المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها:
خروج خارجي يقال له: ثروان بن سيف، وكان يتنقل في السواد، فوجه إليه طوق بن مالك فهزمه وجرحه، وقتل عامة أصحابه وهرب مجروحا [1] .
وفيها: خرج أبو النداء بالشام، فوجه الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ، وعقد له على الشام [2] .
وفيها: ظفر حماد بهيصم اليماني [3] .
وفيها: غلظ أمر رافع بن الليث بسمرقند، وكتب إليه أهل نسف يعطونه الطاعة، ويسألونه أن يبعث إليهم/ من يعينهم على قتل عيسى بن علي، فوجه قائدا من قواده، فقتل عيسى بن علي في ذي القعدة [4] .
وفيها: غزا يزيد بن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف، فأخذ الروم عليه المضيق فقتلوه في خمسين من أصحابه، وسلم الباقون [5] .
وفيها: ولى الرشيد حمويه الخادم بريد خراسان، وولى غزو الصائفة هرثمة بن
__________
[1] تاريخ الطبري 8/ 323. والكامل 5/ 348. والبداية والنهاية: 10/ 206.
[2] تاريخ الطبري 8/ 323. والكامل 5/ 348. والبداية والنهاية: 10/ 206.
[3] تاريخ الطبري 8/ 323. والكامل 5/ 348.
[4] تاريخ الطبري 8/ 323. والكامل 5/ 348.
[5] تاريخ الطبري 8/ 323. والكامل 5/ 348. والبداية والنهاية: 10/ 206.

(9/193)


أعين، وضم إليه ثلاثين ألفا من جند خراسان، ومعه مسرور الخادم، إليه النفقات وجميع الأمور [1] ، خلا الرئاسة، ومضى الرشيد إلى درب الحدث، فرتب هناك عبد الله بن مالك، ورتب سعيد بن سلم مقيما [بمرعش، فأغارت الروم عليها، وأصابوا من المسلمين وانصرفوا وسعيد بن سلم مقيم] [2] بها، وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرطوس، وأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من شهر رمضان، ثم انصرف إلى الرقة وأقام [3] .
وأمر الرشيد بهدم كنائس الثغور، وكتب إلى السندي بن شاهك يأمره بذلك، وبأخذ أهل الذمة من مدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم [4] .
وفيها: عزل الرشيد علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وولاها هرثمة، واستصفى أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف [5] .
وفيها: وقع الثلج بمدينة السلام، وكان مقداره أربعة أصابع مفرجة [6] .
وفيها: حج بالناس الفضل بن العباس بن محمد بن علي، وكان والي مكة [7] .
ولم يكن للمسلمين بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين [8] .
__________
[1] في الأصل: «الأمر» .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأضفناه من الطبري.
[3] تاريخ الطبري 8/ 323، 324. والكامل 5/ 348. والبداية والنهاية: 10/ 206.
[4] تاريخ الطبري 8/ 324. والكامل 5/ 348. والبداية والنهاية 10/ 206.
[5] تاريخ الطبري 8/ 324. والبداية والنهاية: 10/ 206.
[6] تاريخ الطبري 8/ 323.
[7] تاريخ الطبري 8/ 337. والكامل 5/ 349. وتاريخ الموصل ص 312.
[8] تاريخ الطبري 8/ 323.

(9/194)


ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
1043- البختري بن محمد البختري، أبو صالح اللخمي المعدل
[1] .
حدث عن كامل بن طلحة. روى عنه: الطبراني. وقال الدارقطني: لا بأس بِهِ.
توفي في هذه السنة.
1044- خالد بن حيان، أبو يزيد الخراز الرَّقّي
[2] .
سمع جعفر بن برقان، وفرا بن سلمان. روى عنه: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وقَالَ: هُوَ ثقة. وكان شديد التحفظ في الضبط والتوقي، نزل الرقة فتوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة.
1045- عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، أبو عمرو الهمداني الكوفي
[3] .
رأى جده أبا إسحاق، إلا أنه لم يسمع منه، وسمع إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، والأعمش، والأوزاعيّ، وشُعْبة، ومالك بن أنس، وابن إسحاق.
روى عنه: القعنبي، ويحيى بن معين، وعلي بن المَدِيني، وابن راهويه، وكان ثقة ثبتا، وانتقل عن الكوفة إلى بعض ثغور الشّام فسكنها.
قال أحمد بن حنبل: كنا نخبر أن عيسى كان سنة في الغزو، وسنة في الحج، وقد كان قدم بغداد، فأمر له بمال فلم يقبله.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ بن ثابت، أخبرنا أحمد بن سليمان بن علي المقرئ، أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس، أخبرنا علي بن حسين النديم، أخبرنا الحسين بن عمر الثقفي، حدثنا عبد الله بن سعيد الكنْدِي، حدثنا عمر بن أبي الرطيل، عن أبي بلال الأشعري، عن جعفر بن يحيى بن خَالِد قال: ما رأينا مثل عيسى بن يونس، أرسلنا إليه فأتانا بالرقة، فاعتل قبل أن يرجع، فقلنا لَهُ: يا أبا عمر، قد
__________
[1] تاريخ بغداد 7/ 133.
[2] تاريخ بغداد 8/ 295. والأنساب 5/ 65.
[3] تاريخ بغداد 11/ 152- 156. وتهذيب التهذيب 8/ 237. والتاريخ الكبير 6/ 406. والجرح والتعديل 6/ 291. وطبقات ابن سعد 7/ 488. والتقريب 2/ 103.

(9/195)


أمر لك بعشرة آلاف. / [فَقَالَ: هيه] [1] . فقلت: هي خمسون ألفا. فقال لي: لا حاجة لي فيها. فقلت: ولم؟ أما والله [2] لا هنيتكها، هي والله مائة ألف. قَالَ: لا والله لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمنا، ألا كان هذا قبل أن ترسلوا إليّ؟ فأما على الحديث فو الله لا شربة [3] ماء ولا إهليلجة!.
توفي في هذه السنة بالحدث. وقيل: في سنة إحدى وثمانين. وقيل: سبع وثمانين وقيل: ثمان وثمانين.
1046- مخلد بن الحسين، أبو مُحَمَّد
[4] .
كان من أهل البصرة، ونزل المصيصة، وتوفي بها في هذه السنة، وقد أسند عن هشام بن حسان.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، أَخْبَرَنَا حمد بْن أَحْمَد، أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حدثنا أحمد بن الحسين الحداد، حدّثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثنا عبد الله بن عبد الله قَالَ: قال مخلد بن الحسين: ما تكلمت بكلمة أريد أن أعتذر عنها منذ خمسين سنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأضفناه من تاريخ بغداد.
[2] في الأصل: «لم أمر والله» .
[3] في تاريخ بغداد: «والله ولا شربة ماء» .
[4] تهذيب التهذيب 10/ 72، 73. والتاريخ الكبير 4/ 1/ 437.

(9/196)


ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها:
شخوص هرثمة إلى خراسان واليا عليها، فأخذ علي بن عيسى وقيده، وأخذ ماله ومال أولاده وأصحابه، وأقامه للناس ليرد المظالم [1] .
وفيها: ولي ثابت بن نصر بن مالك الثغور، وغزا فافتتح مطمورة، وكان الفداء بين المسلمين والروم [2] .
وفيها: خرجت الخرمية في الجبل وناحية أذربيجان، فوجه إليهم عبد الله بن مالك بْن الهيثم الخزاعي، فأسر منهم وقتل وسبى ذراريهم، وقدم بهم بغداد فبيعوا، وكان قد/ غزاهم قبله خزيمة بن خازم [3] .
وفيها: وافى الرشيد من الرقة في السفن مدينة السلام، يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع، وكان مصيره بغداد يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الآخر، واستخلف بالرقة ابنه القاسم، وضم إليه خزيمة بن خازم، ثم شخص من مدينة السلام عشية الاثنين لخمس خلون من شعبان بعد صلاة العصر من الخيزرانية، فبات في بستان أبي جعفر، وسار من غد إلى النهروان، فعسكر هناك، وردّ حمّاد البربري إلى أعماله، واستخلف ابنه محمدا بمدينة السلام، وخرج وهو مريض [4] .
__________
[1] البداية والنهاية 10/ 206.
[2] تاريخ الطبري 8/ 340. والبداية والنهاية 10/ 206.
[3] البداية والنهاية: 10/ 207. وتاريخ الطبري 8/ 339.
[4] تاريخ الطبري 8/ 338. والكامل 5/ 350. والبداية والنهاية 10/ 207.

(9/197)


وفيها: أمر الرشيد بنقض جامع المنصور وبنيانه.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن علي بن ثابت، أخبرنا إبراهيم بن مخلد، أخبرنا إسماعيل بن علي الحبطي قَالَ: وهدم مسجد أبي جعفر، وزيد في نواحيه، وجدد بناؤه، وأحكم، وكان الابتداء فيه في سنة اثنتين وتسعين، والفراغ منه في سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وفيها: قدم يحيى بن معاذ بأبي النداء [1] على الرشيد وهو بالرقة، فقتله وقتل الهيصم اليماني [2] .
وفيها: تحرك ثروان الحروي، وقتل عامل السلطان بطف البصرة [3] .
وفيها: حج بالناس الفضل بن العباس بن محمد بن علي، وكان والي مكَّةَ [4] .
وقيل: بل حج بهم الْعَبَّاس بن عبد الله بن جعفر بن المنصور.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان
1047-/ إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن وداعة، أبو القاسم
[5] .
كان يحفظ القرآن- فيما ذكر الأصفهاني- إلا أنه اشتهر بالغناء.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنطاكي، أخبرنا أبو الحسن بن الطيوري، أخبرنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان، حدثنا حماد بن إسحاق قال: أخبرني أَبِي قَالَ: قال ابن جامع: كان أبي ينهاني عن الغناء ويعذبني عليه، ويضيق علي، فهربت منه إلى أخوالي، وكانوا ينزلون بحران، فأنزلوني في مشرعة على نهر، فإنّي أشرف منها على نهر إذ طلعت سوداء معها قربة، فنزلت إلى المشرعة، فجلست ووضعت قربتها، واندفعت تغني:
__________
[1] في الأصل: «بابن الندا» .
[2] تاريخ الطبري 8/ 339.
[3] تاريخ الطبري 8/ 340. والبداية والنهاية 10/ 207.
[4] تاريخ الطبري 8/ 340.
[5] البداية والنهاية 10/ 207. والأغاني للأصفهاني 6/ 289- 326.

(9/198)


إلى
الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبدل علقما [1]
فردي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه هائم القلب مغرما
قَالَ: فاستفزني ما لا قوام لي به، ورجوت أن ترده فلم تفعل، وأخذت القربة ونهضت، فنزلت أعدو خلفها، وقلت: يا جارية. فوقفت، فقلت لها: بأبي أنت وأمي، ردي الصوت. قالت: ما أشغلني عنك. قُلْتُ: بماذا؟ قالت: علي خراج كل يوم درهمين. فأعطيتها درهمين، فوضعت القربة وجلست تغنيه حتى أخذته وانصرفت، فلهوت/ يومي به، وبت فأصبحت وما أذكر منه حرفا واحدا، وإذا أنا بالسوداء قد طلعت، ففعلت كفعلها الأول، إلا أنها تغنت غير ذاك الصوت، فنهضت وعدوت في أثرها وقلت: الصوت قد ذهب عني نغمته. فأبت أن تعيده إلا بدرهمين، فأعطيتها، فأعادته فذكرته، فقلت: حسبك. فقالت: كأنك تكاثر فيه بأربعة دراهم، كأني والله بك وقد أصبت فيه أربعة آلاف دينار.
قال ابن جامع: فبينا أنا أغني الرشيد وبين يديه أكيسة أربعة، وفي كل واحد ألف دينار، قَالَ: من أطربني فله كيس، وعن لي والله الصوت. فغنيته، فرمى إلي بكيس، ثم قال لي: أعد. فأعدت، فرمى إلي بكيس آخر، ثم قال لي: أعد. فأعدت، فرمى إلي بكيس، فتبسمت فقال لي: مم تضحك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، لهذا الصوت حديث عجيب. فحدثته الحديث، فضحك ورمى إلي بالكيس الرابع، وقَالَ: لا تكذب السوداء. ورجعت بأربعة آلاف دينار.
وقد روى نحو هذه الحكاية أبو الفرج علي بن عيسى الأصفهاني [2] : أن ابن جامع قال: انتقلت من مكة إلى المدينة لشدة لحقتني، فأصبحت يوما وما أملك إلا ثلاثة دراهم، فهي في كمي، إذا بجارية في يدها جرة تريد الركي [3] ، تسعى بين يدي، وترنم بصوت شجي:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا
__________
[1] العجز في الأصل: (حتى لها غسل مني وتبدل علقما) ولا يستقيم معه الوزن والتصحيح من البداية والنهاية 10/ 207.
[2] انظر الأغاني 6/ 289- 326.
[3] الرّكي: جنس للركية، وهي البئر (لسان العرب «ركا» ص 1722) .

(9/199)


وذاك لأن النوم يغشى عيونهم ... سراعا ولا يغشى لنا النوم أعينا
إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا
فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
قَالَ: فأخذ الغناء بقلبي ولم يدر لي منه حرف فقلت: يا جارية، ما أدري أوجهك أحسن أم غناؤك، فلو شئت أعدت. قالت: حبا وكرامة، ثم أسندت ظهرها إلى جدار، ثم انبعثت تغنيه، فما دار لي منه حرف، فقلت: لو تفضلت مرة أخرى. فغضبت وكلحت [1] وقالت: ما أعجب أحدكم يجيء إلى الجارية عليها الضريبة فيشغلها، فضربت يدي إلى الدراهم الثلاثة فدفعتها إليها، فأخذتها، وقالت: تريد أن تأخذ مني صوتا أحسبك تأخذ به ألف دينار وألف دينار وألف دينار. ثم غنت ففهمته ثم سافرت إلى بغداد، فآل الأمر إلى أن غنيت الرشيد بهذا الصوت، فرمى إلي ثلاثة أكياس، فتبسمت فأخبرته خبر الجارية.
أخبرني بعض أهل الأدب قَالَ: كان إسماعيل بن جامع قد تزوج بالحجاز جارية سوداء مولاة لقوم، يقال لها مريم، / فلما صار من الرشيد بالموضع الذي صار به اشتاق إلى السوداء، فَقَالَ يذكر الموضع الذي كان يألفها فيه ويجتمعان فيه:
هل ليلة بقفا الصحصاح عائدة ... من قبة ذات أشراح وأزرار
تسمو مجامرها بالمندلي كما ... تسمو بحباته أفراح أعصار
المسك يبدو إلينا من غلائلها ... والعنبر الورد تذكيه على النار
ومريم بين أتراب منعمة ... طورا وطورا تغنيني بأوتار
فقال الرشيد: ويلك! من مريمك هذه التي وصفتها صورة الحور العين؟ قال:
زوجتي. ثم وصفها كلاما أكثر مما وصفها شعرا، فأرسل الرشيد من الحجاز حتى حملت، فإذا هي سوداء طمطمانية، ذات مشافر، فقال لَهُ: ويلك! هذه مريم التي ملأت الدنيا بذكرها، عليك وعليها لعنة الله. فقال: يا سيدي، إن عمر بن أبي ربيعة يَقُولُ [2] :
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كل عين ما تود
__________
[1] في الأصل: «كلخت» .
[2] انظر القصة في ذم الهوى 236- 237 ط. دار الكتب العلمية.

(9/200)


1048- بكر بن النطاح، أبو وائل الحنفي، الشاعر
[1] .
بصري سكن بغداد في زمن الرشيد، وكان يعاشر أبا العتاهية وأصحابه/. وكان أبو هفان يَقُولُ: أشعر أهل الغزل من المحدثين أربعة، أولهم بكر بن النطاح.
أخبرنا القزاز [أخبرنا الخطيب، أخبرنا علي بن طلحة المقرئ، أَخْبَرَنَا أحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عمران، حَدَّثَنَا محمد بن يحيى النديم، حدثنا عثمان بن محمد الكنْدِي، حدثنا] [2] النضر بن حديد قَالَ: كنا في مجلس فيه أبو العتاهية، والعباس بن الأحنف، وبكر بن النطاح، ومنصور النميري، والعتابي، فقالوا لمنصور: أنشدنا، فأنشد مدائح الرشيد، فقال أبو العتاهية لابن الأحنف- أعني الْعَبَّاس-: [طرفنا بملحك] [3] . فأنشد أبياته:
تعلمت أسباب [4] الرضا خوف عتبه ... وعلمه حبي [له] [5] كيف يغضب
ولي غير وجه قد عرفت مكانه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب؟
فقال أبو العتاهية: الجيوب من هذا الشعر على خطر، ولا سيما إن سنح [6] بين حلق ووتر، فَقَالَ بَكْر: قد حضرني شيء في هذا، فأنشد:
أرانا معشر الشعراء قوما ... بألسننا تنعمت القلوب [7]
إذا انبعثت قرائحنا أتينا ... بألفاظ تشق لها الجيوب
فقال العتابي:
ولا سيما إذا ما هيجتها ... بنان قد تجيب وتستجيب
__________
[1] تاريخ 7/ 90، 91. والبداية والنهاية 10/ 208.
[2] في الأصل: «أخبرنا القزاز بإسناد له قال النضر بن حديد» .
وما بين المعقوفتين أضفناه من تاريخ بغداد.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأضفناه من تاريخ بغداد.
[4] في تاريخ بغداد «ألوان» .
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأضفناه من تاريخ بغداد.
[6] في الأصل: «سنج» .
[7] في الأصل (أرنا) والتصحيح من تاريخ بغداد: 7/ 91.

(9/201)


قال النّضْر: فما زلت معهم في سرور. وبلغ إسحاق الموصلي خبرنا فَقَالَ:
اجتماع هؤلاء ظرف الدهر [1] .
قال المبرد: سمعت الحسن بن رجاء يَقُولُ: حضرت بكر بن النطاح ومعه جماعة من الشعراء، وهم يتناشدون، فلما فرغوا من طوالهم/ أنشدهم:
ما ضرها لو كتبت بالرضا ... فجف جفن العين أو أغمضا
شفاعة مردودة عندها ... في عاشق تندم لو قد قضى
يا نفس صبرا واعلمي أن ما ... نأمل منها مثل ما قد مضى
لم تمهن [2] الأجفان من قاتل ... بلحظة إلا لأن أمرضا
قَالَ: فابتدروه يقبلون رأسه [3] .
ولما مات ابن النطاح رثاه أبو العتاهية فَقَالَ:
مات ابن نطاح أبو وائل ... بكر فأمسى الشعر قد بانا
[4]
1049- بهلول المجنون
[5] .
كانت له كلمات حسان، ولقي الرشيد في سنة ثمان وثمانين وهو يريد الحج، فوعظه موعظة بليغة. وقد ذكرناها هناك. وكان بهلول يأوي المقابر.
1050- عبد الله بن إدريس بن يزيد [6] بن عبد الرحمن بن الأسود، أبو محمد الأودي، الكوفي
[7] .
ولد سنة خمس عشرة ومائة. وقيل: سنة عشرين. والأول أصح.
__________
[1] تاريخ بغداد 7/ 90، 91.
[2] في تاريخ بغداد «لم تمرض» .
[3] تاريخ بغداد 7/ 91.
[4] تاريخ بغداد 7/ 91.
[5] البداية والنهاية 10/ 208.
[6] في الأصل: «عبد الله بن يزيد بن إدريس» .
[7] تاريخ بغداد 9/ 415- 421. والبداية والنهاية 10/ 208، 209.

(9/202)


سَمِعَ الأعمش، وأبا إسحاق الشيباني، وابن جُرَيْج [1] ، ومالك بن أنس، وشعبة، وسفيان الثَّورِي. ورُويَ عَنْه: ابن المبارك/، وأحمد بن حنبل، ويحيى، وغيرهم.
وأقدمه الرشيد إلى بغداد ليوليه قضاء الكوفة، فامتنع وعاد إلى الكوفة، وأقام بها إلى أن مات في هذه السنة. وكان ثقة عالما زاهدا ورعا، وكان أحمد بن حنبل يقول فيه: نسيج وحده [2] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلي محمد بْن الحسين النهرواني، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا ابن مَخْلَد، حدّثنا حماد بن المؤمل الكلبي قَالَ: حدثني شيخ على باب بعض المحدثين قَالَ: سألت وكيعا عن مقدمه هو وابن إدريس وحفص على الرشيد فقال لي: ما سألني عن هذا أحد قبلك، قدمنا على هارون فأقعدنا بين السريرين فكان [3] أول من دعا [4] به أنَا، فقال:
أهل بلدك طلبوا مني قاضيا، وسموك لي فيمن سموا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي، وصالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة، فخذ عهدك أيها الرجل وامض. فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير، وإحدى عيني ذاهبة، والأخرى ضعيفة. فقال هارون: اللَّهمّ غفرا خذ عهدك أيها الرجل وامض. فقلت: يا أمير المؤمنين، والله إن كنت صادقا إنه لينبغي أن تقبل مني، ولئن [5] كنت كاذبا فما ينبغي أن تولي القضاء كذابا. فقال:
اخرج. فخرجت، ودخل ابن إدريس، وكان هارون قد وسم له من ابن إدريس وسم-/ يعني خشونة جانبه- فدخل، فسمعنا صوت ركبتيه على الأرض حين برك، وما سمعناه يسلم إلا سلاما خفيا، فقال له هارون: أتدري لم دعوتك؟ فقال له: لا. قَالَ:
إن أهل بلدك طلبوا مني قاضيا، وإنهم سموك لي فيمن سموا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي، وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة، فخذ عهدك وامض. فقال له
__________
[1] » ابن جريج» تكررت في الأصل.
[2] تاريخ بغداد 9/ 416.
[3] في الأصل: «وكان» .
[4] في تاريخ بغداد: «ما دعا» .
[5] في الأصل: «وإن» .

(9/203)


ابن إدريس: ليس أصلح للقضاء. فنكت [1] هارون بإصبعه وقال لَهُ: وددت أني لم أكن رأيتك. قَالَ له ابن إدريس: وأنا وددت أني لم أكن رأيتك. فخرج، ثم دخل حفص بن غياث. فقال لَهُ كما قَالَ لنا. فقبل عهده وخرج. فأتانا خادم معه ثلاثة أكياس في كل كيس خمسة آلاف. فَقَالَ: إن أمير المؤمنين يقرئكم السلام ويقول لكم قد لزمتكم في شخوصكم مئونة فاستعينوا بهذه في سفركم. قال وكيع: فقلت لَهُ: أقرئ المؤمنين السلام، وقل لَهُ قد وقعت مني بحيث يحب أمير المؤمنين، وأنا عنها مستغن وفي رعية أمير المؤمنين من [2] هو أحوج إليها مني، فإن رأى أمير المؤمنين بصرفها إلى من أحب.
وأما ابن إدريس فصاح بِهِ: مر من هنا. وقبلها حفص، وخرجت الرقعة إلى ابن إدريس من بيننا: عافانا الله وإياك، سألناك أن تدخل في أعمالنا فلم تفعل، ووصلناك من أموالنا فلم تقبل، فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه إن شاء الله. فَقَالَ للرسول: إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه إن شاء اللَّه. ثم مضينا، فلما صرنا إلى الياسرية حضرت الصلاة، فنزلنا نتوضأ للصلاة. قال وكيع: فنظرت إلى شرطي محموم نائم في الشمس، عليه سواده، فطرحت كسائي عليه وقلت: تدفأ إلى أن نتوضأ. فجاء ابن إدريس فاستلبه/ [ثم قال لي: رحمته] [3] لا رحمك الله، في الدنيا أحد يرحم مثل ذا؟ ثم التفت إلى حفص فقال لَهُ: يا حفص، [قد] [4] علمت حين دخلت إلى سوق أسد، فخضبت لحيتك، ودخلت الحمام، أنك ستلي القضاء، لا والله لا كلمتك حتى تموت. قَالَ: فما كلمه حتى مات [5] .
أخبرنا محمد بن ناصر، أخبرنا محفوظ بن أحمد، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلي مُحَمَّد بْن الحسين الجازري [6] ، أخبرنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قَالَ: حدثني أَبِي، حدثنا موسى بن عبد الرحمن بن مسروق الكنْدِي، حدثنا ابن
__________
[1] في الأصل: «فنكث» .
[2] في الأصل: «وفي رعيته هو أحوج» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأضفناه من تاريخ بغداد.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأضفناه من تاريخ بغداد.
[5] تاريخ بغداد 9/ 416، 417.
[6] في الأصل: «الحارزي» انظر: الأنساب للسمعاني 3/ 162.

(9/204)


المنذر- وكان جارا لعبد الله بن إدريس- قَالَ: حج الرشيد ومعه الأمين والمأمون، فدخل الكوفة، فقال لأبي يوسف: قل للمحدثين يأتونا فيحدثونا. فلم يتخلف عنه من شيوخ أهل الكوفة إلا اثنان: عبد الله بن إدريس، وعيسى بن يونس، فركب الأمين والمأمون إلى عَبْد الله بن إدريس فحدثهما بمائة حديث، فقال المأمون لعبد الله: يا عم، أتأذن لي أن أعيدها عليك من حفظي؟ قَالَ: افعل. فأعادها كما سمعها، وكان ابن إدريس من أهل الحفظ يقول: لولا أني أخشى أن ينفلت مني القرآن لدونت [1] العلم. فعجب عبد الله من حفظ المأمون. وقَالَ المأمون: يا عم، إلى جانب مسجدك دار، إن أردت اشتريناها ووسعنا بها المسجد. فقال: ما لي إلى هذا حاجة، قد أجزى من كان قبلي وهو يجزيني. فنظر إلى قرح في ذراع الشَّيْخ، فَقَالَ: إن معنا أطباء وأدوية، أتأذن لي أن أجيئك بمن يعالجك؟ قَالَ: لا، قد ظهر بي مثل هذا وبرأ. فأمر له بمال فأبى أن يقبله.
وصار إلى عيسى/ بن يونس فحدثه، فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها، فظن أنه استقلها، فأمر له بعشرين ألفا، فقال عيسى: والله ولا أهليلجة، ولا شربة ماء عَلَى حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ولو ملأت لي هذا المسجد ذهبا إلى السقف.
فانصرفا من عنده.
وعن حسين بن عمرو المنقري قَالَ: لما نزل بابن إدريس الموت بكت ابنته، فَقَالَ: لا تبكي، فقد ختمت في هذا البيت أربعة آلاف ختمة.
توفي ابن إدريس في هذه السنة [2] .
1051- علي بن ظبيان، أبو الحسن العبسي، الكوفي
[3] .
تقلد قضاء الشرقية، ثم ولي قضاء القضاة في أيام الرشيد. وكان يجلس في المسجد الَّذِي ينسب إلى الخلد فيقضي فيه. وحدث عَن عبيد الله بن عمر العمري، وإسماعيل بن أبي خَالِد، وعَبْد الملك بن أبي سُلَيْمَان. روى عنه: داود بن رشيد. وقد ضعفه بعض أصحاب الحديث. وقَالَ بعضهم: لا بأس به [4] .
__________
[1] في الأصل: «لدونت» .
[2] تاريخ بغداد 9/ 421.
[3] تاريخ بغداد 11/ 443. والبداية والنهاية 10/ 209.
[4] تاريخ بغداد 11/ 444.

(9/205)


أخبرنا أبو منصور القزاز، أبو بكر بن ثابت، أخبرنا علي بن المحسن، أَخْبَرَنَا طلحة بْن محمد بْن جعفر، حدثنا علي بن محمد بن عبيد، عن أحمد بن زهير، عن سليمان بن أَبِي شيخ، حدثنا عبيد بن ثابت قَالَ: كتبت إلى علي بن ظبيان وهو قاضي بغداد: بلغني أنك تجلس على بارية [1] ، وقد كان من قبلك من القضاة يجلسون على الوطاء، ويتكئون. فكتب إلي: إني لا أستجيز [2] أن يجلس بين يدي رجلان حران مسلمان على بارية وأنا على وطاء، لست أجلس إلّا على ما يجلس/ عليه الخصوم [3] .
قال طلحة: علي بن ظبيان رجل جليل، متواضع، دين، حسن العلم بالفقه، من أصحاب أبي حنيفة، وكان حسنا في باب الحكم، تقلد قضاء الشرقية، ثم تقلد قضاء القضاة، ولّاه الرشيد، وكان يخرجه معه إذا خرج إلى المواضع. فتوفي بقرميسين [4] سنة اثنتين وتسعين ومائة [5] .
1052- العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة، أبو الفضل الشاعر
[6] .
كان من عرب خراسان ومنشأة بغداد، وكان طريفا مقبولا حسن الشعر.
عن محمد بن يحيى قَالَ: سمعت عبد الله بن المعتز يَقُولُ: لو قيل لي: ما أحسن شعر تعرفه لقلت شعر العباس بن الأحنف:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرق الناس فيها قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظن غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر بْنِ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عبد الواحد، أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني [7] ، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدّثنا
__________
[1] البارية: الحصيرة المنسوجة (قاموس) .
[2] في تاريخ بغداد: «إني لأستحي أن» .
[3] تاريخ بغداد 11/ 440.
[4] في الأصل: «بقومس» .
[5] تاريخ بغداد 11/ 445، 446.
[6] تاريخ بغداد 12/ 127- 133. والبداية والنهاية 10/ 209، 210.
[7] في الأصل: «المارني» .

(9/206)


أَبِي، حدثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثنا عبد الله بن الربيع قَالَ: قال هارون الرشيد في الليل بيتا وأراد أن يشفعه بآخر فامتنع القول عليه، فَقَالَ: علي بالعباس بن الأحنف، فلما طرق ذعر وفزع أهله، فلما وقف بين يدي الرشيد/ قَالَ: وجهت إليك لبيت قلته، ورمت أن اشفعه بمثله فامتنع القول علي. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، دعني حتى ترجع إليّ نفسي، فإنّي تركت عيالي على حال من القلق عظيمة، ونالني من الخوف ما يتجاوز الحد والوصف. فانتظر هنية، ثم أنشده:
جنان قد رأيناها ... ولم نر مثلها بشرا
فقال العباس:
يزيدك وجهها حسنا ... إذا ما زدته نظرا
فقال له الرشيد: زدني.
فقال الْعَبَّاس:
إذا ما الليل مال عليك ... بالظلماء [1] واعتكرا
ودج فلم تر قمرا ... فأبرزها ترى القمرا
فقال له الرشيد: قد ذعرناك وأفزعنا عيالك، وأقل الواجب أن نعطيك دينك فأمر له بعشرة آلاف درهم، وصرفه [2] .
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا عبيد الله بن عبد الرحمن الزُّهْرِيّ، حَدَّثَنَا محمد بن القاسم الشطوي، حدثنا أحمد بن عبيد قَالَ: سمعت الأصمعي يَقُولُ:
بينا أنا قاعد يوما في مجلس بالبصرة، فإذا أنا بغلام أحسن الناس وجها وثوبا، واقف على رأسي، فَقَالَ: إن مولاي يريد أن يوصي إليك، فأخذ بيدي حتى أخرجني إلى الصحراء، فإذا بالعباس بن الأحنف ملقى على فراشه، وإذا هو يجود بنفسه وهو يَقُولُ:
يا بعيد الدار عن وطنه ... مفردا يبكي على شجنه
كلما جد النجيب [3] به ... زادت [4] الأسقام في بدنه
__________
[1] في تاريخ بغداد «بالأظلام»
[2] تاريخ بغداد 12/ 131.
[3] في تاريخ بغداد: «النجباء» .
[4] في تاريخ بغداد: «دارت» .

(9/207)


/ ثم أغمي عَلَيْهِ، فانتبه بصوت طائر على شجرة، وهو يَقُولُ:
ولقد زاد الفؤاد شجى ... هاتف يبكي على فننه
شاقه ما شاقني فبكى ... كلنا يبكي على سكنه
ثم أغمي عَلَيْهِ، وظنناها مثل الأولى، فحركته فإذا هو ميت [1] .
توفي العباس بن الأحنف في قول إبراهيم بن العباس الصولي في هذه السنة.
وقال عمر بن شبة: توفي سنة ثمان وثمانين. وقال غيره: بقي بعد الرشيد.
1053- عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور
[2] .
كان من وجوه بني هاشم وسراتهم، وولي إمارة البصرة، وخرج من بغداد يقصد الرشيد، وهو إذ ذاك بخراسان، فأدركه أجله بالدسكرة من طريق حلوان، فتوفي في هذه السنة.
1054- الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي
[3] .
أخو جعفر، ولد بالمدينة سنة سبع وأربعين ومائة، وأمه زبيدة بنت منين [4] بربرية، فأرضعته الخيزران، وأرضعت زبيدة أمه الرشيد أياما، فصارا رضيعين، وفي ذلك يقول مروان بن أَبِي حفصة يمدحه:
كفى لك فضلا أن أفضل حرة ... غذتك بثدي والخليفة واحد
لقد زنت يحيى في المشاهد كلها ... كما زان يحيى خالدا في المشاهد
[5] قال مؤلف الكتاب رحمه الله: كان الفضل أجود من أخيه جعفر، / وأندى راحة، إلا أنه كان فيه كبر شديد، وكان جعفر أطلق وجها، وأظهر بشرا، وكان الناس يؤثرون لقاء جعفر على لقاء الفضل.
__________
[1] تاريخ بغداد 12/ 131، 132.
[2] تاريخ بغداد 11/ 152.
[3] تاريخ بغداد 12/ 334- 339. والبداية والنهاية 10/ 210- 212.
[4] في تاريخ بغداد: «بنت سينن» .
[5] تاريخ بغداد 12/ 334.

