المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
قدوم المنصور من الحج إِلَى المدينة، ثُمَّ إِلَى بيت المقدس، فصلى فِيهِ، ثُمَّ انحدر إِلَى الرقة، وقتل بها منصور بْن جعونة، لأن المنصور قَالَ: احمدوا اللَّه يا أَهْل الشام، فقد رفع عنكم بولايتنا الطاعون. فَقَالَ منصور: اللَّه أكرم من أن يجمعك علينا والطاعون.
ثُمَّ انحدر من الشام إِلَى شط الفرات حَتَّى نزل الهاشمية بالكوفة.
وَفِيهَا: كَانَ خروج الراوندية [1] :
وهم قوم من أَهْل خراسان كانوا على رأي أبي مسلم، إلا أنهم يقولون بتناسخ الأرواح، ويدعون أن روح آدم عليه السلام فِي عثمان بْن نهيك، وأن ربهم الَّذِي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور، وأن الهيثم بْن معاوية جبرائيل.
14/ أوهؤلاء طائفة من/ الباطنية يسمون السبعية [2] يقولون: الأرضون [3] سبع، والسموات سبع، والأسبوع سبعة، يدل [4] على أن دور الأئمة يتم بسبعة. فعدوا:
الْعَبَّاس، ثم ابنه عبد الله، ثم ابنه علي، ثُمَّ مُحَمَّد بْن عَلِيّ، ثُمَّ إِبْرَاهِيم، ثم السفاح،
__________
[1] في ت: «الروندية» .
[2] في الأصل: «الشيعية» وفي ت: «السبعة» .
[3] في ت: «الأرض» .
[4] في الأصل: «قدل» .

(8/29)


ثُمَّ المنصور، فقالوا: هو السابع. وكانوا يطوفون حول قصر المنصور ويقولون: هَذَا قصر ربْنا.
فأرسل المنصور فحبس منهم مائتين- وكانوا ستمائة- فغضب أصحابهم الباقون ودخلوا السجن، فأخرجوهم وقصدوا نحو المنصور، فتنادى الناس، وغلقت أبواب المدينة، وخرج المنصور ماشيا ولم يكن عنده دابة، فمن ذلك الوقت ارتبط فرسا، فسمى: فرس النوبة، يكون معه فِي قصره- فأتي بدابة فركبها، وجاء معن بْن زائدة فرمى بْنفسه وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين إلا رجعت، فإني أخاف عَلَيْك. فلم يقبل وخرج، فاجتمع إِلَيْهِ الناس، وجاء عثمان بْن نهيك فكلمهم، فرموه بْنشابة وكانت سبب هلاكه، ثُمَّ حمل الناس عليهم فقتلوهم، وَكَانَ ذلك فِي المدينة الهاشمية بالكوفة فِي سنة إحدى وأربعين [1] .
وقد زعم بعضهم أن ذلك كَانَ فِي سنة ست وأربعين أو سبع وأربعين ومائة.
وفي هذه السنة: وجه أَبُو جعفر المنصور ابْنه محمدا- وَهُوَ ولي عهده يومئذ- إِلَى خراسان في الجنود، وأمره بْنزول الري، ففعل [2] .
وَفِيهَا: خلع عَبْد الجبار بْن عَبْد الرَّحْمَنِ عامل أبي جعفر على خراسان:
وسبب ذلك: أن المنصور بلغه عَنْ عَبْد الجبار أنه يقتل رؤساء أَهْل خراسان، وأتاه من بعضهم كتاب فِيهِ: قَدْ نغل الأديم، فَقَالَ لأبي أيوب: إن عَبْد الجبار قَدْ أفنى شيعتنا، وما فعل هذا إلا وَهُوَ يريد أن يخلع. فَقَالَ: اكتب إليه: إنك تريد غزو الروم، 14/ ب فيوجّه إليك الجنود من خراسان، فإذا خرجوا منها فابعث إِلَيْهِ من شئت، فليس به/ امتناع. فكتب بذلك [إِلَيْهِ] [3] ، فأجابه: أن الترك قَدْ جاشت، وإن فرقت الجنود ذهبت خراسان. فَقَالَ لأبي أيوب: مَا ترى؟ فَقَالَ: اكتب إليه: أن خراسان أهم إلي من غيرها، وأنا موجه إليك من قبلي. ثُمَّ وجه إِلَيْهِ الجنود ليكونوا بخراسان، فإن هم بخلع أخذوا بعنقه.
فلما ورد على عَبْد الجبار الكتاب كتب إِلَيْهِ: إن خراسان لم تكن قط أسوأ حالا
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 505- 508.
[2] انظر تاريخ الطبري 7/ 508.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.

(8/30)


منها فِي هَذَا العام، وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق مَا هم فِيهِ من غلاء السعر، فلما أتاه الكتاب ألقاه إِلَى أبي أيوب فَقَالَ لَهُ: [قَدْ] [1] أبدى صفحته وقد خلع فلا تناظره.
فشخص المهدي، فلما بلغ ذلك أهل مروالرّوذ ساروا إِلَى عَبْد الجبار فناصبوه الحرب فهزم، فتبعه أحدهم فأخذه أسيرا وحمل إِلَى المنصور فِي مدرعة صوف على بعير، ووجهه من قبل عجزه، ومعه ولده وأصحابه، فبسط عليهم العذاب حَتَّى استخرج منهم الأموال، وأمر المسيب بقطع يدي عَبْد الجبار ورجليه، وضرب عنقه ففعل [2] .
وَقَالَ الواقدي: كَانَ هَذَا سنة اثنتين وأربعين.
وَفِيهَا: فتحت طبرستان:
وذلك أنه لما وجه المنصور المهدي إِلَى الري لقتال عَبْد الجبار، فكفى أمره، كره المنصور أن يضيع النفقات الَّتِي أنفقت على المهدي، فكتب إِلَيْهِ أن يغزو طبرستان، فذهب فطالت الحروب، فوجه أَبُو جعفر عُمَر بْن العلاء الَّذِي يَقُول فِيهِ بشار:
فقل للخليفة إن جئته ... نصيحا ولا خير فِي المتهم
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمرا ثُمَّ نم
فتى ينام على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم [3]
وفي هذه السنة: فرغ من بْناء المصيصة على يدي جبرئيل بْن يحيى الخراساني، ورابط محمد بن إِبْرَاهِيم الإمام بملطية [4] .
وَفِيهَا: / عزل زياد بْن عبيد عَنِ المدينة ومكة والطائف، واستعمل على المدينة 15/ أمحمد بْن خالد فقدمها فِي رجب، وعلى مكة والطائف الهيثم بْن معاوية العتكي [5] .
وفي هذه السنة: حج بالناس صالح بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس، وَهُوَ على قنسرين وحمص ودمشق، وعلى المدينة: مُحَمَّد بْن خالد بن عبد الله القسري، وعلى
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 508- 509.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 510.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 509.
[5] في الأصل، ت: «العكي» وكذلك في إحدى نسخ الطبري وما أثبتناه من تاريخ الطبري.

(8/31)


مكة والطائف: الهيثم بن معاوية. وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى، وعلى خراسان المهدي، وخليفته بها أسد بْن عَبْد اللَّه، وعلى مصر نوفل بْن الفرات.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
746- خالد بْن مهران، أَبُو المنازل الحذاء، مولى لقريش لآل عَبْد اللَّه بْن عامر بْن كرز [1] .
سمع الحسن، وابْن سيرين، وأبا قلابة. وَكَانَ ثقة، ولم يكن حذاء وفي تلقيبه بالحذاء ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كَانَ يجلس إِلَى حذاء، فلقب بذلك، قاله يزيد بْن هارون.
والثاني: أنه تزوج امرأة فنزل عَلَيْهَا فِي الحذائين. ذكره الخطابي.
والثالث: أنه كَانَ إذا تكلم يَقُول: احذوا على هَذَا النحو، فلقب بالحذاء. قاله فهد بْن [2] حبان القيسي.
تُوُفِّيَ في هذه السنة. وقيل: فِي سنة اثنتين وأربعين.
747- سلمة بْن دينار، أَبُو حازم، مولى بْني أشجع [3] .
كَانَ أعرج زاهدا عابدا، يقص بعد الفجر وبعد العصر فِي مسجد المدينة.
وَكَانَ ثقة كثير الحديث. أسند عَنْ ابْن عُمَر، وسهل بْن سعد، وأنس بْن مالك.
قالت لَهُ امرأته: هَذَا الشتاء قَدْ هجم علينا ولا بد لنا مما يصلحنا فِيهِ، فذكرت الثياب، والطعام، والحطب، فَقَالَ: من أين هَذَا كله؟ ولكن خذي فيما لا بد منه:
الموت، والبعث، ثُمَّ الوقوف بين يدي اللَّه، ثُمَّ الجنة والنار.
كَانَ يَقُول: مَا مضى من الدنيا فحلم، وما بقي فأمانيّ.
__________
[1] تقريب التهذيب 1/ 219، وطبقات ابن سعد 7/ 2/ 23، والجرح والتعديل 3/ 1593، وتذكرة الحفاظ 1/ 149، وتاريخ الإسلام 6/ 60.
[2] في ت: «فهر» .
[3] تقريب التهذيب 1/ 316، وطبقات ابن سعد الورقة 220 خط، والجرح والتعديل 4/ 701، وحلية الأولياء 3/ 229، وتاريخ الإسلام 5/ 257، وتذكرة الحفاظ 1/ 133.

(8/32)


أَخْبَرَنَا عَبْد الملك الكروخي قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عبد/ الله بن محمد بن على بن عمير 15/ ب قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّد بْنُ مُحَمَّدِ القاضي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سعيد مُحَمَّد بْن حميد المرواني قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن المنذر قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يوسف قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أبي الحواري قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق الموصلي قَالَ: قَالَ أَبُو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة، فاستكثروا منها فِي أوان كسادها، فإنه لو قَدْ جاء يوم نفاقها لم نصل منها إلى قليل ولا كثير.
أَخْبَرَنَا عَبْد الخالق بْن أَحْمَد قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن إسحاق قَالَ: أخبرنا عبد الرحمن بن أَحْمَد الراوي قَالَ: أَخْبَرَنَا جعفر بْن عبيد اللَّه بْن يعقوب قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن هارون الروياني قَالَ: حَدَّثَنَا يحيى بْن المغيرة قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الجبار بْن عَبْد العزيز بْن أبي حازم قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: بعث سليمان بْن عَبْد الملك إِلَى أبي حازم فجاءه فَقَالَ: يا أبا حازم، مَا لنا نكره الموت؟ قَالَ: لأنكم أخربتم أخراكم، وعمرتم دنياكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إِلَى الخراب. قَالَ: صدقت، فكيف القدوم على اللَّه عز وجل؟ قَالَ: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه. فبكى سليمان وَقَالَ: ليت شعري ما لنا عند اللَّه يا أبا حازم؟ فَقَالَ:
اعرض نفسك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عند اللَّه. قَالَ: يا أبا حازم، وأين أصيب ذلك؟ قَالَ: عند قوله: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ 82: 13- 14 [1] . فَقَالَ سليمان: فأين رحمة اللَّه؟ قَالَ: قَرِيبٌ من الْمُحْسِنِينَ 7: 56 [2] قَالَ: مَا تقول فيما نحن فِيهِ؟
قَالَ: اعفني من هَذَا. قَالَ سليمان: نصيحة تلقيها. قَالَ أَبُو حازم: إن ناسا أخذوا هَذَا الأمر عنوة من غير مشاورة من المسلمين ولا اجتماع من رأيهم، فسفكوا فيه الدماء على طلب الدنيا، ثُمَّ ارتحلوا عنها، فليت شعري مَا قالوا وما قيل لهم. فَقَالَ بعض جلسائه:
بئس مَا قلت يا شيخ. فَقَالَ أَبُو حازم: كذبت، إن اللَّه تعالى أخذ على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه. فَقَالَ سليمان: اصحبْنا يا أبا حازم تصب منا ونصب منك. قَالَ:
أعوذ باللَّه من ذلك. قَالَ: ولم؟ قَالَ: أخاف/ أن أركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني الله 16/ أضعف الحياة وضعف الممات. قَالَ: فأشر علي. قَالَ: اتق اللَّه أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك. فَقَالَ: يا أبا حازم، ادع لنا بخير. فَقَالَ: اللَّهمّ إن كَانَ سليمان وليك فيسره للخير، وإن كَانَ عدوك فخذ إِلَى الخير بْناصيته. فَقَالَ: يا غلام، هات مائة
__________
[1] سورة: الانفطار، الآية: 14.
[2] سورة الأعراف، الآية: 56.

(8/33)


دينار. ثُمَّ قَالَ: خذها يا أبا حازم. قَالَ: لا حاجة لي فِيهَا، إني أخاف أن يكون لما سمعت من كلامي.
وَكَانَ سليمان أعجب بأبي حازم فَقَالَ الزهري: إنه لجاري منذ ثلاثين سنة مَا كلمته قط. فَقَالَ أَبُو حازم: إنك نسيت اللَّه فنسيتني، ولو أحببت اللَّه لأحببتني. قَالَ الزهري: أتشتمني؟ قَالَ سليمان: بل أنت شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على جاره حقا؟ فَقَالَ أَبُو حازم: إن بْني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إِلَى العلماء، وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا ذلك العلم وأتوا به إلى الأمراء، فاستغنت به عَنِ الزهاد، واجتمع القوم على المعصية [1] ، فسقطوا وانتكسوا، ولو كان علماؤنا يصونون علمهم لم تزل الأمراء تهابهم.
قَالَ الزهري: كأنك إياي تريد، وبي تعرض. قَالَ: هو مَا تسمع.
أَخْبَرَنَا ظفر بْن عَلِيّ بْن الْعَبَّاس المهراني قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسن فيد بن عبد الرحمن بن شادي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسن عَلِيّ بْن سعيد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو زرعة أَحْمَد بْن الحسين الرازي قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَبَّاس بْن عَبْد اللَّه المزني قَالَ: حَدَّثَنَا المبرد، عَنِ الرياشي، عَنِ الأصمعي قَالَ: دخل أَبُو حازم الطواف، فإذا هو بامرأة سافرة عَنْ وجهها تطوف، وقد فتنت النّاس بحسن وجهها فَقَالَ: يا هَذِهِ، ألا تخمرين وجهك؟
فقالت: يا أبا حازم، إنا من اللواتي يقول فيهن الشاعر:
16/ ب/
أماطت قناع الخز عَنْ حر وجهها ... وأبدت من الخدين بردا مهلهلا
من اللائي لم يحججن تبغين ريبة [2] ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
وترمي بعينيها القلوب إذا بدت ... لها نظر لم يخط للحي مقتلا
فأقبل أَبُو حازم على أَهْل الطواف فَقَالَ: يا أَهْل بيت الله، تعالوا ندع الله أن لا يعذب هَذَا الوجه بالنار، فذكر ذلك لسعيد بْن المسيب، فَقَالَ: لو كَانَ من بعض أَهْل العراق لقال: يا عدوة الله، ولكن ظرف أهل الحجاز.
__________
[1] في الأصل: «على العصبية» وما أثبتناه من ت.
[2] في ت: «تبغين حسبه» وما أثبتناه من الأصل.

(8/34)


أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا محمد بْن هبة اللَّه الطبري قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْن بشران قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر القرشي قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسن بْن عَبْد العزيز قَالَ: حَدَّثَنَا الحارث بْن مسكين قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن وهب، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زيد بْن أسلم، عَنْ سليمان العمري قَالَ: رأيت أبا جعفر الْقَارِئ فِي المنام فقلت لَهُ: أبا جعفر. فَقَالَ: نعم، أقرئ إخواني مني السلام وأخبرهم أن اللَّه تعالى جعلني من الشهداء الأحياء المرزوقين، وأقرئ أبا حازم السلام وقل لَهُ: يَقُول لك: الكيس الكيس، فإن اللَّه وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات.
748- موسى بْن كعب.
كَانَ على بسط المنصور وعلى مصر والهند، وَكَانَ خليفته على الهند ابْنه عيينة.
تُوُفِّيَ موسى في هذه السنة.

(8/35)


ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
خروج المنصور حَتَّى نزل بعسكره عند جسر البصرة الأكبر، وبْنى لهم قبلتهم التي 17/ أيصلّون [1] إليها فِي عيدهم بالحمان [2] ، واستعمل عيسى/ بْن عَمْرو الكندي على البصرة، ومعن بْن زائدة على اليمن.
ووجه عُمَر بْن حفص بْن أبي صفرة عاملا على السند والهند، ومحاربا لعيينة بْن موسى، فسار حَتَّى ورد السند، وغلب عَلَيْهَا.
وفي هذه السنة:
نقض إصبهبذ طبرستان العهد بينه وبين المسلمين وقتل من كَانَ ببلاده من المسلمين.
وَكَانَ من حديثه أن أبا جعفر لما انتهى إِلَيْهِ خبر الإصبهبذ وما فعل بالمسلمين وجّه إليه جماعة منهم أَبُو الخصيب، فأقاموا على حصنه محاصرين لَهُ ولمن معه فِي حصنه، فطال عليهم المقام، فاحتال أَبُو الخصيب فَقَالَ لأصحابه: اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي. ففعلوا ذلك به، ولحق بالأصبهبذ صاحب الحصن، فَقَالَ لَهُ: إنه ركب مني أمر عظيم، وإنما فعلوا بي هذا تهمة لي أن يكون هواي معك، فأخبره أنه معه، وأنه دليل على عورة عسكرهم. فقبل ذلك الأصبهبذ وجعله فِي خاصته، وألطفه، وَكَانَ على باب مدينتهم من حجر يلقى إلقاء، تدفعه الرجال وتضعه عند فتحه وإغلاقه. وَكَانَ قَدْ وكل به الإصبهبذ ثقات أصحابه، وجعل ذلك نوبا بينهم، وجعل أَبُو الخصيب فيمن ينوب عَنْ
__________
[1] في الأصل: «الّذي يصلون» وما أثبتناه من ت.
[2] في الأصل: «بالجبان» وفي ت: «بالحنان» وما أثبتناه من الطبري.

(8/36)


ذلك، فكتب إِلَى أصحابه، وجعل الكتاب فِي نشابة ورماها إليهم، وأعلمهم أنه قَدْ ظفر بالحيلة، ووعدهم ليلة سماها فِي فتح الباب، فلما كانت الليلة فتح لهم، فقتلوا من فيها من المقاتلة، وسبوا الذراري، فظفروا بأم منصور بْن المهدي، وأم إِبْرَاهِيم بْن المهدي. فمص الإصبهبذ خاتما لَهُ كَانَ فِيهِ سم فقتل نفسه.
وقيل: إن هَذَا كَانَ سنة ثلاث وأربعين [1] .
وفي هذه السنة: عزل نوفل بْن الفرات عَنْ مصر ووليها مُحَمَّد بْن الأشعث، ثُمَّ عزل مُحَمَّد ووليها نوفل، ثُمَّ عزل نوفل ووليها حميد بْن قحطبة [2] .
وَفِيهَا: ولى أَبُو جعفر أخاه الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد الجزيرة والثغور، وضم إِلَيْهِ عدة من القواد [3] .
وَفِيهَا: اختط/ المنصور بغداد، ولم يشرع فِي البْناء [4] .
وَفِيهَا: حج بالناس إسماعيل بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس.
وَكَانَ العامل على المدينة مُحَمَّد بْن خالد بْن عَبْد اللَّه، وعلى مكة والطائف الهيثم بن معاوية، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سفيان بن معاوية، وعلى قضائها سوار بْن عَبْد اللَّه، وعلى مصر حميد بْن قحطبة بْن شبيب [5] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
749- حميد بْن هانئ، أَبُو هانئ الخولاني [6] .
روى عَنْ أبي قتيل، وشقي بْن ماتع وغيرهما.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 512- 513.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 514.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 514.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 514.
[5] انظر: تاريخ الطبري 7/ 515.
[6] هذه الترجمة ساقطة من ت. وانظر ترجمته في: الجرح والتعديل 3/ 1012، والتاريخ الكبير 2/ 2720، وتاريخ الإسلام 6/ 58، وتقريب التهذيب 1/ 204.

(8/37)


حدث عنه الليث، وابْن لهيعة، وآخر من حدث عنه بمصر إسحاق بْن الفرات.
وتوفي في هذه السنة.
750- سليمان بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس [1] .
أمه أم ولد، ولي الإمارة بالبصرة وغيرها، ولاه المنصور.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عُمَر الدموي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الغنائم عَبْد الصمد بْن المأمون قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفضل مُحَمَّد بْن الحسن المأمون قَالَ: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال:
حدثنا مُحَمَّد بْن مجيب المازني قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: لما قدم سليمان بْن عَلِيّ البصرة واليا عَلَيْهَا قيل لَهُ: إن بالمربد رجلا من بْني سعد [مجنونا] [2] سريع الجواب، لا يتكلم إلا بالشعر. فأرسل إليه سليمان بْن عَلِيّ قهرمانا لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أجب الأمير. فامتنع عليه، فجره وزبره وخرق ثوبه، وَكَانَ المجنون يعمل على ناقة لَهُ، فاستاق القهرمان الناقة، وأتى بهما سليمان بْن عَلِيّ، فلما وقف بين يديه قَالَ لَهُ سليمان: حياك اللَّه يا أخا بْني سعد. فَقَالَ:
حياك رب الناس من أمير ... يا فاضل الأصل عظيم الخير
إني أتاني الفاسق الجلواز ... والقلب قَدْ طار به اهتزاز
فَقَالَ سليمان: إنما بعثته إليك ليشتري ناقتك. فَقَالَ:
مَا قَالَ شيئا فِي شراء الناقة ... وقد أتى بالجهل والحماقة
18/ أ/ فَقَالَ: مَا أتى؟ فَقَالَ:
خرق سربالي وشق بردتي ... وَكَانَ وجهي فِي الملا وزينتي
فَقَالَ: نخلف عَلَيْك، أفتعزم على بيع الناقة. فَقَالَ:
أبيعها من بعد مال أوكس ... والبيع فِي بعض الأوان أكيس
قَالَ: كم شراؤها عَلَيْك؟ فَقَالَ:
شراؤها عشر ببطن مكة ... من الدنانير القيام السكة
ولا أبيع الدهر أو أزاد ... إني لربح في الشرا معتاد
__________
[1] طبقات ابن سعد 9/ 194 خط، وتهذيب ابن عساكر 6/ 283، وتهذيب التهذيب 4/ 411.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.

(8/38)


قَالَ: فبكم تبيعها؟ فَقَالَ:
خذها بعشر وبخمس وازنه ... فإنها ناقة صدق مازنة
فَقَالَ: تحطنا وتحسن. فَقَالَ:
تبارك اللَّه العلي العالي ... تسألني الحط وأنت الوالي
قَالَ: فنأخذها ولا نعطيك شيئا. فَقَالَ:
فأين ربي ذو الجلال الأفضل ... إن أنت لم تخش الإله فافعل
فَقَالَ: كم نزن لك فِيهَا؟ فَقَالَ:
والله مَا ينعشني مَا تعطي ... ولا يداني الفقر مني خطي
خذها بما أحببت يا ابْن عباس ... يا ابْن الكرام من قريش والراس
فأمر لَهُ سليمان بألف درهم وعشرة أثواب، فَقَالَ:
إني رمتني نحوك العجاج ... ولي عيال معدم محتاج
طاوي المطي ضيق المعيش ... فأنبت اللَّه لديك ريشي
شرفتني [1] منك بألف فاخره ... شرفك اللَّه بها فِي الآخره
وكسوة طاهرة حسان ... كساك ربي حلل الجنان
فَقَالَ سليمان/ بْن علي: من يقول هَذَا مجنون!؟ مَا كلمت أعرابيا قط أعقل منه. 18/ ب تُوُفِّيَ سليمان بالبصرة في هذه السنة، وَهُوَ ابْن تسع وخمسين، وصلى عليه أخوه عَبْد الصمد بْن عَلِيّ.
751- عاصم بْن سليمان، أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ الأحول الْبَصْرِيّ [2] .
سمع أنسا، وعَبْد اللَّه بْن سرخس، والحسن. وولي القضاء بالمدائن في خلافة المنصور، وكان يحتسب على المكاييل والموازين، وهو معدود في كتاب الحفاظ الثقات.
عَنْ مُحَمَّد بْن عبادة قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: ربما رئي عاصم الأحول وَهُوَ صائم فيفطر، فإذا صلى العشاء تنحى فصلى، فلا يزال يصلي حَتَّى يطلع الفجر، لا يضع جنبه. توفي في هذه السنة.
__________
[1] في ت: «منحتني» وما أثبتاه من الأصل.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 12/ 243.

(8/39)


ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
أن الخبر جاء إِلَى المنصور بأن الديلم أوقعوا بالمسلمين، وقتلوا مقتلة عظيمة، فبعث أهل البصرة وأهل الكوفة لجهادهم [1] .
وَفِيهَا: عزل الهيثم بْن معاوية عَنْ مكة والطائف، وولي مَا كَانَ إِلَيْهِ من ذلك السري بْن عَبْد اللَّه بْن الحارث بْن عباس بْن عَبْد المطلب، فأتى السري عهده على ذلك وَهُوَ باليمامة، فسار إِلَى مكة.
ووجه المنصور إِلَى اليمامة مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس بْن عَبْد اللَّه بْن عباس [2] .
وفي هذه السنة: عزل حميد بْن قحطبة عَنْ مصر، ووليها نوفل، ثُمَّ عزل ووليها يزيد بْن حاتم [3] .
وفي هذه السنة: حج بالناس عيسى بْن موسى، وَكَانَ إِلَيْهِ ولاية الكوفة وسوادها، وَكَانَ عامل مكة والمدينة السري بْن عَبْد اللَّه، وعامل البصرة سفيان بْن معاوية، وَكَانَ على قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بن حاتم [4]
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 515.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 515.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 515.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 516.

(8/40)


ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
752-/ حميد بْن مهران، أَبُو عبيدة الطويل.
مولى لخزاعة، ولد سنة ثمان وستين.
753- حيي بْن شريح، أَبُو عَبْد اللَّه المعافري، ثُمَّ الحبلي [1] .
روى عنه: ابْن لهيعة وغيره، وآخر من حدث عنه بمصر ابْن وهب.
تُوُفِّيَ في هذه السنة.
754- سليمان بْن طرخان، أَبُو المعتمر التيمي [2] .
نزل فِي التيم فنسب إليهم وليس بتيمي. وَكَانَ ثقة من العباد يصلي الغداة بوضوء صلاة العشاء، وَكَانَ هو وابْنه المعتمر يدوران بالليل فِي المساجد فيصليان فِي هذا المسجد وفي هذا المسجد حَتَّى يصبحا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن حبيب قَالَ: أخبرنا عَلي بْن عَبْد اللَّه بْن أبي صادق قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن باكويه قال: حدثنا عبد العزيز بن الفضل قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أبي القاسم قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْحُسَيْن الحذاء قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الزورقي قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بْن صالح قَالَ: سمعت حماد بْن سلمة يَقُول: مَا أبقى سليمان التيمي من ساعة يطاع اللَّه فِيهَا إلا وجدناه مطيعا، إن كَانَ فِي ساعة صلاة وجدناه مصليا، وإن لم يكن فِي ساعة صلاة وجدناه إما يتوضأ للصلاة أو عائدا لمريض أو مشيعا لجنازة أو قاعدا في المسجد يسبح، وكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي اللَّه عز وجل.
أَخْبَرَنَا ابْن ناصر قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جعفر قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحسين بْن عَلِيّ بْن يحيى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الأعلى قَالَ: سمعت معتمر بْن سليمان يَقُول: لولا أنك بين أهلي ما حدثتك عن أبي بهذا، مكث أبي أربعين سنة يصوم يوما ويفطر يوما، ويصلي الصبح بوضوء العشاء، وربما أحدث الوضوء من غير نوم.
__________
[1] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 3/ 72، والتقريب 1/ 209. والتاريخ الكبير 3/ 76.
[2] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 4/ 401، والتاريخ الكبير 4/ 20. وطبقات ابن سعد 7/ 252.

(8/41)


قَالَ أَبُو نعيم: وحدثنا أَبُو حامد بْن جميل قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق قَالَ:
حَدَّثَنَا يوسف بْن موسى قَالَ: سمعت جريرا، عَنْ رقبة قَالَ: رأيت رب العزة فِي المنام، 19/ ب فقال: وعزتي لأكرمنّ مثوى سليمان- يعني/ التيمي.
وبلغنا من طريق آخر عَنْ رقبة قَالَ: رأيت رب العزة فِي النوم فَقَالَ لي: يا رقبة، وعزتي وجلالي لأكرمن مثوى سليمان التيمي، فإنه صلى لي أربعين سنة الغداة على ظهر العتمة. قَالَ: فجئت إِلَى سليمان فحدثته فَقَالَ: أنت رأيت هَذَا؟ قلت: نعم. قَالَ:
لأحدثنك بمائة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جئتني من هَذِهِ البشارة. قَالَ: فلما كَانَ بعد مديدة مات فرأيته فِي المنام. فقلت: ما فعل الله بك. قال: غفر لي وأدناني وقربْني وغلفني [1] [بيده] [2] . وَقَالَ: هكذا أفعل بأبْناء ثلاث وثمانين.
أسند سليمان التيمي عَنْ أنس بْن مالك وعن جماعة من أكابر التابعين.
وتوفي بالبصرة في هذه السنة.
755- فاطمة بْنت مُحَمَّد بْن المنكدر
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر بإسناد لَهُ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن مسلم القرشي قَالَ: كانت فاطمة بْنت مُحَمَّد بْن المنكدر تكون نهارها، فإذا جنها الليل تنادي بصوت حزين: هدأ الليل، واختلط الظلام، وأوى كل حبيب إِلَى حبيبه، وخلوتي بك أيها المحبوب أن تعتقني من النار.
756- يحيى بْن سعيد بْن قيس بْن عَمْرو بْن سهيل بْن ثعلبة، أَبُو سعيد الأنصاري المديني [3] .
سمع من أنس بن مالك، والسائب بن يزيد، وعَبْد اللَّه بْن عامر بْن ربيعة، وسعيد بْن المسيب، والقاسم، وغيرهم.
ثُمَّ روى عنه هشام بْن عروة، ومالك، وابْن جريح، وشعبة، وغيرهم.
وَكَانَ فقيها ثقة يتولى القضاء بمدينة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أيام الوليد بن عبد الملك،
__________
[1] في الأصل: «وعلمني» وما أثبتناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 14/ 101. وتهذيب التهذيب 11/ 221. والتاريخ الكبير 8/ 275.
والجرح والتعديل 9/ 147.

(8/42)


أقدمه المنصور العراق وولاه القضاء بالهاشمية، وذلك قبل أن تبْنى بغداد.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا التنوخي قَالَ: أخبرنا طلحة بْن محمد بن جعفر قال: حدثني/ علي بن محمد بن عبيد 20/ أقال: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن زهير قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن المنذر قَالَ: حَدَّثَنَا يحيى بْن مُحَمَّد بْن طلحة قَالَ: حَدَّثَنِي سليمان بْن بلال قَالَ: كَانَ يحيى بْن سعيد قَدْ ساءت [1] حاله، وأصابه ضيق شديد، وركبه الدين، فبينا هو على ذلك إذ أتاه [2] كتاب أبي الْعَبَّاس يستقضيه. قَالَ سليمان: فوكلني يحيى بأهله وَقَالَ لي: والله مَا خرجت وأنا أجهل شيئا، فلما قدم العراق كتب إلي: إني كنت [3] قلت لك حين خرجت: قَدْ خرجت وما أجهل شيئا، وإنه والله لأول خصمين جلسا بين يدي، فاقتضيا بشيء والله مَا سمعته قط، فإذا جاءك كتابي هَذَا فسل ربيعة واكتب إلي بما يَقُول، ولا يعلم أنني كتبت إليك بذلك [4] .
حَدَّثَنَا [5] القزاز قال: حدثنا أحمد بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مهدي قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ قال: حدثني جدي قال: حدثني أبو بكر بن أبي الأسود قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ، عَنْ وهيب قَالَ: قدمت المدينة فما رأيت أحدا إلا يعرف وينكر إلا يحيى بْن سعيد، ومالك بْن أنس [6] .
تُوُفِّيَ يحيى بالهاشمية من الأنبار في هذه السنة. وقيل: سنة أربع. وقيل: سنة ست.
__________
[1] في ت: «قد ساق» وما أثبتناه من الأصل.
[2] في ت: «إذ جاءه» وما أثبتناه من الأصل.
[3] «كنت» ساقطة من ت.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 14/ 103، 104.
[5] في ت: «أخبرنا»
[6] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 14/ 105.

(8/43)


ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا: غزو الديلم [1] .
وَفِيهَا: انصرف المهدي عَنْ خراسان إِلَى العراق، وشخص أَبُو جعفر إلى قنسرين، فلقيه بها ابنه مُحَمَّد، فانصرفا جميعا إِلَى الحيرة [2] .
وَفِيهَا: بْنى المهدي عند مقدمه من خراسان بابْنة عمه ريطة بْنت أبي الْعَبَّاس [3] .
وَفِيهَا: ولى أَبُو جعفر رياح بْن عثمان المري المدينة، وعزل مُحَمَّد بْن خالد القسري عنها.
وَكَانَ السبب فِي ذلك أن أبا جعفر أهمه أمر مُحَمَّد وإبراهيم ابْني عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن وتخلفهما عَنْ حضوره، مَعَ من شهده من بْني هاشم عام حج فِي حياة 20/ ب أخيه أبي الْعَبَّاس/، ومعه أَبُو مسلم. وقد ذكر أن محمدا كَانَ يذكر أن أبا جعفر ممن بايع لَهُ ليلة تشاور بْنو هاشم بمكة فيمن يعقدون لَهُ الخلافة حين اضطرب مروان. فسأل [4] أَبُو جعفر عَنْ مُحَمَّد وإبراهيم حين حج ولم يرهما، فقال له زياد بن عبد الله: ما يهمك من أمرهما! أنا آتيك بهما. فضمنه إياهما، وأقره على المدينة [5] .
ولما ولي أَبُو جعفر لم يكن لَهُ هم إلا طلب مُحَمَّد، والسؤال عنه، فدعا بني هاشم
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 517.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 517.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 517.
[4] في الأصل: «قال أبو جعفر» .
[5] انظر: تاريخ الطبري 7/ 517- 518.

(8/44)


رجلا رجلا يخلو به، فيسألهم عنه فيقولون: هو يخافك على نفسه، وما يريد بذلك [1] خلافا إلّا حسن بْن يزيد، فإنه أخبره خبره، وَقَالَ: والله مَا آمن وثوبه عَلَيْك، وإنه مَا ينام عنك.
فنظر المنصور إِلَى رجل لَهُ فطنة يقال لَهُ: عقبة بْن سالم، فَقَالَ لَهُ: أخف شخصك، واستر أمرك، وآتني لأمر إن كفيتنيه رفعتك. فأتاه فَقَالَ لَهُ: إن بْني عمنا هؤلاء قَدْ أبوا إلا كيدا لملكنا، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا، يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من بلادهم، فأخرج بكسا وألطاف وعين حَتَّى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه أَهْل [2] هَذِهِ القرية، ثُمَّ تسبر ناحيتهم، فإن كانوا نزعوا عَنْ رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك، فأشخص حَتَّى تلقى عَبْد اللَّه بْن حسن، فإن جبهك- وَهُوَ فاعل- فاصبر وعاوده حتى يأنس بك، فإذا أظهر لك مَا قبله فاعجل علي.
فشخص حَتَّى قدم على عَبْد اللَّه، فلقيه بالكتاب فأنكره ونهره وَقَالَ: مَا أعرف هؤلاء القوم، فلم يزل ينصرف ويعود إِلَيْهِ حَتَّى قبل كتابه وألطافه وآنس به، فسأله الجواب، فَقَالَ: إني لا أكتب إِلَى أحد، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام وأخبرهم أن ابْني خارجان لوقت كذا وكذا.
فقدم على أبي جعفر فأخبره الخبر، فأنشأ/ حينئذ الحج وَقَالَ لعقبة: إني إذا 21/ أصرت بمكان كذا وكذا لقيني بْنو حسن، فيهم عَبْد اللَّه، فأنا مبجله ورافع مجلسه وداع [3] بالغداء، فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائما، فإنه سيصرف بصره، فعد حَتَّى تغمز ظهره بإبهام رجلك حَتَّى يملأ عينه منك، ثُمَّ حسبك، وإياك أن يراك مَا دام يأكل.
فخرج حَتَّى إذا تدفع فِي البلاد لقيه بْنو حسن، فأجلس عَبْد الله إلى جانبه، ثم دعا
__________
[1] في الأصل: «يريد لك» وما أثبتناه من ت.
[2] في الأصل: «يكتب عن أهل» .
وما أثبتناه من الطبري.
[3] في الأصل: «وأدع» وما أثبتناه من ت.

