْوِجَاجِهِ ... وَكَانَ
قَدِيمًا رُكْنهُ قَدْ تَهَدَّمَا
تَعَالَى عَلَوْا فَوْقَ عَرْشِ إِلَهَنَا ... وَكَانَ مَكَانُ
اللَّهِ أَعْلا وَأَعْظَمَا
قَالَ: وَيْحَكَ يَا عَدِيُّ، مَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ؟ قَالَ:
عُمَرُ بْن عَبْد اللَّه بْن [أَبِي] [2] رَبِيعَةَ، قَالَ:
أَوَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
ثَمَّ نَبَّهْنَهَا فَهَبَّتْ كَعَابًا ... طَفِلَةً مَا تُبَيِّنُ
رَجْعَ الْكَلامِ
سَاعَةً ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدُ قَالَتْ ... وَيْلَتَا قَدْ
عَجِلْتَ يَا ابْنَ الْكِرَامِ
أَعَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ جِئْتَ تَسْرِي ... تَتَخَطَّى إِلَى
رُءُوسَ النِّيَامِ
فَلَوْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ إِذْ فَجَرَ كَتَمَ عَلَى نَفْسِهِ،
لا يَدْخُلُ عَلَيَّ واللَّهِ أَبَدًا، [مَنْ] [3] بِالْبَابِ
سِوَاهُ؟ قَالَ: هَمَّامُ بْنُ غَالِبٍ يَعْنِي الْفَرَزْدَقَ-
قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
هُمَا دَلَّيَانِي مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً ... كَمَا انْقَضَّ باز
أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بِالأَرْضِ قَالَتَا ... أَحَيٌّ يُرْجَى أَمْ
مَثِيلٌ نُحَاذِرُهُ
لا يَطَأُ وَاللَّهِ بُسَاطِي، فَمَنْ سِوَاهُ بِالْبَابِ
مِنْهُمْ؟ قَالَ: الأَخْطَلُ، قَالَ: يَا عَدِيُّ، هُوَ الَّذِي
يَقُولُ:
وَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانَ طَوْعًا ... وَلَسْتُ بآكل لحم
الأضاحي
ولست بزاجر عيسا بكور ... إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ
وَلَسْتُ بِزَائِرٍ بَيْتًا بَعِيدًا ... بِمَكَّةَ أَبْتَغِي
فِيهِ صَلاحِي
وَلَسْتُ بِقَائِمٍ كَالْعِيرِ أَدْعُو ... قَبِيلَ الصُّبْحِ
حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ
__________
[1] البيت ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/36)
وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شُمُولا ...
وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ
وَاللَّهِ لا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ كَافِرٌ أَبَدًا، فَهَلْ
بِالْبَابِ سِوَى مَنْ ذَكَرْتَ؟ قَالَ: نَعَمِ الأَحْوَصُ، قَالَ:
أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا ... يَفِرُّ مِنِّي بِهَا
وَأَتْبَعُهُ
فمن هاهنا أَيْضًا؟ قَالَ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: يَا
عَدِيُّ، هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
أَلا لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَإِنْ أَمُتْ ... يُوَافِقُ فِي
الْمَوْتَى ضَرِيحِي ضَرِيحَهَا
فَمَا أَنَا فِي طُولِ الْحَيَاةِ بِرَاغِبٍ ... إِذَا قِيلَ قَدْ
سُوِّيَ عَلَيْهَا صَفِيحُهَا
فَلَوْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ تَمَنَّى لِقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا
لِيَعْمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ صَالحًا، وَاللَّهِ لا يَدْخُلُ عَلَيَّ
أَبَدًا، فَهَلْ سِوَى مَنْ ذَكَرْتَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ
جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: أَمَا أَنَّهُ الَّذِي يَقُولُ:
طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ الْقُلُوبِ فَلَيْسَ ذَا ... حِينَ
الزِّيَارَةِ فَارْجَعِي بِسَلامٍ
فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَهُوَ، قَالَ: فَأَذِنَ لِجَرِيرٍ،
فَدَخَلَ وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... جَعَلَ
الْخِلافَةَ لِلإِمَامِ الْعَادِلِ
وَسِعَ الْخَلائِقَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ ... حَتَّى ارْعَوَى
فَأَقَامَ مَيْلَ الْمَائِلِ
إِنِّي لأَرْجُو مِنْكَ خَيْرًا عَاجِلا ... وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ
بِحُبِّ الْعَاجِلِ
فَلَمَّا مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ،
اتَّقِ اللَّهَ وَلا تَقُلْ إِلا حَقًّا، فَأَنْشَأَ جَرِيرٌ
يَقُولُ [1] :
أَأَذكر الْجَهْدَ وَالْبَلْوَى الَّتِي نَزَلَتْ ... أَمْ قَدْ
كَفَانِي بِمَا بَلَغْتُ مِنْ خَبَرِي
كَمْ بِالْيَمَامَةِ مِنْ شَعْثَاءَ أَرْمَلَةٍ ... وَمِنْ يَتِيمٍ
ضَعِيفِ الصَّوْتِ وَالنَّظَرِ
مِمَّنْ يَعدكَ تَكْفِي فَقْدَ وَالِدِهِ ... كَالْفَرْخِ فِي
الْعُشِّ لَمْ ينهض ولم يطر [2]
يدعوك دَعْوَةَ مَلْهُوفٍ كَأَنَّ بِهِ ... خَبَلا مِنَ الْجِنِّ
أو مسا من البشر [3]
__________
[1] ديوانه 374.
[2] في ديوانه: «لم يدرج ولم يطر» .
[3] في ديوانه: «أو خيلا من النشر» .
(7/37)
خَلِيفَةَ اللَّهِ مَاذَا تَأْمُرُونَ
بِنَا ... لَسْنَا إِلَيْكُمْ وَلا فِي دَارِ مُنْتَظَرِ
مَا زِلْتُ بَعْدَكَ فِي هَمٍّ يُؤَرِّقُنِي ... قَدْ طَالَ فِي
الْحَيِّ [1] إِصْعَادِي وَمُنْحَدَرِي
لا يَنْفَعُ الْحَاضِرُ الْمَجْهُودَ بَادِينَا [2] ... وَلا
يَعُودُ لَنَا بَادٍ عَلَى حَضَرِ
إِنَّا لَنَرْجُو إِذَا مَا الْغَيْثُ أَخْلَفَنَا ... مِنَ
الْخَلِيفَةِ مَا نَرْجُو مِنَ الْمَطَرِ
نَالَ الْخِلافَةَ إِذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى
رَبُّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
هَذِي الأَرَامِلُ قَدْ قَضَيْتَ حَاجَتَهَا ... فَمَنْ لِحَاجَةِ
هَذَا الأَرْمَلِ الذكر
الْخَيْرُ مَا دُمْتَ حَيًّا لا يُفَارِقُنَا ... بُورِكْتَ يَا
عُمَرُ الْخَيْرَانِ مِنْ عُمَرِ
فَقَالَ: يَا جَرِيرُ، مَا أَرَى [لَكَ] [3] فِيمَا هَا هُنَا
حَقًّا، قَالَ: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا ابْنُ
سَبِيلٍ وَمُنْقَطِعٌ. فَأَعْطَاهُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ مِائَةَ
دِرْهَمٍ.
قَالَ: وَقَدْ ذكر أَنَّهُ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ
لَقَدْ وُلِّينَا هَذَا الأَمْرَ وَمَا نملك إلا ثلاثمائة
دِرْهَمٍ، فَمِائَةٌ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ، وَمِائَةٌ
أَخَذَتْهَا أُمُّ عُبَيْدِ اللَّهِ، يَا غُلامُ أَعْطِهِ
الْمِائَةَ الْبَاقِيَةَ.
قَالَ: فَأَخَذَهَا وَقَالَ: وَاللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ مِنْ كُلِّ
مَا اكْتَسَبْتُهُ.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لَهُ الشُّعَرَاءُ: مَا وَرَاءَكَ؟
قَالَ: مَا يَسُرُّكُمْ، خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ وَيُعْطِي
الشُّعَرَاءَ، وَإِنِّي عَنْهُ لَرَاضٍ [4] ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
رَأَيْتُ رُقَى الشَّيْطَانِ لا يَسْتَفِزُّهُ ... وَقَدْ كَانَ
شَيْطَانِي مِنَ الْجِنِّ رَاقِيًا
وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ حَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ [5] ، قَالَ:
قَالَ لِي كثيرٌ: أَلا أُخْبِرُكَ بِمَا دَعَانِي إِلَى تَرْكِ
الشِّعْرِ؟ قُلْتُ: خَبِّرْنِي، قَالَ: شَخَصْتُ أَنَا
وَالأَحْوَصُ وَنُصَيْبٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِسَابِقَةٍ لَهُ أَوْ
خَلَّةٍ وَنَحْنُ لا نَشُكُّ فِي أَنَّهُ سَيُشْرِكُنَا فِي
خِلافَتِهِ، فَلَمَّا رُفِعَتْ لَنَا أَعْلامُ خَنَاصِرِهِ
لَقِينَا مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ جَائِيًا مِنْ عِنْدِهِ
وَهُوَ يَوْمَئِذٍ فَتَى الْعَرَبِ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ،
فَرَدَّ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا بَلَغَكُمْ أن إمامكم لا
يقبل
__________
[1] في ديوانه: «بعدك في دار تعرفني قد عيّ بالحي» .