(9/208)


وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم، فعاتبه أخوه في هذا، فقال: إن هذا صحبني وأنا لا أملك شيئا، واجتهد في نصحي، وقد قال الشاعر:
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان عاونهم في المنزل الخشن
[1] ووهب لبعض الأدباء عشرة آلاف دينار، فبكى الأديب، فقال: أتبكي استقلالا لها؟ قَالَ: لا والله، ولكن أسفا، كيف تواري الأرض مثلك [2] .
وولى الرشيد الفضل أعمالا جليلة. بخراسان وغيرها، فلما غضب على البرامكة وقتل جعفرا خلد الفضل في الحبس مع أبيه يحيى، فلم يزالا محبوسين حتى ماتا في حبسهما [3] .
مات يحيى سنة تسعين، ومات الفضل سنة اثنتين وتسعين، قبل موت الرشيد بشهور. وقيل: سنة ثلاث.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو القاسم الأزهري، أخبرنا أَحْمَد بْن إبراهيم، حَدَّثَنَا إبراهيم بْن مُحَمَّد بن عرفة، حدثنا محمد بن الحسين بن هشام، حدثنا علي بن الجهم، عن أبيه قال: لما أصبحت ذات يوم وأنا في غاية الضيقة، ما أهتدي إلى دينار ولا درهم، ولا أملك إلا دابة أعجف، وخادما خلعا، فطلبت الخادم فلم أجده/، ثم جاء فقلت: أَيْنَ كنت؟ فَقَالَ: كنت في احتيال شيء لك، وعلف لدابتك، فو الله ما قدرت عليه. فقلت: اسرج لي دابتي. فأسرجه، فركبت، فلما صرت في سوق يحيى إذا أنا بموكب عظيم، وإذا الفضل بن يحيى، فلما بصرني قَالَ: سر. فسرنا قليلا، وحجز بيني وبينه غلام يحمل طبقا على باب، يصيح بجارية، فوقف الفضل طويلا، ثم قَالَ: سر. ثم قَالَ: أتدري ما سبب وقفتي؟ قُلْتُ: إن رأيت أن تعلمني. قَالَ: كانت لأختي جارية، وكنت أحبها حبا شديدا، واستحي من أختي أن أطلبها منها، ففطنت أختي لذلك، فلما كان في هذا اليوم لبّستها وزيّنتها، وبعثت بها
__________
[1] تاريخ بغداد 12/ 336.
[2] تاريخ بغداد 12/ 338.
[3] تاريخ بغداد 12/ 334.

(9/209)


إلي، فما كان في عمري يوم أطيب من يومي هذا، فلما كان في هذا الوقت جاءني رسول أمير المؤمنين فأزعجني، وقطع علي لذتي، فلما صرت إلى هذا المكان دعا هذا الغلام صاحب الطبق باسم تلك الجارية، فارتحت لندائه، ووقفت فقلت: أصابك ما أصاب أخا بني عامر حيث يَقُولُ:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري
فَقَالَ: اكتب لي هذين البيتين. فعدلت لأطلب ورقة أكتب له هذين البيتين فيها فلم أجد، فرهنت خاتمي/ عند بقال، وأخذت ورقة، وكتبتهما فيها، وأدركته بها، فقال لي: ارجع إلى منزلك. فرجعت، ونزلت، فقال لي الخادم: اعطني خاتمك أرهنه.
فقلت: رهنته. فما أمسيت حتى بعث إلي بثلاثين ألف درهم جائزة، وعشرة آلاف درهم سلفا لسنة من رزق أجراه لي [1] .
أخبرنا ابن ناصر الحافظ، أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَبْد الجبار، أخبرنا محمد بن عبد الواحد بْن مُحَمَّد، أخبرنا جعفر، أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، أخبرنا أَبُو عبد الله الحكيمي، حدثنا أَبُو الفضل ميمون بن هارون، حدثني عبد الله بن الحسين العلوي قَالَ: أتيت الفضل بن يحيى فاجلسني معه وأكرمني، فكلمته في ديني ليكلم أمير المؤمنين في قضائه عني. قال: فكم دينك؟ قلت: ثلاثمائة ألف درهم. قَالَ: نعم.
فخرجت من عنده وأنا مغمور لضعف رده، فمررت ببعض إخواني مستريحا إِلَيْهِ، ثم صرت إلى منزلي، فوجدت المال قد سبقني.
1055- محمد بن أبي أمية بن عمرو، مولى بني أمية بن عبد شمس
[2] .
أصله من البصرة، وله إخوة وأقارب كلهم شعراء، وقد اختلطت أشعارهم، واختلفت الروايات في أنسابهم، إلّا أن محمد بن أمية أشهرهم ذكرا، وأكثرهم شعرا، والباقون أشعارهم نزرة [3] جدا. ومحمد بن أمية شاعر منهم، اختلط شعره بشعر عمه، فلم يفرق أكثر الناس بينهما/.
__________
[1] تاريخ بغداد 12/ 334، 335.
[2] تاريخ بغداد 2/ 86، 87. والبداية والنهاية 10/ 212.
[3] في الأصل (نزيرة) .

(9/210)


أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا علي بن المحسن القاضي قَالَ: حدثنا أَبِي، حدثنا أبو بكر الصولي، حدثنا عون بن محمد الكنْدِي قال: قال لي محمد بن أبي أمية الكاتب: كنت أنا وأخي نكتب للعباس بن الفضل بن الربيع فجاءه أبو العتاهية مسلما، فأمره بالمقام عنده، فَقَالَ: على شريطة ينشدني كاتبك هذا من شعره- وأومأ إلي- فقال: ذلك لك. وتغدينا، فَقَالَ:
الشرط. فأمرني أن أنشده، فحضرت وقلت: ما أجسر [1] على ذلك، وما ذاك قدرتي.
فَقَالَ: إن أنشدني وإلا قمت. فأنشدته:
رب قول منك لا أنساه لي ... واجب الشكر وإن لم يفعل
أقطع الدهر بظن حسن ... وأجلي [2] غمرة ما تنجلي
وأرى الأيام لا تدني الذي ... أرتجي منك وتدني أجلي
وإذا أملت يوما صالحا ... عرض [3] المقدور لي في أملي
فبكى أبو العتاهية أشد بكاء، ثم قال لي: زدني. فقال لي: زده. فأنشدته:
بنفسي من يناجيني ... ضميري بأمانيه
ومن يعرض عن ذكري ... كأني لست أعنيه
لقد أسرفت في الذل ... كما أسرفت في التيه
أما تعرف لي إحسان ... يوم فتجازيه
[4]
1056- منصور بن سلمة بن الزبرقان. وقيل: منصور بن الزبرقان/ بن سَلَمَة، أبو الفضل، النميري الشاعر
[5] .
من أهل الجزيرة. قدم بغداد، ومدح الرشيد.
وجد منصور يقال لَهُ: مطعم الكبش الرخم، لأنه أطعم ناسا نزلوا به، ونحر لهم،
__________
[1] في الأصل: «ما أحس» .
[2] في الأصل: «وأخلى» .
[3] في الأصل: «غرض» .
[4] تاريخ بغداد 2/ 86.
[5] تاريخ بغداد 13/ 65- 69. والبداية والنهاية 10/ 212.

(9/211)


ثم رفع رأسه فإذا هو برخم تحملق [1] حول أضيافه، فأمر أن يذبح لهن كبش ويرمى به بين [أيديهن] [2] ففعل ذَلِكَ، فنزلن عليه، فمزقنه، فسمي: مطعم الكبش الرخم.
وفي ذلك يقول أبو بعجة النميري يمدح رجلا منهم:
أبوك زعيم بني قاسط ... وخالك ذو الكبش يقري الرخم
[3] وكان منصور شاعرا من شعراء الدولة العباسية، وهو تلميذ كلثوم بن عمرو العتابي وراويته، وعنه أخذ. ووصفه العتابي للفضل بن يحيى حتى استصحبه، ثم وصله بالرشيد، ثم جرت بعد ذلك بينه وبين العتابي وحشة فتهاجيا.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا الحسن بن الحسن الثعالبي، أخبرنا أبو الفرج الأصفهاني قال: حدثني عمي، عن جدي قَالَ: قال النميري: كنت واقفا على جسر بغداد أنا وعبيد الله بن هشام بن عمرو التغلبي وقد وخطني الشيب يومئذ/، وعبيد الله شاب حدث السن، [فإذا أنا بقصرية ظريفة] [4] وقد وقفت، فجعلت أنظر إليها وهي تنظر إلى [5] عبيد الله بن هشام، ثم انصرفت، فقلت فيها:
لما رأيت سوام الشيب منتشرا ... في لمتي [6] وعبيد الله لم يشب
سللت سهمين من عينيك فانتصلا ... على شبيبة ذي الأذيال والطرب
كذا الغواني مراميهن قاصدة ... إلى الفروع معداة عن الخشب
[7] شبه الشباب بالفرع الأخضر، والشيخ بالخشبة التي قد يبست، أو ساق الشجرة الذي لا ورق له.
ثم أتم القصيدة يمدح بها يزيد بن مزيد، فأعطاه عشرة آلاف درهم.
__________
[1] في الأصل: «يحمز» .
[2] في الأصل: (أيديهم) والتصحيح من تاريخ بغداد: 13/ 66.
[3] تاريخ بغداد 13/ 66.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل،، وأضفناه من تاريخ بغداد.
[5] في الأصل: «فجعلت تنظر إلى عبيد الله بن هشام وأنا انظر إليها» .
[6] في الأصل: «بلمتي» .
[7] تاريخ بغداد 13/ 66، 67.

(9/212)


1057- يوسف بن يعقوب بن إبراهيم، القاضي
[1] .
سمع الحديث من يونس بن إسحاق السبيعي، والسري بن يحيى، ونظر في الرأي وفقه، وولي القضاء بالجانب الغربي من بغداد في حياة أَبِيهِ، وصلى بالناس الجمعة في مدينة المنصور بأمر الرشيد، ولم يزل على القضاء ببغداد إلى أن توفي في رجب من هذه السنة.
__________
[1] تاريخ بغداد 14/ 296، 297. والبداية والنهاية 10/ 212.

(9/213)


ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها:
خروج الرشيد إلى ناحية خراسان
[1] :
أخبرنا محمد بن ناصر، أخبرنا أبو المعالي، أخبرنا أحمد بن محمد/ البخاري، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا أبو الحسن بن رزقويه، أخبرنا أبو جعفر بن برية، أَخْبَرَنَا أبو بكر بن محمد بن خلف بن المرزبان قَالَ: أخبرنا أحمد بن محمد بن علي التَّيْمي، عن أحمد بن صباح الطبري مولى عيسى بن جعفر الهاشمي قَالَ: حدثني أبي قَالَ: شيعت الرشيد حين مضى إلى خراسان فقال لي وهو يريد أن يأرما [2] : يا صباح، ما أحسبك تراني بعد هذا أبدا. فقلت: أعيذك باللَّه يا أمير المؤمنين أن تقول هذا، والله إني لأرجو أن يبقيك الله لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم مائة سنة. فتبسم وقَالَ: يا صباح، أنا والله ميت بعد قريب. فقلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، والله إني أرى دما ظاهرا، ولونا ناصعا، وشبابا زائدا، ومئونة [3] قوية، وروحا طيبة، فعمرك الله أكثر مما عمر [4] من ملك الأرض، وفتح لك ما فتح على ذي القرنين، ولا أرى رعيتك فيك. قال: فالتفت إلى جمعية كانت من ورائه، فَقَالَ: تنحوا عني. ثم قَالَ: مل بنا نحو تلك الشجرة حتى أسر إليك سرا. قَالَ: فسرت معه منحرفا عن الجادة نحوا من ثلاثمائة
__________
[1] انظر: الكامل لابن الأثير 5/ 250، 251.
[2] أرم على الشيء يأرم، بالكسر: أي عضّ عليه (لسان العرب: أرم) .
[3] في الأصل هكذا: «مئّة» .
[4] في الأصل: «ما عمر» .

(9/214)


ذراع، فكمن في ظل حائط ثم قَالَ: أمانة الله في عنقك أن [لا] [1] تخبر بما ألقي إليك أحدا. فقلت: يا سيدي، هذه مخاطبة الأخ أخاه، وأنا عبد يخاطبني مولاي بمثل هذا.
فَقَالَ: والله لتقولن إني لا أقولها لأحد، وإنها أمانة حتى أؤديها إليك عند الله. قَالَ:
فعلت. فكشف عَن بطنه/، فإذا حرير قد عصب بن بطنه وظهره، ثم حول إلى قفاه فأخذ ثيابه عن ظهره، فإذا قروح ونقابات قد واراها بخرق وأدوية، وقَالَ: منذ كم ترى هذا بي؟ قُلْتُ: لا أدري. قال: ظهرت في أول سنة تسع وثمانين، والله ما اطلع عليها أحد من الناس إلا بختيشوع، ورجاء، ومسرور، فأما ابن بختيشوع فإنه بلغني أنه أخبر به المأمون، وو الله لئن بقيت لابن الفاعلة لأتركنه يهيم بطلب الخبر حتى يشغله ذلك عن إذاعة السر. وأما مسرور فأخبر الأمين بعلتي، وما منهم أحد إلا له علي حين، فأنى تصفوا [2] لي حياة وأعز ولدي يحصي أنفاسي، ويستحب علتي، ولقد بلغ من تبرمهم بي وبحياتي أني إذا أردت الركوب جاءوني ببرذون قطوف، وليس إلا ليزيد في علتي، ويفسد علي جوارحي، فأكره أن أظهر هذا لهم، فيستوحشوا مني، ومتى استوحشوا أظهروا من العداوة ما كان باطنا، والعامة لهم أرجأ والخاصة إليهم أميل، وأنا كالخائف بينهم، أصبح فلا أطمع في المساء، وأمسي ولا أطمع في الصباح.
فقلت: يا سيدي، ما أحسن الجواب عن هذا، ولكن أقول: من أرادك بكيد فأراه الله ذلك الكيد في نفسه، وأراه فيك ما يسوءه، وأطال بقاءك، وكبت أعداءك حيث كانوا.
فقال: سمع الله دعاءك، انصرف فإن أشغالك ببغداد كثيرة. فودعته، وكان آخر العهد بِهِ.
وروى أبو بكر الصولي/ قَالَ: حدثنا محمد بن الفضل بن الأسود، حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قَالَ: حدثني مسرور قَالَ: دخلت على الرشيد وهو يبكي عند خروجه إلى خراسان آخر خرجة، وفي يده قرطاس يقرأه فَقَالَ: يا مسرور،
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] في الأصل: «يصفو» .

(9/215)


كأني والله عنيت بما في هذا القرطاس. ثم رمى به مزيدة [1] ، فأخذته، ووثب فدخل، فإذا فيه شعر لأبي العتاهية: [2] .
هل أنت معتبر بمن خربت ... منه غداة قضى دساكره
وبمن أذل الدهر مصرعه ... فتبرأت منه عساكره
وبمن خلت منه أسرته ... وبمن خلت منه منابره
أين الملوك وأين جندهم ... صاروا مصيرا أنت صائره
يا مؤثر الدنيا بلذته ... والمستعد لمن يفاخره
نل ما بدا لك أن تنال من الدنيا ... فإن الموت آخره
قَالَ: فمات في سفرته تلك.
قال علماء السير/: ودخل الرشيد جرجان، فوافته خرائن علي بن عيسى على ألف بعير وخمسمائة بعير، ثم رحل من جرجان وهو مريض إلى طوس، فأقام بها إلى أن توفي، واتهم هرثمة [3] ، فوجه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة إلى مرو، ومعه عبد الله بْن مالك، ويحيى بن معاذ، وأسد بن يزيد في آخرين. وكان بين هرثمة وأصحاب رافع فيها وقعة، ففتح فيها بخارى، وأسر أخا رافع بشير بن الليث، فبعث به إلى الرشيد وهو بطوس، فدخل به عليه وهو ينظر في المرآة ويقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 [4] . فنظر إِلَيْهِ فَقَالَ: يا ابن اللخناء، إني لأرجو ألا يفوتني رافع كما لم تفتني أنت. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، قد أظفرك الله، فافعل ما يحبّ الله، ولعل الله أن يلين لك قلب رافع إذا رأى أنك قد مننت عليّ! فغضب وقَالَ: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن
__________
[1] في الأصل: «مربده» .
[2] ديوان أبي العتاهية ص (106) ط. دار الكتب العلمية و (205- 206) ط. صادر وما بين المعقوفين.
البيت الثاني في الديوان:
وبمن خلت منه مدائنه ... وتفرقت منه عساكره
[3] في ت: «هرنمه» .
[4] سورة: البقرة، الآية: 156.

(9/216)


أحرك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه. ثم دعا بقصاب فَقَالَ: لا تشحذ مداك، دعها على حالها، وفصل هذا الفاسق ابن الفاسق. فجعله أشلاء، ثم أغمي عليه، وتفرق من حضره [1] .
وفي هذه السنة: توفي الرشيد، وبويع الأمين.
__________
[1] تاريخ الطبري 8/ 341، 342.

(9/217)


باب ذكر خلافة الأمين
[1] / هو محمد بن هارون. ويكنى: أبا موسى، ويقال: أبا عبد الله. ولد برصافة بغداد سنة إحدى وسبعين ومائة. أمه أم جعفر، واسمها: زبيدة بنت جعفر الأكبر بن المنصور.
وكان أبيض، سبطا، أنزع، صغير العينين، أقنى، جميلا، طويلا، سمينا، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين. سمع الحديث الكثير، وأسند الحديث [2] .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي الحسن بن أبي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ محمد المهلبي قَالَ: رَأَيْتُ عِنْدَ الْحُسَيْنِ بْنِ الضَّحَّاكِ جَمَاعَةً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الأَمِينِ وَأَدَّبَهُ، فوصف أَدَبًا كَثِيرًا، وَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ:
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمَنْصُورِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أبيه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ مُحْرِمًا حُشِرَ مُلَبِّيًا» [3] .
ذكر بيعته توفي الرشيد بطوس، فبويع للأمين صبيحة الليلة التي مات فيها الرشيد، تولى ذلك صالح بن الرشيد، وذلك يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، وكتب حمويه مولى المهدي صاحب البريد من طوس إلى
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 365- 373. والكامل 5/ 359. والبداية والنهاية 10/ 222، 223.
وتاريخ الموصل ص 314- 318. تاريخ بغداد 3/ 336، 342.
[2] انظر تاريخ بغداد 3/ 336.
[3] تاريخ بغداد 3/ 338.

(9/218)


سلام مولاه، وخليفته على البريد ليعلمه بوفاة الرشيد، فدخل على الأمين فعزّاه وهنأه بالخلافة.
وكان الأمين نازلا/ ببغداد في الخلد، فتحول إلى قصر [1] المنصور بالمدينة، وأمر الناس بالحضور، فحضروا، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ونعى الرشيد إلى الناس، وعزى نفسه والناس، ووعدهم الخير وبسط الأمان للأسود والأبيض.
فبايعه جلة [2] أهل بيته وخاصة مواليه وقواده، ثم دخل ووكل ببيعته من بقي منهم سُلَيْمَان بن المنصور، وأمر للجند بمدينة السلام برزق سنتين، واتخذ الفضل بن الربيع وزيرا، وابنه العباس بن الفضل حاجبا، وجعل إسماعيل بن صبيح كاتبا، وجعله على ديوان الرسائل والتوقيعات والخاتم. وجعل عيسى بن علي بن ماهان على الشرطة، وقيل: عبد الله بن حازم.
أخبرنا ابن ناصر، أَنْبَأَنَا أحمد بن خلف، حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم، حدثنا أحمد بن كامل قَالَ: حدثني عبد الله بن إبراهيم النَّحْوِي، حدثنا أبو هفان، حَدَّثَنَا أحمد بن يوسف قال: دخل أبو نواس على محمد الأمين فهنأه بالخلافة وعزاه بالرشيد في بيت، فأنشأ يَقُولُ:
جرت جوار بالسعد والنحس ... فنحن في وحشة وفي أنس
العين تبكي والسن ضاحكة ... فنحن في مأتم وفي عرس
/ يضحكها القائم الأمين ويبكيها ... وفاة الرشيد بالأمس
بدران: بدر أضحى ببغداد في ... الخلد وبدر بطوس في الرمس
ثم قدم القادم بالبردة والقضيب والخاتم، فوصل لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وقدم عليه حسين الخادم بالخزائن التي كانت مع الرشيد، وقدمت زبيدة من الرافقة في آخر رجب بخزائن الرشيد، فتلقاها محمد بالأنبار [3] ، وكان الأمين قد بعث من يأتيه بأخبار الرشيد في زمن علته كل يوم، وأرسل بدر بن المعتمر فكتب معه كتبا، وجعلها في قوائم صناديق منقورة، وألبسها جلود لبقر، وقَالَ: لا يظهرن أمير المؤمنين ولا أحد ممن في عسكره على شيء من أمرك، وما توجهت فيه، ولا على ما معك، ولو
__________
[1] في الأصل: «مصر» .
[2] في الأصل: «حلة» .
[3] في الأصل: «بالأبنار» .

(9/219)


قتلت حتى يموت أمير المؤمنين، فإذا مات فادفع إلى كل إنسان منهم كتابه [1] .
فلما قدم بكر طوس بلغ هارون قدومه، فدعا بِهِ، فَقَالَ: ما أقدمك؟ قَالَ: بعثني محمد لأعلم خبرك وآتيه بِهِ. قَالَ: فهل معك كتاب؟ قَالَ: لا فأمر بما معه ففتش، فلم يصيبوا شيئا، فهدده بالضرب، فلم يقر بشيء، فأمر به، فحبس وقيد، فلما كان في الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بن المعتمر، فيقرره، فإن أقر وإلا ضرب عنقه.
وصار إلى هارون/ فغشي عليه غشية [2] ظنوا أنها هِيَ، وارتفعت الصيحة، فأرسل بكر بن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بن الربيع يسأله أن لا يعجلوا في أمره، ويعلمه أن معه أشياء [3] يحتاجون إليها، وكان بكر محبوسا عند حسين الخادم، فلما توفي الرشيد دعاه الفضل بْن الربيع فسأله عما عنده فأنكر أن يكون عنده شيء وخشي على نفسه من أن يكون هارون حيا، حتى صح عنده موت هارون، فأخبره أن عنده كتبا من أمير المؤمنين الأمين، وأنه لا يجوز [4] له إخراجها وهو على حاله في قيوده، فامتنع حسين الخادم من إطلاقه حتى أطلقه الفضل فأتاهم بالكتب التي [5] عنده، فكان في تلك الكتب:
كتاب من محمد إلى حسين الخادم بخطه، يأمره بتخلية بكر بن المعتمر وإطلاقه، فدفعه إِلَيْهِ.
وكتاب إلى المأمون، فاحتبس كتاب المأمون لغيبته بمصر، وأرسلوا إلى صالح بن الرشيد، فأتاهم، فدفعوا إليه كتاب الأمين، وكان في الكتاب إلى المأمون:
إذا ورد عليك كتاب أخيك- أعاذه [6] الله من فقدك- فعز نفسك بما عزّاك الله به، واعلم
__________
[1] تاريخ الطبري 8/ 366. والكامل 5/ 359- 361.
[2] في الأصل: «غسيه» .
[3] في الأصل: «اسا» .
[4] في الأصل: «لا يجوز» .
[5] في الأصل: «الّذي عنده» .
[6] في الأصل: «أعاده» .

(9/220)


أن الله قد اختار لأمير المؤمنين أفضل الدارين، وأجزل الحظين، فقم في أمرك قيام ذي الحزم، والناظر لأخيه وسلطانه، وعامة المسلمين، وإياك أن يغلب عليك الجزع، فإنه يحبط/ الأجر، ويعقب الوزر، وصلوات الله على أمير المؤمنين حيا وميتا، وإنا للَّه وإنا إليه راجعون، ثم إنا للَّه وإنا إليه راجعون وخذ البيعة على من [1] قبلك من قوادك وجندك، وخاصّتك وعامّتك، لأخيك ثم لنفسك، ثم للقاسم ابن أمير المؤمنين، على الشرط التي جعلها لك أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فإنك مقلد من ذلك ما قلدك الله وخليفته، فاعلم من قبلك رأيي في صلاحهم، وسد خلتهم، والتوسعة عليهم، فمن أنكرته عند بيعته، أو اتهمته على طاعته، فابعث إلي برأسه، وإياك وإقالته، فإن النار أولى به. واكتب إلى عمال ثغورك، وأمراء أجنادك بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين، وأعلمهم أنّ الله لم يرض الدّنيا ثوابا له حتى قبضه إلى رحمته وجنته [2] ، مغبوطا محمودا. ومرهم أن يأخذوا البيعة عَلَى أجنادهم وخواصهم وعوامهم على مثل ما أمرتك به، وأوعز إليهم في ضبط ثغورهم، والقوّة على عدوهم، وأعلمهم أني متفقد أحوالهم، ولام شعثهم، وموسّع عليهم، واعمل فيما تأمر به لمن حضرك أو نأى عنك من أجنادك، على حسب ما ترى وتشاهد، فإن أخاك يعرف حسن اختيارك، وصحة رأيك، وبعد نظرك، وهو يستحفظك الله، ويسأله أن يشد بك عضده، ويجمع بك أمره، إنه لطيف لما يشاء.
وكتب بكر بن المعتمر بين يدي بإملائي في شوال سنة اثنتين وتسعين ومائة [3] .
وكتب إلى صالح أخيه:
إذا ورد عليك كتابي هذا عند وقوع/ ما قد سبق من علم الله، ونفذ من قضائه في خلفائه وأوليائه، وجرت به سنته في الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، فقال تعالى:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 28: 88 [4] فاحمد الله على ما صار إليه
__________
[1] في الطبري: «عمن» .
[2] في الطبري: «روحه وراحته وجنته» .
[3] تاريخ الطبري 8/ 367، 368.
[4] سورة: القصص، الآية: 88.

(9/221)


أمير المؤمنين من عظيم ثوابه ومرافقة أوليائه [1] ، وصلى الله على أمير المؤمنين حيا وميتا، وإنا للَّه وإنا إليه راجعون، وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على أمة نبيه صلَّى الله عليه وسلّم، فقد كان لهم عصمة وكهفا، وبهم رءوفا رحيما، فشمر في أمرك، وإياك أن تلقي بيديك [2] ، فإن أخاك قد اختارك لما استنهضك له، وهو متفقد مواقع فعلك [3] ، فحقق ظنه، ونسأل الله التوفيق. وخذ البيعة على من قبلك من ولد أمير المؤمنين، فإن السعادة واليمن في الأخذ بعهده، والمضيّ على منهاجه [4] . وأعلم من قبلك من الخاصة والعامة رأيي في استصلاحهم، ورد مظالمهم، وتفقد حالاتهم، وإدرار [5] أرزاقهم وأعطياتهم، فإن شغب شاغب، أو نعر ناعر، فاسط به سطوة تجعله نكالا، واضمم إلى الفضل بن الربيع ولد أمير المؤمنين وحرمه وأهله، ومره بالمسير معهم فيمن معه من جنده ورابطته، وصير إلى عبد الله بن مالك أمر العسكر وأحداثه، فإنه ثقة على ما يلي، مقبول عند العامة، ومره بالجد والتيقظ، وتجديد الحرم [6] ، وتقديم الحزم في أمره كله، وأقر حاتم بن هرثمة على ما هو عليه، ومره بحراسة/ ما يحيط به [7] من قصور أمير المؤمنين، ومر الخدم بإحضار روابطهم ممن يسد بهم [8] وبأجنادهم مواضع الخلل من عسكرك. والسلام [9] .
ولما بلغ المأمون الخبر نعى الرشيد على المنبر، وشق ثوبه ونزل، وأمر للناس بمال، وبايع لمحمد ولنفسه، وأعطى الجند [رزق] [10] اثني [11] عشر شهرا [12] .
__________
[1] في الطبري: «أنبيائه» .
[2] في الأصل: «بيدك» .
[3] في الطبري: «مواقع فقدانك» .
[4] في الطبري: «على مناهجه» .
[5] في الطبري: «وأداء» .
[6] «وتجديد الحرم، ليس في الطبري» .
[7] في الطبري: «لا يحفظ به» .
[8] الأصل: «يشد بهم» والتصحيح من الطبري.
[9] تاريخ الطبري 8/ 368، 369.
[10] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. وأوردناه من الطبري.
[11] في الأصل: «لاثنى عشر» .
[12] تاريخ الطبري 8/ 370.

(9/222)


ولما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القواد والجند وأولاد هارون، تشاوروا في اللحاق بمحمد، فقال الفضل بن الربيع: لا أدع ملكا حاضرا لآخر، ما ندري ما يكون من أمره. وأمر الناس بالرحيل، ففعلوا ذلك محبة منهم للحوق بأهليهم ومنازلهم ببغداد، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون، فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمرو، فجمع من معه من قواد أَبِيهِ، منهم: عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ، وشبيب بن حميد بن قحطبة، وذو الرئاستين [وهو] [1] عنده من أعظم [الناس] [2] قدرا، وأخصهم به، فأخبرهم وشاورهم، فأشاروا عليه أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة، فيردهم، فدخل عليه ذو الرئاستين فَقَالَ: إن فعلت ما أشاروا عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد [3] ، ولكن الرأي أن تكتب كتابا، وتوجه إليهم رسولا، فتذكرهم البيعة، وتسألهم الوفاء، وتحذرهم الحنث، وما يلزمهم في ذلك في الدين والدنيا، فتستبرئ ما عند القوم. فكتب كتابا، ووجهه مع سهل بن صاعد، ونوفل الخادم، فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل.
فقال الفضل بن الربيع: إنما أنا رجل واحد منهم. وشد على سهل عبد الرحمن/ ابن جبلة بالرّمح [4] ، وقَالَ: قل لصاحبك: والله لو كنت حاضرا لوضعت الرمح في فيك، هذا جوابي. ونال من المأمون، فرجعا بالخبر.
فقيل للمأمون: أعداء قد استرحت [منهم] [5] ، فابعث إلى الفقهاء فادعهم إلى الحق والعمل به، وأحياء السنة [6] .
ففعل، وحط عن خراسان ربع الخراج، ورد المظالم، وأقام على ولايته، وكاتب الأمين بالتعظيم منهم، وأهدى له هدايا كثيرة من فنون الطرف [7] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأضفناه من الطبري.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وقد أضفناه من الطبري.
[3] في الطبري: «جعلت هؤلاء هدية إلى محمد» . وفي الكامل لابن الأثير: «جعلوك هدية إلى أخيك» .
[4] في الأصل: «وشد على سهل بن عبد الرحمن بن جبلة بالرمح» .
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأوردناه من الطبري.
[6] تاريخ الطبري 8/ 370- 372.
[7] تاريخ الطبري 8/ 372.

(9/223)


وأما الأمين فإنه تشاغل باللهو واللعب، وبنى ميدانا حول قصر المنصور للصوالجة، وعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة: الأسد، والفيل، والعقاب، والفرس، والحية. وأمر لبعض من أنشده بثلاثمائة ألف دينار، وأوقر لشاعر أنشده ثلاثة أبغل دراهم.
قال الصولي: حدثني أحمد بن يزيد المهلبي، عن أَبِيهِ قَالَ: لما ولي الأمين الخلافة استبطأ الناس جلوسه، وقالوا: تشاغل باللهو. فجلس، وأمضى الأمور، وقال:
أتراني لا أعرف الإصدار والإيراد، ولكن شرب كأس، وسم آس، والاستلقاء من غير نعاس أحب إلي من مداراة النَّاسَ.
وفي هذه السنة: دخل هرثمة حائط سمرقند، ولجأ رافع إلى المدينة الداخلة، وراسل رافع التُّرْكُ فوافوه، فصار هرثمة هو ورافع والترك، ثم انصرف هرثمة إلى الترك، وضعف رافع [1] .
وفيها: قتل نقفور ملك الروم في حرب برحان، / وكان ملكه سبع [2] سنين، وملك بعده ابنه استبراق [3]- وكان مجروحا [4]- شهرين ومات، وملك ميخائيل ختنه على أخته [5] .
وأقر الأمين أخاه القاسم على ولايته التي ولاه الرشيد من عمل الجزيرة وقنّسرين والثغور، ثم صرفه عن الجزيرة في هذه السنة، واستعمل عليها خزيمة بن خازم [6] .
وفي ذي القعدة: توفي إسماعيل بن علية، وكان على المظالم، فولى الأمين
__________
[1] تاريخ الطبري 8/ 373.
[2] في الطبري: «سبع» . وفي إحدى نسخ الطبري: «تسع» . وفي الكامل: «سبع» .
[3] في الأصل: «استبرق» .
[4] في الأصل: «مجروح» ، وهو خطأ.
[5] تاريخ الطبري 8/ 373. والكامل 5/ 362.
[6] تاريخ الطبري 8/ 373. والكامل 5/ 362.

(9/224)


مكانه محمد بن عبد الله الأنصاري على المظالم والقضاء ببغداد [1] .
وفيها: حج بالناس داود بن عيسى بن مُوسَى، وكان والي مكة [2] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
1058- إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، أبو بشر الأسدي مولاهم، يعرف بابن علية
[3] .
من أهل البصرة، وأصله كوفي. سمع من أبي الساج الضبعي حديثا واحدا.
وروى الكثير: عَن عَبْد العزيز بن صهيب، وأيوب السجستاني، وابن عون، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، وغيرهم.
وحدث عَنْه: ابن جريح، وشعبة، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد، ويحيى، وعليّ، وغيرهم. وكان حافظا، ثقة، مأمونا، ورعا، تقيا، وكان يقرأ في الليل ثلث القرآن.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن علي، حدثنا الجوهري، حدثنا محمد بن العباس، أخبرنا أحمد بن معروف الخشاب/ حدثنا الحسين بن فهم، حدثنا محمد بن سعد قَالَ: إِسْمَاعِيل بن إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، مولى عبد الرحمن بن قطبة الأسدي- أسد خزيمة- وكان إبراهيم تاجرا من أهل الكوفة، وكان يقدم البصرة بتجارته، فتزوج علية بنت حسان مولاة لبني شيبان، وكانت امرأة نبيلة عاقلة، لها دار بالعوقة تعرف بها، وكان صالح المري وغيره من وجوه البصرة وفقهائها يدخلون فتحادثهم وتسائلهم، فولدت لإبراهيم إسماعيل سنة عشر ومائة، فنسب إليها، وكان ابن إبراهيم ثقة ثبتا في الحديث حجة، وقد ولي صدقات البصرة، وولي ببغداد
__________
[1] الكامل 5/ 362.
[2] تاريخ الطبري 8/ 373.
[3] تاريخ بغداد 6/ 229- 240. والجرح والتعديل 2/ 153. والتاريخ الكبير 1/ 342. وطبقات ابن سعد 7/ 325. وتهذيب التهذيب 1/ 275. والتقريب 1/ 65.