(8/45)


بالغداء، فأصابوا منه، ثُمَّ أمر به فرفع، فأقبل على عَبْد اللَّه فَقَالَ: يا مُحَمَّد، قَدْ علمت مَا أعطيتني من المواثيق والعهود ألا تبغيني سوءا، ولا تكيد لي سلطانا. قال: فأنا على ذاك يا أمير المؤمنين. فلحظ أَبُو جعفر عقبة، فاستدار حَتَّى قام بين يدي عَبْد اللَّه، فأعرض عنه، فاستدار حَتَّى قام من وراء ظهره، فغمزه بأصبعه، فرفع رأسه، فملأ عينه منه، فوثب حَتَّى جثا بين يدي أبي جعفر، فَقَالَ: أقلني يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أقالك اللَّه. قَالَ:
لا أقالني اللَّه إن أقلتك. ثُمَّ أمر بحبسه [1] .
وفي رواية: أن المنصور أتاه عَبْد اللَّه بْن حسن، فجلس عنده، إذ تكلم المهدي فلحن، فَقَالَ عَبْد اللَّه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ألا تأمر لهذا من يعدل لسانه، فأحفظ المنصور من هَذَا وَقَالَ: أين ابْنك؟ قَالَ: لا أدري. قَالَ: لتأتيني به. قَالَ: لو كَانَ تحت قدمي مَا رفعتها عنه. قَالَ: يا ربيع، قم به إِلَى الحبس [2] .
وقيل: إن حبسه كَانَ فِي سنة أربعين، فأقام فِي الحبس ثلاث سنين.
ولما حبسه جد فِي طلب ابْنيه وبعث عينا لَهُ، وكتب معه كتبا على ألسن الشيعة إِلَى مُحَمَّد يذكرون طاعتهم، وبعث معه بمال وألطاف، فقدم الرجل المدينة، فسأل عَنْ مُحَمَّد، فذكر لَهُ أنه فِي جبل جهينة، فمضى إِلَيْهِ، فعلم حاله، ثُمَّ عاد إِلَى أبي جعفر، فكتب أَبُو جعفر إِلَى زياد بْن عُبَيْد اللَّه يتنجزه مَا ضمن لَهُ من أمر مُحَمَّد، فأعان زياد 21/ ب محمدا وَقَالَ لَهُ: اذهب/ حيث شئت، فما ينالك مني مكروه.
فبعث أَبُو جعفر من شد زيادا فِي الحديد، وأخذ جميع ماله، ووجد فِي بيت المال خمسة وثمانين ألف دينار، وأخذ عماله، وشخص بالكل إِلَى أبي جعفر، فَقَالَ لَهُ زياد:
إن دماء بْني فاطمة علي عزيزة [3] .
واستعمل أَبُو جعفر مُحَمَّد بن خالد بعد زياد، أمره بالجد فِي طلب مُحَمَّد، ثُمَّ استبطأه فعزله، وولى رياح بْن عثمان بْن حيان المدينة، وأمره بالجد في طلبهما، فخرج مسرعا، فقدمها يوم الجمعة لسبع ليال بقين من رَمَضَان سنة أربع وأربعين ومائة [4] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 517- 523.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 524.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 529- 530.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 531- 532.

(8/46)


وَكَانَ عند أبي جعفر مرآة يرى بها مَا فِي الأرض جميعا، يقال إنها نزلت على آدم، وصارت إِلَى سليمان بْن داود، ثُمَّ ذهبت بها الشياطين وبقيت منها بقية صارت إلى بني إسرائيل، فأخذها رأس الجالوت، فأتى بها مروان بْن مُحَمَّد، فكان يحكها ثُمَّ يجعلها على مرآه أخرى فيرى [فِيهَا [1] مَا يكره، فرمى بها وضرب عنق رأس الجالوت، فلما استخلف أَبُو جعفر طلبها، فأتي بها، فكان يرى] [2] فِيهَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن حسن، فيكتب إِلَى رياح: إن محمدا ببلاد فِيهَا الأترج والأعناب، فاطلبه بها، فيطلبه فلا يجده، فيكتب إِلَيْهِ أنه ببلاد فِيهَا الجبال فلا يجده. وَكَانَ السبب: أن محمدا كَانَ لا يقيم بمكان إلا يسيرا، فأخبر رياح أنه فِي شعب من شعاب رضوى، فاستعمل عَمْرو بْن عثمان بْن مالك، وأمره بطلبه، فخرج إِلَيْهِ بالخيل والرجال، ففزع منهم مُحَمَّد، فأحضر شدا، فأفلت، وَكَانَ معه جارية وله منها ولد [3] ، فهربت الجارية، فسقط الصبي منها فتقطع، فَقَالَ مُحَمَّد:
منخرق السربال يشكو الوجى ... تبكيه أطراف مرو حداد
شرده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد
قَدْ كَانَ فِي الموت لَهُ راحة ... والموت حتم فِي رقاب العباد [4]
وخرج رياح فِي طلبه، فرآه مُحَمَّد قَدْ جاء فِي الخيل، فعدل إلى بئر فوقف بين/ 22/ أقرنيها ليستقي الماء، فنظر إِلَيْهِ رياح فَقَالَ: قاتله اللَّه أعرابيا مَا أحسن ذراعه! ولقيه مرة أخرى، فجلس مُحَمَّد وجعل ظهره مما يلي الطريق، وسدل هدب ردائه على وجهه، فَقَالَ: رياح: امرأة رأتنا فاستحيت. وَكَانَ مُحَمَّد جسيما عظيما آدم شديد الأدمة.
وطال على المنصور أمره ولم يقدر عليه، وقيل لَهُ: أتطمع أن تخرج مُحَمَّد وإبراهيم، وبْنو حسن مخلون!؟ وكانوا ثلاثة عشر رجلا.
وحبس معهم مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه العثماني وولدين لَهُ، فلم يزالوا محبوسين حَتَّى حج أَبُو جعفر سنة أربع وأربعين ومائة، فتلقاه رياح بالربذة فرده إِلَى المدينة، وأمر
__________
[1] في ت: «فيرى منها» .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من الأصل.
[3] في ت: «بني» وما أثبتناه من الأصل.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 534- 535.

(8/47)


بإشخاص بْني حسن إِلَيْهِ، وبإشخاص مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن عثمان- وَهُوَ أخو بْني حسن لأمهم فاطمة بْنت حسين بْن عَلِيّ- فحملهم إِلَيْهِ، وَكَانَ مُحَمَّد وإبراهيم يأتيان معتمين كهيئة الأعراب، فيسايران أباهما ويسألانه ويستأذنانه فِي الخروج فيقول: لا تعجلا حَتَّى يمكنكما ذلك، ويقول: إن منعكما أَبُو جعفر أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين [1] .
وأمر أَبُو جعفر لمحمد بْن عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن عثمان فضرب خمسين ومائة، وَقَالَ للجلاد: اضرب رأسه، فضربه نحوا من ثلاثين سوطا، وَكَانَ يخاف منه لميل أَهْل الشام إِلَى عثمان، ثُمَّ قتله.
وأمر أَبُو جعفر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه ففرقت أسطوانة مبْنية ثُمَّ أدخل فِيهَا، فبْنى عليه وَهُوَ حي. وَكَانَ أول من مات من المحبوسين من بْني حسن: إِبْرَاهِيم بْن حسن ثُمَّ عَبْد اللَّه بْن حسن.
[وقد ذكرنا أن الَّذِي حج بالناس في هذه السنة المنصور، وَكَانَ الوالي على مكة السري بْن عَبْد اللَّه] [2] ، والوالي على المدينة رياح بْن عثمان، وعلى الكوفة عيسى بْن موسى، وعلى البصرة سفيان بْن معاوية، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بْن حاتم.
وجرت للمنصور فِي حجه قصة مَعَ بعض الصالحين:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا محمد بن 22/ ب عَلِيّ بْن الفتح قَالَ: حَدَّثَنَا/ أَبُو نصر مُحَمَّد بْن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِيّ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَحْمَد الخشاب المقرئ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو علي الحسن بْن عَبْد اللَّه الرازي قَالَ: حَدَّثَنَا المثنى قال: حدّثنا سلمة بْن سلمة القرشي قاضي اليمن قَالَ: سمعت أبا المهاجر المكي يَقُول: قدم المنصور مكة، فكان يخرج من دار الندوة إِلَى الطواف فِي آخر الليل ويطوف ويصلي، ولا يعلم به، فإذا طلع الفجر رجع إِلَى دار الندوة، وجاء المؤذنون فسلموا عليه، أقيمت الصلاة، فيصلي بالناس، فخرج ذات ليلة حين أسحر، فبينا هو يطوف إذ
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 540- 541.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.

(8/48)


سمع رجلا عند الملتزم وَهُوَ يَقُول: اللَّهمّ إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد فِي الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع. فأسرع المنصور فِي مشيه حَتَّى ملأ مسامعه من قوله، ثُمَّ خرج فجلس ناحية من المسجد، ثُمَّ أرسل إِلَيْهِ فدعاه، فصلى ركعتين، واستلم الركن، وأقبل مَعَ الرسول، فسلم عليه، فَقَالَ لَهُ المنصور: مَا هَذَا الّذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد فِي الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع؟ فو الله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني فأقلقني، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصلها، وإلا احتجبت منك وأقتصر على نفسي، ففيها لي شغل شاغل. فَقَالَ: أنت آمن على نفسك. فقال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن الَّذِي دخله الطمع حَتَّى حال بينه وبين الحق وإصلاح مَا ظهر من البغي والفساد فِي الأرض لأنت. قَالَ: ويحك، كيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء بيدي، والحلو والحامض فِي قبضتي. قَالَ: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟ إن اللَّه عز وجل استرعاك أمور المسلمين بأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الآجر والجص، وأبوابا من الحديد، وحجبة معهم السلاح، واتخذت وزراء وأعوانا فجرة، إن نسيت لم يذكروك، وإن أحسنت لم يعينوك، وقويتهم على ظلم الناس بالرجال والأموال والسلاح/، وأمرت 23/ أأن لا يدخل عَلَيْك من الناس إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف والجائع والعاري، وما أحد إلا وله فِي المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك، وأمرت أن لا يحجبوا عنك، تجبي المال ولا تقسمه، قالوا: هَذَا قَدْ خان اللَّه، فما لنا لا نخونه، وقد سخر لنا، وائتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا مَا أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه [1] عنك حَتَّى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم النّاس وهابوهم، وَكَانَ أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليتقووا بها على ظلم رعيتك، [ثُمَّ فعل ذلك الثروة والقوة من رعيتك] [2] لينالوا ظلم من دونهم من الرعية، وامتلأت بلاد اللَّه بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، وإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إِلَى مدينتك، وإن أراد رفع قصة إليك عند ظهورك،
__________
[1] في الأصل: «إلا قضوه» وما أثبتناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.

(8/49)


وجدك قَدْ نهيت عَنْ ذلك، ووقفت للناس رجلا ينظر فِي مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل يبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك، فإن صرخ بين يديك ضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر ولا تغير، فما بقاء الإسلام وأهله على هَذَا، وقد كانت بْنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم مظلوم إلا رفعت مظلمته، ولقد كَانَ الرجل يأتي من أقصى الأرض حَتَّى يبلغ سلطانهم فينادي: يا أَهْل الإسلام. فيبتدرونه: مالك مالك. فيرفعون مظلمته إِلَى سلطانهم فينتصف لَهُ. وقد كنت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أسافر إِلَى أرض الصين وبها ملك، فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم، فجعل يبكي، فقال له وزراؤه: مالك تبكي لا بكت عيناك؟ فَقَالَ: أما إني لست 23/ ب أبكي على المصيبة إذ نزلت بي، ولكن المظلوم بالباب/ يصرخ فلا أسمع صوته، وَقَالَ: أما إن كَانَ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم. فكان يركب الفيل فِي طرفي النهار، هل يرى مظلوما فينصفه. هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مشرك باللَّه قَدْ غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه، وأنت مؤمن باللَّه عز وجل، وابْن عم نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك!؟ فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاث: إن قلت أجمعها لولدي فقد أراك اللَّه عبرا فِي الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وماله على الأرض مال، وما من مال إلا ومن دونه يد شحيحة تحويه، فلا يزال اللَّه يلطف بذلك الطفل الصغير حَتَّى تعظم رغبة الناس إِلَيْهِ، ولست بالذي تعطي، بل اللَّه يعطي من يشاء مَا يشاء. وإن قلت أجمع المال ليشتد سلطاني فقد أراك اللَّه عز وجل عبرا فيمن كَانَ قبلك مَا أغنى عنهم مَا جمعوا من الذهب والفضة، وما أعدوا من السلاح والكراع مَا ضرك، وولد أبيك مَا كنت فيه من الضعف حين أراد اللَّه عز وجل بكم مَا أراد، وإن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فو الله مَا فوق مَا أنت فِيهِ إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قَالَ: لا. قَالَ: فكيف تصنع بالملك الَّذِي خولك مَا أنت فِيهِ من ملك الدنيا، وَهُوَ لا يعاقب من عصاه بالقتل، ولكن يعاقب من عصاه بالخلود فِي العذاب الأليم، وَهُوَ الَّذِي يرى منك مَا عقد عليه قلبك [1] ، وأضمرته جوارحك، فما تقول إذا انتزع ملك الدنيا من يدك، ودعاك إِلَى الحساب؟ هل يفي عنك مَا كنت فيه شيئا؟
__________
[1] في ت: «عليه قلبه» وما أثبتناه من الأصل.

(8/50)


فبكى المنصور بكاء شديدا حَتَّى ارتفع صوته/، ثُمَّ قَالَ: يا ليتني لم أخلق ولم 24/ أأك شيئا. ثُمَّ قَالَ: كيف احتيالي فيما خولت ولم أر من الناس إلا خائنا. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَيْك بالأئمة الأعلام المرشدين. قَالَ: ومن هم؟ قَالَ: العلماء. قَالَ: قَدْ فرّوا مني. قال: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ظهر مَا من طريقتك، ولكن افتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم، وامنع الظالم، وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالعدل، وأنا ضامن لك عَنْ من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك.
فَقَالَ المنصور: اللَّهمّ وفقني أن أعمل بما قَالَ [1] هَذَا الرجل. وجاء المؤذنون فسلموا عليه، وأقيمت الصلاة، فخرج فصلى بهم ثُمّ قَالَ للحارس: عَلَيْك [2] بالرجل، فلئن لم تأتني به لأضربْن عنقك. واغتاظ عليه غيظا عظيما، فخرج الحرسي يطلب الرجل، فبينا هو يطوف إذا هو بالرجل قائم يصلي، فقعد حَتَّى صلى، ثُمَّ قَالَ: يا ذا الرجل، أما تتقي اللَّه؟ قَالَ: بلى. قَالَ: مَا تعرفه؟ قَالَ: بلى. قَالَ: فانطلق معي فقد إِلَى أن يقتلني إن لم آته بك. قَالَ: ليس إِلَى ذلك سبيل. قَالَ: يقتلني. قَالَ: ولا يقتلك. قَالَ: كيف؟ قَالَ: تحسن تقرأ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فأخرج من مزود كَانَ معه رقاع فِيهِ شيء مكتوب، فَقَالَ: خذه فاجعله فِي جيبك، فإن فِيهِ دعاء الفرج. قَالَ: وما دعاء الفرج؟ قَالَ: لا يرزقه إلا السعداء. قَالَ: رحمك اللَّه فقد أحسنت إلي، فإن رأيت أن تخبرني مَا هَذَا الدعاء وما فضله؟ قَالَ: من دعا به صباحا ومساء هدمت ذنوبه، ودام سروره، ومحيت خطاياه، واستجيب دعاؤه، وبسط لَهُ فِي رزقه، وأعطي أمله، وأعين على عدوه، وكتب عند اللَّه صديقا، ولا يموت إلا شهيدا، تقول: اللَّهمّ كما لطفت فِي بعظمتك دون اللطفاء، وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمت مَا تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك، وكانت/ وساوس الصدور كالعلانية عندك، وعلانية القول 24/ ب كالسر فِي علمك، فانقاد كل شيء لعظمتك، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك، اجعل لي من كل هم أمسيت فِيهِ فرجا ومخرجا. اللَّهمّ إن عفوك عَنْ ذنوبي، وتجاوزك عَنْ خطيئتي، وسترك على قبيح عملي، أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه منك، فصرت أدعوك آمنا، وأسألك مستأنسا، وإنك المحسن إليّ وإني
__________
[1] في الأصل: «أن أعمل بها قال» وما أثبتناه من ت.
[2] في ت: «عليكم» وما أثبتناه من الأصل.

(8/51)


المسيء إِلَى نفسي فيما بيني وبينك توددا لي وأ تبغض إليك، ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عَلَيْك، فعد بفضلك علي، إنك أنت التواب الرحيم.
قَالَ: فأخذته فصيرته فِي جيبي، ثُمَّ لم يكن لي هم غير أمير المؤمنين، فدخلت فسلمت عليه، فرفع رأسه ينظر إلي ويبتسم، ثُمَّ قَالَ لي: ويلك، تحسن السحر.
فقلت: لا والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ قصصت عليه أمري مَعَ الشيخ، فَقَالَ: هات الرق.
ثُمَّ جعل يبكي، ثُمَّ قَالَ: به نجوت، وأمر بْنسخه [1] ، وأعطاني عشرة آلاف درهم، ثُمَّ قَالَ: أتعرفه؟ قلت: لا. قَالَ: ذاك الخضر.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
757- خالد بْن أبي يزيد- وقيل: [ابْن] [2] يزيد- أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ الحراني [3] .
قدم بغداد، فسمع بها من حجاج بْن مُحَمَّد الأعور. قَالَ يحيى بن معين: هو ثقة. توفي في هذه السنة.
758- سعيد بْن أبي إياس، أَبُو مسعود الجريري [4] .
منسوب إِلَى جرير- بضم الجيم- وَهُوَ جرير بْن عباد، قبيلة معروفة، يروي عن أبي العلاء، وأبي نضرة. سمع منه الثوري، وشعبة. وَكَانَ ثقة، لكنه اختلط فِي آخر عمره.
تُوُفِّيَ فِي هذه السنة.
759- عَبْد اللَّهِ بْن المقفع [5] .
كَانَ فصيح العبارة، جيد الكلام، وله: «اليتيمة» كتاب فيه آداب حسان.
__________
[1] في الأصل: «بنسخته» وما أثبتناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 8/ 304- 316.
[4] انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/ 261. والتهذيب 4/ 5، والجرح 4/ 1.
[5] انظر ترجمته في: خزانة الأدب 3/ 459- 460، وأمالي المرتضى 1/ 94، والبداية والنهاية 10/ 96.

(8/52)


فمن ذلك/ أنه قَالَ [فِيهِ] [1] : يا طالب العلم والأدب اعرف الأصول والفصول، 25/ أفإن من الناس من يطلب الفصول مَعَ إضاعة الأصول، فلا تكون دركهم دركا، ومن أحرز الأصول اكتفى بها من الفصول، فإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل، وأفضل الأمر أن تعقد على الإيمان، وتجتنب الكبائر، وتؤدي الفريضة، فإن قدرت أن تجاوز إِلَى الفقه والعبادة، فهو أفضل، وأصل الأمر فِي إصلاح البدن أن لا يحمل عليه من المآكل والمشارب والباءة إلا خفا، ثُمَّ إن قدرت أن تعلم عَنْ جميع منافع الجسد ومضاره فهو أفضل. وأصل الأمر فِي المعيشة أن لا تني عَنْ طلب الحلال، وتحسن التقدير لما تفيد وتنفق، ولا تغرنك سعة تكون فِيهَا، فإن أعظم الناس خطرا أحوجهم إِلَى التقدير، والملوك أحوج الناس إِلَيْهِ من السوقة، فإن السوقة قَدْ يعيشون بغير مال، والملوك لا قوام لهم إلا بالمال.
وإن ابتليت بالسلطان فتغوث بالعلماء، واعلم أن قائل المدح كمادح نفسه، والراد لَهُ ممدوح، والقائل لَهُ معيب، إنك إن تلتمس رضا الناس تلتمس مَا لا يدرك، فعليك بالتماس رضا الأخيار ذوي العقول، احرص الحرص كله على أن تكون خابرا بأمور عمالك، فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن يصيبه وقعك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك، تعرف الناس فيما يعرفون من أخلاقك، إنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي.
واعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء، فدعه للمهم، فإن مالك لا يغني الناس كلهم، فاخصص به أهل الحق، وكرامتك لا تطيق العامة، فتوخ بها أَهْل الفضل.
واعلم [2] إنما شغلت من رأيك فِي غير [3] المهم أزرى بك فِي المهم، ليس للملك أن يغضب، لأن القدرة من وراء حاجته، ولا/ أن يكذب، لأنه لا يقدر أحد عَلَى استكراهه 25/ ب على مَا لا يريد، ولا أن يبخل، لأنه أول النّاس عذرا فِي خوف الفقر، ولا أن يكون حقودا، لأن خطره قَدْ جل عَنِ المجازاة، وليتفقد الوالي حاجة الأحرار فيسد بها طغيان السفلة فيقمعه [4] وليتق حرم الكريم الجائع، واللئيم الشبعان، فإنما يصول الكريم إذا
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.
[2] في الأصل: «والعلم» وما أثبتناه من ت.
[3] في الأصل: «في رأي المهم» وما أثبتناه من ت.
[4] في الأصل: «فليقمعه» وما أثبتناه من ت.

(8/53)


جاع، واللئيم إذا شبع [1] . وأحوج الناس إِلَى التثبيت الملوك، واللئام [2] أصبر أجسادا والكرام أصبر قلوبا.
اعلم أن من أوقع الأمور فِي الدين، وأنهكها للجسم، وأتلفها للمال، وأفسدها للعقل، وأذهبها للوقار الإغلام بالنساء. ومن البلاء على الحر الغرم بهن، إنه لا ينفك يسأم مَا عنده، وتطمح عيناه إِلَى مَا ليس عنده [3] ، ومجهولاتهن خدع، وربما هجم على مَا يظنه حسنا، وهو قبيح حَتَّى لو لم يبق فِي الأرض إلا امرأة ظن أن لها شأنا غير شأن مَا ذاق، وهذا من الحمق. ومن أتخم نفسه الطعام والشراب والنساء كَانَ مما يصيبه انقطاع تلك اللذات عنه لخمود نار شهوته، فإن استطعت أن تضع نفسك دون غايتك بربوة فافعل، لا تجالس أميرا بغير طريقته، فإنك إن لاقيت الجاهل بالعلم، والغني بالبيان، ضيعت عقلك، وآذيت جليسك بحملك [4] عليه مَا لا يعرف، كمخاطبة الأعجمي [5] بما لا يفقه، إذا نزل بك مهم، فإن كَانَ مما له حيلة فلا يعجز، وإن كَانَ مما [6] لا حيلة لَهُ فلا يجزع.
وقيل لَهُ: من أدبك؟ قَالَ: نفسي، إذا رأيت شيئا أذمه من غيري اجتنبته.
وَكَانَ ابْن المقفع مَعَ هَذِهِ الفصاحة والأدب كريما.
أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أَحْمَد السمرقندي قَالَ: أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن مسعدة الإسماعيلي قَالَ: حَدَّثَنَا حمزة بْن يوسف السهمي [7] قَالَ: أخبرنا عبد الله بن عدي الحافظ قال: أَخْبَرَنَا ابْن مكرم قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ قَالَ: / سمعت أبا عاصم يَقُول: حَدَّثَنَا محمد بن عمارة قال: لما ولي ابن شبرمة القضاء كتب إِلَيْهِ إسماعيل بْن مسلم المكي: إنه قَدْ أصابتني حاجة. فكتب إِلَيْهِ: الحق بنا نواسك. فخرج
__________
[1] «فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع» سقط من ت.
[2] العبارة بها نقص يكتمل المعنى به.
[3] «إنه لا ينفك يسأم مَا عنده وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده» ساقطة من ت.
[4] في الأصل: «بحلمك» وما أثبتناه من ت.
[5] في الأصل: «الأعمى» وما أثبتناه من ت.
[6] في الأصل: «كان ما لا حيلة فيه» وما أثبتناه من ت.
[7] «حمزة بن يوسف السهمي» ساقطة من ت.

(8/54)


إسماعيل [1] ، [فلما قدم تلقاه ابْن المقفع. فَقَالَ: ما جاء بك بعد هذا السن؟] [2] قَالَ:
أصابتني حاجة فكتبت إِلَى ابْن شبرمة، فكتب إلي: الحق بْنا نواسك. قَالَ: استخف والله بك، لأنك من العجم، ولو كنت من العرب لبعث إليك فِي مصرك تملك على نفسك ثلاثة أيام لا تأتيه. قال: فانطلق بي إِلَى منزله، فلما كَانَ فِي اليوم الثالث أتاني بسبعة آلاف درهم تنقص دريهمات، وأتمهما بخلخال، وَقَالَ: خذها الآن إن شئت، فأقم عندي، وإن شئت فأته، وإن شئت فارجع إِلَى مصرك. قلت: لا والله، لا آتيه ولا أقيم عندك. ورجعت إِلَى بلدي.
وروى شبيب بْن شيبة قَالَ: كنا وقوفا بالمربد- وَكَانَ مواقف الأشراف- إذ أقبل ابْن المقفع فتشبثنا به، وبادأناه بالسلام، فرد علينا، وَقَالَ: لو ملتم إِلَى داري، فودعتم أبدانكم، وأرحتم دوابكم. فملنا، فلما استقر بْنا المكان قَالَ لنا: أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضنا إِلَى بعض وقلنا: لعله أراد أصله من فارس [3] . فقلنا: فارس. فَقَالَ: ليسوا كذلك، إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، وحووا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا حكما فِي أنفسهم. قلنا: فالروم. قَالَ: أصحاب صبغة [4] . قُلْنَا: فالصين. قَالَ: أصحاب طرفة [5] . قلنا: فالهند. قَالَ: أصحاب فلسفة. قلنا: السودان. قَالَ: شر خلق الله.
قلنا: الترك. قَالَ: كلاب مختلسة. قلنا: الخزر. قَالَ: بقر سائمة. قلنا: فقل. قَالَ:
العرب. فضحكنا. قَالَ: إني مَا أردت موافقتكم، ولكني إذ فاتني حظي من النسبة [6] فلا يفوتني حظي من المعرفة، إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، [ولا آثار] [7] أثرت/، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل 26/ ب بمجهوده، ويشارك فِي ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله
__________
[1] في الأصل: «فخرج إسماعيل البرمكي»
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت. وفي الأصل: «فقال أنه قد أصابتني» .
[3] في ت: «من العجم» وما أثبتناه من الأصل.
[4] في ت: «صبغة» وما أثبتناه من الأصل.
[5] في ت: «لهفة» وما أثبتناه من الأصل.
[6] في الأصل: «من النسب» وما أثبتناه من ت.
[7] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.

(8/55)


فيصير حجة، ويحسن مَا يشاء فيحسن، ويقبح مَا يشاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلمتهم قلوبهم وألسنتهم، فرفع اللَّه لهم أكرم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملك الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته منهم إِلَى الحشر، فمن دفع حقهم [1] خسر، ومن أنكر فضلهم خصم، ودفع الحق باللسان أكبت للجنان.
واجتمع ابْن المقفع بالخليل بْن أَحْمَد فَقَالَ الخليل: علمه أكثر من عقله.
وَكَانَ ابْن المقفع مَعَ هَذَا يتهم فِي دينه، فروي عَنِ المهدي أنه قَالَ: مَا وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابْن المقفع.
وقد حكى المرتضى عَنِ الجاحظ أنه قَالَ: كَانَ ابْن المقفع ومطيع بْن إياس ومنقذ بْن زياد يتهمون فِي دينهم.
قَالَ المرتضى: ومر ابْن المقفع ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم، فتلمحه [2] ثُمَّ قَالَ:
يا بيت عاتكة الَّذِي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني قسما ... إليك مَعَ الصدود لأميل
وَكَانَ ابْن المقفع قَدْ كتب كتاب أمير المؤمنين لعَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، وكتب فِيهِ: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عَبْد اللَّه فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حلّ من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور، فكتب إِلَى سفيان بْن معاوية- وَهُوَ أمير البصرة- فقتله.
وروى أَبُو بكر الصولي: أن الربيع الحاجب قَالَ: لما قرأ المنصور الأيمان الَّذِي كتبه ابن المقفع قَالَ: من كتب هَذَا؟ فقيل: رجل يقال لَهُ عَبْد اللَّه بْن المقفع يكتب 27/ ألعمّيك سليمان/ وعيسى ابْني علي بالبصرة، فكتب إِلَى عامله بالبصرة: لا يفلتنك ابْن المقفع حَتَّى تقتله. فاستأذن يوما عليه مَعَ وجوه أَهْل البصرة، فأخر سفيان إذنه وأذن لمن كَانَ معه قبله، ثُمَّ أذن لَهُ، فلما صار فِي الدهليز عدل به [3] إِلَى حجرة، فقتل فيها،
__________
[1] في الأصل: «فمن حقهم» .
[2] في ت: «فلمحة» وما أثبتناه من الأصل.
[3] «به» ساقطة من ت، وأثبتناها من الأصل.

(8/56)


وخرج القوم فرأوا غلمانه فسألوهم عنه، فقيل: دخل بعدكم، فخاصم سليمان وعيسى ابْنا عَلِيّ سفيان بْن معاوية المهلبي وأشخصاه إِلَى المنصور، وقامت البينة العادلة بأن ابْن المقفع دخل دار سفيان سليما ولم يخرج منها. فَقَالَ المنصور: أنا أنظر فِي هَذَا، وأقيده به. ووعدهم الغد، فجاء سفيان ليلا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اتق اللَّه فِي صنيعك ومتبع أمرك أن تجري [1] قتله علي. قَالَ: لا ترع واحضر. فحضر [2] وقامت [3] البينة. فَقَالَ المنصور: أرأيتم إن قتلت سفيان بن معاوية بابْن المقفع، ثُمَّ خرج ابْن المقفع عليكم من هَذَا الباب- وأومأ إِلَى باب خلفه- من ينصب لي نفسه حَتَّى أقتله مكان سفيان؟
فرجعوا كلهم عَنِ الشهادة واندفع الأمر.
وروى أَبُو الحسن المدائني: أن ابْن المقفع [4] كَانَ يعبث بسفيان بْن معاوية بْن يزيد بْن المهلب [5] بالحيرة، ويضحك منه، فغضب سفيان يوما وافترى عليه، فَقَالَ لَهُ ابْن المقفع: يا ابْن المغتلمة، والله مَا اكتفت أمك برجال العراق حَتَّى نكحها رجال أَهْل الشام؟ وكانت أم سُفْيَان: ميسون بْنت المغيرة بْن المهلب. فاضطغن عليه سفيان، فقدم سليمان بْن عَلِيّ، وعيسى بْن عَلِيّ ليكتبوا لعَبْد اللَّه بْن عَلِيّ أمانا. وَكَانَ ابْن المقفع يكتب لعيسى بْن عَلِيّ، وَكَانَ يتنوق فِي الشرط، فكتب فيما اشترط: إن قتله أمير المؤمنين فلا بيعة [6] لَهُ. فَقَالَ المنصور: من يتوثق لهم؟ قالوا: ابْن المقفع. قَالَ: فما أحد يكفيني ابْن المقفع. فكتب أَبُو الخصيب إِلَى سفيان بْن معاوية يحكي لَهُ هَذَا الكلام عَنْ أمير المؤمنين، / فاعتزم على قتله إن أمكنه ذلك فاستدعاه فقال: أتذكر ما 27/ ب كنت تقول؟ قَالَ: أنشدك اللَّه أيها الأمير. فَقَالَ: أمي مغتلمة كما قلت إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد. فأمر بتنور فسجر حَتَّى إذا حمي أمر أن تقطع أعضاؤه، فكلما قطعوا عضوا قَالَ: ألقوه فِي النار. فيلقونه وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ، حَتَّى أتى على جميع جسده، ثُمَّ أطبق التنور وَقَالَ: ليس علي فِي المثلة بك حرج، لأنك زنديق قد أفسدت الناس،
__________
[1] في ت: «تجري» قتل عليه.
[2] فحضر» ساقطة من ت.
[3] في ت: «والشهادة» .
[4] أن ابن المقفع» ساقطة من ت.
[5] «بن يزيد بن المهلب» ساقطة من ت.
[6] في ت: «فلا تقبله» .

(8/57)


واختفى أثره، فَقَالَ عيسى لغلامه: قل لسفيان: إن لم تكن قتلته فخله، وإن كنت قتلته فو الله لأطالبْنك بدية. قَالَ سفيان: مَا أدري أين هو. فمضى عيسى إِلَى المنصور وَقَالَ:
قتله سُفْيَان فجيء بسفيان مقيدا، وجعل عيسى يطلب الشهود ويخاطب المنصور، ودخل الشهود فشهدوا، فَقَالَ لهم المنصور: قَدْ شهدتم، فإن أتيتكم بابْن المقفع حَتَّى يخاطبكم، مَا تروني صانعا بكم؟ فقام الشهود، وضرب عيسى بْن عَلِيّ عَنْ ذلك الحديث.
760- العلاء بْن بِشْر الإسكندراني، مولى قريش.
سمع من القاسم بْن مُحَمَّد، وأبي عَبْد الرَّحْمَنِ الحبلي.
روى عنه حيوة بْن شريح، وابْن لهيعة. وَكَانَ مستجاب الدعوة.
تُوُفِّيَ بالإسكندرية في هذه السنة.
761- عَمْرو بْن عبيد بْن باب، أَبُو عثمان [1] .
وباب من سبي فارس، كَانَ عَمْرو يسكن البصرة، وجالس الحسن الْبَصْرِيّ، ثُمَّ أزاله واصل بْن عطاء عَنْ مذهب أَهْل السنة، فَقَالَ بالقدر، ودعا إِلَيْهِ، واعتزل أصحاب الحسن، وَكَانَ لَهُ سمت وإظهار زهد، ودخل على المنصور فوعظه.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا القاضي أبو عبد الله الحسن بن علي الصيمري قال: حدثنا محمد بْن عمران بْن موسى الكاتب قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن هارون قَالَ: أَخْبَرَنَا عبيد اللَّه بْن أَحْمَد بْن أبي طاهر، عَنْ أبيه، عَنْ عقبة بْن هارون قَالَ: دخل عَمْرو بْن عبيد على المنصور/ وعنده المهدي بعد أن بايع لَهُ ببغداد، فَقَالَ: يا أبا عثمان، عظني. فَقَالَ: إن هَذَا الأمر الَّذِي أصبح فِي يدك لو بقي فِي يد غيرك ممن كَانَ قبلك لم يصل إليك، فأحذرك ليلة تمخض بيوم لا ليلة بعده، ثُمَّ أنشده:
يا أيهذا الَّذِي قَدْ غره الأمل ... ودون مَا يأمل التنغيص والأجل
ألا ترى أنما الدنيا وزينتها ... كمنزل الركب حلوا ثمّت ارتحلوا
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 12/ 166- 188.