[2] في ديوانه: «بادية» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت: «وأنا عنه راضي» .
[5] في ت: «حماد الرواية» ، والخبر في الأغاني 9/ 295.
(7/38)
الشِّعْرَ، قُلْتُ: مَا وَضَحَ لَنَا
حَتَّى لَقِينَاكَ. وَوَجَمْنَا وَجْمَةً [1] عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا
[2] ، قَالَ: إِنْ يَكُنْ مَا تُحِبُّونَ وَإِلا فَمَا أَلْبَثُ
حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكُمْ فَأَمْنَحَكُمْ مَا أَنْتُمْ أَهْلُهُ،
فَلَمَّا قَدِمَ كَانَتْ رِحَالُنَا هَذِهِ بِأَكْرَمِ مَنْزَلٍ
وَأَفْضَلِ مَنْزُولٍ عَلَيْهِ، وَأَقَمْنَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
يَطْلُبُ لَنَا الإِذْنَ هُوَ وَغَيْرُهُ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَنَا
إِلَى أَنْ قُلْتُ فِي جُمْعَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجُمَعِ: لَوْ
أَنِّي دَنَوْتُ مِنْ عُمَرَ فَسَمِعْتُ كَلامَهُ فتحفظته كان ذلك
رَأْيًا، فَكَانَ مِمَّا تَحَفَّظْتُهُ مِنْ كِلامِهِ يَوْمَئِذٍ:
لِكُلِّ سَفَرٍ لا مَحَالَةَ زَادٌ، فَتَزَوَّدُوا مِنَ الدُّنْيَا
إِلَى الآخِرَةِ التَّقْوَى، وَكُونُوا كَمَنْ عَايَنَ مَا أَعَدَّ
اللَّهُ لَهُ مِنْ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، فترغبوا وترهبوا، ولا
يطولن عليكم الأمر فتقسو قُلُوبُكُمْ وَتَنْقَادُوا لِعَدُوِّكُمْ،
فِي كَلامٍ كَثِيرٍ.
ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ باللَّه، أَنْ آمُرَكُمْ بِمَا أَنْهَى
عَنْهُ نَفْسِي فَتَخْسَرَ صَفْقَتِي وَتَظْهَرَ عَيْبَتِي،
وَتَبْدُوَ مَسْكَنَتِي فِي يَوْمٍ لا يَنْفَعُ فِيهِ إِلا
الْحَقُّ وَالصِّدْقُ. ثُمَّ بَكَى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَاضٍ
نَحْبَهُ، وَارْتَجَّ الْمَسْجِدُ بِالْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ،
فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ: خُذُوا فِي شَرْحٍ مِنَ
الشعر غير ما [كنا] [3] نقول لِعَمِّهِ وَآبَائِهِ، فَإِنَّ
الرَّجُلَ أُخْرَوِيٌّ وَلَيْسَ بِدُنْيَوِيٍّ إِلَى أَنِ
اسْتَأْذَنَ لَنَا مَسْلَمَةُ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فأذن لنا بعد ما
أَذِنَ لِلْعَامَّةِ، فَلَمَّا دَخَلْتُ سَلَّمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ:
يا أمير المؤمنين، طال الثواء وقلت الْفَائِدَةُ، وَتَحَدَّثَتْ
بِجَفَائِكَ إِيَّانَا وُفُودُ الْعَرَبِ، فَقَالَ: يَا كثيرُ،
(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ
عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفي الرِّقابِ
وَالْغارِمِينَ وَفي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ) 9: 60 [4]
أَفِي وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاءِ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ:
ابْنُ سَبِيلٍ [5] مُنْقَطِعٌ [بِهِ] [6] وَأَنَا صَاحِبُكَ،
قَالَ: أَوَلَسْتَ ضَيْفَ أَبِي سَعِيدٍ؟ قُلْتُ: بَلَى، [قَالَ:]
[7] مَا أَرَى مَنْ كَانَ ضَيْفُهُ مُنْقَطِعًا بِهِ، قُلْتُ:
أَفَتَأْذَنُ لِي فِي الإِنْشَادِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟
قَالَ: [قُلْ] وَلا تَقُلْ إِلا حَقًّا، فَقُلْتُ:
__________
[1] في ت: «ورحمنا رحمة» .
[2] في الأصل: «منا» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] سورة: التوبة، الآية: 60.
[5] في ت: «ابن السبيل» .
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/39)
وُلِّيتَ فَلَمْ تَشْتُمْ عَلِيًّا وَلَمْ
تُخِفْ ... بَرِيا وَلَمْ تَقْبَلْ إِشَارَةَ مُجْرِمٍ [1]
وَصَدَّقْتَ بِالْفِعْلِ الْمَقَالِ مَعَ الَّذِي ... أَتَيْتَ
فَأَمْسَى رَاضِيًا كُلُّ مُسْلِمٍ [2]
وَقَدْ لَبِسْت لُبْسَ الْهَلُوكِ [3] ثِيَابَهَا ... تَرَاءَى
لَكَ الدُّنْيَا بِوَجْهٍ وَمِعْصَمٍ [4]
وَتُومِضُ أَحْيَانًا بِعَيْنٍ مَرِيضَةٍ ... وَتَبْسِمُ عَنْ
مِثْلِ الْجُمَانِ الْمُنَظَّمِ [5]
فَأَعْرَضْتَ عَنْهَا مُشْمَئِزًّا كَأَنَّمَا ... سَقَتْكَ
مَذُوقًا مِنْ سِمَامٍ وَعَلْقَمِ
وَقَدْ كُنْتُ مِنْ أَجْبَالِهَا فِي مُمَنَّعٍ ... وَمِنْ
بَحْرِهَا فِي مُزبدِ الْمَوْجِ مُفْعَمِ [6]
فَلَمَّا أَتَاكَ الْمُلْكُ عَفْوًا [7] وَلَمْ يَكُنْ ...
لِطَالِبِ دُنْيَا بَعْدَهُ [8] مِنْ تَكَلُّمِ
تَرَكْتَ الَّذِي يَفْنَى وَإِنْ كَانَ مُونقًا ... وَآثَرْتَ مَا
يَبْقَى بِرَأْيٍ مُصَمِّمِ [9]
سَمَا لَكَ هَمٌّ فِي الْفُؤَادِ مُؤَرِّقٌ ... بَلَغْتَ بِهِ
أَعْلَى الْبِنَاءِ الْمُقَدَّمِ [10]
فَمَا بَيْنَ شَرْقِ الأَرْضِ وَالْغَرْبِ كُلِّهَا ... مُنَادٍ
يُنَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمٍ
يَقُولُ: أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ظَلَمْتَنِي ... بِأَخْذٍ
لِدِينَارٍ وَلا أَخْذِ دِرْهَمِ
وَلا بَسْطِ كَفٍّ بِامْرِئٍ غَيْرِ مُجْرِمٍ ... وَلا السَّفْكِ
مِنْهُ ظَالِمًا مِلْءَ مِحْجَمِ [11]
__________
[1] في الأغاني: «ولم تتبع مقالة مجرم» .
[2] في الأغاني:
وقلت فصدقت الّذي قلت بالذي ... فعلت فأضحى راضيا كل مسلم
[3] في الأصلين: «الملوك» وما أوردناه من الأغاني.
والهلوك من النساء: الفاجرة المتساقطة على الرجال.
[4] في الأغاني: «وأبدت لك الدنيا بكف ومعصم» .
[5] في الأصل: «الجمان المعظم» . وما أوردناه من ت والأغاني.
[6] البيت الّذي بعده في الأغاني.
وما زلت سباقا إلى كل غاية ... صعدت بها أعلى البناء المقدم
[7] في الأصل: «عصوا» . وفي ت: «عضا» . وما أوردناه من الأغاني.
[8] في الأصلين: «بعدها» . وما أوردناه من الأغاني.
[9] البيت الّذي بعده في الأغاني.
فأضررت بالفاني وشمرت للذي ... أمامك في يوم من الهول مظلم
وما لك أن الخليفة مانع ... سوى الله من مال رغيب ولا دم
[10] الشطر الثاني في الأغاني: «صعدت به أعلى المعالي «بسلّم» .
