المنتظم في تاريخ الأمم والملوك
ثم دخلت سنة إحدى
وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها توجيه قحطبة [1] ابنه الحسن، إلى نصر وهو بقومس. وذلك
أنه لما قتل نباتة ارتحل نصر بن سيار فنزل الخوار ووجه قحطبة ابنه
الحسن إلى قومس في محرم هذه السنة، ثم وجه إلى ابنه جماعة من الرءوس في
سبعمائة، فدخلوا حائطا، فوجه إليهم نصر جندا فحصروهم، فنقبوا الحائط
وخرجوا، وسار نصر حتى نزل الري، فأقام يومين ثم مرض حتى إذا كان بساوة
[2] قريبا من همذان، فمات بها.
وفيها: تحول أبو مسلم من مرو إلى نيسابور، فنزلها [3] ، ولما نزل قحطبة
الري كتب إلى أبي مسلم بخبره، فارتحل أبو مسلم من مرو، فنزل نيسابور
وخندق بها، وبنى الجامع والمقصورة، وغصب أكثر الأرض التي بناها، إلا أن
المسلمين سألوا من غصبت منه، فأباحهم الصلاة فيها. وقيل: بل استوهبها
أبو مسلم ولم يأخذها غصبا.
وفيها: قتل قحطبة [4] ، عامر بن ضبارة، [وسبب ذلك أن عبد الله بن
معاوية بن عبد الله بن جعفر لما ابن ضبارة] [5] مضى نحو خراسان وتبعه
عامر، وكتب ابن هبيرة إلى عامر وإلى ابنه داود بن يزيد بن عمر أن يسير
إلى قحطبة، فسار في خمسين ألفا حتى
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 403.
[2] في الأصل: «بساوا» .
[3] تاريخ الطبري 7/ 404.
[4] تاريخ الطبري 7/ 405.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/286)
نزلوا أصفهان بمدينة يقال لها جي فاقتتلوا،
فانهزم أهل الشام وقتلوا قتلا ذريعا، وقتل ابن ضبارة، وانهزم داود،
وأصيب من عسكرهم ما لا يدري عدده من السلاح والمتاع والرقيق، ووجدوا
عندهم ما لا يحصى من البرابط والطنابير والمزامير والخمر.
وفيها: كانت وقعة قحطبة بنهاوند بمن كان لجأ إليها من جنود مروان بن
محمد.
وقيل: كانت هذه الوقعة بجابلق من أرض أصفهان يوم السبت لسبع بقين من
رجب.
وذلك أن قحطبة أرسل إلى أهل خراسان الذين في مدينة نهاوند يدعوهم إلى
الخروج إليه، فأعطاهم الأمان فأبوا، ثم أرسل إلى أهل الشام بمثل ذلك
فقبلوا وبعثوا إليه: اشغل أهل المدينة حتى نفتح الباب وهم لا يشعرون.
فشغل أهل المدينة بالقتال، ففتح أهل الشام الباب الذي كانوا عليه، فخرج
أهل خراسان، فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى رجل من قواد أهل خراسان، ثم
أمر مناديه أن ينادي: من كان في يديه أسير ممن خرج إلينا من المدينة
فليضرب عنقه وليأتنا برأسه، ففعلوا فلم يبق أحد من الذين كانوا هربوا
من أبي مسلم وصاروا في ذلك الحصن إلا قتل، ما خلا أهل الشام فإنه أخلى
سبيلهم، وأخذ عليهم الأيمان ألا يمالئوا عليه عدوا.
وفي هذه السنة: سار قحطبة نحو ابن هبيرة [1] ، وكان ابن هبيرة قد استمد
مروان، وأقبل حتى نزلوا جلولاء، واحتفر الخندق الذي كانت العجم احتفرته
أيام وقعة جلولاء، وأقام. وأقبل قحطبة حتى نزل قرماسين [2] ، ثم سار
إلى حلوان، ثم جاء إلى خانقين، ولم يزل حتى انتهى إلى الموضع الذي فيه
ابن هبيرة.
وكان في هذه السنة: طاعون سلم [3] بن قتيبة. قال الأصمعي: كان يمر في
كل يوم بطريق المربد أحد عشر ألف نعش.
قال المدائني: كان هذا الطاعون في رجب واشتد في رمضان. وكان يحصى في
سكة المربد كل يوم عشرة آلاف جنازة أياما، وخف في شوال.
وقال الأصمعي: مات في أول يوم سبعون ألفا، وفي الثاني نيف وسبعون ألفا،
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 410.
[2] في ت: «قرمسين» . وما أوردناه من الطبري.
[3] في الأصل: «سالم» . خطأ.
(7/287)
وأصبح الناس في اليوم الثالث موتى. وكان
على البصرة سلم بن قتيبة [1] ، فلما قام على المنبر جعل ينظر يمنة
ويسرة فلا يرى أحدا يعرفه، وكان يغلق على الموتى الباب مخافة أن تأكلهم
الكلاب، وينادي المنادي: أدركوا آل فلان فقد أكلتهم الكلاب.
وفي هذه السنة [2] : حج بالناس الوليد بن عروة بن محمد بن عطية السعدي،
وهو كان عامل مكة والمدينة والطائف من قبل عمه عبد الملك بن محمد، وكان
عامل العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وكان على قضاء الكوفة الحجاج بن
عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور الناجي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
708- أيوب بن أبي تميمة السختياني، يكنى أبا بكر، مولى لعنزة [3] ،
واسم أبي تميمة كيسان [4] :
كان ثقة ثبتا ورعا يستر حاله، وكان النساك حينئذ يشمرون ثيابهم، وكان
في ذيله بعض الطول، وحج أربعين حجة. وكان الحسن يقول: سيد شباب أهل
البصرة أيوب، وكان سفيان بن عيينة قد لقي ستة وثمانين من التابعين،
وكان يقول: ما رأيت مثل أيوب.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر [بإسناد لَهُ] [5] ، عَنْ أبي بكر
القرشي قال: حدثني أحمد بن عاصم العباداني، عن سعيد بن عامر، عن وهب بن
جابر، قال: قال أيوب السختياني:
إذا ذكر الصالحون كنت منهم بمعزل.
__________
[1] في الأصل: «سالم» . خطأ.
[2] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[3] في الأصل: «مولى العزلة» خطأ. والتصحيح من ت وكتب الرجال.
[4] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 14، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 410، وحلية
الأولياء 3/ 2، وتاريخ الإسلام 5/ 228، وسير أعلام النبلاء 6/ 15،
وتذكرة الحفاظ 1/ 130.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/288)
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا
جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو علي التميمي، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن مالك، قَالَ: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال:
حدثني أبي، قال:
حدثني سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال:
كان أيوب ربما حدث بالحديث فيرق فيلتفت فيمتخط ويقول: ما أشد الزكام.
أخبرنا إسماعيل بن أبي بكر، قال: أخبرنا طاهر بْن أَحْمَد، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن بشران، قَالَ: حَدَّثَنَا
عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ، قَالَ: حدثنا الحسن بن عمر، قال:
سمعت بشر بن الحارث يقول:
دخل بديل على أيوب السختياني وقد مد على فراشه سبنية حمراء يدفع
الرياء، فقال له بديل: ما هذا؟ فقال أيوب: هذا خير من هذا الصوف الذي
عليك.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا الفضل بْنُ أَحْمَد، قَالَ: أَخْبَرَنَا
أَبُو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا عثمان بن محمد العثماني، قال: حدثنا
خالد بن النضر القرشي، قال: حدثنا محمد بن موسى الجرشي، قال: حدثنا
النضر بن كثير السعدي، قال: حدثنا عبد الواحد بن زيد، قال:
كنت مع أيوب على حراء فعطشت عطشا شديدا حتى رأى ذلك في وجهي، فقال: ما
الذي أرى بك؟ قلت: العطش قد خفت على نفسي، قال: تستر علي؟ قلت:
نعم، فاستحلفني فحلفت له ألا أخبر أحدا عنه ما دام حيا، قال: فغمز
برجله على حراء فنبع الماء حتى رويت وحملت معي من الماء قال: فما حدثت
به حتى مات.
قال عبد الواحد: فأتيت موسى الأسواري فذكرت ذلك له فقال: ما بهذه
البلدة أفضل من الحسن وأيوب. توفي في هذه السنة وهو ابن ثلاث وستين.
709- إبراهيم بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
العباس [1] :
أمه أم ولد، وهو الذي يقال له الإمام، أوصى إليه أبوه، وانتشرت دعوته
في خراسان كلها.
وكان شيعته يختلفون إليه، ويكاتبونه من خراسان. ووجه بأبي مسلم إلى
خراسان
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 435.
(7/289)
واليا على شيعته ودعاته، فتجرد [1] أبو
مسلم لمحاربة عمال بني أمية، وقوي أمره، وأظهر لبس السواد، وغلب على
البلاد يدعو إلى الإمام ويعمل بما يرد عليه من مكاتباته من غير أن يظهر
للناس اسمه إلا لمن كان من الدعاة والشيعة إلى أن ظهر اسمه وانكشف،
فعلم بالحالة مروان بن محمد، فأخذ إبراهيم فحبسه فمات في حبسه بأرض
الشام وهو ابن ثمان وأربعين سنة. وقيل: إنه هدم عليه بيتا. وقيل: سقي
لبنا فأصبح ميتا.
710- عبد الله بن ذكوان، أبو الزناد، مولى رملة بنت شيبة بن ربيعة [2]
:
وذكر أن أبوه [هو] [3] أخو أبي لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الشعبي: كفلتني وأبا الزناد فاطمة بنت عثمان، فلم يزل يعلو وأسفل
حتى بلغنا ما ترى. مات أبو الزناد فجأة بالحجاز في مغتسله لثلاث عشرة
ليلة بقيت من رمضان، وله ست وستون سنة.
711- فرقد بن يعقوب السبخي، يكنى أبا يعقوب [4] :
أسند عن أنس، وكان يضعف في الحديث لأنه كان زاهدا متعبدا.
أخبرنا أحمد بن محمد المذاري، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد [بن] [5]
البناء، قال: أخبرنا علي بن محمد بن بشران، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن
صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الله بن محمد، قال: حدثنا هارون بن عبد
الله، قال: حدثنا سيار، قال: حدثنا جعفر، قال: سمعت السبخي يقول:
اتخذوا الدنيا ظئرا، واتخذوا الآخرة أما، ألم تروا إلى الصبي يلقي نفسه
على
__________
[1] في ت: «فتجرد له أبو مسلم» .
[2] طبقات ابن سعد (مخطوط) ، وطبقات خليفة 259، والتاريخ الكبير 5/
228، والجرح والتعديل 5/ 227، وسير أعلام النبلاء 5/ 445، وتاريخ
الإسلام 5/ 194، وميزان الاعتدال 2/ 4301، وتهذيب التهذيب 5/ 203.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.
[4] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 11. وقال: «وكان ضعيفا منكر الحديث» . والجرح
والتعديل 7/ 81، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 131.
[5] ما بين المعقوفتين: من ت.
(7/290)
الظئر فإذا ترعرع وعرف والدته ترك ظئره
وألقى نفسه على والدته، وإن الآخرة توشك أن تجيركم.
712- منصور بن زاذان مولى عبد الله بن أبي عقيل الثقفي [1] :
روى عن الحسن، وابن سيرين، وأرسل الحديث عن الحسن [2] ، وكان كثير
التعبد والبكاء، يختم القرآن كل يوم وليلة ختمتين، ويبكي ويمسح عينيه
بعمامته ويخلها كورا كورا فيمسح بها، فإذا ابتلت وضعها بين يديه.
وقيل له: ألا تخرج بنا إلى الصحراء، فقال: ينكسر الروزحاء.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب الحافظ، قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بن عبد
الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الله الدقاق، قَالَ: حَدَّثَنَا
الحسين بْن صفوان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر القرشي، قَالَ: حدثني
من سمع عمرو بن عَوْن يقول: سمعت هشيما يقول:
مكث منصور بن زاذان يصلي الفجر بوضوء العشاء عشرين سنة.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن أَحْمَد الأنصاري، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد
اللَّه بْن أَحْمَد السمرقندي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي بن
ثابت، قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد
الدقاق، قال: حدثنا ابن البراء، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله
الهروي، قال: قال هشيم:
لو قيل لمنصور بن زاذان إن ملك الموت على الباب ما كان عنده زيادة في
العمل، وذلك أنه كان يخرج فيصلي الغداة في جماعة، ثم يجلس فيسبح حتى
تطلع الشمس، ثم يصلي إلى الزوال، ثم يصلي الظهر، ثم يصلي العصر، ثم
يجلس فيسبح إلى المغرب، ثم يصلي المغرب، ثم يصلي العشاء، ثم ينصرف إلى
بيته فيكتب عنه في ذلك الوقت.
توفي في هذه السنة، وقيل: سنة ثمان وعشرين، وقيل: في سنة تسع وعشرين.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 60، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 346، والجرح
والتعديل 8/ 172.
[2] «أرسل الحديث عن الحسن» : ساقطة من ت.
(7/291)
713- نصر بن سيار، أمير خراسان:
ولي الولايات، وروى عنه عكرمة، وأسند الحديث، وتوفي لاثْنَتَيْ
عَشَرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ من هذه السنة وَهُوَ
ابْن خمس وثمانين سنة.
714- واصل بن عطاء، أبو حذيفة الغزالي، مولى بني ضبة، وقيل: مولى بني
مخزوم، وقيل: مولي بني هاشم:
ولد سنة ثمانين، وكان يجالس الغزالين، فقيل له: الغزالي، كان من رؤساء
المعتزلة، وكان لا يقيم الراء، وكان يجتنبها في كلامه.
وتوفي في هذه السنة.
(7/292)
ثم دخلت سنة اثنتين
وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها هلاك قحطبة بن شبيب [1] ، وكان السبب في ذلك أن قحطبة
لما نزل بخانقين، وابن هبيرة بجلولاء، وبينهما خمسة فراسخ وأمده مروان
بعشرين ألفا من أهل الشام والتقيا، فحمل على ابن هبيرة، فولى أصحابه
منهزمين، وفقدوا قحطبة فبايعوا حميد بن قحطبة، فسار حتى نزل كربلاء ثم
اجتمعوا على الحسن بن قحطبة، ثم وجد قحطبة قتيلا في جدول فدفنوه.
وفي رواية: أن معن بن زائدة ضرب قحطبة على حبل عاتقه فسقط في الماء،
فأخرجوه، فقال: إن مت فألقوني في الماء لا يعلم أحد بقتلي، فإذا قدمتم
الكوفة فوزير الإمام أبو سلمة حفص بن سليمان [2] ، فسلموا هذا الأمر
إليه، ورجع ابن هبيرة إلى واسط.
وفي هذه السنة: خرج محمد بن خالد بالكوفة، وسود قبل أن يدخلها الحسن بن
قحطبة وضبطها وأخرج عنها عامل ابن هبيرة، ثم دخلها الحسن.
وكان قد خرج محمد بن خالد ليلة عاشوراء، وعلى الكوفة زياد بن صالح
الحارثي، فسار إلى القصر، فارتحل زياد وأهل الشام وخلوا القصر فدخله
محمد بن صالح، فلما أصبح يوم الجمعة وذلك صبيحة اليوم الثاني من مهلك
قحطبة بلغه نزول
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 412.
[2] في الأصل: «حفص بن سليم» . والتصحيح من ت، والطبري.
(7/293)
حوثرة ومن معه مدينة ابن هبيرة، وأنه تهيأ
للمسير إلى محمد فتفرق الناس عن محمد، فأرسل إليه أبو سلمة الخلال
يأمره بالخروج من القصر واللحوق بأسفل الفرات، فإنه يخاف عليه لقلة من
معه، فأبى محمد وجاء أصحاب حوثرة، فصاروا مع محمد، فارتحل الحسن بن
قحطبة نحو الكوفة، فدخلها واستخرجوا أبا سلمة بالنخيلة يومين، ثم ارتحل
إلى حمام أعين، ووجه الحسن بن [قحطبة إلى] [1] ، واسط [2] لقتال ابن
هبيرة، وخطب أبو سلمة حين بايعه أهل خراسان، فدعا إلى طاعة بني العباس،
وفرق العمال في البلدان، ووجه بسام بن إبراهيم إلى عبد الواحد بن عمر
بن هبيرة وهو بالأهواز، فقاتله بسام حتى فضه، فلحق بسلم بن قتيبة [3]
الباهلي وهو بالبصرة وهو يومئذ عامل ليزيد بن عمر بن هبيرة، وكتب إلى
سفيان بن معاوية بعهده إلى البصرة، وأمره أن يظهر بها دعوة بني العباس
وينفي سلم بن قتيبة [3] .
فكتب سفيان إلى سلم يأمره بالتحول عن دار الإمارة ويخبره بما أتاه من
رأي أبي سلمة، فأبى سلم ذلك، وامتنع منه. وحشد مع سفيان جميع اليمانية
وغيرهم، وحلفاءهم، وجنح إليه قائد من قواد ابن هبيرة كان بعثه مددا
لسلم في ألفي رجل من كلب، فأجمع السير إلى سلم [4] فاستعد له سلم.
فقدم سفيان يوم الخميس في صفر، فالتقوا فانكسر سفيان وقتل ابنه وانهزم
ومن معه، ولم يزل سلم [4] مقيما بالبصرة حتى بلغه قتل ابن هبيرة فشخص
عنها.
واجتمع من بالبصرة من ولد الحارث بن عبد المطلب إلى محمد بن جعفر،
فولوه أمرهم، فوليهم أياما حتى قدم عبد الله بن أسد الخزاعي من قبل أبي
مسلم.
وفي هذه السنة: بويع لأبي العباس عبد الله بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس بن عبد المطلب.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[2] في ت: «الحسن بن قحطبة نحو الكوفة» .
[3] في الأصل: «سالم بن قتيبة» . والتصحيح من ت والطبري.
[4] في الأصل: «سالم» . والتصحيح من ت والطبري.
(7/294)
باب ذكر خلافة أبي
العباس السفاح [1]
قد روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم العباس أن
الخلافة تؤول إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقعونها ويتحدثون بذلك بينهم.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: أخبرنا أبو بكر بن
ثابت، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي الوراق، قَالَ: أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بشر
محمد بن أحمد بن حماد الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ،
قَالَ: حَدَّثَنِي زَائِدَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ [2] : «يَخْرُجُ [مِنَّا] [3] رَجُلٌ فِي انْقِطَاعٍ
مِنَ الزَّمَنِ وَظُهُورٍ مِنَ الْفِتَنِ يُسَمَّى السَّفَّاحَ،
يَكُونُ عطاؤه المال حثيا» . أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ
أَحْمَدَ الرَّزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَرَجِ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَاتِبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْكِنْدِيُّ،
قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
الأَزْدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَلامٌ مَوْلَى الْعَبَّاسَةِ بِنْتِ
المهدي، قال: حدثني محمد بن كعب
__________
[1] ترجمته في: ابن خلدون 3/ 180، وتاريخ الخميس 2/ 324، والبدء
والتاريخ 6/ 88، ومروج الذهب 3/ 266، وتاريخ بغداد 10/ 46، وفوات
الوفيات 1/ 232، وكتب التاريخ.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 48.
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
(7/295)
مَوْلَى الْمَهْدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ
الْمَهْدِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ [1] :
وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَبْقَ إِلا يَوْمٌ لأَدَالَ [اللَّهُ] [2] مِنْ
بَنِي أُمَيَّةَ لَيَكُونَنَّ مِنَّا السَّفَّاحُ وَالْمَنْصُورُ
وَالْمَهْدِيُّ.
أنبأنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا أبو عبد الله الحميدي، قال: قال لنا
أَبُو مُحَمَّد عَلِيّ بْن أَحْمَد بْن سعيد بن حزم الحافظ:
إن أول الأسماء التي وقعت على الخلفاء: الصديق، والفاروق، وذو النورين.
ثم لم يسم أحد من الخلفاء حتى ولي أبو العباس، فسمي السفاح. ثم
المنصور، وهو أول من تسمى بهذا الاسم، وتسمى [به بعده] [3] إسماعيل بن
أبي القاسم عبد الله الشيعي، ثم محمد بن أبي عامر، ثم ذاوي، وسابور
والي بطليوس في آخرين.
والمهدي، وكان تسمى به قبل ذلك كله محمد بن الحنفية، ثم رجل من بني علي
قام باليمن، ثم عبيد الله الشيعي بالقيروان، أول قائم قام بالقيروان،
ثم محمد بن هشام بن عبد الجبار، ثم عبد العزيز بن الأصبع، ثم محمد بن
إدريس الحسيني بمالقة.
والهادي ابن المهدي، ثم تسمى [به] [4] رجل من بني علي قام بصعدة [5] ،
في اليمن.
والرشيد، ثم تسمى به صالح حاجب المعتضد.
والمأمون، ثم تسمى به عبد الرحمن بن أبي عامر، ثم القاسم بن محمود، ثم
يحيى بن إسماعيل بن ذي النون.
والمعتصم، ثم تسمى به محمد بن المظفر بن أبي عامر، ثم محمد بن عبد
العزيز من أولاد أبي عامر.
والمعتضد، وتسمى به عباد بن محمد بن عباد اللخمي صاحب إشبيليّة.
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 48.
[2] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: من ت.
[5] في الأصل: «بعقدة» . وما أوردناه من ت.
(7/296)
والمستكفي، ثم تسمى به محمد بن عبد الرحمن.
وقد حكيت ألقاب لبني أمية ولا يصح ذلك.
وقال الإمام مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس [1]
: لنا ثلاثة أوقات: موت يزيد بن معاوية، ورأس المائة، وفتق إفريقية.
فعند ذلك يدعو لنا دعاة، ثم تقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم إلى
المغرب ويستخرجوا ما كنز الجبارون فيها.
فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية ونقضت البربر بعث محمد بن علي رجلا
إلى خراسان وأمره أن يدعو إلى الرضا، ولا يسمي [2] أحدا.
وكان بنو أمية يحسون بولاية بني العباس، فروى خليد بن عجلان، قال: لما
خالف ابن الأشعث أرسل عبد الملك إلى خالد بن يزيد، فأخبره، فقال: أما
إذا كان الفتق من سجستان فليس عليك [بأس] [3] ، وإنما كنا نتخوف لو كان
من خراسان.
وقد ذكرنا أنه لما مات محمد بن علي جعل وصيته بعده لابنه إبراهيم، فبعث
إبراهيم أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع إلى خراسان، وكتب معه إلى
النقباء بها، ثم رجع إليه فرده، ومعه أبو مسلم.
وبلغ الخبر مروان، فبعث إلى إبراهيم، فأخذه وقد كان عرف صفة الرجل الذي
يقتلهم، فلما رأى إبراهيم قال: ليس هذه صفته، فردهم في طلبه.
وفي رواية أن مروان وصف له صفة فجاء فرأى تلك الصفة في أبي العباس،
فأخذه فقيل للرسول: إنما أمرت بأخذ إبراهيم، فترك أبا العباس وأخذ
إبراهيم، فانطلق به، فأوصى إبراهيم إلى أخيه أبي العباس، وجعله الخليفة
من بعده، وأمر أهله بالمسير إلى الكوفة مع أخيه.
ثم [إن] [4] مروان قتله، فشخص أبو العباس ومن معه من أهل بيته: عبد
الله بن
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 421.
[2] في الأصل: «ولم يسلم» . وما أوردناه من ت والطبري.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وما أوردناه من ت.
(7/297)
محمد، وداود بن علي، وعيسى، وصالح،
وإسماعيل، وعبد الله [1] ، وعبد الصمد [2] بنو علي، ويحيى بن محمد،
وعيسى بن موسى بن محمد بن علي، وعبد الوهاب، ومحمد ابنا إبراهيم
الإمام، وموسى بن داود، وعيسى بن جعفر بن تمام حتى قدموا الكوفة في
صفر، فأفرد لهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد [3] مولى بني هاشم، وكتم
أمرهم نحوا من أربعين ليلة من جميع القواد والشيعة.
ونقل أنه أراد بذلك تحويل الأمر إلى آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت
إبراهيم بن محمد.
وذهب قوم من الشيعة فدخلوا إلى أبي العباس، وجاء أبو سلمة فمنعوه أن
يدخل معه أحد، فدخل وحده [4] فسلم بالخلافة، فقال أبو حميد: على رغم
أنفك.
وبويع أبو العباس السفاح بالكوفة في يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من
ربيع الأول، وانتقل إلى الأنبار فسكنها حتى مات.
وأمه رائطة [5] بنت عبيد الله الحارثي من بني عبد المدان [6] ، وكان
مولده بالشراة سنة خمس ومائة، واستخلف وهو ابن سبع وعشرين سنة، وهو أول
خلفاء بني العباس، وكان أصغر سنا من أخيه المنصور. وكان أشعر جعدا
طويلا أبيض، أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية جعدها، وكان يقال له:
السفاح، والمرتضى، والقائم، وهو أول من تلقب من بني العباس.
وقيل: إنما لقب بالسفاح لما سفح من دماء المبطلين.
ورفعت إليه سعاية مكتوب [7] عليها بنصيحة فوقع عليها: «تقربت إلينا بما
باعدك
__________
[1] كتب فوقها في الأصل: «المنصور» .
[2] على هامش الأصل: «أولاد محمد الإمام سبعة» .
[3] في الأصلين: «اليزيد بن سعيد» .
[4] في الأصل: «فدخل ولده» . وما أوردناه من ت والطبري.
[5] في ت: «وابطة» . وفي مروج الذهب 3/ 266، «ريطة» .
[6] في الأصل: «بني عبد الدار» . وما أوردناه من ت والمسعودي.
[7] في الأصل: «كتب» . وما أوردناه من ت.
(7/298)
من الله تعالى، ولا ثواب عندنا لمن آثرنا
عليه» . وظفر ببردة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتاعها بأربعة
آلاف دينار، ولم يرو إلا حديثا واحدا، وكان نقش خاتمه: «الله ثقة عبد
الله» .
وكان وزيره أبو الجهم عطية بن حبيب. وقال أبو بكر الصولي: أول من وزر
لبني العباس أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال، ثم خالد بن برمك.
فصل: ولما ولي الخلافة [1] خرج يوم الجمعة فصلى بالناس ثم قال في
خطبته: الحمد للَّه الّذي اصطفى الإسلام لنفسه، وكرمه، وشرفه، وعظمه،
واختاره لنا وأيّده، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به، والذابين
عنه، والناصرين له، وخصنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنبتنا
من شجرته، واشتقنا من نبعته، وأنزل بذلك كتابا، فقال فيه: (قُلْ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبى) 42:
23 [2] . فلما قبض الله رسوله قام بذلك الأمر أصحابه، وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ، فعدلوا وخرجوا خماصا، ثم وثب بنو حرب ومروان،
فابتزوها وتداولوها، فاستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا
فلما أسفوه انتقم الله منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا، وأنا السفاح
المبيح، والثائر المبير [3] .
وكان موعوكا فاشتد عليه الوعك، فجلس على المنبر وتكلم فقال:
إنا والله ما خرجنا لنكثر لجينا ولا عقيانا، ولا نحفر نهرا، وإنما
أخرجتنا [4] الأنفة من ابتزازهم لحقنا. ولقد كانت أموركم ترمضنا، لكم
ذمة الله عز وجل، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة العباس أن نحكم
فيكم بما أنزل الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير فيكم بسيرة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه
إلى عيسى ابن مريم.
ثم نزل أبو العباس وداود أمامه حتى دخل القصر، فأجلس أبا جعفر وأخذ
البيعة على الناس في المسجد، وأعظم التدبير أبو سلمة حفص بن سليمان،
ولقب بالوزارة، وهو أول من سمي بها، وكتب إليه أبو مسلم: للأمير أبي
سلمة، وزير آل محمد من عبد الرحمن أبي مسلم أمير آل محمد.
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 425.
[2] سورة: الشورى، الآية: 23.
[3] في الأصل: «المثر» . وما أوردناه من ت.
[4] في الطبري: «أخرجنا» .
(7/299)
ثم استعمل السفاح على الكوفة عمه داود بن
علي، وعلى واسط أخاه جعفر وحضره جماعة من أهل بيته، فذكروا جمع المال،
فقال عبد الله بن حسن: سمعت بألف ألف درهم وما رأيتها مجتمعة، فقال أبو
العباس: فأنا أصلك بها حتى تراها مجتمعة، فلما قبض المال استأذنه في
الخروج إلى المدينة، فأذن له ودفع إليه مالا ليقسمه على بني هاشم
بالمدينة، فلما قسمه أخذوا يشكرون أبا العباس، فقال عبد الله: هؤلاء
أحمق الناس، يشكرون من أعطاهم بعض حقهم. فبلغه ذلك فأخبر أهله، فقالوا:
أدبه، فقال: من شدد أنفر، ومن تراخى ألف، والعفو أقرب للتقوى، والتغافل
من فعل الكرام [1] .