(8/58)


حتوفها رصد، وعيشها نكد ... وصفوها كدر، وملكها دول
تظل تفزع بالروعات ساكنها ... فما يسوغ لَهُ لين ولا جذل
كأنه للمنايا والردى غرض ... تظل فِيهِ بْنات الدهر تنتضل
تديره- مَا أدارته- دوائرها ... منها المصيب ومنها المخطئ الزلل
والنفس هاربة والموت يرصدها ... فكل عثرة رجل عندها جلل
والمرء يسعى بما يسعى لوارثه ... والقبر وارث مَا يسعى لَهُ الرجل
قَالَ: فبكى المنصور [1] .
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الصيمري قال:
حدثنا أبو عبيد الله المرزباني قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحسين عَبْد الواحد بْن محمد الحصيني قال: حَدَّثَنَا أبو العيناء مُحَمَّد بْن القاسم قَالَ: حَدَّثَنَا الفضل بْن يعقوب قَالَ: حَدَّثَنِي عمي إسحاق بْن الفضل قَالَ: بينا أنا على باب المنصور وإلى جنبي عمارة بْن حمزة إذ طلع عَمْرو بْن عبيد على حمار، فنزل عَنْ حماره، ونحى البساط [2] برجله، وجلس دونه، فالتفت إلي عمارة فقال: لا تزال بصرتكم ترمينا بأحمق. فما فصل كلامه من فِيهِ، حَتَّى خرج الربيع وَهُوَ يَقُول: أجب أمير المؤمنين، جعلني اللَّه فداك. فمر متوكئا عليه، فالتفت إِلَى عمارة فقلت: إن الرجل الّذي استحمقت قَدْ دعي وتركنا. قَالَ: كثيرا مَا يكون مثل هَذَا. فأطال اللبث، ثُمَّ خرج الربيع وعمرو متكئ عليه، وهو يقول: / يا 28/ ب غلام، حمار أبي عثمان. فما برح حَتَّى علا سرجه، وضم إِلَيْهِ نشر ثوبه [3] ، واستودعه اللَّه. فأقبل عمارة على الربيع فَقَالَ: لقد فعلتم اليوم بهذا الرجل فعلا لو فعلتموه بولي عهدكم لكنتم قَدْ قضيتم حقه. قَالَ: فما غاب عنك والله مما فعله أمير المؤمنين أكثر وأعجب. قَالَ: فإن اتسع لك الحديث فحدثنا. فَقَالَ: مَا هو إلا أن سمع أمير المؤمنين بمكانه، فما أمهل حَتَّى أمر بمجلس ففرش لبودا، ثُمَّ انتقل هو والمهدي، وَكَانَ على المهدي سواده وسيفه، ثُمَّ أذن لَهُ [4] ، فلما دخل سلم عليه بالخلافة فردّ عليه، وما زال
__________
[1] «قال: فبكى المنصور» ساقطة من ت.
انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 166- 167.
[2] في تاريخ بغداد: «ونجل البساط» .
[3] في الأصل: «وهم إليه يشربونه» وما أثبتناه من ت.
[4] في الأصل: «ثم سأله عن نفسه وعن عياله، فلما دخل» ثم تكررت العبارة.

(8/59)


يدنيه حَتَّى أتكأه على فخذه، وتحفى به، ثُمَّ سأله عَنْ نفسه وعن عياله يسميهم رجلا رجلا وامرأة امرأة، ثُمَّ قَالَ: يا أبا عثمان، عظني. فَقَالَ: أعوذ باللَّه السميع العليم من الشيطان الرجيم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ، هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ 89: 0- 13 [1] إن ربك يا أبا جعفر لبالمرصاد. قَالَ: فبكى بكاء شديدا كأنه لم يسمع تلك الآيات إلا فِي تلك الساعة، وَقَالَ: زدني. فقال: إن الله قَدْ أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها، واعلم، أن هَذَا الأمر الَّذِي صار إليك إنما كَانَ فِي يد من قبلك، ثُمَّ أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إِلَى من هو بعدك، وإني أحذرك ليلة تمخض صبيحتها عَنْ يوم القيامة. قَالَ: فبكى والله أشد من بكائه الأول حَتَّى جف جفناه. فَقَالَ له سليمان بن خالد: رفقا بأمير 29/ أالمؤمنين، قَدْ أتعبته اليوم فَقَالَ لَهُ عَمْرو: بمثلك ضاع/ الأمر وانتشر، لا أبا لك، وماذا خفت على أمير المؤمنين أن بكى من خشية اللَّه؟ عز وجل؟ فَقَالَ لَهُ أمير المؤمنين: يا أبا عثمان، أعني بأصحابك أستعن بهم. قال: أظهر الحق يتبعك أهله. قَالَ: بلغني أن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن حسن كتب إليك كتابا. قَالَ: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه. قَالَ:
فيم أجبته؟ قَالَ: أو ليس قَدْ عرفت رأيي فِي السيف أيام كنت تختلف إلينا، إني لا أراه، قَالَ: أجل، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي. قَالَ: لئن كذبتك تقية لأحلفن لك بقية.
قَالَ: أنت والله الصادق البر.
ثم قَالَ: قَدْ أمرت لك بعشرة آلاف درهم تستعين بها على سفرك وزمانك.
قَالَ: لا حاجة لي فِيهَا. قَالَ: والله لتأخذنها. قَالَ: والله لا آخذها. فَقَالَ لَهُ المهدي:
يحلف أمير المؤمنين وتحلف؟! فترك المهدي وأقبل على المنصور وَقَالَ: من هَذَا الفتى؟ قَالَ: هَذَا ابْني مُحَمَّد، هو المهدي وولي العهد. قَالَ: والله لقد أسميته اسما مَا استحقه عمله، وألبسته لباسا مَا هو من لبس الأبرار، ولقد مهدت لَهُ أمرا أمتع مَا يكون به، أشغل مَا يكون عنه. ثُمَّ التفت إِلَى المهدي وَقَالَ لَهُ: يا ابْن أخي، إذا حلف أبوك حلف عمك، لأن أباك أقدر على الكفارة من عمك. ثم قَالَ: يا أبا عثمان، هل من حاجة؟ قَالَ: نعم. قَالَ: وما هي؟ قَالَ: لا تبعث إليّ حتى آتيك. قال: إذا لا تأتيني.
__________
[1] سورة: الفجر، الآية: 1- 13.

(8/60)


قَالَ: عَنْ حاجتي سألتني. قَالَ: فاستحفظه اللَّه وودعه ونهض، فلما ولى أمده ببصره وَهُوَ يَقُول:
كلكم يمشي رويد ... كلكم يطلب صيد
غير عَمْرو بْن عبيد [1]
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه [2] : تكلم العلماء فِي عَمْرو بْن عبيد لأجل مذهبه فِي القدر، وكذبه جماعة منهم فِي حديثه، وَكَانَ يَقُول: إن كانت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ 111: 1 [3] فما على أبي لهب من لوم.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الحافظ قَالَ: سمعت أبا عَمْرو عَبْد الوهاب/ بْن محمد بن أحمد بن إبراهيم العسال 29/ ب يَقُول: سمعت أبي يَقُول: سمعت مسبح بْن حاتم الْبَصْرِيّ يَقُول: سمعت عبيد اللَّه بْن معاذ العنبري يقول: سمعت أبي يقول: سمعت عَمْرو بْن عبيد يَقُول- وذكر حديث الصادق والمصدوق- فَقَالَ: لو سمعت الأعمش يَقُول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بْن وهب يَقُول هَذَا مَا أجبته، ولو سمعت عَبْد اللَّه بن مسعود يقول هذا مَا قبلته، ولو سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول هَذَا لرددته، ولو سمعت اللَّه تعالى يَقُول هَذَا لقلت لَهُ: ليس على هَذَا أخذت ميثاقنا [4] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا عبد اللَّه بْن أَحْمَد الأصفهاني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الشافعي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بشير بْن مطير قَالَ: حَدَّثَنَا سوار بْن عَبْد اللَّه قَالَ: حَدَّثَنَا الأصمعي قَالَ: جاء عَمْرو بْن عُبَيْد إِلَى أبي عَمْرو بْن العلاء، فَقَالَ: يا أبا عَمْرو، يخلف اللَّه وعده؟ قَالَ:
لا. قَالَ: أفرأيت إن [وعد اللَّه على] [5] عمل عقابا، يخلف وعده؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت يا أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعد خلفا ولا عارا، إن
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 167- 169.
[2] في ت: «قال المصنف» .
[3] سورة: المسد، الآية: 1.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 172
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.

(8/61)


تعد شرا ثُمَّ لا تفعله، ترى ذاك كرما وفضلا، إنما الخلف أن تعد خيرا ثُمَّ لا تفعله قَالَ: أوجدني هَذَا فِي كلام العرب. قَالَ: أما سمعت إِلَى قول الأول:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي [1]
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ:
أخبرنا ابن إسحاق البغوي قال: حدّثنا الحسن بن عليك قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ قَالَ: سمعت عَبْد اللَّه بْن سلمة الأفطس يَقُول: سمعت عَمْرو بْن عبيد يَقُول: والله لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير على سواك مَا أجزته [2] .
تُوُفِّيَ عَمْرو في هذه السنة ودفن بمران على ليال من مكة. وقيل: توفي سنة ثمان وأربعين.
30/ أ
762-/ مجالد بْن سعيد الهمداني [3] .
روى عَنِ الشعبي، وقد طعن بعض المحدثين فِيهِ.
763- هلال بْن خباب، أَبُو العلاء، مولى زيد بْن صوحان العبدي [4] .
وَهُوَ بصري سكن المدائن، وحدث بها عَنْ أبي جحيفة السوائي، وسعيد بْن جبير، وعكرمة.
روى عنه: مسعر، والثوري. وكان ثقة مأمونا، وقد غلط بعض المحدثين فقال:
ويونس بن خباب أخو هلال. وَقَالَ آخر: هلال ويونس وصالح بْنو خباب. وَكَانَ ذلك غلط ليس بينهم قرابة، إنما هو اتفاق فِي اسم الأب.
وتوفي هلال بْن خباب بالمدائن في هذه السنة.
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 175- 176.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 178.
[3] انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/ 349. والجرح 8/ 361.
[4] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 14/ 73، وتهذيب التهذيب 11/ 77. وطبقات ابن سعد 7/ 319، والجرح والتعديل 9/ 75.

(8/62)


ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
خروج مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن بْن عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عنه بالمدينة، وخروج أخيه إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه بعده بالبصرة ومقتلهما رضي اللَّه عنهما:
فأما خبر مُحَمَّد: فإن أبا جعفر لما انحدر ببْني حسن رد رياحا إِلَى المدينة، فألح فِي الطلب وأحرج محمدا حَتَّى عزم على الظهور، فخرج قبل وقته الَّذِي فارق عليه أخاه إِبْرَاهِيم.
وقيل: إن إِبْرَاهِيم هو الَّذِي تأخر عَنْ وقته لجدري أصابه.
وخرج مُحَمَّد فِي مائتين وخمسين فارسا، فأتى السجن فأخرج من فِيهِ، وتناوش الناس. وذلك في أول يوم من رجب هَذِهِ السنة. وقيل: لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة.
فأمر برياح وابْن مسلم فحبسا، وجعل يَقُول لأصحابه: لا تقتلوا. وصعد الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: أما بعد، أيها الناس، فإنه كَانَ من أمر هَذِهِ الطاغية عدو اللَّه أبي جعفر مَا لم يخف عليكم من بْناية القبة الخضراء الَّتِي بْناها معاندة للَّه فِي ملكه، وتصغيرا لكعبة اللَّه الحرام، وإنما أخذ اللَّه فرعون حين قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى 79: 24 [1] فإن أحق الناس/ بالقيام فِي هَذَا الدين أبْناء المهاجرين الأولين والأنصار، اللَّهمّ إنهم قَدْ 30/ ب أحلوا حرامك، وحرموا حلالك، وأمنوا من خوفت وأخافوا من أمنت، اللَّهمّ فاحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ بين
__________
[1] سورة: النازعات، الآية: 24.

(8/63)


أظهركم وأنتم عندي أَهْل قوة ولا شدة، ولكني اخترتكم لنفسي، والله مَا جئت وفي الأرض مصر يعَبْد اللَّه فِيهِ إلا وقد أخذ لي.
وَكَانَ المنصور يكتب على ألسن قواده يدعونه [1] إلى الظهور، ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يَقُول: لو التقينا مال إلي القواد كلهم.
ولما أخذ مُحَمَّد المدينة استعمل عَلَيْهَا عثمان بْن مُحَمَّد بْن خالد بْن الزُّبَيْر، وعلى قضائها عَبْد العزيز بْن عَبْد المطلب بْن عَبْد اللَّه المخزومي، وعلى الشرط أبا القاسم عثمان بْن عبيد اللَّه، وعلى ديوان العطاء عَبْد اللَّه بْن جعفر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، واستعمل القاسم بْن إسحاق على اليمن، وموسى بْن عَبْد اللَّه على الشام يدعوان إِلَيْهِ، فقتلا قبل أن يصلا.
واستفتي مالك بْن أنس فِي الخروج مَعَ مُحَمَّد، وقيل لَهُ: إن فِي أعناقنا لأبي جعفر بيعة. فَقَالَ: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إِلَى مُحَمَّد، ولزم مالك بيته، وأرسل مُحَمَّد إِلَى إسماعيل بْن عَبْد اللَّه بْن جعفر، فدعاه فَقَالَ: يا ابْن أخي، أنت والله مقتول، فكيف أبايعك؟ فارتدع الناس عنه قليلا، وخرج مُحَمَّد وأبو جعفر قَدْ خط مدينة بغداد بالقصب. فلما خرج مضى رجل من بْني عامر، فسار من المدينة تسع ليال، فقدم على أبي جعفر، فَقَالَ الربيع: مَا حاجتك؟ فَقَالَ: لا بد لي من أمير المؤمنين فأعلمه. فَقَالَ: سله عَنْ حاجته وأعلمني. قَالَ: قَدْ أبى إلا مشافهتك. فأذن لَهُ، فدخل فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، خرج مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بالمدينة.
فَقَالَ: قتلته والله، أَخْبَرَنِي من معه، فسمى لَهُ. فَقَالَ: أنت رأيته. قَالَ: أنا رأيته وكلمته 31/ أعلى/ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأدخله أَبُو جعفر بيتا، فلما أصبح جاءه الخبر، فأمر للرجل بتسعة آلاف، لكل ليلة سارها ألفا.
وكتب أَبُو جعفر إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من عَبْد اللَّه أمير المؤمنين إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا 5: 33 إِلَى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ 5: 34 [2] ولك عهد الله
__________
[1] في الأصل: «يدعوه» وما أثبتناه من ت.
[2] سورة: المائدة، الآية: 33، 34.

(8/64)


وميثاقه وذمته وذمة رسوله إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عَلَيْك أن أؤمنك وجميع إخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم، وأسوغك مَا أصبت من دم أو مال، وأعطيك ألف ألف درهم، وما سألت من الكراع، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من فِي حبسي من أَهْل بيتك، وأن أؤمن كل من جاءك أو بايعك أو دخل فِي شيء من أمرك، فإن أردت أن تتوثق لنفسك فوجّه إلي من أحببت يأخذ لك مني من الأمان والميثاق مَا تثق به.
فكتب إِلَيْهِ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه: من عَبْد اللَّه [1] المهدي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه: طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ 28: 1- 3 إِلَى قوله تعالى: مَا كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 6 [2] وأنا أعرض عَلَيْك من الأمان مثل مَا عرضت علي، فإن الحق حقنا، وإنما ادعيتم هَذَا الأمر بْنا، وخرجتم لَهُ بشيعتنا، وإن أبانا عليا كَانَ الْإِمَام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟ فوالدنا من النبيين محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن السلف أولهم إسلاما: عَلِيّ بْن أبي طالب، ومن الأزواج أفضلهم خديجة، وأول من صلى للقبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة، ومن المولودين حسن وحسين سيدا شباب أَهْل الجنة، وإن هاشما ولد عليا مرتين، وإن عَبْد المطلب ولد حسنا مرتين، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولدني مرتين من قبل حسن وحسين، وإني أوسط/ بني هاشم نسبا، وأصرحهم 31/ ب أبا، إنما لم نعرف فِي العجم، ولم ننازع فِي أمهات الأولاد، ولك عهد اللَّه إن دخلت فِي طاعتي، أن أؤمنك على نفسك ومالك وعلى كل أمر أحدثته، إلا حدا من حدود اللَّه، أو حقا لمسلم أو معاهد، وأنا أولى بالأمر منك، وأوفى بالعهد، لأنك أعطيتني من العهد والأمان مَا أعطيته رجالا قبلي، فأي الأمانات تعطيني!؟ أمان ابن هبيرة، أم أمان عملك عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، أم أمان أبي مسلم.
فكتب إِلَيْهِ أَبُو جعفر: أما بعد، فإني قَدْ فهمت كتابك، فإذا جل فخرك بقرابة النساء لتضل به الغوغاء، ولم يجعل اللَّه النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة، والأولياء، ولقد بعث اللَّه تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم وله عمومة أربعة، فأجاب اثنان أحدهما أبي، وأبى اثنان أحدهما أبوك، فقطع اللَّه ولايتهما منه، وأما مَا فخرت به من علي، فقد
__________
[1] في ت: «بن عبد الله المهدي» وما أثبتناه من الأصل.
[2] سورة: القصص، الآية: 1- 5.

(8/65)


حضرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوفاة، فأمر غيره فصلى بالناس، وَكَانَ فِي الستة فدفعوه، وقتل عثمان وَهُوَ لَهُ متهم، وقاتله طلحة والزبير، ثُمَّ كَانَ حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم، فإن كَانَ لكم فِيهَا شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه، ثُمَّ خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم ونفوكم، فطلبْنا بثأركم، وأورثناكم أرضهم، ولقد علمت أن مكرمتنا فِي الجاهلية سقاية الحاج وزمزم، ولقد قحط أَهْل المدينة فلم يتوسل عُمَر إلا بأبينا.
ولما ظهر مُحَمَّد شخص إِلَيْهِ الحسن بْن معاوية فرده إِلَى مكة، فغلب عَلَيْهَا ودخل مكة فخطب بالناس ونعى إليهم أبا جعفر، ودعا لمحمد بْن عبد الله فدعا أبو جعفر جعفر بْن حنظلة النهراني، وَكَانَ أعلم الناس بالحرب، وقد شهد مَعَ مروان حروبه، فَقَالَ لَهُ: يا جعفر، قَدْ ظهر مُحَمَّد، فما عندك؟ فَقَالَ: وأين ظهر؟ قَالَ: بالمدينة. قَالَ:
فاحمد اللَّه، ظهر حيث لا مال ولا سلاح ولا كراع، ابعث مولى لك تثق به الآن ينزل 32/ أبوادي/ القرى، فيمنعه ميرة الشام، فيموت مكانه جوعا. ففعل وندب أَبُو جعفر عيسى بْن موسى لقتال مُحَمَّد وَقَالَ: لا أبالي أيهما قتل صاحبه وضم إِلَيْهِ أربعة آلاف من الجند، وبعث معه مُحَمَّد بْن أبي الْعَبَّاس أمير المؤمنين، وقدم كثير بْن أبي حصين العبدي فعسكر بفيد، وخندق عليه خندقا حَتَّى قدم عليه عيسى بْن موسى، فخرج به إِلَى المدينة، وَقَالَ أَبُو جعفر لعيسى حين ودعه: يا عيسى، إني أبعثك إلى ما بين هذين- وأشار إِلَى جنبيه- فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك وابذل الأمان، وإن تغيب فضمنهم إياه حَتَّى يأتوك به، فإنهم يعرفون مذهبه. ففعل ذلك.
ولما وصل عيسى إِلَى فيد كتب إِلَى رجال من أَهْل المدينة، فتفرقوا عَنْ مُحَمَّد وخرجوا إِلَى عيسى، وقد كَانَ مَعَ مُحَمَّد نحو من مائة ألف، فلما دنا عيسى إِلَى المدينة قَالَ مُحَمَّد لأصحابه: أشيروا علي فِي الخروج والمقام. فاختلفوا، فَقَالَ بعضهم: إنك بأقل بلاد اللَّه فرسا وطعاما، وأضعفها رجلا وسلاحا، والرأي بأن تسير بمن معك حتى تأتي مصر، فو الله لا يردك راد، فتقابل الرجل بمثل سلاحه ورجاله.
وَقَالَ بعضهم: أعوذ باللَّه أن تخرج من المدينة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رأيتني فِي درع حصينة فأولتها المدينة» فحفر خندق رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي حفره يوم الأحزاب، وخطب الناس وَقَالَ: «إن هَذَا الرجل قرب منكم فِي عدد وعدة، وقد احللتكم من بيعتي، فمن أحب فليقم، ومن أحب فلينصرف. فتسللوا وخرج قوم منهم إِلَى الجبال حَتَّى بقي فِي شرذمة، حَتَّى قَالَ بعضهم: نحن اليوم في عدة أصحاب بدر ثلاثمائة وثلاثة

(8/66)


عشر رجلا ونزل عيسى بالحرف صبيحة اثنتي عشرة من رَمَضَان من هَذِهِ السنة يوم السبت، فأقام يوم السبت ويوم الأحد وغداة الاثنين، حتى استولى على سلع، وشحن/ 32/ ب وجوه المدينة بالخيل، وأقبل على دابته يمشي وحوله نحو من خمسمائة وبين يديه راية، فوقف على الثنية ثُمَّ نادى: يا أَهْل المدينة، إن اللَّه قَدْ حرم دماء بعضنا [1] على بعض، فهلم إِلَى الأمان، فمن قام تحت رايتنا فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن، خلوا بيننا وبين صاحبْنا، فإما لنا وإما لَهُ.
فشتمه أَهْل المدينة، فانصرف يومه ذاك، وعاد من الغد، ففعل مثل ذلك فشتموه، فلما كان في اليوم الثالث أقبل بالخيل والرجال والسلاح، ونادى بْنفسه: يا مُحَمَّد، إن أمير المؤمنين أمرني أن لا أقاتل حَتَّى أعرض عَلَيْك الأمان، فلك الأمان على نفسك وأهلك وولدك وأصحابك، وتعطى من المال كذا وكذا، ويقضي عنك دينك. فصاح محمد إله عن هذا، فو الله لقد علمت إنه لا يثنيني عنكم فزع، ولا يقربْني منكم طمع، ولحج القتال وترجل، فقتل يومئذ نحوا من سبعين بيده، وكانت الهزيمة قَدْ بلغت الخندق، فأرسل عيسى بأبواب بقدر الخندق، فعبروا عَلَيْهَا حَتَّى كانوا من ورائه، ثُمَّ اقتتلوا أشد القتال من بكرة حَتَّى العصر.
وفي رواية: أمرهم عيسى فطرحوا حقائب الإبل فِي الخندق، وأمر ببابي دار سعد بْن مسعود التي فِي الثنية، فطرحا على الخندق، فجازت الخيل، فالتقوا، فانصرف مُحَمَّد قبل الظهر، فاغتسل وتحنط، فقيل لَهُ: الحق بمكة. فَقَالَ: لو خرجت لقتل أَهْل المدينة، والله لا أرجع حَتَّى أقتل أو أقتل. فعرقب دابته، وعرقب أصحابه دوابهم، فلم يبق أحد إلا كسر غمد سيفه، فجاز رجل فضرب محمدا بالسيف دون شحمة أذنه اليمنى، فبرك لركبتيه، وتعاونوا عليه. وصاح حميد بْن قحطبة: لا تقتلوه، فكفوا، فجاء حميد فاجتز رأسه، وَكَانَ مَعَ مُحَمَّد سيف، فأعطاه- قبل أن يقتل- رجلا من التجار له عليه دين أربعمائة دينار. فَقَالَ خذ هَذَا السيف، فإنك لا تلقى أحدا من آل أبي/ طالب إلا أخذه وأعطاك حقك، فكان السيف عنده حَتَّى ولي جعفر بن سليمان 33/ أالمدينة، فأخبر عنه، فدعا الرجل وأخذ السيف منه وأعطاه أربعمائة دينار وقتل محمد
__________
[1] في الأصل: «دمائنا على بعض» .

(8/67)


رضي اللَّه عنه بعد العصر يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من رَمَضَان، فلما أصبحوا أرسلت أخته زينب وابْنته فاطمة إِلَى عيسى: إنكم قَدْ قتلتم هَذَا الرجل وقضيتم منه حاجتكم، فلو أذنتم لنا فواريناه. فأذن فِي ذلك، فدفنوه بالبقيع، وأمر عيسى بصلب أصحابه، وبعث عيسى بألوية فوضعها فِي أماكن ونادى مناديه: من دخل تحت لواء منها فهو آمن، أو دخل دارا من هذه الدور فهو آمن. وجعل عيسى يختلف إِلَى المسجد، فأقام بالمدينة أياما، ثُمَّ شخص [صبح] [1] تاسع عشر رَمَضَان يريد مكة، وحمل رأس مُحَمَّد إِلَى أبي جعفر وَهُوَ بالكوفة، فأمر به فطيف به فِي طبق أبيض، فلما أمسى بعث به فِي الآفاق، وتتبع من هرب من الخارجين معه [2] فقتل أكثرهم.
ولما خرج عيسى من المدينة استخلف عَلَيْهَا كثير بْن حصين، فمكث واليا عَلَيْهَا شهرا، ثُمَّ قدم عَبْد اللَّه بْن الربيع الحارثي واليا عَلَيْهَا من قبل أبي جعفر.
وَفِيهَا: ثارت السودان بالمدينة
وواليها عَبْد اللَّه بْن الربيع، فهرب منهم.
وَكَانَ السبب الَّذِي هيج ذلك أن رياح بْن عثمان استعمل أبا بكر بْن عَبْد اللَّه بْن سبرة على صدقة أسد وطئ، فلما خرج مُحَمَّد أقبل إِلَيْهِ أَبُو بكر بما كَانَ جبى، وشمر معه، فلما استخلف عيسى كثير بْن حصين أخذ أبا بكر فضربه سبعين سوطا وحبسه، ثُمَّ قدم عَبْد اللَّه بْن الربيع واليا يوم السبت لخمس بقين من شوال سنة خمس وأربعين، فنازع بعض جنده بعض التجار فِي بعض مَا يشترون [3] منهم، فخرجت طائفة منهم- يعني التجار- فشكوا [4] ذلك إِلَى ابْن الربيع فنهرهم وشتمهم، فطمع فيهم الجند، فانتهبوا شيئا من طعام السوق، وعدوا على رجل من الصرافين فغالبوه على كيسه، 33/ ب فاجتمع أَهْل المدينة فشكوا/ ذلك إِلَى ابْن الربيع فلم ينكر ذلك، وجاء رجل من الجند فاشترى من جزار لحما ولم يعطه ثمنه وشهر عليه السيف، فطعنه الجزار بشفرة فخر عَنْ دابته، واعتوره الجزارون فقتلوه، وتنادى السودان على الجند وهم يروحون إِلَى الجمعة فقتلوهم بالعمد فِي كل ناحية، حَتَّى أمسوا، فلما كَانَ الغد هرب ابن الربيع، ونفخ
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.
[2] في ت: «من ضمن خرج معه فقتل» .
[3] في الأصل: «فيما يشترى منهم» وما أثبتناه من ت.
[4] في ت: «طائفة من التجار فشكوا» .

(8/68)


السودان فِي بوق لهم، فكان كل أسود يسمعه فيؤم الصوت [1] ، وذلك فِي يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة، وعدوا على ابْن الربيع والناس فِي الجمعة، فأعجلوه عَنِ الصلاة، وخرج حتى أتى السوق، فمر بمساكين خمسة وهم يسألون الناس، فحمل عليهم بمن معه فقتلوهم، وحمل عليه السودان، فهرب ابْن الربيع إِلَى البقيع فرهقوه [2] ، فنثر لهم دراهم فأشغلوا بها، ومضى لوجهه حَتَّى نزل بطن نخلة، ووقع السودان فِي طعام لأبي جعفر من سويق ودقيق وزيت، فانتهبوه.
فخرج ابْن أبي سبرة من السجن فِي حديده، فخطب الناس وصلى بهم، ودعاهم إِلَى الطاعة، وقال ابْن أبي سبرة لجماعة من سادات العبيد: والله لئن ثبتت علينا هَذِهِ الثلاثة [3] عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى إنه لاصطلام البلد وأهله، فاذهبوا إِلَى العبيد فكلموهم. فذهبوا إليهم فقالوا: مرحبا بكم يا موالينا، والله مَا قمنا إلا إبقاء لكم.
واقبلوا بهم إِلَى المسجد، فردوا مَا انتهبوه، فرجع ابْن الربيع، فقطع أيدي جماعة من السودان.
وَفِيهَا: أسست مدينة بغداد: [4]
وَكَانَ سبب ذلك: أن أبا جعفر بْنى- حين أفضي الأمر إِلَيْهِ- الهاشمية قبالة مدينة ابْن هبيرة إِلَى جنب الكوفة، وبْنى أَبُو جعفر أيضا مدينة بظهر الكوفة سمّاها: الرصافة.
فلما ثارت الروندية بأبي جعفر فِي مدينته الَّتِي يقال لها: الهاشمية كره سكناها لاضطراب من اضطرب عليه من الروندية، ولم يأمن على نفسه. فخرج يرتاد موضعا يتخذه مسكنا لنفسه وجنده، ويبْني به مدينة، فانحدر إِلَى جرجرايا، ثُمَّ صار إِلَى بغداد، ثم مضى إلى الموصل، ثم عاد إِلَى بغداد فَقَالَ: هَذَا موضع صالح، وَهَذِهِ دجلة ليس بيننا وبين 34/ أالصين شيء، يأتينا فِيهَا كل مَا فِي البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وَهَذِهِ الفرات يجيء فِيهَا كل شيء بالشام والرقة، وضرب عسكره على الصراة، وخط المدينة، ووكل بكلّ ربع قائدا.
__________
[1] في الطبري 7/ 610: «يأتم الصوت» .
[2] في الأصل: «فوهقوه» وما أثبتناه من ت.
[3] في الأصل: «هذه الليلة» وما أثبتناه من ت.
[4] انظر: تاريخ الطبري أحداث سنة 145 هـ.

(8/69)


أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن عَلِيّ الوراق وأحمد بْن عَلِيّ المحتسب قالا: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد بْن جعفر بن هارون الكوفي قال: حدثنا الحسن بن محمد السكوني قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف قَالَ: زعم عَبْد الله بن أبي سعيد قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن حميد بْن جبلة قَالَ:
حَدَّثَنِي أبي، عَنْ جدي جبلة قَالَ: كانت مدينة أبي جعفر قبل بْنائها مزرعة البغداديين يقال لها: المباركة، وكانت لستين نفسا من البغداديين، فعوضهم عنها عوضا أرضاهم فأخذ جدي جبلة قسمه فيهم.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: ذكر علماء الأوائل أن أقاليم الأرض سبعة، وأن الهند رسمتها فجعلت صفة الأقاليم كأنها حلقة، فالإقليم الأول منها: إقليم بلاد الهند، والإقليم الثاني إقليم الحجاز، والإقليم الثالث إقليم مصر، والإقليم الرابع إقليم بابل، وَهُوَ أوسط الأقاليم وأعمرها، وفيه جزيرة العرب، وفيه العراق الّذي هو سرة الدنيا، وبغداد فِي وسط هَذَا الإقليم. والإقليم الخامس بلاد الروم، والإقليم السادس بلاد الترك، والإقليم السابع بلاد الصين. والإقليم الرابع الَّذِي فِيهِ العراق- وفي العراق بغداد- هو صفوة الأرض ووسطها لا يلحق من فِيهِ عيب سرف ولا تقصير، فكذلك اعتدلت ألوان أهله، وامتدت أجسامهم، وسلموا من شقرة الروم والصقالبة، ومن سواد الحبش وسائر أجناس السودان، ومن غلظ الترك، ومن جفاء أَهْل الجبال وخراسان، ومن دمامة أَهْل الصين ومن جانسهم، واجتمعت فِي أَهْل هَذَا القسم 34/ ب من الأرض محاسن جميع أَهْل الأقطار، وكما اعتدلوا/ فِي الخلقة، كذلك لطفوا فِي الفطنة [1] والتمسك بالعلم والآداب، وهم أهل العراق ومن جاورهم [2] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ التَّمِيمِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَد الجلوذي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى كَعْبِ الأَحْبَارِ اخْتَرْ لِي الْمَنَازِلَ. قَالَ [3] : فكتب: يا أمير
__________
[1] في ت: «الفتنة» وما أثبتناه من الأصل.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 22، 23.
[3] «قال» ساقطة من ت، وأثبتناها من الأصل.

(8/70)


الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ الأَشْيَاءَ اجْتَمَعَتْ فَقَالَ السَّخَاءُ: أُرِيدُ الْيَمَنَ. فَقَالَ حُسْنُ الْخُلُقِ:
أَنَا مَعَكَ. فَقَالَ الْجَفَاءُ: أُرِيدُ الْحِجَازَ فَقَالَ الْفَقْرُ: وَأَنَا مَعَكَ. فَقَالَ الْبَأْسُ: أُرِيدُ الشَّامَ.
فَقَالَ السَّيْفُ: وَأَنَا مَعَكَ. فَقَالَ الْعِلْمُ: أُرِيدُ الْعِرَاقَ. فَقَالَ الْعَقْلُ: وَأَنَا مَعَكَ. فَقَالَ الْغِنَى: أُرِيدُ مِصْرَ. فَقَالَ الذُّلُّ: وَأَنَا مَعَكَ. فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ، فَلَمَّا وَرَدَ الْكِتَابُ عَلَى عُمَرَ قَالَ: فَالْعِرَاقُ إِذَنْ، فَالْعِرَاقُ إِذَنْ [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي قال: قرأت على أبي بكر أَحْمَد بْن مُحَمَّد اليزدي، عَنْ أبي شيخ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن حيان قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن البغدادي قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه: جئت إِلَى الجاحظ فَقَالَ: الأمصار عشرة: الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والخير ببغداد، والغدر بالري، والحسد بهراة، والجفاء بنيسابور، والبخل بمرو، والطرمذة بسمرقند، والمروءة ببلخ، والتجارة بمصر [2] .
وَقَالَ سليمان بْن مجالد: خرج المنصور يرتاد منزلا، فخرجنا على ساباط، فتخلف بعض أصحابي لرمد أصابه، وأقام يعالج عينيه، فسأله الطبيب أين يريد أمير المؤمنين؟ قَالَ: يرتاد منزلا قَالَ: فإنا نجد فِي كتاب عندنا أن رجلا يدعى مقلاصا يبْني مدينة بين دجلة والصراة تدعى: الزوراء، فإذا أسسها وبْنى عرقا منها أتاه فتق من الحجاز فقطع بْناءها وأقبل على إصلاح ذلك الفتق، فإذا كاد يلتئم أتاه فتق من البصرة هو أكبر منه، فلا يلبث الفتقان أن يلتئما ثُمَّ يعود إِلَى بْنائها فيتمه، ثُمَّ يعمر طويلا، ويبقى الملك فِي عقبه/. قَالَ سليمان: فإن أمير المؤمنين لبأطراف الجبال في ارتياد 35/ أمنزل إذ قدم علي صاحبي فأخبرني الخبر، فأخبرت به أمير المؤمنين. فدعا الرجل فحدثه الحديث، فكرّ راجعا عوده على بدئه وَقَالَ: والله أنا ذلك لقد سميت مقلاصا وأنا صبي، ثُمَّ انقطعت عني، ثم شاور في ذلك، فاتفق رأي القوم على بغداد، وقالوا [3] لَهُ: تجيئك الميرة من العرب فِي الفرات وطرائف مصر والشام، وتجيئك
__________
[1] لم تتكرر العبارة في ت.
انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 25.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 49.
[3] في ت: «وقيل له» وما أثبتناه من الأصل.