[11] في الأصل: «ولا السفك منه طالما بك محجم» . والتصحيح من
الأغاني.
(7/40)
فَأَرْبِحْ بِهَا مِنْ صَفْقَةٍ
لِمُتَابِعٍ ... وَأَعْظِمْ بِهَا أَعْظِمْ بِهَا ثُمَّ أَعْظِمِ
فَقَالَ لِي: يَا كُثَيْرُ، إِنَّكَ تُسْأَلُ عَمَّا قُلْتَ. ثُمَّ
تَقَدَّمَ الأَحْوَصُ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الإِنْشَادِ، فَقَالَ:
قُلْ وَلا تَقُلْ إِلا حَقًّا، فَقَالَ:
وَمَا الشِّعْرُ إِلا خُطْبَةٌ مِنْ مُؤَلِّفِ ... بِمَنْطِقِ
حَقٍّ أَوْ بِمَنْطِقِ بَاطِلِ
فَلا تَقْبَلَنَّ إِلا الَّذِي وَافَقَ الرِّضَا ... وَلا
تَرْجِعَنَّا كَالنِّسَاءِ الأَرَامِلِ
رَأَيْنَاكَ لَمْ تَعْدِلْ عَنِ الْحَقِّ يَمْنَةً ... وَلا
شَامَةً [1] فِعْلَ الظَّلُومِ الْمُجَادِلِ
وَلَكِنْ أَخَذْتَ الْقَصْدَ جَهْدكَ كُلَّهُ ... تَقْفُو مِثَالَ
الصَّالِحِينَ الأَوَائِلِ [2]
فَقُلْنَا وَلَمْ نَكْذِبْ بِمَا قَدْ بَدَا لَنَا ... وَمَنْ ذَا
يُرِدِ الْحَقَّ مِنْ قَوْلِ قَائِلِ [3]
وَمَنْ ذَا يَرُدُّ السَّهْمَ بَعْدَ مِضَائِهِ [4] ... عَلَى
فوقِهِ إِنْ عَارَ [5] مِنْ نَزْعِ نَابِلِ
وَلَوْلا الَّذِي قَدْ عَوَّدَتْنَا خَلائِفٌ ... غَطَارِيفُ
كَانَتْ [6] كَاللُّيُوثِ الْبَوَاسِلِ
لَمَّا وَخَدَتْ شَهْرًا برجلي رسلهُ [7] ... تَغلُّ مُتُونَ
الْبيدِ [8] بَيْنَ الرَّوَاحِلِ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلشِّعْرِ عِنْدَكَ مَوْضِعٌ ... وَإِنْ كَانَ
مِثْلَ الدُّرِّ مِنْ قَوْلِ قَائِلِ [9]
فَإِنَّ لَنَا قُرْبَى وَمَحْضَ مَوَدَّةٍ ... وَمِيرَاثَ آبَاءٍ
مَشَوْا بِالْمَنَاصِلِ
فَذَادُوا عَمُودَ الشِّرْكِ [10] عَنْ عُقْرِ دَارِهِمْ ...
وَأَرْسَوْا عمود الدين بعد التمايل
وَقَبْلَكَ مَا أَعْطَى هُنَيْدَةَ جِلَّةً ... عَلَى الشِّعْرِ
كَعْبًا مِنْ سَدِيسٍ وَبَازِلِ
رَسُولُ الإِلَهِ الْمُسْتَضَاءُ بنوره [11] ... عليه سلام بالضحى
والأصائل
__________
[1] في الأغاني: «ولا يسرة» .
[2] في الأصل: «تقدمناك الصالحين الأوائل» . وما أوردناه من ت
والأغاني.
[3] في الأغاني: «قول عاذل» .
[4] في الأغاني: «بعد مروقه» .
[5] في الأصل: «إذ عار» . وما أوردناه من ت والأغاني.
[6] في الأصلين: «غطارف كانوا» . وما أوردناه من الأغاني.
[7] في الأصل: «ترجل رسله» . وما أوردناه من ت، وفي الأغاني:
«برجلي جسرة» .
[8] في الأصلين: «بقد متان البيد بين» . وما أوردناه من الأغاني.
[9] في الأصلين: «من قيل قائل» . وما أوردناه من الأغاني.
[10] في الأغاني: «فذادوا عدو السلم» .
[11] في الأغاني: «رسول الإله المصطفى بنبوة» .
(7/41)
فَكُلُّ الَّذِي عَدَّدْتُ يَكْفِيكَ
بَعْضُهُ ... وَنَيلُكَ [1] خَيْرٌ مِنْ بُحُورٍ سَوَائِلِ
فَقَالَ: يَا أَحْوَصُ، إِنَّكَ تُسْأَلُ عَمَّا قُلْتَ.
وَتَقَدَّمَ نُصَيْبٌ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الإِنْشَادِ فَلَمْ
يَأْذَنْ لَهُ وَأَمَرَهُ بِالْغَزْوِ إِلَى دابق، فخرج وهو محموم.
وأمر لي بثلاثمائة دِرْهَمٍ، وَلِلأَحْوَصِ بِمِثْلِهَا،
وَلِنُصَيْبٍ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا [2] .
قال المصنف: وما زال عمر بن عبد العزيز منذ ولي يجتهد في العدل
ومحو الظلم وترك الهوى، وكان يقول للناس: ارحلوا إلى بلادكم [3]
فإني أنساكم ها هنا وأذكركم في بلادكم. ومن ظلمه عامله فلا إذن له
علي.
وخير جواريه لما ولي، فقال: قد جاء أمر شغلني عنكن فمن أحب أن
أعتقه أعتقته، ومن أراد أن أمسكه أمسكته ولم يكن مني إليها شيء،
قالت زوجته فاطمة: ما أعلم أنه اغتسل لا من جنابة ولا من احتلام
منذ ولي إلى أن مات.
وقيل لها: اغسلي قميصه، فقالت: والله ما يملك غيره.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن
محمد العلاف، قال:
أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي،
قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر، قال: أخبرنا أبو الفضل الربعي،
قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، عن الهيثم بن عدي، قال:
كانت لفاطمة بنت عبد الملك بن مروان- زوجة عمر- جارية ذات جمال
فائق، وكان عمر معجبا بها قبل أن تفضي إليه الخلافة، فطلبها منها
وحرص، فغارت من ذلك، فلم تزل في نفس عمر، فلما استخلف أمرت فاطمة
بالجارية فأصلحت ثم حليت، فكانت حديثا في حسنها وجمالها، ثم دخلت
فاطمة بالجارية على عمر، فقالت: يا أمير المؤمنين، إنك كنت بفلانة
معجبا، وسألتنيها فأبيت ذلك عليك، وإن نفسي قد طابت لك بها اليوم،
فدونكها، فلما قالت ذلك استبانت الفرح في وجهه، ثم قال: ابعثي بها
إلي، ففعلت، فلما دخلت عليه نظر إلى شيء أعجبه فازداد بها عجبا،
فقال لها: ألقي
__________
[1] في الأصل: «وفلك» . وما أوردناه من الأغاني.
[2] في ت: وأمر لي بثلاثمائة درهم ثم أمر للأحوص بمثل ما أمر لكثير
من الدراهم ولنصيب بخمسين درهما.
وفي الأغاني: «وأمر لي وللأحوص لكل واحد بمائة وخمسين درهما» .
[3] في ت: «الحقوا ببلادكم» .
(7/42)
ثوبك، فلما همت أن تفعل قال: على رسلك،
اقعدي، أخبريني لمن كنت؟ ومن أين أنت لفاطمة؟ قالت: كان الحجاج بن
يوسف أغرم عاملا كان له من أهل الكوفة مالا، وكنت في رقيق ذلك
العامل فاستصفاني عنه مع رقيق له وأموال، فبعث بي إلى عبد الملك بن
مروان وأنا يومئذ صبية، فوهبني عبد الملك لابنته فاطمة. قال: وما
فعل ذلك العامل؟ قالت: هلك، قال: وما ترك ولدا؟ قالت: بلى، قال:
وما حالهم؟ قالت:
بشر، قال: شدي عليك ثوبك.
ثم كتب إلى عبد الحميد عامله على بلدهم: أن سرح إلي فلان بن فلان
على البريد، فلما قدم قال: ارفع إلي جميع ما أغرم الحجاج أباك فلم
يرفع إليه شيئا إلا دفعه إليه، ثم أمر بالجارية فدفعت إليه، فلما
أخذ بيدها قال: إياك وإياها فإنك حديث السن ولعل أباك أن يكون قد
وطئها، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين هي لك، قال: لا حاجة لي
فيها، قال: فابتعها مني، قال: لست إذا ممن ينهى النفس عن الهوى.