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر
أَحْمَد بْن عَلِي الخطيب، قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عمر بْن روح،
قَالَ: أَخْبَرَنَا المعافى بْن زكريا، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا القاسم بْن
إسماعيل، قَالَ: حدثنا أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، عن أبيه، قال [2]
:
حدثني من حضر مجلس السفاح وهو أحشد ما كان ببني هاشم والشيعة ووجوه
الناس، فدخل عبد الله بن حسن بن حسن ومعه مصحف، فقال: يا أمير
المؤمنين:
أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف، قال: فأشفق الناس [من]
[3] أن يعجل السفاح بشيء إليه، ولا يريدون ذلك في شيخ بني هاشم في وقته
أو يعي بجوابه فيكون ذلك عارا عليه. قال: فأقبل عليه غير مغضب ولا
مزعج، فقال: إن جدك عليا- وكان خيرا مني وأعدل- ولي هذا الأمر فما أعطى
جديك الحسن والحسين- وكانا خيرا منك- شيئا، وكان الواجب أن أعطيك مثله،
فإن كنت فعلت فقد أنصفتك، وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك، قال: فما رد
عبد الله جوابا، وانصرف الناس يعجبون من جوابه له.
وكتب أبو العباس إلى خاله زياد بن عبد الله، وكان عامله على المدينة:
قربني من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ جيرانه، وإكرام أهل بيته،
ولا تسلط هواك فيما وجب
__________
[1] «والتغافل من فعل الكرام» . ساقط من ت.
[2] في الأصل: «بن سالم الباهلي» . والتصحيح من تاريخ بغداد. والخبر في
تاريخ بغداد 10/ 48.
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
(7/300)
إسخاطي، فإن الله شاهدي وأنت المأخوذ
بالتقصير.
وكتب إلى داود بن علي وهو عامله على مكة: أما بعد، فهذه سنة طمس فيها
عيون الجور، وأخمد نيران الظلم، وأباد الشجرة الملعونة، فهن زوار بيت
الله بنصر أوليائه، وخذلان أعدائه ليحمدوه على ذلك.
وفي هذه السنة: هزم مروان بالزاب [1] ، وذلك أن قحطبة كان قد وجه أبا
عون عبد الله بن يزيد الأزدي، فقتل عثمان بن سفيان، وأقام بناحية
الموصل، فلما بلغ مروان قتل عثمان أقبل من حران حتى أتى الموصل، فنزل
على الزاب وحفر خندقا، فسار إليه أبو عون، فوجه أبو سلمة إلى أبي عون
عيينة بن موسى، والمنهال بن حبان، وإسحاق بن طلحة كل واحد في ثلاثة
آلاف، فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد في ألفين، وعبد الله
الطائي في ألف وخمسمائة، وعبد الحميد بن ربعي الطائي في ألفين، وداس
[2] بن نضلة في خمسمائة إلى أبي عون. ثم قال: من يسير إلى مروان من أهل
بيتي؟ فقال عبد الله بن علي: أنا، فقال: سر على بركة الله.
فسار فقدم على أبي عون، فتحول له أبو عون عن سرادقه، وخلاه له وما فيه.
فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة ثنتين [3] وثلاثين ومائة
سأل عبد الله بن علي عن مخاضة، فدل عليها بالزاب، فأمر عيينة بن موسى،
فعبر في خمسة آلاف وانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا،
ورجع عيينة فعبر المخاضة إلى عسكر عبد الله، فأصبح مروان فعقد الجسر
وسرح ابنه عبد الله بن مروان فحفر خندقا أسفل من عسكر ابن علي، فبعث
عبد الله بن علي المخارق في أربعة آلاف، فنزل على خمسة أميال من عسكر
عبد الله بن علي، فسرح عبد الله بن مروان إليه الوليد [4] بن معاوية،
فلقي المخارق، فانهزم أصحابه، وأسر المخارق، وقتل منهم يومئذ عدة، فبعث
بهم إلى عبد الله وبعثه عبد الله إلى مروان مع الرءوس، فقال مروان:
أدخلوا علي رجلا من الأسارى، فأتوه بالمخارق، فقال: أنت المخارق [5] ؟
فقال: أنا عبد من
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 432.
[2] في الأصل: «دواس» . والتصحيح من ت والطبري.
[3] في الأصل: «اثنتين» . وما أوردناه من ت والطبري.
[4] في الأصل: «فسرح إليه عبد الله بن مروان الوليد» . وما أوردناه من
ت.
[5] في الأصل: «أنت المخارق الله» . وما أوردناه من ت والطبري.
(7/301)
عبيد أهل العسكر، قال: فتعرف المخارق؟ قال:
نعم، قال: فانظر في هذه الرءوس هل تراه؟ فنظر إلى رأس منها فقال: هو
هذا، فخلى سبيله.
وبلغ عبد الله انهزام المخارق، فقال له موسى بن كعب: اخرج إلى مروان
قبل أن يصل الفل إلى العسكر، فيظهر ما لقي المخارق [1] . فدعا عبد الله
بن علي محمد بن صول، فاستخلفه على العسكر وسار على ميمنته ابن عون وعلى
ميسرته الوليد بن معاوية ومع مروان ثلاثة آلاف، فقال مروان لعبد العزيز
بن عمر بن عبد العزيز: إن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنا الذين
ندفعها إلى عيسى ابن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال فإنا للَّه وإنا
إليه راجعون. وأرسل مروان إلى عبد الله بن علي يسأله الموادعة، فقال:
كذب، لا تزول الشمس حتى أوطئهم الخيل، إن شاء [الله] [2] ، فقال مروان
لأهل الشام: قفوا لا تبدءوهم بقتال، فحمل الوليد بن معاوية فقاتل أهل
الميمنة فغضب مروان وشتمه، فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقال
موسى بن كعب لعبد الله: مر الناس أن ينزلوا، فنودي: الأرض، فنزل الناس
وشرعوا الرماح، وجثوا على الركب واشتد القتال، فقال مروان لقضاعة:
انزلوا، فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا، فأرسل إلى السكاسك: احملوا،
فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا، فأرسل إلى السكون أن احملوا، فقالوا:
قل لغطفان فليحملوا، فقال لصاحب شرطته: انزل، فقال: لا والله ما كنت
لأجعل نفسي غرضا، قال: أما والله لأسوءنك، قال: وددت والله أنك قدرت
على ذلك، فانهزم أهل الشام وانهزم مروان، وقطع الجسر، فكان من غرق
يومئذ أكثر ممن قتل.
وكان ممن غرق يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع، فأمر عبد الله بن علي
فعقد الجسر على الزاب واستخرج الغرقى، فأخرجوا ثلاثمائة. وأقام عبد
الله في عسكره سبعة أيام، وحوى عسكر مروان بما فيه، فوجدوا فيه سلاحا
كثيرا، وأموالا.
وكتب عبد الله بن علي بالفتح إلى أمير المؤمنين أبي العباس السفاح،
فلما أتاه الخبر صلى ركعتين وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة خمسمائة،
ورفع أرزاقهم إلى ثمانين.
وكان مروان منذ لقيه أهل خراسان لا يدبر شيئا إلا وقع فيه خلل، ولقد
وقف يوم انهزم والناس يقتتلون فأمر بأموال فأخرجت وقال للناس: اصبروا
وقاتلوا، هذه الأموال
__________
[1] في الأصل: «ينظموها المخارق» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/302)
لكم، فجعل ناس يصيبون من ذلك المال،
فأرسلوا إليه: إن الناس قد مالوا على هذا المال، ولا تأمنهم أن يذهبوا،
فأرسل إلى ابنه عبد الله: أن سر في أصحابك فاقتل من أخذ من ذلك المال
وامنعهم، فمال عبد الله برايته وأصحابه، فقال الناس: الهزيمة،
فانهزموا. وذلك صبيحة [يوم] [1] السبت لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة.
أخبرنا أبو القاسم بن الحصين، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن عيسى [بن]
[2] المقتدر، قال: أخبرنا أحمد بن منصور اليشكري، قال: قرئ على الصولي
وأنا حاضر، قال: حدثنا الغلابي، قال: حدثنا عبد الله بن عائشة، قال:
لما استقام الأمر لأبي العباس السفاح خطب يوما فأحسن الخطبة، فلما نزل
عن المنبر قام إليه السيد فأنشده:
دونكموها يا بني هاشم ... فجددت أمراءها الطامسا
دونكموها ما على كعب ... من أمسى عليكم ملكها نافسا
دونكموها فالبسوا تاجها ... لا تعدموا منكم لها لابسا
خلافة الله وسلطانه ... وعنصرا كان لكم دارسا
لو خير المنبر فرسانه [3] ... ما اختار إلا منكم فارسا
والملك لو شوور في ساسة ... ما اختار إلا منكم سائسا
لم يبق عبد الله بالشام من ... آل أبي العاص أمرأ عاطسا
فقال له أبو العباس السفاح: سل حاجتك، قال: ترضى عن سليمان بن حبيب بن
المهلب وتولية الأهواز، قال: قد فعلت، ثم أمر أن يكتب عهد سليمان على
الأهواز، وتدفع إلى السيد [4] ، فكتب ثم أخذه السيد وقدم على سليمان
بالبصرة، فلما وقعت عليه عينه أنشده يقول:
أتيناك يا قرم أهل العراق ... بخير كتاب من القائم
أتيناك من عند خير الأنام ... وذاك ابن عم أبي القاسم
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «سلطانه» . وما أوردناه من ت.
[4] في ت: «وتدفع إليه» .
(7/303)
أتينا بعهدك من عنده ... على من يليك من
العالم
يوليك فيه جسام الأمور ... فأنت صنيع بني هاشم
فقال له سليمان: شريف وشافع، ووافد وشاعر، ونسيب، سل حاجتك، قال:
جارية فارهة جميلة ومن يخدمها، وبدرة ومن يحملها، وفرس راتع وسائسه،
وتخت من صنوف الثياب وحامله. قال: قد أمرت لك بجميع ما سألت ولك عندي
في كل سنة مثله.
قال الصولي: وحدثنا جبلة بن محمد، قال: حدثنا أبي هذا الخبر وزاد فيه:
أن سليمان قال للسيد: احتكم قال:
سأحكم إذ حكمتني غير مسرف ... ولا مقصر يا ابن الكماة الأكارم
ثلاثة آلاف وعبد وبغلة ... وجارية حسناء ذات مآكم
وسرج وبرذون صليع وكسوة ... وما ذاك بالإكثار من حكم حاكم
على ذي ندى يعطيك حتى كأنما ... يرى بالذي يعطيك أحلام نائم
أرحني بها من مجلسي ذا فإنني ... وحقك إن لم أعطها غير رايم
وفي هذه السنة: قتل مروان بن محمد [1] :
وذلك أنه لما هرب من الزاب مر بقنسرين وعبد الله بن علي يتبعه، ثم مضى
إلى حمص، فتلقاه أهلها بالسمع والطاعة، فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم
شخص منها، فلما رأوا قلة عدده طمعوا فيه وقالوا: مرعوب منهزم، فاتبعوه
بعد ما رحل، فلحقوه على أميال، فلما رأى غبره خيولهم كمن لهم كمينين،
ثم صافهم وناشدهم فأبوا إلا قتاله، فنشب القتال بينهم، وثار الكمينان
من خلفهم فهزموا أصحاب مروان، ومر مروان إلى دمشق، ثم مر بالأردن
وفلسطين، واتبعه عبد الله بن علي.
فأنفذ أبو العباس السفاح عمه صالح بن علي في جموع كثيرة إلى الشام على
طريق السماوة حتى لحق بأخيه عبد الله بن علي وسار إلى دمشق وبها الوليد
بن معاوية بن مروان بن الحكم خليفة مروان بن محمد، فحصرها وفتحها عنوة،
وقتل الوليد وأنهب البلد ثلاثة أيام، وقلع سورها حجرا حجرا، وبعث بيزيد
بن معاوية بن
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 437.
(7/304)
مروان، وعبد الله بن عبد الجبار بن يزيد بن
عبد الملك مروان إلى أبي العباس، فقتلهما وصلبهما.
وهرب مروان إلى مصر فدخلها في رمضان وبها عبيد الله [1] ابنه قد سبقه،
ونزل عبد الله بن علي نهر أبي فرطس، وجمع بني أمية وأظهر أنه يريد [أن]
[2] يفرض لهم العطاء، فلما اجتمعوا وهم نيف وثمانون إنسانا خرجوا عليهم
فقتلوهم، وجاء كتاب أبي العباس بأن ينفذ صالح بن علي لطلب مروان، ويجعل
على مقدمته أبا عون عبد الملك بن يزيد فمضى معه أبو عون والحسين بن
قحطبة، وعامر بن إسماعيل التميمي، ومنهال بن قنان، فبلغوا إلى العريش،
وبلغ مروان الخبر، فأحرق ما حوله من علف وطعام وهرب، ومضى صالح ومن معه
في طلبه إلى الصعيد، وقدم أبا عون أمامه وعامر بن إسماعيل، وسعيد بن
عثمان المازني، فلقوا خيلا لمروان، فهزموهم وأسروهم وسألوهم عن مروان
على أن يؤمنوهم، فعرفوهم خبره ومكانه، وساروا حتى أدركوه بقرية من قرى
الصعيد تسمى بوصير من آخر الليل، وقد نزل الكنيسة ومعه حرمه وولده
وثقله.
قال عامر [3] : لما وصلنا كنا في جمع يسير، فلو علم قلتنا شد علينا،
فلجأنا إلى شجر [4] ونخل، فقلت لأصحابي: إن أصبحنا ورأوا قلتنا
أهلكونا، وخرج مروان فقاتل وهو يقول: كانت للَّه علينا حقوق ضيعناها
ولم نقم بما يلزمنا فيها، فحلم عنا ثم انتقم منا.
قال علماء السير [5] : كان مروان قد عرض جيشه بالرقة فمر به ثمانون ألف
عربي على ثمانين ألف فرس عربي، ففكر ساعة ثم قال: إذا انقضت المدة لم
تنفع العداة، إلا أنه في ذلك الوقت بالغ في القتال، فقتل ثلاثمائة رجل،
وأثخنته الجراح وحمل عليه رجل فقتله واحتز رأسه رجل من أهل البصرة كان
يبيع الرمان. فقال الحسن بن قحطبة:
__________
[1] في الأصل: «عبد الله» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت
[3] الخبر في تاريخ الطبري 7/ 441.
[4] في الأصل: «ونحانا إلى شجر» . وفي الطبري: «فانضوينا إلى شجر» .
وما أوردناه من ت.
[5] «وقال علماء السير» . ساقط من ت.
(7/305)
أخرجوا إلي أكبر بنات مروان، فأخرجوها وهي
ترعد، فقال لها: لا بأس عليك، فقالت: أي بأس أعظم من إخراجك إياي حاسرة
من حيث لم أر رجلا قط، فأجلسها ووضع الرأس في حجرها، فصرخت واضطربت،
فقيل له: ما حملك على هذا؟ فقال: كفعلهم بزيد بن علي حين قتلوه، فإنهم
جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي.
وبعث برأس مروان إلى صالح بن علي، فنصب على باب مسجد دمشق، وبعث به إلى
السفاح فخر ساجدا وتصدق بعشرة آلاف دينار.
وأوغل أولاد مروان إلى بلاد النوبة، فقاتلهم الحبشة، فقتل بعضهم وأفلت
بعضهم، وكان فيهم بكر بن معاوية الباهلي فسلم حتى كان في خلافة المهدي،
فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين، فبعث به إلى المهدي.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الكلوذاني،
قال:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلي مُحَمَّد بْن الحسين الجازري، قال: حدثنا
المعافى بْن زكريا، قَالَ:
حَدَّثَنَا الحسين بْن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا الفضل بن العباس
الربعي، قال:
حدثني إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور، قال: سمعت عمي سليمان بن
أبي جعفر يقول:
كنت واقفا على رأس المنصور ليلة وعنده إسماعيل بن علي وصالح بن علي
وعيسى بن علي، فتذاكروا زوال ملك بني أمية وما صنع بهم عبد الله وقتل
من قتل منهم بنهر أبي فرطس، فقال المنصور: ألا من عليهم ليروا من
دولتنا ما رأينا من دولتهم، ويرغبوا إلينا كما رغبنا إليهم، فلقد لعمري
عاشوا سعداء، وماتوا فقداء. فقال له إسماعيل بن علي: يا أمير المؤمنين،
إن في حبسك عبيد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وقد كانت له
قصة عجيبة مع ملك النوبة فابعث إليه فاسأله عنها، فقال: يا مسيب، علي
به، فأخرج فتى مقيد بقيد ثقيل وغل ثقيل، فمثل بين يديه، فقال: السلام
عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: يا عبيد الله، رد
السلام أمن ولم تسمح لك نفسي بذلك بعد، ولكن أقعدوه، فجاءوا بوسادة
فثنيت فقعد عليها، فقال له: قد بلغني أنه كان لك مع ملك النوبة قصة
عجيبة، فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين، لا والذي أكرمك بالخلافة ما
أقدر على النفس من ثقل الحديد، ولقد صدئ قيدي مما
(7/306)
أرشق عليه من البول وأصب عليه من الماء في
أوقات الصلوات، فقال: يا مسيب أطلق عنه حديدة.
ثم قال: نعم يا أمير المؤمنين، لما قصد عبد الله بن علي إلينا كنت [1]
المطلوب من بين الجماعة لأني كنت ولي عهد أبي من بعده، فدخلت إلى خزانة
فاستخرجت منها عشرة آلاف دينار، ثم دعوت عشرة من غلماني، كل واحد على
دابة، ودفعت إلى كل غلام ألف دينار، وأوقرت خمسة أبغل فرشا، وشددت في
وسطي جوهرا له قيمة مع ألف دينار، وخرجت هاربا إلى بلد النوبة، فسرت
فيها ثلاثا فوقعت إلى مدينة خراب، فأمرت الغلمان فعدلوا إليها فكسحوا
منها ما كان قذرا، ثم فرشوا بعض تلك الفرش، ودعوت غلاما لي كنت أثق
بعقله، فقلت: انطلق إلى الملك، فأقرئه مني السلام، وخذ منه الأمان
وابتع لي ميرة.
قال: فمضى ثم أنه أبطأ علي [حتى] [2] سؤت ظنا، ثم أقبل ومعه رجل آخر،
فلما دخل كفر لي ثم قعد بين يدي، فقال لي: الملك يقرأ عليك السلام
ويقول لك: من أنت وما جاء بك إلى بلادي؟ أمحارب لي؟ أم راغب إلي؟ أم
مستجير بي؟ قلت له: رد على الملك السلام وقل له: أما محارب لك فمعاذ
الله، أما راغب في دينك فما كنت لأبغي بديني بدلا، وأما مستجير بك
فلعمري.
قال: فذهب ثم رجع إلي فقال: إن الملك يقرأ عليك السلام ويقول لك: أنا
صائر إليك غدا، فلا تحدثن في نفسك حدثا ولا تتخذ شيئا من ميرة فإنها
تأتيك وما تحتاج إليه، فأقبلت الميرة فأمرت غلماني ففرشوا ذلك الفرش
كله، وأمرت بفرش لي، فنصب لي وله مثله، وارتقبت في غد مجيئه [3] ،
فبينا أنا كذلك أقبل غلماني يخطرون [4] ، وقالوا: إن الملك قد أقبل،
فقمت بين شرفتين من شرف القصر أنظر إليه، فإذا أنا برجل قد لبس بردتين
ائتزر بإحداهما وارتدى بالأخرى، حاف راجل، وإذا عشرة معهم الحراب ثلاثة
يقدمونه، وسبعة خلفه، وإذا الرجل الموجه إلى جنبه [5] ،
__________
[1] في الأصل: «لما قصدنا عبد الله بن علي كنت» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «وأقبلت من غد أرتقب مجيئه» .
[4] في ت: «يخطرون» .
[5] في الأصل: «وإذا أنا برجل الموجه إلى جانبه» . وما أوردناه من ت.
(7/307)
فاستصغرت أمره وهان علي لما رأيته في تلك
الحال، وسولت لي نفسي قتله، فلما قرب من الدار إذا بسواد عظيم، فقلت:
ما هذا السواد؟ فقيل: الخيل فوافى يا أمير المؤمنين زهاء عشرة آلاف
عنان، فكانت موافاة الخيل إلى الدار وقت دخوله، فأحدقوا بها، ثم دخل
إلي فلما نظر إلي [1] قال لترجمانه: أين الرجل؟ فأومأ الترجمان إلي،
فلما نظر إلي وثبت إليه، فأعظم ذلك وأخذ بيدي فقبلها ووضعها على صدره،
وجعل يدفع ما على الفسطاط برجله فشوش الفرش، فظننت أن ذلك شيء يجلونه
أن يطأ على مثله، حتى انتهى إلى الأرض، فقلت لترجمانه: سبحان الله، لم
لا يصعد على الموضع الذي وطئ له؟ فقال: قل له إني ملك وكل ملك حقه أن
يكون متواضعا لعظمة الله سبحانه إذ رفعه الله، ثم أقبل ينكث بإصبعه
الأرض طويلا، ثم رفع رأسه فقال لي: كيف سلبتم هذا الملك وأخذ منكم
وأنتم أقرب إلى نبيكم؟ فقلت: جاء من كان أقرب قرابة إلى نبينا صلى الله
عليه وسلم، فسلبنا وطردنا، فخرجت إليك مستجيرا باللَّه عز وجل ثم بك،
قال: فلم كنتم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: فعل ذلك
عبيد وأتباع دخلوا في ملكنا من غير رأينا، قال: فلم كنتم تركبون وعلى
دوابكم الذهب والفضة، وتلبسون الديباج وقد حرم ذلك عليكم؟ قلت: عبيد
وأتباع وأعاجم دخلوا في مملكتنا [من غير رأينا] [2] قال: فلم كنتم أنتم
إذا خرجتم إلى صيدكم عبرتم [3] على القرى وكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم
بالضرب الوجيع ثم لا يقنعكم ذلك حتى تموشوا زروعهم فتفسدوها في طلب
دراج قيمته درهم أو في عصفور قيمته لا شيء، والفساد محرم عليكم في
دينكم؟
قلت: عبيد وأتباع، قال: لا ولكنكم استحللتم ما حرم الله عليكم، وأتيتم
ما نهاكم عنه، فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل، وللَّه فيكم نقمة لم
تبلغ غايتها بعد، وإني أتخوف أن تنزل بك النقمة من الظلمة فتشملني معك،
وإن النقمة إذا نزلت عمت وشملت، فاخرج بعد ثلاث فإنني إن أخذتك بعدها
أخذت جميع ما معك وقتلتك وقتلت جميع من معك، ثم وثب فخرج.
فأقمت ثلاثا وخرجت إلى مصر فأخذني وليك فبعث بي إليك، وها أنا ذا
والموت
__________
[1] في الأصل: «فلما نظرني» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «تقحتم» .
(7/308)
أحب إلي من الحياة. فهم أبو جعفر بإطلاقه،
فقال له إسماعيل بن علي: في عنقي بيعة له، قال: فماذا ترى؟ قال: يترك
في دار من دورنا ويجري عليه ما يجري على مثله، قال: ففعل ذلك به، فو
الله ما أدري أمات في حبسه أم أطلقه المهدي.
وروى الحسن بن جعفر عن أبيه، قال: لما أفضت الخلافة إلى بني العباس
اختفى رجال من بني أمية، وكان فيمن اختفى إبراهيم بن سليمان بن عبد
الملك، حتى أخذ له داود بن علي بن عبد الله أمانا من أبي العباس، فقال
له أبو العباس يوما: حدثني عما مر بك في اختفائك فقال: كنت يا أمير
المؤمنين مختفيا بالحيرة في منزل شارع على الصحراء [1] . فبينا أنا ذات
يوم على ظهر بيت نظرت إلى أعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة،
فوقع في روعي أنها تريدني، فخرجت من الدار متنكرا حتى دخلت الكوفة ولا
أعرف بها أحدا أختفي عنده، فدخلت متلددا، فإذا أنا بباب كبير ورحبة
واسعة، فدخلت الرحبة، فجلست فيها، فإذا رجل وسيم حسن الهيئة على فرس قد
دخل الرحبة مع جماعة من غلمانه وأتباعه، فقال: من أنت وما حاجتك؟ فقلت:
رجل مختف يخاف على دمه واستجار بمنزلك، قال: فأدخلني منزله ثم سيرني في
حجرة تلي حرمه، فمكثت عنده حولا في كل ما أحب من مطعم ومشرب وملبس، لا
يسألني عن شيء من حالي، ويركب في كل يوم ركبة، فقلت له يوما: أراك تدمن
الركوب، ففيم ذاك؟ قال: إن إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبرا، وقد بلغني
أنه مختف، فأنا أطلبه لأدرك ثأري فكثر تعجبي من إدبارنا إذ ساقني القدر
إلى الاختفاء في منزل من يطلب دمي وكرهت الحياة، وسألت الرجل عن اسمه
واسم أبيه، فأخبرني بهما، فعلمت أني قتلت أباه، فقلت: يا هذا، قد وجب
علي حقك، ومن حقك أن أقرب عليك الخطوة، قال:
وما ذاك؟ فقلت: أنا إبراهيم بن سليمان قاتل أبيك فخذ بثأرك، فقال: أحسب
أنك رجل قد مضه الاختفاء فأحب الموت، فقلت: بل الحق، قلت: قتلته يوم
كذا وكذا بسبب كذا وكذا، فلما عرف أني صادق تربد وجهه واحمرت عيناه،
وأطرق مليا ثم قال: أما أنت فستلقى أبي فيأخذ حقه منك، وأما أنا فغير
مخفر ذمتي فاخرج عني فلست آمن نفسي عليك، وأعطاني ألف دينار، فلم
أقبلها وخرجت من عنده، فهذا أكرم رجل رأيته.
__________
[1] في الأصل: «على شارع الصحراء» . وما أوردناه من ت.
(7/309)
وقد روينا أن مرية [1] زوجة مروان بن محمد
استأذنت على الخيزران، وعندها زينب [بنت] [2] سليمان بن علي الهاشمي،
فلما دخلت قالت زينب: الحمد للَّه الذي أزال نعمتك وصيرك عبرة، تذكرين
يا عدوة الله حين أتاك أهل بيتي يسألونك أن تكلمي أصحابك في أموال
إبراهيم بن محمد فلقيتيهن ذلك اللقاء، وأخرجتيهن ذلك المخرج، فضحكت،
وقالت: أي بنت عم، أي شيء أعجبك من حسن صنيع الله بي على ذلك حتى أردت
أن تتأسي بي فيه، ثم ولت خارجة.
وفي هذه السنة [3] : خلع أبو الورد، واسمه مجزأة بن الكوثر بن زفر بن
الحارث الكلابي، وهو من أصحاب مروان وفرسانه وقواده، خلعه أبو العباس
السفاح. وذلك أنه لما هزموا بقنسرين جاء إلى عبد الله بن علي فبايعه،
ودخل فيما دخل فيه جنده من الطاعة، فجاء قائد من قواد عبد الله بن علي،
فعبث بولد مسلمة بن عبد الملك ونسائهم، وكانوا مجاورين لأبي الورد،
فخرج حتى هجم على ذلك القائد فقتله ومن معه، وأظهر الخلع وبيض، ودعا
أهل قنسرين إلى ذلك فأجابوه وأبو العباس يومئذ بالحيرة، فلما بلغ عبد
الله بن علي ذلك خرج متوجها إلى قنسرين للقاء أبي الورد، فلما قدم حمص
إذا أهل قنسرين قد بيضوا ونهضوا مع عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة،
وانتهبوا ما كان عبد الله بن علي خلفه من ثقل ومتاع، واجتمع مع أبي
الورد جماعة من أهل قنسرين، وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، فقدم
منهم ألوف وعليهم أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي
سفيان، وقالوا [4] : هو السفياني الذي كان يذكر وهم في نحو من أربعين
ألفا- فلما دنا منهم عبد الله بن علي، وأبو محمد معسكر في جماعتهم،
وأبو الورد المتولي لأمر العسكر والمدبر له، وهو صاحب الحرب- وجه عبد
الله بن علي عبد الصمد في عشرة آلاف، فناهضهم أبو الورد واستحر القتل
في الفريقين، وثبت القوم وانكشف عبد الصمد ومن معه، وقتل منهم يومئذ
ألوف، وجاء عبد الصمد إلى عبد الله بن علي، فنهض إليهم عبد الله ومعه
حميد بن قحطبة وجماعة
__________
[1] كذا في الأصلين، وذكر المسعود في المروج 3/ 247، اسمها: «ريا» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 7/ 443.
[4] في الأصل: «وقال» . وما أوردناه من ت.
(7/310)
من القواد، فالتقوا ثانية فاقتتلوا قتالا
شديدا، وانكشف جماعة ممن كان مع عبد الله، ثم ثابوا، وثبت لهم عبد الله
وحميد بن قحطبة، فهزموهم وثبت أبو الورد في نحو من خمسمائة من أهل بيته
وقومه، فقتلوا جميعا وذلك في ذي الحجة، وهرب أبو محمد ومن معه حتى
لحقوا بتدمر، وأمن عبد الله أهل قنسرين، وسودوا وبايعوا، ودخلوا في
طاعته، ثم مضى إلى أهل دمشق فهرب الناس وتفرقوا، فلم يكن [بينهم] [1]
وقعة، وآمن أهلها فبايعوه، ولم يؤاخذهم بما كانوا فعلوا.