(8/71)


الميره فِي السفن من الصين والهند والبصرة وواسط فِي دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها فِي تامرا حَتَّى تصل إِلَى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل فِي دجلة [1] ، وأنت بين أنهار لا يصل إليك [عدوك] [2] إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدو وأنت بين دجلة والفرات، لا يجيئك أحد من المشرق أو المغرب إلا احتاج إِلَى العبور بدجلة والفرات خنادق لمدينة أمير المؤمنين.
فوجه فِي حشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة فأحضروا، وأمر باختيار قوم من أَهْل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، وَكَانَ ممن أحضر الحجاج بْن أرطأة وأبو حنيفة والنعمان بْن ثَابِت.
وأمر بخط المدينة، وحفر الأساسات، وضرب اللبْن، وحرق الآجر، وكان أول ما ابتدأ به في عملها سنة خمس وأربعين [ومائة] [3] ، وأحب أن ينظر إليها، فأمر أن تخط بالرماد، وأقبل يدخل من كل باب، ويمر في فضلاتها وطاقتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد، وأمر أن يحفر أساس ذلك على ذلك الرسم.
قَالَ ابْن عياش: فوضع أول لبْنة بيده وَقَالَ: بسم اللَّه وباللَّه، والْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 7: 128 [4] . ثُمَّ قَالَ: ابْنوا على بركة اللَّه وعونه.
وَقَالَ حماد التركي: لما وقع اختيارهم على موضع بغداد، وَكَانَ فِي موضع الخلد/ دير وفي فرات الصراة قرية، وكانت القرية تسمى العتيقة، وهي التي افتتحها المثنى بن حارثة، وجاء المنصور فنزل الدير فِي موضع الخلد على الصراة، فوجده قليل البق، فَقَالَ: هَذَا موضع ارضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة. فبْناه، وَكَانَ موضع قرى ومزارع.
ولما احتاج المنصور فِي بْنائه إِلَى الأنقاض قَالَ لخالد بْن برمك: ما ترى في نقض بناء كسرى بالمدائن وحمل نقضه إِلَى مدينتي هَذِهِ. فَقَالَ: لا أرى ذلك. قال:
__________
[1] في ت: «ودجلة» وما أثبتناه من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.
[4] سورة الأعراف، الآية: 128.

(8/72)


ولم؟ قَالَ: لأنه علم من [أعلام] [1] الإسلام يستدل به الناظر إِلَيْهِ على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما هو بأمر دين. فَقَالَ: أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم. وأمر أن ينقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، وحمل نقضه، فنظر فِي مقدار مَا يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثمن الجديد، فرفع ذلك إِلَى المنصور، فدعا خالدا فأخبره وَقَالَ: مَا ترى؟ قَالَ: قَدْ كنت أرى أن لا تفعل، فأما إذ فعلت فأرى أن تهدم الآن حَتَّى تلحق بقواعده لئلا يقال إنك عجزت عَنْ هدمه. فأعرض المنصور عَنْ ذلك وأمر أن لا يهدم.
أَخْبَرَنَا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد الْقَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عُمَر المرزباني قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين عَبْد الواحد بْن مُحَمَّد الحصيني قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو علي أَحْمَد بْن إسماعيل قَالَ: لما صارت الخلافة إِلَى المنصور أمر بْنقض إيوان المدائن فاستشار جماعة من أصحابه، وكلهم أشار عليه بمثل مَا هم، وَكَانَ معه كاتب من الفرس فاستشاره [2] فِي ذلك فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أنت تعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من تلك القرية- يعني المدينة- وكان له بها مثل ذلك المنزل، ولأصحابه مثل تلك الحجر، فخرج أصحاب ذلك الرسول صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى جاءوا مَعَ ضعفهم إِلَى صاحب هَذَا الإيوان مَعَ عزته وصعوبة أمره/، حَتَّى غلبوه وأخذوه من يديه قسرا 36/ أوقهرا، ثُمَّ قتلوه، فيجيء الجائي من أقاصي الأراضي فينظر إِلَى تلك المدينة وإلى هَذَا الإيوان، ويعلم أن صاحبها قهر صاحب هَذَا الإيوان، فلا يشك أنه بأمر اللَّه عز وجل، وأنه هو الَّذِي أيده، وَكَانَ معه ومع أصحابه، وفي تركه فخر لكم، فاستغشه المنصور واتهمه لقرابته من القوم، ثُمَّ بعث فِي بعض الإيوان فنقض منه الشيء اليسير، ثُمَّ كتب إِلَيْهِ أنه يغرم [3] فِي نقضه أكثر مما يسترجع، وأن هَذَا تلف للأموال وذهابها. فدعا الكاتب فاستشاره فيما كتب به إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ كنت أشرت بشيء لم يقبل مني، وأما الآن فإني آنف لكم أن يكونوا أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[2] في الأصل: «فاستشار» وما أثبتناه من ت.
[3] في الأصل: «أنه إذا يغرم في نقضه» .

(8/73)


هدمه والصواب أن تبلغ به الماء. ففكر المنصور فعلم أنه قَدْ صدق، ثُمَّ نظر فإذا هدمه يتلف الأموال فأمر بالإمساك عنه.
وقيل إن أبا جَعْفَر لما أمر بحفر الخنادق وأنشأ بْناء الأساس أمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا، وقدر أعلاه عشرين ذراعا، فلما بلغ البْناء قامة أتاه خروج مُحَمَّد فقطع البْناء، وخرج إِلَى الكوفة، فلما فرغ من حرب مُحَمَّد رجع إِلَى بغداد.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بْن أبي طالب قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عروة قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الصولي قال: قال رجل من ولد الربيع.
لما أراد أَبُو جَعْفَر أن يبْني لنفسه كَانَ يؤتى من كل مدينة بتراب فيعفنه فيصير عقارب وهوام، حَتَّى أتى بتربة بغداد، فخرج صرارات، وأتى الخلد فنظر إِلَى دجلة والفرات فأعجبه، فرآه راهب كَانَ هُنَاكَ وَهُوَ يقدر بْناءها. فَقَالَ: لا يتم، فبلغه فأتاه.
فقال: نعم!. نجد في كتبنا أن الَّذِي يبْنيها ملك يقال لَهُ: مقلاص. قَالَ أَبُو جَعْفَر: كانت والله أمي تلقبْني فِي صغري مقلاصا [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الخطيب قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن أبي علي المعلى قَالَ: أَخْبَرَنَا طلحة بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْن جرير/ إجازة:
أن أبا جَعْفَر ابتدأ أساس المدينة سنة خمس وأربعين ومائة، واستتم البْناء سنة ست وأربعين ومائة وسمّاها مدينة السلام [2] .
قَالَ الخطيب: وبلغني أنه لما عزم على بْنائها أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبْناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرض، فمثل لهم صفتها الَّتِي فِي نفسه، ثُمَّ أحضر الفعلة والصناع من النجارين والحفارين والحدادين وغيرهم، وأجرى عليهم الأرزاق، وكتب إِلَى كل بلد فِي حمل من فِيهِ ممن يفهم شيئا من أمر البْناء، ولم يبتدئ فِي البْناء حَتَّى تكامل بحضرته من أَهْل الصناعات ألوف كثيرة، ثُمَّ اختطها وجعلها مدورة. ويقال: لا يعرف في أقطار الأرض كلها مدينة مدورة سواها، ووضع أساسها فِي وقت اختاره نوبخت المنجّم [3] .
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 66.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 66.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 67.

(8/74)


أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو عمر الحسن بن عثمان بن الفلو قال: أخبرنا جعفر بن محمد بن أحمد بْن الحكم قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الفضل الْعَبَّاس بْن أَحْمَد الحداد قَالَ: سمعت أَحْمَد البربري [1] يَقُول: مدينة أبي جَعْفَر ثَلاثُونَ ومائة جريب، خنادقها وسورها ثَلاثُونَ جريبا، وأنفق عَلَيْهَا ثمانية عشر ألف ألف [2] .
قَالَ الخطيب: ورأيت فِي بعض الكتب أن المنصور أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إِلَى أن فرغ من بْنائها أربعة آلاف وثلاثة وثمانين درهما، مبلغها من الفلوس مائة ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس، وذلك أن الأستاذ من الصناع كان يعمل يومه بقيراط إِلَى خمس حبات، والروزداري يعمل بحبتين إلى ثلاث حبات، وهذا خلاف مَا تقدم ذكره، وبين القولين تفاوت كثير [3] .
أخبرنا عبد الرحمن قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبُ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ الوراق قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر النحوي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد السكوني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف قَالَ: قَالَ يحيى بْن الْحَسَن بْن عَبْد الخالق: خط المدينة ميل فِي ميل [4] ، / ولبْنها ذراع في ذراع [5] .
قَالَ ابْن خلف: قَالَ أَحْمَد بْن مُحَمَّد الشروي: وهدمنا من السور الَّذِي على باب المحول قطعة، فوجدنا فِيهَا لبْنة مكتوب عَلَيْهَا بمغرة وزنها مائة وسبعة عشر رطلا، فوزناها فوجدناها كذلك [6] قَالَ الخطيب: وبلغني عَنْ مُحَمَّد بْن خلف أن أبا حنيفة النعمان بن ثابت كان يتولى القيام بضرب لبْن المدينة وعدده حَتَّى فرغ من استتمام بْناء حائط المدينة مما يلي الخندق. وَكَانَ أَبُو حنيفة يعد اللبْن بالقصب، وَهُوَ أول من فعل ذلك، فاستفاده الناس منه [7] .
__________
[1] في تاريخ بغداد: «أحمد بن البربري» .
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 69.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 69- 70.
[4] في الأصل: «مثل في مثل» وما أثبتناه من ت وتاريخ بغداد.
[5] انظر: تاريخ بغداد 1/ 70.
[6] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 72.
[7] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 71.

(8/75)


قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه [1] : وقد روي فِي حديث آخر أن المنصور أراد أبا حنيفة على القضاء فامتنع، فحلف لا بد أن يتولى لَهُ، فولاه القيام ببْناء المدينة وضرب اللبن ليخرج من يمينه. فتولى ذلك.
قَالَ الخطيب: وذكر مُحَمَّد بْن إسحاق البغوي أن رياحا البْناء حدثه- وكان ممن كان يتولى بناء سور مدينة المنصور- قَالَ: كَانَ بين كل باب من أبواب المدينة إِلَى الباب الآخر ميل في كل ساف من أسواف البْناء مائة ألف لبْنة واثنتان وستون [2] ألف لبْنة، فلما بْنينا الثلث من السور [3] لقطناه، فصيرنا فِي الساف مائة ألف لبنة وخمسين ألف لبنة، فلما جاوزنا الثلثين لقطناه فصيرنا فِي البْناء مائة ألف [لبْنة] [4] وأربعين ألفا إِلَى أعلاه [5] وذكر أَبُو بكر بْن ثَابِت أن ارتفاع هَذَا السور خمسة وَثَلاثُونَ ذراعا، وعرضه من أرضه [6] نحو من عشرين ذراعا، وجعل لها أربعة أبواب، فإذا جاء أحد من الحجاز دخل من باب الكوفة، وإذا جاء أحد من المغرب [7] دخل من باب الشام، فإذا جاء أحد من الأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين دخل من باب البصرة، وإذا جاء من المشرق دخل من باب خراسان، فمن باب خراسان إِلَى باب الكوفة ألفا ذراع ومائتا ذراع، ومن باب البصرة إِلَى باب الشام ألفا ذراع ومائتا ذراع، وعلى كل أزج من أزاج هَذِهِ الأبواب مجلس ودرجة، وعليه قبة عظيمة، وعليها تمثال تديره الريح. وكان 37/ ب المنصور يجلس إذا أحب أن/ ينظر إِلَى [من يقبل من باب خراسان فِي القبة الَّتِي تليه، وإذا أحب أن ينظر إِلَى] [8] الأرباض [9] وما والاها جلس فِي قبة باب الشام،
__________
[1] في ت: «قال المصنف» .
[2] في الأصل: «وسبعين» وما أثبتناه من ت.
[3] في الأصل: «من الصور» .
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[5] «إلى أعلاه» ساقطة من ت. وانظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 71- 72.
[6] في ت: «من أسفله» وما أثبتناه من ت.
[7] في الأصل: «من العرب» وما أثبتناه من ت.
[8] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[9] في الأصل: «إلى الأرض» .

(8/76)


وَإِذَا أحب النظر إِلَى الكرخ جلس فِي قبة باب البصرة، وإذا أحب النظر إِلَى البساتين [1] جلس فِي القبة الَّتِي على باب الكوفة، وعلى كل باب من أبواب المدينة باب حديد [2] ، نقل تلك الأبواب من واسط وهي أبواب الحجاج، وأن الحجاج نقلها من مدينة بْناها سليمان بْن داود عليهما السلام، وَكَانَ على أبواب المدينة مما يلي الرحاب سور وحجاب، وعلى كل باب قائد، فكان على باب الشام سليمان بْن مجالد فِي ألف، وعلى باب البصرة أَبُو الأزهر التَّمِيمِيّ فِي ألف، وعلى باب الكوفة خالد العكي فِي ألف، وعلى باب خراسان مسلمة بْن صهيب الغساني، وجعل بين كل ثمانية وعشرين برجا، إلا بين باب البصرة وباب الكوفة، فإنه يزيد واحدا وعمل عَلَيْهَا الخنادق، وجعل لها سورين وفيصلين، وَكَانَ لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من هَذِهِ الأبواب إلا راجلا، إلا عمه داود، فإنه كَانَ منقرسا، وَكَانَ يحمل فِي محفة. ومحمد المهدي ابْنه، وكانت تكنس الرحاب فِي كل يوم يكنسها الفراشون، ويحمل التراب إِلَى خارج المدينة. وَقَالَ لَهُ عمه عَبْد الصمد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أنا شيخ كبير، فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب، فلم يأذن لَهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عدني بعض بغال الرّوايا التي تصل إِلَى الرحاب. فَقَالَ: يا ربيع، بغال الروايا تصل إِلَى رحابي، فَقَالَ: نعم. فَقَالَ: تتخذ الساعة قنى بالساج من باب خراسان حَتَّى تجيء إِلَى قصري.
وكانت الأبْنية متصلة بالمدينة من شاطئ دجلة إِلَى الكبش والأسد [3] ، وهما موضعان قريب من قبر إِبْرَاهِيم الحربي.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ [بْنُ محمد قال: أخبرنا أحمد بن] [4] علي قال: قال لي هلال بن المحسن: حَدَّثَنِي بِشْر بْن عَلِيّ بْن عبيد الكاتب قَالَ: كنت أجتاز بالكبش والأسد فلا أتخلص في أسواقها من كثرة الزحمة [5] ، ثُمَّ بْنى القصر والجامع، وكانت مساحة قصره أربعمائة ذراع في أربعمائة ذراع، ومساحة المسجد الأول/ مائتين في 38/ أ
__________
[1] في الأصل: «إلى الكرخ» .
[2] في ت: «باب حديدة» .
[3] من أول «وهما موضعان» حتى «أتخلص في أسواقها» ساقطة من ت.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأضفناه للتصحيح.
[5] في ت: «فإذا مشى الرجل في أسواقها لا يتخلص من كثرة الزحمة» .

(8/77)


مائتين، وأساطين الخشب فِي المسجد كل أسطوانة قطعتين معقبة بالعقب والغراء وضباب الحديد إلا خمسا أو ستا عند المنارة [، فإن كل أسطوانة قطع ملفقة] [1] ، وَكَانَ فِي صدر قصره القبة الخضراء، من الأرض إِلَى رأس القبة الخضراء ثمانون ذراعا، وعلى رأس القبة تمثال فرس عليه فارس.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم التنوخي [2] قَالَ: سمعت جماعة من مشايخنا يذكرون أن القبة الخضراء كَانَ على رأسها صنم على صورة فارس فِي يده رمح، فكان السلطان إذا رأى ذلك الصنم قَدِ استقبل بعض الجهات ومد الرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت حَتَّى ترد عليه الأخبار بأن خارجيا قَدْ نجم من تلك الجهة [3] .
قَالَ التنوخي: وحدثني أَبُو الْحَسَن بْن عبيد الزجاج الشاهد قَالَ: أذكر فِي سنة سبع وثلاثمائة وقد كسرت العامة الحبوس بمدينة المنصور، فأفلت من كان فيها، وكانت الأبواب الحديد الَّتِي للمدينة باقية فغلقت، وتتبع أصحاب الشرط من أفلت من الحبوس فأخذوا جميعهم حَتَّى لم يفتهم منهم أحد.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسين بن مُحَمَّد المؤدب قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم بجرجان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إسحاق الهجيمي قَالَ: قَالَ أَبُو العيناء: بلغني أن المنصور جلس يوما فَقَالَ للربيع: انظر من بالباب من وفود الملوك فأدخله. فَقَالَ: وافد من قبل ملك الروم. فَقَالَ: أدخله. فدخل فبينا هو جالس عند أمير المؤمنين إذ سمع المنصور صرخة كادت تقلع القصر. فَقَالَ: يا ربيع، ينظر مَا هَذَا؟ قَالَ: ثُمَّ سمع صرخة هي أشد من الأولي. فَقَالَ: يا ربيع، ينظر مَا هَذَا؟ قَالَ: ثُمَّ سمع صرخة هي أشد من الأوليين، فَقَالَ: يا ربيع، اخرج بْنفسك فخرج، ثُمَّ دخل فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بقرة قربت لتذبح فغلبت الجازر وخرجت تدور فِي الأسواق. فأصغى الرومي إِلَى الربيع يتفهم مَا قَالَ، ففطن المنصور لإصغاء الرومي، فَقَالَ: يا ربيع، أفهمه،
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] في ت: «أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي بإسناده عَنْ التنوخي» .
[3] من أول: «فلا يطول الوقت» إلى هنا ساقط من ت.

(8/78)


فأفهمه. فَقَالَ الرومي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنك بْنيت بْناء لم يبْنه/ أحد كَانَ قبلك، 38/ ب وفيه ثلاثة عيوب، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: أول عيب فِيهِ بعده عَنِ الماء، ولا بد للناس من الماء لشفاههم. [وأما العيب الثاني: فإنها ليس فِيهَا بساتين يتنزه فِيهَا] [1] . وأما العيب [2] الثالث [3] : فإن رعيتك معك فِي بْنيانك إذا كانت الرعية مَعَ الملك فِي بْنيانه فشا سره. قَالَ: فتجلد عليه المنصور فَقَالَ: أما قولك فِي الماء فحسبْنا من الماء ما بلّ شفاهنا. وأما العيب الثاني فإنا لم نخلق للهو واللعب، وأما العيب الثالث فِي سري فما لي سر دون رعيتي. ثم عرف وجه الصواب. فَقَالَ: مدوا لي قناتين من دجلة واغرسوا لي العباسية، وانقلوا الناس إلى الكرخ.
قَالَ الخطيب: مد المنصور قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة، وقناة من نهر كرخايا الأخذ من الفرات وجرهما إِلَى مدينته فِي عقود وثيقة من أسفلها، محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفذ فِي الشوارع والدروب والأرباض، وتجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها، وجر لأهل الكرخ وما يتصل بها أنهارا.
وأما الجامع فقد ذكرنا أن المنصور جعل مساحته مائتين فِي مائتين، ولما جاء الرشيد أمر بْنقضه وإعادة بْنائه بالآجر والجص، ففعل ذلك وكتب عليه اسم الرشيد، وتسمية البْناء والنجار، وذلك ظاهر الجدران [4] إِلَى الآن، وكانت الصلاة فِي الصحن العتيق الَّذِي هو الجامع، حَتَّى زيد فِيهِ الدار المعروفة بالقطان، وكانت قديما ديوانا للمنصور، فأمر مفلح التركي ببْنائها على يد صاحبه القطان، فنسب إِلَيْهِ، ثُمَّ زاد المعتضد الصحن الأول- وهو قصر المنصور- ووصله بالجامع، وزاد بدر مولى المعتضد من قصر المنصور السفطات المعروفة بالبدرية.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ لي هلال بْن المحسن قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الحسين مُحَمَّد بن الحسن بن محفوظ قال: / كنت 39/ أ
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.
[2] «وأما العيب» ساقطة من ت.
[3] في الأصل: «الثاني» .
[4] في ت: «الجدار» وما أثبتناه من الأصل.

(8/79)


أمضي مَعَ والدي إِلَى الجامع بالمدينة لصلاة الجمعة، فربما وصلنا إِلَى باب خراسان فِي دجلة وقد قامت الصلاة، وامتدت الصفوف إِلَى الشاطئ، فنصعد ونفرش إِلَى السميرية ونصلي.
قَالَ هلال: وأذكر الصفوف ممتدة من جامع الرصافة إِلَى الباب الجديد من شارع الرصافة.
أما جسور بغداد فإن المنصور أمر أن تعقد ثلاثة جسور، أحدها للنساء، ثم عقد لنفسه وحشمه جسرين بباب البستان، فكان بالزندورد جسران قَدْ عقدهما المهدي، وَكَانَ الرشيد قَدْ عقد عند باب الشماسية جسرين، وَكَانَ للمنصور جسر عند [1] سويقة قطوطا، فلم تزل هَذِهِ الجسور إِلَى أن قتل الأمين فعطلت، وبقي منها ثلاثة إِلَى أيام المأمون ثُمَّ عطل واحد [2] .
أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيّ قَالَ: سمعت أبا عَلِيّ بْن شَاذَان يَقُول: أدركت ببغداد ثلاثة جسور أحدها محاذي سوق الثلاثاء، وآخر بباب الطاق، والثالث فِي أعلى البلد عند الدار المعزية [3] . وذكر لي غير ابْن شَاذَان [4] : أن الجسر الَّذِي كَانَ عند الدار المعزية نقل إِلَى باب الطاق فصار هُنَاكَ جسران يمضي الناس على أحدهما ويرجعون على الآخر [5] .
قَالَ الخطيب: ولم يبق ببغداد غير جسر واحد بباب الطاق إِلَى دخول سنة ثمان وأربعين.
قَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ: وأخبرنا أَحْمَد قَالَ [6] : حَدَّثَنِي هلال بْن المحسن قَالَ: ذكر أنه أحصيت السميرات المعبرات بدجلة أيام الموفق أبي أَحْمَد فكملت ثلاثين ألفا، فقدر من كسب ملاحتها كل يوم تسعين ألف درهم.
__________
[1] في الأصل: «وكان المنصور قد جسر عند سويقة» وما أوردناه من ت.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 116.
[3] في الأصل: «الدار الغربية» وكذلك في الموضع التالي.
[4] القائل هنا «وذكر لي» هو الخطيب البغدادي كما يتضح من تاريخه.
[5] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 116.
[6] في ت: «أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي» .

(8/80)


وأما الأنهار، فإن نهري بغداد دجلة والفرات، وكانت الأنهار الَّتِي تجري بمدينة المنصور والكرخ، وتخترق بين المحال تأخذ من نهر عيسى بْن عَلِيّ، وَكَانَ عند فوهته [قنطرة] [1] دمما، وَكَانَ على الياسرية قنطرة، / وعلى الرومية قنطرة، وعلى الزيّاتين 39/ ب قنطرة، وبعدها قنطرة عند باعة الأشنان، ثُمَّ قنطرة الشوك، ثُمَّ قنطرة عند باعة الرمان، ثُمَّ قنطرة عند الأرحاء] ، ثُمَّ قنطرة البستان، ثُمَّ قنطرة المعبدي، ثُمَّ قنطرة بْني زريق، ثُمَّ يصب فِي دجلة [2] .
والأنهار الَّتِي تجري فِي المحال كالكرخ وغيرها من نهر عيسى، وكان على الصراة قناطر يتفرع منها أنهار، وفي الجانب الشرقي نهر موسى يأخذ من [3] نهر بين ينقسم ثلاثة: نهر يمضي إلى الزاهر، والثاني باب بييرز [4] ، ويدخل [5] البلد من هناك ويسمّى نهر المعلى، ويمر بين الدور إِلَى سوق الثلاثاء، ثُمَّ يدخل دار الخلافة، ويجري إِلَى دجلة. والثالث يمر [إِلَى] [6] دار الخلافة أيضا، ونهر من الخالص يقال لَهُ: نهر الفضل، إِلَى أن ينتهي إِلَى باب الشماسية، فيأخذ [7] منه نهر يقال لَهُ: نهر المهدي ويدخل المدينة فِي شارع المهدي، ثُمَّ يجيء إِلَى قنطرة البردان، ويخرج إِلَى سويقة نصر بْن مالك، ثُمَّ يدخل الرصافة، ويمر فِي الجامع [8] أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن عَلِيّ الوراق قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن عمران قَالَ: أخبرنا أبو بكر مُحَمَّد بْن يحيى النديم قَالَ: ذكر أَحْمَد بْن أبي طاهر أن ذرع بغداد الجانبين ثلاثة وخمسون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا، منها الجانب الشرقي ستة وعشرون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا. والغربي سبعة وعشرون ألف جريب. وأن عدد
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 112.
[3] في الأصل: «يأخذ في» .
[4] في ت: «يروزيد» .
[5] في الأصل: «ويأخذ البلد» .
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[7] في تاريخ بغداد: «فيؤخذ منه» .
[8] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 114- 115.

(8/81)


الحمامات كانت فِي ذلك الوقت ببغداد ستين ألف حمام. قَالَ: أقل مَا يكون فِي كل حمام خمسة نفر: حمامي، وقيم، وزبال، ووقّاد، وسقّاء، يكون ذلك ثلاثمائة ألف رجل. وذكر أنه يكون بإزاء كل حمّام خمسة مساجد يكون ذلك ثلاثمائة ألف مسجد، وتقدير ذلك أن أقل مَا يكون فِي كل مسجد خمسة أنفس، يكون ذلك ألف ألف 40/ أوخمسمائة ألف إنسان، يحتاج كل إنسان فِي ليلة العيد إلى رطل صابون، / فيكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف رطل صابون، يكون [ذلك] [1]- حساب الجرة مائة وثلاثين رطلا-: ألف جرة ومائة جرة وخمسين جرة وثمانية جرار ونصفا [2] ، يكون ذلك زيتا- حساب الجرة ستين رطلا- ستمائة ألف رطل وتسعة آلاف رطل وخمسمائة وعشرة أرطال [3] .
وقد روي أن الحمامات كانت فِي عهد [4] معز الدولة بضعة عشر ألف حمام، وفي زمان عضد الدولة خمسة آلاف وكسر [5] .
وقد اتفق الناس أن بغداد لا نظير لها، وأحسن مَا كانت فِي أيام الرشيد، فحدثت بها الفتن، وتتابعت المحن، وانتقل قطانها [6] .
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو القاسم التنوخي قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن مُحَمَّد بْن صالح الهاشمي في سنة ستين وثلاثمائة قَالَ: أَخْبَرَنِي رجل يبيع سويق الحمص- منفردا به-: أنه حصر ما يعمل في سوقه من هذا السويق كل سنة، فكان مائة وأربعين كرا، يكون حمصا مائتين وثمانين كرا، يخرج كل سنة حَتَّى لا يبقى منه شيء، ويستأنف عمل ذلك للسنة الأخرى [7] .
قَالَ هلال بْن المحسن: عبرت إِلَى الجانب الشرقي من مدينة السلام بعد الأحداث الطارئة فرأيت مَا بين سوق السلاح والرصافة وسوق العطش ومربعة الحرسي
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من ت، الأصل وأضفناه من تاريخ بغداد.
[2] في الأصل: «وثلاثين ألف جرة ومائة جرة وخمسين جرة وثمانية جرار ونصف» .
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 117/ 118.
[4] في ت: «في زمن» .
[5] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 118.
[6] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 119.
[7] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 119.

(8/82)


والزاهر، وما فِي دواخل ذلك ورواضعه قَدْ خرب خرابا فاحشا، ولم يترك النقض فِيهِ جدارا قائما- ولا مسجدا باقيا، وأما مَا بين باب البصرة والعتابين والخلد وشارع الرقيق من الجانب الغربي فقد اندرس اندراسا كليا، وصار الجامعان بالمدينة والرصافة متوسطين الصحراء بعد أن كانا فِي وسط العمارة.
وعرفني بعض العارفين بأمر الحمامات فِي جانبي البلد عدد مَا بقي منها في هذا الوقت وهي سنة عشرين وأربعمائة نحو مائة وسبعين حماما.
وأنني لأذكر وقد حضر/ عند جدي إِبْرَاهِيم بْن هلال فِي سنة اثنتين وثمانين 40/ ب وثلاثمائة أحد ممن كَانَ يغشاه، وجرى ذكر مدينة السلام فِي كبرها، فَقَالَ الرجل: لعل هَذِهِ الحال كانت قديما، فأما الآن فحدثني فلان- وله- معرفة بالحمامات- أن جميع مَا بقي منها نحو ثلاثة آلاف، فَقَالَ جدي: لا إله إلا اللَّه، كذا يكون الانقراض!؟ فإنها أحصيت فِي زمان المقتدر، وقد فشا الخراب، فكانت تسعا وعشرين ألف حمام.
ولقد ورد كتاب ركن الدولة على أبي مُحَمَّد المهلبي يَقُول فيه: بلغنا كثرة المساجد والحمامات ببغداد، فيذكر لنا الموجود اليوم فكانت المساجد تتجاوز حد الإحصاء، وأما الحمامات سبعة عشر ألفا.
وَقَالَ ابْن هلال: كنت أركب من داري فِي باب المراتب إِلَى دار معز الدولة بالشماسية فِي الأسواق وتحت الظلال والمحال والدروب. وكذلك الجانب الغربي والدور على دجلة وبساتينها متناهية وأقطارها [1] متباعدة وما فِيهَا دار يخلو من الأغاني والدعوات، وجميع ما بقي من الحمامات فِي بغداد نيف وتسعون حماما.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا محمد بن العباس الخراز قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خليفة قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سلام قَالَ: سمعت أبا الوليد يَقُول: قَالَ لي شعبة:
أدخلت بغداد؟ قلت: لا. قال: فكأنك لم تر الدنيا [2] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثنا عبد العزيز بن علي
__________
[1] في ت: «وأطيارها» .
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 44- 45.

(8/83)


الوراق قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن يعقوب الجرجاني يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن يوسف بْن موسى يَقُول: سمعت يونس بْن عَبْد الأعلى يَقُول: قَالَ لي مُحَمَّد بْن إدريس: دخلت بغداد؟ قلت: لا. قال: يا يونس مَا رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا الجوهري قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس قَالَ: حَدَّثَنَا الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا القاسم بن إسماعيل قال:
41/ أحدّثنا أبو محلم قَالَ: سمعت أبا بكر بن عياش يَقُولُ: الإسلام/ ببغداد وإنها لصيادة تصيد الرجال، ومن لم يرها فلم ير الدنيا [2] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد العزيز بْن عَلِيّ قَالَ:
سمعت عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه الهمداني يَقُول: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد القاضي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الحسين المالكي قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد التَّمِيمِيّ قَالَ: سمعت ذا النون يَقُول: من أراد أن يتعلم المروءة والظرف فعليه بسقاة الماء ببغداد. قيل: وكيف؟
قَالَ: لما حملت إِلَى بغداد رمي بي على باب السلطان مقيدا، فمر بي رجل مؤتزر بمنديل مصري، معتم بمنديل ديبقي، بيده كيزان وخزف رقاق، وزجاج مخروط، فسألت: هَذَا ساقي السلطان؟ فقيل لي: هَذَا ساقي العامة. فأومأت إِلَيْهِ: اسقني.
فسقاني، فشممت من الكوز رائحة مسك، فقلت لمن معي: ادفع إليه دينارا. فأعطاه الدينار. فأبى. وَقَالَ: ليس آخذ شيئا. فقلت لَهُ: ولم؟ فَقَالَ: أنت أسير، وليس من المروءة أن آخذ منك شيئا. فقلت: كمل الظرف فِي هَذَا [3] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: أخبرنا أحمد بن علي [4] الحافظ قال:
أخبرني [5] أبو القاسم القاضي قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن المحسن التنوخي قَالَ: قَالَ لي أَبُو القاسم بزياش بْن الْحَسَن الديلميّ- وَهُوَ شيخ يتعلق بعلوم فصيح العربية- قَالَ:
سافرت الآفاق، ودخلت البلدان من حدّ سمرقند إلى القيروان، ومن سر نديب إِلَى بلد الروم، فما وجدت بلدا أفضل ولا أطيب من بغداد. قَالَ: وَكَانَ سبكتكين حاجب معز
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 45.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 47.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 50.
[4] في الأصل: «علي بن أحمد» .
[5] في ت: «أخبرنا» .

(8/84)


الدولة من جملة أنسائي. فَقَالَ لي يوما: قَدْ سافرت الأسفار الطويلة، فأي بلد وجدت أفضل وأطيب؟ فقلت لَهُ: أيها الحاجب، إذا خرجت من العراق فالدنيا كلها رستاق [1] .
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بْن عَلِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو القاسم عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ الرقي قَالَ: أخذ أَبُو العلاء المعري يوما يدي فغمزها- وَهُوَ ببغداد- ثُمَّ قَالَ لي: يا أبا القاسم، هَذَا بلد عظيم لا يأتي زمان عَلَيْك وأنت به إلا رأيت فيه من/ 41/ ب أَهْل الفضل من لم تره فيمن تقدم [2] .
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيّ قَالَ: أنشدني التنوخي قَالَ:
أنشدنا أَبُو سعيد مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن خلف الهمذاني لنفسه يَقُول:
فدى لك يا بغداد كل قبيلة ... من الأرض حَتَّى خطتي وبلاديا [3]
فقد طفت فِي شرق البلاد وغربها ... وسيرت رحلي بينها وركابيا
فلم أر فِيهَا مثل بغداد منزلا ... ولم أر فِيهَا مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلا ... وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا
وكم قائل لو كَانَ ودك صادقا ... لبغداد لم ترحل فكان جوابيا
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا [4]
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن محمد بن عبيد قال: كتب إليّ أخي من البصرة وأنا ببغداد يَقُول:
طيب الهواء ببغداد يصرفني ... قدما إليها وإن عاقت معاذير
فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت ... طيب الهواءين ممدود ومقصور [5]
[قَالَ المصنف] [6] : وقد كَانَ أَبُو الوفاء بْن عقيل يصف مَا شاهد من بغداد، وهذا عند خرابها وذهاب أهلها، فيذكر العجائب، وقد ذكرت ذلك فِي «مناقب بغداد» .
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 49.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 49- 50.
[3] في تاريخ بغداد: «دياريا» .
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 52.
[5] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 54.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. وأثبتناه من ت.