فمضى بها الفتى فقالت له الجارية: فأين موجدتك بي [1] يا أمير
المؤمنين؟ قال: إنها لعلى حالها ولقد ازدادت، فلم تزل الجارية في
نفس عمر حتى مات.
أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْجُرَيْرِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ الْمُغَلِّسِ الْجُمَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
عَبْدِ الْحَمِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ
سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ:
قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ وُلِّيَ
الْخَلافَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ عَرَفَنِي وَلَمْ أعرفه،
فقال: ادن مني، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: أَنْتَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ:
أَلَمْ تَكُنْ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ أَمِيرًا، فَكَانَ
مَرْكَبُكَ وَطِيًّا، وَثَوْبُكَ نَقِيًّا وَوَجْهُكَ بَهِيًّا،
وطعامك شهيا، وخدمك كثير، فَمَا الَّذِي غَيَّرَكَ وَأَنْتَ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَبَكَى وَقَالَ: يَا أَبَا حَازِمٍ،
كَيْفَ لَوْ رَأَيْتَنِي بَعْدَ ثَلاثٍ فِي قَبْرِي وَقَدْ سَالَتْ
حَدَقَتَايَ على وجنتي، ثم جف لساني، وانشقت بَطْنِي وَجَرَتِ
الدِّيدَانُ فِي بَدَنِي لَكُنْتَ لِي أَشَدَّ إِنْكَارًا، أَعِدْ
عَلَيَّ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثْتَنِي بِالْمَدِينَةِ، قُلْتُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن
بين أيديكم عقبة كؤودا مُضَرَّسَةً لا يَجُوزُهَا إِلا كُلُّ
ضَامِرٍ مَهْزُولٍ» .
__________
[1] في الأصل: «موجدتك في» . وما أوردناه من ت.
(7/43)
قال: فبكي بكاء طويلا ثم قال لي: يا أبا
حازم، أما ينبغي لي أن أضمر نفسي لتلك العقبة فعسى أن أنجو منها
يومئذ [1] ، وما أظن أني مع هذا البلاء الذي ابتليت به من أمور
الناس بناج. ثم رقد ثم تكلم الناس، فقلت: أقلوا الكلام [2] فما فعل
به ما ترون إلا سهر الليل، ثم تصبب عرقا في يوم الله أعلم كيف كان،
ثم بكى حتى علا نحيبه، ثم تبسم، فسبقت الناس إلى كلامه، فقلت: يا
أمير المؤمنين، رأيت منك عجبا، إنك لما رقدت تصببت عرقا حتى ابتل
ما حولك، ثم بكيت حتى علا نحيبك ثم تبسمت، فقال لي:
وقد رأيت [3] ذلك؟ قلت: نعم ومن كان حولك من الناس رآه، فقال لي:
يا أبا حازم، إني لما وضعت رأسي فرقدت، رأيت كأن القيامة قد قامت
واجتمع الناس، فقيل: انهم عشرون ومائة صف فملئوا الأفق، أمة محمد
من ذلك ثمانون صفا [4] مهطعين إلى الداعي [5] ينتظرون متى يدعون
إلى الحساب، إذ نودي: أين عبد الله بن عثمان أبو بكر الصديق؟ فأجاب
فأخذته الملائكة فأوقفوه أمام ربه عز وجل، فحوسب ثم نجا [وأخذ به
ذات اليمين، ثم نودي بعمر فقربته الملائكة، فوقفوه أمام ربه، فحوسب
ثم نجا] [6] وأمر به وبصاحبه إلى الجنة. ثم نودي بعثمان، فأجاب،
فحوسب يسيرا، ثم أمر به إلى الجنة، ثم نودي بعلي بن أبي طالب،
فحوسب ثم أمر به إلى الجنة [7] . فلما قرب الأمر مني أسقط في يدي،
ثم جعل يؤتى بقوم لا أدري ما حالهم، ثم نودي: أين عمر بن عبد
العزيز؟ فتصببت عرقا، ثم سئلت عن الفتيل والنقير والقطمير وعن كل
قضية قضيت بها [8] ، ثم غفر لي، فمررت بجيفة ملقاة، فقلت للملائكة:
من هذا؟ فقالوا: إنك لو كلمته كلمك، فوكزته برجلي فرفع رأسه إلي
وفتح عينيه، فقلت له: من أنت؟ فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا عمر بن
عبد العزيز، قال: ما فعل الله بك؟ قلت: تفضل علي وفعل بي ما فعل
بالخلفاء الأربعة الذين غفر لهم، وأما الباقون فما أدري ما فعل
بهم،
__________
[1] في ت: «أنجو منها يوم القيامة» .
[2] في ت: «اطووا الكلام» .
[3] في ت: «ورأيت» .
[4] «صفا» : سقطت من ت.
[5] «إلى الداعي» . سقط من ت.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] «ثم نودي بعلي ... ثم أمر به إلى الجنة» : ساقطة من ت.
[8] في الأصل: «قضيتها بها» . وما أوردناه من ت.
(7/44)
فقال لي: هنيئا لك ما صرت إليه. قلت له: من
أنت؟ قال: أنا الحجاج، قدمت على الله عز وجل فوجدته شديد العقاب
فقتلني بكل قتلة قتلة، وها أنا موقوف بين يدي الله عز وجل أنتظر ما
ينتظر الموحدون من ربهم، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قال أبو حازم: فعاهدت الله عز وجل بعد رؤيا عمر بن عبد العزيز ألا
أقطع [1] على أحد بالنار ممن يموت وهو يقول لا إله إلا الله.
وفي هذه السنة وجه عمر إلى مسلمة بن
عبد الملك وهو بأرض الروم فأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين
[2]
أنبأنا زاهر بن طاهر، قَالَ: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين
البيهقي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عَبْد اللَّه الحاكم،
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يعقوب، قال: حدثنا محمد بن النعمان
بن بشير النيسابوري، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثني نوح بن
أبي مريم، عن حجاج بن أرطأة، قال:
كتب ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز: من ملك الهند الذي في مربطه
[3] ألف فيل، والذي تحته ألف ملك، والذي له نهران ينبتان العود
والكافور، إلى ملك العرب الذي لا يشرك باللَّه شيئا، أما بعد..
فإني قد [4] أهديت لك هدية وما هي بهدية ولكنها تحية [5] ، وأحببت
أن تبعث إلي رجلا يعلمني ويفهمني الإسلام.
وفي هذه السنة أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا جماعة من المسلمين،
فوجه عمر من قتلهم فلم يفلت منهم إلا اليسير، وقدم عليه منهم
بخمسين أسيرا.
وفيها عزل عمر يزيد بن المهلب عن العراق وحبسه، ووجه على البصرة
وأرضها عدي
__________
[1] في الأصل: «أني لا أقطع» . وما أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 553.
[3] في الأصل: «الّذي على مربطه» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «فقد أهديت» . وما أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «ولكنها تحفة» . وما أوردناه من ت.
(7/45)
ابن أرطأة الفزاري، ووجه على الكوفة [1]
وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن القرشي، وضم إليه أبا الزناد،
فكان أبو الزناد كاتب عبد الحميد.
وفيها: حج بالناس أبو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ، وكان عامل عمر على المدينة. وكان عامله على مكة عبد العزيز
بن عبد الله بن خالد بن أسيد، [وعلى الكوفة وأرضها عبد الحميد بن
عبد الرحمن، وعلى البصرة وأرضها عدي بن أرطأة] [2] وعلى خراسان
الجراح بن عبد الله، وعلى قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرة
المزني.
[وكان] [3] الواقدي يقول: كان على قضاء الكوفة من قبل عبد الحميد
الشعبي، وعلى قضاء البصرة من قبل عدي بن أرطأة الحسن البصري، ثم إن
الحسن استعفى عديا فأعفاه وولى إياسا.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
543- إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي [4] :
كان شريفا كريما، ويسمى أسد قريش وأسد الحجاز، وكان أعرج، وهو أخو
عَبْد اللَّه بْن حسن [بْن حسن] [5] بْن علي لأمه فاطمة بنت
الحسين.