فأما أبو محمد فلحق بأهل الحجاز، فوجه إليه زياد بن عبيد الحارثي عامل
أبي جعفر على المدينة خيلا، فقاتلوه حتى قتل.
وفي هذه السنة: خلع حبيب بن مرة، وبيض هو ومن معه من أهل الشام، وكان
تبيض هذا قبل تبيض أبي الورد، وإنما بيض أبو الورد وعبد الله مشتغل
بقتال حبيب، وإنما بيض حبيب خوفا على نفسه وقومه، فبايعته قيس وغيرهم
من أهل ذلك الكور، البثنية وحوران. فلما بلغ عبد الله بن علي تبييض أهل
قنسرين، دعا حبيبا إلى الصلح، فصالحه وآمنه، ثم خرج متوجها للقاء أبي
الورد، وفعل به ما فعل.
وفي هذه السنة: بيض أهل الجزيرة [2] ، وخلعوا أبا العباس. وإنما فعلوا
هذا حين بلغهم خروج أبي الورد ونقض أهل قنسرين، ثم استقام أهل الجزيرة
وأهل الشام.
وولى أبو العباس أبا جعفر [المنصور] [3] الجزيرة وأرمينية وأذربيجان،
فلم يزل على ذلك حتى استخلف.
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد
بْن أبي نصر الحميدي، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن سلامة القاضي
القضاعي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد الكاتب، قال: أخبرنا أبو بكر محمد
بن الحسن، عن أبيه، قال: أخبرني بعض الهاشميين قال:
كنت جالسا عند المنصور بأرمينية وهو أميرها لأخيه أبي العباس وقد جلس
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصلين، أوردناه من الطبري 7/ 444.
[2] تاريخ الطبري 7/ 446.
[3] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل، وت.
(7/311)
للمظالم، فدخل عليه رجل فقال: إن لي مظلمة،
وإني أسألك أن تسمع مني مثلا أضربه قبل أن أذكر مظلمتي، قال: قل، قال:
إني وجدت الله تبارك وتعالى اسمه خلق الخلق على طبقات، فالصبي إذا خرج
إلى الدنيا لا يعرف إلا أمه، ولا يطلب غيرها فإن فزع من شيء لجأ إليها،
ثم يرتفع عن ذلك طبقة فيعرف أن أباه أعز من أمه، فإن أفزعه شيء لجأ إلى
أبيه، ثم يبلغ فإن أفزعه شيء لجأ إلى سلطانه، فإن ظلمه ظالم انتصر به
منه، فإذا ظلمه السلطان لجأ إلى ربه فاستنصره، وقد كنت في هذه الطبقات،
وقد ظلمني ابن نهيك في ضيعة لي في ولايته، فإن نصرتني عليه وأخذت لي
بمظلمتي وإلا استنصرت الله عز وجل ولجأت إليه، فانظر لنفسك أيها الأمير
أودع، فتضاءل أبو جعفر وقال: أعد علي الكلام، فأعادة، فقال: أما أول
شيء فقد عزلت ابن نهيك من ناحيته، وأمر برد ضيعته.
وفي هذه السنة [1] : شخص أبو جعفر المنصور إلى أبي مسلم بخراسان
لاستطلاع رأيه في قتل أبي سلمة حفص بن سليمان. وذلك أن أبا سلمة ستر
حال أبي العباس حين قدم الكوفة.
وقد ذكرنا أن قوما يذكرون ويقولون: إنما أراد أن يجعل الأمر في آل أبي
طالب، فصار عند القوم بهذا متهما، فتذاكروا بعد ظهور السفاح ما فعله
أبو سلمة، فقال قائل منهم: فما يدريكم لعل ما صنع أبو سلمة كان عن رأي
أبي مسلم، فقال أبو العباس:
لئن كان هذا عن رأي أبي مسلم إنا بعرض بلاء، إلا أن يدفعه الله عنا. ثم
تفرقوا، فأرسل أبو العباس إلى أبي جعفر فقال: ما ترى؟ فقال: الرأي
رأيك، قال: فاخرج إلى أبي مسلم حتى تعلم ما رأيه، فليس يخفي عليك لو قد
لقيته، فإن كان عن رأيه أخذنا [2] لأنفسنا، وإن لم يكن عن رأيه طابت
نفوسنا.
قال أبو جعفر: فخرجت على وجل، فلما انتهيت إلى الري إذا صاحب الري قد
أتاه كتاب أبي مسلم: أنه بلغني أن عبد الله بن محمد توجه إليك فإذا قدم
فأشخصه ساعة يقدم عليك. فلما قدمت أتاني عامل الري، فأخبرني بكتاب أبي
مسلم وأمرني بالرحيل، فازددت وجلا وخرجت وأنا خائف، فسرت فلما كنت
بنيسابور إذا عاملها قد
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 448.
[2] في الأصل: «احبلنا» . وما أوردناه من الطبري.
(7/312)
أتاني بكتاب أبي مسلم: إذا قدم عليك عبد
الله بن محمد فأشخصه ولا تدعه يقيم فإن الأرض أرض خوارج ولا آمن عليه،
فطابت نفسي وقلت: أراه يعني بأمري. فسرت فلما كنت من مرو على فرسخين
تلقاني أبو مسلم في الناس، فلما دنا مني أقبل يمشي إلي حتى قبل يدي،
فقلت: اركب، فركب. فدخلت مرو فنزلت دارا، فمكثت ثلاثة أيام لا يسألني
عن شيء، ثم قال لي في اليوم الرابع: ما أقدمك؟ فأخبرته، فقال: فعلها
أبو سلمة أنا أكفيكموه. ثم دعا مرار بن أنس الضبي، فقال له: انطلق إلى
الكوفة فاقتل أبا سلمة حيث لقيته وانته في ذلك إلى رأي الإمام، فقدم
مرار الكوفة، وكان أبو سلمة يسمر عند أبي العباس، فقعد له في طريقه
فلما خرج قتله، وقالوا: قتلته الخوارج.
وقال سليمان بن المهاجر [1] :
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
وكان أبو مسلم إذا جاء إلى أبي جعفر وهو بالري ينزل على باب الدار ثم
يجلس في الدهليز ويقول للحاجب: استأذن لي، فغضب أبو جعفر على حاجبه،
وقال له:
ويلك إذا رأيته فافتح له الباب وقل له يدخل على دابته. وانصرف أبو جعفر
إلى أبي العباس، فقال له: لست خليفة ولا آمرك بشيء إن تركت أبا مسلم
ولم تقتله، قال:
وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلا ما يريد، فقال أبو العباس: اسكت واكتمها.
وفي هذه السنة: وجه أبو العباس أخاه أبا جعفر إلى واسط لحرب يزيد بن
عمر بن هبيرة.
وقد سبق ذكرنا حال يزيد بن عمر بن هبيرة مع الجيش الذين لقوه من [أهل]
[2] خراسان مع قحطبة، ثم ابنه الحسن إلى أن انهزم ولحق بواسط وتحصن
بها. ولما انهزم تفرق عنه الناس، وخلف على الأثقال قوما، فذهبوا بتلك
الأموال، فقيل له: لو لحقت بمروان فإنه ليس بعد الحصار إلا القتل، وكان
يخاف من مروان لأنه كان يكتب إليه في الأمر فيخالفه، فخافه إن قدم عليه
أن يقتله فسرح أبو سلمة الحسن بن قحطبة، فخندق
__________
[1] في الأصل: «سليمان بن أبي المهاجر» . وفي ت: «سليمان المهاجر» .
وما أوردناه من الطبري 7/ 450.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصلين، أوردناه من الطبري.
(7/313)
وخرج ابن هبيرة للقتال واقتتلوا ثم تحاجزوا
ثم اقتتلوا بعد أيام، فهزم أهل الشام هزيمة قبيحة، فدخلوا المدينة
فمكثوا ما شاء الله لا يقتتلون إلا رميا من وراء الفصيل، ومكثوا على
القتال أحد عشر شهرا، فلما طال عليهم وجاءهم قتل مروان طلبوا الصلح.
وكان أصحاب ابن هبيرة قد تقاعدوا به حتى هم أن يدعو إلى محمد بن عبد
الله بن الحسن، وكتب إليه فأبطأ جوابه، وجرت السفراء بين أبي جعفر وبين
ابن هبيرة حتى جعل له أمانا، وكتب بذلك ابن هبيرة كتابا مكث يشاور فيه
العلماء أربعين يوما حتى رضيه ابن هبيرة، ثم أرسله إلى أبي جعفر فأنفذه
أبو جعفر إلى أبي العباس فأمره بإمضائه، وكان رأى أبي جعفر الوفاء له
بما أعطاه.
وكان أبو العباس لا يقطع أمرا دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عينا لأبي
مسلم على أبي العباس [1] ، يكتب إليه بأخباره كلها، فكتب أبو مسلم إلى
أبي العباس: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، ولا والله لا
يصلح [2] طريق فيه ابن هبيرة.
ولما تم الكتاب الذي كتبه ابن هبيرة لنفسه خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر
في ألف وثلاثمائة، فأراد أن يدخل الحجرة على دابته، فقام إليه الحاجب
سلام بن سليم، فقال: مرحبا بك أبا خالد، انزل راشدا، وقد طاف بالحجرة
نحو من عشرة آلاف من أهل خراسان، فنزل، ودعا له بوسادة فجلس عليها، ثم
دعا بالقواد فدخلوا ثم قال سلام: ادخل أبا خالد، فقال: أنا ومن معي؟
فقال: إنما استأذنت لك وحدك، فقام فدخل فحادثه ساعة ثم قام وأتبعه أبو
جعفر بصره حتى غاب عنه، ثم مكث يقيم عنه يوما ويأتيه يوما في خمسمائة
فارس وثلاثمائة راجل، فقال يزيد بن حاتم لأبي جعفر: أيها الأمير، إن
ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر، وما نقص من سلطانه شيء، فقال أبو
جعفر لسلام: قل لابن هبيرة يدع الجماعة ويأتينا في حاشيته، قال: فلما
سمع ذلك تغير وجهه وجاء في حاشيته نحو من ثلاثين، ثم كان بعد ذلك يأتي
في ثلاثة، ثم ألح أبو العباس
__________
[1] في الأصل: «وكان أبو الجهم لأبي مسلم من يعرف بأبي الجهم عينا على
أبي العباس» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] في الأصل: «صلح» . وما أوردناه من ت والطبري.
(7/314)
على أبي جعفر [يأمره] [1] بقتله، وهو
يراجعه، حتى كتب إليه: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من
حجرتك، ثم يتولى قتله. فأزمع على قتله، فأخذ جماعة من أصحابه فقتلهم،
ثم بعث إليه من قتله.
وفيها: بعث أبو مسلم [2] محمد بن الأشعث على فارس، وأمره أن يأخذ عمال
أبي سلمة فيضرب أعناقهم، ففعل ذلك.
وفيها: عزل أبو العباس عمه داود بن علي عن الكوفة وسوادها، وولاه مكة،
والمدينة، واليمن واليمامة، وولى ما كان إليه عيسى بن موسى، واستقضى
عيسى على الكوفة ابن أبي ليلى.
وفيها: وجه أبو العباس أخاه يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله واليا على
الموصل.
وفيها: حج بالناس داود بن علي، وكان العامل على مكة والمدينة واليمن،
وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان أبو جعفر، وعلى الموصل يحيى بن محمد،
وعلى كور الشام عبد الله بن علي، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد،
وكان على البصرة سفيان بن معاوية المهلبي، وعلى قضائها الحجاج بن
أرطأة، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى
خراسان والجبال أبو مسلم وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
715- حفص [3] بن سليمان، أبو سلمة الخلال، وزير أبي العباس السفاح:
وهو أول من وزر لهم، ولم يكن خلالا إنما كان منزله بالكوفة بقرب
الخلالين، وكان يجلس عندهم فسمي خلالا. وقتل في هذه السنة على ما ذكرنا
في حوادث السنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 7/ 478.
[3] في الأصل: «جعفر» . خطأ. والتصحيح من ت. والطبري.
(7/315)
716- الربيع بن أبي راشد، أبو عبد الله:
سمع من سعيد بن جبر، ومن الثوري. وكان كالغائب عن الخلق.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن أبي يزيد الآدمي، قال: حدثنا
سفيان بن عيينة، عن خلف بن حوشب، قال:
كنت مع الربيع بن أبي راشد في الجبانة، فقرأ رجل: (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ....) 22: 5 [1]
الآية فقال الربيع: حال ذكر الموت بيني وبين كثير مما أريد من التجارة،
ولو فارق ذكر الموت قلبي ساعة خشيت أن يفسد علي قلبي، ولولا أن أخالف
من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت.
قال: وقال عمر بن ذر [2] : كنت إذا رأيت الربيع بن أبي راشد كأنه مخمار
من [غير] [3] شراب.
717-[زبان] [4] بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، أبو إبراهيم:
كان سيد بني عبد العزيز وفارسهم، حضر الوقعة مع مروان بن محمد ليلة
بوصير فتقنطر به فرسه، فقتله المسور في هذه السنة، ولم يعرفوه. وقد روى
عنه الأوزاعي.
718- صفوان بن سليم، أبو عبد الله الزهري، مولى حميد بن عبد الرحمن [5]
:
روى عن ابن عمر، وجابر، وعبد الله بن جعفر، وسهل بن حنيف، وجماعة من
كبار التابعين. كان ثقة كثير الحديث عابدا.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا ابن جعفر، قال: حدّثنا
جعفر بن محمد الفريابي،
__________
[1] سورة الحج، الآية: 5.
[2] في الأصل: «عن عمر بن ذر» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: بياض من الأصل.
[5] طبقات خليفة 261، وعلل أحمد 1/ 328، والتاريخ الكبير 4/ 2930،
والجرح والتعديل 4/ 1858، وحلية الأولياء 3/ 158، وسير أعلام النبلاء
5/ 364، وتذكرة الحفاظ 1/ 134، وتاريخ الإسلام 5/ 262، وتهذيب التهذيب
4/ 425، وشذرات الذهب 1/ 189.
(7/316)
قال: حدثنا أبو أمية، قال: حدثنا يعقوب بن
محمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال:
عادلني صفوان بن سليم إلى مكة، فما وضع جنبه في المحمل حتى رجع [1] .
قال أبو نعيم: وأخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم في كتابه، قال: حدثنا
أحمد بن محمد بن عاصم، قال: حدثنا سعيد بن كثير بن يحيى، قال: حدثني
أبي، قال:
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة وعمر بن عبد العزيز عامله عليها. قال:
فصلى بالناس الظهر ثم فتح باب المقصورة، واستند إلى المحراب واستقبل
الناس بوجهه، فنظر إلى صفوان بن سليم عن غير معرفة، فقال: يا عمر، من
هذا الرجل؟ ما رأيت سمتا أحسن منه، قال: يا أمير المؤمنين، هذا صفوان
بن سليم، قال: يا غلام، كيس فيه خمسمائة دينار، فأتى بكيس فيه خمسمائة
دينار، فقال لخادمه: ترى هذا الرجل القائم يصلي، فوصفه للغلام حتى
أثبته. قال: فخرج الغلام بالكيس حتى جلس إلى صفوان، فلما نظر إليه
صفوان ركع وسجد ثم سلم وأقبل عليه، فقال: ما حاجتك؟
قال: أمرني أمير المؤمنين- وهو ذا ينظر إليك وإلي أن أدفع إليك هذا
الكيس فيه خمسمائة دينار، وهو يقول لك استعن بهذه على زمانك وعلى
عيالك، فقال صفوان:
ليس أنا بالذي أرسلت إليه، فقال الغلام: ألست صفوان بن سليم؟ قال: بلى
أنا صفوان بن سليم، قال: فإليك أرسلت- قال: اذهب فاستثبت، فإذا أثبت
فهلم، فقال الغلام: فأمسك الكيس معك وأنا أذهب، قال: لا إذا أمسكت كنت
قد أخذت، ولكن اذهب فاستثبت وأنا هاهنا جالس. فولى الغلام وأخذ صفوان
نعليه وخرج، فلم يربها حتى خرج سليمان من المدينة.
قال أحمد بن محمد بن عاصم: وحدثنا أبو مصعب، قال: قال لي ابن حازم:
دخلت أنا وأبي نسأل عن صفوان بن سليم وهو في مصلاه، فما زال أبي حتى
رده إلى فراشه، فأخبرتني مولاته أن ساعة خرجتم مات.
__________
[1] الخبر في حلية الأولياء 3/ 158.
(7/317)
719- عبد الحميد بن يحيى بن سعيد، مولى بني
عامر بن لؤي، الكاتب، كاتب مروان بن محمد [1] :
كان الأساس في البلاغة، رسم رسومها، وأصل أصولها، وفرع فروعها، وقد كان
قبله سالم مولى سعيد بن عبد الملك مقدما في هذه الصناعة إلا أنه دون
عبد الحميد، وكان متصلا في حداثته بعبد الله بن مالك الثقفي كاتب
الوليد بن عبد الملك، فتأدب وبرع، ثم اتصل بمروان بن محمد قبل الخلافة
فغلب عليه، فكان يخط بين يديه قبل الخلافة أحسن خط، ولا ينتحل شيئا من
البلاغة، ثم قام في الخلافة مقام الوزير.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بْن ثَابِت، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَلي بْن علي، قال: حدثنا محمد بن عمر المرزبان، قال:
حدثنا علي بن سليمان الأخفش، قال: قال أحمد بن يوسف الكاتب:
رآني عبد الحميد بن يحيى وأنا أكتب خطا رديئا، فقال: إن أردت أن تجود
خطك فأطل جحفتك [2] واشممها، وحرف قطتك وأيمنها.
قال علماء السير: انقرض ملك بني أمية على أربعة لم يجتمع مثلهم في
دولة:
مروان بن محمد بن الحكم في شجاعته وسياسته، وعبد الحميد في كتابته
وبلاغته، ويزيد بن عمر بن هبيرة في تدبيره وصحة رأيه، ونصر بن سيار في
صولته وضبطه وبعد صوته.
720- عمر بن المنكدر:
كان من العباد المجتهدين، وقوام الليل.
أخبرنا عبد الوهاب [الحافظ بإسناده] [3] ، عن [بن] أبي بكر الرشي،
قَالَ:
حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن الصباح، قَالَ: حَدَّثَنَا العلاء بن عبد
الجبار، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قالت أم عمر بن المنكدر لعمر:
__________
[1] البداية والنهاية 10/ 55، ووفيات الأعيان 1/ 307.
[2] كذا في الأصل، وفي ت: «خلقتك» . وفي البداية: «جلفة قلمك» . وهي
أصح.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/318)
إني لأشتهي أن أراك نائما، فقال: يا أماه،
والله إن الليل ليرد علي فيهولني، فينقضي عني وما قضيت إربي.
وفي رواية: أنهم قالوا له: فما هذا البكاء الكثير؟ فقال: آية من كتاب
الله تعالى أبكتني: (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا
يَحْتَسِبُونَ) 39: 47 [1] .
721- منصور بن المعتمر، أبو عتاب، السلمي [2] :
أسند عن أنس وعن جماعة من كبار التابعين، وكان من العلماء المتعبدين
الثقات. صام أربعين سنة وتمامها، وكان محروما كأنه قد أصيب بمصيبة،
وبكى حتى عمش.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ويحيى بن علي، قالا: أخبرنا عبد الله بن
محمد الصريفيني، قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن عبدان، قَالَ:
حَدَّثَنَا الحسين بْن إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن يحيى
الأزدي، قال: حدثنا خلف بن تميم، عن زائدة بن قدامة، قال:
صام منصور بن المعتمر أربعين سنة قام ليلها وصام نهارها، وكان يبكي
الليل [3] ، فتقول له أمه: يا بني، قتلت قتيلا؟ فيقول: أنا أعلم ما
صنعت بنفسي، فإذا أصبح كحل عينيه ودهن رأسه وبرق شفتيه وخرج إلى الناس
فأخذه ذات يوم يوسف بن عمر عامل الكوفة يريده على القضاء، فامتنع، قال:
فدخلت عليه وقد جيء بالقيد ليقيد، قال: فجاءه خصمان، فقعدا بين يديه
فلم يسألهما ولم يكلمهما، فقيل ليوسف بن عمر: إنك لو نثرت لحمه لم يل
لك قضاء، فخلى عنه وتركه.
أخبرنا ابن ناصر بإسناد له عن العلاء [4] بن سالم العبدي، قال: كان
منصور يصلي في سطحه [5] ، فلما مات قال غلام لأمه: يا أماه الجذع الذي
كان في آل فلان
__________
[1] سورة: الزمر، الآية: 47.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 235. والجرح والتعديل 8/ 177، والتاريخ الكبير 4/
1/ 346.
[3] في الأصل: «وكان الليل يبكي» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «بإسناد له في الصفوة عن العلاء» . وما أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «مسجد» . وما أوردناه من ت.
(7/319)
ليس أراه، قالت: يا بني ليس ذلك جذع، ذلك
منصور، وقد مات.
أخبرنا ابن منصور، قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا أبو محمد بن حيان، قال:
حدثنا محمد بن يحيى، قال:
حدثنا أزهر بن جميل، قال: حدّثنا ابن عيينة، قال:
رأيت منصور بن المعتمر في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: كدت أن
ألقى الله بعمل نبي.
قال سفيان: إن منصورا صام ستين سنة يقوم ليلها ويصوم نهارها.
722- مروان بن محمد بن مروان بن الحكم:
قتل في ذي الحجة من هذه السنة وهو ابن اثنتين وستين سنة، وقيل: تسع
وستين.
وقيل: ثمان وخمسين. وكانت ولايته خمس سنين وعشرة أشهر وستة عشر يوما.
(7/320)
ثم دخلت سنة ثلاث
وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها توجيه أبي العباس عمه سليمان بن علي واليا على البصرة
وأعمالها وكور دجلة، والبحرين وعمان ومهرجان قذق. وتوجيه عمه إسماعيل
بن علي [على] [1] كور الأهواز.
وفي هذه السنة: قتل داود بن علي من كان أخذ من بني أمية بمكة والمدينة.
وفيها: مات داود بن علي، فلما بلغت وفاته إلى أبي العباس وجه على مكة
والطائف واليمامة خاله زياد [2] بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي.
ووجه محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي. على اليمن
فقدمها في جمادى الأولى، فأقام زياد بالمدينة ومضى محمد إلى اليمن. ثم
وجه زياد بن عبيد الله من المدينة إبراهيم بن حسان السلمي إلى المثنى
بن يزيد بن عمر بن هبيرة وهو باليمامة، فقتله وقتل أصحابه.
وفيها: كتب أبو العباس إلى أبي عون بإقراره على مصر واليا عليها. وإلى
عبد الله بن علي، وصالح بن علي على أجناد الشام.
وفيها: خرج سويد بن شيخ [3] المهري بخراسان على أبي مسلم ببخارى ونقم
عليه وقال له: ما على هذا اتبعنا آل محمد، على أن نسفك الدماء، ونعمل
بغير الحق،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «خالد بن زياد» . والتصحيح من ت والطبري.
[3] كذا في الأصلين، وفي الطبري 7/ 459: «شريك بن شيخ» .
(7/321)
وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفا، فوجه
إليه أبو مسلم ابن صالح الخزاعي فقاتله فقتله.
وفيها: قتل عبد الرحمن بن يزيد بن المهلب بالموصل، قتله سليمان بن
الأسود.
وفيها: وجه صالح بن علي سعيد بن عبد الله لغزو الصائفة وراء الدرب [1]
.
وفيها: عزل يحيى بن محمد عن الموصل، واستعمل مكانه سليمان بن علي.
وفيها: أقبل طاغية الروم، فنزل على ملطية، فقاتلوه قتالا شديدا ثم
نزلوا على أمان، فهدم المدينة والمسجد الجامع ودار الإمارة، ووجه مع
المسلمين خيلا حتى بلغتهم مأمنهم.
وفيها: حج بالناس زياد بن عبيد الله الحارثي خال السفاح، وكان على
الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرة
وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان ومهرجان قذق [2] سليمان بن علي،
وعلى قضائها عباد بن منصور، وعلى الأهواز إسماعيل بن علي، وعلى فارس
محمد بن الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى خراسان والجبال أبو
مسلم، وعلى قنسرين وحمص وكور دمشق والأردن عبد الله بن علي، وعلى
فلسطين صالح بن علي، وعلى مصر عبد الملك بن يزيد أبو عون، وعلى الجزيرة
أبو جعفر، وعلى الموصل إسماعيل بن علي، وعلى أرمينية صالح بن صبيح،
وعلى أذربيجان مجاشع بن يزيد، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
723- داود بْن علي بْن عبد الله بْن العباس [3] :
روى عن أبيه، وكان داود لما ظهر ابن أخيه السفاح وصعد ليخطب الناس فحصر
__________
[1] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «الدروب» .
[2] في الأصل: «مهرجان قذق» . وفي ت: «مهرجان فرق» . وفي الطبري:
«مهرجان قذق» .
[3] طبقات ابن سعد (خط) ، والتاريخ الكبير 3/ 795، والجرح والتعديل 3/
1914، وتهذيب ابن عساكر
(7/322)
فلم يتكلم، فوثب داود من بين يدي المنبر،
فخطب وذكر أمرهم وخروجهم، ومنى الناس ووعدهم العدل فتفرقوا عن خطبته،
وولاه السفاح مكة والمدينة، وحج بالناس سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وهي
أول حجة حجها بنو العباس، ثم صار داود إلى المدينة، فأقام بها أشهرا ثم
مات بها في شهر ربيع الأول من هذه السنة.
724- ضرار بن مرة أبو سنان الشيباني [1] :
روى عن سعيد بن جبير، وكان من البكاءين، وكان قد حفر لنفسه قبرا قبل
موته بخمس عشرة سنة، وكان يأتيه فيختم فيه القرآن.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله، قال: حدثنا
مُحَمَّد بْن الحسين بْن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن درستويه، قال:
حدثنا يعقوب بن يوسف، قال: أخبرنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا المخارق،
قال:
كان ضرار بن مرة ومحمد بن سوقة إذا كان يوم الجمعة طلب كل واحد منهما
صاحبه، فإذا اجتمعا جلسا يبكيان.
روى أبو سعيد [2] الأشج، قال: حدثنا عبد الله بن الأجلح، قال: كان ضرار
بن مرة يقول لنا: لا تجيئوني جماعة، ولكن ليجيء الرجل وحده، فإنكم إذا
اجتمعتم تحدثتم، وإذا كان الرجل وحده لم يخل من أن يدرس جزأه [من
القرآن] [3] أو يذكر ربه.
__________
[ () ] 5/ 206، وتاريخ الإسلام 5/ 242، وسير أعلام النبلاء 5/ 444،
وميزان الاعتدال 2/ 2633، وتهذيب التهذيب 3/ 194، وشذرات الذهب 1/ 191.
[1] طبقات ابن سعد 6/ 236، وطبقات خليفة 165، والتاريخ الكبير 4/ 3052،
والجرح والتعديل 4/ 2044، وحلية الأولياء 5/ 91، وتاريخ الإسلام 6/ 84،
وتهذيب التهذيب 4/ 457.
[2] في الأصل: «عن أبي سعيد» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.
(7/323)
ثم دخلت سنة أربع
وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها أن بسام بن إبراهيم- وكان من فرسان أهل خراسان خالف
وخلع من عسكر أبي العباس مع جماعة بايعوه على ذلك مستبشرين [1]
بخروجهم، فأقاموا بالمدائن، فبعث إليهم أبو العباس خازم بن خزيمة،
فانهزم بسام وأصحابه، وقتل أكثرهم، واستبيح عسكره.
وفيها: شخص خازم إلى عمان، فأوقع من فيها من الخوارج وغلب على ما قرب
منها من البلدان، وقتل شيبان الخارجي، وكان أهل عمان ظفروا به، ثم نصب
لهم الجلندى وأصحابه، وهم الأباضية، فاقتتلوا فقتل الجلندى فيمن قتل،
وبلغ عدة القتلى عشرة آلاف.
وفيها: غزا أبو داود خالد بن إبراهيم أهل كش [2] ، فقتل الأخريد [3] ،
وهو ملكها، وأخذوا من السروج الصينية والأواني المذهبة، ومن طرائف
الصين، فحمله أبو داود إلى أبي مسلم.
وفيها: وجه أبو العباس موسى بن كعب إلى الهند لقتال منصور بن جمهور،
فهزم منصور، فمات عطشا في الرمال.
__________
[1] في الطبري: «مستسرين» .
[2] في الأصل: «كيس» . وفي الطبري المطبوع: «كس» . وأحد نسخه المخطوطة:
«كش» . وما أوردناه من ت ومعجم البلدان 4/ 462.
[3] في الأصل: «الأجرند» . وفي ت: «الآخريذ» . وما أوردناه من الطبري.
(7/324)
وفيها: تحول أبو العباس من الكوفة إلى
الأنبار في ذي الحجة، وبنى مدينتها.
وفيها: عزل صالح بن صبيح عن أرمينية وجعل مكانه يزيد بن أسيد.