(8/85)


وَفِيهَا: ظهر إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن بْن عَلِيّ بالبصرة فحارب المنصور.
وَفِيهَا: قتل أيضا، وَكَانَ من قضيته [1] أنه لما أخذ المنصور عَبْد اللَّه بْن حسن أشفق مُحَمَّد وإبراهيم فخرجا إِلَى عدن، فخافا بها، فركبا البحر حَتَّى سارا إِلَى السند، فسعي بهما، فقدما الكوفة، وكانت أم ولد إِبْرَاهِيم تقول: مَا أقرتنا الأرض منذ خمس 42/ أسنين، مرة بفارس، ومرة بكرمان، ومرة بالجبل، ومرة/ بالحجاز. ووضع المنصور على إِبْرَاهِيم الرصد، وكانت له مرآة- قد سبق ذكرها- ينظر فِيهَا فيرى عدوه من صديقه، فنظر فِيهَا فَقَالَ للمسيب: يا مسيب، قَدْ رأيت واللَّهِ إِبْرَاهِيم فِي عسكري، فانظر مَا أنت صانع.
وأمر المنصور ببْناء قنطرة الصراة العتيقة، ثُمَّ خرج ينظر إليها فوقعت عينه على إِبْرَاهِيم، وجلس إِبْرَاهِيم، فذهب فِي الناس، فأتى مأمنا فلجأ إِلَيْهِ، فأصعده غرفة لَهُ، وجد المنصور فِي طلبه، فَقَالَ سفيان العمي لإبراهيم: قَدْ ترى مَا نزل بْنا، ولا بد من المخاطرة. قَالَ: فأنت وذاك. فأقبل إِلَى الربيع فسأله الإذن. قَالَ: ومن أنت؟ قَالَ:
سفيان العمي. فأدخله على أبي جَعْفَر، فلما رآه شتمه فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أنا أَهْل لما تقول، غير أني أتيتك تائبا، ولك عندي كل مَا تحب إن أعطيتني مَا أسألك. قَالَ: وما لي عندك؟ قَالَ: تأتيني بإبراهيم. قَالَ: فما لي عندك إن فعلت؟ قَالَ: كل مَا تسأل، فأين إِبْرَاهِيم؟ قَالَ: قَدْ دخل بغداد، وَهُوَ داخلها عَنْ قريب، فاكتب لي جوازا ولغلام لي ولفرانق [2] ، واحملني على البريد، ووجه معي جندا، آتيك به. قَالَ: فكتب إِلَيْهِ جوازا، ودفع إِلَيْهِ جندا وَقَالَ: هَذِهِ ألف دينار فاستعن بها. قَالَ: لا حاجة لي إليها كلها.
فأخذ معه ثلاثمائة دينار، وأقبل حَتَّى أتى إِبْرَاهِيم وَهُوَ فِي بيت عليه مدرعة صوف- وقيل:
بل قباء كأقبية العبيد- فصاح به: قم. فوثب كالفزع، فجعل يأمره وينهاه حَتَّى قدم المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها، فدفع إِلَيْهِ جوازه. قَالَ: فأين غلامك؟ قَالَ: هَذَا.
فلما نظر فِي وجهه قَالَ: والله مَا هَذَا بغلامك، وإنه لإبراهيم، فاذهب راشدا فأطلقهما، فركبا البريد، ثُمَّ ركبا سفينة إِلَى البصرة فاختفيا فيها.
__________
[1] في ت: «قصته» .
وانظر: تاريخ بغداد 7/ 622.
[2] الفرانق: الّذي يدل صاحب البريد.

(8/86)


وقيل: إنه قدم البصرة، فجعل يأتي بالجند الدار- ولها بابان- فيقعد العشرة/ 42/ ب منهم على أحد البابين ويقول: لا تبرحوا حَتَّى آتيكم. ثُمَّ يدخل الدار فيخرج من الجانب الآخر [1] ويتركهم حَتَّى فرق الجند وبقي وحده واختفى، فبلغ الخبر سفيان بْن معاوية، فأرسل إليهم، وطلب العمي، فأعجزه، ونزل إِبْرَاهِيم على أبي [2] فروة، فاختفى وأرسل إِلَى الناس يندبهم إِلَى الخروج، فلما بلغ الخبر أبا جَعْفَر شاور، فقيل لَهُ: إن الكوفة لَهُ شيعة، والكوفة قَدْ رافقوا، وأنت طبقتها. فاخرج حَتَّى ينزلها. ففعل.
وخرج إِبْرَاهِيم ليلة الاثنين لغرة شهر رَمَضَان من سنة خمس وأربعين، فصار إِلَى مقبرة بْني يشكر فِي بضعة عشر فارسا، فكان أول شيء أصاب دوابّ لجماعة من الجند، وأسلحة، وصلى بالناس الغداة بالمسجد الجامع، وتحصن سفيان بْن معاوية فِي الدار، ثُمَّ طلب الأمان فأجيب لَهُ، ففتح الباب ودخل إِبْرَاهِيم الدار، فألقي لَهُ حصير، فهبت ريح فقلبت الحصير [3] ظهرا لبطن، فتطير الناس لذلك، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: لا تتطيروا. ثُمَّ جلس عليه مقلوبا والكراهة ترى فِي وجهه، وحبس سفيان بْن معاوية فِي القصر وقيده قيدا خفيفا. ووجد ببيت المال ستمائة ألف، فغدا بذلك، وفرض لكل رجل خمسين، ووجه رجلا إِلَى الأهواز فبايعوا لَهُ، وخرج عاملها فخاصم أصحاب إِبْرَاهِيم فهزموه.
وبلغ جعفرا ومحمدا ابْني سليمان بْن عَلِيّ- وكانا بالبصرة- مصير إِبْرَاهِيم إِلَى دار الإمارة وحبسه سفيان، فأقبلا في ستمائة، فوجه إليهما [4] إِبْرَاهِيم المضاء بْن جَعْفَر [5] فِي ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا، فهزمهم المضاء، وصارت البصرة والأهواز وفارس في سلطان إِبْرَاهِيم، ولم يزل إِبْرَاهِيم مقيما بالبصرة بعد ظهوره بها يفرق العمال فِي النواحي، ويوجه الجيوش إِلَى البلدان حَتَّى أتاه نعي أخيه محمد، فأخبر الناس بذلك، فازدادوا بصيرة فِي قتال أبي جَعْفَر، وأصبح إِبْرَاهِيم من الغد فعسكر.
وأبلغ الخبر إِلَى أبي جَعْفَر فَقَالَ: والله مَا أدري مَا أصنع، مَا فِي عسكري سوى ألفي رجل، فرقت جندي مَعَ المهدي/ بالري ثَلاثُونَ ألفا، ومع محمد بن الأشعث 43/ أ
__________
[1] في ت: «ثم يدخل الباب فخرج من الباب الآخر» .
[2] «أبي» ساقطة من ت.
[3] في ت: «فقلبته الحصير» .
[4] في الأصل: «إليها» .
[5] في ت: «المضايف جعفر»

(8/87)


بإفريقية أربعون ألفا، والباقون مَعَ عيسى بْن موسى. [والله لئن سلمت من هَذَا لا يفارق عسكري ثَلاثُونَ ألفا] [1] . ثُمَّ كتب [2] إِلَى عيسى: إذا قرأت كتابي هَذَا فأقبل ودع مَا أنت فِيهِ. فلم يلبث أن قدم فبعثه على الناس، وكتب إِلَى سالم بْن قتيبة، فقدم عليه من الري، فضمه إِلَى جعفر بن سليمان، وكتب إلى المهدي يأمره بتوجيه خازم بْن خزيمة إِلَى الأهواز، فوجهه في أربعة آلاف من الجند، وبقي المنصور فِي أيام [حرب] [3] مُحَمَّد وإبراهيم على مصلى ينام عليه، ويجلس عليه، وعليه جبة ملونة قَدِ اتسخ جيبها، ولم يلتفت إِلَى النساء، فقيل لَهُ في ذلك، فقال: ليست هَذِهِ الأيام من أيام النساء حَتَّى أعلم رأس إِبْرَاهِيم لي أم رأسي لإبراهيم، وكان قَدْ أعد دواب وإبلا، فإن كانت الكرة عليه خرج للري.
وَكَانَ قَدْ أحصى ديوان إِبْرَاهِيم من أَهْل البصرة مائة ألف، فالتقى عيسى وإبراهيم فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب عيسى فاعترضهم نهر فرجعوا، فاقتتلوا قتالا شديدا إلى أن جاء سهم غائر، لا يدرون من رمى به، فوقع فِي حلق إِبْرَاهِيم فنحوه عن موضعه، وقال: أنزلوني. فأنزلوه وَهُوَ يَقُول: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً 33: 38 [4] أردنا أمرا وأراد اللَّه غيره، فأنزل وَهُوَ مثخن، واجتمع عليه أصحابه يقاتلون دونه، فشدوا عليهم، فخلصوا إِلَيْهِ، فجزوا رأسه، فأتوا به عيسى، فسجد، وبعث به إِلَى أبي جَعْفَر، فقال:
والله لقد كنت لهذا كارها، ولكني ابتليت بك، وابتليت بي. فنصبه فِي السوق، وَكَانَ قتله يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين، وَكَانَ يوم قتل ابْن ثمان وأربعين سنة. ومكث منذ خرج إِلَى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام [5] .
وَفِيهَا: خرجت الترك فقتلوا من المسلمين جماعة كثيرة بأرمينية.
وَفِيهَا: حج بالناس [السري بْن عَبْد اللَّه بْن الحارث، وَكَانَ عامل أبي جَعْفَر على مكة، وَكَانَ والي المدينة] [6] عَبْد اللَّه بْن الربيع الحارثي. ووالي الكوفة وأرضها
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأضفناه من ت.
[2] في ت: «وكتب» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأضفناه من ت.
[4] سورة: الأحزاب، الآية: 38.
[5] انظر: تاريخ الطبري 7/ 646.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.

(8/88)


عيسى بْن موسى، ووالي البصرة/ سالم بْن قتيبة الباهلي، وَكَانَ على قضائها عباد بْن 43/ ب منصور، وعلى مصر يزيد بْن حاتم [1] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
764- إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بْن عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللَّه عنه.
كَانَ يألف الوحدة هو وأخوه، وخرجا إِلَى البادية ثُمَّ خرج أخوه مُحَمَّد على المنصور على مَا سبق ذكره فقتل. وخرج هو فقتل على مَا سبق.
765- إسماعيل بْن أبي خالد، أَبُو عَبْد اللَّه. واسم أبي خالد: سعد [2] .
رأى أنسا، وسمع ابْن أبي أوفى، وعمرو بْن حوشب. وَكَانَ سفيان به معجبا.
وتوفي في هذه السنة.
أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أخبرنا إبراهيم بْن مخلد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الحكيمي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد السلام بْن مُحَمَّد بْن شاكر قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عثمان العاصمي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزيد، عَنْ إسماعيل بن أبي خالد، عَنْ يزيد بْن طريف قَالَ: تُوُفِّيَ أخي عمير بْن طريف فأصغيت إِلَى قبره، فسمعت صوت أخي صوتا ضعيفا أعرفه وَهُوَ يَقُول: ربي اللَّه. فَقَالَ لَهُ الآخر:
فما دينك؟ قَالَ: الإسلام.
766- الْحَسَن بن الحسن بن علي بن أبي طالب [3] .
سمع أمه فاطمة بْنت الحسين بْن عَلِيّ بْن أبي طالب.
قدم الأنبار على السفاح مَعَ أخيه عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن فِي جماعة من الطالبيين، فأكرمهم السفاح وأجازهم، ورجعوا إِلَى المدينة. فلما ولي المنصور حبس الحسن بن
__________
[1] انظر تاريخ الطبري 7/ 649.
[2] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 1/ 68.
[3] في الأصل: «الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب» .
انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 7/ 293.

(8/89)


الْحَسَن وأخاه عَبْد اللَّه لأجل مُحَمَّد وإبراهيم ابْني عَبْد اللَّه، فلم يزل فِي حبسه حَتَّى مات.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت قال:
أخبرنا الحسن بن أبي بكر قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد العكبري قَالَ: حدّثنا جدي 144/ أقال: حَدَّثَنَا غسان الليثي/، عَنْ أبيه قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَبَّاس قَدْ خص عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن الْحَسَن حَتَّى كَانَ يتفضل بين يديه بقميص بلا سراويل، فَقَالَ لَهُ يوما: مَا رأى أمير المؤمنين على هَذِهِ الحال غيرك، ولا أعدك إلا ولدا. ثُمَّ سأله عَنِ ابْنيه فَقَالَ لَهُ: مَا خلفهما عني، فلم يفدا عليّ مع من وفد عليّ من أهلهما، ثُمَّ أعاد عليه المسألة عنهما [مرة] [1] أخرى. فشكى ذلك عَبْد اللَّه بْن الحسن إلى أخيه الْحَسَن بْن الْحَسَن فَقَالَ لَهُ:
إن أعاد المسألة عَلَيْك عنهما فقل لَهُ: علمهما عند عمهما. فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه: وهل أنت محتمل ذلك لي؟ قَالَ: نعم. فلما أعاد أَبُو الْعَبَّاس على عَبْد اللَّه المسألة عنهما قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، علمهما عند عمهما. فبعث أَبُو الْعَبَّاس إِلَى الْحَسَن فسأله عنهما. فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أكلمك على هيبة [2] الخلافة، أو كما يكلم الرجل ابْن عمه. فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس: بل كما يكلم الرجل ابْن عمه. فَقَالَ لَهُ الْحَسَن: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، إن كَانَ اللَّه قدر لمحمد وإبراهيم أن يليا من الأمر شيئا، فجهدت وجهد أهل الأرض معك أن تردوا مَا قدر اللَّه لهما أيردونه!؟ قَالَ: لا. قَالَ: فأنشدك اللَّه إن كان الله لم يقدر لهما أن يليا من هَذَا الأمر شيئا، فاجتمعا واجتمع أَهْل الأرض معهما على أن ينالا مَا لم يقدر لهما، أينالانه؟! قَالَ: لا. قَالَ: فما تنغيصك على هَذَا الشيخ النعمة الَّتِي أنعمت بها عليه. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: لا أذكرهما بعد اليوم، فما ذكرهما حتى فرق الموت بينهما.
قَالَ العلوي: قَالَ جدي: تُوُفِّيَ الْحَسَن بْن الْحَسَن بْن عَلِيّ سنة خمس وأربعين ومائة فِي ذي القعدة بالهاشمية فِي حبس أبي جَعْفَر، وَهُوَ ابْن ثمان وستين سنة [3] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصول، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «عن هيبة» وما أوردناه من تاريخ بغداد.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 7/ 293، 294.

(8/90)


767- الْحَسَن بْن ثوبان بْن عامر، أَبُو ثوبان الهمداني الهوزني [1] .
روى عَنْ موسى بْن وردان وغيره. حدث عنه حيوة بْن شريح، والليث بن سعد، وغيرهما. وكان أميرا على بعض الثغور فِي خلافة مروان بْن مُحَمَّد.
قَالَ المفضل بْن فضالة: دخل علينا/ الْحَسَن بْن ثوبان يوما ونحن فِي المسجد 44/ ب الجامع فوقف فسلّم ثُمَّ ذهب فجال فِي المسجد، ثُمَّ رجع إلينا، فقلنا لَهُ [2] : يا أبا ثوبان، وقفت علينا ثُمَّ ذهبت ثُمَّ عدت فَقَالَ: إني طلبت من هو أربح لي منكم، فلم أجده.
تُوُفِّيَ الْحَسَن فِي رَمَضَان هَذِهِ السنة.
768- حبيب بْن الشهيد، أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ. مولى لمزينة [3] .
سمع الْحَسَن، وابْن سيرين، وعكرمة.
تُوُفِّيَ بواسط فِي أيام التشريق يوم جاءت هزيمة إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه بْن حسن، وصلى عليه سوار.
769- عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن أبي طالب رضي الله عنهم، أبو محمد [4] .
من أهله المدينة، كانت لَهُ منزلة من عُمَر بْن عَبْد العزيز فِي خلافته، وفد مَعَ جماعة من الطالبيين إِلَى السفاح وَهُوَ بالأنبار، فوهب لَهُ ألف ألف درهم. ثُمَّ عاد إِلَى المدينة، فلما ولي المنصور حبسه بالمدينة لأجل ابْنيه مُحَمَّد وإبراهيم، فبقي مدة طويلة، ثُمَّ نقله إِلَى الكوفة، فحبسه بها إِلَى أن مات فِي الحبس يوم الأضحى من هَذِهِ السنة، وَهُوَ ابْن ست وأربعين سنة.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن أبي بكر قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد الْحَسَن بْن مُحَمَّد بْن يحيى العلويّ قال: حدّثنا
__________
[1] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 2/ 259، والجرح 3/ 3 والتاريخ الكبير 2/ 287.
[2] «له» ساقطة من ت.
[3] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 2/ 185، والجرح والتعديل 3/ 102 والتاريخ الكبير 2/ 320.
[4] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 431.

(8/91)


جدي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن بْن عَلِيّ الباهلي قَالَ: سمعت مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه يَقُول: جعل أَبُو الْعَبَّاس أمير المؤمنين يطوف [فِي] [1] بْنيانه بالأنبار، ومعه عَبْد اللَّه بْن الحسن، فجعل يريه البناء ويطوف به فِيهِ، فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وأنشده:
ألم تر حوشبا أمسى [2] يبْني ... بيوتا نفعها لبْني بقيله
يؤمل أن يعمر عُمَر نوح ... وأمر اللَّه يحدث كل ليله
فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَا أردت بهذا. قَالَ: أردت أن أزهدك فِي هَذَا [3] .
وقد روي من طريق أخرى أنه لما أنشد البيتين انتبه فَقَالَ: أقلني. فَقَالَ: لا أقالني 45/ أ/ اللَّه إن بت فِي عسكري فأخرجه إِلَى المدينة.
وبقيلة أم ولد للحسين بْن عَلِيّ، جاءت منه بالقاسم وأبي بكر وعَبْد اللَّه، وقتلوا مَعَ الحسين رضي اللَّه عنه.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن ثابت قَالَ: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي قَالَ: وجدت فِي كتاب جدي عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن أبي الفهم قَالَ:
حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن أبي العلاء المعروف بحرقي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يعقوب إسحاق بْن مُحَمَّد بْن أبان قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو معقل- وَهُوَ ابْن إِبْرَاهِيم بْن داجة- قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: أخذ أَبُو جَعْفَر أمير المؤمنين عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن فقيده وحبسه فِي داره، فلما أراد أَبُو جَعْفَر الخروج إِلَى الحج جلست لَهُ ابْنة لعَبْد اللَّه بْن حسن يقال لها:
فاطمة، فلما مر بها أنشأت تقول:
ارحم كبيرا سنه متهدما ... فِي السجن بين سلاسل وقيود
وارحم صغار بْني يزيد إنهم ... يتموا لفقدك لا لفقد يزيد
إن جدت بالرحم القريبة بيننا ... مَا جدنا من جدكم ببعيد
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] في ت: «أضحى» .
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 432.

(8/92)


فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: أذكرتنيه، ثُمَّ أمر به فحدر إِلَى المطبق، فكان آخر العهد به [1] .
770- عَبْد الملك بْن أبي سليمان، أَبُو سليمان- وقيل: أَبُو عَبْد اللَّه- واسم أبي سليمان، ميسرة، وهو عم مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه العزرمي [2] .
نزل جبانة عزرم [3] بالكوفة فنسب إليها.
حدث عَنْ أنس بْن مالك، وعطاء، وسعيد بْن جبير.
روى عنه الثوري، وشعبة، وابْن المبارك.
وَكَانَ من الحفّاظ، وكان شعبة يعجب من حفظه، وَكَانَ سفيان يسميه الميزان.
قَالَ أَحْمَد بْن حنبل ويحيى: هو ثقة.
توفي ببغداد في هذه السنة، دفن بسوق يحيى.
771- عمرو بن ميمون بن مهران، أبو عبد الله الجزري [4] .
نزل الرقة، وسمع أباه، وسليمان بْن يسار، وعمر بن عبد العزيز.
روى عنه الثوري، وشريك، وابن المبارك. / وكان ثقة صالحا عالما دينا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الأزهري قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن جامع قَالَ: قَالَ عَلِيّ بْن مُحَمَّد [5] بْن سعيد الحراني قال: حدّثنا عبد الملك الميموني قَالَ: حدثت أبا عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن حنبل قَالَ:
لما رأيت قدر عمي عند أبي جَعْفَر قلت: يا عم، لو سألت أمير المؤمنين أن يقطعك قطيعة. فسكت عني، فلما ألححت عليه قَالَ: يا بْني، إنك لتسألني أن أسأله شيئا قَدِ ابتدأني به هو غير مرة، فقد قال لي يوما: يا أبا عَبْد اللَّه، إني أريد أن أقطعك قطيعة وأجعلها لك طيبة، وإن أحبابي وولدي وأهلي يسألوني ذلك، فآبى عليهم، فما يمنعك أن تقبلها؟ قَالَ: قلت: يَا أَمِيرَ المؤمنين، إني رأيت لهم الرجل على [6] قدر انتشار صيته،
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 432، 433.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 393.
[3] في الأصل: «عزم» .
[4] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 12/ 188.
[5] في الأصل: «قال حدثنا أبو علي محمد» .
[6] في ت: «إلى قدر» .

(8/93)


وإني يكفيني من همي مَا أحاطت به داري، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني فعل، قَالَ: قَدْ فعلت. فَقَالَ أَحْمَد بْن حنبل: أعده علي. فأعدته عليه حَتَّى حفظه [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الأزهري قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن جامع قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو علي الحراني قَالَ: حَدَّثَنَا الميموني قَالَ: حَدَّثَنَا أبي قَالَ: كَانَ عمي عَمْرو يعطش فما يستسقي من أحد ماء حَتَّى يشربه من بيته، ويقول: كل معروف صدقه، وما أحب أن يتصدق علي [2] .
تُوُفِّيَ عَمْرو بْن ميمون في هذه السنة. وقيل: فِي سنة أربعين.
وفي مكان موته قولان: أحدهما: الرقة. والثاني: الكوفة.
772- مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن بْن عَلِيّ بْن أبي طالب، أَبُو عَبْد اللَّه.
لقي نافعا، وسمع منه ومن غيره، ولم يزل هو وأخوه إِبْرَاهِيم يلزمان البادية ويحبان الخلوة، ولا يأتيان الخلفاء والولاة، فلما ولي المنصور طلبهما فنفرا منه وهربا فِي الجبال، وأشخص أباهما وأهل بيتهما فحبسوا حَتَّى ماتوا فِي حبسه، فبلغ ذلك مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، فخرج على المنصور، واجتمع إِلَيْهِ خلق كثير، فبيض ودعي لَهُ بالخلافة، فأقبل إِلَى المدينة، فأخذها وغلب عَلَيْهَا [3] [ثُمَّ وجه إِلَى مكة فأخذت له] [4] 46/ أفبيّضوا فشمر أَبُو جَعْفَر فِي طلبه وحربه، فقتل هو/ وأخوه على مَا سبق.
وَكَانَ مكث مُحَمَّد من حين ظهر إِلَى أن قتل شهرين وسبعة عشر يوما.
773- مُحَمَّد بْن عَبْد الله بْن عمرو بْن عثمان بْن عفان، أَبُو عَبْد اللَّه القرشي [5] .
وَكَانَ يعرف بالديباج لحسن وجهه، أمه فاطمة بْنت الحسين، وكانت قبل أبيه عند الْحَسَن بْن الْحَسَن، فولدت لَهُ عَبْد اللَّه وحسنا، ثُمَّ مات عنها، فخلف عَلَيْهَا عَبْد اللَّه بْن عَمْرو فولدت له محمدا، وَهُوَ الديباج. وَكَانَ جوادا ظاهر المروءة.
حدث عَنْ أبيه، وعن نافع، وعن أبي الزناد.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيّ الحافظ قَالَ: أَخْبَرَنَا يحيى بْن عَبْد العزيز قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس الجوهري قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 188.
[2] انظر الخبر في تاريخ بغداد 12/ 189.
[3] «وغلب عليها» ساقطة من ت وأثبتناها من الأصل.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[5] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 5/ 385.

(8/94)


سعيد الدمشقي قَالَ: حدثني الزبير بْن بكار قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أبي السائب قَالَ: احتجت إِلَى لقحة، فكتبت إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عمرو بن عثمان أسأله أن يبعث لي بلقحة، فإني لعلى بابي فإذا أنا بزجر إبل، وإذا فِيهَا عَبْد يزجرها، فقلت: يا هذا، ليس ها هنا الطريق. فَقَالَ: أردت أبا السائب. فقلت: أنا أبو السائب. فدفع إلي بكتاب محمد بن عَبْد اللَّه، وإذا فِيهِ: أتاني كتابك تطلب فِيهِ لقحة، وقد جمعت مَا كَانَ بحضرتنا منها، وهي تسع عشرة لقحة، وبعثت معها بعبد راع، وهن بدن، وَهُوَ حر إن رجع، فما بعثت به بشيء في مالي أبدا. قال: فبعت منهم بثلاثمائة دينار سوى مَا احتبست لحاجتي [1] .
أخذ أَبُو جَعْفَر المنصور مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه في هذه السنة، وقتله ليلة جاءه خروج مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن حسن بالمدينة، وبعث برأسه إِلَى خراسان، وذلك لأن مُحَمَّد أخو عبد الله بن حسن بْن حسن لأمه. كذلك ذكر الخطيب.
وذكر مُحَمَّد بْن سعد أنه حبسه فمات فِي حبسه، وَكَانَ لهذا الرجل بْنت تسمى:
حفصة، لا نعرف امرأة ولدها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير سواها. لأن أمّها/ خديجة بْنت عثمان بْن عروة بْن الزُّبَيْر، وأم عروة: 46/ ب أسماء بْنت أبي بكر، وأم أبيها: فاطمة بْنت الحسين بْن عَلِيّ بْن أبي طالب، وأم الحسين: فاطمة بْنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأم فاطمة بْنت الحسين: أم إسحاق بْنت طلحة بْن عبيد اللَّه، وأم عَبْد اللَّه بْن عَمْرو: زينب بْنت عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الخطاب.
774- يزيد بْن أبي سعيد، أَبُو الحسين النحوي [2] .
نسب إِلَى بطن يقال لهم: بْني نحوة النحو بْن شمس- بضم الشين المعجمة- بطن من الأزد، وليس منسوبا إِلَى النحو.
قَالَ أَبُو أَحْمَد العسكري: وكذلك شيبان بْن عَبْد اللَّه النحوي. وَقَالَ أَبُو الحسين ابْن المنادي: وَهُوَ يزيد لا شيبان.
وروى يزيد عَنْ علقمة، ومجاهد. ويروي عَنْ الحسين بْن واقد وأبي حمزة.
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 5/ 386، 387.
[2] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 2/ 365، وفيه: «أبو الحسن» .

(8/95)


ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
استتمام المنصور بْناء بغداد. وقد ذكر مُحَمَّد بْن عمران أن أبا جَعْفَر تحوّل إلى بغداد في صفر سنة ست وأربعين، فنزلها [1] .
وَفِيهَا: عزل المنصور عَبْد اللَّه بْن الربيع الحارثي عَنِ المدينة، وولاها جَعْفَر بْن سليمان بْن عَلِيّ. وعزل عَنْ مكة السري بْن عَبْد اللَّه، وولاها عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ وولى البصرة سالم بن قتيبة يسيرا ثُمَّ عزله [2] .
وَكَانَ سبب عزله: أن المنصور كتب إِلَيْهِ: اهدم دور من خرج مَعَ إِبْرَاهِيم، واعقر نخلهم. فكتب إِلَيْهِ: بأي ذلك أبدا؟ بالدور أم بالنخل؟ فكتب إِلَيْهِ: لو أمرتك بإفساد ثمرهم لكتبت تستأذني بأيه أبدأ؟ بالبرني أم بالشهريز [3] . وعزله وولى محمد بن سليمان بن علي، فهدم دورا كثيرة وعقر نخلهم، ثُمَّ عزله وولى مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس، وعزل عيسى بْن موسى عَنِ الكوفة وولاه البصرة في جمادى الأولى من هذه السنة [4] .
وفيها: دخلت الترك تفليس/ فهزموا جبريل بن يحيى، وقتلوا حرب بن عبد الله، وسبوا سبيا كثيرا من المسلمين.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 650.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 656.
[3] البرني: ضرب من التمر أصفر مدور، وهو أجود أنواع التمر واحده برنية. والشهريز: ضرب من التمر أيضا، ذكره صاحب لسان العرب ولم يذكر وصفه.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 655، 656.

(8/96)


وفيها: حج بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن العباس [1] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
775- إسماعيل بن علي.
عم المنصور. تُوُفِّيَ في هذه السنة.
776- أشعث بْن عَبْد الملك، أَبُو هانئ الحمراني، مولى حمران بْن أبان [2] .
سمع الْحَسَن، وابْن سيرين. روى عنه يحيى القطان.
تُوُفِّيَ في هذه السنة. وَكَانَ ثقة.
777- رباح القيسي. يكنى: أبا المهاصر [3] .
كَانَ كثير البكاء والتعبد، وَكَانَ قَدِ اتخذ غلا من حديد يضعه فِي عنقه بالليل ويبكي ويتضرع إِلَى الصباح.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب الحافظ قَالَ: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن عَلِيّ الخياط قَالَ: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال: أَخْبَرَنَا الحسين بْن صفوان قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بن عبيد قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحُسَيْن قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو عُمَر الضرير قَالَ: حَدَّثَنِي الحارث بْن سعيد قَالَ: أخذ بيدي رباح فَقَالَ: هلم يا أبا مُحَمَّد حَتَّى نبكي على قصر الساعات ونحن على هَذِهِ الحال. قَالَ: فخرجت معه إِلَى المقابر، فلما نظر إِلَى القبور صرخ، ثم خرّ مغشيا عيلة. قَالَ: فجلست والله عند رأسه أبكي، فأفاق، فَقَالَ: مَا يبكيك؟ قلت: لما أرى بك. قال: لنفسك فابك. ثم قال: وا نفساه، وا نفساه، ثُمَّ غشي عليه. قَالَ: فرحمته والله مما نزل به، ثُمَّ لم أزل عند رأسه حَتَّى أفاق، فوثب وَهُوَ يَقُول: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ 79: 12 تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ 79: 12 [4]
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 656.
[2] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 1/ 357، والجرح والتعديل 2/ 275. وطبقات ابن سعد 7/ 276.
[3] في ت: «أبا المهاجر» .
[4] سورة: النازعات، الآية: 12.

(8/97)


ومضى على وجهه وأنا أتبعه لا يكلمني حَتَّى انتهى إِلَى منزله، فدخل وأصفق بابه، فرجعت إلى أهلي، ولم يلبث إلا يسيرا حَتَّى مات.
778- ضيغم بْن مالك، أَبُو مالك العابد.
كَانَ ورده كل يوم أربعمائة ركعة، وَكَانَ كثير البكاء، طويل الحزن، وَكَانَ يقول:
47/ ب لو أعلم أن رضاه فِي أن أقرض لحمي لدعوت بالمقراض/ فقرضته.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن عَلِيّ الخياط قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن يوسف قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر بن عبيد قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحُسَيْن قَالَ: حَدَّثَنِي مالك بن ضيغم قَالَ: قالت أم ضيغم لَهُ يوما: ضيغم. قَالَ لها: لبيك يا أماه. قالت: كيف فرحك بالقدوم على اللَّه؟ قَالَ: فحدثني غير واحد من أهله أنه صاح صحيحة لم يسمعوه صاح مثلها قط، وسقط مغشيا عليه، فجلست العجوز تبكي عند رأسه وتقول: بأبي أنت، مَا تستطيع أن يذكر بين يديك شيء من أمر ربك.
قَالَ: وقالت لَهُ يوما: ضيغم. قَالَ: لبيك يا أماه. قالت: تحب الموت؟ قَالَ: نعم يا أماه. قالت: ولم يا بْني؟ قَالَ: رجاء خير مَا عند اللَّه. قَالَ: فبكت العجوز وبكى، وتسامع أهل الدار، فجلسوا يبكون لبكائهم.
قَالَ: وقالت لَهُ يوما آخر: ضيغم. قَالَ: لبيك يا أماه. قالت: تحب الموت؟ قَالَ: نعم يا أماه. قالت: ولم يا بْني؟ قَالَ: رجاء خير مَا عند اللَّه. قَالَ: فبكت العجوز وبكى، وتسامع أَهْل الدار، فجلسوا يبكون لبكائهم.
قَالَ: وقالت لَهُ يوما آخر: ضيغم. قَالَ: لبيك يا أماه. قالت: تحب الموت؟ قال:
لا يا أماه. قال: ولم يا بْني؟ قَالَ: لكثرة تفريطي وغفلتي عَنْ نفسي. قَالَ: فبكت العجوز وبكى ضيغم، فاجتمع أهل الدار يبكون.
وكانت أمه عربية كأنها من أَهْل البادية.
779- عَمْرو بْن قيس، أَبُو عَبْد اللَّه الملائي [1] .
سمع عكرمة مولى ابْن عباس، وأبا إسحاق السبيعي، وعطاء، وعمر بن المنكدر.
__________
[1] انظر ترجمته: تاريخ بغداد 12/ 163، وتهذيب التهذيب 8/ 92. والجرح والتعديل 6/ 254.
والتاريخ الكبير 6/ 363.

(8/98)


روى عنه الثوري، وَكَانَ يثني عليه، ويجلس بين يديه ينظر إِلَيْهِ لا يكاد يصرف بصره عنه، يتأدب برويته. وَكَانَ ثقة صالحا يقال: إنه من الأبدال.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا حمزة بن محمد بن طاهر الوراق قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بْن بكر الأندلسي قال: حدثنا علي بن أحمد بن زكريا الهاشمي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مسلم صالح بْن أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه العجلي قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، عَنْ أبيه عَبْد اللَّه قَالَ: جاءت امرأة إِلَى عَمْرو بْن قيس بثوب فقالت: يا أبا عَبْد اللَّه، اشتر هَذَا الثوب، واعلم أن غزله ضعيف. قَالَ: فكان إذا جاءه إنسان فعرضه عليه قَالَ: إن صاحبته أخبرتني أنه كان في غزله ضعف. / حتى جاءه رجل 48/ أفاشتراه، وَقَالَ: قَدْ أبرأناك منه [1] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر قال: أخبرنا ثابت بن بندار قال: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر البرقاني قَالَ: سمعت عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم الأنبذوني يَقُول: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن عامر الدمشقيّ قال:
أخبرنا أحمد بْن أبي الحواري قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق بْن خلف قَالَ: أقام عَمْرو بْن قيس عشرين سنة صائما مَا يعلم به أهله، يأخذ غداه ويغدو إِلَى الحانوت، فيتصدق بغدائه ويصوم وأهله لا يدرون. قال: وَكَانَ إذا حضرته الرقة يحول وجهه إِلَى الحائط ويقول:
هَذَا الزكام. وإذا نظر إِلَى أهل السوق قال: ما أغفل هؤلاء عما أعدّ لهم.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أخبرنا أَحْمَد بْن عَلِي قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِي بْن مُحَمَّد المعدل قالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بْن صفوان قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدنيا قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحسين قَالَ: حَدَّثَنَا حفص بْن غياث قَالَ: حَدَّثَنَا أبي قَالَ: لما احتضر عَمْرو بْن قيس الملائي بكى. فَقَالَ أصحابه: علام تبكي من الدنيا؟ فو الله لقد كنت منغص العيش أيام حياتك. فَقَالَ: والله ما أبكي على الدنيا، إنما أبكي خوفا أن أحرم خير الآخرة [2] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَد الحداد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: حدثنا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن أبي علي قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن كزال قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن بشير قَالَ: حَدَّثَنَا المحاربي قَالَ: قَالَ لي سفيان: عَمْرو بْن قيس هو الَّذِي أدبْني، علمني قراءة القرآن، وعلمني
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 164، 165.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 165.