(9/225)


المظالم في آخر خلافة هارون [1] .
قال مؤلف الكتاب: وقد زعم علي بن حجر أن علية جدته لأُمّه.
وكان إسماعيل يَقُولُ: من قال ابن علية فقد اغتابني. إلا أن هذا شاع فعرف بِهِ [2] .
وقال أحمد بن حنبل: فاتني مالك فأخلف الله علي سفيان بن عيينة، وفاتني حماد بن زيد فأخلف الله علي إسماعيل بن علية.
وقال شُعْبَة: ابن علية سيد المحدثين.
أنبأنا زاهر بن طاهر، حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم قَالَ: سمعت أبا الفضل محمد بن إبْرَاهِيم يَقُولُ: حدثنا أحمد بْن سلمة، حدثنا عمرو بن زائدة قَالَ: صحبت ابن علية ثلاث عشرة سنة، ما رأيته تبسم فيها [3] .
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو العلاء محمد بن علي الواسطي، أخبرنا أبو الفوارس/ إبراهيم بن أحمد بن محمد الفارسيّ، حدّثنا أبو الحسين يحيى بن محمد، حدثنا مسبح بن حاتم قَالَ: قال عبد الله بن محمد بن جعفر بْن عائشة، حدثنا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد: أن عبد الله بن المبارك كان يتجر في البز، وكان يقول: لولا خمسة ما تجرت. فقيل لَهُ: يا أبا محمد، من الخمسة؟ فَقَالَ: سفيان الثوري، وسُفْيان بن عُيَيْنَة، والفضيل بن عياض، ومحمد بن السماك، وابن علية. وكان يخرج إلى خراسان فيتجر، فما ربح من شيء أخذ القوت للعيال ونفقة الحج، والباقي يصل به إخوانه الخمسة. قَالَ: فقدم سنة، فقيل لَهُ: قد ولي ابن علية القضاء. فلم يأته ولم يصله بالصرة التي كان [4] يصله
__________
[1] تاريخ بغداد 6/ 230.
[2] تاريخ بغداد 6/ 231.
[3] تاريخ بغداد 6/ 235.
[4] في الأصل: «التي كانت» .

(9/226)


بها في كل سنة، فبلغ ابن علية أن ابن المبارك قد قدم، فركب إليه، فلم يرفع به عبد الله رأسا، ولم يكلمه، فانصرف، فلما كان من الغد كتب إليه رقعة فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم. أسعدك الله بطاعته، وتولاك بحفظه، وحاطك بحياطته، قد كنت منتظرا لبرك وصلتك أتبرك بها، وجئتك أمس فلم تكلمني، ورأيتك واجدا علي، فأي شيء رأيت مني حتى أعتذر إليك منه؟
فلما وردت الرقعة على عبد الله دعا بالدواة والقرطاس وقَالَ: يأبى هذا الرجل إلا أن نشق [1] له العصا، ثم كتب إِلَيْهِ:
يا جاعل الدين له بازيا ... يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها ... بحيلة تذهب بالدين
/ فصرت مجنونا بها بعد ما ... كنت دواء للمجانين
أين رواياتك في سردها ... عن ابن عون وابن سيرين
أين رواياتك والقول في ... إتيان أبواب السلاطين
إن قلت أكرهت فذا باطل ... زل حمار العلم في الطين
فلما وقف ابن علية على الأبيات قام من مجلس القضاء، فوطئ بساط هارون، وقَالَ: يا أمير المؤمنين، الله الله ارحم شيبتي، فإني لا أصبر للخطأ. فقال له هارون:
لعل هذا المجنون قد أغرى بقلبك. فقال لَهُ: الله الله أنقذك الله. فأعفاه من القضاء، فلما اتصل بعبد الله بن المبارك ذلك وجه إليه بالصرة [2] .
توفي ابن علية في ذي القعدة من هذه السنة، ودفن في مقابر عبد الله بن مالك.
1059- محمد بن جعفر، أبو عبد الله الْبَصْرِيّ، يلقب: غندر [3] . وهو مولى لهذيل
[4] .
__________
[1] في تاريخ بغداد: «أن نقشر» .
[2] تاريخ بغداد 6/ 235، 236.
[3] في الأصل: «عندر» .
[4] التاريخ الكبير 1/ 57. والجرح والتعديل 7/ 221. وطبقات ابن سعد 7/ 296. وتهذيب التهذيب 9/ 96. والتقريب 2/ 151.

(9/227)


بَصْرِيّ صاحب سعيد بن أبي عروبة، جالس شعبة نحوا من عشرين سنة، وسمع من جماعة غيرهما، وكان إماما ثقة، أخرج عنه في الصحيحين. وكان فيه سلامة صدر.
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، أخبرنا سعد الله بن علي بن أيوب، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمَأْمُونِ، أخبرنا أبو الفضل مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْمَأْمُونِ، حَدَّثَنَا أَبُو بكر بن الأنباري قَالَ: حدثني مُحَمَّد بْن المرزبان قَالَ: حدثني أبو محمد المروزي، حدثنا عبد الله بن بشير، عن سليمان بن أيّوب صاحب البصري قَالَ: قيل لغندر إن الناس يعظمون أمر السلامة التي فيك، / قَالَ: يكذبون. قال: قُلْتُ: فحدثني منها بشيء صحيح. قَالَ: صمت يوما فأكلت ثلاث مرات ناسيا، ثم ذكرت أني صائم، ثم نسيت، فثنيت، ثم ثلثت، فأتممت صومي.
قال ابن المرزبان: وحدثنا عباس بن محمد، عن يحيى بن معين قال: اشترى غندر يوما سمكا، وقَالَ لأهله: اصلحوه. ونام، فأكل عياله السمك ولطخوا يده، فلما انتبه قَالَ: قدموا السمك. قالوا: قد أكلت. قَالَ: لا. قالوا: فشم يدك. ففعل، فَقَالَ:
صدقتم، ولكن ما شبعت [1] .
قال البخاري في تاريخه [2] : مات في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وذكر ابن سعد في الطبقات [3] أنه مات بالبصرة سنة أربع وتسعين.
قال مؤلف الكتاب: وقد اتفق في أسماء المحدثين أسماء جماعة: محمد بن جعفر، فلقبوا: غندر تشبيها بهذا الرجل، فمنهم:
محمد بن جعفر بن دران بن سليمان، أبو الطيب. توفي سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وسيأتي ذكره [4] في السنين.
ومنهم: محمد بن جعفر، أبو بكر الوراق. توفي سنة سبعين وثلاثمائة.
__________
[1] تهذيب التهذيب 9/ 97، 98.
[2] التاريخ الكبير 1/ 57.
[3] الطبقات الكبرى 7/ 296.
[4] في الأصل: «ذكرهما» .

(9/228)


ومنهم: محمد بن جعفر، أبو بكر القاضي، مولى فاتن المقتدري. روى عن ميسرة بن عبد الله الخادم.
ومحمد بن جعفر. حدث عن الحسن بن علي العمري. / روى عن أحمد بن الفرج بن حجاج.
كل هؤلاء يلقب، غندر، واسمه: محمد بن جعفر.
1060- مروان بن معاوية بن الحارث بن عثمان بن أسماء بن خارجة بن عيينة بن حصن الفزاري
[1] .
كوفي الأصل. سَمِعَ إسماعيل بن خَالِد، وعاصما الأحول. وحميد الطويل، والأعمش.
وقَالَ: أتيت الأعمش فقال لي: قد قسم جدك أسماء قسما، فنسي جارا لَهُ، ثم استحى أن يعطيه وقد بدأ بآخر قبله، فبعث عليه، وصب عليه المال صبا.
وكان مروان قد تحول إلى دمشق، فسكنها، وقدم بغداد، فحدث بها، فروى عَنْه قتيبة، وأحمد بن حنبل، ويحيى، وأبو خيثمة، وابن راهويه. ثم عاد إلى مكَّةَ. وكان ثقة، إلا أنه كان يروي عن ضعاف ويدلسهم.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا ابن الفضل، حدثنا عبد الله بن جعفر، حَدَّثَنَا يعقوب بن سُفْيان قَالَ: سمعت مهدي بن أبي مهدي قَالَ: كان في خلق الفزاري شراسة، وكان معيلا شديد الحاجة، وكان الناس يبرونه، فإذا بره الإنسان كان ما دام ذلك البر عنده في منزله يعرف فيه الانبساط إلى الرجل. قَالَ: فنظرت فلم أجد شيئا أبقى في منزل الرجل من الخل، ولا أرخص منه بمكة، فكنت أشتري جرة من خل فأهدي له، فأرى موقع ذلك منه، فإذا فنى أرى ذلك منه، فأسأل الجارية: أفني خلكم؟
فتقول: نعم. فأشتري جرة، فأهديها له، فيعود/ إلى ما كان عَلَيْهِ [2] توفي بمكة قبل التروية بيوم من هذه السنة.
__________
[1] تاريخ بغداد 13/ 149- 152. والجرح والتعديل 8/ 272. وطبقات ابن سعد 7/ 329. وتهذيب التهذيب 10/ 97. والتقريب 2/ 239.
[2] تاريخ بغداد 13/ 151، 152.

(9/229)


1061- هارون الرشيد، أمير المؤمنين، ابن المهدي
[1] .
كان بالرقة، وكان جبرئيل بن بختيشوع يدخل عليه كل يوم، فإن أنكر شيئا وصفه لَهُ، فذكر له ما يصلح، فدخل عليه يوما، فرآه مهتما، فسأله عن حاله، فَقَالَ: لرؤيا رأيتها أفزعتني. فقال: لعلها من بخارات رديئة، أو من تهاويل السوداء: فَقَالَ: رأيت كأني جالس على سريري هذا، إذ مدت إلي من تحتي ذراع أعرفها، وكف أعرفها، وفي الكف تربة حمراء، فقال لي قائل اسمعه ولا أرى صفته: هذه التربة التي تدفن فيها.
فقلت: أين هذه التربة؟ فَقَالَ: بطوس. وغابت اليد وانتبهت. فقال له الطبيب: أحسبك أخذت مضجعك ففكرت في خراسان وحروبها. فقال: قد كان ذلك. ومرت الأيام، ونسي، واتفق خروجه إلى خراسان حين تحرك رافع الخارجي، فلما كان ببعض الطريق ابتدأت به العلة، وما زالت تزيد حتى دخل إلى طوس، فمرض في بستان هناك، فبينا هو في البستان وذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملا يقوم ويسقط، فاجتمعوا إليه، كلّ يقول: يا سيدي، ما جاء لك!؟ فَقَالَ: يا جبريل، تذكر رؤياي بالرقة، في طوس. ثم رفع رأسه إلى مسرور فَقَالَ: جئني من تربة هذا البستان/ فمضى وأتى بالتربة في كفه حاسرا عن ذراعه، فلما نظر إِلَيْهِ قَالَ: والله هذه الذراع التي رأيتها في منامي، وهذا والله الكف بعينه، وهذه والله التربة الحمراء ما خرمت شيئا. وأقبل على البكاء والنحيب بعد هذا الكلام ثلاثة أيام [2] .
وفي رواية أخرى: أنه رأى في المنام أن امرأة وقفت عليه، وأخذت كف تراب وقالت: هذه تربتك عن قليل. فأصبح فزعا، فقص رؤياه، فقال له أصحابه: وما في هذا؟ قد يرى النائم أغلظ من هذا. فبينا هو يوما يسير إذ نظر إلى امْرَأَة فَقَالَ: هذه والله المرأة التي رأيتها في منامي، ولقد رأيتها بين ألف امرأة ما خفيت عليّ، ثم أمرها أن تأخذ كفا من تراب فتناوله، فضربت بيدها الأرض، وناولته، فَقَالَ: هذه والله التربة التي رأيتها، وهذه المرأة بعينها. وكان إذ مات [3] هناك.
__________
[1] البداية والنهاية 10/ 213- 222. والكامل 5/ 352- 359. وتاريخ الطبري 8/ 342- 364.
[2] البداية والنهاية 10/ 213. والكامل 5/ 352، 353. وتاريخ الطبري 8/ 342- 344.
[3] هكذا بالأصل.

(9/230)


وروى الصولي قال: حدثني حسين بن يحيى قَالَ: سمعت هبة الله بن إبراهيم بن المهدي يحدث عنه أَبِيهِ قال: أحب الرشيد أن يعرف حقيقة علته، وعلم أن ابن يختيشوع يكتمه، فواطأ إنسانا من أهل طوس وسأله أن يلاطف بختيشوع، ففعل، ثم أعطى الرجل ماءه وقال له: اذهب به إلى ابن بختيشوع على أنه ماء لمريض لك. ففعل الرجل ذَلِكَ، فلما رأى ابن بختيشوع الماء قَالَ لبعض من معه: كأنه والله ماء الرجل ففطن الذي جاء بالماء، فقال لابن بختيشوع: اتق الله في، فإن بيني وبين [1] هذا الرجل/ معاملات، فإن كان يعيش لم استقص عَلَيْهِ، وأن كان يموت فرغت مما بيني وبينه.
فَقَالَ: تريد أن أصدقك؟ قَالَ: نعم. قال: صاحب هذا الماء لا يعيش إلا أياما. فعاد الرسول وأخبر الرشيد بذلك. وعلم ابن بختيشوع بالأمر، فاختفى إلى أن مات الرشيد، ولما قرب موت الرشيد جعل يقول:
إني بطوس مقيم ... ما لي بطوس حميم
أرجو إلهي لما بي ... فإنه بي رحيم
لقد أتاني بطوس ... قضاؤه المحتوم
[2] وقَالَ: (احفروا لي قبرا. فحفروا له في ذلك البستان. فَقَالَ: احملوني أنظر إِلَيْهِ.
فحمل فنظر إليه، فجعل يَقُولُ: أغثني أغثني، وارحم عبرتي. ثم قَالَ: قربوني قليلا.
فقربوه، فنظر في القبر فقال: وسعوا عند الصدر قليلا. ففعلوا، وهو ينظر، وأنزل قوما فختموا فيه القرآن، وقَالَ: مدوا موضع الرجلين. ففعلوا، وهو في محفة على شفير القبر، ثم شخص ببصره إلى السماء وقال: يا من لا يموت، ارحم من يموت، يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه [3] . ثم بكى بكاء شديدا، وأنشد:
/ أنا ميت وعز من لا يموت ... قد تيقنت أنني سأموت
ليس ملك يزيله الموت ملكا ... إنما الملك ملك من لا يموت
وتوفي ليلة الأحد، وقيل: ليلة السبت نصف الليل، لغرّة جمادى الأولى، لثلاث
__________
[1] في الأصل: «فإن سسى وس» بدون نقط.
[2] البداية والنهاية 10/ 221.
[3] البداية والنهاية 10/ 213.

(9/231)


خلون منه، من سنة ثلاث وتسعين، فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة، وشهرين، وثمانية عشر يوما، وكان له سبع وأربعون سنة، وخمسة أشهر، وخمسة أيام. وقيل:
خمس وأربعون سنة. وقيل: ست وأربعون. وصلى عليه ابنه.
وتوفي وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف ونيف. وذكر بعض المؤرخين أنه خلف ما لم يخلفه أحد من الملوك من العين والورق والجوهر والدواب والأثاث، ما بلغ قيمته سوى قيمة الضياع: مائة ألف ألف دينار [1] .
ورثاه أبو الشيص فَقَالَ:
غربت في الشرق شمس ... فلها العينان تدمع
ما رأينا قط شمسا ... غربت من حيث تطلع
[2] .
1062- أبو بكر بن عياش بن سالم بن الحناط، مولى واصل بن حيان الأسدي
[3] .
وقد اختلفوا في اسمه، فقيل: شعبة، وقيل: مُحَمَّد، وقيل: مُطَرِّف، وقيل:
رؤبة، / وقيل: سالم، وقيل: اسمه كنيته.
ولد سنة سبع وتسعين، وقيل: أربع وتسعين، وقيل: خمس وتسعين، وقيل:
ست وتسعين.
سمع أبا إسحاق السبيعي، وسليمان التيمي، والأعمش، وإسماعيل بن أبي خَالِد، وهشام بْن عُرْوَة، وغيرهم.
روى عَنْه: ابن المبارك، وابن مهدي، وحسين الجعفي، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وغيرهم.
وكان ثقة متشددا في السّنّة، إلا أنه ربما أخطأ في الحديث.
__________
[1] البداية والنهاية 10/ 222.
[2] البداية والنهاية 10/ 22، وتاريخ الطبري 8/ 364.
[3] تاريخ بغداد 14/ 371- 385. والتاريخ الكبير 9/ 14. وتهذيب التهذيب 12/ 34. والتقريب 2/ 399. وطبقات ابن سعد 6/ 376. والأنساب للسمعاني 4/ 239. وفي الأصل: «الخياط» بدلا من «الحناط» وكذلك في تاريخ بغداد، والتاريخ الكبير.
وما أثبتناه هو الصحيح، يؤكده ما في الأنساب للسمعاني 4/ 239.

(9/232)


أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن علي بن ثابت، أخبرنا البرقاني قَالَ: قرأت عَلَى أبي القاسم النحاس، أخبرنا ابن أبي دَاوُد، حدثنا إسحاق بن وَهْبِ قَالَ: سمعت يزيد بْن هارون وذكر عنده أبو بكر بن عياش، فقال: كان أبو بكر بن عياش خيرا فاضلا، لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة [1] .
أخبرنا القزاز، [أخبرنا الخطيب، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْعَلاءِ الْوَاسِطِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن جعفر التميمي بالكوفة، أخبرنا أبو بكر الدارمي، حدثنا الحسن بن يحيى بن أبان] [2] ، عن ابن هشام الرفاعي قَالَ: سمعت أبا بكر بن عياش يَقُولُ: لي غرفة قد عجزت عن الصعود إليها وما يمنعني من النزول منها إلا أني أختم فيها القرآن كل يوم وليلة ختمة ستون سنة [3] .
أخبرنا القزاز، [أخبرنا الخطيب، أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عمر الدوادي، حدثنا محمد بن العباس بن الفرات، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حدثنا أبو شيخ الإصبهاني، حدثنا دلويه قَالَ: سمعت] [4] عليًّا- يعني ابن محمد ابن أخت يعلى بن عُبَيْد- يقول: مكث أبو بكر/ بن عياش عشرين سنة وقد نزل الماء في إحدى عينيه ما يعلم به [5] أهله [6] .
وأخبرنا القزاز [أخبرنا الخطيب، أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن أَحْمَد بن البراء، حدثنا] [7] إسحاق بن
__________
[1] تاريخ بغداد 14/ 380.
[2] في الأصل: «أخبرنا القزاز بإسناده عن أبي هشام» .
وما أضفناه من تاريخ بغداد.
[3] تاريخ الطبري 14/ 382.
[4] في الأصل: «أخبرنا القزاز بإسناد له عن علي بن محمد بن أخته يعلى بن عبيد» .
وما أضفناه من تاريخ بغداد.
[5] في الأصل: «ما لم يعلم» .
[6] تاريخ الطبري 14/ 380، 381.
[7] في الأصل: «أخبرنا القزاز بإسناد له عن إسحاق بن الحسين» .
وما أضفناه من تاريخ بغداد.

(9/233)


الحُسَين قَالَ: كان أبو بكر بن عياش [لما كبر] [1] يأخذ إفطاره، ثم يغمسه في إناء في جر [2] كان لَهُ في بيت مظلم، ويقول: يا ملائكتي، طالت صحبتي لكما، فإن كان [3] .
لكما عند الله شفاعة فاشفعا [4] .
وتوفي أبو بكر بن عياش في هذه السنة، وقد جاز التسعين، وقد قِيلَ أنه [جاز] ستا [5] وتسعين.
وأخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا ابن بشر، أخبرنا ابن صفوان، أخبرنا ابن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن المثنى قَالَ: سمعت إبراهيم بن شماس قال: سمعت إبراهيم بن أَبِي بكر بن عياش يَقُولُ: شهدت [6] أبي عند الموت فبكيت، فَقَالَ: يا بني، ما يبكيك؟ فما أتى أبوك فاحشة قط [7] .
ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة. يذكر ما فيها في أول الجزء العاشر، التالي لهذا الجزء إن شاء الله تعالى.
والحمد للَّه وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأضفناه من تاريخ بغداد.
[2] في الأصل: «جرة» .
[3] في الأصل: «كانت» .
[4] تاريخ بغداد 14/ 382.
[5] في الأصل: «فقد قيل انه ستا وتسعين» .
[6] في الأصل: «سهدت» .
[7] تاريخ بغداد 14/ 383.

(9/234)


[المجلد العاشر]
بِسم الله الرَحمنِ الرَحيم وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله
ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها:
مخالفة أهل حمص عاملهم إسحاق بن سليمان، وكان محمد ولاه إياها، فلما خالفوه انتقل إلى سلمية، فصرفه محمد عَنْهُمْ، وولى عليهم مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي، فقتل عدة من وجوههم، وضرب مدينتهم من نواحيها بالنار، فسألوه الأمان فأجابهم وسكنوا ثم هاجوا، فضرب أيضا أعناق عدة منهم [1] .
وفيها: عزل محمد أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الشام وقنسرين والعواصم، وولى مكانه خزيمة بن خازم، وأمره بالمقام بمدينة السلام [2] .
وفيها: بدأ الفساد بين الأمين والمأمون، وكان السبب في ذلك: أن الفضل بن الربيع، فكر بعد مقدمه العراق على محمد، منصرفا عن طوس، وناكثا للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله، فعلم أن الخلافة إن أفضت يوما إلى المأمون وهو حي [3] لم يبق عَلَيْهِ، فسعى في إغراء محمد به، وحثه على خلعه، وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه الوفاء بما ضمن [4] ، فلم يزل الفضل يصغّر عنده شأن المأمون، ويزيّن له خلعه، / وأدخل معه
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 374.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 374.
[3] في الأصل: «وهي» .
[4] في الطبري: «بل كان عزمه الوفاء لأخويه» .

(10/3)


في ذلك علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما، فأزاله عن رأيه.
فأول ما بدأ به محمد عن رأي الفضل بن الربيع فيما دبر من ذَلِكَ، أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار بالدعاء لابنه موسى بالإمرة بعد الدعاء له وللمأمون [والقاسم بْن الرشيد] [1] ، فلما بلغ ذلك إلى المأمون وعرف عزل القاسم وإقدامه على التدبير على خلعه قطع البريد عن محمد، وأسقط اسمه من الطّرز والضرب.
وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون وحسن سيرته في أهل عمله وإحسانه إليهم، بعث في طلب الأمان لنفسه، فسارع إلى ذلك هرثمة، وخرج رافع فلحق بالمأمون، وهرثمة بعد مقيم بسمرقند، فأكرم المأمون رافعا، ولما دخل رافع في الأمان استأذن هرثمة المأمون في القدوم عليه، فعبر نهر بلخ بعسكره والنهر جامد، فتلقاه الناس، وولاه المأمون الحرس، فأنكر ذلك كله محمد، فبدأ بالتدبير على المأمون، فكان أول ما دبر عليه أنه كتب للعباس بن عبد الله بن مالك- وهو عامل المأمون على الري- يأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري- مريدا بذلك امتحانه- فبعث إليه ما أمره به، وكتم ذلك عن المأمون وذي الرئاستين، فبلغ المأمون، فعزل العباس، ثم وجه محمد إلى المأمون رسلا ثلاثة: العباس بن موسى/ بن عيسى، وصالح صاحب المصلى، ومحمد بن عيسى بن نهيك، وكتب إليه كتبا معهم يسأله تقديم موسى على نفسه، ويذكر أنه قد سماه: الناطق بالحق، وكان ذلك بمشورة علي بن عيسى بن ماهان، فرد المأمون ذلك، وسمي المأمون في ذلك اليوم: الإمام.
وكان سبب هذه التسمية: ما جاءه من خلع محمد له، ثم ضمن ذو الرئاستين للعباس ولاية الموسم وما شاء من أموال مصر، فما برح حتى أخذ منه البيعة للمأمون، وكان يكتب إليهم الأخبار، ويشير عليهم بالرأي، ورجعت الرسل إلى الأمين وأخبروه بامتناعه، وألح الفضل بن الربيع وعلي بن موسى على محمد في البيعة لابنه، وخلع المأمون، وكان الأمين يشاور في خلع المأمون فينهاه القواد، وقال له خزيمة بن خازم: لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك- فبايع لابنه موسى، وأحضنه علي بْن عيسى، وولاه العراق.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.

(10/4)


وكان أول ما أخذ له البيعة بشر بن السميدع، وكان واليا على بلد، ثم أخذها صاحب مكة وصاحب المدينة على خواص من الناس قليل، دون العامة ونهى الفضل بن الربيع عن ذكر عبد الله والقاسم، والدعاء لهما على شيء من المنابر، ودس لذكر عبد الله والوقيعة فيه. ووجه إلى مكة كتابا مع رسول من حجبة البيت في أخذ الكتابين اللذين كان هارون اكتتبهما، وجعلهما في الكعبة، فقدم بهما عليه، وتكلم في ذلك بقية الحجبة، فلم يحفل بهم، فلما أتاه بهما أجازه بجائزة عظيمة ومزقهما [1] .
/ وكان محمد قد كتب إلى المأمون قبل مكاشفة المأمون إياه بالخلاف يسأله أن يتجافى لَهُ عن كور من كور خراسان سماها له، وأن يوجه العمال إليها من قبله، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد ليكتب إليه بخبره، فاشتد ذلك على المأمون، وشاور في ذلك الفضل بن سهل وأخاه الحَسَن، ثم كتب إِلَيْهِ:
قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسألني التجافي عن مواضع سماها مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إلي، ولو لم يكن ذلك مثبتا بالعهود والمواثيق المأخوذة، ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة، وجنود لا تستتبع طاعتها إلا بالأموال، لكان في ذلك نظر أمير المؤمنين لعامته، وما يحب من لم أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحق، ووكد به مأخوذ العهد [2] .
وكان المأمون قد وجه حارسه إلى الحد، فلا يجوز رسول من العراق حتى يوجهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يستعلم خبرا ولا يؤثر أثرا فحصن أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة ورهبة، أو يحملوا على مخالفة. ثم وضع على مراصد الطرق ثقات من الحراس لا يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في أمره [3] ، فيسلم ممن يدخل موغلا في هيئة السابلة والطارئة. وفتّشت [4] الكتب.
__________
[1] تاريخ الطبري 8/ 374- 377.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 379.
[3] في الأصل: «الظنة من أمره» . وما أثبتناه من الطبري.
[4] في الأصل: «وفتش» .

(10/5)


فوجه محمد جماعة ليناظروا في منعه ما قد سأل، وإنما وجهوا ليعلم أنهم قد عاينوا وسمعوا، ثم يلتمس منهم أن يبدلوا أو يحرفوا [1] ، فيكون عليهم حجة وذريعة/ لما التمس.
فلما صاروا إلى حد الري [2] وجدوا تدبيرا مؤيدا، وعقدا مستحكما [3] ، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم. وكتب بخبرهم من مكانهم، فجاء الإذن في حملهم فحملوا محروسين لا خبر يصل إليهم، ولا خبر يخرج منهم، وقد كانوا على نية بذل الأموال والولايات للمفارقين، فوجدوا ذَلِكَ ممنوعا، فوصلوا ومعهم كتاب الأمين وفيه [4] :
أما بعد، فإن الرشيد وإن كان أفردك بالطرف، وضم إليك من الكور ما ضم، تأييدا لأمرك، فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك، والحق في الفضول أن تكون مردودة في أهلها، فكتبت تلط [5] دون ذلك بما إن تم أمرك عليه صيرنا الحق إلى مطالبتك.
فكتب المأمون: بلغني كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب فيما جهل فأسأل [6] عن وجهه، ولم يسأل ما يوجبه حق فتلزمني الحجة بترك إجابته، فلا تبعثني يا ابن أبي على مخالفتك، وأنا مذعن بطاعتك.
فلما وصل الكتاب تغيظ الأمين، وكتب:
أما بعد، فقد بلغني كتابك غامطا لنعمة الله عليك، متعرضا لحراق نار لا قبل لك بها، فأعلمني رأيك.
فقال المأمون لذي الرئاستين: إن ولدي وأهلي ومالي الذي أفرده الرشيد لي بحضرة محمد- وهو مائة ألف ألف- وأنا إليها محتاج، فما ترى؟
__________
[1] في الطبري «يبذلوا أو يحرموا» .
[2] في الأصل: «إلى حد الرأي» .
[3] في تاريخ الطبري: «مستحصدا» .
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 380.
[5] تلطّ: تجحد.
[6] في الطبري: «فأكشف عن وجهه» .

(10/6)


فقال ذو الرئاستين: بك حاجة إلى مالك وأهلك، فإن منعك صار إلى خلع عهده، وحملك على محاربته، وأنا أكره أن تكون أنت المستفتح باب الفرقة [1] .
قَالَ: فاكتب إليه: أما بعد، فإن نظر أمير المؤمنين للعامة نظر من لا يقتصر على إعطاء النصفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببره وصلته، / فإذا كان للعامة، فأحر بأن يكون ذَلِكَ بصنوه، وقد علم أمير المؤمنين حالا أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها، وأخبار لا تزال تنكث رأيها، وقلة الخراج قبلي، والأهل والمال والولد قبل أمير المؤمنين، وما للأهل- وإن كانوا في كفاية أمير المؤمنين فكان لهم والدا- بد من النزوع إلى كنفي، وقد وجهت لحمل العيال وحمل المال، فرأى أمير المؤمنين في إجازة فلان إلى لرقة في حمل ذلك. والسلام [2] .
فكتب الأمين: أما المال فمن مال الله، وأمير المؤمنين يستظهر لدينه، وبه إلى ذَلِكَ حاجة في تحصين أمور المسلمين، فكان أولى به، وأما الأهل فلم أر من حملهم ما رأيت من تعريضهم للتشتيت، فإن رأيت ذلك وجهتهم مع الثقة.
فلما وصل الكتاب قال ذو الرئاستين: الرأي حسم ما يوجب الفرقة، فإن تطلع إليها فقد تعرض للَّه بالمخالفة وتعرضت بالتأييد والمعونة [3] .
ودس الفضل بن سهل أقواما يكاتبونه بالأخبار اختارهم لذلك، وكان أول ما دبر الفضل أن أقام الأجناد، وأشخص طاهر بن الحسين، فورد الري، فنزلها ووجه الأمين عصمة بن أحمد بْن سالم إلى من بهمدان أن يكون في ألف رجل، وولاه حرب كور الجبل، وأمره أن يقيم بهمدان، وأن يوجه مقدمته إلى ساوة، وجعل الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى يحثان محمدا على/ خلع المأمون [4] .
وفي هذه السنة في ربيع الأول: عقد الأمين لابنه موسى على جميع ما استخلف
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 381.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 382.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 383.
[4] انظر تاريخ الطبري 8/ 386- 387.

(10/7)


عَلَيْهِ، وجعل [صاحب] [1] أمره كله علي بن عيسى بن ماهان، وعلى شرطته محمد بن عيسى بن نهيك، وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك، وعلى خراجه عبد الله بن عبيدة [2] ، وعلى ديوان رسائله علي بن صالح [3] .
وفيها: وثب الروم على ميخائيل، فهرب وترهب، وكان ملكه سنتين، وملك الروم عليهم ليون.
وحج بالناس في هذه السنة داود بن عيسى بن موسى بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وهو كَانَ الوالي على مكة والمدينة. وقيل: حج بهم علي بن الرشيد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
1063- سلم بن سالم، أبو مُحَمَّد- وقيل: أبو عبد الرحمن- البلخي
[4] .
قدم بغداد، وحدث عن إبراهيم بن طهمان، [و] الثوري. روى عنه [5] :
الحسن بن عرفة.
وكان مذكورا بالعبادة والزهد، مكث أربعين سنة لم ير له فراش، ولم ير مفطرا إلا يوم فطر أو أضحى، وما رفع رأسه إلى السماء أكثر من أربعين سنة. [6] وكان داعيا في الإرجاء، وكان صارما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فدخل بغداد، فشنع على الرشيد، فأخذه وحبسه وقيده باثني عشر قيدا، فشنع عليه أبو معاوية الضرير حتى بقيت أربعة، وكان يدعو في حبسه ويقول: اللَّهمّ لا تجعل موتي في
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقطة من الأصل، وأضفناه من الطبري.
[2] في الأصل: «بن عبدة» .
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 387.
[4] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 140- 145.
[5] في الأصل: «روى عن» .
[6] انظر: تاريخ بغداد 9/ 141.

(10/8)


حبسه، / ولا تمتني حتى ألقى أهلي. فمات الرشيد فخلت عنه زبيدة، فخرج إلى الحج فوافى أهله بمكة قدموا حجاجا، فمرض فاشتهى البرد، فجمعوا [له] [1] فأكل ومات. وذلك في [ذي] [2] الحجة من هذه السنة.
وقد اتفق المحدثون على تضعيف رواياته.
1064- عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت بن محمد الثقفي البصري
[3] .
ولد سنة ثمان ومائة- وقيل: سنة عشر- وسمع أيوب السجستاني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وخالدا الحداد وغيرهم.
روى عَنْه: الشافعي، وأحمد، وابن راهويه، ويحيى، وغيرهم. وكان ثقة، إلا أنه اختلط في آخر عمره.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنَا يحيى بْن علي بن الطيب الدسكري قَالَ: سمعت أبا محمد الحسن بن أحمد بن سعيد بن عصمة يَقُولُ: سمعت الفضيل بن العباس الهروي يَقُولُ: سمعت عاصما المروزي يَقُولُ:
سمعت عمرو بن عليّ يَقُولُ: كانت غَلَّةُ عَبْد الوهاب بن عبد المجيد في كل سنة ما بين أربعين ألفا إلى خمسين ألفا، فكان إذا أتت عليه السنة ينفقها على أصحاب الحديث، فلم يبق منها شيء [4] .
توفي عبد الوهاب في هذه السنة، وهو ابن أربع وثمانين سنة.
1065- أبو نصر الجهيني المصاب.
أنبأنا ابن ناصر الحافظ، أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت، أنبأنا أبو الحسن بن رزقويه، أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق، أنبأنا العباس بن مسروق، أَنْبَأَنَا أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن الأشهلي قال: سمعت محمد بن
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأضفناه من تاريخ بغداد.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأضفناه من تاريخ بغداد.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 11/ 18- 21.
[4] انظر: تاريخ بغداد 11/ 19- 20.