روى عن أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس. واستعمله عبد الله بن
الزبير على خراج الكوفة. توفي بمنى ليلة جمع محرما، ودفن أسفل
العقبة.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا علي بن أحمد بْن البسري، عن أبي
عبد الله بْن بطة العكبري، قال: أخبرنا أبو بكر الآجري، قال:
أخبرنا أبو نصر محمد بن كردي، قال:
أخبرنا أبو بكر المروزي، قال: أخبرت أن عمر بن عبد العزيز قال:
لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتل ابن الزبير أشخص إبراهيم
بن
__________
[1] في الأصل: «وبعث على الكوفة» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] الجرح والتعديل 1/ 1/ 124، وتهذيب التهذيب 1/ 154، والتاريخ
الكبير 1/ 1/ 316، والبرصان والعرجان للجاحظ 137، والمعارف 232.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/46)
محمد بن طلحة بن عبيد الله وقربه في
المنزلة، فلم يزل كذلك عنده [1] حتى خرج إلى عبد الملك بن مروان
زائرا له، فخرج معادلا له لا يترك توشيحه وتعظيمه، فلما حضر باب
عبد الملك حضر معه [2] ، فدخل على عبد الملك فلم يبدأ بشيء بعد
التسليم أولى من أن قال: قدمت عليك يا أمير المؤمنين برجل الحجاز،
لم أدع والله له فيها [3] نظيرا في كمال المروءة والأدب وحسن
المذهب والطاعة والنصيحة مع القرابة ووجوب الحق وفضل الأبوة
إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله وقد أحضرته بابك أسهل عليه
أذنك، وتلقاه ببشرك، وتفعل به ما تفعل بمثله ممن كانت مذاهبه مثل
مذاهبه. فقال عبد الملك: ذكرتنا حقا واجبا ورحما قريبة، يا غلام
إئذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة. فلما دخل قربه حتى أجلسه على فراشه
ثم قال له: يا ابن طلحة، إن أبا محمد ذكرنا ما لم نزل نعرفك به في
الفضل والأدب وحسن المذهب مع قرابة الرحم ووجوب الحق، فلا تدعن
حاجة في خاص من أمرك ولا عام إلا ذكرتها، قال: يا أمير المؤمنين،
إن أولى الأمور أن يفتتح به الحوائج وترجى به الزلف ما كان للَّه
عز وجل رضى، ولحق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أداء، ولك ولجماعة
المسلمين نصيحة، وإن عندي نصيحة لا أجد بدا من ذكرها، ولا يكون
البوح بها إلا وأنت خال، فأخلني حتى ترد عليك نصيحتي، قال: دون أبا
محمد؟ قال: دون أبا محمد، قال: قم يا حجاج، فلما جاز حد الستر قال:
قل يا أبا طلحة نصيحتك، قال: يا أمير المؤمنين، إنك عمدت إلى
الحجاج في تغطرسه [4] وتعجرفه وبعده من الحق وركونه إلى الباطل
فوليته الحرمين وبهما من بهما، وفيهما من فيهما من المهاجرين
والأنصار والموالي والأخيار أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وأبناء الصحابة يسومهم الخسف، ويطؤهم بالعسف، ويحكم
بينهم بغير السنة، ويطؤهم بطغام من أهل الشام، وزعازع لا روية لهم
في إقامة حق ولا إزاحة باطل، ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله
راهق، وفيما بينك وبين رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا جاثاك لخصومته إياك في أمته، أما والله لا تنجو
هنالك إلا بحجة تضمن لك النجاة، فاربع على نفسك أودع. فقال: كذبت
ومنت وظن بك الحجاج ما لم نجده عندك،
__________
[1] في ت: «فلم تزل تلك حاله عنده» .
[2] في الأصل: «حضرته معه» . وما أوردناه من ت.
[3] في ت الأصل: «لم أدع له والله فيها» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «في تغترسه» . وما أوردناه من ت.
(7/47)
فلربما ظن الخير بغير أهله، قم فأنت الكاذب
المائن، قال: فقمت وما أبصر طريقا، فلما خلفت الستر لحقني لا حق من
قبله فقال للحاجب: احبس هذا، ادخل يا أبا محمد.
قال: فدخل الحجاج فلبث مليا لا أشك أنهما في أمري، ثم خرج الإذن:
قم يا أبا طلحة ادخل، فقمت فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج وهو
خارج وأنا داخل، فاعتنقني وقبل ما بين عيني ثم قال: إذا ما جزى
الله المتواخين [1] بفضل تواصلهم جزاك [2] الله أفضل ما جزى أخا عن
أخيه، فو الله لئن سلمت لأرفعن ناطرك، ولأعلين كفك ولأتبعن الرجال
غبار قدمك. قال: قلت: تهزأ بي. فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى
أجلسني في مجلسي الأول ثم قال: يا ابن طلحة، لعل أحدا من الناس
شاركك في نصيحتك، قلت: لا والله ولا أعلم أحدا كان أظهر عندي
معروفا ولا أوضح يدا من الحجاج، ولو كنت محابيا أحدا بديني لكان
هو، ولكني آثرت الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين
وأنت عليه. قال: قد علمت أنك آثرت الله، ولو أردت الدنيا كان لك في
الحجاج كفاية، وقد أزحت الحجاج عن الحرمين [وأعلمته أنك استنزلتني
له عنهما استصغارا لهما عنه] [3] ووليته العراقين لما هناك من
الأمور التي لا يدحضها إلا مثله، وأعلمته أنك استدعيتني إلى
التولية عليهما استزادة له ليلزمه من نصيحتك [4] ما يؤدي به عني
إليك [الحق] [5] ، وتصير معه إلى الذي تستحقه، فاخرج معه فإنك غير
ذام صحبته.
544- سعيد بن أبي الحسن، أخو الحسن البصري: [6]
روى محمد بن سعد [7] ، قال: حدثنا عارم [بن الفضل] [8] ، قال:
حدّثنا
__________
[1] في الأصل: «أما جزى الله المتواخين» .
[2] في الأصل: «فجزاك» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «ليكرمه من صحبتك» ، وما أوردناه من ت.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[6] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 129، وطبقات خليفة 210، والتاريخ الكبير
3/ 1538، والجرح والتعديل 4/ 306، وتاريخ الإسلام 4/ 7، 119،
وتهذيب التهذيب 4/ 16.
[7] في الأصل: «عن محمد بن سعد» . وما أوردناه من ت.
[8] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/48)
حماد بن زيد، عن يونس بن عبيد [1] ، قال:
لما مات سعيد بن أبي الحسن حزن عليه الحسن حزنا شديدا، فأمسك عن
الكلام حتى عرف ذلك في مجلسه وحديثه، فكلم في ذلك، فقال: الحمد
للَّه الذي لم يجعل الحزن عارا على يعقوب، ثم قال: بئست الدار
المفرقة [2] .
وقال ابن عون [3] : دفع إلي الحسن برنسا كان لأخيه سعيد لأبيعه،
فقلت: أشتريه أنا، فقال: أنت أعلم، ولكني لا أحب أن أراه عليك.
545- سليمان بن عبد الملك بن مروان [4] :
لبس يوما حلة خضراء وعمامة خضراء، ونظر في المرآة، فقال: أنا الملك
الشاب، فما عاش بعد ذلك إلا أسبوعا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
الحسين بْن عَبْد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طاهر محمد بن
علي بن البيع، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
الصَّلْتِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بكر أحمد بْن إبراهيم بن شاذان،
قال: حدثنا أبو عبد الله بن عرفة، قال: أخبرنا محمد بن عيسى، أنه
سمع عبد الله بن محمد التيمي يقول:
كان سليمان بن عبد الملك [يوما] [5] جالسا، فنظر في المرآة إلى
وجهه، وكان حسن الوجه، فأعجبه ما رأى من جماله، وكان على رأسه
وصيفة، فقال: أنا الملك الشاب، فرأى شفتي جاريته تتحركان، فقال
لها: ما قلت؟ قالت: خيرا. قال: لتخبريني، قالت: قلت:
أنت نعم [6] المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
وزاد غيره في الشعر بيتا آخر، فقال:
أنت خلو من العيوب ومما ... يكره الناس غير أنك فاني [7]
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 129.
[2] في الأصل: «ثم قال: ألست الدار المفرقة» . وما أوردناه من ت
وابن سعد.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 130.
[4] مروج الذهب 3/ 184، والبداية والنهاية 9/ 198، وتاريخ الطبري
6/ 546، واليعقوبي 3/ 36، وابن خلدون 3/ 74.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] في الطبري 6/ 547: «خير المتاع» .
[7] البيت في الطبري:
ليس فيما علمته فيك عيب ... كان في الناس غير أنك فاني
(7/49)
ثم خرج إلى المسجد يخطب، فسمع أقصى من في
المسجد صوته، ثم لم يزل يضعف، وانصرف محموما حمى موصولة بمنيته،
فكانت وفاته سنة تسع وتسعين، وهو ابن أربعين سنة.
توفي بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليال بقين- وقيل مضين-
من صفر. وكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر وخمسة أيام.
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو علي التميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر
بْن مالك، قَالَ: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال:
حدثنا يزيد، قال: حدثنا عبد الله بن يونس، عن سيار أبي الحكم [1] ،
قال:
لما دخل سليمان بن عبد الملك قبره أدخله عمر بن عبد العزيز وابن
سليمان فاضطرب على أيديهما، فقال ابنه: عاش والله [أبي] [2] ،
فقال: لا والله ولكن عوجل أبوك.