وفيها: عزل مجاشع بن يزيد عن أذربيجان، واستعمل عليها محمد بن صول.
وفيها: ضرب المنار من الكوفة.
وفيها: حج بالناس عيسى بن موسى وهو على الكوفة وأرضها. وكان على قضائها
ابن أبي ليلى، وكان على مكة والمدينة والطائف واليمامة زياد بن عبيد
الله، وعلى اليمن علي بن الربيع الحارثي، وعلى البصرة، وأعمالها وكور
دجلة والبحرين وعمان والعواصم [1] ومهرجان قذق سليمان بن علي، وعلى
قضائها عباد بن منصور، وعلى السند موسى بن كعب، وعلى خراسان والجبال
أبو مسلم، وعلى فلسطين صالح بن علي، وعلى أرمينية يزيد بن أسيد، وعلى
أذربيجان محمد بن صول. وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك، وعلى الجزيرة
أبو جعفر، وعلى قنسرين وحمص وكور دمشق والأردن عبد الله بن علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
725- محمد بن يزيد بن عبيد الله:
كان على اليمن من قبل السفاح، فتوفي. فكتب السفاح بولايتها لعلي بن
الربيع بن عبيد الله الحارثي، ابن خال السفاح.
__________
[1] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «والعرض» .
(7/325)
ثم دخلت سنة خمس
وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها خروج زياد بن صالح وراء نهر بلخ، فشخص أبو مسلم من
مرو مستعدا للقائه وسأل عمن أفسد زياد بن صالح، فقيل له: سباع بن
النعمان، فأمر بقتله فقتل زيادا قواده، فلجأ إلى دهقان، فقتله الدهقان
وجاء برأسه إلى أبي مسلم، ورجع أبو مسلم إلى مرو.
وفيها: ولي سليمان بن علي البصرة، وعزل عنها محمد بن حفص، واستعمل على
شرط السفاح.
وفيها: حج بالناس سليمان بن علي وهو على البصرة وأعمالها، وكان على
قضائها ابن منصور، وكان على مكة العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس،
وعلى المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن
موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى الجزيرة أبو جعفر، وعلى مصر أبو
عون، وعلى قنسرين وحمص وبعلبك والغوطة وحوران والجولان والأردن عبد
الله بن علي، وعلى أرمينية يزيد بن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بن صول،
وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
726- إسماعيل بن سالم، أبو يحيى الأسدي [1] :
سمع من عامر الشعبي، وسعيد بن جبير وغيرهما. وروى عنه الثوري، وهشيم.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 67، وتاريخ بغداد 6/ 212، والتاريخ الكبير 1/
1/ 356، والجرح والتعديل 1/ 1/ 172.
(7/326)
نزل بغداد قبل تمصيرها. وسئل عنه أحمد بن
حنبل فقال: ثقة ثقة.
وقال يحيى: هو أوثق من أساطين الجامع.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبُو الْقَاسِمِ الأَزْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بن الْعَبَّاس، قَالَ: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد،
قال: قال إسماعيل بن سالم الأسدي:
الذي روى عنه هشيم وأصحابه كان ثقة ثبتا وكان أصله من الكوفة، ثم تحول
فسكن بغداد قبل أن تبنى وتسكن، وكانت ببغداد لهشام بن عبد الملك وغيره
من الخلفاء خمسمائة فارس رابطة يغيرون على الخوارج إذا خرجوا في
ناحيتهم قبل أن يضعف أمرهم.
727- رابعة العدوية [1] :
أخبرنا أبو القاسم الجريري، قال: أنبأنا أبو طالب العشاري، قال: أخبرنا
أبو بكر البرقاني، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمُزَكِّي، قَالَ: أخبرنا محمد بن إسحاق بن إسحاق السراج، قال: حدثنا
حاتم بن الليث الجوهري، قال: حدثنا عبد الله بن عيسى، قال:
دخلت على رابعة العدوية بيتها، فرأيت على وجهها النور، وكانت كثيرة
البكاء، فقرأ رجل عندها آية فيها ذكر النار، فصاحت ثم سقطت.
ودخلت عليها وهي جالسة على قطعة بوري خلق فتكلم رجل عندها بشيء، فجعلت
أسمع وقع دموعها على البوري مثل الوكف، ثم اضطربت وصاحت فقمنا وخرجنا.
قال محمد بن عمر [2] : دخلت على رابعة. وكانت عجوزا كبيرة بنت ثمانين
سنة،
__________
[1] وفيات الأعيان 1/ 256، وتاريخ بغداد 2/ 40، والنجوم الزاهرة 1/ 33،
وطبقات الشعراني 1/ 77، وشذرات الذهب 1/ 193، وصفة الصفوة 4/ 7،
والبداية والنهاية 10/ 186، وجامع كرامات الأولياء 2/ 10، ونفحات الأنس
615، والكواكب الدرية 1/ 108.
قال ابن خلكان: وفاتها سنة 135، كما في شذور العقود لابن الجوزي، وقال
غيره: سنة 185.
[2] في الأصل: «عن محمد بن عمر قال» .
(7/327)
كأنها الشن، تكاد تسقط، ورأيت في بيتها
كراحة بوري، ومحشب قصب فارسي طوله من الأرض قدر ذراعين، عليه أكفانها
وستر البيت جله، وربما بوري وجب وكوز ولبد هو فراشها وهو مصلاها. وكانت
إذا ذكرت الموت انتفضت وأصابتها رعدة، وإذا مرت بقوم عرفوا فيها
العبادة.
وقال لها رجل: ادعي لي، فالتصقت بالحائط وقالت: من أنا يرحمك الله، أطع
ربك وادعه فإنه يجيب دعوة المضطر.
قال مؤلف الكتاب [1] : كانت رابعة محققة [2] فطنة، ومن كلامها الدال
على قوة فهمها قولها: استغفر الله من قلة صدقي في قولي أستغفر الله.
وكان سفيان الثوري يقول: مروا بنا إلى المؤدبة التي لا أجد من أستريح
إليه إذا فارقتها. وقال يوما بين يديها: وا حزناه، فقالت: لا تكذب، قل:
وا قلة حزناه، لو كنت محزونا ما هناك العيش.
وقيل لها: هل عملت عملا ترين أنه يقبل منك؟ فقالت: إن كان فمخافتي أن
يرد علي.
وقد جمعت أخبارها في كتاب، فلهذا اقتصرت على هذا القدر ها هنا.
دفنت بظاهر القدس على رأس جبل، وقبرها يزار.
728- زهرة بن معبد بن عبد الله بن هشام، أبو عقيل التميمي [3] :
مديني سكن مصر، روى عن ابن عمر، وابن الزبير. روى عنه الليث، وابْن
لهيعة وآخر من حدث عنه رشدين، وتوفي في هذه السنة.
__________
[1] في ت: «قال المصنف» .
[2] في الأصل: «رابعة كانت محققة» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصلين: «التميمي» . وفي كتب الرجال: «التيمي» . طبقات ابن سعد
7/ 2/ 203، وطبقات خليفة 294، والتاريخ الكبير 3/ 1476، والجرح
والتعديل 3/ 2786، وتهذيب ابن عساكر 5/ 385، وتاريخ الإسلام 5/ 251،
وسير أعلام النبلاء 6/ 147، وتهذيب التهذيب 3/ 341، وشذرات الذهب 1/
192.
(7/328)
729- عَبْد اللَّه بن السائب المخزومي
المديني [1] :
كان يقول: كان جدي في الجاهلية يكنى أبا السائب، وبه اكتنيت، وكان
خليطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذكره في الإسلام، قال: نعم
الخليط، وكان لا يساري ولا يماري.
كان عبد الله أديبا فاضلا خيرا عفيفا، لكنه مشتهر بحب الغزل، يهش عند
سماع الشعر ويطرب له، قدم على السفاح الأنبار.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز، بإسناد له عن أبي عبد الله الزبيري، قال:
كان أبو السائب المخزومي مع حسن [2] بن زيد بالأنبار، وكان له مكرما
وذلك في ولاية أبي العباس، فأنشده ليلة الحسن بن زيد أبياتا لمجنون بني
عامر:
وخبر تماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الضيف ألقى المراسيا
فجعل أبو السائب يحفظها، فلما انصرف إلى منزله، فذكرها شذ عليه بعضها،
فرجع إلى الحسن بن زيد، فلما وقف على الباب صاح بأعلى صوته: أبا فلان،
فسمع ذلك الحسن [3] ، فقال: افتحوا الباب لأبي السائب فقد دعاه أمر،
فلما دخل عليه قال:
أجاء خبر؟ قال: أعظم من ذلك، قال: ما هو؟ قال: تعيد عليّ:
وخبر تماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الضيف ألقى المراسيا
فأعادها عليه حتى حفظها.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز بإسناده عن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم
التيمي، قال: حدثني أبي، قال:
بينا أبو السائب في داره إذ سمع رجلا يتغنى بهذه الأبيات:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
حسبي بأن تعلمي أن قد يحبكم ... قلبي فإن تجدي بعض الّذي أجد
__________
[1] طبقات ابن سعد (مخطوط) ، والتاريخ الكبير 5/ 296، والجرح والتعديل
5/ 302، والثقات لابن حبان 5/ 32، وتاريخ الإسلام 5/ 94، وميزان
الاعتدال 2/ 4339، وتهذيب التهذيب 5/ 229، وتقريب 1/ 418.
[2] في الأصل: «حسين» . والتصحيح من ت.
[3] في الأصل: «أبو الحسن» . وما أوردناه من ت.
(7/329)
ألفيت بيني وبين الحب معرفة ... فليس ينفذ
حتى ينفذ الأبد
وليس لي مسعد فامنن علي به ... فقد بليت وقد أضناني الكمد
قال: فخرج أبو السائب خلفه وقال: قف يا حبيب فقد أجبت دعوتك، [أنا
مسعدك] [1] ، أين تريد؟ قال: خيام السعف من وادي العرج، فأصابتهما سماء
شديدة، فجعل أبو السائب يقرأ: (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَالله يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ) 3: 146 [2] فرجع إلى منزله وقد كادت نفسه تتلف، فدخل
عليه أصحابه، فقالوا له: يا أبا السائب، ما الذي تصنع بنفسك؟ قال:
إليكم عني، فإني مشيت في مكرمة، وأحببت مسلما، والمحسن معان.
قال مؤلف الكتاب [3] : والأخبار عنه في هذا المعنى كثيرة حتى أن ابنه
أنشده بيتين وقد اجتمع أهل الدار على المائدة، فقال له: أمك طالق إن
تعشينا ولا تسحرنا إلا بهذين البيتين [فرفعوا الطعام وجعلوا يرددون
البيتين] [4] ، ثم أيقظهم سحرا فأنشدوه.
وجاز على حداد [5] ، وهو ينشد، فحلف لينفخن له بمنفاخه، فجلس ينفخ وذلك
ينشده إلى المغرب.
وروى عبد الرحمن [6] المدائني قال: حدثنا أبو عثمان المازني، قال: صام
أبو السائب المخزومي يوما، فلما صلى المغرب وقدمت مائدته خطر بقلبه بيت
لجرير:
إن الذين غدوا بقلبك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فقال: كل امرأة له طالق وكل مملوك له حر إن أفطر الليلة إلا على هذين
البيتين.
أخبرنا المبارك بن علي بإسناد له عن عبد الملك بن عبد العزيز، قال: قال
لي أبو
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] سورة: آل عمران، الآية: 146.
[3] في ت: «قال المصنف» .
[4] ما بين المعقوفتين: من ت.
[5] في ت: «على صائغ» .
[6] في الأصل: «وعن عبد الرحمن» . وما أوردناه من ت.
(7/330)
السائب: يا ابن أخي، أنشدني للأحوص،
فأنشدته قوله:
قالت وقلت تحرجي وصلي ... حبل امرئ يوصي لكم صب
صاحت إذا بعلي فقلت لها ... العذر شيء ليس من شعبي
ثنتان لا أوثر لوصلهما ... عرس الخليل وجاره الجنب
أما الخليل فلست فاجعه ... والجار أوصاني به ربي
فقال: هذا يا ابن أخي المحب غبنا.
730- عطاء بن أبي مسلم الخراساني:
وفي اسم أبيه قولان: أحدهما ميسرة، والثاني عبد الله، وفي كنية عطاء
قولان:
أحدهما أبو عثمان، والثاني أبو أيوب. وأصله من بلخ، أسند عن ابن عمر،
وابن عباس، وأنس، وأبي هريرة، وغيرهم من العلماء الصالحين.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَيْلانَ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا إبراهيم بن محمد المزكي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحُسَيْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بن زهير الطوسي، قال: حدثنا يوسف بن
عيسى، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن
جابر، قال:
كنا مقاربي عطاء الخراساني، وكان يحيى الليل صلاة، وكان إذا ذهب من
الليل ثلثه أو نصفه نادانا وهو في فسطاطه يا إسماعيل، يا عبد الرحمن بن
يزيد، يا فلان بن فلان، قوموا فتوضئوا وصلوا، فإن صلاة هذا الليل وصيام
هذا النهار أيسر من شراب الصديد، ومقطعات الحديد، الوحا الوحا.
731- محب بن حازم مولى ثابت بن يزيد بن رعين، يكنى أبا جبرة:
يروي عن موسى بن وردان حديثا واحدا بسنده، لا يروي غيره، روى عنه سعيد
بن أيوب، وضمام بن إسماعيل، والليث بن عاصم.
وكان فاضلا توفي في هذه السنة.
(7/331)
ثم دخلت سنة ست
وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها قدوم أبي مسلم العراق [1] على أبي العباس أمير
المؤمنين، وذلك أنه كتب إليه يستأذنه في القدوم، فأذن له، فقدم في
جماعة عظيمة، فأمر أبو العباس الناس بالتلقي له [2] ، فلما دخل عليه
أعظمه وأكرمه، فاستأذنه في الحج، فقال: لولا أن أبا جعفر يحج
لاستعملناك على الحج والموسم، وأنزله قريبا منه، وكان يأتيه في كل يوم
يسلم عليه، وكان بين أبي جعفر، وبين أبي مسلم تباعد.
وكان السبب في ذلك أن أبا العباس بعث أبا جعفر إلى أبي مسلم وهو
بنيسابور وقد صفت له الأمور بعهده على خراسان، وبالبيعة لأبي العباس
ولأبي جعفر من بعد موته، فبايع له، وكان في مدة مقامه عنده يهون أمره،
ويستخف بشأنه، فلما قدم أبو جعفر أخبر أبا العباس باستخفافه به، وقال
له: أطعني واقتل أبا مسلم، فو الله إن في رأسه لغدرة، فقال: يا أخي قد
عرفت بلاءه وما كان منه، فقال: إنما كان بدولتنا، والله لو بعثت سنورا
لقام مقامه، فقال: وكيف نقتله؟ قال: إذا دخل عليك وحادثته دخلت إليه
فتغفلته وضربته ضربة أتيت بها على نفسه، قال: وكيف بأصحابه الذين
يؤثرونه على دينهم ودنياهم؟ قال: يؤول ذلك كله إلى ما تريد، ولو علموا
أنه قتل تفرقوا وذلوا، قال:
عزمت عليك ألا كففت عن هذا، قال: والله أخاف إن لم تتغده اليوم أن
يتعشاك غدا،
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 468.
[2] كذا في الأصل، وفي ت والطبري: «يتلقونه» .
(7/332)
قال: فدونكه، أنت أعلم. فخرج أبو جعفر
عازما على ذلك، وندم أبو العباس فأرسل إلى أبي جعفر لا تفعل ذلك الأمر.
وفي هذه السنة: عقد أبو العباس لأخيه أبي جعفر بالخلافة من بعده، وجعله
ولي عهده، ومن بعد أبي جعفر عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وكتب العهد
بذلك، وصيره في ثوب وختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته، ودفعه إلى عيسى
بن موسى.
وفي هذه السنة: حج بالناس أبو جعفر، وحج معه أبو مسلم.
وقد ذكرنا أن أبا مسلم استأذن أبا العباس في القدوم، فأذن له وكتب
إليه: أقدم في خمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم: إني قد وترت
الناس ولست آمن على نفسي. فكتب إليه: أن أقبل في ألف، وطريق مكة لا
يحتمل العسكر، فشخص في ثمانية آلاف فرقهم فيما بين نيسابور والري، وقدم
بالأموال والخزائن، فخلفها بالري، فلما قدم استأذن في الحج، فأذن له،
وخرج أبو مسلم وأبو جعفر، فلما كان قريبا من ذات عرق أتى أبا جعفر كتاب
بموت أبي العباس، وكان أبو جعفر قد تقدم أبا مسلم بمرحلة، فكتب إلى أبي
مسلم: إنه قد حدث أمر، فالعجل العجل. فلحق أبا جعفر أبو مسلم ثم أنهما
حجا وأقبلا إلى الكوفة وأقر المنصور أبا مسلم على عمله وصرفه.
وفي هذه السنة: توفي السفاح وبويع لأبي جعفر المنصور.
(7/333)
باب ذكر خلافة
المنصور [1]
وهو عبد الله بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عباس، ويكنى أبا جعفر، ولد بالسراة في ذي الحجة سنة خمس وتسعين، وأمه
بربرية يقال لها سلامة، وحكى الصولي أنه ولد يوم مات الحجاج.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الخطيب،
قال:
أخبرنا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَبْد الواحد البزاز، قال:
أخبرنا محمد بن المظفر الحافظ، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم،
قَالَ: حَدَّثَنَا الحارث بن مُحَمَّد، قَالَ: حدثنا منصور بن أبي
مزاحم، قال: حدثني [أبو] [2] سهل الحاسب، قال:
حدثني طيفور مولى أمير المؤمنين، قال: حدثتني سلامة أم أمير المؤمنين،
قالت:
لما حملت بأبي جعفر رأيت كأنه خرج [3] من فرجي أسد فزأر، ثم أقعى،
فاجتمعت حوله الأسد، فكلما انتهى إليه أسد سجد له.
أَخْبَرَنَا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا الحسن بن
أبي بكر، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ
[بْنِ عَبْدِ اللَّهِ] [4] بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ الأَزْرَقُ، قَالَ: حَدَّثَنِي
يَحْيَى بْنُ غيلان، قال: حدّثنا أبو عوانة، عن
__________
[1] ترجمته في: تاريخ بغداد 1/ 62، 10/ 53.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت وتاريخ بغداد، والخبر في تاريخ بغداد 1/
65.
[3] في الأصل: «أم أمير المؤمنين أنها لما حملت بأبي جعفر قالت: رأيت
كأنه أخدج» . وما أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد، والخبر في تاريخ بغداد 1/ 63.
(7/334)
الأَعْمَشِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ
مُزَاحِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مِنَّا السَّفَّاحُ
وَالْمَنْصُورُ وَالْمَهْدِيُّ» . ولي المنصور الخلافة وهو ابن اثنتين
وأربعين سنة. بويع بالأنبار يوم مات السفاح. وولى ذلك والإرسال به في
الوحدة عيسى بن علي عمه، ولقيت أبا جعفر بيعته في الطريق عند منصرفه من
الحج، ومضى أبو جعفر حتى قدم الكوفة وصلى بالناس.
ذكر صفته
أخبرنا أبو منصور بن عَبْدُ الرَّحْمَنِ [1] بْنُ مُحَمَّدِ
[الْقَزَّازِ] [2] ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقري، قال: أخبرنا علي بن أحمد
بن أبي قيس، قال: أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، قال:
حدثني حمدون بن سعد المؤذن، قال [3] :
رأيت أبا جعفر يخطب على المنبر متعرق [4] الوجه، يخضب بالسواد، وكان
أسمر طويلا نحيفا خفيف العارضين، وأمه أم ولد يقال لها: سلامة.
أخبرنا عبد [الرحمن] [5] بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت،
قال: أخبرنا عَبْد العزيز بْن عَلِيّ الوراق، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد
بن أحمد [بن] المفيد [6] ، قال:
حدثنا أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري، قال: أخبرنا طاهر بن
يحيى بن حسن الطالبي، عن علي بن حبيش المديني، عن علي بن ميسرة الرازي
[7] ، قال:
رأيت أبا جعفر بمكة فتى أسمر اللون، رقيق السمرة، موفر الجمة [8] ،
خفيف اللحية، رحب الجبهة، أقنى الأنف بين القنى، أعين، كأن عينيه
لسانان ناطقان
__________
[1] في الأصل: «أبو منصور بن عبد الرحمن» ، خطأ، وفي ت: «القزاز» .
فقط.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 65.
[4] في تاريخ بغداد: «معرق» .
[5] ما بين المعقوفتين: من ت.
[6] في الأصل: «أحمد بن محمد المفيد» . خطأ. والتصحيح من ت. وتاريخ
بغداد.
[7] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 54.
[8] في تاريخ بغداد: «اللمة» .
(7/335)
تخالطه أبهة الملوك، بزي النساك، تقبله
القلوب، وتتبعه العيون، يعرف الشرف في تواضعه [والعتق في صورته] [1]
واللب في مشيته.
ذكر أولاده
[كان له] [2] المهدي واسمه محمد، وجعفر، أمهما أروى بنت منصور بن عبد
الله بن يزيد بن شمر الحميرية، وكانت تكنى أم موسى، وكان المنصور قد
شرط لها ألا يتزوج عليها، ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتابا وأشهدت
عليه شهودا، فبقي عليه عشر سنين من سلطانه كذلك، وكان يكتب إلى الفقيه
بعد الفقيه ليفتيه برخصة، فإذا علمت أم موسى أرسلت إلى ذلك الفقيه بمال
فلا يفتيه، فلما ماتت أتته وفاتها وهو بحلوان، فأهديت إليه تلك الليلة
مائة بكر.
ومن أولاد المنصور صالح، أمه أمة، ويقال: بنت ملك الصغد. وسليمان،
وعيسى، ويعقوب، أمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله.
والغالية أمها من ولد خالد بن أسيد. وجعفر، والقاسم، وعبد العزيز،
والعباس، فأما جعفر بن أبي جعفر فولي الموصل لأبي جعفر ومات ببغداد،
فولد لجعفر إبراهيم، وزبيدة وهي أم جعفر، أمهما سلسل أم ولد جعفر بن
جعفر، وعبيد الله بن جعفر، وصالح بن جعفر، ولبابة بنت جعفر. فأما
إبراهيم فلا عقب له. وأما زبيدة فتزوجها هارون الرشيد، وأما لبابة
فكانت عند موسى بن المهدي، وأما عيسى بن جعفر فولي البصرة وكورها وفارس
والأهواز واليمامة والسند.
أخبرنا [أبو] [3] منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أحمد
بن على بن ثابت، قال: أَخْبَرَنَا القاضي أَبُو العلاء مُحَمَّد بْن
عَلي بن يعقوب الواسطي، قال: أخبرنا أبو الحسين علي بن عمر الحافظ،
قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى الهاشمي، قال:
حدثني عبد الصمد، قال: حدثني أبي موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام، عن
أبيه محمد بن إبراهيم، قال [4] :
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من تاريخ بغداد.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت. وفي الأصل:
«منصور بن عبد الرحمن» .
[4] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 64.
(7/336)
قال المنصور يوما ونحن جلوس عنده: أتذكرون
رؤيا كنت رأيتها ونحن بالشراة؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين ما نذكرها،
فغضب من ذلك، وقال: كان ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب وتعلقوها
في أعناق الصبيان، فقال عيسى بن علي: إن كنا قصرنا في ذلك فنستغفر الله
يا أمير المؤمنين، فليحدثنا أمير المؤمنين بها، قال: نعم، رأيت كأني في
المسجد الحرام، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة وبابها
مفتوح والدرجة موضوعة، وما أفقد أحدا من الهاشميين ولا من القرشيين،
إذا مناد ينادي:
أين عبد الله؟ فقام أخي أبو العباس فتخطى الناس حتى صار على الدرجة،
فأخذ بيده فأدخل البيت، فما لبث أن خرج علينا ومعه قناة عليها لواء قدر
أربعة أذرع وأرجح، فرجع حتى خرج من باب المسجد، ثم نودي: أين عبد الله؟
فقمت أنا وعبد الله بن علي نستبق حتى صرنا إلى الدرجة، فجلس فأخذ بيدي
فأصعدت فأدخلت الكعبة، وإذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ومعه أبو بكر وعمر وبلال. فعقد لي وأوصاني بأمته وعممني،
وكان كورها ثلاثة وعشرين كورا، وقال: خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم
القيامة.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قَالَ:
أخبرنا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الرحيم المازني، قَالَ:
حدثنا أَبُو علي الحسين بْن القَاسِم الكوكبي، قَالَ: حدثنا أبو سهل
[بن] [1] علي بن نوبخت قال: كان جدنا نوبخت على دين المجوسية، وكان في
علم النجوم نهاية وكان محبوسا بسجن الأهواز، فقال [2] :
رأيت أبا جعفر المنصور وقد أدخل السجن، فرأيت من هيبته وحالته وسيماه
وحسن وجهه وثيابه ما لم أره لأحد قط. قال: فصرت من موضعي إليه فقلت: يا
سيدي ليس وجهك من وجوه هذه البلاد، فقال: أجل يا مجوسي قلت: فمن أي
البلاد أنت؟ فقال: من المدينة، فقلت: أي مدينة؟ فقال: مدينة النبي صلى
الله عليه وسلم، فقلت:
وحق الشمس والقمر إنك لمن ولد صاحب المدينة، قال: لا ولكنني من عرب
المدينة. قال: فلم أزل أتقرب إليه وأخدمه حتى سألته عن كنيته، فقال:
كنيتي أبو جعفر، قلت: أبشر فو حقّ المجوسية لتملكن جميع ما في هذه
البلدة حتى تملك
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 54.
(7/337)
فارس وخراسان والجبال، فقال لي: وما يدريك
يا مجوسي؟ قلت: هو كما أقول فاذكر لي هذه البشرى، قال: إن قضي شيء فسوف
يكون، قال: فقلت: قد قضاه الله من السماء فطب نفسا، فطلبت دواة فوجدتها
فكتب لي: بسم الله الرحمن الرحيم، يا نوبخت إذا فتح الله على المسلمين،
وكفاهم مئونة الظالمين، ورد الحق إلى أهله لم نغفل عما يجب من حق خدمتك
إيانا. وكتب: أبو جعفر.
قال نوبخت: فلما ولي الخلافة صرت إليه وأخرجت الكتاب، فقال: أنا له
ذاكر ولك متوقع، والحمد للَّه الذي صدق وعده وحقق الظن ورد الأمر إلى
أهله.
وأسلم نوبخت وكان منجما لأبي جعفر ومولى.
ذكر بيعة المنصور
لما حضرت السفاح الوفاة أمر الناس بالبيعة لأخيه المنصور، فبويع له يوم
توفي أخوه والمنصور يومئذ بمكة،. وكان الذي أخذ له البيعة بالعراق،
وقام بأمر الناس عمه عيسى بن علي، وكتب إليه يعلمه بموت أخيه وبالبيعة
له، فلما وصل الكتاب إليه دعا الناس فبايعوه وبايعه أبو مسلم.
[وقيل: بل عرف الخبر أبو مسلم] [1] ، قبله، فأنفذ الكتاب إليه وتأخر عن
بيعته يومين ليرهبه.
وفي رواية: أنه ورد عليه الخبر بعد ما صدر من الحج في منزل يقال له:
صفية، فتفاءل باسمه، وقال: صفي أمرنا إن شاء الله. وجعل يجزع، فقال له
أبو مسلم: ما هذا الجزع؟ قال: أتخوف من شر عبد الله بن علي وسعيد بن
علي، قال: لا تخف وأنا أكفيك أمره إن شاء الله، إنما عامة جنده أهل
خراسان وهم لا يعصوني، فسري عن أبي جعفر، وكان عبد الله بن علي قد قدم
في هذه السنة على أبي العباس الأنبار، فعقد له على الصائفة في أهل
خراسان وأهل الشام، وأهل الجزيرة والموصل، فسار فأتته وفاة أبي العباس،
وبعث إليه عيسى بن علي، وأبو الجهم بن يزيد بن زياد ببيعة المنصور،
فانصرف بمن معه إلى حرّان وبايع لنفسه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
(7/338)
ذكر طرف من أخبار
المنصور وسيرته
كان المنصور قبل الخلافة يطلب العلم.