(10/9)


إسماعيل بن أبي فديك قَالَ: كان عندنا رجل يكنى أبا نصر من جهينة، ذاهب العقل/، في غير ما الناس فيه، لا يتكلم حتى يكلم، وكان يجلس مع أهل الصفة في آخر مسجد رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم، وكان إذا سئل عن شيء أجاب فيه جوابا حسنا مغربا، فأتيته يوما وهو في مؤخر المسجد مع أهل الصفة، منكسا رأسه، واضعا جبهته بين ركبتيه، فجلست إلى جنبه، فحركته فانتبه فزعا، فأعطيته شيئا كان معي، فأخذه فقال: قد صادف منا حاجة، فقلت لَهُ: يا أبا نصر، ما الشرف؟ قَالَ: حمل ما ناب العشيرة، أدناها وأقصاها، والقبول من محسنها، والتجاوز عن مسيئها. قلت له: فما السخاء؟ قال:
جهد مقل. قُلْتُ: فما البخل؟ قال: أف، وحول وجهه عني. قلت: تجيبني؟ قال:
أجبتك.
وقدم علينا هارون الرشيد فأخلي له المسجد، فوقف على قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى منبره، وفي موقف جبريل عليه السلام، واعتنق أسطوانة النبوة، ثم قَالَ: قفوا بي على أهل الصفة. فلما أتاهم حرك أبو نصر وقيل: هو أمير المؤمنين. فرفع رأسه وقال:
أيها الرجل، إنه ليس بين عباد الله وأمة نبيه ورعيتك وبين الله خلق غيرك، وإن الله سائلك عنهم، فأعد للمسألة جوابا، وقد قال عمر بن الخطاب: لو ضاعت سخلة على شاطئ الفرات لخاف عمر أن يسأله الله عنها. فبكى هارون وقَالَ: يا أبا نصر، إن رعيتي غير رعية عمر، ودهري غير دهر عمر. فقال لَهُ: هذا والله غير مغن عنك، فانظر لنفسك، فإنك وعمر تسألان عما خولكما الله. فدعى هارون بصرّة فيها ثلاثمائة/ دينار، فَقَالَ: ادفعوها إلى أبي نصر، فَقَالَ أبو نصر: ما أنا إلا رجل من أهل الصفة، فادفعوها إلى فلان يفرقها عليهم ويجعلني كرجل منهم.
وكان أبو نصر يخرج كل يوم جمعة صلاة الغداة، فيدخل السوق مما يلي الثنية، فلا يزال يقف على مربعة مربعة ويقول: أيها الناس، اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة، إن العبد إذا مات صحبه أهله وماله وعمله، فإذا وضع في قبره رجع أهله وماله وبقي عمله، فاختاروا لأنفسكم ما يؤنسكم في قبوركم رحمكم اللَّه. فلا يزال يعمل ذلك في مربعة مربعة حتى يأتي مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يصلي الجمعة، فلا يخرج من المسجد حتى يصلي العشاء الآخرة.

(10/10)


ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها:
أن الأمين أمر بإسقاط الدراهم والدنانير التي ضربت لأخيه بخراسان في سنة أربع وتسعين، وسبب ذلك: أن المأمون أمر أن لا يثبت فيها اسم محمد، فكانت لا تجوز حينا. [1] وفيها: نهى عن الدعاء على المنابر في عمله كله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء لنفسه، ثم لابنه مُوسَى، وذلك في صفر من هذه السنة، وكان موسى طفلا صغيرا، وذلك عن رأي الفضل بن الربيع، فبلغ ذلك المأمون، فسمي بإمام المؤمنين، وكوتب بذلك [2] .
ولما عزم محمد على خلع المأمون/ قال له الفضل: ألا تعذر إليه [يا أمير المؤمنين] [3] لعله يسلم الأمر في عافية، فتكتب إليه كتابا فتسأله الصفح عما في يديه.
فقال له إسماعيل بْن صبيح: هذا تقوية إليهم، ولكن اكتب إليه فأعلمه حبك لقربه [4] .
فكتب إِلَيْهِ: إني أحب قربك لتعاونني. فكتب إِلَيْهِ: إن مكاني أعود على أمير المؤمنين. ثم دعى الفضل فَقَالَ: ما ترى؟ قَالَ: أن تمسك موضعك قال: كيف؟ مع
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 389.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 389.
[3] ما بين المعقوفتين: زيادة من الطبري.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 400 وما بعدها.

(10/11)


مخالفة محمد والمال والجند معه، والملوك حولي كلهم عدو لي. قَالَ: تصلح ما بيني وبينهم، فلما عرف الأمين أنه لا يأتيه وجه إليه عصمة بن حماد، وأمره بقطع الميرة عن خراسان.
وفيها: عقد الأمين لعلي بن عيسى بن ماهان، وذلك يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الآخر على كور الجبل كلها: نهاوند، وهمدان، وقم، وأصفهان، حربها وخراجها، وضم إليه جماعة من القواد، وأمر له بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطى الجند مالا عظيما، وأمر له من السيوف المحلاة بألفي سيف، وستة آلاف ثوب للخلع، وأحضر الأمين أهل بيته ومواليه وقواده المقصورة بالشماسية يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة، فصلى الجمعة، ودخل وجلس لهم ابنه موسى في المحراب ومعه الفضل بن الربيع وجميع من حضر، فقرأ على جماعتهم كتابا من الأمين يعلمهم رأيه فيهم، وحقه عليهم، وما سبق له من البيعة منفردا بها، ولزوم ذلك لهم، وما أحدث المأمون من/ التسمي بالإمام [1] ، والدعاء إلى نفسه، وقطع البريد، وقطع ذكره من دار الطرز، وأن ما أحدث من ذلك ليس لَهُ.
ثم تكلم الفضل وقال: لا حق لأحد في الخلافة، إلا لأمير المؤمنين محمد، ولم يجعل الله لعبد الله ولا لغيره في ذلك حظا، وأن الأمير موسى قد أمر لكم من صلب ماله ثلاثة آلاف ألف درهم تقسم بينكم يا أهل خراسان [2] .
وفيها: شخص علي بن عيسى إلى الري لحرب المأمون، فكان خروجه عشية الجمعة لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة، وخرج فيما بين صلاة الجمعة إلى صلاة العصر إلى معسكره في زهاء من أربعين ألفا [3] .
ولما أراد الخروج ودع أم جعفر فقالت لَهُ: يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي فأني على عبد الله مشفقة، فاعرف لعبد الله حق إخوته، ولا تبجه بالكلام ولا
__________
[1] من الطبري: «التسمي بالإمامة» .
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 389- 390.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 390.

(10/12)


تفتشره افتشار العبيد، وإن شتمك فاحتمله، ثم دفعت إليه قيدا من فضة فقالت: إن صار في يدك فقيده به.
فشخص ومعه الأمين إلى النهروان يوم الأحد لست بقين من جمادى الآخرة، فعرض الجند، وعاد إلى مدينة السلام، وأقام علي بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثم شخص إلى ما وجه لَهُ مسرعا، حتى نزل همدان، فولى عليها عبد الله بن حميد بن قحطبة، وكان الأمين قد كتب إلى عصمة بن حماد يأمره بالانصراف في خاصة أصحابه، وضم بقية العسكر وما فيه من الأموال إلى علي بن عيسى، وكتب إلى أبي دلف القاسم بن علي بالانضمام إليه فيمن معه من أصحابه، وشخص علي بن عيسى من همدان يريد الري، فكان يسأل عن خراسان فيقال له إن طاهرا مقيم بالري، فيضحك فيقول/ وما طاهر!؟ هل هو إلا شوكة بين أعضائي. فلقيه طاهر في نحو أربعة آلاف، فلما رأى طاهر جمع علي بن عيسى قَالَ: هذا ما لا طاقة لنا به، ولكن نجعلها خارجية نقصد القلب. فحملوا فجرى القتال، فقتل علي بن عيسى وألقي في بئر، وهزم عسكره وأخذ منهم سبعمائة ألف درهم.
وكتب طاهر إلى ذي الرئاستين: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداءك، كتبت إليك ورأس علي بن عيسى بين يدي، وخاتمه في أصبعي، والحمد للَّه رب العالمين.
فدخل على المأمون فبشره، فأيد طاهرا بالرجال، وسماه ذا اليمينين، وأمر بإحضار أهل بيته، والقواد، ووجوه الناس، فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة، وأعلن يومئذ بخلع الأمين.
ثم ورد برأس علي بن عيسى يوم الثلاثاء، فطيف به خراسان، وبلغ الخبر إلى الأمين، فندم على نكثه وغدره، ومشى القواد بعضهم إلى بعض، وذلك يوم الخميس للنصف من شوال، فقالوا: أن عليا قد قتل، ولا شك أن محمدا يحتاج إلى الرجال، فاطلبوا الجوائز والأرزاق، فلعلنا نصيب في هذه الحالة ما يصلحنا، فأصبحوا يكبرون ويطلبون الأرزاق.
وبلغ الخبر عبد الله بن خازم، فركب إليهم في أصحابه، فتراموا بالنشاب

(10/13)


والحجارة، وسمع محمد التكبير والضجيج، فَقَالَ: ما الخبر؟ فأعلموه، فَقَالَ: مروا ابن خازم فلينصرف عنهم.
ثم أمر لهم بأرزاق أربعة شهور، ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين، وأمر للقواد بالصلات، وبعث إلى نوفل خادم المأمون، فأخذ/ منه ستة آلاف ألف درهم التي كان الرشيد وصل المأمون بها، وقبض ضياعه وغلاته وأمواله، وولى عليها عمالا من قبله، ووجه عَبْد الرَّحْمَن بن جبلة من الأنبار بالقوة والعدة في عشرين ألفا، فنزل همدان لحرب طاهر، وولاه ما بين حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان، فمرّ حتى نزل همدان، وضبط طرقها، وحصر سورها، وسد ثلمها واستعد للقاء طاهر. ثم التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم هزمهم طاهر فحصرهم في مدينة همدان، وقطع عنهم الميرة، فطلبوا الأمان، فأمنهم، ثم قتل عَبْد الرَّحْمَن بن جبلة.
وكان السبب أنه لما أمنه طاهر أقام يريه أنه مسالم لَهُ، راض بعهده، ثم اغتره وأصحابه، فهجم بأصحابه عليهم، فوضعوا فيهم السيف، فثاروا إليهم، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب عبد الرحمن، وترجل هو وجماعة من أصحابه فقاتل حتى قتل [1] .
وفي هذه السنة: طرد طاهر عمال محمد عن قزوين وسائر كور الجبل [2] .
وفيها: ظهر السفياني بالشام، واسمه علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، فدعا لنفسه، وذلك في ذي الحجة. وطرد عنها سليمان بن أبي جعفر بعد أن حصره بدمشق- وكان عامل مُحَمَّد عليها- ثم أفلت منه بعد اليأس، فوجه إليه محمد بن الحسين بن علي بن عيسى بْن ماهان، فلم يصل إليه، وأقام بالرقة [3] .
وحج بالناس في هذه السنة داود بن موسى بن عيسى بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاس، وهو كان العامل على مكة والمدينة من قبل محمد، وكان على
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 390- 417.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 415- 416.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 415.

(10/14)


الكوفة العباس بن موسى الهادي، وعلى البصرة منصور/ بن المهدي، وبخراسان المأمون [1] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
1066- إسحاق بن يوسف بن محمد بن محمد الأزرق الواسطي
[2] .
سَمِعَ الأعمش، والجريري، والثوري، وغيرهم.
روى عنه: أحمد ويحيى. وكان من الثقات المأمونين، ومن عباد الله الصالحين.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر بن علي بن ثابت، أخبرنا أبو نصر مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّيَّاتُ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَيُّوبَ الْمَخْرميُّ قَالَ:
سَمِعْتُ الحسن بن حماد سجادة يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ إِسْحَاقَ الأَزْرَقِ قَالَتْ لَهُ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ بِالْكُوفَةِ رَجُلا يَسْتَخِفُّ بِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَنْتَ عَلَى الْحَجِّ فَأَسْأَلُكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ أَنْ لا تَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا. قَالَ إِسْحَاقُ: فَدَخَلْتُ الْكُوفَةَ فَإِذَا الأَعْمَشُ قَاعِدٌ وَحْدَهُ، فَوَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ: أُمِّي وَالأَعْمَشُ!! وقال النبي للَّه صَلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» . فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَسَلَّمْتُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، حَدِّثْنِي فَإِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ. قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ وَاسِطَ. قَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قُلْتُ: إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ. قَالَ: فَلا حَيِيتَ وَلا حَيِيَتْ أُمُّكَ، أَلَيْسَ حَرَّجَتْ أَنْ لا تَسْمَعَ مِنِّي شَيْئًا؟
قُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، لَيْسَ كُلُّ مَا بلغك يكون حَقًّا. قَالَ: لأُحَدِّثَنَّكَ بِحَدِيثٍ مَا حَدَّثْتُهُ أَحَدًا قَبْلَكَ. فَحَدَّثَنِي عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْخَوَارِجُ كِلابُ أَهْلِ النَّارِ» [3] .
تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بواسط في هذه السنة. /
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 417.
[2] انظر: تاريخ بغداد 6/ 319- 321.
[3] انظر: تاريخ بغداد 6/ 319.

(10/15)


1067- بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير.
يقال: بكار، وإنما هو: أبو بكر. كان مدرة قريش شرفا وبيانا ولسانا وجاها وحسن أثر، وكان الرشيد معجبا به، فاستعمله على المدينة، وأقام عامله عليها اثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوما، وأخرج على يده لأهل المدينة ثلاث أعطيات مقدارها ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، كل عطاء أربعمائة ألف دينار.
وكان الرشيد إذا كتب إليه كتب: من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى أبي بكر بن عَبْد اللَّه.
وكان عماله وجوه أهل المدينة فقها وعلما ومروءة وشرفا. وكان جوادا، فقل بيت بالمدينة لم يدخله صنيعه.
توفي في ربيع الأول من هذه السنة.
1068- أبو نواس الحسن بن هانئ بن جناح بن عبد الله بن الجراح، أبو علي. الشاعر المعروف بأبي نواس
[1] .
ويقال لَهُ: الحكمي، وفي ذلك قولان: أحدهما: أنه نسبة إلى جده الأعلى الحكم بن سعد العشيرة والثاني: أنه مولى الجراح.
ولد بالأهواز، ونشأ بالبصرة، وقرأ القرآن على يعقوب الحضرمي، واختلف إلى أبي زيد النَّحْوِي، وكتب عنه الغريب والألفاظ، وحفظ عن أبي عبيدة أيام الناس، ونظر في نحو سيبويه.
قال الجاحظ: ما رأيت أحدا كان أعلم باللغة من أبي نواس، ولا أفصح لهجة مع حلاوة ومجانبة الاستكراه.
وسمع الحديث من: حماد بن زيد، وعبد الواحد بن زيد، ومعمر بن سُلَيْمَان، وغيرهم. وأسند الحديث.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ خَيْرُونٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي بن ثابت
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 7/ 436- 449.

(10/16)


قَالَ: أَخْبَرَنَا هِلالُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَفَّارُ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُوَاسٍ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَزِيدَ الرِّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحْسِنَ ظَنَّهُ باللَّه مِنَ الْخَيْرِ.
قال ابن كثير: ودخلنا على أبي نواس نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقال له عيسى بن موسى الهاشمي: يا أبا عليّ، أنت في آخِرَ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ من أيام الآخرة، وبينك وبين الله هنات، فتب إلى الله. قال أبو نواس: أسندوني. فلما استوى جالسا قال: إيّاي يخوف باللَّه وَقَدْ حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ شَفَاعَةٍ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ شَفَاعَتِي لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَفَتَرَى لا أَكُونُ مِنْهُمْ؟!.
قال أبو عبيدة: كان أبو نواس للمحدثين مثل امرئ القيس للمتقدمين.
وقال أبو نواس: ما قلت من الشعر شيئا حتى رويت لستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى، فما ظنك بالرجال [1] ! وله مدائح في الخلفاء:
أخبرنا أبو منصور القزاز قَالَ: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:
أخبرني أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عبد الغفار قَالَ: أخبرنا محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون، حَدَّثَنَا أبو بكر بن القاسم الأنباري، حدثنا عبد الله بن خلف، حدّثني عبد الله بن سفيان، حدّثني عبد الله الخزاعي، عن ابن مبادر الشاعر قَالَ: دخل سليمان بن المنصور على مُحَمَّد الأمين/ فرفع إليه أن أبا نواس هجاه، وأنه زنديق حلال الدم، وأنشده من أشعاره المنكرة أبياتا، فقال له: يا عم اقتله بعد قوله:
أهدي الثناء إلى الأمين محمد ... ما بعده بتجارة متربص
صدق الثناء على الأمين محمد ... ومن الثناء تكذب وتخرص
قد ينفص القمر المنير إذا استوى ... هذا ونور محمد لا ينقص
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 7/ 437.

(10/17)


وإذا بنو المنصور عد حصاؤهم ... فمحمد ياقوتها المتخلص
فغضب سليمان وقَالَ: لو شكوت من عبد الله ما شكوت من هذا الكافر لوجب أن تعاقبه، فكيف منه. فقال: يا عم كيف أعمل بقوله:
قد أصبح الملك بالمنى ظفرا ... كأنما كان عاشقا قدرا
حسبك وجه الأمين من قمر ... إذا طوى الليل دونك القمرا
خليفة يعتني بأمته ... وإن أتته ذنوبها غمرا
حتى لو استطاع من تحننه ... دافع عنها القضاء والقدرا
فازداد سليمان غضبا فقال: يا عم، كيف أعمل بقوله:
يا كثير النوح في الدمن ... لا عليها بل على السكن
سنة العشاق واحدة ... فإذا أحببت فاستبن
ظن بي من قد كلفت به ... فهو يجفوني على الظنن
بات لا يعنيه ما لقيت ... عين ممنوع من الوسن
رشأ لولا ملاحته ... خلت الدنيا من الفتن
تضحك الدنيا إلى ملك ... قام بالآثار والسنن
/ يا أمين الله عش أبدا ... دم على الأيام والزمن
أنت تبقى والفناء لنا ... فإذا أفنيتنا فكن
قَالَ: فانقطع سليمان عن الركوب، فأمر الأمين بحبس أبي نواس، فلما طال حبسه كتب إِلَيْهِ:
تذكر أمين الله والعهد يذكر ... مقامي وإنشاديك والناس حضر
ونثري عليك الدر يا در هاشم ... فيا من رأى درا على الدر ينثر
أبوك الذي لم يملك الأرض مثله ... وعمك موسى عدله المتخير
وجداك مهدي الهدى وشقيقه ... أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر
وما مثل منصور يك منصور هاشم ... ومنصور قحطان إذا عد مفخر
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلى ... وعبد مناف والداك وحمير

(10/18)


تحسنت الدنيا بحسن خليفة ... هو الصبح إلا أنه الدهر مسفر
يشير إليه الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حين ينظر
مضت لي شهور مذ حبست ثلاثة ... كأني قد أذنبت ما ليس يغفر
فإن لم أكن أذنبت فيم عقوبتي ... وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكبر
فلما قرأ محمد الأبيات قال: أخرجوه وأجيزوه، ولو غضب/ ولد المنصور كلهم.
قال المصنف: كان أبو نواس قد غلب عليه حب اللعب واللهو وفعل المعاصي، ولا أؤثر أن أذكر أفعاله المذمومة، لأني قد ذكرت عنه التوبة في آخر عمره، وإنما كان لعبه في أول العمر.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن علي بن ثابت، أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أحْمَد بْن مُحَمَّد بن عمران، حَدَّثَنَا الحسين بن إسماعيل المحاملي، حدّثنا علي بن الأعرابي قال: قال أبو العتاهية: لقيت أبا نواس في المسجد الجامع فعذلته. فقلت له: أما آن لك أن ترعوي، أما آن لك أن تنزجر!؟ فرفع رأسه إلي وهو يقول:
أتراني يا عتاهي ... تاركا تلك الملاهي؟
أتراني مفسدا بالنسك ... عند القوم جاهي؟
قال: فلما ألححت عليه بالعذل أنشأ يقول:
لن ترجع الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
قال: فوددت أني قلت هذا البيت بكل شيء قلته [1] .
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا علي بن محمد المعدل، أخبرنا عثمان بن محمد الدَّقَّاقُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَرَاءِ، أخبرنا علي بن محمد بن زكريا قال: دخلت على أبي نواس وهو يكيد بنفسه، فقال لي: أتكتب؟ قلت: نعم.
فأنشأ يقول:
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 7/ 446.

(10/19)


دب في الفناء سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضوا فعضوا
ذهبت شرتي بحدة نفسي ... فتذكرت طاعة الله نضوا
ليس من ساعة مضت بي إلا ... نقصتني بمرها بي حذوا [1]
لهف نفسي على ليال وأيام ... تملّيتهنَّ لعبا ولهوا
/ قد أسأنا كل الإساءة يا ... رب فصفحا عنا إلهي وعفوا [2]
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، حدثني [3] عبيد الله بن أبي الفتح، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن السكري، حدثنا عبد الله بن أبي سعد، حدّثنا إبراهيم بن إسماعيل ابن أخي أبي نواس، حدثني [4] جعفر الصائغ قال:
لما احتضر أبو نواس قال: اكتبوا هذه الأبيات على قبري:
وعظتك أجداث صمت ... ونعتك أزمنة خفت
وتكلمت عن أوجه ... تبلى وعن صور سبت
وأرتك قبرك في القبور ... وأنت حي لم تمت [5]
توفي أبو نواس سنة خمس وتسعين ومائة. وقيل: سنة ست. وقيل: سنة ثمان.
وكان عمره تسعا وخمسين سنة. ودفن بمقابر الشونيزي في تل اليهود.
أخبرنا القزاز، أنبأنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا علي بن محمد المعدل، أخبرنا عثمان بن أحمد، أخبرنا أحمد بن البراء، أخبرنا عمر بن مدرك، حدثني محمد [6] بن يحيى، عن محمد بن نافع قال: كان أبو نواس لي صديقا، فوقعت بيني وبينه هجرة في آخر عمره، ثم بلغني وفاته فتضاعف علي الحزن، فبينا أنا بين النائم واليقظان إذا أنا به، فقلت: أبو نواس؟ قَالَ: لات حين كنيته. قلت: الحسن بن هانئ؟ قال: نعم. قلت:
__________
[1] في الأصل: «جزوا» .
[2] انظر: تاريخ بغداد 7/ 447- 448.
[3] في الأصل: «وحدثني» .
[4] في الأصل: «وحدثني» .
[5] انظر: تاريخ بغداد 7/ 448.
[6] في الأصل: «وحدثني» .

(10/20)


ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها هي [تحت] [1] ثني وسادتي. فأتيت أهله، فلما أحسوا بي أجهشوا بالبكاء. فقلت لهم: هل قال أخي شعرا قبل موته؟ قالوا: لا نعلم إلا أنه دعا بدواة وقرطاس وكتب/ شيئا لا ندري ما هو. قلت: ائذنوا لي أدخل.
قَالَ: فدخلت إلى مرقده، فإذا ثيابه لم تحرك بعد، فرفعت وسادة فلم أر شيئا، ثم رفعت أخرى فإذا برقعة فيها مكتوب:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يدعو ويرجو المجرم؟
أدعوك رب كما أمرت تضرعا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل عفوك، ثم إني مسلم [2] .
1069- محمد بن خازم، أبو معاوية التميمي. مولى سعد بن زيد مناة
[3] .
ولد سنة ثلاث عشرة ومائة، وعمي بعد أربع سنين، ولازم الأعمش عشرين سنة، وكان أثبت أصحابه، وكان يقدم على الثوري وشعبة، وكان حافظا للقرآن ثقة، لكنه كان يرى رأي المرجئة.
وروى عَنْه: أَحْمَد ويحيى، وخلق كثير.
وروى عن خلق كثير، إلا أنه كان يضبط حديث الأعمش ضبطا جيدا، ويضطرب في غيره.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ ثابت، أخبرنا أبو رزق، أخبرنا جعفر بن محمد الخالديّ، حدثنا الحسين بن محمد بن الحسين الكوفي، حدّثني [4] جعفر بن محمد بن الهذيل، حدّثني [5] إبراهيم الصيني قَالَ: سمعت أبا معاوية يَقُولُ:
حججت مع جدي أبي وأمي وأنا غلام، فرأني أعرابي فقال لجدي: ما يكون هذا الغلام
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأضفناه من تاريخ بغداد.
[2] انظر: تاريخ بغداد 7/ 449.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 5/ 242- 249.
[4] في الأصل: «وحدثني» .
[5] في الأصل: «وحدثني» .

(10/21)


منك؟ قَالَ: ابني. قَالَ: ليس بابنك. قال: ابن ابنتي. قَالَ: ليكونن له شأن، وليطأن برجليه هاتين بسط الملوك، قَالَ: فلما قدم الرشيد بعث إلي، فلما دخلت عليه ذكرت حديث الأعرابي، فأقبلت التمس برجلي البسط فَقَالَ: يا أبا معاوية، لم تلتمس البساط برجليك؟ فحدثته الحديث، فأعجب بِهِ. قَالَ: وحركني شيء فقلت: يا أمير المؤمنين/ أحتاج إلى الخلاء. فقال للأمين والمأمون: خذا بيد عمكما فأرياه الموضع. فأخذا بيدي فأدخلاني إلى الموضع، فشممت منه رائحة طيبة، فقالا لي: يا أبا معاوية، هذا الموضع، فشأنك، فقضيت حاجتي [1] .
قال الخطيب: عن محمد بن فُضَيْل: مات أبو معاوية سنة خمس وتسعين ومائة في آخر صفر أو في أول ربيع الأول [2] .
قال المصنف: وكذلك ذكر أبو موسى المدائني وغيره أنه مات في هذه السنة.
وقد روينا عن ابن نمير أنه مات في سنة أربع والأول أكثر.
1070- الوليد بن مسلم الدمشقي، أبو العباس
[3] .
روى عَن الليث بن سعد، والفضل بن فضالة، وابن لهيعة، وغيرهم.
وروى عنه: ابن وهب.
وتوفي عند انصرافه من الحج في هذه السنة.
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 5/ 242- 243.
[2] انظر: تاريخ بغداد 5/ 249.
[3] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 2/ 336.

(10/22)


ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها:
أن محمدا وجه إلى المأمون أحمد بن مزيد في عشرين ألفا، وعبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفا، وأمرهما أن يدافعا طاهرا عن حلوان، وكان قد نزلها، فنزل بخانقين، فكان طاهر يبعث العيون إلى عسكريهما، فيأتونهم بالأراجيف، ويحتال في وقوع الاختلاف بينهم حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضا، فرجعوا من خانقين من غير أن يلقوا طاهرا، وأقام طاهر بحلوان، فأتاه هرثمة بن أعين/ بكتاب المأمون والفضل بن سهل يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه، والتوجه إلى الأهواز. فسلم ذلك إليه ومضى إلى الأهواز وأقام هرثمة بحلوان [1] .
وفي هذه السنة: رفع المأمون منزلة الفضل بن سهل وقدره، وذلك أنه لما قتل علي بْن عيسى وعبد الرحمن بن جبلة وبشره الفضل بذلك عقد له في رجب من هذه السنة على المشرق طولا وعرضا، وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم، وسماه ذا الرئاستين، وكان على سيفه مكتوب من جانب: رئاسة الحرب، ومن جانب: رئاسة التدبير [2] .
وفيها: ولى محمد بن هارون بن عبد الملك بن صالح بن علي الشام، وأمره بالخروج إليها، وفرض له من رجالها جنودا يقال بهم طاهرا وهرثمة، فسار حتى بلغ
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 418- 423.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 424.

(10/23)


الرقة، فأقام بها، وأنفذ كتبه ورسله إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فقدموا عَلَيْهِ، فأجازهم، وخلع عليهم، وحملهم، ثم جرى بين الجند خصومات، فاقتتلوا وتفرقوا [1] .
وفي هذه السنة: خلع محمد بن هارون، وأخذت عليه البيعة للمأمون ببغداد، وحبس في قصر أبي جعفر مع أم جعفر بنت جعفر بن المنصور.
وسبب ذلك: أن عبد الملك بن صالح لما جمع النَّاسَ، ثم تفرقوا مات بالرقة، فرد الجند الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان إلى بغداد، وكان ذلك في رجب، فبعث إليه في الليل محمد بن هارون/، فقال للرسول: والله ما أنا بمعبر ولا مسامر ولا مضحك ولا وليت لَهُ عملا، فأي شيء يريد مني في هذه الساعة؟ إذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله.
فأصبح الحسين، فوافى باب الجسر، واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبيد الله بن عليّ، وباب سوق يحيى، وقال: إن خلافة الله لا تجوز [2] بالبطر، وإن محمدا يريد أن يوتغ [3] أديانكم، وينكث بيعتكم، وباللَّه إن طالت به مدة ليرجعن وبال ذَلِكَ عليكم، فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، فو الله ما ينصره منكم ناصر إلا خذل.
ثم أمر الناس بعبور الجسر، فعبروا حتى صاروا إلى سكة باب خراسان، واجتمع أهل الأرباض مما يلي باب الشام، وتسرعت خيول من خيول محمد إلى الحُسَين، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم كشفهم الحسين، فخلع الحسين بن علي محمدا يوم الأحد لإحدى عشرة من رجب سنة ست وتسعين. وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الاثنين إلى الليل، وغدا الْعَبَّاس بن موسى بن عيسى الهاشمي إلى محمد، فوثب بِهِ، ودخل عليه وأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أَبِي جعفر، فحبسه هناك، ثم وثب على أم جعفر، فأمرها بالخروج من قصرها إلى قصر أبي جعفر فأبت، فقنعها بالسوط وسبّها، ثم
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 425- 427.
[2] في الطبري: «لا تجاور» .
[3] يوتغ أديانكم: الوتغ- بالتحريك- الهلاك. ويوتغ أديانكم، أي: يهلك أديانكم (لسان العرب: وتغ) .

(10/24)


أدخلت المدينة مع ابنها، فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بن علي الأرزاق، وهاج الناس بعضهم في بعض، وقام محمد بن أبي خالد بباب الشام وقَالَ:
والله ما أدري بأي سبب يتأمر [1] الحسين بن علي علينا، ويتولى [2] هذا الأمر دوننا، وما هو بأكبرنا سنا، ولا أكرمنا/ حسبا، وإني أولكم أنقض عهده، وأظهر التغير عليه، فمن كان رأيه معي فليعتزل معي [3] .
وقام أسد الحربي فَقَالَ: هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم [وطال نومكم] [4] فقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره، وأذهب بذكر فكه وإطلاقه.
وجاء شيخ كبير فَقَالَ: أقطع محمد أرزاقكم؟ قالوا: لا. قَالَ: فهل قصر بأحد من رؤسائكم؟ قالوا: لا. قال: فما بالكم خذلتموه! انهضوا إلى خليفتكم فادفعوا عنه [5] .
فنهضوا فقاتلوا الحسين بن علي وأصحابه قتالا شديدا، وأسر الحسين ودخل أسد الحربي عَلَى محمد، فكسر قيوده، وأقعده [6] في مجلس الخلافة، فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الجند ولا عليهم سلاح، فأمرهم فأخذوا من السلاح الذي في الخزائن حاجتهم، ووعدهم ومنّاهم، وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحا كثيرا ومتاعا، وأتى الحسين بن علي فلامه محمد على خلافه، وقَالَ: ألم أقدم أباك على الناس، وأوليه أعنة الخيل، وأملأ يده بالأموال! قَالَ: بلى: قَالَ: فبم استحققت منك أن تخلع طاعتي، وتندب الناس إلى قتالي. قَالَ: الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن به. قَالَ: فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولّاك الطلب بثأر أبيك، ومن قتل من أهل بيتك.
ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وولاه ما وراء بابه، وحمله على مراكب، وأمره
__________
[1] في الأصل: «يأمر» .
[2] في الأصل: «ويولى هذا» .
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 428- 429.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأضفناه من الطبري.
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 430.
[6] في الأصل: «وأقعد» .

(10/25)


بالمسير إلى حلوان، فخرج فوقف على باب الجسر حتى إذا خف الناس قطع الجسر وهرب في نفر من مواليه، فنادى محمد في الناس فركبوا/ في طلبه، فأدركوه.
فلما بصر بالخيل نزل فصلى ركعتين وتحرم، ثم لقيهم فحمل عليهم حملات في كلها يهزمهم ويقتل فيهم. ثم إن فرسه عثر به فسقط، وابتدره الناس فقتلوه وأخذوا رأسه. وذلك في نصف رجب في طريق النهرين [1] ، وفي الليلة التي قتل فيها الحسين بن علي هرب الفضل بن الربيع، وجددت البيعة لمحمد يوم الجمعة لست عشرة ليلة خلت من رجب.
وفيها: توجه طاهر بن الحسين إلى الأهواز، فخرج عاملها محمد بن يزيد المهلبي يحميها فقتل، وأقام طاهر بالأهواز، وأنفذ عماله إلى كورها. وولي اليمامة والبحرين وعمان، ثم أخذ على طريق البر متوجها إلى واسط، فدخلها وهرب عاملها، ووجه قائدا من قواده إلى الكوفة وعليها العباس بن موسى الهادي، فلما بلغ العباس الخبر خلع محمدا، وكتب بطاعته إلى طاهر وبيعته، وكتب منصور بن المهدي وهو عامل البصرة إلى طاهر بطاعته، فنزل حتى طرنايا [2] ، وأمر بجسر فعقد، وأنفذت كتبه بالتولية إلى العمال، وبايع المطلب بن عبد الله بْن مالك بالموصل للمأمون، فكان خلعهم في رجب، فلما كتبوا بخلعهم محمدا أقرهم المأمون على أعمالهم، وولى داود بن عيسى بن موسى بن محمد على مكة والمدينة، ويزيد بن جرير البجلي اليمن، ووجه الحارث بن هشام إلى قصر ابن هبيرة [3] .
وفيها: أخذ طاهر المدائن من أصحاب محمد، ثم صار إلى صرصر، فعقد جسرا، ولما بلغ محمدا أن الحارث وهشاما خلفاه وجه محمد بن سليمان العابد/ ومحمد بن حماد البربري، وأمرهما أن يبيتاهما، فبلغ الخبر إليهما، فوجه طاهر إليهما
__________
[1] في الأصل: «نهرين» .
[2] في الأصل: «حين حرانا» .
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 435- 436.