(8/99)


الفرائض، فكنت أطلبه فِي سوقه، فإن لم أجده فِي سوقه وجدته فِي بيته، إما يصلي وإما يقرأ القرآن فِي المصحف، كأنه يبادر أمورا تفوته، فإن لم أجده فِي بيته، وجدته فِي بعض مساجد الكوفة فِي زاوية من زوايا المسجد كأنه سارق قاعد يبكي، فإن لم أجده وجدته فِي المقبرة قاعدا ينوح على نفسه. فلما مات أغلق أهل الكوفة أبوابهم وخرجوا بجنازته، فلما أخرجوه إِلَى الجبانة وبرزوا بسريره- وَكَانَ أوصى أن يصلي عليه أبو حيان 48/ ب التيمي- فلما تقدم أَبُو حيان/ وكبروا سمعوا صائحا يصيح: قَدْ جاء المحسن، قَدْ جاء المحسن عَمْرو بْن قيس. وإذا البرية مملوءة من طير أبيض لم ير على خلقتها وحسنها، فجعل الناس يعجبون من حسنها وكثرتها. قَالَ أَبُو حيان: من أي شيء تعجبون؟ هَذِهِ ملائكة جاءت فشهدت عمرا.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بْن الْحَسَن الطبري قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد الْمُقْرِئ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مخلد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس عيسى بْن إسحاق السائح قَالَ: حَدَّثَنَا أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خالد- هو الأحمر- قَالَ: لما مات عَمْرو بْن قيس رأوا الصحراء مملوءة رجالا عليهم ثياب بيض، فلما صلي عليه ودفن لم يروا في الصحراء أحدا، فبلغ ذلك لأبي جَعْفَر فَقَالَ لابْن شبرمة، وابْن أبي ليلى: مَا منعكما أن تذكرا هذا الرجل لي فقالا: كَانَ يسألنا أن لا نذكره لك [1] .
اختلفوا أين تُوُفِّيَ، فقيل: بالكوفة، وقيل: بسجستان. وقيل: بالشام. وقيل:
ببغداد. والأول أليق.
780- هشام بْن عروة بْن الزُّبَيْر بْن العوام، أَبُو المنذر- وقيل: أَبُو عَبْد اللَّه- الأسدي [2] .
ولد سنة إحدى وستين، رأى ابْن عُمَر، وجَابِر، وأنس بْن مالك، وسهل بْن سعد، وعَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر.
وسمع أباه، وابْن المنكدر، والزهري، وغيرهم.
روى عنه أيوب السجستاني، ومالك، وابن جريح، والثوري، والليث بْن سعد، وغيرهم. وَكَانَ ثقة، وقدم على المنصور.
أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد قَالَ: أَخْبَرَنَا [أَحْمَدُ بن] [3] علي بن ثابت قال: أخبرنا
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 165.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 14/ 37.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.

(8/100)


محمد بن أحمد بن رزق قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُطَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّهُ دخل على أبي جعفر المنصور، فقال: يا أمير الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ عَنِّي دَيْنِي. قَالَ: وَكَمْ دَيْنُكَ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ. قَالَ: وَأَنْتَ فِي فَضْلِكَ وفهمك/ تأخذ دينا 49/ أمائة أَلْفٍ وَلَيْسَ عِنْدَكَ قَضَاؤُهَا؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، شَبَّ فَتَيَانِ مِنْ فِتْيَانِنَا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُبَوِّئَهُمْ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْتَشِرَ عَلَيَّ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا أَكْرَهُ فَبَوَّأْتُهُمْ وَاتَّخَذْتُ لَهُمْ مَنَازِلَ وَأَوْلَمْتُ عَنْهُمِ ثِقَةً باللَّه وَبِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: فَرَدَّ عَلَيْهِ مِائَةَ أَلْفٍ اسْتِعْظَامًا لَهَا، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَمَرْنَا لَكَ بِعَشْرَةِ آلافٍ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَعْطِنِي مَا أَعْطَيْتَ وَأَنْتَ طَيِّبُ النَّفْسِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً وَهُوَ بِهَا طَيِّبُ النَّفْسِ بُورِكَ لِلْمُعْطِي وَلِلْمُعْطَى» قَالَ: فَإِنِّي بِهَا طَيِّبُ النَّفْسِ [1] .
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ شيخ من قريش قَالَ: أهوى هِشَام بْن عُرْوَة إِلَى يد المنصور يقبلها فمنعه وَقَالَ: يا ابْن عُرْوَة، [إنا نكره ذلك،] إنا نكرمك عنها ونكرمها عَنْ غيرك [2] .
تُوُفِّيَ هِشَام عند المنصور فصلى عليه المنصور، وكانت وفاته في هذه السنة وَهُوَ ابْن خمس وثمانين سنة. وقيل: تُوُفِّيَ فِي سنة خمس وأربعين. وقيل: سبع وأربعين.
واختلفوا فِي قبره. قَالَ أَبُو الحسين بْن المنادي: أَبُو المنذر [3] هشام بْن عروة بْن الزُّبَيْر بْن العوام مات أيام خلافة أبي جَعْفَر فِي سنة ست وأربعين، ودفن فِي الجانب الغربي خارج السور نحو باب قطر بل.
وأخبرنا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنِي حمزة، عَنْ طاهر الدقاق:
أنه سمع أبا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه بْن الخفر ينكر أن يكون قبر هِشَام المشهور بالجانب الغربي، وإنما هو بالخيزرانية من الجانب الشرقي.
قَالَ أَحْمَد: ونرى أن هذا هو الصواب.
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 14/ 39.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 14/ 39 وما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «قال أبو المنذر» .

(8/101)


ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
أن الكواكب تناثرت كثيرا.
وَفِيهَا: إغارة الترك عَلَى المسلمين/ بْناحية أرمينية، وسبيهم منهم ومن أَهْل الذمة خلقا كثيرا ودخلوا بهم تفليس، وقتلهم حرب بْن عَبْد اللَّه الّذي تنسب إليه الحربية ببغداد، وكان حرب مقيما بالموصل فِي ألفين من الجند، لمكان الخوارج الذين بالجزيرة، وكان أبو جعفر حين بلغه تحرك الترك هُنَاكَ وجه إليهم جبريل بْن يحيى، وكتب إِلَى حرب يأمره بالمسير معه، فسار معه، فقتل وهزم جبريل وأصيب من ذكرنا [1] .
وَفِيهَا: كَانَ مهلك عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس. وَكَانَ السبب: أن أبا جعفر كان قد عزل عيسى بْن موسى عَنِ الكوفة وأرضها وولى مكانه مُحَمَّد بْن سليمان، وأوفده إِلَى مدينة السلام، فدعا به، فدفع إِلَيْهِ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ سرا فِي جوف الليل وَقَالَ لَهُ: يا عيسى، إن هَذَا أراد أن يزيل النعمة عني وعنك، وأنت ولي عهد بعد المهدي، والخلافة صائرة إليك، فخذه إليك واضرب عنقه، وإياك أن تخور أو تضعف.
ثُمَّ كتب إِلَيْهِ: مَا فعلت فيما أمرتك به؟ فكتب إِلَيْهِ: قَدْ أنفذت مَا أمرت به. فلم يشك أَبُو جَعْفَر أنه قَدْ قتل عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، وَكَانَ عيسى حين أخذ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ قَدْ ستره، ودعا كاتبه يونس بْن فروة فَقَالَ: إن هَذَا الرجل دفع إليّ عمّه فأمرني فيه بكذا
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 6.

(8/102)


وكذا. فَقَالَ: أراد أن يقتلك ويقتله، أمرك بقتله سرا، ثُمَّ يدعيه عَلَيْك علانية فيقيدك به.
قَالَ: فما الرأي؟ قَالَ: أن تستره فِي منزلك ولا تطلع عَلَى ذلك أحدا، فإن طلبه منك علانية دفعته إِلَيْهِ علانية، ولا تدفعه إِلَيْهِ سرا أبدا، فإنه إن كَانَ أسره إليك سيظهر، ففعل ذلك عِيسَى.
وقدم المنصور ودس عَلَى عمومته من يحركهم عَلَى مسألته فِيهِ هبة [عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ لهم] [1] ويطمعهم أنه سيفعل- يعني المنصور [2]- فجاءوا إِلَيْهِ فكلموه ورققوه، وأظهروا لَهُ الرقة، وذكروا لَهُ الرحم. فَقَالَ المنصور: نعم علي بعيسى بْن موسى. فأتى فَقَالَ: يا عيسى/، قَدْ علمت أني دفعت إليك عمي وعمك عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ قبل خروجي [إِلَى] [3] الحج، وأمرتك أن يكون فِي منزلك. قَالَ: قَدْ فعلت ذلك. قَالَ: وقد كلمني عمومتك فِيهِ، فرأيت الصفح وتخلية سبيله، فأتنا به. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ألم تأمرني بقتله؟ فَقَالَ المنصور: مَا أمرتك بقتله. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أنت أمرتني بقتله. فَقَالَ: كذبت، مَا أمرتك بقتله. ثُمَّ قَالَ لعمومته: إن هذا قد أقرّ لكم بقتل أخيكم، وادعى أني أمرته بذلك، وقد كذب. قالوا: فادفعه إلينا نقيده [4] . قَالَ: شأنكم به. فأخرجوه إِلَى الرحبة، واجتمع الناس، واشتهر الأمر، فقام أحدهم وشهر سيفه وتقدم إِلَى عيسى ليضربه، فَقَالَ لَهُ عيسى: أقاتلي أنت؟ قَالَ: إي والله. قَالَ: لا تعجلوا، ردوني إِلَى أمير المؤمنين. فردوه إِلَيْهِ. فَقَالَ: إنما أردت بقتله أن تقتلني، هَذَا عمك حي سويّ، إن أمرتني بدفعه إليك دفعته. قَالَ: ائتنا به. فَقَالَ لَهُ عيسى: دبرت علي أمرا فحسبته فكان كما حسبت، فشأنك بعمك. فأمر به فجعل فِي بيت.
وتوفي عَبْد اللَّه في هذه السنة فِي الحبس [5] .
وَفِيهَا: خلع المنصور عيسى بْن موسى وبايع لابْنه المهدي، فجعله ولي عهده:
وَكَانَ سبب خلعه بعد أن بايع لَهُ السفاح بعد المنصور أقره عَلَى مَا كَانَ عليه من
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] «يعني المنصور» ساقطة من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[4] في الطبري: «نقتله» .
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 7- 9.

(8/103)


الولاية الكوفة وسوادها فِي زمن السفاح، فكان يكرمه ويجلسه عَنْ يمينه والمهدي عَنْ يساره، إِلَى أن عزم المنصور عَلَى تقديم المهدي فِي الخلافة عليه، فلما عزم عَلَى ذلك كلم عيسى بْن موسى فِي ذلك برقيق من الكلام. فَقَالَ عيسى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فكيف بالأيمان والمواثيق الَّتِي علي وعلى المسلمين فِي العتق والطلاق وغير ذلك، ليس إِلَى ذلك سبيل، فلما رأى امتناعه تغير لَهُ [1] وباعده بعض التباعد، وأمر بالإذن للمهدي قبله، فكان يدخل فيجلس فِي مجلس عيسى، ثُمَّ يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس دون 50/ ب المهدي عَنْ يمين المنصور/ أيضا، ولا يجلس عَنْ يساره فيغتاظ من ذلك المنصور، ويبلغ منه، فكان يأمر بالإذن للمهدي، ثُمَّ لعيسى بْن عَلِيّ، ثُمَّ عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ، ثُمَّ عيسى بْن موسى.
ثُمَّ صار الأمر إِلَى أوحش من ذلك بأن كَانَ يكون فِي المجلس فيسمع الحفر فِي أصل الحائط، فيخاف أن يخر عليه الحائط، وينتثر عليه التراب، وينظر إِلَى الخشبة من سقف المجلس قَدْ حفر عند طرفيها لتقلع فيسقط التراب عَلَى قلنسوته وثيابه، فيأمر من معه من ولده بالتحول، ويقوم هو فيصلي، ويأتيه الإذن فيدخل عَلَى حالته والتراب عليه.
وقيل: إنه دس لعيسى بعض مَا يتلفه، ونهض وخرج، فَقَالَ لَهُ بختيشوع: مَا أجترئ عَلَى معالجتك بالحضرة، فاستأذن فِي الكوفة، فأذن لَهُ، وبلغت العلة من عيسى كل مبلغ حَتَّى تمعط شعره [2] .
وقد اختلفوا فِي نزول عيسى عَنِ الخلافة للمهدي عَلَى خمسة أقوال:
أحدها: أنه قيل للمنصور: إنما يحب عيسى الخلافة لولده، فلو أوهمته قتله لنزل عَنِ الخلافة فأخذ ولده بحضرته وَقَالَ للربيع: اختقه فلف [3] حمائل سيفه عَلَى حلقه توهم أنه يخنقه. فلما رأى عيسى الجد قَالَ: أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وكل مَا أملك في سبيل اللَّه، وَهَذِهِ يدي بالبيعة للمهدي.
والثاني: أن الجند كانوا يؤذون عيسى إذا ركب ويسبونه، فشكاهم إلى المنصور، فقال إنهم قَدْ أشربوا حب هَذَا الفتى، فبايع حينئذ للمهدي.
__________
[1] في الطبري: «تغير لونه» .
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 9- 11.
[3] «فلف» ساقطة من ت.

(8/104)


والثالث: أنه ذهب إِلَيْهِ ثَلاثُونَ نفسا، فسألوه أن ينزل عَنِ الخلافة، فلم يفعل، فخرجوا فأخبروا المنصور أنه قَدْ نزل وشهدوا عليه بذلك، فكتب بذلك إلى الأنبار، فلما أنكر شهدوا عليه.
والرابع: أن سالم بْن قتيبة أشار عليه بذلك فقبل منه.
والخامس: أنه بذل لَهُ مال فخرج إِلَى الناس، فَقَالَ: / قَدْ بعت نصيبي من مقدمة ولاية العهد من أمير المؤمنين لابْنه المهدي بعشرة آلاف ألف درهم وثلاثمائة ألف بين يدي ولدي فلان وفلان وسبعمائة ألف من فلانة- امرأة من نسائه- بطيب نفس مني، لأنه أولى بها مني وأحق، فما أدعيه بعد يومي هَذَا فإني فِيهِ مبطل. وكساه أَبُو جَعْفَر وكسا أولاده بقيمة ألف ألف درهم ومائتي ألف درهم، وَكَانَ ولاية عيسى الكوفة وسوادها وما حولها ثلاث عشرة سنة، حتى عزل مُحَمَّد بْن سليمان حين امتنع من تقديم المهدي عَلَى نفسه.
وَقَالَ المنصور للمهدي لما عهد إِلَيْهِ: يا أبا عَبْد اللَّه، استدم النعمة بالشكر والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف، والنصر بالتواضع، ولا تبرم أمرا حَتَّى تفكر فِيهِ، فإن فكر العاقل مرآته تريه حسنه وسيئه. واعلم أنه لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا يصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولا تدوم نعمة السلطان وطاعته إلّا بالمال، وأقدر الناس عَلَى العفو أقدرهم عَلَى العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه، واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره، ومن أحب الحمد أحسن السيرة، وليس العاقل الّذي يحتال للأمر الَّذِي وقع فِيهِ حَتَّى يخرج منه، ولكن هو الَّذِي يحتال للأمر الَّذِي غشيه حَتَّى لا يقع فِيهِ.
وَقَالَ لَهُ يوما: كم دابة عندك؟ قَالَ: لا أدري. قَالَ: هذا والله التضييع، أنت لأمر الخلافة أشد تضييعا.
وفي هذه السنة: ولى أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس ابْن أخيه البصرة، فاستعفى منها فأعفاه، فانصرف عنها إلى مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمات بها. واستخلف عَلَى البصرة عقبة بْن مسلم، وأقره أَبُو جَعْفَر عَلَيْهَا.
وَفِيهَا: ضرب مالك بْن أنس.
أَنْبَأَنَا زاهر بْن طاهر قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن الحسين البيهقي قال: سمعت أبا أحمد

(8/105)


51/ ب ابن أبي الْحَسَن يَقُول: سمعت/ أبا عوانة يَقُول: سمعت أبا يوسف الفارسي يَقُول:
سمعت مكي بْن إِبْرَاهِيم يَقُول: ضرب مالك بْن أنس رضي اللَّه عنه فِي سنة سبع وأربعين ومائة. ضربه سليمان بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس سبعين سوطا.
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه [1] : والسبب فِي ضربه أنهم سألوه عَنْ مبايعة مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بن حسن بْن حسن وقالوا لَهُ: إن فِي أعناقنا بيعة أبي جَعْفَر. فَقَالَ:
إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إِلَى مُحَمَّد. فلذلك ضرب.
وفي هذه السنة: حج بالناس المنصور، وقبض عَلَى جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بالمدينة.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا أبو الحسين بن عَبْد الْجَبَّارِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عُمَر القزويني قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن شاذان قال: حدثنا القاسم بن داود الكاتب قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن عبيد القرشي قَالَ: حَدَّثَنِي عيسى بْن حرب والمغيرة بْن محمد قالا: حَدَّثَنَا عَبْد الأَعْلَى بْن حماد قَالَ: حَدَّثَنِي الحسين بْن الفضل بْن الربيع قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن الفضل بْن الربيع- ولم يحفظ الدعاء وبعضه عَنْ غيره- قَالَ: حج أَبُو جَعْفَر سنة سبع وأربعين ومائة، فقدم المدينة فَقَالَ: ابعث إِلَى جَعْفَر بْن مُحَمَّد من يأتينا به [2] متعبا، قتلني اللَّه إن لم أقتله. فتغافل عنه الربيع لينساه، ثُمَّ أعاد ذكره للربيع وقال: ابعث إليه من يأتي به متعبا. فتغافل عنه، ثُمَّ أرسل إِلَى الربيع برسالة قبيحة فِي جَعْفَر وأمره أن يبعث إِلَيْهِ ففعل. فلما أتاه فَقَالَ: أبا عَبْد اللَّه، اذكر اللَّه، فإنه قَدْ أرسل إليك التي لا سوى لها [3] . قَالَ جَعْفَر: لا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. ثُمَّ أعلم أبا جَعْفَر حضوره، فلما دخل أوعده وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّه:
اتخذك أَهْل العراق إماما يجبون إليك زكاة أموالهم، وتلحد فِي سلطاني وتبغيه الغوائل، قتلني اللَّه إن لم أقتلك. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن سليمان عليه السلام/ أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وأنت من ذلك الشيخ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَر: إلي وعندي أبا عبد الله البريء الساحة، السليم الناحية، القليل الغائلة، جزاك اللَّه من ذي رحم أفضل مَا جزى ذوي الأرحام عَنْ أرحامهم. ثم تناول يده فأجلسه معه عَلَى فرشه، ثُمَّ قَالَ: علي بالمحفة. فأتى بدهن فِيهِ غالية فعلقه بيده حتى خلت
__________
[1] في ت: «قال المصنف» .
[2] في ت: «من يأتي به» .
[3] هكذا بالأصل ت.

(8/106)


لحيته قاطرة، ثُمّ قَالَ: فِي حفظ اللَّه وكلاءته. ثُمَّ قَالَ: يا ربيع، ألحق أبا عَبْد اللَّه جائزته وكسوته، انصرف أبا عَبْد اللَّه فِي حفظ اللَّه وفي كنفه. فانصرف، ولحقته فقلت له: إني رأيت قبل ذلك مَا لم تره، ورأيت بعد ذلك مَا قَدْ رأيت، فما قلت يا أبا عبد الرحمن حين دخلت. قال: قلت: اللَّهمّ احرسني بعينك الَّتِي لا تنام، واكنفني ببركتك التي لا ترام، وارحمني بقدرتك علي، فلا أهلك وأنت رجائي، اللَّهمّ إنك أكبر وأجل مما أخاف وأحذر، اللَّهمّ بك أدفع في نحره، وأستعيذك من شره.
وَكَانَ عامل المنصور في هذه السنة عَلَى مكة والطائف عمه عبد الصمد بن علي، وعلى المدينة جَعْفَر بْن سليمان، وعلى الكوفة وأرضها مُحَمَّد بن سليمان، وعلى البصرة عقبة بن سالم، وعلى قضائها سوار بْن عَبْد اللَّه، وعلى مصر يزيد بْن حاتم [1] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
781- حسين بْن ذكوان المعلم الْبَصْرِيّ [2] .
سمع عَبْد اللَّه بْن بريدة، ويحيى بْن أبي كثير.
سمع منه: شعبة، وعبد الوارث، وابْن المبارك، وَكَانَ ثقة.
782- سهيل بْن حيان بْن منصور بْن سعد، أَبُو السحماء الكلبي.
روى عنه: الليث، وابْن وهب.
وكانت لَهُ عبادة وفضل. تُوُفِّيَ بالإسكندرية في هذه السنة.
783- عَبْد اللَّه/ بْن عَلِيّ بْن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، عم أبو 52/ ب جَعْفَر المنصور.
أمه أم ولد بربرية، ولاه أَبُو الْعَبَّاس السفاح حرب مروان بْن مُحَمَّد، وضمن له أنه إن جرى قتل مروان عَلَى يده أن يجعله الخليفة من بعده، فسار عَبْد اللَّه إِلَى مروان حَتَّى قتله، واستولى عَلَى بلاد الشام، ولم يزل أميرا عَلَيْهَا مدة خلافة السفاح، ثُمَّ تغيرت نية السفاح لَهُ، فعهد إِلَى المنصور، فلما ولي المنصور خالف عليه عَبْد اللَّه، ودعا إِلَى نفسه
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 26.
[2] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 2/ 338. والجرح 3/ 52، وطبقات ابن سعد 7/ 270.

(8/107)


محتجا بما كَانَ السفاح وعده، فوجه إِلَيْهِ المنصور أبا مسلم صاحب الدولة، فحاربه بنصيبين، فانهزم عَبْد اللَّه واختفى، وصار إِلَى البصرة إِلَى أخيه سليمان بْن عَلِيّ، فأقام عنده إِلَى أن أخذ لَهُ أمانا من المنصور، فقدم إِلَى المنصور، ولم يصل إِلَيْهِ فحبسه، فلم يزل في الحبس حَتَّى وقع عليه البيت الَّذِي حبس فِيهِ فِي ليلة مطيرة فقتله في هذه السنة، وهو ابن اثنتين وخمسين سنة.
وقيل: بل كَانَ عمره خمسا وأربعين. ودفن فِي مقابر باب الشام، فكان أول من دفن بها.
وقد روى أصحاب التواريخ أن المنصور قال لابن عياش المنتوف- وَكَانَ لَهُ انبساط عَلَى المنصور- عَلَى طريق المزاح: تعرف ثلاثة أول أسمائهم عين، قتلوا ثلاثة أوائل أسمائهم عين؟ قَالَ: نعم، عَبْد الرَّحْمَنِ قتل عَلِيّ بْن أبي طالب، وَعَبْد الْمَلِكِ بْن مروان قتل عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر، ووقع البيت عَلَى عمك عَبْد اللَّه.
وَكَانَ قَدْ كتب العهد لعَبْد اللَّه واستوثق فِيهِ، وغلظ فِي الأيمان [1] ، وفيه: أن أحج حافيا حاسرا، وأموالي وأملاكي حبيس فِي سبيل اللَّه، وأقول كذا وكذا، وأبرأ من كذا وكذا.
فلما وقف المنصور عَلَى هَذَا المكتوب قَالَ: متى وقعت عليه عيني فهذا كله 53/ أيلزمني. فلما جيء به/ أعلم بمجيئه، فَقَالَ: يدخل بيتا. وَكَانَ قَدْ أعد لَهُ بيتا بْني أساسه بالملح، فلما استقر فِيهِ أجري الماء حواليه فانهدم البيت عليه.
وذكر أَبُو بكر الصولي عَنْ عَبْد اللَّه بْن عياش قَالَ: قَالَ لنا المنصور: أخبروني عَنْ خليفة أول اسمه عين، قتل ثلاثة جبابرة أول أسمائهم عين؟ فقلت: عَبْد الملك بْن مروان قتل عَمْرو بْن سعيد بْن العاص، وعَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، وَعَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث. قال: فخليفة آخر أوّل اسمه عين [2] فعل مثل ذلك بثلاثة جبابرة أول أسمائهم عين. قلت: أنت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد قتلت أبا مسلم واسمه عَبْد الرَّحْمَنِ، وقتلت عَبْد الْجَبَّارِ بْن عدي، وسقط البيت عَلَى عمك عَبْد اللَّه. فضحك المنصور وَقَالَ: ويحك، وما ذنبي إذا سقط البيت عليه.
__________
[1] في ت: «وغلظت الإيمان» وما أثبتناه من الأصل.
[2] «أول اسمه عين» ساقطة من ت.

(8/108)


قَالَ الصولي: إنما قَالَ: وسقط البيت عليه يريد أنك قتلته لأنه بْنى لَهُ بيتا وفي أساسه ملح فسقط عليه، ولم يفصح بهذا ولكنه عرض به.
وَقَالَ الصولي: ويروى أنه قَالَ لهم: أتعرفون عين ابْن عين ابْن عين ابْن عين ابْن عين قتل ميم ابْن ميم ابْن ميم؟ قالوا: نعم، عمك عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ بْن عَبْد الله بن عباس بن عبد المطلب قتل مروان بْن مُحَمَّد بْن مروان.
784- عثمان، أَبُو عَمْرو البتي الثقفي الْبَصْرِيّ [1] .
وقيل: هو عثمان بْن سليمان بْن هرمز. وقيل: ابْن سليمان بْن جرموز.
سمع الْحَسَن. وروى عنه الثوري.
وَكَانَ يبيع البت، وهي ثياب معروفة بالبصرة.
785- هِشَام بْن حسان بْن عَبْد اللَّه الفردوسي [2] .
روى عَنْ عطاء وغيره.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بإسناد لَهُ عَنْ أبي بكر بْن أبي الدنيا قَالَ: حَدَّثَنِي ابْن هرمز بْن مروان قَالَ: سمعت حماد بْن زيد قَالَ: حدثتني فارسية كانت تكون مَعَ هِشَام بن حسان في الدار قالت [3] : أي ذنب عمل هَذَا/ من قبل هَذَا الليل كله يبكي.
تُوُفِّيَ هِشَام في هذه السنة. وقيل فِي سنة ثمان، وقيل: فِي سنة ست.
786- هاني بْن المنذر الكلاعي.
روى عنه ابْن لهيعة. وَكَانَ علامة بالأنساب، مستطلعا معرفتها، وبأخبار العرب وأيامها، وأخبار مصر وما جرى فِيهَا. وَكَانَ يوثق فيما يحكيه.
تُوُفِّيَ في هذه السنة.
__________
[1] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 2/ 14، وفيه: «عثمان بن مسلم البتي، أبو عمرو البصري، صدوق عابوا عليه الإفتاء بالرأي» .
[2] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 11/ 34. والتاريخ الكبير 8/ 197. والجرح والتعديل 9/ 54.
وطبقات ابن سعد 7/ 271.
[3] في الأصل: «قال» .

(8/109)


ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
توجيه المنصور حميد بْن قحطبة إِلَى أرمينية لحرب الترك الذين قتلوا حرب بْن عَبْد اللَّه، وعاثوا بتفليس، فسار فوجدهم قَدِ ارتحلوا، فانصرف ولم يلق منهم أحدا [1] .
وَفِيهَا: عسكر صالح بْن عَلِيّ بدابق ولم يغز [2] .
وَفِيهَا: خرج الهند من البحر فأتوا دجلة البصرة.
وَفِيهَا: حج بالناس جَعْفَر بْن أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ عمال الأمصار في هذه السنة عمالها فِي السنة الَّتِي قبلها [3] .
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر.
787- جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو عَبْد اللَّه [4] [جَعْفَر الصادق] [5] .
أمه أم فروة بْنت القاسم بْن مُحَمَّد بْن أبي بكر.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 27.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 27.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 27.
[4] انظر ترجمته في: التاريخ الكبير للبخاريّ 2/ 2183، والمعارف 175، 215، وأخبار القضاة لوكيع 2/ 62، والجرح والتعديل 2/ 1987، وحلية الأولياء 3/ 192، وصفة الصفوة 2/ 94، وتاريخ الإسلام للذهبي 6/ 45- 48، وتذكرة الحفاظ 1/ 166.
[5] ما بين مزدوجين من هامش الأصل.

(8/110)


كَانَ عالما زاهدا عابدا، أسند عَنْ أبيه وعطاء وعكرمة.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم قَالَ: أَخْبَرَنَا حمد بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني قَالَ: حَدَّثَنَا أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن بْنِ أَبَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بْن شجاع قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن أعين، عَنْ يحيى بْن الفرات قَالَ: قَالَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد لسفيان الثوري:
لا يتم المعروف إلا بثلاثة: تعجيله، وتصغيره، وستره.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن القاسم قَالَ: حَدَّثَنَا حمد بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مقسم قَالَ: حَدَّثَنِي أبو الحسن/ بن 54/ أالحسين الكاتب قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حَدَّثَنِي الهيثم قَالَ: حَدَّثَنِي بعض أصحاب جَعْفَر الصادق قَالَ: دخلت عَلَى جَعْفَر وموسى بين يديه وَهُوَ يوصيه بهذه الوصية، فكان مما حفظت منها أن قال: يا بني، اقبل وصيتي، واحفظ مقالتي، فإنك إن حفظتها تعش سعيدا، وتمت حميدا، يا بْني، إنه من قنع بما قسم لَهُ استغنى، ومن مد عينه إِلَى مَا فِي يد غيره مات فقيرا، ومن لم يرض بما قسم الله له اتهم اللَّه فِي قضائه، ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه. يا بْني، من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن احتفر لأخيه بئرا سقط فِيهَا، ومن داخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم. يا بْني، قل الحق لك وعليك، وإياك والنميمة، فإنها تزرع الشحناء فِي قلوب الرجال. يا بْني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْمُحْسِنِ بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنَا مسعود بْن ناصر السجستاني قَالَ: أَخْبَرَنَا سعيد بْن أبي عَمْرو البحتري قَالَ: سمعت أبا الْحَسَن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن عبيدة يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن سهل البخاري يَقُول: سمعت صالح بْن مُحَمَّد يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عبيدة يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن يوسف يَقُول:
سمعت الثوري يَقُول: دخلت عَلَى جَعْفَر بْن مُحَمَّد الصادق فقلت لَهُ: يا ابْن رسول الله، ما لي أراك قَدِ اعتزلت عَنِ الناس؟ قَالَ: يا سفيان، فسد الزمان، وتغير الإخوان، فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد، ثُمَّ أنشأ يَقُول:
ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب ... والناس بين مخاتل وموارب

(8/111)


يفشون بينهم المودة والصفا وقلوبهم محشوة بعقارب
788- سليمان بْن مهران، أَبُو مُحَمَّد الأعمش، مولى بْني كاهل [1] .
أصله من طبرستان، من قرية يقال لها: دباوند. ولد يوم قتل الحسين يوم عاشوراء 54/ ب/ سنة إحدى وستين، وسكن الكوفة، ورأى أنس بْن مالك، ولم يسمع منه. ورأى أبا بكرة الثقفي وأخذ بركابه، فَقَالَ لَهُ: يا بْني، إنما أكرمت ربك عز وجل.
وسمع المغرور بْن سويد، وأبا وائل، وإبراهيم التيمي، وسفيان الثوري، وغيرهم، وَكَانَ من أقرأ الناس للقرآن وأعرفهم بالفرائض، وأحفظهم للحديث وأوثقهم [2] أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا ابن رزق قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَر بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا حنبل بْن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن داود قَالَ: حَدَّثَنَا عيسى بْن يونس قَالَ: لم نر نحن ولا القرن الذين كانوا قبلنا مثل الأعمش، وما رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر منهم عند الأعمش مَعَ فقره وحاجته [3] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أَخْبَرَنِي عَبْد اللَّه بْن أبي بكر بْن شَاذَان قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن جرير قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَام قَالَ: سمعت عمي يَقُول: قَالَ عيسى بْن موسى لابْن أبي ليلى: اجمع الفقهاء. قال: فجمعتهم، فجاء الأعمش فِي جبة فرو وقد ربط وسطه بشريط، فأبطئوا فقام الأعمش فَقَالَ: إن أردتم أن تعطونا شيئا وإلا فخلوا سبيلنا. فَقَالَ: يا ابْن أبي ليلى، قلت لك تأتي بالفقهاء تجيء بهذا؟! قَالَ: هَذَا سيدنا، هَذَا الأعمش [4] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت بإسناد له، عن
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 3.
[2] في الأصل: «أثقهم» .
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 8.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 8.

(8/112)


وكيع قَالَ: كَانَ الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إِلَيْهِ قريبا من سنتين، فما رأيته يقضي ركعة [1] .
أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا المبارك بْن عَبْد الْجَبَّارِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر المنكدري قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَن بْن الصلت قال: أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري قال: حَدَّثَنِي ابْن المرزبان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد البلخي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا جرير قَالَ: جئنا الأعمش يوما فوجدناه قاعدا فِي ناحية، فجلسنا فِي ناحية أخرى وفي الموضع خليج من ماء/ المطر، فجاء رجل عليه سواد، فلما بصر بالأعمش 55/ أعليه فروة حقيرة قَالَ: قم عبرني هَذَا الخليج. وجذب بيده فأقامه وركبه وَقَالَ: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ 43: 13 [2] فمضى به الأعمش حَتَّى توسط به الخليج، ثُمَّ رمى به وَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ 23: 29 [3] ثُمَّ خرج وترك المسود يتخبط فِي الماء [4] .
قَالَ مسلم بْن إِبْرَاهِيم: سمعت شعبة يَقُول: كَانَ الأعمش إذا رأى ثقيلا قَالَ [لَهُ] [5] : كم عرضك تقيم فِي هَذِهِ البلدة.
قَالَ الربيع بْن نافع [6] : كنا نجلس إِلَى الأعمش فيقول: فِي السماء غيم. يعني ها هنا من نكره.
أَخْبَرَنَا ابْن ناصر بإسناد لَهُ عَنْ إِسْمَاعِيل بْن زياد قَالَ: نشزت عَلَى الأعمش امرأته، وكان يأتيه رجل يقال لَهُ: أَبُو البلاد مكفوف، فصيح يتكلم بالإعراب يتطلب الحديث منه، فَقَالَ لَهُ: يا أبا البلاد، إن امرأتي قَدْ نشزت علي، وضيعت بيتي وغمتني، فأنا أحب أن تدخل عَلَيْهَا فتخبرها بمكاني من الناس وموضعي عندهم. فدخل عَلَيْهَا فَقَالَ: يا هنياه، إن اللَّه قد أحسن قسمك، هَذَا شيخنا وسيدنا، وعنه نأخذ أصل ديننا،
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 8، 9.
[2] سورة: الزخرف، الآية: 13.
[3] سورة: المؤمنون، الآية: 29.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[6] في الأصل: «عن الربيع بن نافع» .