أنبأنا زاهر بن طاهر، قَالَ: أخبرنا أبو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ،
وَأَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، قَالا: أَخْبَرَنَا أبو عبد الله محمد
بن عبد الله الحاكم، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ،
قال: حدثنا جعفر بن محمد بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن سعد الجلاب،
قال: حدثنا الجارود بن يزيد، قال: حدثنا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ الأَفْرِيقِيِّ، قال:
كنت أطلب العلم مع أبي جعفر أمير المؤمنين قبل الخلافة، فأدخلني يوما
إلى منزله ثم قدم طعاما ومريقة من حبوب ليس فيها لحم، ثم قدم إلي زبيبا
ثم قال: يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا، قال: ولا التمر؟ قالت: ولا
التمر، فاستلقى ثم تلى هذه الآية: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ في الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ) 7: 129 [1] . فلما ولي الخلافة دخلت عليه، فقال: يا عبد
الرحمن، بلغني أنك كنت تفد لبني أمية، قال: قلت: أجل كنت أفد لهم وأفد
إليهم. قال: فكيف رأيت سلطاني من سلطانهم؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين،
والله ما رأيت من سلطانهم من الجور والظلم إلا رأيته في سلطانك، تحفظ
يوم أدخلتني منزلك فقدمت إلي طعاما ومريقة من حبوب لم يكن فيها لحم، ثم
قدمت إلي زبيبا ثم قلت: يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا، قلت: ولا
التمر، قالت: ولا التمر. فاستلقيت ثم تلوت هذه الآية:
(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ في
الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) 7: 129 فقد والله أهلك الله
عدوك، واستخلفك في الأرض، فانظر ماذا تعمل، قال: يا عبد الرحمن، إنا لا
نجد الأعوان، قلت: يا أمير المؤمنين، السلطان سوق نافق لو نفق عليك
الصالحون لجلبوا إليك. قال: فكأني ألقمته حجرا، فلم يرد علي شيئا.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا عبد المحسن بن محمد المالكي،
قَالَ: أَخْبَرَنَا [أَبُو] [2] الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا المعافى بن زكريا، قال: حدّثنا
__________
[1] سورة: الأعراف، الآية: 129.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت.
(7/339)
الحسين بن القَاسِم الكوكبي، قال: حدثنا
أبو الفضل الربعي، قال: حدثني أبي، قال:
بينا المنصور ذات يوم يخطب وقد علا بكاؤه إذ قام رجل، فقال: يا وصاف
تأمرنا بما تجتنبه، وتنهى عما ترتكبه، بنفسك فابدأ ثم بالناس. فنظر
إليه المنصور ثم تأمله مليا ثم قطع الخطبة وقال: يا عبد الجبار خذه
إليك، فأخذه عبد الجبار وعاد إلى خطبته فأتمها [1] ، وقضى الصلاة ثم
دخل، ودعى بعبد الجبار فقال: ما فعل الرجل؟
فقال: محبوس عندنا يا أمير المؤمنين، قال: أمل له [ثم اعرض له] [2]
بالدنيا فإن عزف عنها فلعمري إنه لمريد [للآخرة] [2] ، وإن كان كلامه
ليقع موقعا حسنا، وإن مال إلى الدنيا ورغب فيها إن لي فيه أدبا يزعه عن
الوثوب على الخلفاء وطلب الدنيا بعمل الآخرة.
فخرج عبد الجبار فدعا بالرجل ودعا بغذائه، فقال [له] [2] : ما حملك على
ما صنعت؟ قال: حق للَّه كان في عنقي فأديته إلى خليفته، قال: إذا، فكل،
قال: لا حاجة لي فيه، قال: وما عليك من أكل الطعام إن كانت نيتك حسنة،
فدنا فأكل، فلما أكل طمع فيه، فتركه أياما ثم دعاه فقال: لهى عنك أمير
المؤمنين وأنت محبوس، فهل لك في جارية تؤنسك وتسكن إليها؟ قال: ما أكره
ذلك. فأعطاه جارية، ثم أرسل إليه: هذا الطعام قد أكلت، والجارية قد
قبلت، فهل لك في ثياب تكتسيها وتكسو عيالك إن كان لك عيال، ونفقة
تستعين بها على أمرك إلى أن يدعو بك أمير المؤمنين إن أردت الوسيلة
عنده إذا ذكرك، قال: وما هي؟ قال: أوليك الحسبة والمظالم، فتكون أحد
عماله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر [3] ، قال: ما أكره ذلك. فولاه
الحسبة والمظالم، فلما أتى عليه شهر قال عبد الجبار للمنصور: الرجل
الذي تكلم بما تكلم به فأمرت بحبسه قد أكل من طعام أمير المؤمنين ولبس
من ثيابه، وعاش في نعمته، وصار أحد ولاته، فإن أحب أمير المؤمنين أن
أدخله عليه [4] في زي الشيعة فعلت. قال: فأدخله.
__________
[1] في ت: «حتى أتمها» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «تأمر بمعروف وتنهى بمنكر» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «أن أدخله إليه» .
(7/340)
فخرج عبد الجبار فقال: قد دعا بك أمير
المؤمنين وقد أعلمته أنك أحد عماله على المظالم والحسبة، فأدخل عليه في
الزي الذي يحب. فألبسه قباء، وعلق خنجرا في وسطه وسيفا بمعاليق، وأسبل
جمته، ودخل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: وعليك، ألست
القائم بنا والواعظ لنا ومذكرنا بأيام الله على رءوس الملأ؟ قال: نعم،
قال: فكيف تخليت [1] عن مذهبك؟ قال: يا أمير المؤمنين، فكرت في أمري
فإذا أنا [قد] [2] أخطأت فيما تكلمت به، ورأيت أني مصيب في مشاركة أمير
المؤمنين في أمانته، قال: هيهات أخطأت استك الحفرة هناك يوم أعلنت
الكلام وظننا أنك أردت الله به فكففنا عنك، فلما تبين لنا أنك أردت
الدنيا جعلناك عظة لغيرك حتى لا يجترئ بعدك مجترئ على الخلافة، أخرجه
يا عبد الجبار فاضرب عنقه، فأخرجه فقتله.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن على بن ثابت، قال:
أخبرني أَبُو الفضل مُحَمَّد بْن عبد العزيز بْن المهدي [الخطيب] [3]
قال: حدثنا الحسن بن محمد بن القاسم المخزومي، قال: حدثنا أحمد بن موسى
بن مجاهد، قال: حدثنا أبو العيناء، قال: حدثنا الأصمعي، قال: [4] صعد
أبو جعفر المنبر فقال: الحمد للَّه، أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل
عليه، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له.
فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أذكرك من أنت في ذكره، فقال أبو
جعفر: مرحبا مرحبا، لقد ذكرت جليلا، وخوفت عظيما، وأعوذ باللَّه ممن
إذا قيل له: اتق الله، أخذته العزة بالإثم، والموعظة منا بدت، ومن
عندنا خرجت، وأنت يا قائلها فاحلف باللَّه ما الله أردت بها، إنما أردت
أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها من قائلها، وإياكم معشر الناس
وأمثالها. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فعاد إلى خطبته كأنما يقرأها من
قرطاس.
وكان [5] المنصور يشتغل في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات، وسجن
__________
[1] في الأصل: «خلتك عن» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[4] الخير في تاريخ بغداد 10/ 56.
[5] في الأصل: «كان» . وما أوردناه من ت.
(7/341)
الثغور والأطراف، والنظر في الخراج
والنفقات ومصالح الرعية. فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته، فإذا صلى
العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف، وشاور سماره، وكانت
ولاه البريد يكتبون إليه كل يوم بسعر القمح، والحبوب والإدام، وكل ما
يقضي به القاضي في نواحيهم، وما يرد بيت المال وكل حدث، فإذا صلى
المغرب يكتبون إليه بما كان ذلك اليوم، وإذا نظر في كتبهم، فإن رأى
الأسعار على حالها أمسك، وإن تغير شيء منها كتب إلى العامل هناك وسأله
عن العلة، فإذا ورد الجواب تلطف حتى يعود سعر ذلك البلد إلى حاله، وإن
شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه في ذلك وسأل [1] من بحضرته عن
علمه، فإن أنكر شيئا كتب إليه يوبخه ويلومه.
فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الباقي
قام من فراشه، فأسبغ الوضوء [2] ووقف في محرابه حتى يطلع الفجر.
وأول من اتخذ الخيش المنصور، وإنما كانت الأكاسرة تطين لها في الصيف
سقف بيت في كل يوم، فتكون قائلة الملك فيه، وكان يؤتى بأطنان الخلاف
طوالا غلاظا فيوضع حوالي السرير، ويؤتى بقطع الثلج العظام ما بين
أضعافها، وكانت بنو أمية تفعل ذلك، فاتخذ المنصور الخيش.
وشكى إليه رجل من بعض عماله في قصة فوقع عليها: أكفني أمره وإلا كفيته
أمرك.
ووقع إلى عامل آخر: قد كثر شاكوك وقل شاكروك [3] فإما اعتدلت وإما
اعتزلت.
قال أبو بكر الصولي: أول من وزر لبني العباس أبو سلمة الخلال، ثم خالد
بن برمك، فلما توفي السفاح أقره المنصور مديدة، ثم استوزر أبا أيوب
سليمان بن أبي سليمان المورياني [4] ، ثم ولى الفضل [5] بن الربيع بن
يونس بعد أبي أيوب.
__________
[1] في الأصل: «سألت» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «وضوءه» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «شاكرك» . وفي ت: «حامدوك» .
[4] في الأصل: «المرزباني» . وما أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «أبو الفضل» . وما أوردناه من ت وهو الصحيح.
(7/342)
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا
أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا الحسين بن محمد أخو الخلال، قال: أخبرني إبراهيم بن عبد الله
الشطي، قال:
حدثنا أبو إسحاق الهجيمي، قال: حدثنا محمد بن القاسم أبو العيناء، قال:
قال لي إسماعيل بن بريهة عن بعض أهله، عن الربيع الحاجب، قال [1] :
لما مات المنصور قال لي المهدي: يا ربيع، قم بنا حتى ندور في خزائن
أمير المؤمنين، قال: فدرنا فوقعنا على بيت فيه أربعمائة جب مطينة
الرءوس. قال: قلنا: ما هذه؟ قيل: هذه فيها أكباد مملحة أعدها المنصور
للحصار.
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، عن [أحمد بن ثابت بن علي الخطيب] [2] عن
أبي القاسم بن علي البصري، عن إبراهيم بن محمد الطبري، قال: أخبرنا
إبراهيم بن علي الهجيمي، قال: حدثنا أبو العيناء، قال:
دخل المنصور في باب الذهب، فإذا ثلاثة قناديل مصطفة، فقال: ما هذا، أما
واحد من هذا كان كافيا؟ يقتصر من هذا على واحد. قال: فلما أصبح أشرف
على الناس وهم يتغدون، فرأى الطعام قد خف من بين أيديهم قبل أن يشبعوا،
فقال: [يا غلام، عليّ بالقهرمان، قال: ما لي رأيت الطعام قد خف من بين
أيديهم قبل أن يشبعوا] [3] قال: يا أمير المؤمنين، رأيتك قد قدرت الزيت
فقدرت الطعام، فقال:
ويلك، أنت لا تفرق بين زيت يحترق في غير ذات الله، وبين طعام إذا فضل
وجدت له آكلا، أبطحوه، فبطحوه فضربه سبع درر.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي، قال: أنبأنا أَبُو غالب مُحَمَّد
بْن أَحْمَد بْن سهل بن بشران، قال: أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن
دينار الكاتب، قال: أخبرنا أَبُو الْفَرَجِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
بْنِ مُحَمَّدٍ الأصفهاني، قال: أخبرنا حبيب بن نصر المهلبي، قال:
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بن أبي سعد، قَالَ: حدثني عبد الله بن الحسن
الحراني، قال:
حدثني أبو قدامة، قال: حدثني المؤمل بن أميل، قال:
قدمت على المهدي وهو بالري وهو إذ ذاك ولي عهد فامتدحته بأبيات فأمر لي
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 57.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
(7/343)
بعشرين ألف درهم، فكتب بذلك صاحب البريد
إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن الأمير المهدي أمر لشاعر
بعشرين ألف درهم، فكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه [إليه] [1] بالشاعر،
فطلب فلم يجدوه، فكتب إلى أبي جعفر: إنه قد توجه إلى مدينة السلام،
فأجلس المنصور قائدا من قواده عند جسر النهروان، وأمر أن يتصفح وجوه
الناس رجلا رجلا، فجعل لا تمر به قافلة إلا تصفح من فيها حتى مرت به
القافلة التي فيها المؤمل، فتصفحه، فلما سأله: من أنت؟ قال: أنا المؤمل
بن أميل المحاربي الشاعر أحد زوار الأمير المهدي، قال: إياك طلبت. قال
المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفا من أبي جعفر، فقبض علي وسلمني إلى
الربيع، فدخل بي إلى أبي جعفر، وقال: هذا الشاعر الذي أخذ من الأمير
المهدي عشرين ألف درهم قد ظفرنا به، قال:
أدخلوه إلي. فأدخلت فسلمت عليه تسليم مروع، فرد عليّ السلام، وقال: ليس
هاهنا إلا خير، أنت المؤمل بن أميل؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين أنا
المؤمل بن أميل، قال:
أتيت غلاما غرا فخدعته، قلت: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلاما
غرا كريما فخدعته فانخدع، قال: فكان ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت
فيه، فأنشدته ما قلت، وهي:
هو المهدي إلا أن فيه ... مشابه صورة القمر المنير
تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا يشعلان على البصير
فهذا في الظلام سراج ليل ... وهذا في النهار ضياء نور
ولكن فضل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسرير
وبالملك العزيز فذا أمير ... وماذا بالأمير ولا الوزير
ونقص الشهر ينقص ذا وهذا ... منير عند نقصان الشهور
فيا ابن خليفة الله المصفى ... به تعلو مفاخرة الفخور
لئن فت الملوك وقد توافوا ... إليك من السهولة والوعور
لقد سبق الملوك أبوك حتى ... بقوا من بين كاب أو حسير
وجئت مصليا تجزي حثيثا ... وما بك حين تجزي من فتور
فقال الناس ما هذان إلا ... كما بين الفتيل إلى النصير
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت.
(7/344)
فإن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير
على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى الكبير ... فقد خلق الصغير من الكبير
فقال له المنصور: قد والله أحسنت ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم،
فأين المال؟ قال: ها هو ذا، قال: يا ربيع امض معه فأعطه أربعة آلاف
درهم وخذ منه الباقي، ففعل الربيع ما أمره به المنصور.
ثم إن المهدي ولي الخلافة بعد ذلك فولى ابن ثوبان المظالم، فكان يجلس
للناس بالرصافة، [فإذا ملأ كساءه رقاعا رفعها إلى المهدي] [1] فرفعت
إليه لي قصة، فلما دخل [بها] [1] ابن ثوبان جعل المهدي ينظر في الرقاع
حتى وصل إلى رقعتي، فلما قرأها ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير
المؤمنين، ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة،
فقال: نعم، هذه رقعة أعرف قصتها، ردوا إليه عشرين ألف درهم، فردها إلي
وانصرفت.
وقد رويت لنا هذه القصة من طريق آخر، وفيها: وكتبت [قصة] [2] أشرح فيها
ما جرى علي، فرفعها ابن ثوبان إلى المهدي، فلما قرأها ضحك حتى استلقى،
ثم قال:
هذه مظلمة أنا بها عارف، ردوا عليه ماله الأول، وضموا إليه عشرين ألفا.
أخبرنا عبد الرحمن، قَالَ أخبرنا أحمد بن علي، قال: أَخْبَرَنَا
أَحْمَد بْن عمر بْن روح، قَالَ: أَخْبَرَنَا المعافى بْن زكريا
[قَالَ: حَدَّثَنَا ابن دريد] [2] ، قال: حدثنا الحسن بن خضر، عن أبيه،
قال [3] :
دخل رجل على المنصور، فقال:
أقول له حين واجهته ... عليك السلام أبا جعفر
فقال المنصور: وعليك السلام، فقال:
فأنت المهذب من هاشم ... وفي الفرع منها الذي يذكر
فقال له المنصور: ذاك رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فقال:
فهذي ثيابي قد أخلقت ... وقد عضني زمن منكر.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 57.
(7/345)
فألقى إليه المنصور ثيابه وقال: هذه بدلها.
وذكر الصولي عن الهيثم بن عدي، قال: كان المنصور يبخل إلا في الطيب،
فإنه كان يأمر أهله به، فكان يشتري في رأس كل سنة اثني عشر ألف مثقال
من سائره، فيتطيب كل شهر بألف مثقال يخضب به رأسه ولحيته.
وقال يحيى بن سليم كاتب الفضل بن الربيع: ولم ير في دار المنصور لهو قط
ولا شيء يشبة اللعب والعبث.
وقال حماد التركي: كنت واقفا على رأس المنصور فسمع جلبة في الدار،
فقال:
ما هذا يا حماد انظر؟ فذهبت فإذا خادم له قد حبس حوله الجواري وهو يضرب
لهن الطنبور وهن يضحكن، فجئت فأخبرته، فقال: وأي شيء الطنبور؟ فقلت:
خشبة من حالها وصفتها، فقال: فما يدريك أنت ما الطنبور، قلت: رأيته
بخراسان، فقال: هات نعلي، فأتيته بها، فقام يمشي رويدا حتى أشرف عليهم،
فلما بصروا به تفرقوا [1] ، فقال: خذه، فأخذته، فقال: اضرب به رأسه،
فلم أزل أضرب به رأسه حتى كسرته، ثم قال: أخرجه من قصري واذهب به إلى
حمران بالكرخ، وقل له يبيعه.
وقال سالم الأبرش: كان المنصور من أحسن الناس، فإذا لبس ثيابه تغير
لونه، وتربد وجهه فاحمرت عيناه ويكون منه ما يكون، فإذا قام من مجلسه
رجع بمثل ذلك.
وقال يوما: يا بني إذا رأيتموني قد لبست ثيابي ورجعت من مجلسي فلا
يدنون أحد منكم مني لئلا أغره بشر.
ذكر طرف من كلامه
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، قال:
حدثنا المعافى بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن أبي الأزهر، قَالَ:
حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مبارك
الطبري، قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول:
الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية
لا
__________
[1] في الأصل: «فلما بصرن به تفرقن» . وأما أوردناه من ت.
(7/346)
يصلحها إلا العدل، وأولى [الناس] [1]
بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ:
أَخْبَرَنَا إبراهيم بن محمد بن عرفة، قال: أخبرنا أبو العباس المنصوري
عن القثمي، عن مبارك الطبري قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت
المنصور يقول للمهدي:
يا أبا عبد الله لا تجلس مجلسا إلا ومعك فيه رجل من أهل العلم يحدثك،
فإن محمد بن مسلم بن شهاب قال: إن الحديث ذكر لا يحبه إلا الذكور من
الرجال، ويكرهه مؤنثوهم، وصدق أخو بني زهرة.
وكان المنصور يقول: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون على
بابي أعف منهم، قيل: يا أمير المؤمنين، من هم؟ قال: هم أركان الملك ولا
يصلح الملك إلا بهم، كما إن السرير لا يصلح إلا بأربعة قوائم، إن نقصت
قائمة واحدة فقد وهي [2] ، أما احدهم: فقاض لا يأخذه في الله لومة
لائم، والآخر: صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث: صاحب خراج
يستقضي ولا يظلم الرعية فإني غني عن ظلمهم. ثم عض أصبعه السبابة ثلاث
مرات يقول في كل مرة: آه آه على الرابع [3] فقيل له: من هو يا أمير
المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة.
وكتب أبو جعفر إلى عامله بالمدينة: أن بع الثمار التي في الضياع، ولا
تبعها إلا ممن نغلبه ولا يغلبنا، والذي يغلبنا المفلس الذي لا مال له
ولا رأي لنا في عذابه ويذهب مالنا قبله، وبعها بدون من ذلك ممن ينصفك
ويوفيك.
قال المنصور: كانت العرب تقول: العري الفادح خير من الزي الفاضح.
وقال أيضا: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثا: إفشاء السر، والتعرض
للحرمة، والقدح في الملك [4] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «واحدة فسد وهي أما أحدهم» . وفي ت، حذفت: «وهي» .
[3] في ت ينفض «على الرابع» .
[4] في الأصل: «وتعرضا للحرمة، وقدح في الملك» . وما أوردناه من ت.
(7/347)
وقال: سرك من دمك فانظر من تملكه.
وقال: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافى، ومن أضعف فقد شكر، ومن علم أنه
إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولا تلتمس من غيرك شكر
[1] ما أتيته إلى نفسك، ووقيت به عرضك، واعلم أن طالب الحاجة إليك لم
يكرم وجهه عن قصدك [2] فأكرم وجهك عن رده.
أنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن صرما، قال: أنبأنا أبو الحسين بن
المهتدي، قال: حدثنا أبو حاتم محمد بن عبد الواحد بن محمد بن زكريا
الخزاعي، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر أَحْمَد بن مُحَمَّد العنبري، قال:
سمعت الفضل بن الحارث، يقول: سمعت محمد بن سلام الجمحي يقول:
قيل للمنصور: هل بقي من ذات الدنيا شيء لم تنله؟ قال: بقيت خصلة، أن
أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث، فيقول المستملي: من ذكرت رحمك الله؟
قال: فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر، فقال: لستم
هم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، برد
الآفاق ونقلة الحديث.
وفي هذه السنة: حج بالناس أبو جعفر، وكان على الكوفة عيسى بن موسى،
وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرة وعملها سليمان بن علي، وعلى
قضائها عباد بن منصور، وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد، وعلى مصر
صالح بن علي.
ورخصت الأسعار.
فأَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد
بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا أبو الحسن بن رزقويه [3] ، قال: أخبرنا جعفر الخلدي، قال:
أخبرنا الفضل بن مخلد، قال: سمعت داود بن صغير يقول:
رأيت زمن أبي جعفر كبشا بدرهم، وحملا بأربع دوانيق، والتمر ستين رطلا
بدرهم، والزيت ستة عشر رطلا بدرهم، والسمن ثمان أرطال بدرهم.
__________
[1] في الأصل: «شرك» وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «وجه عن وجهك» .
[3] في الأصل: «رزقونة» . خطأ. والتصحيح من ت.
(7/348)
ذكر من توفي في هذه
السنة من الأكابر
732- ربيعة بن أبي عبد الرحمن واسمه فروخ [1] ، مولى آل المنكدر
التيمي، تيم قريش، الذي يقال له: ربيعة الرأي، ويكنى ربيعة أبا عثمان،
ويقال: أبا عبد الرحمن، مديني [2] :
سمع من أنس بن مالك، والسائب بن يزيد، وعامة التابعين من أهل المدينة.
روى عنه مالك، وسفيان الثوري، وشعبة، والليث بن سعد، وغيرهم.
وكان عالما فقيها ثقة، وأقدمه السفاح الأنبار ليوليه القضاء.
وقال يونس بن يزيد: رأيت أبا حنيفة، عند ربيعة ومجهود أبي حنيفة أن
يفهم ما يقول.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا أبو القاسم الأزهري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن إبراهيم بن
شاذان، قال: أخبرنا أحمد بن مروان المالكي، قال: حدثنا يحيى بن أبي
طالب، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، قال: حدثني مشيخة أهل
المدينة [3] :
أن فروخا أبا عبد الرحمن خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية
غازيا، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف
دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة، وهو راكب فرسا، وفي يده رمح،
فنزل عن فرسه ثم دفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، فقال له: يا عدو الله،
أتهجم على منزلي؟ فقال: لا، وقال فروخ: يا عدو الله، أنت دخلت على
حرمتي، فتواثبا وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران، فبلغ
مالك بن أنس والمشيخة، فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا
فارقتك إلا عند السلطان، وجعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا
__________
[1] في الأصل: «بن فروخ» . وما أوردناه من كتب الرجال.
[2] طبقات ابن سعد (خط) ، وطبقات خليفة 268، وعلل أحمد 1/ 165، 244،
والتاريخ الكبير 3/ 976، والمعارف 462، والجرح والتعديل 3/ 2131، وحلية
الأولياء 3/ 259، وتاريخ بغداد 8/ 420، ووفيات الأعيان 2/ 288، وتاريخ
الإسلام 5/ 245، وسير أعلام النبلاء 6/ 89، وتذكرة الحفاظ 1/ 157،
وميزان الاعتدال 2/ 2753، وتهذيب التهذيب 3/ 258.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 8/ 421، 422.
(7/349)
بالسلطان وأنت مع امرأتي، وكثر الضجيج،
فلما بصروا بمالك سكت الناس كلهم، فقال: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه
الدار، فقال الشيخ: هي داري، وأنا فروخ مولى بني فلان، فسمعت امرأته
كلامه فخرجت، فقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفه [1] وأنا حامل به،
فاعتنقا جميعا وبكيا، فدخل فروخ المنزل وقال: هذا ابني؟
قالت: نعم، قال: فأخرجي المال الذي [لي] [2] عندك، وهذه معي أربعة آلاف
دينار، فقالت: المال قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام.
ثم خرج ربيعة إلى المسجد وجلس في حلقته، وأتاه مالك بن أنس، والحسن بن
زيد، وابن أبي علي اللهبي [3] ، والمساحقي، وأشراف أهل المدينة، وأحدق
الناس به، فقالت امرأته: اخرج فصل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم،
فخرج فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها فوقف بها وفرجوا له قليلا، ونكس
ربيعة رأسه وأوهمه أنه لم يره، وعليه طرحة طويلة، فشك فيه أبو عبد
الرحمن، فقال: من هذا الرجل؟ فقالوا له: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن،
فقال أبو عبد الرحمن: لقد رفع الله ابني، ثم رجع إلى منزله، فقال
لوالدته: لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحدا من أهل العلم والفقه
عليها، فقالت أمه: فأيما أحب إليك؟ ثلاثون ألف دينار، أو هذا الجاه
الّذي هو فيه؟ فقال: لا والله إلا هذا، قالت: فإني أنفقت المال كله
عليه، قال: فو الله ما ضيعتيه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي [بن ثابت] [4]
الحافظ، قال: أَخْبَرَنَا القاضي أَبُو العلاء الواسطي، قَالَ:
أَخْبَرَنَا محمد بن جعفر التميمي، قال: حدثنا أحمد بن محمد أبو سعيد
النيسابوري، قال: حدثنا الحسن بن صاحب بن حميد، قال: سمعت أبا سلمة
الصنعاني الفقيه، يقول: سمعت بكر بن عبد الله بن الشرود الصنعاني، يقول
[5] :
أتينا مالك بن أنس، فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي، فكنا نستزيده من حديث
ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة؟ هو نائم في ذاك الطاق،
فأتينا ربيعة
__________
[1] في الأصل: «خلف» . وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[2] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[3] في الأصل: «الكهني» . خطأ. والتصحيح من ت وتاريخ بغداد.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] الخبر في تاريخ بغداد 8/ 424.
(7/350)
فأنبهناه، فقلنا له: أنت ربيعة بن أبي عبد
الرحمن؟ قال: نعم، قلنا: ربيعة بن فروخ؟
قال: بلى، قلنا: ربيعة الرأي؟ قال: نعم، قلنا: الذي يحدث عنك مالك بن
أنس؟
قال: نعم، قلنا: كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك؟ قال: أما علمتم أن
مثقالا من دولة خير من حمل علم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا ابن
الفضل، قال: حدثنا عبد الله [1] بن جعفر، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان،
قال:
حدثني محمد بن أبي بكر [2] ، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال مالك [3] :
لما قدم ربيعة بن أبي عبد الرحمن على أمير المؤمنين أبي العباس أمر له
بجائزة فأبى أن يقبلها، فأعطاه خمسة آلاف درهم ليشتري بها جارية، فأبى
أن يقبلها.
قال ابن وهب: وحدثني مالك، عن ربيعة، قال [4] : قال لي حين أراد الخروج
إلى العراق: إن سمعت أني حدثتهم شيئا أو أفتيتهم فلا تعدني شيئا، قال:
فكان كما قال، لما قدمها لزم بيته فلم يخرج إليهم ولم يحدثهم بشيء حتى
رجع.
أخبرنا عبد الرحمن، [قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال] [5] :
أخبرنا الأزهري، والجوهري، قالا: حدثنا محمد بن العباس، قال: حدثنا
سليمان بن إسحاق الجلاب، قال: حدثنا الحارث بن محمد بن مطرف، قال:
أخبرنا مطرف بن عبد الله، قال: سمعت مالك بن أنس يقول [6] :
ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة الرأي.
توفي ربيعة بالمدينة، وقيل: بالأنبار في هذه السنة.
__________
[1] في الأصل: «عبيد الله» . خطأ. والتصحيح من ت. وتاريخ بغداد.
[2] في تاريخ بغداد: «ابن أبي زكير» .
[3] الخبر في تاريخ بغداد 8/ 425.
[4] الخير في تاريخ بغداد 8/ 425.
[5] ما بين المعقوفتين: من ت.
[6] الخبر من تاريخ بغداد 8/ 426، 427.