(10/26)


مددا، فاقتتلوا، فهرب محمد بن سليمان حتى صار إلى قرية شاهي [1] ، وعبر الفرات، وأخذ علي البرية إلى الأنبار، ورجع محمد بن حماد إلى بغداد [2] .
وفيها: خلع داود بن عيسى عامل مكة والمدينة محمدا، وبايع للمأمون، وأخذ البيعة على النَّاسَ، وكتب بذلك إلى طاهر بن الحسين والمأمون، وكان السبب في ذَلِكَ: أنه لما أخذ الكتابان من الكعبة جمع داود بن عيسى حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد ما في الكتابين، فقال لهم: قد علمتم ما أخذ علينا الرشيد من العهد والميثاق عند بيت اللَّه الحرام، لنكونن مع المظلوم على الظالم، وقد رأيتم أن محمدا بدأ بالظلم والغدر والنكث والخلع وخلع أخويه، وبايع لطفل رضيع لم يفطم، واستخرج الشرطين من الكعبة عاصيا ظالما فحرقهما بالنار، وقد رأيت خلعه وأن أبايع للمأمون إذ كان مظلوما.
فقال له أهل مكَّةَ: رأينا تبع لرأيك. فوعدهم صلاة الظهر، وأرسل في فجاج مكة صائحا يصيح: الصلاة جامعة، وذلك يوم الخميس لسبع وعشرين ليلة خلت من رجب، فخرج فصلى بالناس الظهر، وقد وضع له المنبر بين الركن والمقام، فجلس عليه، وحمد الله تعالى وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَالَ: يا أهل مكَّةَ، أنتم الأصل، وإلى قبلكم يأتم المسلمون، وقد علمتم ما أخذ عليكم الرشيد، وقد علمنا أن محمدا بدأ بالظلم والبغي، وقد/ حل لنا ولكم خلعه وأشهدكم أني خلعت محمد بن هارون من الخلافة كما خلعت قلنسوتي هذه من رأسي. ثم خلعها فرمى بها إلى بعض الخدم تحته، وأتي بقلنسوة فلبسها، ثم قَالَ: قد بايعت لعبد الله المأمون، ألّا فقوموا فبايعوه.
فبقوا أياما يبايعونه.
وكتب إلى ابنه سليمان بن داود بن عيسى وهو خليفته على المدينة يأمره [أن] [3] يفعل كذلك، فلما رجع جواب البيعة من المدينة إلى داود رحل إلى المأمون فأعلمه بذلك، فسر المأمون وتيمن ببركة مكة والمدينة، وكتب لداود عهدا على مكة والمدينة
__________
[1] في الأصل: «قرية ساهي» .
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 436- 437.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وزدناه من الطبري.

(10/27)


وأعمالها، وزيد ولاية عك، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم، وخلع أهل اليمن محمدا وبايعوا للمأمون، ثم عقد محمد في رجب وشعبان نحوا من أربعمائة لواء لقواد شتى، وأمر على جميعهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالسير إلى هرثمة بن أعين، فساروا فالتقوا في رمضان، فهزمهم هرثمة، وأسر علي بن محمد، فبعث به إلى المأمون، ونزل هرثمة النهروان [1] .
وفيها: استأمن إلى محمد جماعة من جند طاهر، ففرق فيهم مالا كثيرا، وشغب الجند على طاهر، وكان السبب في ذلك: أن طاهرا أقام بصرصر، وشمر لمحاربة محمد وأهل بغداد، فكان لا يأتيه جيش إلا هزمه، فاشتد على أصحابه ما كان محمد يعطي من الأموال، ودس محمد إلى رؤساء الجند الكتب بالأطماع، فخرج من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف رجل من أهل/ خراسان ومن التف إليهم من الجند، فسر بهم محمد، ووعدهم ومناهم، فمكثوا شهرا، وقوي أصحابه بالمال، فخرجوا إلى طاهر، ثم ولوا منهزمين، وبلغ الخبر محمدا، فأخرج المال، وفرق الصلات، فراسلهم طاهر، ووعدهم واستمالهم، فشغبوا على محمد يوم الأربعاء لست خلون من ذي الحجة.
ثم قدم طاهر فنزل البستان الذي على باب الأنبار يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة من ذي الحجة، وأكثر لأصحابه العطاء، وأضعف للقواد، ونقب أصحاب السجون وخرجوا، وفتن النَّاسَ، وغلب أهل الفساد، وقاتل الأخ أخاه [2] .
وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى من قبل طاهر، ودعا للمأمون بالخلافة، فهو أول موسم دعي له بالخلافة بمكة والمدينة [3] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 438- 441.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 438- 444.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 444.

(10/28)


ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
1071- بقية بن الوليد بن صائد بن كعب، أبو محمد الكلاعي البصري [1] .
ولد سنة عشر ومائة، وسمع من خلق كثير. وروى عَنْه: شعبة، وحماد بن زيد، وابن المبارك، ويزيد بن هارون.
وفي أحاديثه مناكير، إلا أن أكثرها عن المجاهيل.
قال ابن المبارك: كان ثقة صدوقا، لكنه كان يكتب عن من أقبل وأدبر.
وقال يعقوب بن شَيْبة: ثقة صدوق/ [ويتقى [2] حديثه عن مشيخته الذين لا يعرفون، وله أحاديث مناكير جدا.
توفي بقية فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سَبْعٍ وتسعين ومائة.
1072- حفص بن غياث بن طلق، أبو عمر الكوفي
[3] .
سمع عبيد الله بن عمر العمري، وهشام بن عروة، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبا إسحاق الشيباني، وسليمان الأعمش، وجعفر بن محمد بن علي، وليث بن أبي سُلَيْم، وداود بن أبي هند، والحسن بْن عبد الله، وأشعث بن عبد الملك، وأشعث بن سوار، وابن جُرَيْج، ومسعر بن كدام، والثوري.
روى عَنْه: ابنه عمر، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وعفان بن مسلم، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وابن المدني، وأبو خيثمة، والحسن بن عرفة، وابن راهويه، وعامة الكوفيين.
وولي حفص القضاء ببغداد وحدث بها، ثم عزل وولي قضاء الكوفة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أنبأنا القاضي
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 7/ 123- 127.
[2] الورقة رقم 17/ أ- ب مفقودة من المخطوط، وقد أكملنا هذا النقص من تاريخ بغداد بقدر المستطاع لعدم توافر أي نسخة مخطوطة لهذا الجزء سوى الأصل.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 8/ 188- 200.

(10/29)


أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، وأبو الحسن أحمد بن عمر بن روح النهرواني- قَالَ طاهر حدثنا، وقال أَحْمَد أنبأنا- المعافى بن زكريا الْجُرَيْرِي، حدثنا محمد بن مخلد بن جعفر العطار، حدثني أبو علي بن علان، حدثني يحيى بن الليث قَالَ: باع رجل من أهل خراسان جمالا بثلاثين ألف درهم من مرزبان المجوسي وكيل أم جعفر فمطله بثمنها وحبسه، فطال ذلك على الرجل، فأتى بعض أصحاب حفص بن غياث فشاوره، فقال: اذهب إليه فقل له أعطني ألف درهم وأحيل عليك بالمال الباقي، وأخرج إلى خراسان، فإن فعل هكذا فالقني حتى أشير عليك. ففعل الرجل وأتى مرزبان فأعطاه ألف درهم، فرجع إلى الرجل فأخبره فَقَالَ: عد إِلَيْهِ فقل لَهُ: إذا ركبت غدا فطريقك على القاضي تحضر وأوكل رجلا يقبض المال واخرج، فإذا جلس إلي القاضي فادع عليه ما بقي لك من المال، فإذا أقر حبسه حفص وأخذت مالك. فرجع إلى مرزبان فسأله فَقَالَ: انتظرني بباب القاضي. فلما ركب من الغد وثب إليه الرجل فَقَالَ:
إن رأيت أن تنزل إلى القاضي حتى أوكل بقبض المال وأخرج، فنزل مرزبان فتقدما إلى حفص] [1] . / بْن غياث، فقال الرجل: أيد الله القاضي لي على هذا الرجل تسعة وعشرون ألف درهم، فقال حفص: ما تقول يا مجوسي؟ قَالَ: صدق أصلح الله القاضي. قَالَ: ما تقول يا رَجُل، قد أقر لك؟ قال يعطيني مالي. قال حفص للمجوسي:
ما تَقُولُ؟ فَقَالَ: هذا المال على السيدة. قال: أنت أحمق، تقر ثم تقول على السيدة، ما تقول يا رَجُل!؟ فَقَالَ: إن أعطاني مالي وإلا حبسته. قَالَ: ما تقول يا مجوسي؟ قَالَ:
المال على السيدة، قال حفص: خذوا بيده إلى الحبس. فلما حبس بلغ الخبر أم جعفر، فغضبت وبعثت إلى السندي وجه إلي مرزبان فأخرجه، وبلغ حفص الخبر فَقَالَ: أحبس أنَا ويخرج السندي؟ لا جلست مجلسي هذا أو يرد مرزبان إلى الحبس.
فجاء السندي إلى أم جعفر فَقَالَ: الله الله في، إنه حفص بن غياث، وأخاف من أمير المؤمنين أن يقول لي: بأمر من أخرجته؟ رديه إلى الحبس وأنا أكلم حفصا في أمره، فأجابته فرجع مرزبان إلى الحبس، فقالت أم جعفر لهارون: قاضيك هذا أحمق، حبس وكيلي، فمره لا ينظر في هذا الحَكَم، وتولي أمره إلى أبي يوسف. فأمر له بالكتاب، وبلغ حفصا الخبر فقال للرجل: أحضر لي شهودا حتى أسجل لك على المجوسي
__________
[1] إلى هنا ينتهي الساقط من الأصل والّذي يتمثل في فقد الورقة رقم 17.

(10/30)


بالمال فجلس حفص، فسجل على المجوسي، وورد كتاب هارون مع خادم لَهُ، فَقَالَ:
هذا كتاب أمير المؤمنين. فَقَالَ: انظر ما يقال لك، فلما فرغ حفص من السجل أخذ الكتاب من الخادم فقرأه/ فَقَالَ: اقرأ على أمير المؤمنين السلام وأخبره أن كتابه ورد، وقد أنفذ الحَكَم، فَقَالَ الخادم: قد والله عرفت ما صنعت، ما أردت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد، والله لأخبرن أمير المؤمنين بما فعلت. فقال حفص: قل له ما أحببت. فجاء الخادم، فأخبر هارون، فضحك وقال للحاجب: مر لحفص بن غياث بثلاثين ألف درهم. فركب يحيى بن خَالِد واستقبل حفصا منصرفا من مجلس القضاء، فَقَالَ: أيها القاضي، قد سررت أمير المؤمنين اليوم، وأمر لك بثلاثين ألف درهم، فما كان السبب في هذا؟ قَالَ: تمم الله نعم أمير المؤمنين، وأحسن حفظه وكلاءته، ما زدت على ما أفعل كل يوم. قَالَ: ما أعلم إلا أني سجلت عَلَى مرزبان المجوسي بما وجب عَلَيْهِ، فقال: فمن هذا سر أمير المؤمنين. قال حفص: الحمد للَّه كثيرا. فقالت أم جعفر لهارون: لا أنا ولا أنت، إلا أن تعزل حفصا. فأبى عليها، ثم ألحت عَلَيْهِ فعزله عن الشرقية، وولاه قضاء الكوفة، فمكث عليها ثلاث عشرة سنة، وكان أبو يوسف لما ولي حفص قال لأصحابه: تعالوا نكتب نوادر حفص، فلما وردت أحكامه وقضاياه على أَبِي يوسف قال له أصحابه: أين النوادر [1] التي تكتبها؟ قَالَ:
ويحكم إن حفصا أراد الله فوفقه اللَّه [2] .
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: قرأت على الحسن بْن أبي بكر، عن أحمد بن كامل القاضي قال: سمعت محمد بن عثمان يَقُولُ: حدثني أَبِي قَالَ:
سمعت عمر بن حفص يَقُولُ: لما حضرت أبي الوفاة/ أغمي عَلَيْهِ، فبكيت عند رأسه، فأفاق فَقَالَ: ما يبكيك؟ قُلْتُ: أبكي لفراقك، ولما دخلت فيه من هذا الأمر- يعني القضاء- قَالَ: لا تبك، فإني ما حللت سراويلي على حرام قط، ولا جلس بين يدي خصمان فباليت على من توجه الحكم منها [3] .
__________
[1] في الأصل: «أي النوادر» .
[2] انظر: تاريخ بغداد 8/ 191- 193.
[3] انظر: تاريخ بغداد 8/ 190.

(10/31)


أنبأنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا أبو سعد ظفر بن الفرح الخفاف، حدثنا أحمد بن محمد بن يوسف العلاف، أخبرنا الحسين بن يحيى بن عَبَّاس قَالَ: وجدت في كتاب أخي علي بن يحيى، أخبرنا العباس بن أبي طالب، أخبرنا الحسن بن علي، حَدَّثَني يحيى بن آدم، عن حفص بن غياث قَالَ: ولدت أم محمد بن أبي إسماعيل أربع بنين في بطن، قَالَ: فرأيتهم كلهم قد نيفوا على الثمانين.
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي البيع، أخبرنا العباس بن أحمد بن موسى أخبرنا أبو علي الطوماري قَالَ: حدثني عبيد بن غنام قال: حَدَّثَني أَبِي قال: مرض حفص خمسة عشر يوما فدفع إلي مائة درهم فقال: امض بها إلى العامل وقل لَهُ: هذه رزق خمسة عشر يوما لم أحكم فيها بين المسلمين لا حظ لي فيها [1] .
توفي حفص بن غياث سنة ست وتسعين ومائة. كذا قال الفلاس، ومحمد بن المثنى.
وقال خليفة بن خياط، ومحمد بن سعد: سنة أربع وتسعين.
وقال عبيد الله بن الصباح: سنة تسع وتسعين.
وقال سلم بن جنادة: سنة خمس وتسعين [2] .
1073- عبد الله بن مرزوق، / أبو محمد الزاهد.
زعم أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي أنه كان وزير الرشيد، فخرج من ذلك وتخلى من ماله وتزهد، وكان كثير البكاء، شديد الحزن.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، حدثنا أبو بكر بن محمد بن هبة الله الطبري، أَخْبَرَنَا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا ابن صفوان، أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الْقُرَشِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنِي [3] محمد بْن إدريس قَالَ: حدثنا [4] عبد الله بن السري قال: حدّثني سلامة
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 8/ 190- 191.
[2] انظر: تاريخ بغداد 8/ 200.
[3] في الأصل: «وحدثني» .
[4] في الأصل: «وحدثني» .

(10/32)


قاضي عبد الله بن مرزوق في مرضه، حدثنا سلامة قَالَ: قال عبد الله بن مرزوق: يا سلامة، إن لي إليك حاجة. قُلْتُ: وما هِيَ؟ قَالَ: تحملني فتطرحني على تلك المزبلة لعلي أموت عليها، فيرى مكاني فيرحمني.
1074- محمد بن زين بن سُلَيْم، أبو الشيص الشاعر
[1] .
انقطع إلى عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي، وكان أميرا على الرقة، فمدحه [في] [2] أكثر شعره، وكان أبو الشيص سريع الخاطر، الشعر عليه أهون من شرب الماء.
روى أبو بكر الأنباري، عن أبيه، عن أحمد بن عُبَيْد قَالَ: اجتمع مسلم بن الوليد، وأَبُو نواس، وأبو الشيص، ودعبل في مجلس، فقالوا: لينشد كل منكم أجود ما قال من الشعر، فَقَالَ رجل كان معهم: اسمعوا مني أخبركم بما ينشد كل منكم قبل أن ينشد. قالوا: هات. فَقَالَ لمسلم: أما أنت فكأني بك قد أنشدت:
إذا ما علت منا ذؤابة واحد ... وإن كان ذا حلم دعته إلى الجهل
هل العيش إلا أن تروح مع الصبى ... وتغدو صريع الكأس والأعين النجل
قَالَ: وبهذا البيت لقب «صريع الغواني» لقبه به الرشيد. / فقال له مسلم:
صدقت.
ثم أقبل على أبي نواس فقال لَهُ: وكأني بك قد أنشدت:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد
تسقيك من عينها خمرا ومن يدها ... خمرا فما لك من سكرين من بد
فقال لَهُ: صدقت.
ثم أقبل على دعبل فقال لَهُ: كأني بك وقد أنشدت:
أين الشباب وأية سلكا ... لا أين يطلب ضل بل هلكا
__________
[1] انظر ترجمته في: الأغاني 16/ 432- 441.
[2] ما بين المعقوفتين: زدناه ليستقيم المعنى.

(10/33)


لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
فقال لَهُ: صدقت، ثم أقبل على أبي الشيص فقال لَهُ: كأني بك قد أنشدت:
لا تنكري صدي ولا إعراضي ... ليس المقل عن الزمان براضي
فقال لَهُ: لا، ما أردت [أن] [1] أنشد هذا، وليس هذا بأجود شيء قلته. قالوا:
فأنشدنا ما بدا لك. فأنشدهم:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا ... يا من أهون عليك ممن أكرم
[2] فقال أبو نواس: أحسنت والله وجودت.
وعمي أبو الشيص في آخر عمره.
1075- معاذ بن مُعَاذ، أبو المثنى البصري العنبري
[3] .
ولد سنة تسع عشرة ومائة، وسمع سليمان التيمي، وشعبة، [و] [4] الثوري، وغيرهم.
روى عنه: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، / وأبو خيثمة، وغيرهم. وولي قضاء البصرة، وكان من الأثبات في الحديث.
وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدا إلا وقد تعلق عليه شيء من الحديث إلا مُعَاذ العنبري، فإنهم ما قدروا أن يتعلقوا عليه في شيء من الحديث مع شغله بالقضاء [5] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين: زدناه ليستقم المعنى.
[2] الأغاني 16/ 435.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 13/ 131- 134.
[4] ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
[5] انظر: تاريخ بغداد 13/ 132.

(10/34)


توفي معاذ بالبصرة في ربيع الآخر من هذه السنة، وهو ابن سبع وسبعين سنة.
1076- هاشم بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي بكر الصِّدِّيق، يكنى: أبا بَكْر.
مدبغي، كان من ساكني الكوفة، فقدم قاضيا على مصر من قبل الأمين في جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين، وكان يذهب مذهب أبي حنيفة.
توفي في محرم هذه السنة.

(10/35)


ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها:
أن القاسم بن الرشيد، ومنصور بن المهدي خرجا من العراق، فلحقا بالمأمون، فوجّه المأمون القاسم إلى جرجان [1] .
وفيها: حاصر طاهر وهرثمة وزهير [2] بن المسيب محمد بن هارون ببغداد.
وصفة ما جرى: أن زهير [3] بن المسيب نزل قصرا بكلواذي، ونصب المجانيق والعرادات، وحفر الخنادق، وجعل يخرج في الأيام [4] عند اشتغال الجند بحرب طاهر، فيرمي بالعرادات من أقبل وأدبر، ويعشر أموال التجار، وبلغ من الناس كل مبلغ، فشكوا ذلك إلى طاهر/، وبلغ هرثمة ذَلِكَ فأمده بالجنود، وسكت الناس، ونزل هرثمة نهر بين، وجعل عليه حائطا وخندقا وأعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبد الله بن الوضاح الشماسية، ونزل طاهر البستان بباب الأنبار، فانزعج لذلك الأمين، ونفد ما كان عنده، فأمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم، وكان فيمن استأمن إلى طاهر: سعيد بن مالك بن قادم مولى ناجية، فولاه ناحية البغيين والأسواق هنالك، وشاطئ دجلة، ووكل بطريق دار الرقيق وباب الشام واحدا بعد واحد، وكثر الخراب والهدم حتى درست محاسن بغداد، وأرسل طاهر إلى الأرباض من
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 445.
[2] في الأصل: «زهر بن المسيب» .
[3] في الأصل: «زهر بن المسيب» .
[4] في الأصل: «من الأيام» .

(10/36)


طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها، فكل ناحية أجابه أهلها خندق عليهم، ووضع مسالحه، ومن أبى قاتله وأحرق منزله، فذلت الأجناد وتواكلت عن القتال، وبقي أهل السجون والأوباش والرعاع والطرارين [1] ، وكان حاتم بن الصقر قد أباحهم النهب [2] .
وخرج من أصحاب طاهر رجل من أصحاب النجدة والبأس، فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم، فقال لأصحابه: ما يقابلنا إلا من أرى استهانة بهم. فقالوا: نعم، هؤلاء هم آلافة. فَقَالَ: أف لكم حين تنكصون عن هؤلاء، ولا عدة لهم. فأوتر قوسه وتقدم، فقصده أحدهم وفي يده بارية مقيرة، وتحت/ إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار، فيأخذه من باريته فيجعله في موضع من البارية قد هيأه لذلك كالجعبة ويصيح: دانق، أي هذا ثمن النشابة. فأنفذ الخراساني سهامه، ثم حمل على العيار ليضربه بالسيف، فأخرج العيار حجرا من مخلاته فجعله في مقلاع ورماه، فما أخطأ عينه، ثم ثناه بآخر فكاد يصرعه عن فرسه، فكر راجعا وهو يَقُولُ: ليس هؤلاء بإنس، فحدّث طاهرا بهذا فضحك وأعفاه من القتال وقال في هذا بعض شعراء بغداد:
خرجت هذه الحروب رجالا ... لا لقحطانها ولا لنزار
معشرا في جواشن الصوف يغدون ... إلى الحرب كالأسود الضواري
وعليهم مغافر الخوص تجزيهم ... عن البيض والتراس البواري
ليس يدرون ما الفرار إذا الأبطال ... عاذوا من القنا بالفرار
واحد منهم يشد على ... ألفين عريان ما له من إزار
ويقول الفتى إذ طعن الطعنة ... : خذها من الفتى العيار
كم شريف قد أخملته وكم قد ... رفعت من مقامر طرار [3]
ولم يزل طاهر [4] يصاير محمدا وجنده حتى مل أهل بغداد، فاستأمر إلى طاهر خلق
__________
[1] الطرّ: الخلس (القاموس) .
[2] تاريخ الطبري 8/ 445- 448.
[3] في الأصل: «رفعت من مقامر عيار» وما أثبتناه من تاريخ الطبري.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 457- 458.

(10/37)


من أصحاب محمد وقواده، فلما استأمن محمد بن عيسى صاحب شرطة محمد استأمن محمد/.
وفي هذه السنة: منع طاهر الملاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد إلا من كان في عسكره منهم ووضع الرصد عليهم بسبب ذَلِكَ.
وكان السبب في فعله هذا: أن أصحابه نيل منهم بالجراح، فأمر بالهدم والإحراق، فهدم دور من خالفه ما بين دجلة ودار الرقيق وباب الشّام وباب الكوفة، إلى الصراة وأرجاء أبي جعفر وربض حميد ونهر كرخايا والكناسة، وجعل يحوي كل ناحية ويخندق عليها، فلما رأى أنهم لا يحفلون بالقتل والهدم والحرق أمر بمنع التجار أن يجوزوا بشيء من الدقيق وغيره من المنافع، فغلت الأسعار، واشتد الحصار وفرح من خرج، وتأسف من أقام [1] .
ثم كانت بعد وقعات منها: وقعة بالكناسة، باشرها طاهر بنفسه، قتل فيها خلق كثير من أصحاب مُحَمَّد [2] .
ومنها وقعة بدرب الحجارة، كانت على أصحاب طاهر، قتل فيها خلق كثير [3] .
ومنها: وقعة بباب الشماسية، أسر فيها هرثمة، وكان هرثمة ينزل نهر بين، وعليه حائط وخندق، وقد أعد المجانيق والعرادات، وقد أنزل عبيد الله بن الوضاح الشماسية، وكان يخرج أحيانا فيقف بباب خراسان ساعة، ثم ينصرف، وكان حاتم بن الصقر من أصحاب محمد، وكان قد واعد أصحابه/ العراة العيارين أن يوافوا عبد الله بن الوضاح ليلا، فمضوا إليه مفاجأة، وأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه، فانهزم، وبلغ هرثمة [الخبر] [4] ، فأقبل لنصرته، فأسر هرثمة، فضرب بعض أصحابه يد من أسره فقطعها، فتخلص، فانهزم. وبلغ خبره أهل عسكره، فخرجوا هاربين نحو حلوان، ثم قام بنصرة طاهر، فرجع إلى مكانه، وهرب عبد الله بن خازم بن خزيمة من بغداد إلى
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 459- 461.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 461- 463.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 463- 464.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.

(10/38)


المدائن في السفن بعياله وولده، فأقام بها، ولم يحضر القتال. وقيل: بل كاتبه طاهر وحذره قبض ضياعه واستئصاله، فحذره من الفتنة وسلم.
وتضايق على محمد أمره، ونفد ما كان عنده، وطلب الناس الأرزاق، فَقَالَ:
وددت أن الله قتل الفريقين جميعا، هؤلاء يريدون مالي وأولئك يريدون نفسي. وضعف أمره، وأيقن بالهلاك [1] .
وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر المأمون بذلك [2] .
وكان عامل مكة في هذه السنة: داود بن عيسى [3] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
1077- شعيب بن حرب، أبو صالح المَدِيني
[4] .
سمع شعبة، والثوري، وزهير بن معاوية.
وروى عنه: أحمد بن حنبل وغيره. وكان من الثقات العلماء العباد الآمرين بالمعروف، / المدققين في طلب الحلال.
أَخْبَرَنَا [أَبُو] [5] مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ بن ثابت، أخبرنا البرقاني قَالَ:
قرأت عَلَى أبي حفص الزيات، حدثكم أحمد بن الحسين الصوفي قَالَ: سمعت أبا حمدون المقرئ، واسمه: طيب بن إِسْمَاعِيل يَقُولُ: ذهبنا إلى المدائن إلى شعيب بن حرب، كان قاعدا على شط دجلة، وكان قد بنى كوخا، وخبز له معلق، وإنما كان جلدا
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 464- 471.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 471.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 471.
[4] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 238- 242.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.

(10/39)


وعظما، قَالَ: فَقَالَ: أرى ها هنا بعد لحما، والله لا علم في دورنا به حتى أدخل إلى القبر [1] وأنا عظام تقعقع، أريد السمن للدود والحيات؟
قَالَ: فبلغ أحمد بن حنبل قوله فقال: شعيب بن حرب حمل على نفسه في الورع [2] .
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، أخبرنا رزق الله، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابن صوفان، أخبرنا ابن أبي الدنيا، أخبرنا إبراهيم بن عبد الملك قَالَ:
جاء رجل إلى شعيب بن حرب وهو بمكة فَقَالَ: ما جاء بك؟ قَالَ: جئت أؤنسك. قَالَ:
جئت تؤنسني وأنا أعالج الوحدة منذ أربعين سنة.
قال ابن أبي الدنيا: وحدثني الحسن بن الصباح قَالَ: سمعت شعيب بن حرب يَقُولُ: لا تجلس إلا مع أحد رجلين: رجل يعلمك خيرا فتقبل منه، أو رجل تعلمه خيرا فيقبل منك. والثالث اهرب منه.
أخبرنا ابن ناصر، أخبرنا عبد القادر بن محمد، أخبرنا أبو بكر بن علي الخياط، أخبرنا ابن أبي الفوارس، أخبرنا أحمد بن جعفر بن سلم، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عبد الخالق، أخبرنا المروزي قَالَ: سمعت عبد الوهاب يَقُولُ: كان ها هنا قوم خرجوا إلى المدائن إلى شعيب بن حرب، فما رجعوا إلى دورهم، ولقد أقام/ بعضهم لم يستق الماء، وكان شعيب يقول لبعضهم الذي يستقي الماء: لو رآك سفيان لقرت عينه.
قال المصنف رحمه الله: كان شعيب قد اعتزل الناس وأقام بالمدائن يتعبد، ثم خرج إلى مكَّةَ، فتوفي بها بعلة البطن في هذه السنة. وقيل في سنة تسع وتسعين.
1078- عبيد بن وهب بن مسلم، أبو محمد، مولى لقريش.
ولد في ذي القعدة سنة خمس وعشرين ومائة، وطلب العلم وهو ابن سبع عشرة سنة.
أخبرنا أبو الْقَاسِم، أَخْبَرَنَا حمد بْن أَحْمَد، أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، أخبرنا
__________
[1] في تاريخ بغداد: «والله لأعلمن في ذوبانه حتى أدخل القبر» .
[2] انظر: تاريخ بغداد 9/ 240- 241.

(10/40)


أَبِي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني قَالَ: دخل ابن وهب الحمام فسمع قارئا يقرأ: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ 40: 47 [1] فسقط مغشيا عليه، فغسلت عنه النورة وهو لا يعقل.
أخبرنا زاهر بن طاهر، أنبأنا أحمد بن الحسين البيهقي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا إسحاق المزكي يَقُولُ: سمعت محمد بن المسيب يَقُول: سمعت يونس بْن عَبْد الأعلى يَقُول: كتب الخليفة إلى عبد الله بن وهب في قضاء مصر، فجنن نفسه ولزم البيت، فاطلع عليه رشدين بن سعد من السطح فَقَالَ:
يا أبا محمد، ألا تخرج للناس فتحكم بينهم كما أمر الله ورسوله، قد جننت نفسك، ولزمت البيت. فال: إني ها هنا انتهى عقلك، ألم تعلم أن القضاء يحشرون يوم القيامة مع السلاطين ويحشر العلماء مَعَ الأنبياء!؟
توفي عبد الله بمصر في شعبان هذه السنة.
1079- عبد الرحمن بن مسهر بن عمر- وقيل: عمير- أبو الهيثم الكوفي
[2] .
حدث عَن هشام بن عروة وغيره. وهو/ قاضي جبل.
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني الأزهري قال:
أخبرني ابن عروة وغيره، أخبرنا عبيد الله بن عثمان بن يحيى، أخبرنا الحسين الأصفهاني قال: أخبرني جعفر بن قدامة قَالَ: حدثني [3] محمد بن يزيد الضرير قَالَ:
حدثني [4] عبد الرحمن بن مسهر قَالَ: ولاني أبو يوسف القاضي القضاء بجبل، وبلغني أن الرشيد ينحدر إلى البصرة، فسألت أهل جبل أن يثنوا علي، فوعدوني أن يفعلوا ذلك إذا انحدر، فلما قرب منا سألتهم الحضور، فلم يفعلوا وتفرقوا، فلما آيسوني من أنفسهم سرحت لحيتي وخرجت له، فوقفت فوافى وأبو يوسف معه في الحراقة، فقلت:
يا أمير المؤمنين، نعم القاضي قاضي جبل، قد عدل فينا وفعل وصنع، وجعلت أثنى
__________
[1] سورة: غافر، الآية: 47.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 238- 239.
[3] في الأصل: «وحدثني» .
[4] في الأصل: «وحدثني» .

(10/41)


على نفسي، ورآني أبو يوسف فطأطأ رأسه وضحك، فقال له الرشيد: مم ضحكت؟
فقال: المُثَنَّي عَلَى القاضي هو القاضي. فضحك هارون حتى فحص برجليه وقال: هذا شيخ سخيف سفلة فاعزله، فعزلني. فلما رجع جعلت أختلف إليه وأسأله أن يوليني قضاء ناحية أخرى، فلم يفعل. فحدثت الناس عَن مجالد، عن الشعبي أن كنية الدجال: أبو يوسف، وبلغه ذلك، فَقَالَ: هذه بتلك، فحسبك وصر إلي حتى أوليك ناحية أخرى. ففعل، وأمسكت عَنْه.
قال يحيى: عبد الرحمن بن مسهر ليس بشيء.
وقال النسائي: هو متروك الحديث/.
1080- عثمان بن سَعِيد، أبو سَعِيد، الملقب: ورش
[1] .
روى عن نافع القراءة، وهو من أعلام أصحابه، توفي في هذه السنة.
1081- وكيع بن الجراح [2] بن عدي بن فرس بن جمحة، أبو سفيان الرؤاسي الكوفي
[3] .
ولد سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل سنة ثمان.
وسمع إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، والأعمش، وابن عون، وابن جريج والأوزاعي، وسفيان وخلقا كثيرا.
وحدث وهو ابن ثلاث وثلاثين، فروى عَنْه ابن المبارك، وقتيبة، وأحمد، ويحيى. وأحضره الرشيد ليوليه القضاء فامتنع.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا الجوهري، أَخْبَرَنَا علي بن محمد بن لؤلؤ، حدثنا محمد بن سويد الزيات، أخبرنا أبو يحيى الناقد، أَخْبَرَنَا محمد بن خلف التيمي قَالَ: سمعت وكيعا يَقُولُ: أتيت الأعمش فقلت: حَدَّثَني: فقال لي: ما اسمك؟ قُلْتُ: وكيع. فَقَالَ: اسم نبيل، وما أحسب إلا سيكون لك نبأ، أين تنزل من الكوفة؟ قلت: في بني رؤاس. قال: أين من منزل
__________
[1] انظر ترجمته في: إرشاد الأريب 5/ 33. وغاية النهاية 1/ 502.
[2] في الأصل: «وكيع بن الحسين بن الجراح» . وما أثبتناه من جميع المصادر التي ترجمت له.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 13/ 496- 512.

(10/42)


الجراح بن مليح؟ قلت: ذاك أبي، وكان أبي على بيت المال. قَالَ: اذهب فجئني بعطائي وتعال حتى أحدثك بخمسة أحاديث. قال: فجئت أبي فأخبرته، فَقَالَ: خذ نصف العطاء واذهب به، فإذا حدثك بالخمسة فخذ النصف الآخر فاذهب به حتى تكون عشرة. قال: فأتيته بنصف عطائه، فأخذه فوضعه في كفه، ثم سكت/، فقلت:
حَدَّثَني. فقالت: اكتب. فأملى علي حديثين. قَالَ: قُلْتُ: وعدتني خمسة. قَالَ: فأين الدراهم كلها؟ أحسب أن أباك أمرك بهذا، ولم يعلم أن الأعمش قد شهد الوقائع، اذهب وجئ بتمامها كلها وتعال أحدثك خمسة أحاديث. قَالَ: فجئته فحدثني بخمسة.
قَالَ: فكان إذا كان كل شهر جئته بعطائه فحدثني بخمسة أحاديث [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن علي، أخبرنا الأزهري، حدثنا عبيد الله بْن عثمان الزيات، حدثنا علي بن محمد المصري قَالَ: حدثني [2] عبد الرحمن بن حاتم المرادي قَالَ: حَدَّثَني [3] أسد بن عفير قال: حدثني رجل من أهل هذا الشأن من أهل المروة والأدب قَالَ: جاء رجل إلى وكيع فقال لَهُ: إني أمت إليك بحرمة. قَالَ: وما حرمتك؟ قَالَ: كنت تكتب من محبرتي في مجلس الأعمش. قَالَ:
فوثب وكيع فأخرج له من منزله صرة فيها دنانير وقَالَ: أعذرني، فإني ما أملك غيرها [4] .
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي بن ثابت قال: أخبرني إبراهيم بن عمر البرمكي، حدثنا عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، أخبرنا محمد بن أيوب بن المعافى قَالَ: سمعت إبراهيم الحربي يقول: سمعت أحمد بن حنبل ذكر يوما وكيعا فَقَالَ: ما رأت عيني مثْلَه قط، يحفظ الحديث جيدا، ويذاكر بالفقه فيحسن، مع ورع واجتهاد، ولا يتكلم في أحد [5] .
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ خَيْرُونَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مسعدة، أخبرنا حمزة بن
__________
[1] انظر، تاريخ بغداد 13/ 498- 499.
[2] في الأصل: «وحدثني» .
[3] في الأصل: «وحدثني» .
[4] انظر: تاريخ بغداد 13/ 500.
[5] انظر: تاريخ بغداد 13/ 504- 505.