(8/113)


وحلالنا وحرامنا، لا يغرنك عموشة عينيه، ولا خموشة ساقيه. فغضب الأعمش وَقَالَ: يا أعمى يا خبيث، أعمى اللَّه قلبك، قَدْ أخبرتها بعيوبي كلها، اخرج من بيتي. فأخرجه من بيته.
عَنِ الْحَسَن بْن يحيى بْن آدم قَالَ: حدثتني أمي قالت: لم تكن بالكوفة امرأة أجمل من امرأة الأعمش، فابتليت بالأعمش وبقبح وجهه، وسوء خلقه.
تُوُفِّيَ الأعمش فِي ربيع الأول من هذه السنة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقيل:
تُوُفِّيَ سنة سبْعٍ.
789- عمار بْن سعد السلهمي [1] .
يروي عنه عطاء بْن دينار، وحيوة بْن شريح، وَكَانَ فاضلا، كان يقول: من تخايل 55/ ب الثواب خف عليه العمل، وما لاءم القلب خف عَلَى الجسد، ولسان الحكيم فِي قلبه/ وقلب الأحمق فِي طرف لسانه، مَا خطر عَلَى قلبه نطق به.
790- مُحَمَّد بْن عجلان، مولى فاطمة بْنت الوليد بْن عتبة، يكنى أبا عَبْد اللَّه [2] .
وَكَانَ ثقة كثير الحديث، روى عنه حيوة بْن شريح، والليث، وغيرهما. وَكَانَ يخضب بالصفرة. توفي بالمدينة في هذه السنة.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد الخلال قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد العزيز بن أحمد الغافقي قال: سمعت عياش بْن نصر البغدادي يَقُول: سمعت صفوان بْن عيسى يَقُول: مكث مُحَمَّد بْن عجلان فِي بطن أمه ثلاث سنين، فشق بطن أمه فأخرج وقد نبتت أسنانه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي بإسناد لَهُ عَنْ مُحَمَّد بْن عُمَر قَالَ: خرج مُحَمَّد بْن عجلان مَعَ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن حسين حَتَّى خرج بالمدينة، فلما قتل وولي جعفر بن
__________
[1] في الأصول: السهمي.
انظر: تقريب التهذيب 2/ 47.
[2] انظر ترجمته في: الجرح والتعديل 8/ 49. والتاريخ الكبير 1/ 196. وطبقات ابن سعد 54 الجزء المتمم. وتهذيب التهذيب 9/ 341.

(8/114)


سليمان المدينة بعث إِلَى مُحَمَّد بْن عجلان فأتى به فبكته وكلمه كلاما شديدا وَقَالَ لَهُ:
خرجت مَعَ الكلاب. وأمر بقطع يده. فلم يتكلم مُحَمَّد بْن عجلان بكلمة إلا أنه يحرك شفتيه بشيء لا ندري مَا هو، يظن أنه يدعو. قَالَ: فقام من حضر جعفر بن سليمان من فقهاء المدينة وأشرافهم. فقالوا: أصلح اللَّه الأمير، مُحَمَّد بْن عجلان فقيه أَهْل المدينة وعابدها، وإنما شبه عليه، فظن أنه المهدي الَّذِي جاءت فِيهِ الرواية، فلم يزالوا يشفعون إِلَيْهِ حَتَّى تركه. فولى مُحَمَّد بْن عجلان منصرفا لم يتكلم بكلمة إِلَى منزله.

(8/115)


ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
غزوة الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد الصائفة أرض الروم ومعه الْحَسَن بْن قحطبة، ومحمد بن الأشعث، فهلك ابن الأشعث فِي الطريق [1] .
وَفِيهَا: استتم المنصور جميع مَا أراد من البْناء ببغداد، واستتم حائط بغداد [2] .
/ أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ الوراق قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر النحوي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن السكوني قَالَ: قَالَ مُحَمَّد بْن خلف: أنبأني مُحَمَّد بْن موسى القيسي، عَنْ مُحَمَّد بْن موسى الخوارزمي: أن أبا جَعْفَر تحول من الهاشمية إِلَى بغداد ونزلها مَعَ جنده، وسماها: مدينة السلام، واستتم حائط بغداد وجميع عملها بعد مائة سنة وثمان وأربعين وستة أشهر وأربعة أيام من الهجرة [3] .
وفي هذه السنة: شخص المنصور إِلَى مدينة الموصل [4] ثم عاد إلى مدينة السلام [5] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 28.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 28.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 67.
[4] في الطبري: «حديثة الموصل» .
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 28.

(8/116)


وعزل السري بْن عَبْد اللَّه عَنْ مكة والطائف، وولاها مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد [1] .
وفيها: حج بالناس محمد بن إبراهيم بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاس [2] .
وكانت العمال الَّتِي فِي الأمصار في هذه السنة هم العمال فِي السنة الَّتِي قبلها غير مكة والطائف، فإن واليها كَانَ في هذه السنة مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم [3] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
791- الْحَسَن بْن يزيد، أَبُو يونس العجلي القوي.
سمع من أبي مسلمة، وسعيد بْن جبير، ومجاهد.
أَخْبَرَنَا ابْن ناصر قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن علي بْن ميمون قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن رجاء قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن عبد الله الجعفي قال: حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن أَحْمَد بْن كعب قَالَ: حدّثنا علي بْن كعب قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن زياد قَالَ: إنما [سمي] [4] أَبُو يونس: القوي لقوته عَلَى العبادة، صلى حَتَّى أقعد، وبكى حَتَّى عمي، وصام حَتَّى صار كالحشفة.
792- زكريا بْن أبي زائدة، أَبُو يحيى الهمداني [5] .
سمع الشعبي، وأبا إسحاق. روى عنه: الثوري، ووكيع.
793- سالم بْن قتيبة.
كَانَ أميرا كبيرا، غزير العقل، حسن المحضر. وولاه المنصور البصرة ثُمَّ عزله.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 28.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 28.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 28.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[5] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 3/ 329 والتاريخ الكبير 3/ 421 وطبقات ابن سعد 6/ 355 والجرح والتعديل 3/ 593. وهذه الترجمة ساقطة من ت.

(8/117)


عَنْ أبي المعلى الثقفي يَقُول: جرى ذكر رجل/ فِي مجلس سالم بْن قتيبة فتناوله بعض أهل المجلس، فَقَالَ: يا هَذَا أوحشتنا من نفسك، وآنستنا من مودتك، ودللتنا عَلَى عورتك.
قَالَ الأصمعي: أتى أهلنا سالم بْن قتيبة فِي حاجة فقالوا لَهُ: جئناك فيما لا يرزأك ولا ينكأك. فَقَالَ: لا جاء اللَّه بكم إذن، فلم جئتموني عليكم بلئام الناس.
تُوُفِّيَ سالم فِي هَذِهِ، وصلى عليه المهدي.
794- عمران بْن حرير، أَبُو عبيدة السدوسي الْبَصْرِيّ [1] .
سمع عكرمة، وأبا مجلز. وسمع منه: شعبة، ووكيع. وتوفي في هذه السنة.
795- عيسى بْن عُمَر الثقفي النحوي [2] .
كَانَ فاضلا غاية فِي النحو، صنف كتبا حسانا.
796- كرز بْن وبرة.
كوفي الأصل، سكن جرجان، أسند عن طاووس، وعطاء والربيع بْن خثيم وغيرهم. وَكَانَ متعبدا.
أَخْبَرَنَا ابْن ناصر قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الفضل بْنُ أحمد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن مالك قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قال:
حدثني شريح بن يونس قال: حدثنا مُحَمَّد بْن فضيل بْن غزوان، عَنْ أبيه قَالَ: دخلت عَلَى كرز بْن وبرة بيته وإذا عند مصلاه حفرة قَدْ ملأها تبْنا، وبسط عَلَيْهَا كساء، من طول القيام. وَكَانَ يقرأ فِي اليوم والليلة القرآن ثلاث مرات.
قَالَ أَبُو نعيم: وحدثنا مُحَمَّد بْن حيان قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الحسين الحذاء قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الدورقي قَالَ: حَدَّثَنَا جرير بْن زناد الحارثي، عَنْ شجاع بْن صبيح مولى كرز بْن وبرة قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سليمان المكتب قَالَ: صحبت كرزا إلى
__________
[1] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 8/ 125. والجرح والتعديل 6/ 297. وطبقات ابن سعد 7/ 271.
[2] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 2/ 100.

(8/118)


مكة، وَكَانَ إذا نزل أدرج ثيابه فألقاها عَلَى الرحل، ثُمَّ تنحى للصلاة، فإذا سمع رغاء الإبل أقبل فاحتبس يوما عَنِ الوقت، فانبثت أصحابه فِي طلبه. فكنت فيمن طلبه. قَالَ:
فأصبته فِي وهدة يصلي فِي ساعة حارة، وإذا سحابة تظله، فلما رآني أقبل نحوي، فَقَالَ: يا أبا سُلَيْمَان، لي إليك حاجة. قلت: وما حاجتك؟ قَالَ: أحب أن/ تكتم عليّ 57/ أما رأيت. قال: قلت: ذاك لك. قال: أوثق لي. فحلفت أن لا أخبر به أحدا حَتَّى يموت.
797- كهمس بْن الْحَسَن، أَبُو عَبْد اللَّه القيسي.
كَانَ متعبدا ورعا، يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، ويقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء، فو الله مَا رضيتك للَّه ساعة قط.
عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حدثني أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدَّثَنَا مؤمل بْن إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدَّثَنَا عمارة بْن زادان قَالَ: قَالَ لي كهمس: يا أبا سلمة، أذنبت ذنبا، فأنا أبكي عليه أربعين سنة. قلت: مَا هو يا أبا عَبْد اللَّه؟ قَالَ: زارني أخ لي فاشتريت لَهُ سمكا بدانق، فلما أكل قمت إِلَى حائط جار لي، فأخذت منه قطعة طين فغسل بها يده، فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة.
798- عابد علوي مديني.
أَخْبَرَنَا المحمدان: ابْن عَبْد الملك وابْن ناصر قالا: أخبرنا أَحْمَد بْن خيرون قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد العزيز بْن عَلِيّ الوراق قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ المفيد قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عَبْد الْوَاحِدِ الكتاني قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد الأنصاري قَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العلاء قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: سمعت أبا عامر الواعظ يَقُول: بينا أنا جالس في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءني غلام أسود برقعة فقرأتها، فإذا فِيهَا مكتوب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم. متعك اللَّه بمسامرة الفكرة، ونعمك بمؤانسة العبرة، وأفردك بحب الخلوة، يا أبا عامر، أنا رجل من إخوانك بلغني قدومك المدينة فسررت بذلك، وأحببت زيارتك وبي من الشوق إِلَى مجالستك والاستماع لمحادثتك [1] ، مَا لو كَانَ فوقي لأظلني، ولو كَانَ تحتي لأقلني، سألتك بالذي حباك بالبلاغة لما ألحقتني جناح التوصل [2] من زيارتك. والسلام.
__________
[1] في الأصل: «لمحادثك» .
[2] في ت: «الوصل» .

(8/119)


قَالَ أَبُو عامر: فقمت مَعَ الرسول حَتَّى أتى بي إِلَى فناء فأدخلني منزلا رحبا خربا.
فَقَالَ لي: قف ها هنا حَتَّى أستأذن لك. فوقف، فخرج إلي فَقَالَ لي: لج. فدخلت، 57/ ب فإذا بيت مفرد فِي الخربة، لَهُ باب/ من جريد النخل، وإذا بكهل قاعد مستقبل القبلة، تخاله من الوله مكروبا، ومن الخشية محزونا، قَدْ ظهرت فِي وجهه أحزانه، وذهبت من البكاء عيناه، ومرضت أجفانه، فسلّمت عليه، فرد علي السلام، ثُمَّ تحرك، فإذا هو أعمى أعرج مسقام. فَقَالَ لي: يا أبا عامر، غسل اللَّه من درن الذنوب قلبك، لم يزل قلبي إليك تواقا، وإلى سماع الموعظة منك مشتاقا، وبي جرح بعد [1] ، قَدْ أعيا الواعظين دواه، وأعجز المتطببين شفاؤه، وقد بلغني نفع مراهمك للجراح والآلام، فلا تألو- رحمك اللَّه- فِي إيقاع الترياق، وإن كَانَ مر المذاق، فإني ممن يصبر عَلَى ألم الدواء رجاء الشفاء. قَالَ أَبُو عامر: فنظرت إِلَى منظر بهرني، وسمعت كلاما قطعني، فأفكرت طويلا، ثُمَّ تأتى من كلامي مَا تأتى، وسهل من صعوبته مَا منه يرق لي. فقلت:
يا شيخ، ارم ببصر قلبك فِي ملكوت السماء، وأجل سمع معرفتك فِي سكان الأرجاء، وتنقل بحقيقة إيمانك إِلَى جنة المأوى فترى مَا أعد اللَّه فِيهَا للأولياء، ثُمَّ تشرف عَلَى نار لظى فترى مَا أعد فِيهَا للأشقياء، فشتان مَا بين الدارين، أليس الفريقان فِي الموت سواء؟ قَالَ أبو عامر: فأن أنة، وصاح صيحة، وزفر والتوى، وَقَالَ: يا أبا عامر، وقع والله دواؤك عَلَى دائي، وأرجو أن يكون عندك شفائي، زدني رحمك اللَّه. فقلت لَهُ: يا شيخ، إن الله عالم بسريرتك، مطلع عَلَى خفيتك، شاهدك فِي خلوتك بعينه، [أين] [2] كنت عند استتارك من خلقه ومبارزته. فصاح صيحة كصيحته الأولى. ثُمَّ قَالَ:
من لفقري، من لفاقتي، من لذنبي، من لخطيئتي؟ أنت يا مولاي، وإليك منقلبي. ثُمَّ خر ميتا رحمه اللَّه. قَالَ أَبُو عامر: فأسقط فِي يدي وقلت: ما جنيت عَلَى نفسي.
فخرجت إِلَى جارية عَلَيْهَا مدرعة صوف، وخمار من صوف، قَدْ ذهب/ السجود بجبينها 58/ أوأنفها، وأصفر لطول القيام لونها، وتورمت قدماها، فقالت: أحسنت والله يا حادي قلوب العارفين، ومثير أشجان غليل المحزونين، لا نسي لك هَذَا المقام رب العالمين، يا أبا عامر، هَذَا الشيخ والدي، مبتلى بالسقم منذ عشر سنين، صلى حتى أقعد، وبكى
__________
[1] هكذا في الأصل وفي ت: «نعل» .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.

(8/120)


حَتَّى عمي، وَكَانَ يتمناك عَلَى اللَّه ويقول: حضرت مجلس أبي عامر الْبُنَانِيّ، فأحيا موات قلبي، وطرد وسن نومي، فإن سمعته ثانية قتلني، فجزاك اللَّه من واعظ خيرا، ومتعك من كلمك بما أعطاك، ثُمَّ أكبت عَلَى أبيها تقبل عينيه وهي تبكي وتقول: يا أبي، يا أبتاه، يا من أعماه البكاء، يا أبي، يا أبتاه، يا من قتله ذكر وعيد ربه ثُمَّ علا البكاء والنحيب والاستغفار والدعاء، وجعلت تقول: يا أبي، يا أبتاه، يا حليف الحرقة والبكاء. يا أبي يا أبتاه، يا جليس الابتهال والدعاء، يا أبي، يا أبتاه، يا صريخ المذكرين والخطباء، يا أبي يا أبتاه، يا قتيل الوعاظ والحكماء. قَالَ أَبُو عامر: فأجبتها: أيتها الباكية الجرباء، والنادبة الثكلى، إن أباك نحبه قَدْ قضي، وورد دار الجزاء، وعاين كل مَا عمل، وعليه يحصى فِي كتاب عند ربي، لا ينسى لمحسن فله الزلفى، أو مسيء فوارد دار من أساء. فصاحت الجارية كصيحة أبيها، ثُمَّ جعلت ترشح عرقا، وخرجت مبادرا إلى مسجد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وفرغت إلى الصلاة والدعاء والاستغفار والتضرع والبكاء حَتَّى إذا كَانَ عند صلاة العصر، فجاءني الغلام الأسود فأذنني بجنازتيهما وَقَالَ: احضر الصلاة عليهما ودفنتهما. وسألت عنهما فقيل لي من ولد الحسين بْن عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللَّه عنهم.
قَالَ أَبُو عامر: فما زلت جزعا حذرا مما جنيت، حَتَّى رأيتهما في المنام عليهما حلتان خضراوتان، فقلت: مرحبا بكما وأهلا، فما زلت حذرا بما ووعظتكما به، ماذا/ 58/ ب صنع الله بكما؟ فقال الشيخ:
أنت شريكي فِي الَّذِي نلته ... مستأهلا ذاك يا أبا عامر
وكل من أيقظ ذا غفلة ... فنصف مَا يعطاه للآمر
من رد عبدا آبقا مذنبا ... كَانَ كمن قَدْ راقب القاهر
واجتمعا فِي دار عدل وفي ... جوار رب سيد غافر

(8/121)


ثم دخلت سنة خمسين ومائة
فمن الحوادث فيها:
خروج بعض الأعاجم بخراسان في ثلاثمائة ألف مقاتل فغلبوا عَلَى عامة خراسان، فوجه المنصور خازم بْن خزيمة إِلَى المهدي، فولاه الحرب، وضم إِلَيْهِ اثنين وعشرين ألفا. ثُمَّ ضم إليه ستة آلاف من الجند متخيرين، فالتقوا، فقتل من المشركين أكثر من سبعين ألفا، وأسر أربعة عشر ألفا، فضربت أعناقهم، ونجا ملك الأعاجم في جماعة لجئوا إلى جبل، فحاصرهم المسلمون، فنزلوا عَلَى حكمهم فحكموا بأن يؤسر الملك وأولاده ويعتق الباقون [1] .
وقد قيل: كَانَ هَذَا فِي سنة إحدى وخمسين ومائة.
وفي هذه السنة: عزل المنصور جَعْفَر بْن سليمان الهاشمي عن المدينة وولاها الحسن بن زيد بْن عَلِيّ [2] .
وَفِيهَا: حج بالناس عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ، وَكَانَ العامل عَلَى مكة والطائف محمد بن إبراهيم بن مُحَمَّد، وعلى المدينة الْحَسَن بْن زيد العلوي، وعلى الكوفة مُحَمَّد بْن سليمان بْن عَلِيّ، وعلى البصرة عقبة بْن مسلم، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بن حاتم [3] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 29- 32.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 32.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 32.

(8/122)


ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
799-/ حجاج بْن أرطأة، أَبُو أرطأة النخعي الكوفي [1] .
سمع عطاء بْن أبي رباح وغيره.
وروى عنه: سفيان الثوري، وهشيم، وابْن المبارك، ويزيد بْن هارون.
وَكَانَ من حفاظ الحديث ومن الفقهاء. استفتي وَهُوَ ابْن ست عشرة سنة. وولي القضاء بالبصرة، إلا أنه كَانَ مدلسا، يروي عَنْ من لم يلقه، فيرسل تارة عَنْ مجاهد، وتارة عَنِ الزُّهْرِيّ ولم يلقهما، وَكَانَ مَعَ المنصور فِي بْناء مدينته، وتولى خطها، ونصب قبلة مسجدها، وَكَانَ فِي هَذَا الرجل تيه كثير، وكبر خارج عَنِ الحد.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرني حمد بن محمد بن طاهر الدقاق قال: أخبرنا علي بن عمر الحافظ قال: حدثنا أبو الْحَسَن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن عبيد قَالَ: سمعت أبا قلابة يَقُول: سمعت أبا عاصم يَقُول: أول من ولي القضاء لبني العباس بالبصرة الحجاج بن أرطأة، فجاء إلى حلقة البتي، فجلس في عرض الحلقة، وقيل له: ارتفع إلى الصدر. فقال أنا صدر حيث كنت. قَالَ: وَقَالَ: أنا رجل حبب إلي الشرف [2] .
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي بن ثابت قَالَ: أخبرني مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن علان قَالَ: أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جرير الطبري قَالَ:
حدثت عَنْ قيس بْن الوليد قَالَ: سمعت أبا يوسف يَقُول: كَانَ الحجاج بْن أرطأة لا يشهد جمعة ولا جماعة، ويقول: أكره مزاحمة الأنذال [3] .
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أخبرني الأزهري قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ معروف قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد قَالَ: كَانَ الحجاج بْن أرطأة فِي أصحاب أبي جَعْفَر، فضمه
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 8/ 230- وتهذيب التهذيب 2/ 196. وطبقات ابن سعد 6/ 359.
والجرح والتعديل 3/ 156.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 8/ 233.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 8/ 233.

(8/123)


إلى المهدي، فلم يزل معه حَتَّى تُوُفِّيَ بالري والمهدي بها يومئذ فِي خلافة أبي جَعْفَر.
وَكَانَ ضعيفا فِي الحديث [1] .
800- عَبْد الملك بْن عَبْد العزيز بْن جريج المكي، مولى/ أمية بْن خالد. وَكَانَ يكنى أبا الوليد، وأبا خالد [2] .
سمع من طاووس مسألة واحدة، ومن مجاهد حرفين فِي القراءات. وسمع الكثير من عطاء بْن أبي رباح، وعمرو بْن دينار، وابْن المنكدر وغيرهم.
روى عنه: الأوزاعي، والثوري، وابْن المبارك، وغيرهم.
وَكَانَ ثقة، يقال إنه أول من صنف الكتب، وَكَانَ عطاء يَقُول: ابْن جريج سيد شباب أَهْل الحجاز، وقيل لَهُ: من نسأل بعدك؟ فَقَالَ: هَذَا الفتى إن عاش- يعني ابْن جريج.
وَقَالَ عَبْد الرَّزَّاقِ: كنت إذا رأيت ابْن جريج علمت أنه يخشى [اللَّه] [3] ، وما رأيت أحدا أحسن صلاة منه.
وَقَالَ مالك: كَانَ ابْن جريج صاحب ليل.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعَدَّلُ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصفار قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عبيد اللَّه المنادي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن حنبل قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاقِ قَالَ: أَهْل مكة يقولون أخذ ابْن جريج الصلاة من عطاء، وأخذها عطاء من أبي الزُّبَيْر، وأخذها أَبُو الزُّبَيْر من أبي بكر، وأخذها أَبُو بكر من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ عَبْد الرَّزَّاقِ: وَكَانَ ابْن جريج حسن الصلاة.
تُوُفِّيَ في هذه السنة، هكذا قَالَ يحيى بْن سعيد، ومكي بْن إِبْرَاهِيم، وخليفة بن خياط.
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 8/ 234.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 400. وتهذيب التهذيب 6/ 402. وطبقات ابن سعد 5/ 491.
والجرح والتعديل 5/ 356.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.

(8/124)


وَقَالَ عَلِيّ بْن المديني: سنة إحدى وخمسين.
وَقَالَ أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه العجلي سنة تسع وأربعين.
801- عَبْد الملك بْن سعيد بْن أبجر المتطبب [1] .
أسند عَنْ أبي الطفيل عامر بْن وائلة، وذر، والشعبي، وغيرهم. وَكَانَ شديد الورع، خصوصا في نطقه، وكان من البكاءين.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله الأصفهاني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم فِي كتابه قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَسَن قَالَ: حدّثنا موسى بْن عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا حسن الجعفي، عَنْ عَبْد الملك بْن أبجر قَالَ: مَا من الناس إلا مبتلى بعافية لينظر كيف شكره- أو يبليه لينظر كيف صبره.
802-/ عَبْد العزيز بْن سليمان، أَبُو مُحَمَّد الراسبي.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو علي الْحَسَن بْن أَحْمَد قَالَ: أَخْبَرَنَا هلال بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَر الخالدي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحسين قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد العزيز بْن سلمان قَالَ: سمعت دهثما- وَكَانَ من العابدين- يَقُول: اليوم الَّذِي كنت لا آتي فِيهِ عَبْد العزيز أكون مغبونا، وأبطأت عليه ذات يوم ثُمَّ أتيته فقال [2] : ما الّذي بطأ بك. قلت: خير. قَالَ: عَلَى حال. قلت:
شغلنا العيال، كنت ألتمس لهم شيئا. [قَالَ:] [3] فوجدته لهم؟ قلت: لا. قَالَ: هلم فلندع. قَالَ: فدعا فأمنت ودعوت فأمن، ثُمَّ نهضنا لنقوم، فإذا واللَّهِ الدنانير والدراهم تتناثر فِي حجورنا. فَقَالَ: دونكها. ومضى ولم يلتفت إليّ. قال: فأخذتها، فإذا [4] [هي] [5] مائة دينار ومائة درهم. قَالَ مُحَمَّد: فقلت لَهُ: مَا صنعت بها؟ قَالَ: احتبست
__________
[1] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 6/ 394.
[2] في الأصل: «قال» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[4] «فإذا» ساقطة من ت.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.

(8/125)


قوت عيالي جمعة حَتَّى لا يشغلني عَنْ عبادته وشكره وخدمته فكر فِي شيء من عرض الدنيا. ثُمَّ أمضيتها والله فِي سبيل اللَّه.
أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ قَالا: أَخْبَرَنَا طِرَادُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْن بشران قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان قَالَ: حدثنا أبو بكر بن عبيد قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحُسَيْن قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد العزيز بْن سليمان قَالَ: حَدَّثَنِي واقد الصفار قَالَ: دعا عَبْد العزيز بْن سليمان يوما لمقعد كَانَ فِي مجلسه وأمن إخوانه. قال:
فو الله مَا انصرف المقعد إِلَى أهله إلا ماشيا عَلَى رجليه.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب وعلي بْن عُمَر قالا: أَخْبَرَنَا رزق اللَّه قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن يوسف قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إدريس قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أبي الحواري قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد العزيز بْن عمير قَالَ: قيل لعبد العزيز الراسبي- وكانت رابعة تسميه: سيد العابدين- مَا بقي مما تلذ به؟
قَالَ: سرداب أخلو فِيهِ.
60/ ب
803- مقاتل بْن/ سليمان بْن بِشْر، أَبُو الْحَسَن البلخي [1] .
قدم بغداد فحدث بها عَنْ عطية العوفي، وسعيد المقبري والضحاك، وعمرو بْن شعيب، وغيرهم.
وجمع تفاسير الناس، فجعلها لنفسه، وَكَانَ يروي عَنِ الضحاك، وقد مات الضحاك قبل مولد مقاتل بأربع سنين.
قَالَ ابْن عيينة: قلت له: لم تحدّث عن الضحاك وقد زعموا أنك لم تسمع منه؟
قَالَ: كَانَ يغلق علي وعليه الباب. قَالَ ابْن عيينة: قلت فِي نفسي: باب المدينة.
وَكَانَ أَحْمَد بْن سيار يَقُول: مقاتل متهم متروك الحديث، كَانَ يتكلم فِي الصفات بما لا يحل.
وَقَالَ وكيع: كَانَ مقاتل كذابا، فلم نسمع منه.
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 13/ 160. وتهذيب التهذيب 10/ 279. والجرح والتعديل 8/ 354.
وطبقات ابن سعد 7/ 373.

(8/126)


وَقَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ النسائي: مقاتل من المعروفين بوضع الحديث عَلَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ البخاري: مقاتل لا شيء البتة.
وَقَالَ أَبُو حفص عُمَر بْن عَلِيّ: مقاتل كذاب متروك الحديث. وكذلك قَالَ الساجي.
تُوُفِّيَ مقاتل في هذه السنة.
804- مسعود الضرير، أَبُو جهير الْبَصْرِيّ [1] .
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن أَحْمَد المتوكلي الهاشمي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي بن ثابت قَالَ: حدثني عَبْد اللَّهِ بْن أبي الفتح الفارسي قَالَ: حَدَّثَنِي عبيد الله بن عثمان الدقاق قال: حدثنا علي بْن مُحَمَّد الواعظ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عيسى أَبُو سعيد الخراز قَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله الختلي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحسين قَالَ: حَدَّثَنَا شعيب بْن محرز الأودي قَالَ: حَدَّثَنَا صالح المري قَالَ: قَالَ مالك بْن دينار: أغد علي يا صالح إِلَى الجبان فإني قد وعدت نفرا من إخواني بأبي جهير مسعود الضرير. فسلم عليه. قَالَ صالح المري: وَكَانَ أَبُو جهير هَذَا رجلا قَدِ انقطع إِلَى زاوية يتعبد فِيهَا، ولم يكن يدخل البصرة إلا يوم جمعة فِي وقت الصلاة، ثُمَّ يرجع من ساعته. قَالَ: فغدوت إِلَى موعد [2] مالك إِلَى الجبان، فانتهيت إِلَى مالك وقد سبقني ومعه مُحَمَّد بْن واسع، وإذا ثَابِت الْبُنَانِيّ وحبيب، فلما رأيتهم قد اجتمعوا قلت: هذا والله يوم سرور. قَالَ: فانطلقنا نريد أبا جهير. قَالَ: فكان مالك إذا مر بموضع نظيف قَالَ: يا ثَابِت صل ها هنا، لعله يشهد لك غدا. قَالَ: فكان ثَابِت يصلي، قَالَ: ثُمَّ انطلقنا حَتَّى أتينا موضعه فسألنا عنه، فقالوا: الآن يخرج إِلَى الصلاة. قَالَ: فانتظرنا فخرج علينا رجل إن شئت قلت: قَدْ نشر من قبره. قَالَ: فوثب رجل فأخذ بيده حَتَّى أقامه عند باب المسجد، فأمهل يسيرا، ثم دخل المسجد فصلى مَا شاء اللَّه، ثُمَّ أقام الصلاة فصلينا معه، فلما قضى صلاته جلس كهيئة المهموم فتوافد [3] القوم فِي السلام عليه، فتقدم مُحَمَّد بن واسع، فسلّم عليه، فرد عليه السلام وَقَالَ: من أنت؟ لا أعرف صوتك. قَالَ: أنا من أهل البصرة.
__________
[1] هذه الترجمة بأكملها ساقطة من الأصل، وأثبتناها من ت.
[2] في ت: «فغدوت الموعد» .
[3] في ت: «فتوافر» .

(8/127)


قَالَ: مَا اسمك يرحمك اللَّه؟ قَالَ: أنا مُحَمَّد بْن واسع. قَالَ: مرحبا وأهلا، أنت الّذي يقول هؤلاء القوم- وأومأ بيده إِلَى البصرة- إنك أفضلهم، للَّه أبوك إن قمت بشكر ذلك، اجلس، فجلس فقام ثَابِت البُنَانِيّ فسلم عليه، فرد عليه، وَقَالَ: من أنت يرحمك اللَّه؟
قَالَ: أنا ثابت البناني. فقال: مرحبا بك يا ثَابِت، أنت الَّذِي يزعم أَهْل هَذِهِ القرية أنك من أطراهم صلاة، اجلس فقد كنت أتمناك عَلَى ربي. فقام إِلَيْهِ حبيب أَبُو مُحَمَّد، فسلم عليه، فرد السلام وَقَالَ: من أنت يرحمك اللَّه؟ قَالَ: أنا حبيب، أَبُو مُحَمَّد. فَقَالَ:
مرحبا بك يا أبا مُحَمَّد، أنت الّذي يزعم هؤلاء القوم أنك لم تسأل اللَّه شيئا إلا أعطاك، ألا سألته أن يخفي لك ذلك، اجلس يرحمك الله. قال: وأخذ بيده فأجلسه إِلَى جنبه.
قَالَ: فقام إِلَيْهِ مالك بْن دينار فسلم عليه، فرد عليه السلام وَقَالَ: من أنت رحمك اللَّه؟
قَالَ: أنا مالك بْن دينار. قَالَ: بخ بخ أَبُو يحيى إن كنت كما يقولون، أنت الَّذِي يزعم هؤلاء أنك أزهدهم، اجلس فالآن تمت أمنيتي عَلَى ربي فِي عاجل الدنيا. قَالَ صالح:
فقمت إِلَيْهِ لأسلم عليه، فأقبل عَلَى القوم فَقَالَ: انظروا كيف تكونون غدا بين يدي اللَّه فِي مجمع القيامة. قَالَ: فسلمت عليه فرد علي وَقَالَ: من أنت يرحمك الله؟ قلت:
صالح المري. قَالَ: أنت الفتى الفارسي؟ أنت أَبُو معشر؟ قلت: نعم. قَالَ: فاقرأ يا صالح. فابتدأت فقرأت، فما استتممت الاستعاذة حَتَّى خر مغشيا عليه، ثُمَّ أفاق فَقَالَ:
عد فِي قراءتك. قال صالح: فعدت فقرأت: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً 25: 23 [1] . قَالَ: فصاح صيحة ثُمَّ انكب لوجهه، وانكشف بعض جسده، فجعل بخور كما يخور الثور، ثُمَّ هدأ فدنونا منه ننظر، فإذا هو قَدْ خرجت نفسه كأنه خشبة، فخرجنا فسألنا: هل لَهُ أحد؟ قيل: عجوز تخدمه، تأتيه الأيام، فبعثنا إليها، فجاءت فقالت: ما له؟ قلنا: قرئ عليه القرآن فمات. قالت: حق له، من ذا الَّذِي قرأ عليه؟
لعله صالح المري الْقَارِئ؟ قلنا: نعم، وما يدريك؟ من صالح؟ قالت: لا أعرفه غير أن كثيرا مما كنت أسمعه يَقُول: إن قرأ علي صالح قتلني. قلنا: فهو الَّذِي قرأ عليه.
قالت: هو الَّذِي قتل حبيبي. فهنأناه، ودفناه رحمه اللَّه] [2] .
805- النعمان بْن ثَابِت، أَبُو حنيفة التيمي، إمام أصحاب الرأي [[3]] .
__________
[1] سورة: الفرقان، الآية: 23.
[2] ، إلى هنا انتهى السقط الأصل.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 13/ 323- 454. والنجوم الزاهرة 2/ 12، والبداية والنهاية 10/ 107.

(8/128)


ولد سنة ثمانين، رأى أنس بْن مالك، وسمع من عطاء بْن أبي رباح، وأبي إسحاق السبيعي، ومحارب بْن دثار، وحماد بْن أبي سليمان، ومحمد بْن المنكدر، ونافع مولى ابْن عُمَر، وهشام بْن عُرْوَة وغيرهم.
وروى عنه: هشيم، وابْن المبارك، ووكيع، ويزيد بْن هارون وغيرهم.
وَكَانَ ربعة من الرجال تعلوه سمرة، حسن الثياب، كثير التعطر كريما. وَكَانَ فِي أول أمره يبيع الخز، ثُمَّ تشاغل بالعلم.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الخلال قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عُمَر الجريري: أن عَلِيّ بْن مُحَمَّد النخعي حدثهم قَالَ:
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أبي مالك، عَنْ أبي يوسف قَالَ: قَالَ/ أَبُو حنيفة: لما أردت أطلب 61/ أالعلم جعلت أتخير العلوم، وأسأل عَنْ عواقبها، فقيل لي: تعلم القرآن. فقلت: إذا تعلمت القرآن وحفظته فما يكون آخر أمري؟ قالوا [1] : تجلس فِي المسجد ويقرأ عليك الناس: الصبيان والأحداث، ثُمَّ لا تلبث أن تخرج منهم من هو أحفظ منك أو يساويك فِي الحفظ، فتذهب رئاستك. قلت: فإن سمعت الحديث وكتبته حَتَّى لم يبق فِي الدنيا أحفظ مني؟ قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت واجتمع عَلَيْك الصبيان والأحداث، ثُمَّ لا تأمن أن تغلط فيرمونك بالكذب، فيصير عارا عَلَيْك فِي عقبك. فقلت: لا حاجة لي فِي هَذَا. ثُمَّ قلت: أتعلم النحو، فإذا حفظت النحو والعربية، مَا يكون آخر أمري؟
قالوا: تقعد معلما، فأكثر رزقك ديناران إِلَى ثلاثة قلت: وهذا لا عاقبة لَهُ. قلت: فإن نظرت في الشعر فلم يكن أحد أشعر مني، مَا يكون من أمري؟ قالوا: تمدح فيهب لك ويحملك عَلَى دابة، ويخلع عَلَيْك خلعة، وإن حرمك هجوته، فصرت تقذف المحصنات. فقلت: لا حاجة لي في هذا. قلت: فإن نظرت فِي الكلام؟ مَا يكون آخره؟ قالوا: لا يسلم من نظره فِي الكلام من مشنعات الكلام، فيرمى بالزندقة، فإما أنك تؤخذ فتقتل، وإما تسلم فتكون مذموما ملوما. قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تسأل
__________
[ () ] والجواهر المضية 1/ 26، ونزهة الجليس للموسوي 2/ 176، ومرآة الجنان 1/ 2/ 362، 377، 423، 429، 482، وملحق الجزء 13 من تاريخ بغداد «كتاب الرد على أبي بكر الخطيب لأبي المظفر عيسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب الحنفي.
[1] في الأصل: «قال» .