(7/351)
733- عبد الله السفاح، أبو العباس [1] :
كانت وفاته بالجدري.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن [2] بن محمد [الْقَزَّازُ] [3] ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ [4] بْنُ عَلي بْن ثَابِت، قَالَ:
أَخْبَرَنَا الحسين بْن محمد بن طاهر الدقاق، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن المكتفي، قال:
حدثنا جحظة، قال: قال جعفر بن يحيى:
نظر أمير المؤمنين السفاح في المرآة وكان من أجمل الناس وجها، فقال:
اللَّهمّ إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك: أنا الملك الشاب،
ولكني أقول: اللَّهمّ عمرني طويلا في طاعتك ممتعا بالعافية. فما استتم
كلامه حتى سمع غلاما يقول لغلام آخر: الأجل بيني وبينك شهران وخمسة
أيام، فتطير من كلامه، وقال: حسبي الله، لا قوة إلا باللَّه، عليه
توكلت، وبه أستعين، فما مضت إلا أيام حتى أخذته الحمى، فجعل يوم يتصل
إلى يوم حتى مات بعد شهرين وخمسة أيام.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرني الحسن
بن محمد الخلال، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عمران،
قال: حدثنا محمد بْنُ سَهْلِ بْنِ الْفَضْلِ الْكَاتِبُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ [أَبِي] [5] سَعْدٍ، قَالَ: ذكر
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ الْخُزَاعِيُّ [6] :
إِنَّ الرَّشِيدَ قَالَ لابْنِهِ: كَانَ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ
رَاهِبَنَا وَعَالِمَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَلَمْ يَزَلْ فِي خِدْمَةِ
أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِي بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ،
ثُمَّ خَدَمَ [أَبَا] [7] عَبْدِ اللَّهِ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ، ثُمَّ
إِبْرَاهِيمَ الإِمَامَ، وَأَبَا الْعَبَّاسِ، وَالْمَنْصُورَ،
فَحَفِظَ جَمِيعَ أخبارهم وسيرهم
__________
[1] تاريخ بغداد 10/ 46، وراجع أيضا «ذكر خلافته» سنة 132.
[2] في الأصل: «أبو منصور بن عبد الرحمن» خطأ. وما أوردناه من ت
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.
[4] في الأصل: «أبو بكر بن أحمد» . خطأ.
[5] ما بين المعقوفتين: من ت، وتاريخ بغداد.
[6] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 50.
[7] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
(7/352)
وَأُمُورَهُمْ. وَكَانَ قُرَّةَ عَيْنِهِ
فِي الدُّنْيَا ابْنُهُ إِسْحَاقُ، فَلَيْسَ فِينَا أَهْلَ الْبَيْتِ
أَعْلَمُ بِأَمْرِنَا مِنْ إِسْحَاقَ، فَاسْتَكْثِرْ مِنْهُ، وَاحْفَظْ
جَمِيعَ مَا يُحَدِّثُكَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَ أَبِيهِ فِي
الْفَضْلِ وَإِيثَارِ الصِّدْقِ.
قَالَ: فَأَعْلَمْتُهُ أَنِّي قَدْ سَمِعْتُ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا،
فَقَالَ لِي: هَلْ سَمِعْتَ خَبَرَ وَفَاةِ أَبِي الْعَبَّاسِ
السَّفَّاحِ؟ فَقُلْتُ: نعم، فقال: قد سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ
أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ، فَحَدِّثْنِي مَا
حَدَّثَكَ بِهِ [إِسْحَاقُ لأَنْظُرَ أَيْنَ هُوَ مِمَّا حَدَّثَنِي
بِهِ أَبُوهُ. فَقَالَ:
حَدَّثَنِي] [1] إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ:
أَنَّهُ دَخَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلَى أَبِي
الْعَبَّاسِ وَهُوَ فِي مَدِينَتِهِ بِالأَنْبَارِ [2] ، قَالَ
إِسْحَاقُ: قَالَ أَبِي: وَكُنْتُ قَدْ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ أَيَّامًا
لَمْ أَرْكَبْ إِلَيْهِ فِيهَا، فعاتبني على تخلفي عنه، فأعلمته أَنِّي
كُنْتُ أَصُومُ مُنْذُ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ [3] ،
فَقَبِلَ عُذْرِي وَقَالَ لِي: أَنَا في يومي هذا صَائِمٌ، فَأَقِمْ
عِنْدِي لِتُقْضِيَنِي فِيهِ بِمُحَادَثَتِكَ [إِيَّايَ مَا فَاتَنِي
مِنْ مُحَادَثَتِكَ] [4] فِي الأَيَّامِ الَّتِي تَخَلَّفْتَ عَنِّي
فِيهَا، ثُمَّ نَخْتِمُ ذَلِكَ بِإِفْطَارِكَ عِنْدِي، فَأَقَمْتُ
إِلَى أَنْ تَبَيّنْتُ النُّعَاسَ فِي عينه [قد غلب عَلَيْهِ] [5] ،
فَنَهَضْتُ [6] عَنْهُ وَاسْتَمَرَّ بِهِ النَّوْمُ فَمِلْتُ [7]
بَيْنَ الْقَائِلَةِ فِي دَارِهِ، وَبَيْنَ الْقَائِلَةِ فِي داري،
فمالت نَفْسِي إِلَى الانْصِرَافِ إِلَى مَنْزِلِي وَقِلْتُ إِلَى
وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ رَكِبْتُ إِلَى دَارِهِ [8] ، فَوَافَيْتُ
إِلَى بَابِ الرَّحْبَةِ الْخَارِجِ، فَإِذَا بِرَجُلٍ دَحْدَاحٍ
حَسَنِ الْوَجْهِ مُؤْتَزِرٍ بِإِزَارٍ، مُتَرَدٍّ بِآخَرَ [9] .
فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَقَالَ: هَنَّأَ اللَّهُ الأَميرَ هَذِهِ النّعْمَة
وَكُلّ نِعْمَة، الْبُشْرَى، أَنَا وَافِدُ أَهْلِ السِّنْدِ، أَتَيْت
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِسَمْعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَبَيْعَتِهِمْ،
فَمَا تَمَالَكْتُ سُرُورًا أَنْ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَى تَوْفِيقِهِ
إِيَّايَ للانْصِرَافِ فِي أْنَ أُبَشِّرَهُ بِهَذِهِ الْبُشْرَى.
فَمَا تَوَسَّطْتُ الرَّحْبَةَ حَتَّى وَافَى رَجُلٌ فِي مثل لونه
وهيئته وقريب
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت، وتاريخ بغداد.
[2] في الأصل: «بمدينة الأنبار» . وما أوردنا من ت وتاريخ بغداد.
[3] في الأصل: «إني كنت صائما من أول العشر» . وما أوردناه من ت وتاريخ
بغداد.
[4] ما بين المعقوفتين: من ت، وتاريخ بغداد.
[5] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[6] في الأصل: «فأقمت إلى أن نعس فنهضت» . وما أوردناه من ت وبغداد.
[7] في الأصل: «فمثلت» . وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[8] في الأصل: «داري» خطأ.
[9] في الأصل: «مرتد بآخر» .
(7/353)
الصُّورَةِ مِنْ صُورَتِهِ، فَسَلَّمَ
عَلَيَّ وَهَنَّأَنِي بِمِثْلِ مَا هَنَّأَنِي بِهِ ذَلِكَ، وَذكر
أَنَّهُ وَافِدُ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
بِسَمْعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، فَتَضَاعَفَ سُرُورِي، وَأَكْثَرْتُ مِنْ
حَمْدِ اللَّهِ عَلَى مَا وَفَّقَنِي لَهُ مِنَ الانْصِرَافِ، ثُمَّ
دَخَلْتُ الدَّارَ فَسَأَلْتُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
فَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ فِي مَوْضِعٍ كَانَ يَتَهَيَّأُ فِيهِ للصَّلاةِ،
فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ، فَابْتَدَأْتُ
بِتَهْنِئَتِهِ وَأَعْلَمْتُهُ أَنِّي رَأَيْتُ بِبَابِهِ رَجُلَيْنِ
أَحَدَهُمَا وَافِدَ أَهْلِ السِّنْدِ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ زَمَعٌ،
وَقَالَ: الآخَرُ وَافِدُ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ بِسَمْعِهِمْ
وَطَاعَتِهِمْ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَسَقَطَ الْمِشْطُ مِنْ يَدِهِ
ثَمَّ قَالَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ كُلُّ [شَيْءٍ] [1] بَائِدٌ سِوَاهُ، نَعَيْتُ
وَاللَّهِ نَفْسِي، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ الإِمَامُ، عَنْ أَبِي
هَاشِمٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيَّ
فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي مدينتي وافدان: أَحَدُهُمَا وَافِدُ السِّنْدِ،
وَالآخَرُ وَافِدُ إِفْرِيقِيَّةَ بِسَمْعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ
وَبَيْعَتِهِمْ، فَلا يَمْضِي بَعْدَ ذَلِكَ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ حَتَّى
أَمُوتَ. وَقَدْ أَتَانِي الْوَافِدَانِ، فَأَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ
يَا عَمِّ فِي ابْنِ أَخِيكَ، فَقُلْتُ: كَلا يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ: بَلَى أَنَا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ لَئِنْ كَانَتِ الدُّنْيَا حَبِيبَةً [2] إِلَيَّ، فَصِحَّةُ
الرِّوَايَةِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْهَا، وَاللَّهِ مَا كَذَبَتْ وَلا كَذَبْتُ. ثُمَّ نَهَضَ وَقَالَ
لِي: لا تَبْرَحْ مِنْ مَكَانِكَ حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ، فَمَا
غَابَ كثيرا حتى أذنت المؤذنون بِصَلاةِ الظُّهْرِ، فَخَرَجَ إِلَيَّ
خَادِمٌ لَهُ، فَأَمَرَنِي بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَالصَّلاةِ
بِالنَّاسِ، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، ورجعت إلى موضعي حتى أذنت
الْمُؤَذِّنُونَ بِصَلاةِ الْمَغْرِبِ، فَخَرَجَ إِلَيَّ الْخَادِمُ
فَأَمَرَنِي بِمِثْلِ ذَلِكَ.
فَفَعَلْتُ وَعُدْتُ إِلَى مَكَانِي، ثُمَّ أذنت الْمُؤَذِّنُونَ
بِصَلاةِ الْعِشَاءِ، فَخَرَجَ إِلَيَّ الْخَادِمُ بِمِثْلِ مَا كَانَ
يَأْمُرُنِي بِهِ، فَفَعَلْتُ وَلَمْ أَزَلْ مُقِيمًا فِي مَكَانِي
إِلَى أَنْ مَرَّ اللَّيْلُ، فَتَنَفَّلْتُ حَتَّى فَرَغْتُ مِنْ
صَلاةِ اللَّيْلِ وَالْوَتْرِ إِلا بَقِيَّةً بَقِيَتْ مِنَ
الْقُنُوتِ، فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ وَمَعَهُ كِتَابٌ، فَدَفَعَهُ
إِلَيِّ حِينَ سَلَّمْتُ، فَإِذَا هُوَ [مُعْنَوَنٌ] [3] مَخْتُومٌ
[مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الرَّسُولِ
وَالأَوْلِيَاءِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ] [3] وَقَالَ: يَا عَمِّ،
ارْكَبْ فِي غَدٍ، فصل بِالنَّاسِ [4] فِي الْمُصَلَّى، وَانْحَرْ
وَأَخْبِرْ بِعِلَّةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَكْثِرْ لُزُومَكَ
دَارِي، فَإِذَا قَضَيْتُ نَحْبِي فَاكُتْم وَفَاتِي حَتَّى تَقْرَأَ
هَذَا الْكِتَابَ عَلَى النَّاسِ، وَتَأْخُذَ عَلَيْهِمُ الْبَيْعَةَ
لِلْمُسَمَّى فِي هَذَا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «محبوبة» . وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت وتاريخ بغداد.
[4] في الأصل: «فصل في الناس» . وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
(7/354)
الْكِتَابِ، وَإِذَا أَخَذْتَهَا
وَاسْتَحْلَفْتَ النَّاسَ عَلَيْهَا بِمُؤَكِّدَاتِ الأَيْمَانِ
فَانْعِ إِلَيْهِمْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَهِّزْهُ، وَتَوَلّ
الصَّلاةَ عَلَيْهِ وَانْصَرِفْ فِي حِفْظِ اللَّهِ وَتَأَهَّبْ
لِرُكُوبِكَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ وَجَدْتَ
عِلَّةً، فَقَالَ: يَا عَمِّ، وَأَيُّ عِلَّةٍ هِيَ أَقْوَى وَأَصْدَقُ
مِنَ الْخَبَرِ الصَّادِقِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ وَنَهَضْتُ، فَمَا مَشَيْتُ
إِلا خُطًا حَتَّى هَتَفَ بِي [هَاتِفٌ] [1] يَأْمُرُنِي بِالرُّجُوعِ،
فَرَجَعْتُ، فَقَالَ لِي: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْبَسَكَ كَمَالا
وَأَكْرَهُ أَنْ يَحُطَّكَ النَّاسُ فِيهِ، وَكِتَابِي الَّذِي فِي
يَدِكَ مَخْتُومٌ، وَسَيَقُولُ لَكَ مَنْ يَحْسُدُكَ عَلَى مَا جَرَى
عَلَى يَدَيْكَ مِنْ هَذَا الأَمْرِ الْجَلِيلِ انك إنما وفيت للمسمى
في هَذَا الْكِتَابَ، لأَنَّ الْكِتَابَ كَانَ مَخْتُومًا وَقَدْ رَأَى
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْكَ خَاتِمَهُ لِيَقْطَعَ
بِذَلِكَ أَلْسِنَةَ الْحَسَدَةِ عَنْكَ، فَخُذِ الْخَاتمَ، فو الله ما
كذبت ولا كذبت، فانصرفت وتأهبت للركوب، وَرَكِبْتُ وَرَكِبَ مَعِي
النَّاسُ حَتَّى صَلَّيْتُ بِأَهْلِ الْعَسْكَرِ وَنَحَرْتُ
وَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ خَبَرِهِ فَقَالَ:
خَبَرُ مَنْ يَمُوتُ لا مَحَالَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَجَدْتَ شَيْئًا؟ فَأَنْكَرَ عَلَيَّ قولي وكشر فِي
وَجْهِي وَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ، أَقُولُ لَكَ إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّهُ يَمُوتُ،
وَتَسْأَلُنِي عَمَّا أَجِدُ، لا تَعُدْ لِمِثْلِ هَذَا ثُمَّ دَخَلْتُ
إِلَيْهِ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْعِيدِ، وَكَانَ أَحْسَنَ مَنْ
عَايَنَتْهُ عَيْنَايَ وَجْهًا، فَرَأَيْتُهُ وَقَدْ حَدَثَتْ فِي
وَجْهِهِ وَرْدِيَّةٌ لَمْ أَكُنْ أَعْهَدُهَا فَزَادَتْ وَجْهَهُ
جَمَالا، ثم بصرت بإحدى وجنتيه حَبَّةً مِثْلَ حَبَّةِ الْخَرْدَلِ،
بَيْضَاءَ، فَارْتَبْتُ بِهَا، ثُمَّ صَوَّبْتُ نَظَرِي إِلَى
الْوَجْنَةِ الأُخْرَى فَوَجَدْتُ فِيهَا حَبَّةً أُخْرَى، ثُمَّ
أَعَدْتُ نَظَرِي إِلَى الوجنة التي عاينتها بدئا فرأيت الحبة قد صارت
اثنتين، ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَرَى الْحَبَّ يَزْدَادُ حَتَّى رَأَيْتُ
فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْ وَجْنَتَيْهِ مِثْلَ الدِّينَارِ مِقْدَارًا
حَبًّا أَبْيَضَ صِغَارًا، فَانْصَرَفْتُ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ
الْحَالَةِ، وَغَلَسْتُ غَدَاةَ الْيَوْمِ الثَّانِي من أيام
التَّشْرِيقِ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ هَجَرَ وَذَهَبَتْ عَنْهُ مَعْرِفَتِي
وَمَعْرِفَةُ غَيْرِي، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ بِالْعَشِيِّ فَوَجَدْتُهُ
قَدْ صَارَ مِثْلَ الزِّقِّ الْمَنْفُوخِ، وَتُوُفِّيَ فِي الْيَوْمِ
الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَسَجَيْتُهُ كَمَا أَمَرَنِي،
وَخَرَجْتُ إِلَى النَّاسِ وَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، وَكَانَ
فِيهِ:
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الرَّسُولِ
وَالأَوْلِيَاءِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ قَلَّدَ الْخِلافَةَ بَعْدَهُ عَلَيْكُمْ
أَخَاهُ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَقَدْ قَلَّدَ الْخِلافَةَ
مِنْ بَعْدِ عَبْدِ اللَّهِ عِيسَى بْنِ مُوسَى إِنْ كَانَ. ثُمَّ
أَخَذْتُ الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ وَجَهَّزْتُهُ وَصَلَّيْتُ
عَلَيْهِ وَدَفَنْتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاثِينَ ومائة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
(7/355)
فقال الرشيد: هكذا حدثني أبو العباس ما
غادر إسحاق من حديث أبيه حرفا واحدا، فاستكثروا من الاستماع منه، فنعم
حامل العلم هو.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: واختلفوا في مقدار عمره على أربعة أقوال،
أحدها: ثلاثون سنة، والثاني: إحدى وثلاثون، والثالث: ثمان وثلاثون،
والرابع:
ثمان وعشرون.
فأما الصلاة، فإنه صلى عليه عيسى بن علي، دفن بالأنبار العتيقة في
قصره، وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر ويومين، وقيل: وتسعة أشهر،
منها ثمانية أشهر مشتغلا بقتال مروان بن محمد، وخلف تسع جباب وأربعة
أقمصة، وخمس سراويل، وأربع طيالسة، وثلاثة مطارف خز.
734- عبيد الله بن أبي جعفر، مولى بني كنانة [1] :
ولد سنة ستين، ورأى عبد الله بن الحارث بن جزء، وكان عالما زاهدا. روى
عن محمد بن إسحاق وغيره من أهل المدينة، وكان سليمان بن داود يقول: ما
رأيت عيناي عالما زاهدا إلا عبيد الله بن أبي جعفر.
أنبأنا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الْحَافِظُ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ،
وأبي عمرو ابني عبد الله بن منده، عن أبيهما، قال: حدثنا أبو سعيد بن
يونس الحافظ، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: حدثني ابن وهب، قال: حدثني
أبو شريح عبد الرحمن بن شريح، عن عبيد الله بن أبي جعفر، قال:
غزونا إلى قسطنطينية فانكسر مركبنا، فألقانا الموج على حشفة في البحر،
وكنا خمسة أو ستة، فأنبت الله بعددنا ورقا، لكل رجل منا ورقة، فكنا
نمصها فتشبعنا وتروينا، فإذا أمسينا أنبت الله لنا مكانها أخرى حتى مر
بنا مركب، فحملنا.
توفي عبيد الله بمصر في هذه السنة. ويقال: في سنة اثنتين وثلاثين، وصلى
[عليه] [2] أبو عون عبد الملك بن يزيد أمير مصر.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 202، وفيه «مولى بني أمية» . والتاريخ الكبير
3/ 1/ 376، والجرح والتعديل 5/ 310.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت.
(7/356)
735- عبد الكريم بن الحارث بن يزيد، أبو
الحارث الحضرمي [1] :
روى عنه حيوة بن شريح، وابن لهيعة وغيرهما. وكان من العباد المجتهدين،
فلو قيل إن الساعة تقوم غدا ما كان فيه فضل [لمزيد] [2] ، وقيل له: ما
أحسن عزاءك عند المصائب، فقال: إني أوطن نفسي عليها قبل نزولها.
736- مليكة بنت المنكدر:
كانت عابدة مجتهدة وكلمت في الرفق بنفسها، فقالت: دعوني أبادر طي
صحيفتي.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصوفي، قال:
أخبرنا ابن أبي صادق الحيري، قال: حدثنا ابن باكويه الشيرازي، قال:
حدثني عيسى بن عمر بن عبد المؤمن، قال:
حدثنا أحمد بن محمد القرشي، قال: حدثنا إبراهيم بن عيسى، قال: حدثني
موسى بن عبد الملك، أبو عبد الرحمن المروزي، قال: قال مالك بن دينار:
بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بامرأة جهيرة في الحجر وهي تقول: أتيتك
من شقة بعيدة مؤملة بمعروفك، فأنلني معروفا من معروفك تعينني به عن
معروف من سواك يا معروفا بالمعروف. فعرفت أيوب السختياني وسألنا عن
منزلها وقصدناها وسلمنا عليها، فقال لها أيوب السختياني: قولي خيرا
يرحمك الله، قالت: وما أقول؟ أشكو إلى الله قلبي وهواي فقد أضراني
وشغلاني عن عبادة ربي عز وجل، قوما فإني أبادر طي صحيفتي.
قال أيوب السختياني: فما حدثت نفسي بامرأة قبلها، فقلت لها: لو تزوجت
رجلا كان يعينك على ما أنت عليه، قالت: لو كان مالك بن دينار أو أيوب
السختياني ما أردته، فقلت: أنا مالك بن دينار وهذا أيوب السختياني،
فقالت: أف لقد ظننت أنه يشغلكما ذكر الله سبحانه وتعالى عن محادثة
النساء، وأقبلت على صلاتها، فسألت عنها، فقالوا: هذه مليكة بنت
المنكدر.
توفيت مليكة رضي الله عنها في هذه السنة، وهي سنة ست وثلاثين ومائة،
ودفنت بالمدينة، وقيل بمكة، والله عز [وجل أعلم] [3] .
__________
[1] التاريخ الكبير 3/ 2/ 89.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] «توفيت مليكة.... والله عز وجل أعلم» : ساقطة من ت. وما بين
المعقوفتين: ساقط من الأصل.
(7/357)
الخاتمة
تم الجزء السابع من كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم تأليف الشيخ
الإمام العالم الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن علي بن
الجوزي، غفر الله له، يتلوه في الجزء الثامن. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين
ومائة، فمن الحوادث فِيهَا: قدوم المنصور من مكة، ونزوله الحيرة، فوجد
عيسى بْن موسى قَدْ شخص إِلَى الأنبار، واستخلف....
(7/358)
[المجلد الثامن]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وهو حسبي
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
قدوم المنصور من مكة، ونزوله الحيرة، فوجد عيسى بْن موسى قَدْ شخص
إِلَى الأنبار، واستخلف على الكوفة طلحة بْن إسحاق بْن مُحَمَّد بْن
الأشعث، فدخل أَبُو جعفر الكوفة، فصلى الجمعة بأهلها، وخطبهم وأعلمهم
أنه راحل عنهم، ثُمَّ وافاه أَبُو مسلم بالحيرة، ثُمَّ شخص أَبُو جعفر
إِلَى الأنبار، فأقام بها، وجمع إِلَيْهِ أطرافه، وقد كَانَ عيسى بْن
موسى قَدْ أحرز بيوت الأموال والخزائن والدواوين حَتَّى قدم عليه أَبُو
جعفر، فبايع الناس لَهُ بالخلافة، ثُمَّ لعيسى بْن موسى من بعده، وسلم
الأمر إِلَى أبي جعفر، وبعث يزيد بْن زياد وَهُوَ حاجب أبي الْعَبَّاس
إِلَى عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ ببيعة أبي جعفر، وذلك بأمر أبي
الْعَبَّاس قبل أن يموت حين أمر الناس بالبيعة، فلما قدم عليه دعا
الناس إِلَى نفسه وَقَالَ: إن أبا العباس حين أراد أن يوجه الجنود
إِلَى مروان بْن مُحَمَّد دعا بْني أمية [1] فأرادهم على المسير إِلَى
مروان وَقَالَ: من انتدب منكم فسار إِلَيْهِ فهو ولي عهدي، فلم ينتدب
لَهُ غيري، فعلى هذا خرجت من عنده، وقبلت من قبلت، فقام أَبُو غانم
الطائي، وخفاف المروزي فِي عدة من قواد أَهْل خراسان، فشهدوا لَهُ
بذلك، فبايعه أَبُو غانم، وخفاف، وأبو الإصبع، وجميع من كَانَ معه من
أولئك القواد منهم حميد بْن قحطبة وغيره، فلما فرغ من البيعة ارتحل
فنزل حران وبها مقاتل العكي، وَكَانَ أَبُو جعفر استخلفه لما قدم على
أبي الْعَبَّاس، فأراد مقاتلا على البيعة فلم يجبه وتحصن
__________
[1] في ت: «بني أبيه» وما أثبتناه من الأصل.
(8/3)
منه، فأقام عليه وحصره، وسرح أَبُو جعفر
لقتال عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ أبا مسلم، فسار إليه 2/ ب وقد جمع
الجنود/ والسلاح وخندق، وجمع الطعام والأعلاف، فسار أَبُو مسلم ومعه
القواد كلهم، وبعث مقدمته مالك بْن الهيثم الخزاعي، وَكَانَ معه الحسن
وحميد ابْنا قحطبة، وَكَانَ حميد قَدْ فارق عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ،
وَكَانَ عَبْد اللَّه أراد قتله، فإنه كتب إِلَى زفر بْن عاصم إِلَى
حلب: إذا قدم عَلَيْك فاقتله. ففتح حميد الكتاب وعلم مَا فِيهِ، فلم
يذهب.
ولما بلغ عَبْد اللَّه مسير أبي مسلم إِلَيْهِ أعطى العكي أمانا، فخرج
إِلَيْهِ فيمن كَانَ معه، ثُمَّ وجهه إِلَى عثمان بْن عَبْد الأعلى
إِلَى الرقة ومعه ابْناه، وكتب إِلَيْهِ كتابا، فلما قدموا على عثمان
قتل العكي وحبس ابْنيه، فلما بلغته هزيمة عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ
أخرجهما فقتلهما وَكَانَ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ قَدْ خشي أن لا
تناصحه أَهْل خراسان فقتل منهم نحوا من سبعة عشر ألفا، ثُمَّ اقتتلوا
خمسة أشهر أو ستة، وعمل لأبي مسلم عريشا، فكان يجلس عليه إذا التقى
النّاس فينظر إِلَى القتال، فإن رأى خللا فِي أصحابه أصلحه، ثُمَّ إن
أصحاب عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ انهزموا وتركوا عسكرهم، فاحتواه أَبُو
مسلم، وكتب بذلك إِلَى أبي جعفر، ومضى عَبْد اللَّه وعَبْد الصَّمَدِ
بْن عَلِيّ، وكانا مَعَ عَبْد اللَّه.
فأما عَبْد الصمد فقدم الكوفة، فاستأمن لَهُ عيسى بْن موسى، فأمنه
أَبُو جعفر.
وأما عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ فأتى سليمان بْن عَلِيّ بالبصرة، فأقام
عنده، وأمن أَبُو مسلم الناس، فلم يقتل أحدا.
وفي هذه السنة: قتل أَبُو مسلم.
وَكَانَ سبب ذلك أن أبا مسلم كَانَ قَدْ كتب إِلَى أبي الْعَبَّاس
يستأذنه فِي الحج فِي سنة ست وثلاثين، وإنما أراد أن يصلي بالناس فأذن
لَهُ، وكتب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أبي جعفر وَهُوَ على الجزيرة: أن
أبا مسلم سألني الحج فاكتب إلي تستأذنني فِي ذلك، فإنك إذا كنت بمكة لم
يطمع أن يتقدمك، فكتب إِلَيْهِ، فأذن لَهُ. فَقَالَ أَبُو مسلم: أما
وجد أَبُو 3/ أجعفر عاما يحج فِيهِ/ غير هَذَا!! واضطغنها عليه، فخرجا
فكان أَبُو مسلم يصلح العقاب، ويكسو الأعراب فِي كل منزل، ويصل كل من
سأله، وحفر الآبار، وسهل الطريق، وَكَانَ الصيت له.
(8/4)
فلما صدر الناس عَنِ الموسم نفر أَبُو مسلم
قبل [1] أبي جعفر فتقدمه، فأتاه كتاب بوفاة أبي الْعَبَّاس واستخلاف
أبي جعفر، فكتب إِلَى أبي جعفر يعزيه ولم يهنئه بالخلافة، ولم يقم لَهُ
حَتَّى يلحقه، فغضب أَبُو جعفر فَقَالَ لأبي أيوب: اكتب إِلَيْهِ كتابا
غليظا. فلما أتاه كتاب أبي جعفر كتب إِلَيْهِ يهنئه بالخلافة. فَقَالَ
يزيد بْن أبي أسيد السلمي لأبي جعفر: إني أكره أن تجامعه فِي الطريق
والناس لَهُ أطوع، وليس معك أحد فأخذ برأيه، فكان يتأخر ويتقدم أَبُو
مسلم، وما كَانَ فِي عسكر أبي جعفر غير ستة أدرع، فمضى أَبُو مسلم
إِلَى الأنبار، ودعا عيسى بْن موسى أن يبايع لَهُ، فأبى عيسى، فقدم
أَبُو جعفر فنزل الكوفة، فأتاه خروج عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ إِلَى
الأنبار، وعقده لأبي مسلم وَقَالَ:
سر إِلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو مسلم: إن عَبْد الجبار بْن عَبْد
الرَّحْمَنِ، وصالح بْن الهيثم يعيبانني فاحبسهما. فَقَالَ أَبُو جعفر:
إن عَبْد الجبار على شرطي. وَكَانَ على شرط [2] أبي الْعَبَّاس وصالح
بْن الهيثم أخو أمير المؤمنين من الرضاعة، فلم أكن لأحبسهما لظنك بهما.
فَقَالَ: أراهما آثر عندك مني. فغضب أَبُو جعفر. فَقَالَ أَبُو مسلم:
لم أرد كل هَذَا.