(10/43)


يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ/ قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَاتَ لَمْ يُدْفَنْ حَتَّى رَبَا بَطْنُهُ وانتشرت خِنْصَرَاهُ. قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَكِيعٌ وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَكَانَتْ سَنَةً حَجَّ فِيهَا الرَّشِيدُ فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ، فَدَعَا الرَّشِيدُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، وَعَبْدَ الْمَجِيدِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، فَأَمَّا عَبْدُ الْمَجِيدِ فَقَالَ: يَجِبُ أَنْ يُقْتَلَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ هَذَا إِلا وَفِي قَلْبِهِ غِشٌّ لِلنَّبِيِّ صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فسأل الرشيد سفيان بن عيينة فَقَالَ: لا يجب عليه القتل رجل سمع حديثا فرواه، لا يجب عَلَيْهِ القتل، إن المدينة شديدة الحر، توفي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، فنزل إلى قبره ليلة الأربعاء لأن القوم كانوا في صلاح أمة مُحَمَّد صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم، واختلفت قريش والأنصار، فمن ذلك تغير.
قال قتيبة: فكان وكيع إذا ذكر له فعل عَبْد المجيد قَالَ: ذلك رجل جاهل، سمع حديثا لم يعرف وجهه، فتكلم بما تكلم.
توفي وكيع بفيد في هذه السنة وهو ابن ست وستين سنة.

(10/44)


ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها:
استئمان خزيمة بن خازم إلى طاهر بن الحسين، ومفارقته محمدا [1] .
وسبب ذلك: أن طاهرا كتب إلى خزيمة، فشاور/ من يثق بِهِ، فقالوا: نرى والله أن هذا الرجل أخذ بقفا صاحبنا عن قليل، فاحتل لنفسك ولنا. فكتب إلى طاهر بطاعته، وكتب طاهر بن محمد بن علي بن عيسى بن ماهان بمثل ذلك، فلما كان ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم وثب خزيمة ومحمد بن علي بن عيسى بن ماهان على جسر دجلة فقطعاه، وركبا أعلامهما عَلَيْهِ، وخلعا محمدا ودعوا للمأمون، وغدا طاهر يوم الخميس على المدينة الشرقية وأرباضها والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتي الصراة العتيقة والحديثة، واشتد عندهما القتال، وباشر طاهر القتال بنفسه، فهزم أصحاب محمد ودخل قسرا، وأمر مناديه فنادى: الأمان لمن لزم منزله. ووضع بقصر الوضاح وسوق الكرخ والأطراف قوادا وجندا، وقصدوا مدينة أبي جعفر فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد ورمى، فخرج محمد بأمه وولده مما كان يصل إليه من حجارة المنجنيق إلى مدينة أبي جعفر، وتفرق عنه عامة أصحابه وخصيانه [2] وجواريه إلى السكك والطرق لا يلوي أحد منهم على أحد، وتفرق الغوغاء والسفلة، وأمر ببسطه ومجالسه أن تحرق فأحرقت [3] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 472.
[2] في الأصل: «وخطيانه» والتصحيح من تاريخ الطبري 8/ 474.
[3] تاريخ الطبري 8/ 472- 474.

(10/45)


وفي هذه السنة: قتل محمد بن هارون، وذلك أنه لما تيقن محمد أنه لا عدة له للحصار، وخاف أن يظفر به وبأصحابه صار إليه حاتم بن الصقر، ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الأفريقي وقواده، فقالوا: قد آلت حالك/ وحالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك فانظر فيه، فإنا نرجو أن يكون صوابا. قال: ما هو؟ قالوا: قد تفرق عنك النَّاسَ، وأحاط بك عدوك من كل جانب، وقد بقي من خيلك معك ألف فرس، فنرى أن تختار من قد عرفناه بمحبتك من الأبناء مع ألف رجل، ونخرج ليلا من هذه الأبواب حتى نلحق بالجزيرة والشام، فتفرض [الفروض] [1] وتجبي الخراج، وتصير في مملكة واسعة، ويسارع إليك الناس. فَقَالَ: نعم ما رأيتم. واعتزم على ذَلِكَ.
فخرج الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك، وإلى السندي بن شاهك: والله لئن لم تردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها، ولا يكون لي همة إلا أنفسكم. فدخلوا على محمد فقالوا: قد بلغنا الذي عزمت عليه، ولسنا نأمن الذين تخرج معهم أن يأخذوك أسيرا ويأخذوا رأسك، فيتقربوا بك.
فأضرب عما كان عزم عليه، ومال إلى طلب الأمان، فلما اشتد الحصار عليه فارقه سليمان بن أبي جعفر، وإبراهيم بن المهدي، ومحمد بن عيسى بن نهيك، ولحقوا جميعا بعسكر المأمون، وقَالَ له السندي: بادر بنا إلى هرثمة، واخرج ليلا، فغضب طاهر، وأراد أن يخرج إليه. فقيل له يخرج إلى هرثمة لأنه يأنس به، ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة. فقيل لطاهر: هذا مكر منه، وإن الخاتم والقضيب والبردة تحمل معه إلى هرثمة/.
فاغتاظ وكمن حول القصر كمينا بالسلاح، وذلك ليلة الأحد لخمس مضين من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائة، وذلك لخمس وعشرين من أيلول.
فلما أراد الخروج استسقى ماء، فلم يوجد له، فدعا بولديه فضمهما إليه وقبلهما
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأضفناه من الطبري 8/ 478.

(10/46)


وقَالَ: استودعكما الله. وجعل يمسح دموعه، ولبس ثياب الخلافة، وركب يريد هرثمة، وبين يديه شمعة. فلما انتهى إلى دار الحرس قال لخادمه: اسقني من جباب الحرس.
فناوله كوزا، فعافه لزهوكته [1] ، فلم يشرب منه، فلما أن سار في الحراقة [2] خرج طاهر وأصحابه فرموا الحراقة بالسهام والحجارة فانكبت الحراقة، فغرق محمد ومن كان فيها، فشق محمد ثيابه وسبح حتى عبر، فصار إلى بستان موسى، فعرفه محمد بن حميد الطاهري، فصاح بأصحابه، فنزلوا فأخذوه، فبادر محمد الماء، فأخذوا بساقيه، ثم حمل على برذون وألقي عليه إزار من أزر [3] الجند غير مفتول، وحمل إلى منزل إبراهيم بن جعفر البلخي، وكان بباب الكوفة، وأردف رجل خلفه ليلا يسفط كما يفعل بالأسير [4] .
وقيل إنه عرض على الذين أخذوه مائة حبة، كل حبة قيمتها مائة ألف، فأبوا أن يتركوه، وجاء الخبر بذلك إلى طاهر بن الحسين، فدعا مولى له يقال لَهُ: قريش الدنداني، فأمره بقتل محمد، فلما انتصف الليل فتح الدار قوم من العجم، بأيديهم السيوف مسللة، فلما رآهم قام قائما/ وقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 [5] ذهبت والله نفسي في سبيل الله، أما من حيلة، أما من مغيث!؟ [6] فلما وصلوا إليه أحجموا عن الإقدام، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم. فأخذ محمد بيده وسادة وجعل يَقُولُ: ويحكم، إني ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن هارون، وأخو المأمون، الله الله في دمي. فدخل عليه رجل يقال له: حميرويه [7]- غلام لقريش الدنداني- فضربه بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه، وضرب وجهه بالوسادة التي كانت في يده، ودخل جماعة، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحا من قفاه، وأخذوا راسه، فمضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته، فنصب طاهر الرأس
__________
[1] في الأصل: «لشهوكته» . والزهوكة: الرائحة الكريهة.
[2] الحراقة: نوع من السفن بها مرامي للنيران.
[3] في الأصل: «إزار» .
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 478- 483.
[5] سورة: البقرة، الآية: 156.
[6] انظر: تاريخ الطبري 8/ 486- 487.
[7] في الطبري: «خمارويه» .

(10/47)


عَلَى رمح على برج حائط البستان الذي يلي باب الأنبار، وفتح باب الأنبار، وتلى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ 3: 26 [1] .
وخرج من أهل بغداد من لا يحصى عدده ينظر إليه، ثم بعث برأسه إلى المأمون مع الرداء والقضيب والبردة، فأمر له بألف ألف دينار، فأدخل ذو الرئاستين الرأس [2] بيده على ترس إلى المأمون، فلما رآه سجد، وأعطى طاهر بعد قتل محمد الناس كلهم الأمان، وهدأ الناس، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، فصلى بالناس وخطبهم، وحض على الطاعة ولزوم الجماعة، وانصرف إلى معسكره. [3] وفي هذه السنة: وثب الجند بعد مقتل محمد بخمسة أيام بطاهر، وشهروا السلاح، ونادوا: يا منصور. / فهرب منهم طاهر، وتغيب أياما حتى أصلح أمرهم.
وكان السبب أنه لم يكن عنده مال، فضاق به الأمر فهرب، وانتهب بعض متاعه، ومضى إلى عقرقوف [4] ، وتهيأ لقتالهم بمن معه من القواد، فأتوه واعتذروا، وأحالوا على السفهاء والأحداث، وسألوه الصفح عَنْهُمْ، فأمر لهم برزق أربعة أشهر، وكان قد أمر بحفظ أبواب المدينة، وباب القصر على أم جعفر، وموسى، وعبد الله ابني محمد، ثم أمر بتحويل زبيدة وموسى وعبد الله معها من قصر أبي جعفر إلى الخلد، فحوّلوا ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول، ثم أمر بحمل موسى وعبد الله إلى عمهما. [5] وفي هذه السنة: ورد كتاب المأمون بعد قتل محمد على طاهر وهرثمة بخلع القاسم بْن هارون، فأظهرا ذَلِكَ، ووجها كتبهما به، وقرئ الكتاب بخلعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول.
وفي هذه السنة بويع للمأمون البيعة العامة.
__________
[1] سورة: آل عمران، الآية: 26.
[2] في الأصل: «فأدخل الرأس ذو الرئاستين» .
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 486- 488.
[4] في الأصل: «عاقرقوف»
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 495- 496.

(10/48)


باب ذكر خلافة المأمون [1]
واسمه: عبد الله بن هارون الرشيد، وكان يكنى أبا العباس في أيام الرشيد، وكان في خلافته تكنى بأبي جعفر تفاؤلا بكنية المنصور والرشيد في طول العمر.
ولد ليلة استخلف الرشيد في ربيع الأول سنة سبعين، وكان أبيض، أقنى، أعين، جميلا، طويل اللحية، قد وخطه/ الشيب، ضيق الجبهة، بخده خال أسود يعلوه صفرة، ساقاه دون سائر جسده صفراوين كأنهما طليا بالزعفران، وأمه أمة اسمها مراجل، ماتت بعد ولادته بقليل، فسلمه الرشيد إلى سعيد الجوهري، وكان من زمن صغره فطنا ذكيا.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بْن علي [بْن ثابت] [2] الخطيب قَالَ: أخبرني الأزهري قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بْن مُحَمَّد بْن عرفة قَالَ: قال أبو محمد اليزيدي: كنت أؤدب المأمون وهو في حجر سعيد الجوهري. قَالَ: فأتيته يوما وهو داخل، فوجهت إليه بعض خدمه [3] يعلمه بمكاني، فأبطأ علي، ثم وجهت آخر فأبطأ عليّ، فقلت لسعيد: إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة وتأخر. فَقَالَ: أجل، ومع هذا إذا فارقك عزم على خدمه، ولقوا منه أذى شديدا، فقومه بالأدب، فلما خرج أمرت
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 527. وتاريخ بغداد 10/ 183- 192.
ومن هنا تبدأ النسخة ت في هذا الجزء.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] في ت: «فوجهت إليه بعد خدمه» .

(10/49)


بحمله فضربته سبع درر. قَالَ: فإنه ليدلك عينه من البكاء [1] إذ قِيلَ: هذا جعفر بن يحيى قد أقبل، فأخذ منديلا، فمسح عينيه، وجمع ثيابه، وقام إلى فراشه، فقعد عليه متربعا وقال: ليدخل. فدخل، فقمت إلى المجلس، وخفت أن يشكوني إليه، فألقى منه ما أكره، فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه، وضحك إليه، فلما هم بالحركة دعى بدابته، وأمر غلمانه فسعوا بين يديه، ثم سأل عني، فجئت فَقَالَ: خذ علي ما بقي من جزئي، فقلت: أيها الأمير، أطال الله بقاءك، لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر بن يحيى، ولو فعلت/ ذلك لتنكر لي. فقال: أتراني يا أبا محمد كنت أطلع الرشيد على هذا، فكيف بجعفر بن يحيى حتى أطلعه إني أحتاج إلى أدب [2] ، أدب يغفر الله لك بعد ظنك، خذ في أمرك، فقد خطر ببالك ما لا تراه أبدا، ولو عدت كل يوم مائة مرة [3] .
وروى الطالقاني قَالَ: قال الرشيد لأبي معاوية الضرير وهشيم: إني أسمع من ابني هذا- يعني المأمون- كلاما لست أدري أمن تلقين القيم عليه هو أم من قريحة؟
فادخلا إليه، فناظراه وأسمعا منه، وأخبراني بما تقفان عليه. فدخلا عليه وهو في أثواب صباه، فقالا له: إن أمير المؤمنين أمرنا بالدخول عليك ومناظرتك، فأي العلوم أحب إليك؟ قال: أمتعها لي. قالا: وما أمتعها لك. قَالَ: أثبتها عن ثقة، وأقربها من أفهام مستمعيها. فقال له هشيم: جئناك لنعلمك فتعلمنا. ثم أخبرا الرشيد فقالا: إن هذا شيء أوله لحقيق أن يرجى آخره، ثم أعتق عنه مائة عبد وأمة، وألزمها خدمته.
وبلغنا أن أم جعفر عاتبت الرشيد على تقريبه المأمون دون ابنها محمد، فدعا خادما بحضرتها، وقال لَهُ: وجه إلى عبد الله ومحمد خادمين حصيفين يقولان لكل واحد منهما عَلَى الخلوة: ما يفعل به إذا أفضت الخلافة إِلَيْهِ؟. فأما محمد فقال للخادم الذي مضى إليه: أقطعك وأوليك وأبلغ لك. وأما المأمون فرمى الخادم بالدواة وقال: يا ابن اللخناء تسلني ما أفعل بك بموت أمير المؤمنين؟ بل نكون جميعا فداء له. فرجع بالخبر/ كل منهما. فقال لأم جعفر: كيف ترين ما أقدم ابنك إلا متابعة لرأيك وتركا
__________
[1] في الأصل: «بالبكاء» .
[2] في الأصل: «أحتاج إلى أدب أدّب» .
[3] انظر: تاريخ بغداد 10/ 184- 185.

(10/50)


للجزع، وقد كان المأمون يعنى بالعلم قبل ولايته كثيرا حتى جعل لنفسه مجلس نظر.
أَخْبَرَنَا ابن ناصر قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْنِ أَيُّوبَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو علي الطوماري قَالَ: أخبرنا أبو الحسين بن الفهم قَالَ: حدثنا يحيى بن أكثم قَالَ: كان المأمون قبل تقلده الخلافة يجلس للنظر، فدخل يهودي حسن الوجه، طيب الرائحة، حسن الثوب، فتكلم فأحسن الكلام، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال لَهُ: إسرائيلي؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أسلم حتى أفعل لك وأصنع. فَقَالَ:
ديني ودين آبائي فلا تكشفني. فتركه، فلما كان بعد سنة جاءنا وهو مسلم، فتكلم في الفقه [1] ، فأحسن الكلام، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فَقَالَ: ألست صاحبنا؟
قَالَ: نعم. قَالَ: أي شيء دعاك إلى الإسلام، وقد كنت عرضته عليك فأبيت؟ قَالَ:
إني أحسن الخط، فمضيت فكتبت ثلاث نسخ من التوراة، فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة، فبعتها، فاشتريت. قَالَ: وكتبت ثلاث نسخ من الإنجيل، فزدت فيها ونقصت فأدخلتها إلى البيعة فاشتريت مني. قَالَ: وعمدت إلى القرآن فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها إلى الوراقين، فكلما تصفحوها قرءوا الزيادة والنقصان ورموا بها، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ، فكان سبب إسلامي.
قال يحيى بن أكثم: فحججت فرأيت سفيان/ بن عيينة فحدثته بهذا الحديث فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل. قُلْتُ: في أي موضع؟ قَالَ: في قوله عز وجل في التوراة والإنجيل: بِمَا اسْتُحْفِظُوا من كِتابِ الله وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ 5: 44 [2] فجعل حفظه إليهم فضاع. وقال الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 15: 9 [3] .
فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع.
أخبرنا القزاز [4] قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الحصين بن أبي بَكْر قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبد الله الشافعي قال: حدثنا عمر بن حفص السدوسي قال:
__________
[1] في الأصل: «فتكلم علي للفقه» .
[2] سورة: المائدة، الآية: 44.
[3] سورة: الحجر، الآية: 9.
[4] في ت: «أخبرنا القرآن» .

(10/51)


حَدَّثَنَا محمد بن يزيد قَالَ: استخلف المأمون في المحرم سنة ثمان وتسعين [ومائة] [1] ، وقد سلّم عليه بالخلافة قبل ذلك ببلاد خراسان نحو سنتين، وخلع أهل خراسان وغيرها محمد بن هارون [2] .
فصل
ولما استوثق الأمر للمأمون ولى الحسن بن سهل كل ما افتتحه طاهر بن الحسين من كور الجبال وفارس والأهواز والكوفة والبصرة والحجاز واليمن، وكتب المأمون إلى طاهر بتسليم جميع ما في يده من الأعمال في البلدان إلى خلفاء الحسن بن سهل، وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، فقدم علي بن سعيد الوراق خليفة الحسن بن سهل على خراجها، فدافع طاهر عليا بتسليم الخراج إليه حتى وفى الجند أرزاقهم، ثم سلم إليه العمل.
ذكر طرف من أخبار المأمون وسيرته
كان المأمون يحفظ القرآن، وقد سمع الحديث/ من مالك بن أنس، وحماد بن زيد، وهشيم، وغيرهم، وكان له حظ من علوم كثيرة، وأسند الحديث.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قَالَ: أخبرني الخلال قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يعقوب قَالَ: حدثنا أحمد بن عبد الله الوكيل قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ قال: سمعت أبي يَقُولُ: لم يحفظ القرآن من الخلفاء إلا عثمان والمأمون، وكان المأمون يقرأ القرآن كثيرا، فروى عنه ذو الرئاستين أنه ختم في رمضان ثلاثة وثلاثين ختمة، وكان يحفظ الحديث ويرويه.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ [3] قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ قال: أنبأنا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] انظر: تاريخ بغداد 10/ 183- 184.
[3] في الأصل: «أنبأنا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بن ثابت قَالَ: أخبرني الخلال قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يعقوب قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه قَالَ: أنبأنا محمد بن ناصر.

(10/52)


عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْكَتَّانِيُّ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ السّليطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عِيسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ السُّلَمِيُّ صَاحِبُ ابْنِ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ الْبُخَارِيُّ قال: سمعت المأمون أمير المؤمنين يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» وَقَالَ مَرَّةً: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» . قال محمد بن قدامة: بلغ المأمون أن أبا حذيفة حدث بهذا الحديث عنه، فأمر له بعشرة آلاف درهم.
أنبأنا زاهر/ [بْن طاهر] [1] قَالَ: أنبأنا أَحْمَد بْن الحسين البيهقي قال:
أخبرنا [2] الحاكم أبو عبد الله [محمد بن عبد الله] قَالَ: حدثني أبو علي منصور بن عبد الله بن خالد المروزي قَالَ: حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حمدويه قال:
حدثنا إبراهيم بن يونس بن مروان الضبي قَالَ: حدثني [3] نصر بن منصور الطفاوي قَالَ: حدثنا أبو عمر الحوضي قال: لما دخل المأمون مصر قام إليه فرج الأسود مولاه، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، الحمد للَّه الذي كفاك أمر عدوك، ودان لك العراقان والشامان ومصر وخراسان، وأنت ابن عم رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم والعالم به. فَقَالَ: ويحك يا فرج، قد بقيت لي خلة. قلت: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: جلوسي في عسكر، ومستمل يجيء فيقول: من ذكرت رضي الله عنك؟ فأقول: حَدَّثَنَا الْحَمَّادَانِ: حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالا: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «من عال ابنتين أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً حَتَّى يَمُتْنَ أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ» فَأَوْمَأَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِالْوُسْطَى وَالإِبْهَامِ.
قال الحاكم: وسمعت أبا الحسين محمد بن محمد بن يعقوب الحافظ يقول:
سمعت أبا العباس مُحَمَّد بن إسحاق يَقُولُ: سمعت محمد بن سهل يقول: كنت بالمصيصة وبها المأمون أمير المؤمنين، فأذن يوما [للناس فقام إليه] [4] شاب وبيده
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] في ت: «حدثنا» .
[3] في الأصل: «وحدثني» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وما أثبتناه من ت.

(10/53)


محبرة، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، صاحب حديث منقطع بِهِ/ فقال له المأمون: أي شيء تحفظ من باب كذا؟ فلم يذكر الفتى شيئا، فما زال المأمون يَقُولُ: حدثنا هشيم، وحدثنا أبو الأحوص، وحدّثنا وكيع، حتى ذكر الباب، ثم قَالَ: وإيش تحفظ في باب كذا؟ فلم يذكر الفتى شيئا، فما زال المأمون يَقُولُ: حدثنا حجاج بن محمد، وحدثنا فلان وفلان، حتى ذكر الباب، ثم التفت إلى الفضل فقال: أحدهم يطلب الحديث ثلاثة أيام ثم يقول أنا من أصحاب الحديث، أعطوه ثلاثة آلاف درهم.
أخبرنا هبة الله بن أحمد الحرسي قال: أخبرنا إبراهيم عن عمر البرمكي قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْن أحمد بن خلف قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي الطبري قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن داود قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن عون قَالَ: سمعت ابن عيينة يَقُولُ:
جمع أمير المؤمنين العلماء وجلس للناس، فجاءت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين، مات أخي وخلف ستمائة دينار، أعطوني دينارا واحدا وقالوا: هذا نصيبك. قَالَ: فحسب المأمون ثم قَالَ: هكذا نصيبك رحمك اللَّه، فقالت العلماء: كيف علمت يا أمير المؤمنين؟ فقال لها: هذا الرجل خلف أربع بنات. قالت: نعم. قال: فلهما الثلثان أربعمائة وخلف والدة فلها السدس مائة، وخلف زوجة فلها الثمن خمسة وسبعون دينارا، باللَّه لك اثنا عشر أخا. قالت: نعم. قال: أصابهم ديناران ديناران، وأصابك دينار/.
[أخبرنا ابن ناصر قَالَ: أَخْبَرَنَا محفوظ بْن أحمد الفقيه قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلي مُحَمَّد بْن الحسين الجازري قَالَ: حَدَّثَنَا المعافى بْن زكريّا قَالَ:] [1] أَخْبَرَنَا محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا الحسين [2] بن يحيى الكاتب قَالَ: حدثني من سمع قحطبة بن حميد بن قحطبة يَقُولُ: حضرت المأمون يناظر محمد بن القاسم النوشجاني يقول في شيء ومحمد يفضي له ويصدقه. فقال له المأمون: أراك تنقاد لي إلى ما ترى أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك، ولو شئت أن أقيس الأمور بفضل بيان، وطول لسان، وأبهة الخلافة، وسطوة الرئاسة لصدقت وإن كنت كاذبا، وصوبت، وإن كنت مخطئا وعدلت، وإن كنت جائرا، ولكن لا أرضى إلا بإزالة الشبهة، وغلبة
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] في الأصل: «حدثنا الحسن بن يحيى» .

(10/54)


الحجة، وإن شر الملوك عقلا وأسخفهم رأيا من رضي بقولهم: صدق الأمير.
قال: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا القاضي أبو العلا الواسطي قَالَ: حدثنا علي بن عمر الحافظ قال: حدّثنا الكوكبي قال: حدّثنا أبو عكرمة الضَّبُّي قَالَ: حدثني ابن الأعرابي قَالَ: بعث إلي المأمون فصرت إليه وهو في بستان يحيى بن أكثم، فرأيتهما موليين، فجلست، فلما أقبلا قمت فسلمت عليه بالخلافة، فسمعته يقول ليحيى: يا أبا مُحَمَّد، ما أحسن أدبه، رآنا موليين فجلس، ثم رآنا مقبلين فقام ثم رد السَّلَام وقَالَ: يا مُحَمَّد، أخبرني عن أحسن ما قيل في الشراب فقلت: يا أمير المؤمنين، قوله:
تريك القذى من دونها وهي دونه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمنطق
فقال: أشعر منه الذي يقول: - يعني أبا نواس-
/ فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
فعلت في البيت إذ مزجت ... مثل فعل الصبح في الظلم
واهتدى ساري الظلام بها ... كاهتداء السفر بالعلم
فقلت: فائدة يا أمير المؤمنين. فَقَالَ: أخبرني عن قول هند بنت عُتْبَة:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
من طارق هذا؟ قَالَ: فنظرت في نسبها فلم أجده. فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أعرف في نسبها! فقال: إنما أرادت النجم، فانتسبت إليه لحسنها، من قول الله عز وجل: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ 86: 1 [1] . فقلت: فائدتان يا أمير المؤمنين قال: أنا بؤبؤ هذا الأمر [2] [وأنت بؤبؤه] [3] . ثم دفع [4] إليّ بعنبرة وكان يقلبها في يده، فبعتها بخمسة آلاف درهم [5] .
__________
[1] سورة: الطارق، الآية: 1.
[2] في الأصل: «أنا أبو هذا الأمر» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[4] في ت: «ثم دحا» .
[5] انظر: تاريخ بغداد 5/ 284- 285.

(10/55)


حدثنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرني الأزهري قال: حدّثنا محمد بن جامع قَالَ: حدثنا أبو عمر الزاهد قَالَ: حدثنا المبرد قَالَ: حدثني عمارة بْن عُقَيْل قَالَ: قال لي ابن أبي حفصة الشاعر: أعلمت أن أمير المؤمنين لا يبصر الشعر!؟ فقلت: ومن يكون أفرس منه!؟ والله إنا لننشد أول البيت فيسبق إلى آخره من غير أن يكون سمعه. قَالَ: إني أنشدته شيئا أجدت فيه، فلم أره تحرك لَهُ، فأسمعه:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
/ فقلت: ما زدته على أن جعلته عجوزا في محرابها في يدها سبحة، فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولا عنها، وهو المطوق بها؟ ألا قلت كما قال جرير لعمر بن عبد العزيز:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله [1]
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: حدثنا أحمد بن علي قال: أخبرنا يحيى بن الحَسَن بْن المنذر قَالَ: حدثنا إسماعيل بن سعيد المعدل قَالَ: حدثنا أبو بكر بن دريد قَالَ: حَدَّثَنَا الحسن بن خضر قَالَ: سمعت ابن أبي دؤاد يقول: أدخل رجل من الخوارج على المأمون فَقَالَ: ما حملك على خلافنا؟ قَالَ: آية في كتاب الله عز وجل. قَالَ: وما هِيَ؟ قَالَ: قوله: وَمن لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ 5: 44 [2] قال له المأمون: ألك علم بأنها منزلة؟ قال: نعم. قال: وما دليلك؟ قَالَ: إجماع الأمة. قَالَ:
فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل فارض بإجماعهم في التأويل. قَالَ: صدقت، السلام عليك يا أمير المؤمنين [3] .
أخبرنا عبد الرحمن [القزاز قَالَ:] [4] أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الحسن بن مُحَمَّد الخلال قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن عمران قَالَ: حدثنا محمد بن الحسن بن محمد الموصلي قَالَ: حدثنا عبد الله بن محمود المروزي قال: سمعت
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 10/ 189.
[2] سورة: المائدة، الآية: 44.
[3] انظر: تاريخ بغداد 10/ 186.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.

(10/56)


يحيى بن أكثم يَقُولُ: ما رأيت أكمل آلة من المأمون. وجعل يحدث بأشياء استحسنها من كَانَ في مجلسه. ثم قال: كنت عنده ليلة أذاكره وأحدثه، / ثم نام وانتبه وقال: يا يحيى، انظر أيش عند رجلي. فنظرت فلم أر شيئا. فَقَالَ: شمعة، فتبادر الفراشون.
فَقَالَ، انظروا، فنظروا، فإذا تحت فراشه حية بطوله، فقتلوها، فقلت: قد انضاف إلى كمال أمير المؤمنين علم الغيب. فقال: معاذ الله، ولكن هتف بي هاتف الساعة وأنا نائم:
يا راقد الليل انتبه ... إن الخطوب لها سرى
ثقة الفتى بزمانه ... ثقة محللة العرى
فانتبهت، فعلمت أن قد حدث أمر إما قريب، وإما بعيد. فتأملت ما قرب فكان ما رأيت [1] .
أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ قَالَ: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد الفقيه قَالَ:
أخبرنا ابن دودان قَالَ: أخبرنا المرزباني قَالَ: أخبرنا ابن دريد، عن أبي العيناء قال:
قصد أعرابي المأمون فوقف على بابه سنة لا يصل إِلَيْهِ، فصاح الأعرابي يوما: نصيحة، نصيحة. قَالَ: فأدخل على المأمون فقال لَهُ: يا أعرابي، ما نصيحتك؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، رأيت البارحة رؤيا، وقد أحببت أن تفسرها لي. فتبسم المأمون وقَالَ: ما الرؤيا؟ فأنشأ يَقُولُ:
إني رأيتك في منامي سيّدي ... يا ابن الإمام على الجواد السابق
وكسوتني حللا طرائف حسنها ... يزهو لدي مع الكميت الفائق
فقال المأمون: ادفعوا إلى الأعرابي خلعة وفرسا/ كميتا بسرجه ولجامه. فلما دفع إِلَيْهِ قَالَ: يا أمير المؤمنين:
وأجزتني بخريطة مملوءة ... ذهبا وأخرى باللجين الفائق
فقال المأمون: يدفع إليه ألف دينار، وألف درهم، فقبض ذلك وأنشأ يَقُولُ:
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 10/ 188.

(10/57)


وأجزتني بخريدة رومية ... حسناء تشفع بالغلام الفائق
فقال المأمون: يدفع إليه ذَلِكَ، ثم قَالَ: يا أعرابي، إياك أن ترى مثل هذه، فربما لم تجد من يفسرها لك.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ التَّنُّوخِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر أَحْمَدَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدُّورِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ أَحْمَدَ الْهَاشِمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جُمْعَةَ النَّحَّاسُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ عبد الله بن علي بن عبد الله بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُونِ، فَجَعَلَ لا يَمُرُّ عَلَيْهِ غُلامٌ مِنْ غِلْمَانِهِ إِلا أَعْتَقَهُ، وَعَلَى رَأْسِهِ غُلامٌ نَظِيفٌ، نَظِيفُ الثِّيَابِ، وَكُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يَعْتِقَهُ فِيمَنْ يَعْتِقُ، فَلَمَّا تَنَحَّى الْغُلامُ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ المؤمنين، رأيت لا يَمُرُّ أَحَدٌ مِنْ غِلْمَانِكَ إِلا أَعْتَقْتَهُ وعلى رأسك غلام مَنْ صِفَتُهُ وَحَالَهُ، وَكُنْتُ أُحِبُّ أَنْ تَعْتِقَهُ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ آبَائِهِ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «طِينَةُ الْمُعْتِقِ مِنْ طِينَةِ الْمُعْتَقِ» وَالَّذِي رأيته على رأسي حجام، فكرهت/ أن يكون من طينتنا حجام.
أخبرنا ابن ناصر قَالَ: أخبرنا ابن المبارك عبد الجبار قال: أخبرنا الجوهري قال:
أخبرنا ابن حيوية قَالَ: حدثنا المقدمي، عن الحارث بن محمد قَالَ: أخبرني بعض أصحابنا قَالَ: بكّر أحمد بن أبي خالد يقرأ على المأمون قصصا، فجاع، فمرت به قصة فيها فلان بن فلان اليزيدي، فقرأ: الثريدي. فقال المأمون: يا غلام، صحفة مملوءة ثريدا لأبي العباس، فإنه أصبح جائعا. فاستحيى وقَالَ: ما أنا بجائع، ولكن صاحب القصة أحمق، نقط على الياء ثلاث نقط. فَقَالَ: ما أنفع جمعه لك. فأحضرت الصحفة مملوءة ثريدا وعراقا وودكا، فخجل أحمد، فَقَالَ له المأمون: بحياتي لما ملت إليها فأكلت. فعدل فأكل حتى اكتفى وغسل يده، وعاود القراءة، ومرت قصة فلان بن فلان الحمصي، فقرأ: الخبيصي فقال المأمون: يا غلام، جام مملوء خبيصا لأبي العباس، فإن طعامه كان مبتورا. فاستحيى وقَالَ: يا سيدي، صاحب القصة أحمق، فتح الميم فصارت سنتين. فَقَالَ: لولا حمقه وحمق صاحبه مت اليوم جوعا، فأتي بجام مملوء خبيصا، فخجل، فقال المأمون: بحياتي إلا ملت نحوه فأكلت. فأكل وغسل يده، وعاود القراءة، فما أسقط حرفا حتى انقضى/ المجلس.