(8/129)


فتفتي الناس، وتطلب للقضاء، وإن كنت شابا. قلت: فليس فِي العلوم شيء أنفع من هذا. فلزمت الفقه [1] .
حدثنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بْن ثَابِت قَالَ: أَخْبَرَنَا الصيمري قَالَ:
حَدَّثَنَا عَمْرو بْن إِبْرَاهِيم الْمُقْرِئ قَالَ: حَدَّثَنَا مكرم بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن محمد الحماني قَالَ: حَدَّثَنَا الفضيل بْن غانم قَالَ: كَانَ أَبُو يوسف مريضا شديد المرض، فعاده أَبُو حنيفة مرارا، فصار إِلَيْهِ آخر مرة فرآه ثقيلا [2] فاسترجع وقال: كنت 61/ ب أؤملك للمسلمين بعدي، ولئن أصيب/ الناس بك ليموتن معك علم كثير، ثُمَّ رزق اللَّه أبا يوسف العافية، وأخبر بقول أبي حنيفة فِيهِ، فارتفعت نفسه، وانصرفت وجوه الناس إِلَيْهِ، فعقد لنفسه مجلسا فِي الفقه، وقصر [عَنْ] [3] لزوم مجلس أبي حنيفة، فسأل عنه فأخبر أنه قَدْ عقد لنفسه مجلسا، وأنه بلغه كلامك فِيهِ، فدعا رجلا كَانَ لَهُ عنده قدر فَقَالَ: صر إِلَى مجلس يعقوب فقل له: ما تقول في رجل دفع إِلَى قصار ثوبا ليقصره بدرهم فصار إِلَيْهِ بعد أيام فِي طلب الثوب، فَقَالَ لَهُ القصار: مالك عندي شيء.
وأنكره، ثُمَّ إن رب الثوب رجع إِلَيْهِ، فدفع لَهُ الثوب مقصورا، أله أجره؟ فإن قَالَ لَهُ أجرة، فقل أخطأت، وإن قَالَ لا أجرة له فقل أخطأت فصار إليه فسأله فقال أَبُو يوسف:
لَهُ الأجرة. فَقَالَ: أخطأت. فنظر ساعة ثُمَّ قَالَ: لا أجرة لَهُ. فَقَالَ: أخطأت. فقام أبو يوسف من ساعته، فأتى أبا حنيفة فَقَالَ لَهُ: مَا جاء بك إلا مسألة القصار. قَالَ: أجل قَالَ: سبحان اللَّه، من قعد يفتي الناس وعقد مجلسا يتكلم فِي دين اللَّه وهذا قدره لا يحسن [أن] [4] يجيب فِي مسألة من الإجارات. فَقَالَ: يا أبا حنيفة، علمني. فَقَالَ: إن قصره بعد غصبه فلا أجرة لَهُ، لأنه قصره لنفسه، وإن كَانَ قصره قبل أن يغصبه فله الأجرة، لأنه قصره لصاحبه، ثُمَّ قَالَ: من ظن أنه يستغني عَنِ التعلم فليبك عَلَى نفسه [5] .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 13/ 331- 332.
[2] في تاريخ بغداد «مقبلا» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من تاريخ بغداد.
[5] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 3/ 349- 350.

(8/130)


القاضي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن أَحْمَد السمناني قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد الْحَسَن بْن أبي عبد الله السمناني [1] قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين [2] بْن رحمة قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن شجاع الثلجي [3] قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سماعة، عَنْ أبي يوسف قَالَ: سمعت أبا حنيفة يَقُول:
إذا كلمت القدري فإنما هو حرفان، إما أن يسكت، وإما أن يكفر، يقال لَهُ [4] : هل علم اللَّه/ فِي سابق علمه أن تكون هَذِهِ الأشياء كما هِيَ؟ فإن قَالَ: لا، فقد كفر، وإن قال: 62/ أنعم، يقال لَهُ: أفأراد أن يكون كما علم؟ أو أراد أن يكون بخلاف مَا علم؟ فإن قَالَ: أراد أن يكون كما علم فقد أقر أنه أراد من المؤمن الإيمان، ومن الكافر الكفر. وإن قَالَ: أراد أن يكون بخلاف مَا علم فقد جعل ربه متمنيا متحسرا، لأن من أراد أن يكون مَا علم أنه لا يكون، أو يكون مَا علم أنه يكون فإنه متمن متحسر، ومن جعل ربه متمنيا متحسرا فهو كافر [5] .
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه [6] : لا يختلف الناس فِي فهم أبي حنيفة وفقهه.
كَانَ سفيان الثوري، وابْن المبارك يقولان: أَبُو حنيفة أفقه الناس.
وقيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ فَقَالَ: رأيت رجلا لو كلمك فِي هَذِهِ السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته.
قَالَ الشافعي رحمة اللَّه عليه: الناس عيال عَلَى أبي حنيفة فِي الفقه.
قَالَ مؤلف الكتاب [7] : وبعد هَذَا فاتفق الكل عَلَى الطعن فِيهِ، ثُمَّ انقسموا عَلَى ثلاثة أقسام:
فقوم طعنوا فِيهِ لما يرجع إِلَى العقائد والكلام فِي الأصول.
وقوم طعنوا فِي روايته وقلة حفظه وضبطه.
__________
[1] «حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد الْحَسَن بْن أبي عَبْد الله السمناني» ساقطة من ت.
[2] في الأصل: «الحسن» .
[3] في ت والأصل «البلخي» وما أثبتناه من تاريخ بغداد.
[4] في ت: «يقال له» .
[5] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 13/ 382- 383.
[6] في ت: «قال المصنف» .
[7] من هنا حتى نشير مقدما ساقط من ت.

(8/131)


وقوم طعنوا فِيهِ لقوله بالرأي فيما يخالف الأحاديث الصحاح.
فأما القسم الأول: فأخبرنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا علي بْن مُحَمَّد المعدل قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو البختري الرزاز قَالَ: حَدَّثَنَا حسن بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حمزة بْن الحارث بْن عمير [1] ، عَنْ أبيه قَالَ: سمعت رجلا يسأل أبا حنيفة فِي المسجد عَنْ رجل قَالَ: أشهد أن الكعبة حق، ولكن لا أدري هي هَذِهِ الَّتِي بمكة أم لا؟ فَقَالَ: مؤمن حقا.
وسأله عَنْ رجل قال: أشهد أن محمدا عَبْد اللَّه نبي، ولكن لا أدري هو هَذَا الَّذِي قبره بالمدينة أم لا؟ قَالَ: مؤمن حقا.
/ قَالَ الحميدي: ومن قَالَ هَذَا فقد كفر [2] .
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن علي الحافظ قال: أخبرنا محمد بن الحسين بْن الفضل قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه [3] قَالَ: حَدَّثَنَا يعقوب بْن سفيان قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن عثمان بْن نفيل قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مسهر قَالَ: حدّثنا يحيى بن
__________
[1] وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي، والدار الدّارقطنيّ والعجليّ وابن خلفون.
وقال ابن حبان في المجروحين: «كان ممن يروي عن الأثبات الأشياء الموضوعات» وساق له منها. وقال أبو عبد الله الحاكم: روى عن حميد الطويل وجعفر بن محمد الصادق أحاديث موضوعة: ونقل ابن الجوزي عن ابن خزيمة أنه قال: الحارث بن عمير كذاب وضعفه الأزدي.
وقال الذهبي في الميزان: وما أراه إلا بين الضعف، وقال في المغني: أتعجب كيف خرج له النسائي.
وقال ابن حجر في التقريب: وثقه الجمهور وفي أحاديثه مناكير ضعفه بسببها الأزدي وابن حبان وغيرهما، فلعله تغير حفظه في الآخر» .
انظر ترجمته في: (تاريخ يحيى بن معين 2/ 93، والتاريخ الكبير للبخاريّ 2/ 2446، والمعرفة ليعقوب 2/ 65، 196، والجرح والتعديل 3/ 383، والمجروحين لابن حبان 1/ 223، وميزان الاعتدال 1/ 440، وتقريب التهذيب 2/ 153) .
[2] الخبر أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 13/ 372.
[3] قال عنه الخطيب البغدادي: سمعت اللالطائي ذكره وضعفه، وسألت البرقاني عنه فقال: ضعفوه لأنه لما روى التاريخ عن يعقوب أنكروا ذلك وقالوا: إنما حدث يعقوب بالكتاب قديما فمتى سمعته منه؟ ثم دفع الخطيب هذا بأن جعفر بن ودرستويه من كبار المحدثين وفقهائهم عنده، عن علي بن المديني وطبقته، فلا يستنكر أن يكون تكثر بأبيه، مع أن أبا القاسم الأزهري حدثني قال: رأيت أصل ابن درستويه بتاريخ يعقوب بيع في ميراث ابن الأبنوس، ووجدت سماعه فيه صحيحا. (ميزان الاعتدال 2/ 400، 401) .

(8/132)


حَمْزَة: أن أبا حنيفة قَالَ: لو أن رجلا عَبْد هَذَا البغل [1] يتقرب به إِلَى اللَّه لم أر بذلك بأسا [2] .
أَخْبَرَنَا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْن عَبْد اللَّه السراج قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عبدوس قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن سعيد الدارمي قَالَ: حَدَّثَنَا محبوب بْن موسى الأنطاكي [3] قَالَ: سمعت أبا إسحاق الفزاري يَقُول: سمعت أبا حنيفة يَقُول: إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد، قَالَ إبليس: يا رب. وَقَالَ أَبُو بكر: يا رب.
قَالَ أَبُو إسحاق: ومن كَانَ من المرجئة ثُمَّ لم يقل هَذَا أنكر عليه قوله [4] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سليمان المؤدب قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن الْمُقْرِئ قَالَ: حَدَّثَنَا سلامة بْن محمود قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عُمَر قَالَ: سمعت أبا مسهر يَقُول: كَانَ أَبُو حنيفة رأس المرجئة [5] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قَالَ:
المشهور عَنْ أبي حنيفة أنه كَانَ يَقُول بخلق القرآن ثُمَّ استتيب منه [6] .
وأخبرنا الخلال قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن القاضي [7] قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن عَبْد الْعَظِيمِ قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن يونس قال: كان أبو
__________
[1] كذا في الأصلين، وفي تاريخ بغداد «النعل» .
[2] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 374، 375.
[3] قال الدار الدّارقطنيّ: صويلح وليس بالقوي.
وقال العجليّ: ثقة صاحب سنة.
وقال أبو داود: ثقة لا يلتفت إلى حكاياته إلا من كتاب.
[4] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 376.
[5] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 380.
[6] تاريخ بغداد 13/ 383.
[7] في الأصل: «محمد بن الحسن» والتصحيح من تاريخ بغداد، وهو الأشناني القاضي أبو الحسين. ضعفه الدار الدّارقطنيّ والحسن بن محمد الخلال، ويروى عن الدار الدّارقطنيّ، أنه كذاب، ولم يصح هذا، ولكن هذا الأشناني صاحب بلايا.

(8/133)


حنيفة فِي مجلس عيسى بْن موسى فَقَالَ: القرآن مخلوق. فَقَالَ: أخرجوه، فإن تاب، وإلا فاضربوا عنقه [1] .
قَالَ أَبُو بكر الحافظ: وأخبرني الْحَسَن بْن مُحَمَّد أخو الخلال قَالَ: أَخْبَرَنَا جبريل بن محمد العدل قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن حيوية قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بْن غيلان.
قَالَ: حَدَّثَنَا يحيى بْن آدم قَالَ: سمعت شريكا يَقُول: استتيب أَبُو حنيفة [2] مرتين.
63/ أأخبرنا عبد/ الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر الحافظ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن رزق قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن سلمة قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن سعيد قَالَ: حَدَّثَنَا محبوب بْن موسى قَالَ: سمعت يوسف بْن أسباط يَقُول: قَالَ أَبُو حنيفة: لو أدركني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قولي.
القسم الثاني: أنهم ضعفوه لعلة حفظه وضبطه، وكثرة خطأه فيما روى:
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثَابِت قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْمَاطِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن أَحْمَد بْن سليمان الصرفي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن سعيد بْن أبي مريم قَالَ: سألت يحيى بْن معين عَنْ أبي حنيفة قَالَ: لا تكتب حديثه [3] .
أَخْبَرَنَا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني علي بن محمد المالكي قال: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بن عثمان الصفار قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عثمان الصيرفي قَالَ:
حَدَّثَنَا عبد الله بْن عَلي بْن عبد الله المديني قَالَ: سألت عَنْ أبي حنيفة فضعفه جدا.
وَقَالَ: روى خمسين حديثا أخطأ فِيهَا.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن الفضل قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عثمان بْن أَحْمَد الدقاق قَالَ: حَدَّثَنَا سهل بْن أَحْمَد الواسطي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حفص عَمْرو بْن عَلِيّ قَالَ: أَبُو حنيفة ليس بالحافظ، مضطرب الحديث، واهي الحديث.
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 3/ 386.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 390- 391.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 83/ 450.

(8/134)


وَقَالَ أَبُو بكر ابْن أبي داود: جميع مَا روى أَبُو حنيفة من الحديث مائة وخمسون حديثا أخطأ أو قَالَ: غلط فِي نصفها.
القسم الثالث: قوم طعنوا فِيهِ لميله إِلَى الرأي المخالف للحديث الصحيح، وقد كان بعض الناس يقيم عذره ويقول: مَا بلغه الحديث، وذلك ليس بشيء لوجهين:
أحدهما: أنه لا يجوز أن يفتي من يخفى عليه أكثر الأحاديث الصحيحة.
والثاني: أنه كَانَ إذا أخبر بالأحاديث المخالفة لقوله لم يرجع عَنْ قوله.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أَبُو بكر أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سعيد الحسن بْن مُحَمَّد بْن حيوية الأصفهاني/ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن 63/ ب عيسى الخشاب قال: حدّثنا أَحْمَد بْن مهدي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد السَّلامِ بْن عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عيسى بْن عَلِيّ الهاشمي قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو إسحاق الفزاري قَالَ: سألت أبا حنيفة عَنْ مسألة فأجاب فِيهَا فقلت: إنه يروى عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ كذا وكذا فَقَالَ: حك هَذَا بذنب الخنزير [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال أخبرنا محمد بن أبي نصر النَّرْسِيِّ [2] قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ بَهْتَةَ الْبَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْكَوفِيُّ [3] قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ قال: حدثني أبو بكر بن أبي الأسود، عَنْ بِشْرِ بْنِ مُفَضَّلٍ قَالَ:
قُلْتُ لأَبِي حَنِيفَةَ: رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «الْبَائِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» قَالَ: هَذَا زَجْرٌ [4] .
قلت: قتادة عَنْ أنس: أن يهوديا رضخ رأس جارية بين حجرين فرضخ النبي صلّى الله عليه وسلّم رأسه بين حجرين. فقال: هذيان [5] .
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 401.
[2] ضعف الخطيب روايته وقال أنه غال في التشيع.
[3] قال الخطيب: روى المنكرات والمنقطعات، ومشايخ بغداد يقولون: إنه كان لا يتدين بالحديث. وقال الدار الدّارقطنيّ: كان رجل سوء. وقال عمر بن حيويه: كان في جامع براثا يملي مثالب أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلم. فتركت حديثه لا أحدث عنه بشيء، فهل يؤخذ برواية مثل هذا؟
[4] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 403.
[5] الخبر في تاريخ بغداد 3/ 403.

(8/135)


أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْبَرْقَانِيُّ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ الْمَحْمُودِيِّ: حَدَّثَكُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ [1] ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذكر لأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» فَقَالَ: هَذَا سَجْعٌ. وَذكر لَهُ قَوْلٌ قَالَهُ عُمَرُ فَقَالَ: هَذَا قَوْلُ شَيْطَانٍ [2] .
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بْن عَلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الخلال قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن عثمان الصفار قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن مخلد قال: حدثنا العباس بن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن شماس قَالَ: سمعت وكيعا يَقُول: سأل ابْن المبارك أبا حنيفة عَنْ رفع اليدين فِي الركوع فَقَالَ أَبُو حنيفة: يريد أن يطير فيرفع يديه؟
64/ أفقال له ابن المبارك: إن كان طار فِي الأولى فإنه يطير فِي الثانية. فسكت/ أَبُو حنيفة [3] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن محمد الْمَتُّوثِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ [4] قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ الْمَرْثَدِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا رَجَاءُ بْنُ السَّنَدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ السَّرِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَوَانَةَ يَقُولُ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَأَتَاهُ رَسُولٌ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ فَقَالَ: يَقُولُ الأَمِيرُ: رَجُلٌ سَرَقَ وَدِيًّا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ- غَيْرُ مِتَتَعْتِعٍ- إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاقْطَعُوهُ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَقُلْتُ لأَبِي حَنِيفَةَ: أَلا تَتَّقِي اللَّهَ؟ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَيَّان، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا
__________
[1] هو عبد الصمد بن حبيب الأزدي، قال الخطيب: قال أبو بكر الأثرم: ذكرنا عبد الصمد بن حبيب عند أحمد بن حنبل، فقال: أزدي، ووضع من أمره.
وقال البخاري وأحمد: لين الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس به بأس.
وروى الخطيب حديثا من طريقه، قال فيه: هذا الحديث منكر.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 403.
[3] هذا بعيد عن ورع أبي حنيفة ونزاهة لسانه أن يصدر منه هذا القول في مقام البحث والمناظرة. الخبر في تاريخ بغداد 3/ 405.
[4] هو: عثمان بن أحمد بن السماك أبو عمرو الدقاق قال الذهبي: صدوق في نفسه، لكن روايته لتلك البلايا عن الطيور كوصية أبي هرين فالآفة من فوقه. أما هو فوثقه الدار الدّارقطنيّ. ثم أورد له حديث وقال عقبة: وهذا الإسناد ظلمات، وينبغي أن يغمز ابن السماك لرواية هذه الفضائح. الميزان 3/ 31.

(8/136)


قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلا كَثَرٍ» [1] أَدْرَكَ الرَّجُلُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ. فَقَالَ- غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ- ذَاكَ حُكْمٌ قَدْ مَضَى فَانْتَهَى، وَقْد قُطِعَ الرَّجُلُ [2] .
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن دوما [3] قَالَ:
أَخْبَرَنَا ابْن أسلم قَالَ: حَدَّثَنَا الأبار قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عجلان، عَنْ مؤمل [4] قَالَ:
سمعت حماد بْن سلمة يَقُول: أَبُو حنيفة يستقبل السنة يردها برأيه [5] .
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ: أخبرنا أبو بكر أَحْمَد بْن عَلي قَالَ: أَخْبَرَنَا البرقاني قَالَ: قرأت على أبي حفص بْن الزيات قَالَ: حدثكم عُمَر بْن مُحَمَّد الكاغدي قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو السائب قَالَ: سمعت وكيعا يَقُول: وجدنا أبا حنيفة خالف مائتي حديث.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَجْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الفياض قال: أخبرنا أبو طلحة أَحْمَدَ بْنُ مُحَمَّد بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ [6] قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ حَسَنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ الْفَرَّاءُ قَالَ: سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ أَسْبَاطٍ [7] يَقُولُ: رَدَّ أَبُو حُنِيفَةَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة حَدِيثٍ أَوْ أَكْثَرَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، تَعْرِفُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
قُلْتُ: أَخْبَرَنِي بِشَيْءٍ. فقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «للفرس سهمان وللراجل/ سهم» 64/ ب قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَا لا أَجْعَلُ سَهْمَ بَهِيمَةٍ أَكْثَرَ مِنْ سَهْمِ الْمُؤْمِنِ.
وَأَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الْبُدْنَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الإِشْعَارَ مِثْلَهُ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفَتَرَّقَا» وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا وَجَبَ الْبَيْعُ فَلا خِيَارَ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْرِعُ بَيْنَ نِسَائِهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فِي سَفَرٍ وَأَقْرَعَ أصحابه.
وقال أبو حنيفة: القرعة قمار.
__________
[1] في الأصل: «أكثر» خطأ.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 408، 409.
[3] هو الحسن بن الحسين بن دوما، قال الخطيب: أفسد أمره بأن ألحق لنفسه السماع في أشياء لم يكن عليها سماعه. قال الذهبي في الميزان 1/ 485: يعني زوّر.
[4] ومؤمل أيضا ضعيف.،
[5] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 408.
[6] ضعفه الدار الدّارقطنيّ وقال: تكلموا فيه.
[7] قال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال البخاري: كان قد دفن كتبه، فكان لا يجيء بحديث كما ينبغي.

(8/137)


وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَدْرَكَنِي النبي صَلَّى الله عليه وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قَوْلِي، وَهَلِ الدِّينُ إِلا الرَّأْيُ الْحَسَنُ [1] .
قَالَ بعض العلماء: العجب من أبي حنيفة، كيف يقول: وهل الدين إلا الرأي، وهل يعلم أن كثيرا من التكاليف لا يهتدي إليها القياس، ولهذا يأخذ هو بالحديث الضعيف ويترك القياس.
فأما المسائل الَّتِي خالف فِيهَا الحديث فكثيرة، إلا أن من مشهورها الَّذِي خالف فِيهِ الصحاح:
مسألة: بول الغلام الَّذِي لم يأكل الطعام يرش. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يغسل وفي الصحيحين [2] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بصبي لم يأكل الطعام فبال، فدعا بماء فرشه عليه. مسألة: لا يجوز تخليل الخمر، وإذا خللت لم تطهر. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يجوز وتطهر. وفي صحيح مسلم [3] : من حديث أنس: أن أبا طلحة سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عَنْ أيتام ورثوا خمرا فَقَالَ: أهرقها. قَالَ: أفلا أجعلها خلا؟ قَالَ: لا. مسألة: يجوز الآذان للفجر قبل طلوعه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يجوز. وفي الصحيحين [4] : عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قَالَ: «إن بلال يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حَتَّى يؤذن ابْن أم مكتوم» . / مسألة: إذا لم تقدر عَلَى الركوع والسجود لم يسقط عنه القيام. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يسقط. وفي صحيح البخاري [5] : عَنْ عمران، عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» . مسألة: يسن رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه. وقال أبو حنيفة: لا يسن.
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 407.
[2] صحيح البخاري الوضوء 59، والطب 10، والدعوات 30، والأدب 21، وصحيح مسلم، الطهارة 101، 104، والسلام 86، 87.
[3] صحيح مسلم، الأشربة 11.
[4] صحيح البخاري، الأذان، 11- 13، والصوم 17، وصحيح مسلم، الصيام 37- 39.
[5] صحيح البخاري، تقصير الصلاة 19.

(8/138)


وفي الصحيحين [1] : من حديث ابْنِ عُمَرَ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا افتتح الصلاة رفع يديه حَتَّى تحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين. وفي الصحيحين: من حديث مالك بْن الحويرث مثله. وقد رواه عَنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو عشرين صحابي. مسألة: إذا طلعت الشمس وَهُوَ فِي صلاة الصبح أتم. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تبطل صلاته. وفي الصحيحين [2] : من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة» . مسألة: يجوز الوتر بركعة. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بثلاث. وفي الصحيحين [3] : من حديث ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كَانَ يوتر بركعة. مسألة: تسن الصلاة للاستسقاء. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا تسن. وفي الصحيحين [4] : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء. مسألة: ويجوز تحويل الرداء فِي صلاة الاستسقاء وقلبه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يسن. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك [5] . مسألة: / يستحب فِي غسل الميت فِي الغسلة الأخيرة شيء من كافور. وقال أبو 65/ ب حنيفة: لا يستحب وفي الصحيحين [6] : أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للواتي غسلن ابْنته: «اجعلن في الغسلة الأخيرة كافورا» . مسألة: يسن استلام الركن اليماني فِي الطواف. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يسن. وفي
__________
[1] صحيح البخاري، أذان 83- 85، 145، وصحيح مسلم الصلاة، 21- 23.
[2] صحيح البخاري، المواقيت 29، 28، ومسلم المساجد 161- 165.
[3] صحيح البخاري، الوتر 2، وفضائل الصحابة 28، وصحيح مسلم، مسافرين 153- 155.
[4] صحيح البخاري، استسقاء 1، 3، 4، 15- 19، وصحيح مسلم، استسقاء 1، 2.
[5] صحيح البخاري، الاستسقاء 4، 11، 18- 20 وصحيح مسلم، الاستسقاء 2- 4.
[6] صحيح البخاري، إيمان 21، جنائز 13، 15، 18، وصحيح مسلم، جنائز 36، 40.

(8/139)


صحيح مسلم [1] : من حديث ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لا يستلم [إلا] [2] الحجر الأسود والركن اليماني. مسألة: إشعار البدن، وتقليدها سنة. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يكره الإشعار، فإنه مثلة.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أشعر بدنته وقلدها [3] . مسألة: يجوز بيع العرايا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يجوز. وفي الصحيحين [4] : من حديث زيد بْن ثَابِت: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخص فِي بيع العرايا. مسألة: إذا اشترى مصراة ثبتت لَهُ خيار الفسخ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يثبت. وفي الصحيحين [5] : من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر» . مسألة: لا يجوز بيع الكلب وإن كَانَ معلما. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يجوز. وفي الصحيحين [6] : من حديث ابْن مسعود أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَنْ ثمن الكلب. مسألة: إذا أراق عَلَى ذمي خمرا أو قتل لَهُ خنزيرا لم يضمن. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يضمن. وقد صح عَنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: إن اللَّه حرم الخمر وثمنها. مسألة: لا يقتل المسلم بالكافر. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يقتل بالذمي. وفي صحيح/ 66/ أالبخاري [7] من حديث علي عليه السلام: عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ أنه قَالَ: «لا يقتل مسلم بكافر» . مسألة: يجب القصاص فِي القتل بالمثل. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يجب إلا فيما له
__________
[1] صحيح مسلم، الحج 244.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] صحيح البخاري: الحج 109، وصحيح مسلم، الحج 369.
[4] صحيح البخاري، البيوع 75، 84، وصحيح مسلم، البيوع 57، 66، 71، 83.
[5] صحيح البخاري، البيوع 64، وصحيح مسلم، البيوع 11.
[6] صحيح البخاري، البيوع 25، 113، والإجارة، 20، والطلاق 51، والطب 46، واللباس 86، 96، وصحيح مسلم، المساقاة 40.
[7] صحيح البخاري، العلم 39، الجهاد 17، الديات 24، 31.

(8/140)


حد. وفي الصحيحين [1] : من حديث أنس: أن يهوديا رضخ رأس امرأة بين حجرين فقتلها، فرضخ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه بين حجرين. مسألة: إذا ضربت حامل فماتت، ثم انفصل عنها جنين ميت وجبت فِيهِ الغرة.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا شيء فِي الجنين، وفي الصحيحين [2] : عَنِ المغيرة أنه قَالَ: قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالغرة عبدا أو أمة. مسألة: الإسلام ليس بشرط فِي الإحصان. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هو شرط. وقد صح عَنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّه رجم يهوديا ويهودية [3] . مسألة: النصاب فِي السرقة ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وقال أبو حنيفة: دينار أو عشرة دراهم. وفي الصحيحن [4] : من حديث عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقطع فِي ربع دينار فصاعدا. مسألة: إذا اطلع فِي بيت إنسان عَلَى أهله فله أن يرمي عينه، فإن فقأها فلا ضمان عليه. وقال أَبُو حنيفة: لزمه الضمان. وفي الصحيحين [5] : من حديث سهل بْن سعد قَالَ: اطلع رجل في حجرة مِنْ حُجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه مدري يحك به رأسه، فَقَالَ:
«لو أعلمك تنظر لطعنت به فِي عينيك» . وَفِي الصحيحين [6] : من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «من اطلع عَلَى قوم فِي بيتهم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه. مسألة: الإمام مخير فِي الأسرى بين القتل والاسترقاق والمنّ والفداء. وقال أبو حنيفة: / لا يجوز المن والفداء. وقد صح عَنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه من على ثمامة بن 66/ ب أثال، وفدى الأسرى يوم بدْر. مسألة: هدايا الأمراء كبقية أموال الفيء، لا يختصون بها، وقال أبو حنيفة:
__________
[1] صحيح البخاري، خصومات 1، الوصايا 5، الديات 4، 12، وصحيح مسلم، القسامة 17.
[2] صحيح مسلم القسامة 34، 38، 39، وصحيح البخاري، فرائض 11، ديات 25، 26، والطب 46.
[3] صحيح مسلم، الحدود 27.
[4] صحيح البخاري 13، وصحيح مسلم حدود 2.
[5] صحيح البخاري، الديات 23، واللباس 75، والاستئذان 11.
[6] صحيح مسلم الأدب 43.

(8/141)


يختصون بها. وفي الصحيحين [1] : من حديث أبي حميد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا فجاء فَقَالَ: هَذَا لكم وهذا أهدي لي. فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بال العامل نبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا جلس فِي بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إِلَيْهِ أم لا، والذي نفسي بيده لا يأتي أحد منكم بشيء إلا جاء به يوم القيامة عَلَى رقبته» . مسألة: لا يجوز الزكاة بالسن والظفر. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بها إذا كانا منفصلين. وفي الصحيحين [2] : من حديث رَافِع بْن خديج قال: قلت: يا رسول الله، إنا ملاقو العدو غدا وليست معنا مدي. فَقَالَ: «مَا أنهر الدم، وذكر اسم اللَّه عليه فكل ليس السن والظفر» . مسألة: يحل أكل الضب. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا تحل. وقد صح [3] عَنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يحرم الضب، وإنما قذره، فإن خالد بْن الوليد قَالَ لَهُ وقد قدم إِلَيْهِ: أحرام هو؟ قَالَ: «لا، ولكنه لا يكون بأرض قومي فأجدني أعافه» فأكل خالد ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر. مسألة: يحل أكل لحوم الخيل. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا تحل. وفي الصحيحين [4] :
من حديث جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نهى عَنْ لحوم الحمر، وأذن فِي لحوم الخيل. مسألة: النبيذ حرام. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنما يحرم المسكر منه. وقد صح أن رسول 67/ أالله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كل مسكر حرام» [5] . وفي حديث عائشة عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ أنه قَالَ: «مَا أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام [6] . مسألة: حكم الحاكم لا يحيل الشيء عَنْ صفته. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يحيله فِي العقود والفسوخ. وفي الصحيحين: من حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سمع
__________
[1] صحيح البخاري، الأحكام 41، وصحيح مسلم، إمارة 27، 28.
[2] صحيح البخاري الذبائح 15، 23، 18، 20، 36، 37، وصحيح مسلم، الأضاحي 20.
[3] صحيح البخاري الذبائح 33، وصحيح مسلم صيد 44.
[4] صحيح البخاري، المغازي 38، والذبائح 27، 28، وصحيح مسلم، صيد 36، 37.
[5] صحيح البخاري الأدب. 80، والأحكام 22، والمغازي 60، وصحيح مسلم أشربة 73- 75، 64، 69.
[6] مسند أحمد بن حنبل 6/ 71، 72، 131.

(8/142)


خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فَقَالَ: «إنما أنا بِشْر مثلكم، وإنه يأتيني الحكم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه قَدْ صدق، فأقضي لَهُ بذلك، فمن قضيت لَهُ بحق مُسْلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو فليتركها» . مسألة: يجوز الحكم بشاهد ويمين فِي المال وما يقصد به المال. وَقَالَ أبو حنيفة: لا يجوز. وقد روى جَابِر بْن عَبْد اللَّه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى باليمين مَعَ الشاهد. ورواه عُمَر، وعلي بْن أبي طالب، وابْن عباس، وابْن عُمَر، وابْن عَمْرو، وزيد بْن ثَابِت، وأبو سَعِيد الخدري، وسعد بْن عبادة، وعامر بْن ربيعة، وسهل بْن سعد، وعمارة بْن حزم، وأنس، وبلال بْن الحارث، والمغيرة بْن شعبة، وسلمة بْن قيس فِي آخرين. فهذا من مشهور المسائل والمتروك أضعافه، ولكونه خالف مثل هَذِهِ الأحاديث الصحاح سعوا بالألسن فِي حقه، فلم يبق معتبر من الأئمة إلا تكلم فِيهِ، ولا يؤثر أن نذكر مَا قالوا، والعجب منه إذا رأى حديثا لا أصل لَهُ هجر القياس ومال إِلَيْهِ، كحديث: نقض الوضوء بالضحك. فإنه شيء لا يثبت، وقد ترك القياس لأجله] [1] .
وَكَانَ ابْن هبيرة قَدْ أمر أبا حنيفة أن يلي قضاء الكوفة فلم يفعل، فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة، فلما رآه لا يفعل تركه. ثُمَّ إن المنصور أراده عَلَى القضاء فأبي، فحلف ليفعلن، فحلف أَبُو حنيفة أن لا يفعل فَقَالَ الربيع: ألا ترى أمير المؤمنين يحلف؟ فَقَالَ: هو أقدر مني عَلَى الكفارة [فسجنه] [2] .
/ وقيل: بل دخل فِي القضاء يومين، ثُمَّ مرض ومات.
وقيل: إنما حبس لأنه [3] تكلم فِي أيام خروج إِبْرَاهِيم عَلَى المنصور، فحبس، وتوفي بسوق يَحْيَى سنة خمسين ومائة، وَهُوَ ابْن سبعين سنة.
وقرأت بخط أبي الوفاء بْن عقيل: كَانَ قبر أبي حنيفة عليه خربشة رأيته وأنا صبي قبل دخول الغز بغداد، ثُمَّ عمل عليه بعض أمراء التركمان سقفا، ثم قدم شرف الملك
__________
[1] إلى هنا انتهى السقط من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «أنه» وما أوردناه من ت.

(8/143)


في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة فأحدث هَذِهِ القبة، وَكَانَ قَدْ وضع أساس مسجد بين يدي ضريح أبي حنيفة، فهدم شرف الملك أبْنية ذلك وما يحيط بالقبر وحفروا أساسات وكانوا يطلبون الأرض الصلبة فأخرجوا أربعمائة صن من عظام الموتى.
قَالَ ابْن عقيل: فقلت: مَا يدريكم لعله قَدْ خرجت عظامه فِي هَذِهِ العظام، وبقيت القبة فارغة من مقصود [1] بانيها.
وأنبأنا عَلِيّ بْن عبيد اللَّه، عَنْ أبي الحسين المهتدي قَالَ: لا يصح أن قبر أبو حنيفة في هذا الموضع الَّذِي بْنوا عليه القبة، كَانَ الحاج يردون فيطوفون حول المقبرة يزورون أبا حنيفة لا يعينون موضعا.
__________
[1] في الأصل: «مقود» والتصحيح من ت.

(8/144)