وَقَالَ رجل لأبي أيوب: إني قَدِ ارتبت بأبي مسلم، يأتيه الكتاب من
أمير المؤمنين فيقرأه، ثُمَّ يلوي شدقه، ويرمي بالكتاب إِلَى أبي نصر
مالك بْن الهيثم فيقرأه ويضحك [3] استهزاء!؟ فَقَالَ أَبُو أيوب: نحن
لأبي مسلم أشد تهمة منا لعَبْد الله بن علي، إلا أنا نعلم أن أَهْل
خراسان لا يحبون عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، وقد قتل منهم من قتل.
وَكَانَ أَبُو مسلم قَدْ أصاب من عسكر عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ متاعا
كثيرا وجوهرا كثيرا، فبعث أبو جعفر مولاه أبا الخصيب/ ليحصي ذلك، فغضب
وافترى عليه، وهمّ بقتله، 3/ ب فقيل لَهُ: إنما هو رَسُول. فلما قدم به
أَبُو الخصيب على أبي جعفر أخبره [4] .
وقيل: إنما بعث إِلَيْهِ يقطين بْن موسى بذلك، فَقَالَ أَبُو مسلم: يا
يقطين، أمين على الدماء جائر فِي الأموال. وشتم أبا جعفر، فأبلغه
يقطين، فكتب إِلَى أبي مسلم مَعَ يقطين: إني قَدْ وليتك مصر والشام،
وهي خير من خراسان، فوجّه إلى مصر من أحببت،
__________
[1] في الأصل: «قتل أبي جعفر» .
[2] في ت: «وكان على شرطة أبي العباس» وما أثبتناه من الأصل.
[3] في ت: «ويضحكان»
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 482.
(8/5)
وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن
أحب لقاءك أتيته من قرب. فلما أتاه الكتاب غضب وَقَالَ: هو يوليني
الشام ومصر، وخراسان لي! وعزم على المضي إِلَى خراسان مجمعا على ذلك،
فكتب بذلك يقطين إِلَى أبي جعفر.
وخرج أَبُو جعفر من الأنبار إِلَى المدائن، وكتب إِلَى أبي مسلم فِي
المصير إِلَيْهِ، فكتب أَبُو مسلم، وقد نزل الزاب وَهُوَ على الرواح
إِلَى طريق حلوان: قَدْ كنا نروي عَنْ ملك آل ساسان أن أخوف مَا يكون
من الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء
بعهدك، حريون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة،
فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عَبْد لك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها
نقضت مَا أبرمت من عهدك، ضنا بْنفسي.
فلما وصل الكتاب إِلَى المنصور كتب [إِلَى أبي مسلم: قد فهمت كتابك
وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم] [1] الذين يتمنون اضطراب
حبل الدولة لكثرة جرائمهم، وإنما راحتهم فِي انتشار نظام الجماعة، فلم
سويت نفسك بهم، وأنت [في] [2] طاعتك ومنا صحتك واضطلاعك بما حملت من
أعباء [3] هَذَا الأمر على مَا أنت به! وقد حمل إليك أمير المؤمنين
عيسى بْن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت إليها، وأسأل اللَّه أن يحول
بين السلطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده
وأقرب من طبه [4] من الباب الَّذِي فتحه عَلَيْك.
ثُمَّ إن أبا جعفر وجه إِلَى أبي مسلم جرير بْن يزيد بْن جرير بن عبد
الله البجلي، 4/ أوكان واحد أَهْل زمانه/، فخدعه ورده.
قَالَ جرير: نزلت معه جسر النهروان فتغدينا، فَقَالَ: أين أمير
المؤمنين؟ قلت:
بالمدائن. قَالَ: فِي أي المواضع؟ قلت: فِي صحراء. قَالَ: فما اسم
الموضع؟ قلت:
رومية. فأطرق طويلا ثُمَّ قَالَ: سر ولا حول [5] ولا قوة إلا باللَّه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.
[3] في الأصل: «واصطناعك بما حملت من أعداء» وما أثبتناه من ت.
[4] في ت، الأصل: «من ظنه» والتصحيح من الطبري والطب: هو السحر.
[5] في الأصل: «سيروا لا حول ولا قوة إلا باللَّه» .
(8/6)
قَالَ جرير: وقد كَانَ قيل لَهُ إنك تقتل
أو تموت برومية. فظنها بلاد الروم. ثُمَّ قَالَ:
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 [1] ذهبت والله
نفسي بيدي. ثُمَّ جعل يخاطب نفسه ويقول:
يا أبا مُسْلِم، فتح لك من باب المكايد فِي عدوك وصديقك مَا لم يفتح
لأحد حَتَّى إذا دان لك من بالمشرق والمغرب، خدعك عَنْ نفسك من كَانَ
يهاب بالأمس من ينظر إليك إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
2: 156 [2] .
ثُمَّ تمثل:
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت عند الناس عار [3]
فأقبل وتلقاه الناس وأنزله وأكرمه، وَكَانَ فيمن بعث إِلَيْهِ عيسى بن
موسى، فحلف له بعتق كل مملوك لَهُ، وصدقة كل مَا يملك، وطلاق نسائه،
وَقَالَ: لو خير المنصور بين موت أبيه وموتك لاختار موت أبيه، فإنه لا
يجد منك خلفا.
فأقبل معه، فلما دخل أَبُو مسلم المدائن قَالَ لعيسى بْن موسى: تدري
مَا مثلي ومثلك ومثل عمك؟ مثل ثلاثة نفر كانوا فِي سفر فأتوا على عظام
نخرة، فَقَالَ أحدهم:
عندي طب إذا رأيت عظاما متفرقة ألفتها. فَقَالَ الثاني: وأنا إذا رأيت
عظاما موصولة كسوتها لحما. فَقَالَ الثالث: وأنا إذا رأيت عظاما مكسوة
لحما أجريت فِيهَا الروح.
ففعلوا ذلك، فإذا الَّذِي أحيوه أسد، فَقَالَ الأسد فِي نفسه: مَا
أحياني هؤلاء إلا وهم على أن يميتوني أقدر. فوثب عليهم فأكلهم، والله
ليقتلني وليقتلن عمك، وليخلعنك أو ليقتلنك.
وفي رواية: أن أبا مسلم كتب إِلَى أبي جعفر: أما بعد، فإني اتخذت رجلا
إماما، فحرف القرآن عَنْ مواضعه طمعا فِي قليل قَدْ بغاه اللَّه عز
وجل/ إلى خلقه، فكان كالذي 4/ ب ولي بغرور، فأمرني أن أجرد السيف، وأن
أرفع الرحمة ولا أقيل العثرة، ففعلت توطئة لسلطانك حَتَّى عرفكم من
كَانَ يجهلكم، ثُمَّ استنقذني اللَّه بالتوبة، فإن يعف عني فقديما عرف
به ونسب إِلَيْهِ، وإن يعاقبْني فبما قدمت يداي، وما الله بظلام
للعبيد.
__________
[1] سورة: البقرة، الآية: 156.
[2] سورة: البقرة، الآية: 156.
[3] في ت: «وهل بالموت يا للناس من عار» .
(8/7)
أخبرنا أبو منصور القزاز قال [1] : أخبرنا
أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: حدثنا المعافى
بن زكريا قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يحيى الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا
المغيرة بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الوهاب
قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن المعافى [2] قَالَ: كتب أَبُو مسلم إِلَى
المنصور حين استوحش منه:
أما بعد، فقد كنت اتخذت أخاك إماما وجعلته على الدين دليلا وللوصية
التي زعم أنها صارت إِلَيْهِ، فأوطأني عشوة الضلالة، وأوثقني موثقة
الفتنة [3] ، وأمرني أن آخذ بالظنة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل
المعذرة، فهتكت بأمره حرمات حتم اللَّه صونها، وسفكت دماء فرض اللَّه
حقنها، وزويت الأمر عَنْ أهله، ووضعته منه فِي غير محله، فإن يعف
اللَّه عني فبفضل منه، وإن يعاقب فبما كسبت يداي، وما اللَّه بظلام
للعبيد. ثُمَّ أنساه اللَّه هَذَا- يعني أبا مُسْلِم- حَتَّى جاءه
فقتله.
وفي رواية: أن أبا مسلم خرج يريد خراسان، مراغما مشاقا [4] ، فلما دخل
أرض العراق وارتحل المَنْصُور من الأنبار، فأقبل حَتَّى نزل المدائن،
وأخذ أَبُو مسلم طريق حلوان، فقيل لأبي جَعْفَر أخذ طريق حلوان،
فَقَالَ: رب أمر للَّه دون حلوان [5] .
وَقَالَ أَبُو جعفر لعيسى بْن عَلِيّ وعيسى بْن موسى ومن حضره من بْني
هاشم [6] :
اكتبوا إِلَى أبي مسلم. فكتبوا إِلَيْهِ يعظمون أمره ويشكرونه على مَا
كَانَ منه من الطاعة، ويحذرونه عاقبة الأمر، ويأمرونه بالرجوع إِلَى
أمير المؤمنين، وأن يلتمس رضاه، / 5/ أوبعث أَبُو جعفر بذلك مَعَ أبي
حميد المروزي وَقَالَ لَهُ: كلم أبا مسلم بألين مَا يكلم به أحد، ومنه،
وأعلمه إني رافعه وصانع به مَا لم يصنعه به أحد إن هو صلح [7] وراجع ما
__________
[1] اعتاد ناسخ نسخة الأصل أن يسقط كلمة «قال» قبل «أخبرنا» فيقول:
«أخبرنا أبو منصور أخبرنا أحمد بن علي ... » وهكذا، على العكس من ناسخ
النسخة ت. ولهذا أثبتنا «قال» دون الإشارة في كل مرة لذلك، لعدم إثقال
الهامش بما لا داعي له.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 208.
[3] في بغداد: «وأوهقني في ربقة الفتنة» .
[4] في الأصل: «مشاكا» وما أثبتناه من ت.
[5] تاريخ الطبري 7/ 484.
[6] تاريخ الطبري الموضع السابق.
[7] في ت: «إن هو صالح» .
(8/8)
أحب، فإن أبى أن يرجع فقل لَهُ: يَقُول لك
أمير المؤمنين لست للعباس، وأنا بريء من مُحَمَّد، إن مضيت مشاقا ولم
تأتني، إن وكلت أمرك إِلَى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك بْنفسي،
ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حَتَّى أقتلك أو أموت
قبل ذلك، ولا تقولن لَهُ هَذَا الكلام حَتَّى تيأس من رجوعه، ولا تطمع
منه فِي خير.
فسار أَبُو حميد فِي مأمن من أصحابه ممن يثق بهم، حَتَّى قدموا على أبي
مسلم بحلوان، فدخل عليه أَبُو حميد، فدفع إِلَيْهِ الكتاب وَقَالَ
لَهُ: إن الناس يبلغونك عَنْ أمير المؤمنين مَا لم يقله، وخلاف مَا
عليه رأيه فيك، حسدا وبغيا، يريدون إزالة هَذِهِ النعمة وتغييرها، فلا
تفسد مَا كَانَ منك، وإنك لم تزل أمين آل مُحَمَّد، يعرفك بذلك الناس،
وما ذخر اللَّه لك من الأجر عنده أعظم مما أنت فِيهِ من دنياك، فلا
تحبط أجرك، ولا يستهوينك الشيطان.
فَقَالَ لَهُ أَبُو مسلم: متى كنت تكلمني بهذا؟ فَقَالَ: لأنك دعوتنا
إِلَى هَذَا وإلى طاعة أَهْل بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك، وقلت: إن خالفتكم فاقتلوني.
فعند ذلك أقبل [1] أَبُو مسلم على أبي نصر فَقَالَ: يا مالك، أما تسمع
مَا يَقُول لي هَذَا، مَا هَذَا بكلامه. فَقَالَ: لا تسمع قوله، فما
هَذَا بكلامه، وما بعد هَذَا أشد منه، فامض لأمرك ولا ترجع، فو الله
لئن أتيته ليقتلنك، ولقد وقع فِي نفسه منك شيء لا يأمنك [2] أبدا.
فَقَالَ أَبُو مسلم: قوموا. وأرسل إِلَى نيزك فَقَالَ: مَا ترى؟
فَقَالَ: مَا أرى أن تأتيه، وأرى أن تأتي الري، فتقيم بها، فيصير مَا
بين خراسان والري لك، وهم جندك لا يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت
لَهُ، وإن/ أبي كنت في جندك، وكانت 5/ ب خراسان من ورائك، فرأيت رأيك.
فدعا أبا حميد فَقَالَ: ارجع إِلَى صاحبك، فليس من رأي أن آتيه.
فَقَالَ: قَدِ اعتزمت على خلافه. قَالَ: لا تفعل. قَالَ: مَا أريد أن
ألقاه. فلما آيسه من الرجوع قَالَ لَهُ: مَا أمره أَبُو جعفر أن يقوله.
فوجم طويلا ثُمَّ قَالَ: قم. فكسره ذلك القول وأرعبه.
وَكَانَ أَبُو جعفر قَدْ كتب إِلَى أبي داود وَهُوَ خليفة أبي مسلم
بخراسان حين اتهم أبا مُسْلِم: إن لك إمرة خراسان مَا بقيت. فكتب أَبُو
داود إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج
__________
[1] في ت: «فاقتلوني، فأقبل أبو مسلم» وما أثبتناه من الأصل.
[2] في الأصل: «لأمتك أبدا» وما أثبتناه من ت.
(8/9)
بمعصية خلفاء اللَّه وأهل بيت نبينا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه.
فوافاه كتابه على تلك الحال فزاده رعبا وهما، فأرسل إِلَى أبي حميد
وإلى مالك فَقَالَ لهما:
إني قد كنت عازما على المضي إِلَى خراسان، ثُمَّ رأيت أن أوجه أبا
إسحاق إِلَى أمير المؤمنين، فيأتيني برأيه، فإنه ممن أثق به، وَكَانَ
صاحب حرس أبي مسلم، فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل مَا يحب،
وَقَالَ لَهُ أَبُو جعفر: اصرفه عَنْ وجهه، ولك ولاية خراسان، وأجازه.
فرجع أَبُو إسحاق إِلَى أبي مسلم فَقَالَ لَهُ: مَا أنكرت شيئا، رأيتهم
معظمين لحقك، يرون لك مَا يرون لأنفسهم، وأشار عليه أن يرجع إِلَى أمير
المؤمنين فيعتذر إِلَيْهِ مما كَانَ منه، فاجمع على ذلك، فَقَالَ لَهُ
نيزك: قَدْ أجمعت على الرجوع؟ قَالَ: نعم.
وتمثل:
مَا للرجال مَعَ القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الأقوام
فَقَالَ: أما إذا اعتزمت على هَذَا فخار اللَّه لك، احفظ عني واحدة:
إذا دخلت عليه فأقتله ثم بايع لمن شئت، فإن الناس لا يخالفونك.
فكتب أَبُو مسلم إِلَى أبي جعفر يخبره أنه منصرف إِلَيْهِ، فبينا كتاب
أبي مسلم بين 6/ أيدي أبي جعفر إذ دخل عليه أَبُو أيوب، فرمى أَبُو
جعفر إِلَيْهِ بالكتاب، فقرأه فَقَالَ/ والله لئن ملأت عيني منه
لأقتلنه. فاغتم أَبُو أيوب وَقَالَ فِي نفسه: لئن قتله لا يترك أصحابه
أحدا ممن يتعلق بأبي جعفر حيا.
وَقَالَ إسحاق الموصلي: لما عزم المنصور على الفتك بأبي مسلم هاب ذلك
عمه عيسى بْن عَلِيّ، فكتب إِلَيْهِ يَقُول:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبر ... فإن فساد الرأي أن تتعجلا
فوقع المنصور فِي كتابه:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا
ولا تهمل الأعداء يوما بقدرة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
قَالَ أَبُو إسحاق: والشعر للمنصور.
ثُمَّ سار أَبُو مسلم، فلما دنا من المدائن أمر أمير المؤمنين الناس
فتلقوه، فدخل أَبُو
(8/10)
أيوب على أبي جعفر فَقَالَ: هَذَا الرجل
يدخل العشية، فما تريد أن تصنع؟ قَالَ: أريد أن أقتله حين أنظر
إِلَيْهِ. فَقَالَ: إن دخل عَلَيْك ولم تخرج [1] لم آمن البلاء، ولكن
إذا دخل عليك فأذن له أن ينصرف، فإذا غدا عَلَيْك رأيت رأيك.
فلما دخل عليه سلم وقام قائما على قدميه بين يديه. فَقَالَ: انصرف يا
عَبْد الرَّحْمَنِ فأرح نفسك، وادخل الحمام، فإن للسفر قشفا، ثُمَّ أغد
علي. فانصرف، ثُمَّ ندم أَبُو جعفر، وافترى على أبي أيوب وَقَالَ: متى
أقدر على هَذِهِ الحال ولا أدري مَا يحدث فِي ليلتي!.
فلما أصبحوا جاء أَبُو أيوب فَقَالَ لَهُ أَبُو جعفر: يا ابْن اللخناء،
لا مرحبا بك، أنت منعتني منه أمس، والله مَا غمضت عيني الليلة. ثُمَّ
شتمه حَتَّى خاف أن يأمر بقتله. ثُمَّ قَالَ: ادع لي عثمان بْن نهيك.
فدعاه فَقَالَ: يا عثمان، كيف بلاء أمير المؤمنين عندك؟
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنما أنا عبدك، والله لو أمرتني
أن أتّكىء على سيفي حَتَّى يخرج من ظهري لفعلت. قَالَ: كيف أنت إن
أمرتك بقتل/ أبي مسلم- فوجم ساعة لا 6/ ب يتكلم. فقال له أبو أيوب:
مالك لا تتكلم؟ فَقَالَ بصوت ضعيف: أقتله. قَالَ: انطلق فجيء بأربعة من
وجوه الحرس أقوياء، فمضى، فلما كَانَ عند الرواق ناداه: يا عثمان يا
عثمان، ارجع واجلس وأرسل من تثق به من الحرس فليحضر منهم أربعة. فلما
حضروا قَالَ لهم أَبُو جعفر نحوا مما قَالَ لعثمان، فقالوا: نقتله.
قَالَ: كونوا خلف الرواق. فإذا صفقت فاخرجوا فاقتلوه [2] .
فأرسل إِلَى أبي مسلم رسلا بعضهم على أثر بعض، فقالوا: قَدْ ركب إلى
عيسى بن موسى. فدعا له عيسى بالغداء، ثُمَّ خرج إِلَى أبي جعفر وأبو
نصر حاجبه بين يديه وحربته معه، فلما قربا من الباب خرج سلام الحاجب
فَقَالَ: انزل. فنزل فدخل الدهليز وأغلق الباب دونه، فَقَالَ أَبُو
مُسْلم: يدخل خاصة أصحابي، فَقَالَ لَهُ الربيع: لم نؤمر بذلك. فنزع
سيفه من وسطه وَقَالَ: الآن عرف الرامي موضع سهمه- وَهُوَ مثل يضرب لمن
أمكن عدوه من نفسه- فلما بصر بالمنصور انحرف إِلَى القبلة، فخر ساجدا،
ثُمَّ دنا ليقبل أطرافه، فَقَالَ لَهُ: وراءك يا ابْن اللخناء. فنصب
لَهُ كرسي فقعد فَقَالَ لَهُ أَبُو
__________
[1] في الأصل: «ولم أخرج» وما أثبتناه من الأصل.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 488.
(8/11)
جَعْفَر: أَخْبَرَنِي عَنْ نصلين أصبتهما
فِي متاع عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ. فَقَالَ: هَذَا أحدهما الَّذِي علي.
قَالَ: أرنيه. فانتضاه وناوله إياه، فهزه أَبُو جعفر ثُمَّ وضعه تحت
فراشه وأقبل عليه يعاتبه. فَقَالَ لَهُ: اخترناك وأنت لا تدري أية بيضة
انفقأت عَنْ رأسك، ولا من أي وكر نهضت، خامل ابْن خامل، فل ابْن فل، ذل
ابْن ذل، عشت أيام حداثتك، وخير يوميك، يوم تشتري فيه لعاصم بن يونس
إزار قدره. ومكشحة داره، فرقأنا بك المنابر، ووطئنا أعناق العرب والعجم
عقبيك، أَخْبَرَنِي عَنْ كتابك إلى أبي العباس تنهاه عن 7/ أالموات،
أردت أن تعلمنا الدين. قَالَ: ظننت أخذه/ لا يحل، فكتب إلي، فلما أتاني
كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم. قَالَ: فأخبرني
عَنْ تقدمك إياي فِي الطريق؟ قَالَ: كرهت اجتماعنا على الماء، فيضر ذلك
بالناس، فتقدمت التماس الرفق. قَالَ: فقولك حين أتاك الخبر بموت أبي
الْعَبَّاس لمن أشار عَلَيْك أن تنصرف إلي: نقدم فنرى رأينا، ومضيت،
فلا أنت أقمت حَتَّى ألحقك ولا أنت رجعت إلي؟
قَالَ: منعني مَا أخبرتك من طلب الرفق بالناس، وقلت: نقدم الكوفة.
قَالَ: فجارية عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، أردت أن تتخذها؟ قَالَ: لا،
ولكن خفت أن تضيع فحملتها فِي قبة ووكلت بها من يحفظها. قَالَ:
فمراغمتك وخروجك إِلَى خراسان؟ قَالَ: خفت أن يكون قَدْ دخلك مني [شيء]
[1] ، فقلت: آتي خراسان، فأكتب إليك بعذري، ولو رأينا ذهب مَا فِي نفسك
علي؟ قَالَ: تاللَّه مَا رأيت كاليوم قط، والله ما زدتني إلا غضبا.
قَالَ: ليس يقال لي هَذَا بعد بلائي، وما كَانَ مني؟ قَالَ: يا ابْن
الخبيثة، والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت مَا عملت فِي
دولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا، ألست الكاتب إلي تبدأ
بْنفسك!؟ ألست تخطب أمينة بْنت علي، وتزعم أنك ابْن سليط بْن عَبْد
اللَّه بْن عباس، لقد ارتقيت- لا أم لك- مرتقى صعبا.
وأخذ يعتذر وأبو جعفر يعاتبه، إِلَى أن قَالَ أَبُو مسلم: دع هَذَا،
فما أصبحت أخاف أحدا إلا اللَّه. فغضب وشتمه وضربه بعمود، وصفق بيديه،
فخرجوا عليه، فضربه عثمان فلم يصنع شيئا، لم يزد على قطع حمائل سيفه،
وضربه آخر فقطع رجله، فصاح المنصور: اضربوا قطع اللَّه أيديكم. فَقَالَ
أَبُو مسلم فِي أول ضربة: استبقني لعدوك.
7/ ب فَقَالَ: وأي عدو أعدى إلي منك!؟ فصاح: العفو. / فقال المنصور: يا
ابن اللخناء،
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.
(8/12)
العفو والسيوف قَدِ اعتورتك [1] ؟! ثُمَّ
قَالَ: اذبحوه، فذبحوه، وجاء عيسى بْن موسى فَقَالَ: أين أَبُو مسلم؟
فَقَالَ: مدرج فِي الكساء. فَقَالَ: إنا للَّه، وجعل يلطم ويقول:
أحنثتني فِي أيماني، وأهلكتني. فَقَالَ لَهُ: علي لكل شيء تخرجه ضعفاه،
ويحك اسكت، فما تم سلطانك ولا أمرك إلّا اليوم. ثُمَّ رمى به فِي دجلة.
وذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة [2] .
وَقَالَ المنصور:
زعمت أن الَّذِي لا يقتضي ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
سقيت كأسا كنت تسقي بها ... أمر فِي الحلق من العلقم
وَكَانَ أَبُو مسلم قَدْ قتل في دولته ستمائة ألف صبرا.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أخبرنا أبو الطيب الطبري قال:
حَدَّثَنَا المعافى قَالَ: حَدَّثَنَا الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا
الغلابي قال:
حدّثنا يعقوب، عَنْ أبيه قَالَ [3] : خطب المنصور بالناس بعد قتل أبي
مسلم فَقَالَ: أيها الناس، لا تنفروا أطراف النعم بقلة الشكر فتحل بكم
النقم، ولا تسروا غش الأئمة، فإن أحدا لا يسر منكرا إلا ظهر في فلتات
لسانه وصفحات وجهه، [وطوالع نظره] [4] وإنا لن نجهل حقوقكم مَا عرفتم
حقنا، ولا ننسى الإحسان إليكم مَا ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص
[5] أوطأنا أمّ رأسه خبئ هَذَا الغمد، وإن أبا مسلم بايع لنا على أنه
من نكث بيعتنا، أو أضمر غشا لنا فقد أبحنا دمه [6] ، ومكث وغدر وفجر،
فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا.
قَالَ علماء السير: ثُمَّ إن أبا جعفر هم بقتل أبي إسحاق صاحب حرس أبي
مسلم، وبقتل نصر بن مالك- وَكَانَ على شرط أبي مسلم [7]- فكلمه أبو
الجهم وقال: يا أمير
__________
[1] في ت: «اعتررتك» وما أثبتناه من الأصل.
[2] تاريخ الطبري 7/ 491.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 210.
[4] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[5] في ت: «القصير» وما أثبتناه من الأصل.
[6] «فعدا بأجنادمه» هكذا بالأصل، وهي ساقطة من ت.
[7] «وكان على شرط أبي مسلم» ساقطة من ت وأثبتناه من ت.
(8/13)
8/ أالمؤمنين، جنده جندك، أمرتهم بطاعته/
فأطاعوه. فدعا أبا إسحاق وقال: أنت المبايع لعدو الله أبي مسلم على مَا
كَانَ يفعل. فجعل يلتفت يمينا وشمالا تخوفا من أبي مسلم.
فَقَالَ لَهُ المنصور: تكلم بما أردت، فقد قتل اللَّه الفاسق. وأمر
بإخراجه إِلَيْهِ مقطعا، فخر أَبُو إسحاق ساجدا، فأطال السجود وَقَالَ:
الحمد للَّه، والله [1] مَا أمنته يوما واحدا، وما جئته يوما إلا وقد
أوصيت وتكفنت وتحنطت. فَقَالَ: استقبل طاعة خليفتك، وأحمد اللَّه
الَّذِي أراحك من الفاسق، ثُمَّ دعا مالك بْن الهيثم فكلمه بمثل ذلك،
فاعتذر إِلَيْهِ بأنه أمره بطاعته، ثُمَّ أمرهم بتفريق جند أبي مسلم.
وبعث إِلَى عدة من قواد أبي مسلم بجوائز سنية، وأعطى جميع جنوده حَتَّى
رضوا [2] .
وَكَانَ أَبُو مسلم قَدْ خلف أصحابه بحلوان وقدم المدائن فِي ثلاثة
آلاف، وخلف أبا نصر على ثقله وَقَالَ: أقم حَتَّى يأتيك كتابي، قَالَ:
فاجعل بيني وبينك آية أعرف بها كتابك. قال: إن أتاك كتابي مختوما بْنصف
خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بخاتم كله فلم أكتبه.
فلما قتل أَبُو مسلم كتب أَبُو جعفر إِلَى أبي نصر كتابا عَنْ لسان أبي
مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف عنده، وأن يقدم. وختم الكتاب بخاتم أبي
مسلم، فلما رأى أَبُو نصر نقش الخاتم تاما علم أن أبا مسلم لم يكتبه،
فَقَالَ: أفعلتموها، وانحدر إلى همدان وهو يريد خراسان، فكتب أَبُو
جعفر إِلَى أبي نصر بعهده على شهرزور، فلما مضى العهد جاءه الخبر أنه
قد توجه إِلَى خراسان، فكتب أَبُو جعفر إِلَى عامله بهمدان: إن مر بك
أَبُو نصر فاحبسه. فأخذه فحبسه، فقدم صاحب [الكتاب] [3] بالعهد لأبي
نصر فخلى سبيله، ثُمَّ قدم كتاب آخر بعده بيومين يقول فِيهِ: إن كنت
أخذت أبا نصر فاقتله.
فَقَالَ: جاءني كتاب عهده فخليت سبيله [4] .
وقدم أَبُو نصر على أبي جعفر فَقَالَ لَهُ: أشرت على أبي مسلم بالمضي
إلى
__________
[1] في الأصل: «والّذي ما أمنته» وما أثبتناه من ت.
[2] انظر تاريخ الطبري 7/ 492- 493.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 494.
(8/14)
خراسان فَقَالَ: نعم يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، كانت لَهُ عندي أياد وصنائع، فاستشارني/ 8/ ب فنصحته،
وأنت يا أمير المؤمنين إن اصطنعتني نصحت لك [1] وشكرت. فعفا عنه [2] .
وفي رواية: أن المنصور كتب إِلَى عامل أصبهان: للَّه دمك إن فاتك- يعني
أبا نصر فأخذه وأوثقه وبعثه إِلَيْهِ فصفح عنه [3] .