(10/58)


وقال محمد بن الْجَهْمُ: دعاني المأمون فقال: أنشدني بيت مدح نادر. فأنشدته:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
فَقَالَ: قد وليتك همذان، فأنشدني بيت هجاء نادر فأنشدته:
قبحت مناظره فحين خبرته ... حسنت مناظره لقبح المخبر
فَقَالَ: قد وليتك الدينور، فأنشدني بيت مرثية نادر، فأنشدته:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
فَقَالَ: قد وليتك نهاوند، فأنشدني بيت غزل. فأنشدته:
حب مجد وحبيب يلعب ... والقلب ما بينهما يذهب
ومن كلام المأمون:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو المعالي أحمد بن محمد البخاري قال:
أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الحسن بن رزقويه قال: أخبرنا أبو جعفر عبد الله بن إِسْمَاعِيل بن توتة/ قَالَ: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف قَالَ: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ محمد القرشي قَالَ: حَدَّثَني ابن هشام قَالَ: قال لي المأمون: يا عليّ، الملوك تحتمل لأصحابها كل شيء خلا ثلاث خصال. قلت: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرمة.
وبلغنا أن المأمون جمع ولده يوما فَقَالَ: يا بني، ليعلم الكبير منكم إنما عظم قدره بصغار عظموه، وقويت قوته بضعاف أطاعوه، وشرفت منزلته بعوام اتضعوا لَهُ، فلا يدعونه تفخيم المفخم منهم إياه إلى تصغيره، وتعزيز أمره إلى تذليله، ولا تستأثرن بعائده ورفق دونه، ولا يولعن بتسميته عمدا كما سمت الأعاجم وليا وأخا، فإن الشيء الذي قوامه من أجزاء خسيسة، ومعان مذمومة، فهو أيضا خسيس مذموم، وكل أمر من أولئك جزء من عدده، وعماد من عماد أمره، فإذا انحلت أجزاؤه، وزالت دعائمه مال العماد، وتهدم الكل، وقد قِيلَ إن من ملك أحرارا كان أشرف ممن ملك عبيدا مستكرهين، يا بني، ارجعوا فيما اشتبه عليكم من التدبير إلى آراء الحزمة المجربين، فإنّهم مرآتكم يرونكم ما لا ترون، قد صحبوا الدهور، وكفوكم الأمور بالتجارب، وقد

(10/59)


قِيلَ: إن من جرعك مر التبري أشفق عليك ممن أوجرك حلق النقم، ومن خوفك لتأمن أبر ممن أمنك لتخاف.
وقَالَ: الإخوان ثلاث طبقات، فأخ/ كالغذاء الذي تحتاج إليه في كل يوم وفي كل وقت، وهو الأخ العاقل الأديب، وأخ كالدواء تحتاج إليه عند الداء، وهو الأخ الأريب الّذي يصادق المودة، وأخ كالداء الذي لا يحتاج إليه، وهو الأحمق.
وكان المأمون يَقُولُ: أعظم الناس سلطانا من تسلط على نفسه فوليها بمحكم التدبير وملك هواه فحمله على محاسن الأمور، وأشرب معرفة الحق فانقاد للواجب، فوقف عند الشبهة حتى استوضح مقر الصواب فتوخاه ورزق عظيم الصبر فهان عليه هجوم النوائب تأميلا لما بعدها من عواقب الرغائب، وأعطي فضيلة التثبت، فحبس عزب لسانه، ومما ينبغي الاحتياط فيه اختيار الكفاة من الأعوان، وإنزالهم منازلهم، والانتصار بهم على ما يطيقونه. وأنشد:
من كان راعيه دينا في حلوبته ... فهو الذي نفسه في أمره ظلما
ترجو كفايته والغدر عادته ... ومن ولايته يستجني الندما
وقيل للمأمون: أي المجالس أحسن؟ قَالَ: ما نظر فيه إلى النَّاسَ.
وبعث المأمون رجلا ليسبق الحاج [1] ، فجاء بعد جماعة وكتب إلى المأمون رقعة ليسأله فيها شيئا، وكتب عليها: سابق الحاج. فنقط المأمون تحت الباء نقطة أخرى وردها إليه [2] .
ورفع [رجل] [3] صوته في مجلسه اسمه عبد الصمد، فقال:
لا ترفعن الصوت يا عبد الصمد ... إن الصواب في الأسد الأشد
/ أخبرنا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عُثْمَانَ الصابوني وأبو بكر البيهقي قالا:
أنبأنا أبو عبد الله الحاكم قَالَ: حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن الضبي قَالَ:
__________
[1] في الأصل: «ليسبق الناس» .
[2] «إليه» ساقط من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.

(10/60)


حَدَّثَنَا الحسن بن محمد الكاتب قَالَ: ذكر بشر بن الوليد القاضي المأمون فقال: كان والله الملك حقا، ما رأيت خليفة كان الكذب عليه أشد منه على المأمون، وكان يحتمل كل آفة تكون في الإنسان ولا يحتمل الكذب. قال لي يوما: صف لي أبا يوسف القاضي، فإنّي لم أره ولم استكثر منه. فوصفته له، فاستحسن صفته وقَالَ: وددت أن مثل هذا يحضرنا فنتجمل به [1] . ثم قَالَ: ما شيء من الخلافة إلا وأنا أحسن [أن] [2] أدبره، وأبلغ منه حيث أريد، وأقوى عليه، إلّا أمر أصحابك- يعني: القضاة- فو الله لقد اجتهدت وما ظنك بشيء يتحرج منه علي بن هشام، ويتوقى سوء عاقبته، ويتكالب عليه الفقهاء وأهل التصنع والرياء. فقلت: يا أمير المؤمنين، والله ما أدري ما أقصد فأجيب بحبسه. فَقَالَ: لكني أدريه، ولا والله ما تجيبني فيه بجواب مقنع أبدا. ثم ابتدأ فَقَالَ:
ولينا رجلا- أشرت به علينا- قضاء الأبلة، وأجرينا عليه ألف درهم، ولا له ضيعة ولا عقار ولا مال، فرجع صاحب الخبر بالناحية أن نفقته في الشهر أربعة آلاف درهم، فمن أين هذه الثلاثة آلاف درهم!؟
وولينا رجلا- أشار به/ محمد بن سماعة- دمشق، وأجرينا عليه ألفي درهم في الشهر، فأقام بها أربعة عشر شهرا، ووجهنا من يتتبع أمواله ويرجع إلينا بخبره [3] ، فصح عنه أنه يملك قيمة ثلاثة عشر ألف دينار من دابة وبغل وخادم وجارية وغير ذلك.
وولينا رجلا- أشار به غيركما- نهاوند، فأقام بعد عشرين شهرا من دخول يده في العمل سبعين بحينا وعشرين بحينا [4] ، وفي منزله أربعة خدم خصيان قيمتهم ألف وخمسمائة دينار، وذلك سوى نتاج فكر اتخذه. هات ما عندك من الجواب.
قُلْتُ: والله يا أمير المؤمنين ما عندي جواب. فَقَالَ: ألم أعلمك أنه لا جواب عندك!؟ وأكثر من هذا أنه ترغب لي علي بن هشام في رجل أوليته القضاء، فأعلمني
__________
[1] في ت: «فتتزين به» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] في الأصل: «ويرجع إليه بخبره» .
[4] هكذا بالأصلين.

(10/61)


أنّهُ وجده، فسرني والله، وسري عني، ورجوت أن يكون بحيث أحب، فأمرته بإحضاره، فغدا علي فسألته عن الرجل، فذكر أنه لم يجده على الصفة التي يحب، فسألته عن السبب في ذلك بعد وصفه الأول، فوصف أن الذي وصفه لي علي بن مقاتل، وأنه كان عنده من أهل العفاف والستر، فانصرف علي، ولم يحضره، ووجه إليه وهو لا يشك أنه يظهر كراهة لما أردناه عليه، ويستعفي تصنعا، فخبره بما أردناه له، فوثب إلى رأسه فقبله، فقضى أنه لا خير عنده، لأنه لو كان من أهل الخير لعد الذي دعا إليه إحدى المصائب والرزايا، / فقلت لَهُ: جزاك اللَّه عن إمامك ونفسك خير ما جزى امرأ عن إمامه ونفسه ودينه.
قال بشر: فبهت ولم أجر بكلمة، فقال لي: ولكن إذا أردت العفيف النظيف التقي النقي الطاهر الزكي- يعني الحسين- وهو بحالته التي فارقنا عليها، والله ما غير ولا بدل.
أما يحيى بن أكثم فما ندري ما عيبه!؟ أما ظاهره فأعف خلق اللَّه. فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما لك في الخلفاء شبيه إلا عمر بن الْخَطَّاب، فإنه كان يفحص عن عماله وعَنْ دقيق أسرار حكامه فحصا شافيا، وكان لا يخفى عليه ما يفيده كل امرئ منهم وما ينفق، وكل من نأى عنه كمن دنا منه في بحثه وتنقيره. فقال: يا بشر، إن أهم الأمور كلها إلي أمور الحكام، إذ كنا قد ألزمناهم النظر في الدماء والأموال والفروج والأحكام، ووددت أن يتأتى مائة قاض مرضيين، وأني أجوع يوما وأشبع يوما.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو عمر الحسن بْن عُثْمَان الواعظ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن محمد بن الحكم قال: حدثني [1] أحمد بن الحسن الكسائي قَالَ: حدثنا سليمان بن الفضل النهرواني قَالَ: حدثني يحيى بن أكثم قَالَ: بت ليلة عند المأمون فعطشت في جوف الليل، فقمت لأشرب ماء، فرآني المأمون فقال: ما لك ليس تنام يا يحيى؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أنا والله عطشان. فَقَالَ: ارجع إلى موضعك. فقام والله/ إلى البرادة فجاءني بكوز، فقام على رأسي فَقَالَ: اشرب يا يحيى. فقلت: يا أمير المؤمنين، فهلا وصيف أو وصيفة! فَقَالَ:
إنهم نيام. قلت: فأنا كنت أقوم أشرب! فقال لي: لؤم بالرجل أن يستخدم ضيفه. ثم
__________
[1] في الأصل: «وحدثني» .

(10/62)


قَالَ: يا يحيى قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قَالَ: ألا أحدثك. قُلْتُ: بلى يا أمير المؤمنين. فَقَالَ: حَدَّثَنِي الرَّشِيدُ قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَهْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَنْصُورُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الله قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيِّدُ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ» [1] .
حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الجوهري قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عمران المرزباني قَالَ: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى المكي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد، عن يحيى بن أكثم قَالَ: ما رأيت أكرم من المأمون، بت عنده ليلة فعطش، فكره أن يصيح بالغلمان، فرأيته قد [قام] [2] قليلا قليلا إلى البرادة وبينه وبينها بعد، فشرب ورجع.
قَالَ يحيى بن أكثم: ثم بت عنده ونحن بالشام، فأخذ المأمون سعال، فرأيته يسد فاه بكم قميصه حتى لا أنتبه. ثم حملني آخر الليل النوم، فكان له وقت يستاك فيه، فكره أن ينبهني، فلما ضاق الوقت عليه تحركت. فَقَالَ: الله أكبر يا غلمان، نعل أبي مُحَمَّد.
قال يحيى: وكنت أمشي معه يوما في ميدان البستان والشمس علي وهو في الظل، فلما رجعنا قَالَ لي: كن الآن في الظل. فأبيت عليه، فَقَالَ: أول العدل أن يعدل الملك في بطانته/ ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ الطبقة السفلى [3] .
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بَكْرِ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ علي المقرئ قال: أخبرنا محمد بن عبد الله النيسابوري قَالَ: سمعت أبا بكر بن داود بن سليمان الزاهد يَقُولُ: سمعت محمد بن عبد الرحمن الشامي يَقُولُ: سمعت أبا الصلت عبد السلام يَقُولُ: حبسني المأمون ليلة، فكنا نتحدث حتى ذهب من الليل ما ذهب، وطفئ السراج ونام القيّم الذي كان يصلح السراج، فدعاه فلم يجبه- وكان نائما- فقلت: يا أمير المؤمنين أصلحه. فقال: لا، فأصلحه هُوَ. ثم انتبه الغلام، فظننت أنه
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 10/ 187.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.
[3] انظر: تاريخ بغداد 10/ 187- 188.

(10/63)


يعاقبه، فسمعته يَقُولُ: ربما أكون في المتوضأ فيشتموني ولا يدرون أني أسمع فاعف عَنْهُمْ [1] .
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال:
أَخْبَرَنَا محمد بن العباس قال: حدثنا الصولي قال: حدثنا عون بن محمد قَالَ: حدثنا عبد الله بْن البواب قَالَ: كان المأمون يحلم حتى يغيظنا، وأنه في بعض الأوقات جلس يستاك عَلَى دجلة من وراء ستر ونحن قيام بين يديه، فمر ملاح وهو يقول بأعلى صوته:
أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه!؟ قال: فو الله ما زاد على أن تبسم وقَالَ: ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل!؟ [2] .
[أخبرنا] [3] أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ قال: أخبرنا عَلي بْن أبي عَلي المعدل قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر بن عبد الرحيم المازني قال:
حدّثنا الحسين بن القيم الكوكبي قَالَ: حدثنا أبو الفضل الربعي قَالَ: لما ولد أبو جعفر بن المأمون دخل المهنئون على المأمون فهنأوه بصنوف التهاني، وكان فيمن دخل/ عليه العباس بن الأحنف، فمثل قائما بين يديه، ثم أنشأ يَقُولُ:
مد لك الله الحياة مدا ... حتى يريك ابنك هذا جدا
ثم يفدى مثل ما تفدى ... كأنه أنت إذا تبدا
أشبه منك قامة وقدا ... مؤزرا [4] بمجده مردى
فأمر له بعشرة آلاف درهم [5] .
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا جعفر بن أحمد قال: أخبرنا عبد العزيز بْن الحسن الضراب قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مروان قَالَ: حَدَّثَنَا الحسن بن عليّ الربعي قَالَ: حدثني قحطبة بن حميد بن الحسن بن قحطبة قال: كنت
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 10/ 188- 189.
[2] انظر: تاريخ بغداد 10/ 189.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[4] في الأصل: «مؤتزرا» .
[5] انظر: تاريخ بغداد 10/ 189- 190.

(10/64)


واقفا على رأس المأمون يوما وقد قعد للمظالم، فأطال الجلوس حتى زالت الشمس، وإذا امرأة قد أقبلت تعثر في ذيلها حتى وقفت على طرف البساط، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم، فأقبل يحيى عليها فَقَالَ: تكلمي. فقالت: يا أمير المؤمنين، قد حيل بيني وبين ضيعتي، وليس لي ناصر إلا الله. فَقَالَ لها يحيى بن أكثم: إن الوقت قد فات، ولكن عودي يوم الخميس. قال: فرجعت، فلما كان يوم الخميس قال المأمون: أول من يدعى المرأة المظلومة. فدعا بها. فَقَالَ: أين خصمك؟ قالت: واقف على رأسك يا أمير المؤمنين، قد حيل بيني وبينه. وأومأت إلى العباس ابنه. فَقَالَ لأحمد بن أبي خَالِد: خذ بيده وأقعده معها. ففعل، فتناظرا ساعة/ حتى علا صوتهما عليه [1] فقال لها أحمد بن أبي خَالِد: إنك تناظرين الأمير أعزه الله بحضرة أمير المؤمنين أطال اللَّه بقاءه، فأخفضي عليك. فقال له المأمون: دعها يا أحمد، فإن الحق أنطقها، والباطل أخرسه. فلم تزل تناظره حتى حكم لها المأمون عليه، وأمر برد ضيعتها، وأمر ابن أبي خالد أن يدفع لها عشرة آلاف درهم.
وروى الصولي: أنه رفع إلى المأمون أن خادمه رشد الأسود يسرق طساسه وأبا ريقه، وكان عَلَى وضوئه، فعاتبه في ذلك فَقَالَ: رزقي يقصر عني، فأضعفه لَهُ. ثم فقد بعد ذلك طستا وإبريقا، فقال: بعني ويحك الشيء إذا أخذته. قَالَ: فاشتر مني هذا الطست وهذا الإبريق. قَالَ: بكم؟ قَالَ: بخمسة دنانير. فَقَالَ: ادفعوا له خمسة دنانير.
فقال لَهُ رشد: بقي والله هذان ما بقى الزمان، فقال لَهُ المأمون: قد رأيت المعاملة، فكل من تعلم أنه يسرق مني شيئا فقل له يبيعنيه.
وقال المأمون: أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف أن لا أؤجر عليه، ولو علم النَّاسَ مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب.
وقال المأمون: أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف أن لا أؤجر عليه، ولو علم النَّاسَ مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب.
وفي هذه السنة: كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان [2] .
__________
[1] «ففعل، فتناظرا ساعة حتى علا صوتهما عليه» . ساقطة من ت.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 527.

(10/65)


وفيها: خرج خارجي يقال له الهرش في ذي الحجة يدعو بزعمه إلى الرضى من آل محمد، ومعه جماعة من سفلة الناس، وجمع كثيرا من الأعراب/ فأتى النيل، فجبى الأموال، وأغار على التجار، وانتهب القرى، وساق المواشي [1] .
وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن عليّ [2] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
1082- سفيان بن عيينة بن أبي عمران بن محمد، مولى لبني هاشم بن رؤبة. وقيل: مولى محمد بن مزاحم الهلالي
[3] .
ولد بالكوفة سنة سبع ومائة، وكان أبوه من عمال خالد القسري، فلما عزل خالد عَن العراق وولي يوسف بن عمر طلب عمال خالد فهربوا منه، وهرب عيينة فسكن مكة.
وكان لسفيان تسعة إخوة، حدث منهم أربعة: محمد، وآدم، وعمران، وإبْرَاهِيم، وكان سفيان مقدما على الكل.
وقال أبو أحمد محمد بن أحمد النيسابوري الحافظ: كان بنو عيينة عشرة خزازين، حدث منهم خمسة- فذكرهم- وأخوال بني عيينة: بنو بني المتئد، حدث منهم يوسف ويعقوب ونعيم بْن يعقوب بن المتئد، وأدرك سفيان ستة وثمانين نفسا من التابعين.
وروى عنه من الكبار الأعمش، والثوري، وشعبة، وابن المبارك، ووكيع، وابن مهدي، والشافعي، وأحمد، ويحيى، وكتب عَن سفيان بن عيينة وهو ابن خمسة وثلاثين سنة قبل موت الأعمش بخمس سنين، وحدث في مجلس الأعمش.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن نَاصِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن ميمون قَالَ: أخبرنا عبد العزيز بن أحمد النصيبي قَالَ: / حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْن الليث الدينَوَريّ قال:
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 527.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 527.
[3] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 4/ 117- 122. وتاريخ الطبري 9/ 174- 184.

(10/66)


حدّثني [1] الليث بن عُبَيْد الله قَالَ: حدثني أبو الميمون محمد بن عبد الله قال: حدثنا زكريّا بن يحيى بن عبيد العطار قَالَ: حدثنا إبراهيم بن ازداد الرافقي قَالَ: قال لي سفيان بن عيينة: لما بلغت خمس عشرة سنة دعاني أَبِي فقال لي: يا سُفْيان، قد انقطعت عنك شرائع الصب [من الخير] [2] ، فاحتفظ من الخير تكن من أهله، لا يغرنك من اغتر باللَّه فمدحك بما تعلم خلافه منك، فإنه ما من أحد يقول في أحد من الخير إذا رضي إلا وهو يقول فيه من الشر مثلي ذلك إذا سخط، فاستأنس بالوحدة من جلساء السوء، ولا تنقل أحسن ظني بك إلى غير ذَلِكَ، ولن يسعد بالعلماء إلا من أطاعهم. قال سُفْيان: فجعلت وصية أبي قبلة أميل معها ولا أميل عنها.
أنبأنا علي بن محمد بن أبي عمر، عن أبي طاهر أحمد بن الحسن الباقلاوي، عن أبي العلاء محمد بن علي بن يعقوب، عن عبد الله بن موسى السلامي قَالَ: سمعت عمار بن علي اللوزي يَقُولُ: سمعت أحمد بن النضر الهلالي يَقُولُ: سمعت أبي يَقُولُ: كنت في مجلس سفيان بْن عيينة، فنظر إلى صبي دخل المسجد فتهاونوا به لصغر سنه، فقال سُفْيان: كَذلِكَ كُنْتُمْ من قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ 4: 94 [3] ثم قال: يا نصر، لو رأيتني ولي عشر سنين طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، / وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلي علماء الأمصار، مثل الزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا: أوسعوا للشيخ، ثم تبسم ابن عيينة وضحك.
أخبرنا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن حبيب قَالَ: أخبرنا علي بن أبي صادق قَالَ: أخبرنا ابن باكويه قال: حدثنا عبد الواحد بن بَكْر قَالَ: حدثني [4] القاسم بن الحسن السامري قَالَ: حَدَّثَني [5] العباس بن يوسف الشكلي قَالَ: حدثنا بشر بن مطر قال: كنا على باب
__________
[1] في الأصل: «وحدثني» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.
[3] سورة: النساء، الآية: 94.
[4] في الأصل: «وحدثني» .
[5] في الأصل: «وحدثني» .

(10/67)


سفيان بن عيينة فجاءت طائفة فدخلوا، وطائفة أخرى فدخلوا، فصحنا وقلنا: يجيء أصحاب الدراهم والدنانير فيدخلون ونحن الفقراء وأبناء السبيل نمنع الدخول!؟ فخرج إلينا وهُوَ يبكي فَقَالَ لنا: أصبتم مقالا، فقولوا هل رأيتم صاحب عيال أفلح؟ ثم قال:
أعلمكم أني كنت أوتيت فهم القرآن، فلما أخذت مال أبي جعفر منعت.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا محمد بْن عَبْد الله بن أحمد بن شهريار قَالَ: أخبرنا سليمان بن أحمد الطبراني قال:
حدّثنا أبو بكر بن أحمد بن عبد الله الطرسوسي قَالَ: سمعت حامد بن يحيى البلخي يَقُولُ: سمعت سفيان بْن عُيَيْنَة يَقُولُ: رأيت كأني [1] أسناني كلها سقطت، فذكرت ذلك للزهري فَقَالَ: يموت أصحابك [2] وتبقى [أنت] [3] وحدك [4] . فمات أصحابي [5] .
وبقيت [6] .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد [7] قال: أخبرنا أَحْمَد بْن عَلِي قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِي بْن الحسن بن محمد الدقاق/ قَالَ: حدثنا محمد بن إسماعيل الوراق قَالَ: حدثنا ابن صاعد قَالَ: حدثنا أَبُو بكر الأثرم قَالَ: سمعت أحمد بن حنبل- وذكر سفيان بن عيينة- قال: ما رأينا مثله.
أخبرنا عبد الرحمن قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن مُحَمَّد المعدل قال: أخبرنا ابن صفوان قال: أخبرنا ابن أبي الدنيا قَالَ: أخبرنا محمد بن سعد قَالَ: أخبرني الحسن بن عمران بن عُيَيْنَة أن [8] سفيان قال [له] [9] بجمع آخر حجة
__________
[1] في ت: «رأيت كأن» .
[2] في الأصل، وتاريخ بغداد: «أسنانك» .
[3] ما بين المعقوفتين: سقط من الأصل.
[4] «وحدك» ساقطة من ت.
[5] في الأصل، وتاريخ بغداد: «أسناني» .
[6] انظر: تاريخ بغداد/ 178.
[7] في الأصل: عبد الرحمن بن أحمد.
[8] في الأصل: «عيينة بن سفيان» .
[9] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.

(10/68)


حجها: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة، أقول في كل سنة: اللَّهمّ لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وقد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذَلِكَ.
فرجع فتوفي في السنة الداخلة [1] .
قال ابن سعد: وقال الواقدي أخبرني سفيان أنه ولد سنة سبع ومائة، ومات أول يوم من رجب سنة ثمان وتسعين ومائة، ودفن بالحجون وقيل: في آخر يوم من جمادى الآخرة.
1083- عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن، أبو سعيد العنبري
[2] .
ولد سنة خمس وثلاثين ومائة. سَمِعَ سفيان الثوري، ومالكا، وشعبة، والحمادين، وخلقا كثيرا.
روى عنه: ابن المبارك، وابن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى، وغيرهم.
وكان من كبار العلماء، وأحد المذكورين بالحفظ والفقه، وكان شديد الحب لحفظ الحديث.
فأَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بكر أحمد بن علي قَالَ: أخبرنا حمزة بن محمد بن طاهر قال: أخبرنا الوليد بن بكر الأندلسي قال: حدثنا علي بن أحمد بن زكريا/ الهاشمي قال: حدثنا صالح بن أحمد بن عبد الله العجلي قال: حدّثني أبي وذكر عبد الرحمن بن مهدي- قَالَ: قال له رَجُل: أيما أحب إليك يغفر الله لك ذنبا، أو تحفظ حديثا؟ قَالَ: أحفظ حديثا [3] .
وقال أحمد بن حنبل: إذا حدث عبد الرحمن عن رجل فهو حجة [4] .
وقال ابن المديني: كان عبد الرحمن أعلم الناس، ولو أني أخذت فخلفت بين الركن والمقام لحلفت باللَّه أني لم أر أحدا قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي [5] .
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 9/ 183- 184.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 240- 248.
[3] انظر: تاريخ بغداد 10/ 242.
[4] انظر: تاريخ بغداد 10/ 243.
[5] انظر: تاريخ بغداد 10/ 244.

(10/69)


وقال محمد بن يحيى: ما رأيت في يد عبد الرحمن كتابا قط، وكل ما سمعته منه سمعته حفظا.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن ثابت قال: أخبرني محمد بن عبد الملك القرشي قَالَ: حدثنا علي بن عمر الحافظ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّه أحمد بْن علي بن العلاء قال: أخبرنا أبو إسحاق إسماعيل بن الصلت بن أبي مريم قَالَ: حدثنا علي بن المَدِيني قَالَ: كان عبد الرحمن بن مهدي يختم في كل ليلتين، وكان ورده في كل ليلة نصف القرآن [1] .
قال ابن المَدِيني: توفي عبد الرحمن سنة ثمان وتسعين، وهو ابن ثلاث وستين سنة.
1084- عمرو بن الهيثم بن قطن بن كعب، أبو قطن القطعي الْبَصْرِيّ
[2] .
قدم بغداد وحدث بها عن شعبة، وهشام الدَّسْتُوائي. وروى عنه أحمد، ويحيى، وقَالَ: هو ثقة.
وتوفي في شعبان/ هذه السنة.
1085- محمد الأمين
[3] .
[قال مؤلف الكتاب] [4] : قد ذكرنا كيفية قتله في الحوادث، وقتل لست بقين من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائة، وكان عمره ثلاثة وثلاثين. وقيل: ثمانية وعشرين.
وكانت خلافته مع زمان الفتنة أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام. وقيل: وسبعة أشهر وثمانية أيام. وقيل: وستة أشهر وأربعة وعشرين يوما.
وكان قد تزوج لبابة بنت المهدي، ولم يدخل بها فقالت حين قتل ترثيه:
أبكيك لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والفرس
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 10/ 247.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 12/ 199.
[3] انظر حوادث السنة.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.

(10/70)


أبكي على هالك فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس
وقيل: إن هذا لابنه عيسى وكانت مملكة بمحمد.
1086- محمد بن مناذر الشاعر، يكنى أبا ذريح. وقيل: أبا جعفر. وقيل: أبا عبد اللَّه
[1] .
كان مولى سليمان القهرماني، وكان سليمان مولى عبيد الله بن أبي بكرة. سَمِعَ محمدا، وشُعْبَة، وسفيان بن عيينة وغيرهم. وكان شاعرا فصيحا، ومدح المهدي، وكان عالما باللغة.
قال الثوري: سألت أبا عبيدة عن اليوم الثاني من النحر، ما كانت العرب تسميه؟
فَقَالَ: لا أعلم، فلقيت ابن مناذر فأخبرته فَقَالَ: أسقط مثل هذا على أبي عبيدة، وهي أربعة أيام/ متواليات، كلها على حرف الراء، الأول: يوم النحر، والثاني: يوم الفر، والثالث: يوم النفر، والرابع: يوم الصدر. فلقيت أبا عبيدة فحدثته، فكتبه عني عن محمد بن مناذر.
وكان محمد بن مناذر يتعبد ويتنسك، ويلازم المسجد، ثم هوى عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فتهتك، وعدل عن التنسك، وأظهر الخلاعة، وكان عبد المجيد من أحسن الناس وجها وأدبا ولباسا، وكان يحب ابن منادر أيضا فتزوج عبد المجيد امرأة، وأولم عليها شهرا، يجتمع عنده أهل البصرة، فصعد ذات يوم إلى السطح فرأى طنبا من أطناب الستارة قد انحل، فأكب عليه يشده، فتردى على رأسه ومات من سقطته، فما رأيت مصيبة أعظم من مصيبته، ورثاه ابن مناذر فقال:
إن عبد المجيد يوم تولى ... هد ركنا ما كان بالمهدود
ما درى نعشه ولا حاملوه ... ما على النعش من عفاف وجود
قال يحيى بن مَعِين: كان ابن مناذر صاحب شعر، لا صاحب حديث، وكان يتعشق ابن عبد الوهاب، ويقول فيه الشعر، وتشبب بنساء ثقيف فطردوه من البصرة،
__________
[1] انظر ترجمته في: لسان الميزان 5/ 390. وإرشاد الأريب 7/ 107- 110. وبغية الوعاة 107. والشعر والشعراء 364.

(10/71)


فخرج إلى مكَّةَ، فكان يرسل العقارب في المسجد الحرام حتى يلسعن الناس ويصب المداد بالليل في المواضع التي يتوضأ الناس منها حتى تسود وجوههم لا يروي عنه/ رجل فيه خير.
1087- يحيى بن سعيد بن فروخ، أبو سعيد القطان الأحول.
[1] ولد سنة عشر ومائة. سَمِعَ هشام بن عُرْوَة، ويحيى بن سعيد الْأنصَارِيّ، والأعمش، وسفيان، وغيرهم.
روى عنه: ابن مهدي، وعفان، وأحمد، وعلي، ويحيى، وغيرهم.
وقال علي: لم أر أحدا أثبت من يحيى بن سعيد، ولا أعلم بالرجال.
وقال أحمد: ما رأت عيناي مثله، لا والله ما أدركنا مثله، ما كان أضبطه وأشد تفقده.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قرأت على الحسن بْن أبي بكر، عن أَحْمَد بن كامل القاضي قَالَ: حدثني الحسن بن الحباب قَالَ: حدثنا سليمان بْن الأشعث قَالَ: سمعت يحيى بن معين يَقُولُ: أقام يحيى بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن في كل ليلة، ولم يفته المسجد أربعين سنة، وما رئي يطلب جماعة قط [2] .
توفي يحيى بن سعيد في صفر هذه السنة.
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 14/ 135.
[2] تاريخ بغداد 14/ 136.

(10/72)


ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها:
قدوم الحسن بن سهل بغداد من عند المأمون، وإليه الحرب والخراج، فلما قدمها فرق عماله في الكور والبلدان [1] .
وفيها: شخص طاهر إلى الرقة في جمادى ومعه عيسى بن محمد بن أبي خَالِد، وشخص هرثمة إلى خراسان، وخرج/ أزهر بن زهير بن المسيب إلى الهرش فقتله في المحرم. [2] وفيها: خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضى من آل محمد، والعمل بالكتاب والسنة، وهو الذي يقال له ابن طباطبا.
وكان القيم بأمره في الحرب وتدبيرها وجيوشها أبو السرايا، واسمه السري بن منصور، وكان يذكر أنه من ولد هانئ بن قبيصة [3] .
وكان سبب خروج هذا الرجل صرف المأمون طاهر بن الحسين عما كان إليه من أعمال البلدان التي افتتحها، وتوجيهه ذلك إلى الحسن بن سهل، فلما فعل ذلك تحدث الناس أن الفضل قد غلب على المأمون، وأنه يبرم الأمور على هواه، ويستبد بالرأي
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 528.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 528.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 528.

(10/73)


دونه، فغضب لذلك بالعراق من بها من بني هاشم ووجوه الناس، وأنفوا من غلبة الفضل عَلَى المأمون، واجترأوا على الحسن بن سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار، وكان أول من خرج بالكوفة ابن طباطبا، وكان أبو السرايا من رجال هرثمة، فمطله برزقه فغضب ومضى إلى الكوفة، وبايع محمد بن إبراهيم، وأخذ الكوفة، واستوثق لَهُ أهلها بالطاعة، وأقام محمد بالكوفة، وأتاه الناس من النواحي والأعراب. [1] فلما بلغ الخبر إلى الحسن بن سهل ذلك عنف سليمان بن المنصور، وكان عامل الكوفة من قبل الحسن بن سهل، ووجه/ زهير بن المسيب في عشرة آلاف، فلقوه فهزموه، واستباحوا عسكره، وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودواب وغير ذَلِكَ، وكان هذا اليوم الأربعاء سلخ جمادى الأخرة، فلما كان من الغد مات محمد بن إبراهيم، فجاءة، فيقال إن أبا السرايا سمه [2] .
وكان السبب في ذَلِكَ: أنه لما جاز ما في عسكر ابن زهير منع منه أبا السرايا، فعلم أَنَّهُ لا أمر له معه، فسمه وأقام أبو السرايا مكانه غلاما حدثا يقال لَهُ: محمد بن محمد بْن زيد بْن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان أبو السرايا هو الذي ينفذ الأمور، ويولي من يرى، ويعزل من يريد. ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة، فوجه الحسن عبدوس بن محمد بن أبي خالد في أربعة آلاف، فتوجه إليه أبو السرايا فواقعه يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت من رجب، فقتله وأسر هارون بن أبي خَالِد، واستباح عسكره بين قتيل وأسير، فلم يفلت منهم أحد، وانتشر الطالبيون في البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، ونقش حولها: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ 61: 4 [3] .
ولما بلغ زهير قتل أبي السرايا عبدوسا وهو بالقصر، انحاز بمن معه إلى نهر الملك [4] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 529.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 529.
[3] سورة: الصف، الآية: 4.
[4] في الأصل: «نهر ملك» .
انظر: تاريخ الطبري 8/ 530.