546- عبد الله بن مطر، أبو ريحانة [3] :
روى عن ابن عمر، وسفينة.
أخبرنا عَبْد اللَّه بْن علي المقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا طراد بْن
مُحَمَّد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْن بشران، قَالَ:
حَدَّثَنَا الحسين بْن صفوان، قال: حدثنا أبو بكر بن عبيد الله،
قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنِي موسى
بن عيسى العابد، قال: حدثنا ضمرة، عن فروة الأعمى، قال:
ركب أبو ريحانة البحر، وكان يخيط فيه بإبرة معه، فسقطت إبرته في
البحر، فقال: عزمت عليك يا رب إلا رددت علي إبرتي، فظهرت حتى
أخذها.
قال: واشتد عليهم البحر ذات يوم وهاج، فقال: اسكن أيها البحر،
فإنما أنت عبد حبشي، فسكن حتى صار كالزيت.
__________
[1] في الأصل: «سيار بن الحكم» والتصحيح من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تقريب التهذيب 1/ 451، والجرح والتعديل 5/ 168.
(7/50)
547- عبد الله بن خارجة بن حبيب بن قيس بن
عمرو بن حارثة بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان [1] :
شاعر من أهل الكوفة [2] ، متعصب لبني أمية، وهو الأعشى، أعشى بني
ربيعة.
دخل على عبد الملك بن مروان فأنشده يقول [3] :
وما أنا في أمري ولا في خصومتي ... بمهتضم حقي ولا قارع قرني
ولا مسلم مولاي عند جناية ... ولا خائف مولاي من شر ما أجني
وإن فؤادي بين جنبي عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
وفضلني في الشعر واللب أنني ... أقول على علم وأعرف من أعني
فأصبحت إذ فضلت مروان وابنه ... على الناس قد فضلت خير أب وابن
فقال عبد الملك من يلومني على هذا، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وعشرة
تخوت من ثياب، وعشر قلائص من الإبل، وأقطعه ألف جريب [4] .
ودخل عليه يوما فأنشده يقول: [5]
رأيتك أمس خير بني معد ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الضعف ضعفا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
548- القاسم بن مخيمرة الهمداني [6] :
كوفي الأصل، ثم نزل الشام. روى عن عبد الله بن عمر، وعن خلق كثير
من التابعين.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناد له عن الأوزاعي، عن القاسم، أنه
كره صيد الطير أيام فراخه.
__________
[1] الأغاني 18/ 136 (دار الكتب العلمية) .
[2] في ت: «شاعر من أهل مكة» . خطأ
[3] الخبر في الأغاني 18/ 136، 137.
[4] الجريب من الأرض: ثلاثة آلاف وستمائة ذراع، وقيل: عشرة آلاف
ذراع.
[5] الأغاني 18/ 140.
[6] تقريب التهذيب 2/ 120. وتهذيب التهذيب 8/ 337.
(7/51)
وروى سعيد [1] بن عبد العزيز، عن القاسم بن
مخيمرة، قال: ما اجتمع على مائدتي لونان من طعام، ولا غلقت بابي
ولي خلفه هم، وأتيت عمر بن عبد العزيز فقضى عني سبعين دينارا،
وحملني على بغلة وفرض لي في خمسين فقلت: أغنيتني عن التجارة،
فسألني عن حديث، فقلت [2] : هبني يا أمير المؤمنين، كأنه كره أن
يحدثه بعد لأجل العطاء.
549- محمود بن الربيع بن الحارث بن الخزرج [3] :
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقل مجة مجها في وجهه وهو ابن
خمس سنين.
وتوفي في هذه السنة وَهُوَ ابن ثلاث وتسعين سنة. وقيل: أربع وتسعين
سنة.
__________
[1] في الأصل: «عن سعيد» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «فقال» . وما أوردناه من ت.
[3] تهذيب التهذيب 10/ 63.
(7/52)
ثم دخلت سنة مائة
فمن الحوادث فيها خروج الخارجة التي
خرجت على عمر بالعراق [1]
فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن عامل العراق
يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد صلى
الله عليه وسلم، فلما أعذر في دعائهم [بكتاب الله وسنة نبيه] [2]
بعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحرورية [3] ، فبلغ عمر فبعث
إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام جهزهم من الرقة،
فكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء، وقد بعثت
مسلمة بأهل الشام فلم ينشب [4] أن أظهره الله عز وجل عليهم.
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى: أن الذي خرج على عبد الحميد
بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز ابن شوذب [5] واسمه بسطام من
بني يشكر، وكان مخرجه [بجوخى] [6] في ثمانين فارسا أكثرهم من
ربيعة، فكتب عمر إلى عبد الحميد، ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دما، أو
يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلا حازما،
فوجهه إليهم ووجه معه جندا وأوصه بما أمرتك به.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 555.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «فهزمهم الحرورية» .
[4] في الأصل: «فلم ينشب» . وما أوردناه من الطبري، وت.
[5] في الطبري: «شوذب» بإسقاط «ابن» .
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
(7/53)
فعقد عبد الحميد لمحمد بن جرير بن عبد الله
البجلي في ألفين من أهل الكوفة وأمره بما أمر به عمر، وكتب عمر إلى
بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه [1] ، وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. إنه بلغني أنك خرجت غضبا للَّه عز وجل
ولنبيه صلى الله عليه وسلم، ولست بأولى بذلك مني، فهلم أناظرك، فإن
كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا
في أمرك.
فلم يحرك بسطام شيئا، وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك
برجلين يناظرانك [2] ، فدخلا عليه فقالا: أخبرنا عن يزيد لم تعده
خليفة بعدك؟ قال: صيره غيري، قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك، ثم
وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من ائتمنك؟
فقال: أنظراني ثلاثا، فخرجا من عنده، وخاف بنو مروان أن يخرج ما في
أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيدا، فدسوا إليه من سقاه سما، فلم
يلبث بعد خروجهما إلا ثلاثا حتى مات رضى الله عنه.
وفي هذه السنة أغزى عمر الوليد بن هشام
المعيطي، وعمرو بن قيس الكندي من أهل حمص الصائفة
أَخْبَرَنَا المبارك بْن علي الصيرفي، قَالَ: أخبرتنا فاطمة بنت
عبد الله الحيري، قالت: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن الحسين بْن الفضل،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد بْن خالد الكاتب،
قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بن المغيرة، قال:
حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْر بْن
بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الله بن عبد العزيز، قال:
أخبرني ابن العلاء- أحسبه أبا عمرو بن العلاء، أو أخاه- عن جويرية
عن إسماعيل بن أبي حكيم، قال:
بعثني عمر بن عبد العزيز حين ولي في الفداء، فبينا أنا أجول في
القسطنطينية إذ سمعت صوتا يغني وهو يقول:
أرقت وغاب عني من يلوم ... ولكن لم أنم أنا والهموم
__________
[1] في الأصل: «كتاب عمر إليه» ، وما أوردناه من ت والطبري.
[2] في الطبري: «قال أبو عبيدة: أحد الرجلين ممزوج مولى بني شيبان،
والآخر من صليبة بني يشكر» .
(7/54)
كأني من تذكر ما ألاقي ... إذا ما أظلم
الليل البهيم
سقيم مل منه أقربوه ... وودعه المداوي والحميم
وكم في بحرة بين المنقا ... إلى أحد إلى ماء زريم [1]
إلى الجماء من خد أسيل ... نقي اللون ليس به كلوم
يضيء به الظلام إذا تبدى ... كضوء الفجر منظره وسيم
فلما أن دنا منا ارتحال ... وقرب ناجيات السير كوم
أتين مودعات والمطايا ... على أكوارها خوص هجوم
فقائلة ومثنية علينا ... تقول وما لها فينا حميم
وأخرى لبها معنا ولكن ... تستر وهي واجمة كظوم
تعد لنا الليالي تحتصيها ... متى هو خائن منا قدوم
متى تر غفلة الواشين عنا ... تجد بدموعها العين السجوم
قال الزبير: والشعر لبقيلة الأشجعي. قال إسماعيل بن أبي حكيم:
فسألته حين دخلت عليه، فقلت له: من أنت؟ قال: أنا الوابصي الذي
أخذت فعذبت فجزعت فدخلت في دينهم، فقلت: إن أمير المؤمنين [2] عمر
بن عبد العزيز بعثني في الفداء وأنت والله أحب من افتديته إلا أن
لم تكن بطنت في الكفر، قال: والله لقد بطنت في الكفر، فقلت: أنشدك
الله أسلم، فقال: أسلم، وهذان ابناي وقد تزوجت امرأة، وهذان
ابناها، وإذا دخلت المدينة قال أحدهم: يا نصراني، وقيل لولدي وأمهم
[وولدهم] [3] كذلك، لا والله لا أفعل، فقلت له: قد كنت قارئا
للقرآن، فقال: إني والله من أقرأ القراء للقرآن، فقلت: ما بقي معك
من القرآن؟ قال: لا شيء إلا هذه الآية: (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) 15: 2 [4] .