وقد كَانَ أَبُو الجهم بْن عطية أحد النقباء، وَكَانَ عينا لأبي مسلم
على المنصور، فلما اتهمه المنصور طاوله يوما بالحديث حَتَّى عطش،
فاستسقى ماء فدعي لَهُ بسويق لوز ممزوج بالسكر، وفيه سم، فشربه، فلما
استقر فِي جوفه أحس بالموت، فوثب مسرعا فَقَالَ لَهُ: إِلَى أين؟
قَالَ: إِلَى حيث أرسلتني. فرجع إِلَى رحله فمات. فَقَالَ الشاعر:
تجنب سويق اللوز لا تقربْنه ... فشرب سويق اللوز أودى أبا الجهم
وذهبت «شربة أبي الجهم» مثلا للشيء الطيب الطعم الخبيث العاقبة.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد عَلِيّ بْن أَحْمَد بْن سعيد الحافظ: إن المنصور
كَانَ يَقُول: ثلاث كن فِي صدري شفى اللَّه منها: كتاب أبي مسلم إلي
وأنا خليفة: عافانا اللَّه وإياك من السوء، ودخول رسوله علينا وقوله:
أيكم ابْن الحارثية؟ وضرب سليمان بْن حبيب ظهري بالسياط.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: كَانَ سليمان قَدِ استعمل المنصور على بعض كور
فارس قبل أن تصير الخلافة إِلَى بْني الْعَبَّاس، فاحتجز المال لنفسه،
فضربه سليمان بالسياط ضربا شديدا وأغرمه المال، فلما ولي الخلافة ضرب
عنقه.
وفي هذه السنة: خرج ملبد بْن حرملة الشيباني بناحية الجزيرة:
فسارت إليه روابط الجزيرة وهم ألف، فقاتلهم ملبد فهزمهم، وقتل من قتل
منهم، ثُمَّ سارت إِلَيْهِ روابط الموصل فهزمهم، ثُمَّ سار إِلَيْهِ
يزيد بْن حاتم المهلبي، فهزمه أيضا بعد قتال شديد، ثُمَّ وجّه إليه أبو
جعفر مولاه المهلهل فِي ألفين من نخبة الجند، فهزمهم ملبّد
__________
[1] في الأصل: «نصحتك» وما أثبتناه من ت.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 494.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 494.
(8/15)
واستباح عسكرهم، ثُمَّ وجه إِلَيْهِ بعد
ذلك مرارا [1] ، فهزم الكل إِلَى أن [2] قدم حميد بن 9/ أقحطبة فهزمه/
أيضا، وتحصن منه حميد، وأعطاه مائة ألف درهم حَتَّى كف عنه [3] .
وزعم الواقدي أن ظهور ملبد كَانَ فِي سنة ثمان وثلاثين.
وفِي هذه السنة: حج بالناس إسماعيل بْن علي بن عَبْد اللَّهِ بن عباس،
وكان على مكة العباس بن عبد الله بن معبد، وعلى المدينة زياد بْن عبيد
اللَّه، ومات الْعَبَّاس عند انقضاء الموسم، فضم إسماعيل عمله إِلَى
زياد، فأقره أَبُو جعفر [4] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْن
أيوب قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا
أَبُو علي الطوماري قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن
يحيى قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار قَالَ: حَدَّثَنِي عمي
مُصْعَب بْن عثمان قَالَ: دخل أَبُو حمزة الربعي من ولد ربيعة بن
الحارث بن عبد المطلب على زياد بْن عبيد اللَّه الحارثي وَهُوَ وال على
المدينة فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير، بلغني أن أمير المؤمنين المنصور
وجه إليك بمال يقسمه على القواعد والعميان والأيتام. قَالَ: [نعم] [5]
قَدْ كَانَ ذلك، فتقول ماذا؟ قَالَ: اكتبْني فِي القواعد. قَالَ: أي
رحمك اللَّه، إنما القواعد النساء الَّتِي قعدن عَنِ الأزواج! وأنت
رجل! قَالَ: فاكتبْني فِي العميان. قَالَ: أما هَذِهِ فنعم، اكتبه يا
غلام، فقد قَالَ اللَّه تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ
وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ 22: 46 [6] وأنا
أشهد أن أبا حمزة أعمى. قَالَ: واكتب بْني فِي الأيتام. قَالَ: وذاك،
اكتبهم يا غلام، فمن كَانَ أَبُو حمزة أباه فهو يتيم. قَالَ: فأخذ
واللَّهِ فِي العميان، وأخذ بْنوه فِي الأيتام.
وَكَانَ على الكوفة عيسى بْن موسى. وعلى البصرة وأعمالها سليمان بن
علي.
وعلى قضائها عمرو بْن عامر السلمي، وعلى خراسان أَبُو داود خالد بْن
إِبْرَاهِيم. وعلى الجزيرة حميد بْن قحطبة. وعلى مصر صالح بن علي [7] .
__________
[1] في الطبري: «ذلك مرارا» .
[2] في الأصل: «وهو يهزم الكل» وما أثبتناه من ت.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 495- 496.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 496.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.
[6] سورة: الحج، الآية: 46.
[7] انظر: تاريخ الطبري 7/ 496.
(8/16)
ذكر من توفي في هذه
السنة من الأكابر
737- خير بْن نعيم بْن مرة بْن كريب، أَبُو نعيم الحضرمي [1] .
ولي القضاء والقصص فِي آخر خلافة بْني أمية وأول خلافة بْني
الْعَبَّاس، وَكَانَ فقيها.
روى عَنْ/ عطاء بْن أبي رباح. وروى عنه: يزيد بْن أبي حبيب، وحيوة بن
9/ ب شريح، والليث، وابْن لهيعة.
قَالَ سهيل بْن عَلِيّ: كنت أجالس خير بْن نعيم، فرأيته يتجر فِي
الزيت، فقلت لَهُ: وأنت أيضا تتجر [2] ؟ فضرب بيده على كتفي، ثُمَّ
قَالَ: انتظر حَتَّى تجوع ببطن غيرك. فقلت فِي نفسي: كيف يجوع الإنسان
ببطن غيره. فلما بليت بالعيال إذا أنا أجوع ببطونهم.
تُوُفِّيَ خير بْن نعيم في هذه السنة.
738- عَبْد الرَّحْمَنِ، أَبُو مسلم المروزي. صاحب الدولة العباسية [3]
.
روى عَنْ أبي الزُّبَيْر، وثابت البناني، وغيرهما.
ولد بأصبهان، وكان أبوه أوصى به إلى عيسى بن موسى السراج، فحمل إلى
الكوفة وهو ابن سبع سنين، فقال له إبراهيم بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس لما عزم على توجيهه إلى خراسان أن غير
اسمك. فَقَالَ: قَدْ سميت نفسي عَبْد الرَّحْمَنِ. ومضى وله ذؤابة،
فركب حمارا بإكاف وَهُوَ ابْن سبع عشرة سنة فَقَالَ لَهُ:
خذ نفقة من مالي، لا أريد أن تمضي بْنفقة من مالك ولا من مال عيسى.
وَكَانَ شجاعا ذا رأي وعقل وحزم، إلا أنه كَانَ فاتكا.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْد اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ
قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْحَبِيبِيُّ قَالَ: أخبرنا محمد بن عبدك قال: أخبرنا
__________
[1] تقريب التهذيب 1/ 230.
[2] في الأصل، ت: «تتحد» .
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 207- 211.
(8/17)
مُصْعَبُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبِي يَقُولُ: قَامَ رَجْلٌ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ يَخْطُبُ
فقال له:
ما هذا السواد الَّذِي أَرَى عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ
وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وَهَذِهِ ثِيَابُ الهيبة وثياب
الدولة، يا غلام، اضرب عنقه [1] .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني
الأزهري قال: حدّثنا محمد بن جعفر النجار قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
أَحْمَد الجلوذي قَالَ: حدّثنا 10/ أمحمد بن زكويه قال: روي لنا أن أبا
مسلم قَالَ: ارتديت الصبر/، وآثرت الكتمان، وحالفت الأحزان والأشجان،
وسامحت المقادير والأحكام حَتَّى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية بغيتي،
ثُمَّ أنشأ يَقُول:
قَدْ نلت بالحزم والكتمان مَا عجزت ... عنه ملوك بْني مروان إذ حشدوا
مَا زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا ... من رقدة لم ينمها [2] قبلهم أحد
طفقت أسعى عليهم فِي ديارهم ... والقوم فِي ملكهم بالشام قَدْ رقدوا
ومن رعى غنما فِي أرض مسبعة ... ونام عنها تولى رعيها الأسد
[قَالَ علماء السير] [3] : ظهر أَبُو مسلم لخمس بقين من رَمَضَان سنة
تسع وعشرين ومائة، ثُمَّ سار إلى أبي الْعَبَّاس أمير المؤمنين سنة ست
وثلاثين وقيل [4] فِي سنة سبع وثلاثين بالمدائن. فبقي أَبُو مسلم فيما
كَانَ فِيهِ ثمانية وسبعين شهرا غير ثلاثة عشر يوما.
وقد ذكرنا كيفية قتله فِي حوادث هَذِهِ السنة.
قَالَ مؤلف الكتاب: نقلت من خط أبي الوفا بْن عقيل قَالَ: وجدت فِي
تعاليق محقق من أَهْل العلم: أن سبعة مات كل واحد منهم وله ست
وَثَلاثُونَ سنة، فعجبت من قصر أعمارهم مع بلوغ كل منهم الغاية فيما
كَانَ فِيهِ، وانتهى إِلَيْهِ، فمنهم: الإسكندر ذو القرنين، وأبو مسلم
صاحب الدولة العباسية، وابْن المقفع صاحب الخطابة والفصاحة، وسيبويه
صاحب التصانيف والمتقدم فِي علم العربية، وأبو تمام الطائي وما بلغ من
الشعر
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 10/ 208.
[2] في الأصل: «لم ينلها» وما أثبتناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.
[4] في ت: «وقيل في سنة.....»
(8/18)
وعلومه، وإبراهيم النظام المعمق فِي علم
الكلام، وابن الريوندي وما انتهى إليه من التوغيل فِي المخازي. فهؤلاء
السبعة لم يجاوز أحد منهم ستا وثلاثين سنة، بل اتفقوا على هَذَا القدر
من العمر.
739- عثمان بْن عروة بْن الزُّبَيْر بْن العوام [1] .
سمع أباه، وروى عنه أخوه هشام، وابْن عيينة.
وَكَانَ قليل الحديث، وَكَانَ من وجوه قريش وساداتهم، وَكَانَ/ جميل
الوجه، 10/ ب حسن الثوب والمركب، عطرا، حتى كان أبوه يَقُول لَهُ
وَهُوَ يغلف لحيته بالغالية: إني لأراها ستقطر.
أَنْبَأَنَا الحسين بْن مُحَمَّد بْن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر
بن المسلمة قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو طاهر المخلص قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن سليمان
بْن داود والطوسي قَالَ: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني مصعب بْن
عثمان قَالَ: وفد عثمان بْن عروة على مروان بْن مُحَمَّد فأخبر به،
فَقَالَ: أنا راكب غدا، فلا ترونيه حَتَّى أتوسمه فِي الناس، فركب،
فتصفح وجوه الناس، ثُمَّ أقبل على بعض من معه فَقَالَ: ينبغي أن يكون
ها ذاك عثمان بْن عروة، وأشار إِلَيْهِ. فقالوا: هو هو يا أمير
المؤمنين. وَكَانَ وسيما جسيما فأعطاه مروان مائة ألف درهم، ثُمَّ قدم
من عند مروان فأغلي كراء الحمر من كثرة من تلقاه.
فقلت لَهُ: ولم ذاك؟ فَقَالَ: يرجون والله جوائزه.
740- واهب بْن عَبْد اللَّه، أَبُو عَبْد اللَّه المعافري الكعبي [2] .
يروي عَنْ: ابْن عُمَر، وابْن عَمْرو، وعقبة بْن عامر.
روى عنه: ابْن لهيعة وغيره.
تُوُفِّيَ في هذه السنة ببرقة، وكان قد عمّر.
__________
[1] انظر: تقريب التهذيب 2/ 12.
[2] تقريب التهذيب 2/ 329.
(8/19)
ثم دخلت سنة ثمان
وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
دخول قسطنطين طاغية الروم ملطية عنوة، وقهره لأهلها، وهدمه سورها، إلا
أنه عفا عمن فِيهَا من المقاتلة والذرية [1] .
وَفِيهَا: غزا الْعَبَّاس بْن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاس الصائفة مَعَ صالح بْن عَلِيّ، فوصله صالح
بأربعين ألف دينار، وخرج معهم عيسى بْن عَلِيّ، فوصله أيضا بأربعين ألف
دينار، وبْنى صالح مَا كَانَ صاحب الروم هدمه من ملطية.
وقد قيل: إن خروج صالح والعباس إِلَى ملطية للغزو كَانَ فِي سنة تسع
وثلاثين ومائة [2] .
وَفِيهَا: بايع عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ لأبي جعفر وَهُوَ/ مقيم
بالبصرة مَعَ أخيه سليمان بْن علي.
وفيها: خلع جمهور بْن مرار العجلي المنصور:
وَكَانَ السبب أن جهور هزم سنباذ، وحوى مَا فِي عسكره، وكان فيه خزائن
أبي مسلم التي خلفها بالري، فلم يوجهها إِلَى أبي جعفر، فخاف فخلعه،
فوجه إِلَيْهِ أَبُو جعفر مُحَمَّد بْن الأشعث الخزاعي فِي جيش عظيم،
فلقيه مُحَمَّد فاقتتلوا قتالا شديدا، وهرب جهور، فلحق بأذربيجان، ثم
أخذ بعد ذلك وقتل [3] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 497.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 497.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 497.
(8/20)
وَفِيهَا: قتل الملبد الخارجي:
وقد ذكرنا شأنه فِي السنة الَّتِي قبلها، وما جرى لَهُ إِلَى أن تحصن
منه حميد. ثُمَّ وجه أَبُو جعفر إِلَيْهِ عَبْد العزيز بْن عَبْد
الرَّحْمَنِ أخا عَبْد الجبار، وضم إِلَيْهِ زياد بْن مشكان، فأكمن
لَهُ الملبد مائة فارس، فلما لقيه عَبْد العزيز خرج عليه الكمين فهزموه
وقتلوا عامة أصحابه، فوجه إِلَيْهِ أَبُو جعفر خازم بْن خزيمة فِي نحو
من ثمانية آلاف، فالتقوا فتسايروا من منزل إِلَى منزل، فقتل الملبد فِي
أكثر من ألف من أصحابه، وهرب الباقون فتبعوهم فقتلوا منهم مائة وخمسين
[1] .
وفى هذه السنة: حج بالناس الفضل بْن صالح بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه
بْن عباس.
وذكر أنه خرج من الشام حاجا، فأدركته ولايته على الموسم والحج بالناس
فِي الطريق، فمر بالمدينة، فأحرم منها [2] .
وَكَانَ زياد بْن عبيد اللَّه على مكة والمدينة والطائف.
وعلى الكوفة وسوادها عيسى بْن موسى.
وعلى البصرة وأعمالها سليمان بْن عَلِيّ. وعلى قضائها سوار بْن عَبْد
اللَّه.
وعلى خراسان أَبُو داود خالد بْن إِبْرَاهِيم.
وعلى مصر صالح بْن عَلِيّ [3] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
741- سليمان بْن أبي سليمان- وَهُوَ ابْن فيروز- أَبُو إسحاق الشيباني
[4] .
سمع ابْن أبي أوفى، والشعبي [5] ، وعكرمة.
روى عنه: سليمان التيمي، والدوري، وشعبة/.
[تُوُفِّيَ في هذه السنة] [6] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 498.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 499.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 499.
[4] انظر ترجمته في: التاريخ الكبير 4/ 16، والجرح والتعديل 4/ 135.
وتهذيب التهذيب 4/ 197.
[5] في الأصل: «الشمي» وما أثبتناه من ت.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
(8/21)
ثُمَّ دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
إقامة صالح بْن عَلِيّ والعباس بْن مُحَمَّد بملطية حَتَّى استتما
بْناء ملطية، ثُمَّ غزوا الصائفة، فوغلا فِي أرض الروم [1] .
وفي هذه السنة: كَانَ الفداء الَّذِي جرى بين المنصور وصاحب الروم،
واستنقذ المنصور منهم أسرى المسلمين [2] .
وَفِيهَا: سار عَبْد الرَّحْمَنِ بْن معاوية بْن هشام بْن عَبْد الملك
بْن مروان إِلَى الأندلس، فملكه أهلها أمرهم، فولده ولاتها [3] .
وَفِيهَا: وسع أَبُو جعفر المسجد الحرام [4] .
وَفِيهَا: عزل سليمان بْن عَلِيّ عَنْ ولاية البصرة وأعمالها، وولي مَا
كَانَ إِلَيْهِ سفيان بْن معاوية وذلك فِي رَمَضَان.
وقيل: إنما كَانَ عزل ذلك وتولية هَذَا فِي سنة أربعين، ولما عزل
سليمان توارى عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ وأصحابه خوفا على أنفسهم.
فإنا قد ذكرنا أن عَبْد اللَّه لما انهزم مضى إِلَى سليمان، فكان عنده،
وكتب أبو
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 500.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 500.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 500.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 500.
(8/22)
جعفر إِلَى سليمان وعيسى بْن عَلِيّ فِي
إشخاص عَبْد اللَّه وأعطاهما الأمان مَا رضيا به، فلما خرجا به أتى به
وبأصحابه إلى أبا جعفر يوم الخميس لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً
بَقِيتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
ولما دخل سليمان وعيسى على أبي جعفر أعلماه حضور عَبْد اللَّه، وسألاه
الإذن لَهُ، فأنعم لهما بذلك، وشغلهما بالحديث، وقد كَانَ هيأ لعَبْد
اللَّه محبسا فِي قصره، وأمر به أن يصرف إِلَيْهِ بعد دخول سليمان
وعيسى عليه، ففعل ذلك به، ثُمَّ قَالَ لسليمان وعيسى: سارعا بعبد الله.
فخرجا، فلم يرياه في المكان الذي خلفاه فيه، فعلما أنه قَدْ حبس، فرجعا
إِلَى أبي جعفر، فحيل بينهما وبينه. وقتل جماعة من أصحاب عَبْد اللَّه
وحبسوا [1] .
وفي هذه السنة: حج بالناس الْعَبَّاس بْن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ/
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ 12/ أعباس [2] .
وَكَانَ على مكة والمدينة والطائف زياد بْن عبيد اللَّه الطائي.
وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى.
وعلى البصرة وأعمالها سفيان بْن معاوية المهلبي، وعلى قضائها سوار بْن
عَبْد اللَّه.
وعلى خراسان أَبُو داود خالد بْن إِبْرَاهِيم [3] .
وسميت هَذِهِ السنة بسنة الخصب، لاتصال الخصب فِيهَا.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
742- جميل بْن كريب المعافري.
من أَهْل إفريقية. حدث عَنْ أبي عَبْد الرحمن الجيلي، وكان من أهل
العلم
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 500- 502.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 502.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 502.
(8/23)
والدين. وسأله الأمير عَبْد الرَّحْمَنِ
بْن حبيب الفهري تولية القضاء فامتنع، وتمارض وشرب ماء التبْن حَتَّى
اصفر لونه، فبعث [إِلَيْهِ] [1] عَبْد الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَهُ: إنما
أردت أن تكون عونا على الأمر، وأقلدك أمر المسلمين فتحكم علي وعلى من
دوني بما تراه من الحق، فاتق اللَّه فِي الناس. فَقَالَ لَهُ جميل:
آللَّه إنك لتفعل؟ فقال: آللَّه، فقبل، فما مر إلا أيام حَتَّى أتاه
رجل يدعي على عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حبيب دعوى، فمضى معه إِلَى باب دار
الإمارة، فَقَالَ للحاجب: أعلم الأمير بمكاني، وأن هَذَا يدعي عليه
بدعوى. فدخل فأعلمه. وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ من أغنى من ولي
أفريقية، فلبس رداء ونعلين وخرج إِلَيْهِ، فأقعده جميل مقعد الخصم مَعَ
صاحبه، ثُمَّ نظر بينهما، فأنصفه عَبْد الرَّحْمَنِ.
وَكَانَ جميل يركب حمارا ورسنه ليف، فمر يوما فعرض لَهُ خصمان [2] فِي
موضع، فنزل عَنْ حماره، وقعد فأراد أحدهما أن يمسك رأس الحمار، فمنعه
وأمسكه هو، ثُمَّ ركب.
وَكَانَ البربر قَدْ رحلوا إِلَى القيروان، فخرج إليهم الناس ومعهم
ابْن كريب، فاقتتلوا فقتل ابْن كريب في هذه السنة.
743- خالد بْن يزيد، مولى عمير [3] بْن وهب الجهني، يكنى أبا عَبْد
الرحيم [4] .
كَانَ فقيها مفتيا، وآخر من حدث عنه بمصر المفضل بْن فضالة.
تُوُفِّيَ في هذه السنة.
12/ ب
744- داود/ بْن أبي هند، أَبُو بكر- واسم أبي هند: دينار- مولى لآل
الأعلم القشريين [5] .
ولد بسرخس، وروى عَنْ أنس، وسعيد بْن المسيب، وأبي عثمان النهدي، وأبي
العالية، والحسن. وكان يفتي في زمن الحسن.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.
[2] في ت: «له خصما» وما أثبتناه من الأصل.
[3] «خالد» ساقطة من ت، وفي الأصول: «مولى عمرو بن وهب» والتصحيح من
كتب الرجال، وترجمته في: تقريب التهذيب 1/ 220، والجرح والتعديل 3/
1919.
[4] انظر ترجمته في: الجرح والتعديل 3/ 358، والتاريخ الكبير 3/ 180.
والتهذيب 2/ 129.
[5] «القشريين» ساقطة من ت. انظر ترجمته في: الجرح والتعديل 3/ 411
والتاريخ الكبير 3/ 231، وطبقات ابن سعد 7/ 255.
(8/24)
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْبَاقِيُّ قَالَ: أَنْبَأَنَا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال:
أخبرنا ابْن معروف قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن الفهم قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْن عَبْد اللَّه
قَالَ: حَدَّثَنَا سفيان قَالَ: سمعت داود بْن أبي هند يَقُول:
أصابْني- يعني الطاعون- فأغمي عليّ، وكأن اثنان أتياني، فغمز أحدهما
عكوة لساني، وغمز الآخر أخمص قدمي، فَقَالَ: أي شيء تجد؟ فَقَالَ:
تسبيحا وتكبيرا، وشيئا من خطو إِلَى المساجد وشيئا من قراءة القرآن.
قَالَ: ولم أكن أخذت القرآن حينئذ، فعوفيت وأقبلت على القرآن فتعلمته.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ قال:
أخبرنا حمد بن أحمد الحداد قال:
أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا عبد
الله بن محمد قال: حدثني الفضل بْن جعفر عَنْ عَمْرو بْن عَلِيّ قَالَ:
سمعت ابْن أبي عدي يَقُول: صام داود أربعين سنة لا يعلم به أهله. كَانَ
خزازا يحمل معه غداءه من عندهم فيتصدق به فِي الطريق ويرجع عشيا فيفطر
معهم.
تُوُفِّيَ داود في هذه السنة.
745- يونس بْن عبيد، أَبُو عَبْد اللَّه، مولى لعبد القيس [1] .
أسند عَنْ أنس، والحسن، وابْن سيرين، وعطاء، وعكرمة.
وَكَانَ عالما ثقة زاهدا.
أَخْبَرَنَا ابن ناصر قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني قال: حدثنا عُمَر بْن أَحْمَد بْن
عَمْرو قَالَ: حَدَّثَنَا رستة قَالَ: سمعت زهيرا يَقُول: كَانَ يونس
بْن عُبَيْد خزازًا، فجاء رجل يطلب ثوبا، فَقَالَ لغلامه: انشر الرزمة.
وضرب بيده على الرزمة وَقَالَ: صلى اللَّه على مُحَمَّد. فَقَالَ:
ارفعه. وأبى أن يبيعه مخافة أن يكون [قَدْ] [2] مدحه.
قَالَ أَبُو نعيم: وحدثنا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن المثنى قال: حدّثنا
__________
[1] انظر ترجمته في: الجرح والتعديل 9/ 242، وطبقات ابن سعد 7/ 260،
والتاريخ الكبير 8/ 402. والتهذيب 11/ 442.
[2] ما بين المعقوفتين. ساقط من الأصل.
(8/25)
هدبة بْن خالد [قَالَ] : حَدَّثَنَا أمية
بْن بسطام قَالَ: كَانَ يونس بْن عبيد يشتري الأبريسم/ 13/ أمن البصرة
فيبعث به إِلَى وكيله بالسوس، وَكَانَ وكيله كتب إِلَيْهِ أن المتاع
عندهم زائد.
قَالَ أَبُو نعيم: وحدثنا أَبُو مُحَمَّد بْن حباب [قَالَ] :
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن معدان [قَالَ] : حَدَّثَنَا ابْن
وارة [قَالَ] : حَدَّثَنَا الأصمعي [قَالَ] : حَدَّثَنَا مؤمل بْن
إسماعيل قَالَ:
جاء رجل من أَهْل الشام إِلَى سوق الخزازين، فقال: أريد مطرفا
بأربعمائة [1] . قَالَ يونس بْن عبيد عندنا بمائتي [درهم] ، فنادى مناد
بالصلاة [2] . فانطلق يونس إِلَى بْني بشير ليصلي بهم، فجاء وقد باع
ابْن أخيه المطرف من الشامي بأربعمائة، وَقَالَ يونس: مَا هَذِهِ
الدراهم؟ قَالَ: ذاك المطرف بعناه من هَذَا الرجل. قَالَ يونس: يا
عَبْد اللَّه، هَذَا الَّذِي عرضت عَلَيْك بمائتي درهم، فإن شئت فخذه
وخذ مائتين، وإن شئت فدعه.
قَالَ: من أنت؟ قَالَ: رجل من المسلمين. قَالَ: بل أسألك باللَّه من
أنت؟ وما اسمك؟
قَالَ: يونس بْن عبيد. قال: فو الله إنا لنكون فِي نحر العدو، فإذا
اشتد الأمر علينا قلنا اللَّهمّ رب يونس بْن عبيد فرج عنا. أو شبيه
هَذَا. فَقَالَ يونس: سبحان اللَّه سبحان اللَّه.
تُوُفِّيَ يونس في هذه السنة. وقيل: فِي سنة أربع وثلاثين ومائة.
__________
[1] في ت: «فقال مطرف: خز بأربعمائة» وما أثبتناه من ت.
[2] في الأصل: «منادي الصلاة» وما أثبتناه من ت.
(8/26)
ثم دخلت سنة أربعين
ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
أن ناسا من الجند وثبوا على أبي داود بْن إِبْرَاهِيم عامل خراسان،
فأشرف عليهم من حائط المنزل الَّذِي هو فِيهِ، فوقع فانكسر ظهره فمات،
فولى أَبُو جعفر عَبْد الْجَبَّارِ بْن عَبْد الرَّحْمَنِ خراسان،
فقدمها فأخذ بها ناسا من القواعد ذكر أنه [1] اتهمهم بالدعاء إِلَى ولد
عَلِيّ بْن أبي طالب فقتلهم [2] .
وفي هذه السنة: خرج أَبُو جعفر المنصور حاجا، فأحرم من الحيرة، ثم رجع
بعد ما قضى الحج [3] إِلَى المدينة، فتوجه منها إِلَى بيت المقدس، فصلى
فِي مسجدها، ثُمَّ سلك إلى الشام منصرفا حتى انتهى إِلَى/ الرقة
فنزلها، وكتب إِلَى صالح بن علي 13/ ب يأمره ببناء المصيصة، ثم خرج
منها إلى ناحية الكوفة، فنزل المدينة الهاشمية بالكوفة، ثُمَّ انتقل
عنها، فاختط مدينة السلام [4] .
أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَارِعُ قَالَ: أَخْبَرَنَا
أَبُو جعفر بْن المسلمة قال: أخبرنا المخلص قال: أخبرنا أحمد بن
سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بكار
قَالَ: حَدَّثَنِي يحيى بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو منصور
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن صالح بْن دينار قَالَ: حج أَبُو جعفر المنصور
فأعطى أشراف القرشيين ألف دينار لكل واحد منهم، فلم يترك أحدا من
__________
[1] في الأصل: «أنهم» وما أثبتناه من ت.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 503.
[3] في ت: «قضى الحجة» وما أثبتناه من الأصل.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 503- 504.
(8/27)
أهل المدينة إلا أعطاه، إلا أنه لم يبلغ
واحد مَا بلغ بالأشراف، فكان ممن أعطاه الألف دينار سليم بْن عروة،
ويعطي قواعد قريش صحاف الذهب والفضة وكساهن، وأعطى بالمدينة عطايا لم
يعطها أحد.
وَكَانَ عمال الأمصار في هذه السنة عمالها فِي السنة الَّتِي قبلها إلا
خراسان، فإن عاملها كَانَ عَبْد الْجَبَّارِ.
وحج المنصور بالناس [1] .
وَمَا عرفنا أحدا من الأكابر تُوُفِّيَ فِي هذه السنة
__________
[1] في ت: «وحج بالناس المنصور» .
انظر تاريخ بغداد 7/ 504.
(8/28)
|