(10/74)


ثم إن أبا السرايا أقبل حتى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه، وكانت طلائعه تأتي كوثى، ونهر الملك، ووجه أبو السرايا جيوشا إلى البصرة/ وواسط، فدخلوها، وكان بواسط ونواحيها عَبْد الله بن سعيد الحرشي واليا عليها من قبل الحسن بن سهل، فواقعه جيش أبي السرايا قريبا من واسط فهزموه، فانصرف راجعا إلى بغداد وقد قتل من أصحابه جماعة وأسر آخرون، فلما رأى الحسن بن سهل أن أبا السرايا ومن معه لا يلقون له عسكرا إلا هزموه ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها، ولم يجد فيمن معه من القواد من يكفيه حربه، اضطر إلى هرثمة- وكان هرثمة حين قدم الحسن العراق واليا عليها من قبل المأمون سلم له ما كان بيده بها من الأعمال، ثم توجه إلى خراسان مغاضبا للحسن، فسار حتى نزل حلوان- فبعث إِلَيْهِ الحسن السندي وصالحا صاحب المصلى، فسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبي السرايا، فامتنع فانصرفت الرسل إلى الحسن بإبائه، فأعاد عليه السندي بكتب لطيفة، فأجاب، فانصرف إلى بغداد فقدمها في شعبان، وتهيأ للخروج إلى الكوفة، فأمر الحسن بن سهل علي بن أبي سَعِيد أن يخرج إلى ناحية المدائن وواسط والبصرة، فتهيئوا لذلك.
وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فتوجه إلى المدائن فدخلها أصحابه في رمضان، وتقدم هو بنفسه ومن معه حتى نزل نهر صرصر مما يلي طريق الكوفة، وكان هرثمة لما احتبس قدومه على الحسن ببغداد أمر منصور بن المهدي/ أن يخرج فيعسكر بالياسرية إلى قدوم هرثمة، فخرج فعسكر، فلما قدم هرثمة خرج فعسكر بين يدي المنصور، ثم مضى حتى عسكر بنهر صرصر بإزاء أبي السرايا والنهر، وكان علي بن أبي سعيد معسكرا بكلواذى، فشخص يوم الثلاثاء بعد الفطر بيوم، ووجه مقدمته إلى المدائن، فقاتل بها أصحاب أَبِي السرايا، وأخذ علي بن أبي سعيد المدائن فقاتل بها أصحاب أبي السرايا غداة الخميس إلى الليل، ثم غدوا على القتال، فانكشف أصحاب أبي السرايا، وأخذ علي بن أبي سَعِيد المدائن، وبلغ الخبر أبا السرايا من يومه، فلما كان ليلة السبت لخمس خلون من شوّال رجع أبو السرايا من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة، فنزل به، وأصبح هرثمة متوجها في طلبه، فوجد جماعة كثيرة من أصحاب أبي السرايا فهزمهم وقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل، فلما صار هرثمة إلى قصر ابن هبيرة كانت بينه وبين أبي السرايا وقعة، وقتل فيها خلق كثير، فلما رأى ذلك أبو

(10/75)


السرايا انحاز إلى الكوفة، فوثب محمد بن محمد ومن معه من الطالبيين على دور بني العباس ودور مواليهم وأتباعهم بالكوفة فانتهبوها وهدموها وأحرقوها، وخربوا ضياعهم، وأخرجوهم من الكوفة، وعملوا في ذلك عملا قبيحا، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس فأخذوها [1] .
وبعث أبو السرايا إلى مكة حسين بن حسن/ بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طَالِب، وبعث إلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب ليأخذها، وكان الوالي على مكة والمدينة داود بن عيسى بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاس.
فأما المبعوث إلى المدينة فإنه دخلها، ولم يمنعه أحد. وأما المبعوث إلى مكة فإنه لما مضى توقف هنيهة لمن فيها، وكان داود بن عيسى لما بلغه توجيه أبي السرايا حسين بن حسن جمع موالي بني العباس والعبيد، وكان مسرور الكبير الخادم قد حج تلك السنة في مائتي فارس من أصحابه، وتعبأ لحرب من يريد دخول مكة من الطالبيين، فقال لداود: أقم لي شخصك أو شخص بعض ولدك، وأنا أكفيك قتالهم. فقال له داود:
لا استحل القتال في الحرم، والله لئن دخلوا من هذا الفج لأخرجن من هذا الفج.
فانحاز داود من مكة وقال لابنه: صل بأهل الموسم، وبت بمنى، ثم الحقني وخشي مسرور أن يقاتل فيميل عنه أكثر من جمع. فخرج إلى العراق، ودفع الناس لأنفسهم من عرفة بغير إمام، حتى أتى مزدلفة، فصلى بهم المغرب والعشاء رجل من عرض الناس من أهل مكة، وحسين بن حسن واقف يرهب أن يدخل مكة فيدفع عنها، فخرج إليه قوم يميلون إلى الطالبيين فأخبروه أن الأماكن قد خلت من السلطان، فدخل قبيل المغرب ومعه نحو من عشرة، فطافوا وسعوا، ومضوا إلى عرفة بالليل، ثم رجع إلى مزدلفة فصلى بالناس الفجر، ودفع بالناس، وأقام بمنى أيام الحج/، فلم يزل مقيما بها حتى انقضت سنة تسع وتسعين، وأقام محمد بن سليمان الطالبي بالمدينة حتى انقضت سنته أيضا [2] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 530- 531.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 531، 533.

(10/76)


ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
1088- إسحاق بن سليمان، أبو يحيى العبدي الكوفي. مولى لعبد القيس
[1] .
سمع من مالك، والثوري، وغيرهما. روى عَنْه: قتيبة، وأبو كريب، وكان ثقة.
انتقل إلى الري فسكنها، ونسب إليها، وكان ثقة صالحا ورعا ظاهر الخشوع، كثير البكاء، وقدم بغداد في هذه السنة فحدث بها، فسمع أحمد بن حنبل، ثم رجع إلى الري فمات بها.
1089- أسباط بن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة، أبو محمد القرشي، مولى السائب بن يزيد
[2] .
من أهل الكوفة، ولد سنة خمس ومائة. سَمِعَ أبا إسحاق الشيباني، والأعمش، والثوري، وغيرهم رَوى عنه: قتيبة، وأحمد بن حنبل.
قال يحيى: هو ثقة، والكوفيون يضعفونه. وتوفي في هذه السنة. وقيل: أول سنة مائتين.
1090- الحكم بن عبد الله بن مسلمة بن عبد الرحمن بن مطيع البلخي
[3] .
حدث عن هشام بن حسان، وبكر بن حبيش، ومالك، وسُفْيان. روى عنه:
أحمد بن منيع، وكان من أهل الرأي. وولي قضاء بلخ.
قال يحيى: وهو ضعيف، وليس بشيء [4] .
وقال أحمد بن حنبل- وقد سئل عنه-[5] : لا ينبغي أن يروى عنه، خلوا عَنْه، إنه قَالَ: الجنة والنار خلقتا وستفنيان، وهذا كلام جَهْمُ، لا يروى/ عنه شيء.
__________
[1] انظر ترجمته في تاريخ بغداد 6/ 324.
[2] انظر ترجمته في تاريخ بغداد 7/ 45.
[3] انظر ترجمته في تاريخ بغداد 8/ 223.
[4] في الأصل: «وهو ضعيف وليس يسجل عنه أحمد بن حنبل» .
[5] في الأصل: «وسئل عنه أحمد بن حنبل فقال» .

(10/77)


وقال أبو دَاوُد: تركوا حديثه، كان جهميا، توفي في جمادى الأولى من هذه السنة.
1091- سليمان بن أبي جعفر المنصور، يكنى أبا أيّوب.
حدث عن أبيه، وإليه ينسب درب سليمان ببغداد.
توفي في هذه السنة في صفر وهو ابن خمسين سنة.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية قال: حدثني عبد الرحمن بن بشر قَالَ: حدثني مُحَمَّد بن الحسن قَالَ: حدثتني أم إبراهيم بن جميل قالت: حدثني عبيد الله الشروي قهرمان سليمان بْن أبي جعفر قَالَ: دخل هارون الرشيد على سليمان بن أبي جعفر وكان عليلا، فرأى جارية تسمى ضعيفة، في غاية الحسن والجمال والشكل [فوقعت بقلبه] [1] فقال [هارون] : [2] هبها لي. فَقَالَ: هي لك يا أمير المؤمنين. فلما أخذها مرض سليمان من شدة حبه [3] لها، فَقَالَ:
أشكو إلى ذي العرش ما ... لاقيت من أمر الخليفة
يسع البرية عدله ... ويريد ظلمي في ضعيفة
علق الفؤاد بحبها كالبحر ... يعلق بالصحيفة
قَالَ: فبلغ ذلك هارون الرشيد، فردها عَلَيْهِ.
1092- شعيب بن الليث، أبو عبد الملك
[4] .
ولد سنة خمس وثلاثين ومائة. روى عَن أَبِيهِ وغيره. وتوفي في هذه السنة.
__________
[1] انظر ترجمته في تاريخ بغداد 9/ 24.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] في الأصل: «من شدة حبها» .
[4] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 1/ 353.

(10/78)


1093- علي بن بكار، أبو الحسن البصري
[1] .
كان فقيها متعبدا كثير البكاء.
أخبرنا ابن ناصر قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا [أَبُو] [2] نعيم الأصبهاني قال: أَخْبَرَنَا أبو أحمد بن حبان/ قَالَ: حدثنا أحمد بن روح قال: حدثنا عبد الله بن حسن قال: سَمِعْتُ موسى بن طريف يَقُولُ: كانت الجارية تفرش لعلي بن بكار الفراش فيلمه بيده ويقول: والله إنك لطيب، والله إنك لبارد، لا علوتك الليلة. فكان يصلي الغداة لوضوء العتمة.
[قال المؤلف:] [3] أسند علي عن هشام بن حسان، وأبي إسحاق الفزاري في آخرين، وصحب إبراهيم بن أدهم.
وبلغنا عنه أنه طعن في بعض مغازيه، فخرجت أمعاؤه على قربوس سرجه، فردها إلى بطنه، وشدها بالعمامة، وقاتل حتى قتل ثلاثة عشر علجا.
وتوفي بالمصيصة في هذه السنة.
1094- عامر بن حمزة، مولى بني هاشم
[4] .
وهو من ولد عكرمة مولى ابن عباس. وقيل: هو عمارة بن حمزة بن مالك بن يزيد بن عَبْد اللَّه، مولى العباس بن عبد المطلب.
كان أحد الكتاب البلغاء، وكان أتيه الناس حتى ضرب بتيهه المثل، فقيل: «أتيه من عمارة» .
وكان جوادا، وإليه تنسب دار عمارة ببغداد أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الخطيب قَالَ: أَخْبَرَنَا الجوهري قال: حدثنا محمد بن عمران بن موسى قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى المكي قال: حدّثنا محمد بن
__________
[1] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 2/ 32.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[4] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 12/ 280- 282.

(10/79)


القاسم بن خلاد قَالَ: قال إبراهيم بن دَاوُد: استأذن قوم على عمارة بن حمزة ليشفعوا إليه في بر قوم أصابتهم حاجة، وكان قد قام من مجلسه فأخبره حاجبه بحاجتهم، فأمر لهم بمائة ألف درهم، فاجتمعوا ليدخلوا عليه في الشكر له، فقال له حاجبه، فَقَالَ:
اقرئهم السلام وقل لهم إني رفعت عنكم ذل المسألة، فلا أحملكم مئونة الشكر [1] .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن ثابت قَالَ:
أخبرنا سلامة بن الحُسَين/ المقرئ قَالَ: أخبرنا علي بن عمر الحافظ قَالَ:
أخبرنا القاضي الحسين بن إِسْمَاعِيل قَالَ: حدثنا عبد الله بن أبي سَعِيد قَالَ: حدثنا هارون بن محمد بن إسماعيل القرشي قَالَ: أخبرنا عَبْد اللَّه بن أيوب الْمَكِّيّ قَالَ: بعث أبو أيوب المكي بعض ولده إلى عمارة بن حمزة، فأدخله الحاجب. قَالَ: ثم أدناني إلى ستر مسبل، فَقَالَ: ادخل. فدخلت فإذا هو مضطجع محول وجهه إلى الحائط فقال لي الحاجب: سلم. فسلمت، فلم يرد عليّ. فقال الحاجب اذكر حاجتك فقلت: لعله نائم قَالَ: لا أذكر حاجتك، فقلت له: جعلني الله فداك أخوك يقرئك السلام ويذكر دينا ويقول: بهظني وستر وجهي، ولولاه لكنت مكان رسولي تسأل أمير المؤمنين قضاءه.
فَقَالَ: وكم دين أبيك؟ قلت: ثلاثمائة ألف. فَقَالَ: وفي مثل هذا أكلم أمير المؤمنين!؟ يا غلام احملها معه. وما التفت إلي ولا كلمني بغير هذا [2] .
قال ابن سعيد: وحدثنا إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي قَالَ: حدثني محمد بن سلامة قال: حدثنا الفضل بن الربيع قَالَ: كان أبي يأمرني بملازمة عمارة بن حمزة قَالَ: فاعتل عمارة، وكان المهدي سيئ الرأي فيه فقال له أبي يوما: يا أمير المؤمنين، مولاك عمارة عليل، وقد أفضى الأمر منه إلى بيع فرشه وكسوته، فَقَالَ: غفلت عَنْه وما كنت أظن أنه بلغ هذه الحال، احمل إليه خمسمائة ألف درهم يا ربيع وأعلمه أن لَهُ عندي بعدها ما يحب. قَالَ: فحملها أبي من ساعته وقَالَ:
اذهب بها إلى عمك/ وقل لَهُ: أخوك يقرئك السلام ويقول: أذكرت أمير المؤمنين أمرك، فاعتذر من غفلته عنك، وأمر لك بهذه الدراهم وقال: لك عندي بعدها ما تحب.
قَالَ: فأتيته ووجهه إلى الحائط، فسلمت، فقال لي: من أنت؟ فقلت: ابن أخيك
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 12/ 280.
[2] انظر: تاريخ بغداد 12/ 280- 281.

(10/80)


الفضل بن الربيع. فَقَالَ: مرحبا بك. فأبلغته الرسالة، فَقَالَ: قد كان طال لزومك لنا وقد كُنَّا نحب أن نكافئك على ذلك، ولم يمكنا قبل هذا الوقت انصرف بها، فهي لك.
قَالَ: فهبته أن أرد عَلَيْهِ، فتركت البغال على بابه وانصرفت إلى أبي فأعلمته الخبر فقال:
يا بني، خذها بارك الله لك، عمارة ليس ممن يراد، فكانت أول مال ملكته. [1] .
1095- هشام بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ معاوية بن خديج، أبو طالب التجيبي.
[2] سمع مالك بن أنس، وجالس ابن وهب، وكان كريما جوادا. وولي إمرة برقة من أرض مصر، وولي شرطة فسطاط مصر.
وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
1096- يوسف بن أسباط، أبو مُحَمَّد.
من قرية يقال لها: سيح [3] . كان يَقُولُ: إن أسباط يقول: أشتهي [أن] أموت، وما ملكي درهم ولا على عظمي لحم، ولا علي دين. فرزق ذلك، فأعد في مرضه شيئا بعشرة دراهم، فعزل منها درهما لحنوطه، وأنفق الباقي ومات.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قَالَ: أخبرنا أحمد بن جعفر بن أَحْمَد السراج قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد العزيز بْن الحسن بن إسماعيل الضراب قَالَ: أخبرنا أَبِي قال: أخبرنا أحمد بن مروان المالكي قال: حدثنا إبراهيم بن ديزيل قَالَ: سمعت الربيع بن نافع يَقُولُ/ سمعت من يوسف بن أسباط حرفا في الورع ما سمعت أحسن منه. قلت له يوما وقد اتخذ كواير نحل: لو اتخذت حماما. فَقَالَ: النحل أحب إلي من الحمام، الحمام يدخل الغريب [فيهم] [4] ، والنحل لا تدخل الغريب فيها، فمن ذاك [5] اتخذت النحل
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 12/ 281.
[2] بضم التاء المعجمة بنقطتين من فوق وكسر الجيم وسكون المنقوطة باثنتين من تحتها في آخرها باء منقوطة بواحدة (الأنساب 3/ 24) .
[3] معجم البلدان 3/ 294.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[5] في الأصل: «فمنها» .

(10/81)


ثم دخلت سنة مائتين
فمن الحوادث فيها:
أنه في أول المحرّم بعد ما تفرق الحاج من مكة جلس حسين بن حسن الأفطس خلف المقام على نمرقة مثنية، وأمر بالكعبة فجردت من الثياب حتى بقيت حجارة مجردة، ثم كساها ثوبين من قز، كان أبو السرايا وجههما معه [1] عليهما مكتوب: مما أمر به الأصفر بن الأصفر أبو السرايا داعية آل محمد، لكسوة بيت الله الحرام، وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس ليطهره من كسوتهم، وكتب في سنة تسع وتسعين ومائة.
ثم أمر حسين بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسمت بين أصحابه العلويين وأتباعهم، وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه، ولم يسمع بأحد عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم إلا هجم عليه في داره، فإن وجد من ذلك شيئا أخذه، وإذا لم يجد شيئا حبسه وعذبه حتى يفتدي نفسه [2] .
وهرب كثير من الناس، فهدم دورهم، وجعلوا يحكون الذهب الرقيق الّذي في رءوس أساطين المسجد الحرام، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد [3] قدر مثقال، وقلعوا شباك زمزم فبيع بالثمن [4] .
ومن الحوادث/ في هذه السنة: هرب أبي السرايا من الكوفة، ودخول هرثمة
__________
[1] في الأصل: «معهما» ولا يستقيم بها المعنى.
[2] في الأصل: «يفتدي يحسبه» .
[3] في الأصل: «بعد التعجب والتعب» .
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 536- 537.

(10/82)


إليها، وكانت هزيمته بمن معه من الطالبيين ليلة الأحد لأربع عشرة بقيت من المحرم سنة مائتين حتى أتوا القادسية، ودخل منصور بن المهدي وهرثمة الكوفة صبيحة تِلْكَ الليلة، وأمنوا أهلها، ولم يعرضوا لأحد منهم، فأقاموا بها يومهم إلى العصر، ثم رجعوا إلى معسكرهم، وخلفوا بها رجلا منهم يقال لَهُ: غسان بن [أبي] [1] الفرج.
ثم إن أبا السرايا خرج من القادسية هو ومن معه، حتى أتوا ناحية واسط، وكان بواسط علي بن أبي سعيد وأصحابه، وكانت البصرة بيد العلويين بعد، فجاء أبو السرايا حتى عبر دجلة أسفل واسط، فوجد مالا كان قد حمل من الأهواز، فأخذه، ثم مضى إلى السوس، فنزل بمن معه، فأقام أربعة أيام، وخرق على أصحابه مالا. فلما كان في اليوم الرابع أتاهم الحَسَن بن علي الباذغيسي، فأرسل إليهم: اذهبوا حيث شئتم، فلا حاجة لي في قتالكم، وإذا خرجتم من عملي فلست أتبعكم. فأبى أبو السرايا إلا قتاله، فقاتلهم فهزمهم الحسن، واستباح عسكرهم وهرب أبو السرايا، فلحق، فأتي به الحسن بن سهل فضرب عنقه يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الأول، وطيف برأسه في المعسكر، وبعث بجسده إلى بغداد، فصلب بصفين على الجسرين، فكان من زمن خروجه إلى وقت مقتله عشرة أشهر، والذي كان/ بالبصرة من الطالبيين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طَالِب الّذي يقال له: زيد النار- وإنما قيل له ذَلِكَ لكثرة ما حرق من دور بني العباس وأتباعهم بالبصرة- فتوجّه إليه علي بن سعيد فأخذه أسيرا فحبسه، وقيل: إنه طلب منه الأمان فأمنه [2] .
وفي هذه السنة: خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي باليمن، وذلك أنه كَانَ بمكة، فلما بلغه خبر أبي السرايا والطالبيين بالعراق خرج باليمن في جماعة من أهل بيته، ووالي اليمن [3] المقيم بها من قبل المأمون إسحاق بن موسى العلوي وقربه من صنعاء، وخرج منصرفا عن اليمن بعسكره وخلى اليمن لإبراهيم بن موسى، وكره قتاله، وذهب نحو مكة، فلما أراد دخولها منعه من بها من العلويين، وكان
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] تاريخ الطبري 8/ 534- 535.
[3] في الأصل: «ووالي لليمن» .

(10/83)


[يقال] : [1] لإبراهيم بن مُوسَى الجزار [2] لكثرة من قتل باليمن من الناس وسبى، وأخذ من الأموال [3] .
وفي هذه السنة: وجه بعض ولد عقيل بن أبي طالب من اليمن في جند كثيف ليحج بالناس، فحورب العقيلي وهزم، ولم يقدر على دخول مكة، ومرت به قافلة من الحاج والتجار، وفيها كسوة الكعبة وطيبها، فانتهب ذلك، وكان على الموسم أبو إسحاق بن الرشيد، فبعث إليه من قتل من أصحابه وهرب الباقون. [4] وفيها: بويع لمحمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طَالِب، وذلك أن حسين بن حسن الذي حكينا عنه ما فعل بمكة عن أمر أبي السرايا لما تغير الناس لَهُ لسوء سيرته/، وبلغه أن أبا السرايا قد قتل، وأنه قد طرد من كان بالكوفة والبصرة وكور العراق [5] من الطالبيين، ورجعت الولاية بها لولد العباس، اجتمعوا إلى محمد بن جعفر بْن محمد بن علي- وكان شيخا محببا في الناس، حسن السيرة، يروي العلم والناس يكتبون عَنْه، ويظهر زهدا وسمتا- فقالوا لَهُ: قد نعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة، فإنك إن فعلت ذلك لم يختلف عليك اثنان، فأبى عليهم، فلم يزل ابنه به وحسين بن حسن الأفطس، حتى غلباه على رأيه، فأجابهم، فأقاموه بعد صلاة الجمعة لثلاث خلون من ربيع الآخر، فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكة والمجاورين، فبايعوه طوعا وكرها، فأقام كذلك أشهرا، وليس له من الأمر سوى الاسم.
ثم أقبل إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي من اليمن، فاجتمع العلويون [6] إلى محمد بْن جعفر، فقالوا لَهُ: هذا إسحاق بن موسى قد أقبل في الخيل والرحل، وقد رأينا أن نخندق على مكَّةَ ونحاربه. فقاتلوه أياما، ثم كره إسحاق القتال فرجع، ثمّ ردّ عليهم،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] في الأصل: «الحداد» .
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 535- 536.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 540- 541.
[5] في الأصل: «وكفر العراق» .
[6] في الأصل: «العليون» .

(10/84)


وكانت الهزيمة على محمد بن جعفر وأصحابه، فطلب محمد الأمان حتى يخرج من مكة فأمنوه.
ودخل إسحاق في جمادى الآخرة، وتفرق الطالبيون كل قوم في ناحية، ومضى محمد بن جعفر بجمع الجموع، وجاء إلى والي المدينة فخاصمه، فهزم محمد، وفقئت عينه، وقتل من أصحابه خلق كثير.
ثم رده قوم من الولاة إلى مكة، وضمنوا له الأمان، فرقا المنبر بمكة وقال: إنه بلغني أن المأمون مات، فدعاني الناس إلى أن يبايعوا لي، وقد صح/ عندي أنه حي، وأنا استغفر الله مما دعوتكم إليه من البيعة، وقد خلعت نفسي من البيعة. فخرج به عيسى بن يزيد إلى الحسن بن سهل، فبعث بن الحسن إلى المأمون [1] .
وفي هذه السنة: خالف علي بن أبي سعيد الحسن بن سهل، فبعث المأمون بسراج الخادم وقَالَ لَهُ: إن وضع يده في يد الحسن أو يشخص إلينا، وإلا فأضرب عنقه.
فشخص إلى المأمون [2] .
وفيها: خرج هرثمة إلى المأمون، وكان قد أتته كتب المأمون أن يلي الشام والحجاز. فأبى، وقَالَ: لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين، إدلالا منه، لما كان يعرف من نصيحته لَهُ ولآبائه، وأراد أن يلقى المأمون فيعرفه ما يدبر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وأن لا يدع المأمون حتى يرده إلى بغداد دار الخلافة وملك بني العباس، فعلم الفضل ما يريد، فقال للمأمون إن هرثمة قد أنغل عليك العباد والبلاد، وظاهر عليك عدوك، وعادى وليك، ودس أبا السرايا، ولو شاء هرثمة لم يفعل أبو السرايا ما فعل، وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدة كتب: أن يمضي إلى الشام والحجاز، فأبى وقد جاء إلى أمير المؤمنين غاضبا، وأبطأ هرثمة في السير، فلما قدم ضرب الطبل لكي يعلم المأمون بقدومه، فَقَالَ المأمون: ما هذا؟ فقالوا: هرثمة [قد] [3] أقبل يبرق ويرعد، وظن هرثمة أن قوله المقبول، فلما دخل قال له المأمون: مالأت أهل الكوفة والعلويين،
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 537- 540.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 541.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.

(10/85)


وداهنت ودسست إلى أبي السرايا حتى خرج وعمل ما عمل، وقد كان رجلا من أصحابك، ولو أردت أن تأخذه لأخذته/ فذهب هرثمة ليعتذر، فلم يسمع منه، وأمر به فوجئ على أنفه، وديس في بطنه، وسحب على وجهه من بين يديه، وقد تقدم الفضل بن سهل إلى الأعوان بالغلظة عليه والتشديد، حتى حبس، فمكث في الحبس أياما، ثم دس إليه من قتله، وقالوا مات. [1] .
وفيها: وقع شغب ببغداد بين الجند والحسن بن سهل، وذلك أن الحسن بعث إلى علي بن هشام وهو والي بغداد من قبله: أن امطل الجند أرزاقهم، ومنهم ولا تعطهم.
وكان الجند قد قالوا: لا نرضى حتى تطرد الحسن بن سهل وعماله عن بغداد.
فطردوهم، وصيروا إسحاق بْن المهدي خليفة للمأمون ببغداد، وجاء علي بن هشام فقاتل الجند أياما على قنطرة الصراة والأرحاء، ثم وعدهم أن يعطيهم رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلة، فسألوه أن يعجل لكل رجل منهم خمسين درهما لينفقوها في رمضان، ففعل، فبينا هم كذلك خرج عليهم زيد بن موسى بن جعفر الذي كان بالبصرة، المعروف بزيد النار، وذلك أنه كان محبوسا عند علي بن أبي سعيد، فأفلت من الحبس.
وخرج بناحية الأنبار، ومعه أخو أبي السرايا في ذي القعدة سنة مائتين، فبعثوا إِلَيْهِ، فأخذ وأتوا به علي بن هشام، فلم يلبث إلا جمعة حتى هرب [2] .
وفيها: أحصي ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكر وأنثى. [3] وفيها: قتلت الروم ملكها أليون [4] ، وكان قد ملك عليهم سبع سنين/ وستة أشهر، وملكوا عليهم ميخائيل مرة ثانية [5] .
وفيها: قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل، وذلك أن يحيى أغلظ له، فقال لَهُ: أمير الكافرين، فقتل بين يديه في ذي القعدة [6] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 542- 543.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 543- 544.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 545.
[4] في تاريخ الطبري: «ليون» .
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 545.
[6] انظر: تاريخ الطبري 8/ 545.

(10/86)


وحج بالناس في هذه السنة أبو إسحاق ابن الرشيد [1] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
1097- أيوب بن المتوكل المقرئ.
من أهل البصرة، سَمِعَ عبد الرحمن بن مهدي وغيره روى عَنْه: علي بن المديني ويحيى، وكان من القراء.
توفي في هذه السنة.
1098- أبان بن عبد الحميد بن إسحاق بن غفير، مولى بني رقاش
[2] .
من أهل البصرة، شاعر مطبوع مقدم، قدم بغداد واتصل بالبرامكة، وانقطع إليهم، وعمل لهم كتاب «كليلة ودمنة» شعرا. وله قصائد ومدائح في الرشيد والفضل بن يحيى، ويقال إن كل كلام نقل إلى شعر فالكلام أفصح منه إلا هذا الكتاب.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: قرأت على الجوهري، عَنْ أبي عَبْد اللَّه المرزباني قَالَ: أَخْبَرَنِي محمد بن يحيى قَالَ: حدثنا القاسم بن إسماعيل قَالَ: حدثني مُحَمَّد بن صالح الهاشمي، قَالَ: حدثني ابن لعبد الحميد اللاحقي قَالَ: أحب يحيى بن خالد أن يحفظ كتاب «كليلة ودمنة» فاشتد عليه ذَلِكَ فقال له/ أبان بن عبد الحميد: أنا أجعله شعرا ليخف على الوزير حفظه. فنقله إلى قصيدة عملها مزدوجة عدد أبياتها أربعة عشر ألف بيت في ثلاثة أشهر، فأعطاه يحيى عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار. وقال له جعفر بن يحيى: ألا ترضى أن أكون راويتك لها! ولم يعطه شيئا. قَالَ: فتصدق بثلث المال الّذي أخذه. وكان أبان حسن السيرة [3] ، حافظا للقرآن، عالما بالفقه. وقال عند وفاته: أنا أرجو الله وأسأله رحمته ما مضت علي ليلة قط لم أصل فيها تطوعا كثيرا.
وأول قصيدته هذه:
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 545.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 7/ 44.
[3] في تاريخ بغداد: «حسن السريرة» .

(10/87)


هذا كتاب أدب ومحنه ... وهو الذي يدعى كليل دمنه
[1]
1099- معروف بن الفيرزان، أبو محفوظ، ويعرف بالكرخي.
[2] نسبة إلى كرخ بغداد، كان أهله نصارى، وكان صبيا في المكتب يقول معلمهم:
أب وابن. فيصيح: أحد أحد.
وأسلم، وروى عَن بكر بن حبيس، والربيع بن صبيح وغيرهما، وكان من كبار الزاهدين في الدنيا، والعارفين للَّه، والمحبين له، وكان له كرامات.
وذكر مرة عند أَحْمَد فقيل: هو قليل العلم فَقَالَ: وهل يراد من العلم إلا ما وصل إِلَيْهِ معروف!؟
وكان سفيان بن عيينة يَقُولُ: لا يزال أهل بغداد بخير ما بقي فيهم معروف.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ [الْقَزَّازِ] قَالَ: أَخْبَرَنَا [أَحْمَدُ بْن عَلِيِّ بْن ثَابِتٍ] [3] الْخَطِيبُ قَالَ: أخبرنا الحسن بن عثمان قَالَ: أخبرنا ابن مالك/ القطيعي قَالَ: حدثنا العباس بن يوسف قَالَ: حدثني سعيد بن عثمان قَالَ: سمعت محمد بن منصور يقول:
مضيت يوما إلى معروف الكرخي ثم عدت إليه من الغد، فرأيت في وجهه أثر شجة، فهبت أن أسأله عنها، وكان عنده رجل أجرأ مني عليه فقال لَهُ: كنا عندك البارحة ومعنا محمد بن منصور، فلم نر في وجهك هذا الأثر. فَقَالَ له معروف: خذ فيما تنتفع بِهِ.
فقال لَهُ: أسألك بحق الله. فانتفض معروف ثم قال لَهُ: وما حاجتك إلى هذا!؟ مضيت البارحة إلى بيت الله الحرام، ثم صرت إلى زمزم، فشربت منها، فزلت رجلي، فنطح الباب وجهي، فهذا الذي ترى من ذلك. [4] أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا [أبو بكر بن ثابت] [5] الخطيب قال: أخبرني
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 7/ 44- 45.
[2] انظر ترجمته في: 13/ 199- 209.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[4] انظر: تاريخ بغداد 13/ 202.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.

(10/88)


أحمد بن علي التوزي [1] قَالَ: حدثنا الحسين بن الحسن بن الْعَبَّاس قَالَ: حدثني أبو محمد الحسن بن عثمان بن عبد الله البزار قَالَ: حدثني أبو بكر بن الزيات قَالَ:
سمعت ابن شيرويه [2] يَقُولُ: كنت أجالس معروفا الكرخي كثيرا، فلما كان ذات يوم رأيت وجهه قد خلا، فقلت لَهُ: يا أَبَا محفوظ، بلغني أنك تمشي على الماء. فقال لي:
ما مشيت قط على الماء، ولكن إذا هممت بالعبور جمع لي طرفاها فأتخطاها [3] .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: أخبرنا أبو محمد الخلال قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الواحد بن علي الفامي [4] قَالَ: أخبرنا عبد الله [5] بن سليمان الوراق قَالَ: حدّثنا محمد بن أبي هارون قَالَ: حدثنا محمد بن المبارك قَالَ: حدثنا محمد بن صبيح قَالَ: مر معروف عَلَى سقاء يسقي الماء وهو يَقُولُ: رحم الله من شرب.
فشرب- وكان صائما- فَقَالَ: لعل الله أن يستجيب لَهُ [6] .
[قال المؤلف:] [7] توفي معروف في سنة مائتين/ ويقال: في سنة أربع ومائتين والأول أصح. وقد جمعت أخباره في كتاب مفرد، فلم أطل هاهنا [بالتكرار] [8] .
1100- وهب بن وهب بن كثير بن عبد الله بن زمعة بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى، أبو البختري، القرشي
[9] .
حدث عَن هشام بن عروة، وجعفر بن محمد، وابن جريج، وانتقل عن المدينة إلى بغداد، فولّاه الرشيد القضاء بعسكر المهدي، ثم عزله فولاه مدينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
__________
[1] في الأصل: «الثوري» .
[2] في ت: «ابن شبرمة» .
[3] انظر: تاريخ بغداد 13/ 206.
[4] في ت: «القاضي» .
[5] في الأصل: «عبد الرحمن» .
[6] انظر: تاريخ بغداد 13/ 208.
[7] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[8] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[9] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 13/ 481- 487.

(10/89)


وجعل إليه صلاتها وقضاءها وحربها. وكان جوادا، يعتذر إلى من يعطيه وإن كثر عطاؤه.
فقال مادحه:
هلا فعلت- هداك المليك ... - فينا كفعل أبي البختري [1]
تتبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقل عن المكثر
إلا أنه كان يضع الحديث ويسهر الليل في وضعه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا القاضي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زكريا قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يحيى الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا وكيع قَالَ: حدثنا محمد بن الحسين بن مسعود الزرقي قَالَ: حدثنا عثمان بن عثمان قال: حدثنا أبو سعيد العقيلي قال: لما قدم الرشيد المدينة أعظم أن يترقأ منبر النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ في قباء أسود ومنطقة فقال أبو البختري حدثنا جعفر بن محمد، عن أَبِيهِ قَالَ: نزل جبريل على النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ وعليه قباء ومنطقة مخنجرا فيها بخنجر، فقال المعافى التيمي هذه الأبيات:
ويل وعول لأبي البختري ... إذا توافى الناس في المحشر
/ من قوله الزور وإعلانه ... بالكذب في الناس على جعفر
والله ما خليت ساعة ... للفقه في بدو ولا محضر
ولا رآه الناس في دهره ... يمر بين القبر والمنبر
قاتل الله أبا وهب لقد ... أعلن بالزور وبالمنكر
يزعم أن المصطفى أحمدا ... أتاه جبريل التقي البري
عليه خف وقباء أسود ... مخنجرا في الحقو بالخنجر [2] .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن [علي] [3] بن ثابت قال:
__________
[1] في الأصل: «هلا فعلت- هداك الله فينا- كفعل السخي أبي البختري» والتصحيح من ت وتاريخ بغداد 13/ 482.
[2] انظر: تاريخ بغداد 13/ 482- 483.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.

(10/90)


أخبرنا التنوخي قَالَ: أخبرنا طلحة بْن محمد بن جعفر قَالَ: حدثني عمر بن الحسن الأشناني قَالَ:
حدثنا جعفر الطيالسي، عن يحيى بن مَعِين: أنه وقف على حلقة أبي البختري، فإذا هو يحدث بهذا الحديث: عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر. فَقَالَ له:
كذبت يا عدو اللَّه عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. قال: فأخذني الشرط، فقلت: هذا يزعم أن رسول رب العالمين نزل على النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ وعليه قباء. قَالَ: فقالوا لي: هذا قاض كذاب فأفرجوا عني [1] .
توفي أبو البختري ببغداد في هذه السنة.
__________
[1] انظر: تاريخ بغداد 13/ 483.

(10/91)