وفي هذه السنة أشخص عمر [5] بن هبيرة الفزاري إلى الجزيرة عاملا
عليها.
__________
[1] في الأصل: وكم في بئر بحرغة بين المنقا ولا يستقيم معها الوزن.
[2] في ت: «إن عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] سورة: الحجر، الآية: 2.
[5] في الأصل: «عمرو» . وما أوردناه من ت والطبري.
(7/55)
وفيها حمل يزيد بن
المهلب من العراق إلى عمر بن عبد العزيز.
وسبب ذلك أن يزيدا نزل واسطا، ثم ركب السفن يريد البصرة، فبعث عمر
عدي بن أرطأة إلى البصرة فأوثقه ثم بعث به إلى عمر، فدعا به عمر-
وقد كان عمر يبغضه ويبغض بنيه ويقول: جبابرة، وكان يزيد يبغض عمر-
فلما وصل إلى عمر سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان، قال:
إنما كتبت إليه لأسمع الناس، ولم يكن سليمان ليأخذني بشيء سمعت به،
فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك فإنها
حقوق المسلمين لا يسعني تركها فحبسه إلى أن مرض عمر.
وفي هذه السنة عزل عمر الجراح عن خراسان وولاها عبد الرحمن بن نعيم
القشيري [1] .
وكانت ولاية الجراح خراسان سنة وخمسة أشهر.
وفي هذه السنة وجه مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ العباس إلى العراق وإلى خراسان من يدعو إليه وإلى أهل بيته
فاستجاب له جماعة. وكتب لهم محمد بن علي كتابا ليكون لهم مثالا
وسيرة يسيرون بها، وكان يقول لرجال أهل الدعوة حين أراد توجيههم
[2] : أما الكوفة وسوادها فهناك شيعة علي وولده، وأما البصرة
وسوادها فعثمانية ترى الكف، تقول: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد
الله القاتل، وأما الجزيرة فحرورية، وأما الرقة فمسلمون أحلاف
النصارى [3] ، وأما أهل الشام فلا يعرفون إلا طاعة بني مروان، وأما
أهل مكة والمدينة فقد غلب عليها [4] أبو بكر وعمر، ولكن عليكم
بخراسان فإن هناك الصدور السليمة والقلوب الفارغة [5] التي [لم]
[6] تتقسمها الأهواء ولم تتوزعها النحل.
__________
[1] في الأصل: «القسري» . وما أوردناه من الطبري.
[2] في الأصل: «لرجال الدعوة حين أرادوا توجيههم» . وفي ت: «أراد
أن يوجههم» .
[3] في الأصل: «فحرورية ومارقة وأعراب ومسلمون في أخلاق النصارى» .
وما أوردناه من ت، والطبري.
[4] «عليها» : سقطت من ت.
[5] في ت: «والقلوب الفارعة» .
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/56)
وفي هذه السنة حج بالناس أبو بَكْرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وكان عمال الأمصار في هذه
السنة هم العمال فِي السنة التي قبلها ما خلا خراسان، فإن عاملها
في آخر السنة كان عبد الرحمن بن نعيم على الصلاة والحرب، وعبد
الرحمن بن عبد الله على الخراج [1] .
وفي هذه السنة وقع طاعون، فقيل له: طاعون عدي بن أرطأة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
550- بسر [2] بن سعيد مولى الحضرميين [3] :
روى عن زيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وأبي سعيد [4]
.
وكان بسر ثقة من العباد المنقطعين، وأهل الزهد في الدنيا، وتوفي
بالمدينة وهو ابن ثمان وسبعين، ولم يدع كفنا.
551- حنش بن عبد الله بن عمرو، أبو رشدين الصنعاني [5] :
كان مع علي بن أبي طالب بالكوفة، وقدم مصر بعد قتل علي، وغزا
المغرب مع رويفع بن ثابت، وغزا الأندلس مع موسى بن نصير، وكان فيمن
ثار مع ابن الزبير على عبد الملك، فأتى به عبد الملك في وثاق فعفا
عنه، وكان عبد الملك حين غزا
__________
[1] في الأصل: «بن عبد الله بن الجراح» . والتصحيح من ت والطبري.
[2] في الأصل: «بشر» . خطأ والتصحيح من ت وكتب الرجال.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 208، وطبقات خليفة 255، وعلل أحمد 1/ 78،
332، والتاريخ الكبير 2/ 1/ 123، والجرح والتعديل 1/ 1/ 423، وسير
أعلام النبلاء 4/ 594، وتهذيب التهذيب 1/ 437.
[4] في الأصل تكرر «أبي هريرة» . وما أوردناه من ت.
[5] طبقات ابن سعد 5/ 391، وعلل أحمد 1/ 307، والتاريخ الكبير 3/
343، والجرح والتعديل 3/ 1298، وتاريخ الإسلام 3/ 246، 360، وسير
أعلام النبلاء 4/ 492، وتهذيب التهذيب 3/ 57، وتقريب التهذيب 1/
205.
(7/57)
المغرب مع معاوية بن خديج، نزل عليه
بإفريقية سنة خمسين، فحفظ له ذلك. وكان حنش أول من ولي عشور
إفريقية في الإسلام، وكان إذا فرغ من عشائه وحوائجه وأراد أن يرقد
أوقد المصباح وقدم المصحف وإناء فيه ماء، وكان إذا وجد النعاس [1]
أخذ الماء، وإذا تعايا في آية نظر في المصحف. وتوفي بإفريقية في
هذه السنة.
552- خارجة بن زيد بن ثابت بن الضحاك، أبو زيد: [2]
روى عن أبيه وكان ثقة، وقال: رأيت في المنام كأني بنيت سبعين درجة،
فلما فرغت منها تهورت، وهذه السنة لي سبعون قد أكملتها. فمات فيها
[3] .
توفي في هذه السنة بالمدينة.
553- عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز:
توفي في خلافة أبيه، وكان صالحا.
أخبرنا علي بن أبي عمر، قال: أخبرنا محمد بن الحسن الباقلاوي، قال:
أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أبو بكر الآجري، قال:
حدثنا أبو عبد الله بن مخلد، قال: حدثني سهل بن عيسى المروزي، قال:
حدثني القاسم بن محمد بن الحارث، قال: حدثنا [4] سهل بن يحيى بن
محمد المروزي، قال: أخبرني أبي، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد
العزيز، قال:
لما ولي [أبي] [5] عمر الخلافة وخطب الناس ذهب يتبوأ مقيلا [6] ،
فأتاه ابنه
__________
[1] في الأصل: «فكان إذا وجد الناس» . وما أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 193، وطبقات خليفة 251، وعلل أحمد 1/ 305،
والتاريخ الكبير 3/ 696، والمعارف 260، وأخبار القضاة لوكيع 1/
108، والجرح والتعديل 3/ 1707، والحلية 2/ 89، وتهذيب ابن عساكر 5/
27، ووفيات الأعيان 2/ 223، وتاريخ الإسلام 3/ 362، وسير أعلام
النبلاء 4/ 437، وتذكرة الحفاظ 1/ 91، والبداية والنهاية 9/ 187،
وتهذيب التهذيب 3/ 74، وتقريب التهذيب 1/ 210.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 5/ 193، وفي ت: «تسعون» . بدلا من
«سبعون» .
[4] في ت: «حدثني» .
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] في الأصل: «ذهب سرا مقيلا» .
(7/58)
عبد الملك، فقال: ما تريد أن تصنع؟ قال: يا
بني أقيل، قال: تقيل ولا ترد المظالم، فقال: أي بني [1] إني قد
سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم،
قال: يا أمير المؤمنين، من لك أن تعيش إلى الظهر، قال: أدن مني أي
بني.
فدنا منه فالتزمه وقبل بين عينيه وقال: الحمد للَّه الذي أخرج من
صلبي من يعينني على ديني، فخرج ولم يقل.
أخبرنا [2] ابن ناصر، عن أبي القاسم وأبي عمر ابني عبد الله بن
منده، عن أبيهما، قال: حدثنا أبو سعيد بن يونس، قال: حدثنا محمد بن
نصر بن القاسم، قال:
حدّثنا أحمد بن عمرو بن السراج [3] ، قال: حدثنا ابن وهب، قال:
حدثني [4] الليث بن سعد، قال: حدثنا عبد الله [5] بن أبي جعفر، عن
عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان:
أنه وفد على سليمان بن عبد الملك. قال: فنزلت على عبد الملك بن عمر
بن عبد العزيز وهو عزب، فكنت معه في بيته، فلما صلينا العشاء وأوى
كل رجل منا إلى فراشه، فلما ظن أن قد نمنا قام [إلى] [6] المصباح
فأطفأه وأنا أنظر إليه، ثم جعل يصلي حتى ذهب النوم. قال: فاستيقظت
وهو يقرأ: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ
جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا
يُمَتَّعُونَ 26: 205- 207 [7] . ثم بكى ثم رجع إليها ثم بكى ثم لم
يزل يفعل حتى قلت سيقتله البكاء، فلما رأيت ذلك قلت: سبحان الله
والحمد للَّه، كالمستيقظ من النوم لأقطع ذلك عنه، فلما سمعني ألبد
فلم أسمع له حسا.
أخبرنا عبد الوهاب ويحيى بن علي، قالا: أخبرنا عبد الله بن أحمد
السكري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
الصَّلْتِ، قال: حدّثنا [8] حمزة بن القاسم الهاشمي،
__________
[1] في ت: «يا بني» .
[2] في ت: «أنبأنا» .
[3] «ابن السراج» : ساقطة من ت.
[4] في ت: «حدّثنا» .
[5] في الأصل: «عن عبد الله» . أوردناه من ت.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] سورة: الشعراء، الآية: 205.
[8] في ت: «أخبرنا» .
(7/59)
قال: حدثنا حنبل، قَالَ: حَدَّثَنَا
أَحْمَد بْن حنبل، قَالَ: حَدَّثَنَا إسماعيل بن إبراهيم، قال:
حدثني زياد بن أبي حسان:
أنه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنه عبد الملك، استوى قائما
فأحاط به الناس فقال: والله يا بني لقد كنت برا بأبيك، وو الله ما
زلت منذ وهبك الله لي مسرورا بك، ولا والله ما كنت قط أشد سرورا
ولا أرجى لحظي من الله منك مذ وضعتك في المنزل الذي صيرك الله
إليه، فرحمك وغفر لك ذنبك وجزاك بأحسن عملك، ورحم كل شافع يشفع لك
غيري شاهد وغائب، رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره، والحمد للَّه رب
العالمين. ثم انصرف.
554- عبد الرحمن بن مل بن عمرو بن عدي بن وهب بن ربيعة، أبو عثمان
النهدي [1] :
حج في الجاهلية حجتين، وأسلم على عهد رسول الله صلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وسلم إلا أنه لم يلقه، وهاجر إلى المدينة بعد موت أبي بكر
فلقي عمر بن الخطاب. وروى عنه، وعن علي، وسعد، وسعيد، وابن مسعود،
وأبي، وغيرهم من الصحابة، [وكان ثقة] [2] ونزل الكوفة ثم صار إلى
البصرة، فحدث عنه أيوب، وقتادة، وسليمان التيمي، وغيرهم، وكان معه
وشهد القادسية وجلولاء، وتستر ونهاوند واليرموك وأذربيجان ورستم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا عَبْد العزيز بْن عَلِيّ الوراق، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد
بن إبراهيم، قال: حدثنا يوسف بن يعقوب النيسابوري، قال:
أَخْبَرَنَا أبو بكر بْن أبي شيبة، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحجاج بن أبي زينب، قال: سمعت أبا
عثمان النهدي يقول [3] :
كنا في الجاهلية نعبد حجرا، فسمعنا مناديا ينادي: يا أهل الرحال،
إن ربكم قد هلك فالتمسوا ربا، قال: فخرجنا على كل صعب وذلول، فبينا
نحن كذلك نطلب إذا نحن بمناد ينادي: إنا قد وجدنا ربكم أو شبهه [4]
، قال: فجئنا فإذا [نحن] [5] بحجر فنحرنا عليه الجزر.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 69، وتاريخ بغداد 10/ 202، وتقريب التهذيب
1/ 499.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 204.
[4] في الأصل: «وشبهه» . وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/60)
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن
علي، قال: أخبرنا ابن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن
جَعْفَر، قال: حدثنا يعقوب، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد،
عن حميد، عن أبي عثمان، قال: [1] أتت علي نحو من ثلاثين ومائة سنة،
وما شيء مني إلا وقد أنكرته إلا أملي فإني أجده كما هو.
توفي أبو عثمان في هذه السنة وهو ابن ثلاثين ومائة سنة.
555- عمران بن ملحان، أبو رجاء العطاردي [2] :
أَخْبَرَنَا محمد بن [أبي] [3] القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد،
قال: أخبرنا أحمد بْن عَبْد اللَّه الأَصْفَهَانِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّد بْن أَحْمَد، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى
أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، فَقَالَ: [4] بُعِثَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عَلَى مَاءٍ لَنَا،
وَكَانَ لَنَا صَنَمٌ مُدَوَّرٌ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى قَتَبٍ
وَانْتَقَلْنَا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ إِلَى غَيْرِهِ، فَمَرَرْنَا
بِرَمْلَةٍ فَانْسَلَّ الْحَجَرُ فَوَقَعَ فِي الرَّمْلِ فَغَابَ
فِيهِ، فَلَمَّا رَجَعْنَا إِلَى الْمَاءِ فَقَدْنَا الْحَجَرَ
فَرَجَعْنَا فِي طَلَبِهِ فَإِذَا هُوَ فِي رَمْلٍ قَدْ غَابَ
فاستخرجناه، فكان ذلك أول إِسْلامِي، فَقُلْتُ: إِنَّ إِلَهًا لَمْ
يَمْتَنِعْ مِنْ تُرَابٍ يَغِيبُ فِيهِ لإِلَهُ سُوءٍ وَإِنَّ
الْعَنْزَ لَتَمْنَعُ حَيَاءَهَا بِثَدْيِهَا. فَرَجَعْتُ إِلَى
الْمَدِينَةِ وَقَدْ توفي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
قَالَ مؤلف الكتاب [5] : روى أبو رجاء [العطاردي] عن عمر وابن
عباس، وأم قومه أربعين سنة، وتوفي في خلافة عمر بن عبد العزيز.
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 204.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 100، تقريب التهذيب 2/ 85، والجرح
والتعديل 6/ 303، والتاريخ الكبير 3/ 1/ 410.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «فقال: دخل على أبي رجاء العطاردي، فقال حدّثني أبو
رجاء قال» . وما أوردناه من ت.
[5] في ت: «قال المصنف» .
(7/61)
556- مسلم بن يسار، أبو عبد الله مولى طلحة
بن عبيد الله التيمي [1] :
لقي جماعة من الصحابة، وكان من العلماء المتعبدين، وكان حسن الخشوع
في الصلاة، فوقع مرة إلى جانبه حريق فما شعر به حتى طفئ.
وكان أرفع عند الناس من الحسن حتى خرج مع ابن الأشعث فوضعه ذلك.
وكان يقول: ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح، فقال له قائل: فكيف بمن
رآك واقفا في الصف؟ قال: هذا مسلم بن يسار، ما وقف هذا الموقف إلا
وهو على الحق فقاتل فقتل. فبكى بكاء شديدا.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا علي بن محمد الأنباري،
قال:
[أخبرنا] [2] أحمد بن محمد بن يوسف، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر [القرشي] [3] ، قَالَ: حَدَّثَنَا
أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم، قال: حدثنا علي بن إسحاق، قال:
حدثنا عبد الله، قال: أخبرنا جعفر بن حيان، قال:
ذكر لمسلم بن يسار قلة التفاته في الصلاة، قال: وما يدريكم أين
قلبي [4] .
قال أحمد بن إبراهيم: وحدثنا هارون بن معروف، قال: حدثنا ضمرة، عن
ابن شوذب قال:
كان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته: تحدثوا فلست أسمع
حديثكم [5] .
قال: أخبرنا سعد الخير بن محمد، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن
أيوب، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بن مُحَمَّد الخلال، قال: حدثنا
علي بن عمر بن علي التمار، قال: حدثنا جعفر بن محمد الخالدي،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، قال:
حدّثنا
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 135، وتقريب التهذيب 2/ 247، والبداية
والنهاية 9/ 208.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «أخبرنا» .
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 135.
(7/62)
البرجلاني، قال: حدثنا غياث بن زياد، قال:
حدثنا ابن المبارك، قال:
قال مسلم بن يسار لأصحابه يوم التروية: هل لكم في الحج؟ قالوا: خرف
الشيخ على ذلك فلنطيعنه، قال: من أراد ذلك فليخرج، فخرجوا إلى
الحسان برواحلهم، فقال: خلوا أزمتها، فأصبحوا وهم ينظرون إلى جبال
تهامة [1] .
__________
[1] في ت: «تم المجلد التاسع» .
(7/63)
|