النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 155]
السنة التي حكم فيها محمد بن عبد الرحمن وغيره من الأمراء على مصر وهي سنة خمس وخمسين ومائة- فيها استنقذ يزيد بن حاتم المعزول عن إمرة مصر قبل تاريخه بلاد المغرب من يد الخوارج بعد حروب عظيمة، وقتل أبا عاد وأبا حاتم

(2/23)


ملكي الخوارج، ومهد إقليم المغرب وأصلح أموره، وبقي على إمرة المغرب خمسة عشر عاماً أميراً. وفيها عزل الخليفة أبو جعفر المنصور عن إمرة المدينة الحسن بن زيد العلوي بعبد الصمد بن علي العباسي عم الخليفة المنصور. وفيها بنى المنصور أسوار الكوفة والبصرة ونيسابور وأدار عليها الخندق من أموال أهلها. وفيها عزل الخليفة أبو جعفر المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة وصادره وحبسه لشكوى أهل الجزيرة عليه. وفيها توفي أشعب «1» بن جبير الطماع، وأمه جعدة «2» وقيل أم حميد. وقيل إنه كان مولى عثمان بن عفان «3» رضي الله عنه، وقيل مولى سعيد بن العاص، وقيل مولى عبد الله بن الزبير، وقيل مولى فاطمة بنت الحسين؛ وكان أزرق العينين أحول أقرع نشأ بالمدينة، وقيل ولد سنة تسع من الهجرة وعاش دهراً طويلاً.
وكان أشعب قد تعبد وقرأ القرآن وتنسك وروى الحديث، وكان حسن الصوت، وله أخبار كثيرة مستظرفة في الطمع وغيره.
روى الأصمعي قال: عبث الصبيان بأشعب فقال: ويحكم! اذهبوا، سالم يقسم تمراً فعدوا، فعدا «4» معهم وقال: ما يدريني لعله حق.

(2/24)


وقال أبو أمية الطرسوسي حدثنا ابن أبي عاصم النبيل عن أبيه قال: قلت لأشعب الطماع: أدركت التابعين فما كتبت شيئاً، فقال: حدثنا عكرمة عن ابن عباس قال: «لله على عبده نعمتان» ثم سكت؛ فقلت: اذكرهما، فقال: الواحدة نسيها عكرمة، والأخرى نسيتها أنا.
وروى ابن أبي عبد الرحمن الغزي عن أبيه قال أشعب: ما خرجت في جنازة فرأيت اثنين يتساران إلا ظننت أن الميت أوصى لي «1» بشيء. وعن ابن أبي عاصم قال: مررت يوماً فإذا أشعب ورائي فقلت: مالك؟ قال: رأيت قلنسوتك قد مالت فقلت: لعلها تقع فآخذها، فأخذتها عن رأسي فدفعتها إليه. وحكايات أشعب في الطمع كثيرة مشهورة؛ وقيل إنه كان يجيد الغناء. وفيها توفي مسعر بن كدام بن ظهير بن عبيدة بن الحارث أبو سلمة الهلالي الكوفي الأحول الحافظ الزاهد. قال سفيان بن عيينة: رأيت مسعراً وربّما يحدثه الرجل بشيء هو أعلم به منه فيستمع له وينصت، وما لقيت أحداً أفضله عليه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.
ذكر ولاية موسى بن علي على مصر
هو موسى بن علي «2» بن رباح الأمير أبو عبد الرحمن اللخمي المصري أمير مصر، ولي إمرة مصر باستخلاف محمد بن عبد الرحمن التجيبي إليه، فأقره الخليفة أبو جعفر

(2/25)


المنصور على إمرة مصر [و] على الصلاة، وذلك في شوال سنة خمس وخمسين ومائة فجعل على شرطته أبا الصهباء محمد بن حسان الكلبي، وباشر إمرة مصر إلى سنة ست وخمسين ومائة؛ [وفي ولايته «1» ] خرج عليه قبط مصر وتجمعوا ببعض البلاد فبعث موسى هذا بعسكر فقاتلوهم حتى هزموهم وقتل منهم جماعة وعفا عن جماعة، ومهد أمور مصر؛ وكان فيه رفق بالرعية وتواضع، وكان يتوجه إلى المسجد ماشياً وصاحب شرطته بين يديه يحمل الحربة، وكان إذا أقام صاحب الشرطة الحدود بين يديه يقول له موسى هذا: أرحم «2» أهل البلاد؛ وكان يحدث فيكتب الناس عنه.
قال الذهبي في «تذهيب التهذيب» : ولي الديار المصرية ست سنين وحدث عن أبيه، وعن الزهري، وعن ابن المنكدر، وجماعة؛ وحدث عنه أسامة بن زيد الليثي، والليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة، وابن المبارك، وابن وهب، ووكيع، وأبو عبد الرحمن المصري، وعبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن سنان العوقى، وروح بن صلاح الموصلي ثم المصري، وطائفة، آخرهم موتا القاسم بن هانئ الأعمى بمصر، ووثقه أحمد وابن معين والعجلي والنسائي.
وقال أبو حاتم: كان رجلاً صالحاً يتقن حديثه لا يزيد ولا ينقص، صالح الحديث، من الثقات.
وقال الحافظ أبو سعيد بن يونس: ولد بإفريقية سنة تسعين ومات بالإسكندرية سنة ثلاث وستين ومائة. اهـ.
وقال غيره: أقام على إمرة مصر إلى أن توفي الخليفة أبو جعفر المنصور في سادس ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وولي الخلافة من بعده ابنه محمد المهدي فأقرّ

(2/26)


المهدىّ موسى هذا على إمرة مصر، فاستمر على ذلك إلى أن عزله المهدي بعد ذلك في سابع عشر ذي الحجة سنة إحدى وستين ومائة وولى بعده على مصر عيسى بن لقمان، فكانت ولايته على مصر ست سنين وشهرين.
وقال صاحب «البغية» : ثم صرفه المهدي يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة إحدى وستين ومائة، ومدة ولايته ست سنين وشهران.
قلت: وافقنا صاحب «البغية» في المدة والسنة وخالفنا في شهر عزله.
قلت: وفي أيامه كان خروج يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرم «1» خرج ملتزماً بخراسان هو ومن معه منكراً على الخليفة محمد المهدي ونقم عليه في سيرته التي يسير بها، وكتب إلى موسى هذا ليوافقه فنهر قاصده وقبض عليه وكتب بذلك للمهدىّ، واجتمع مع البرم بشر كثير، فوجه إليه المهدي يزيد بن مزيد الشيباني، وهو ابن أخى معن ابن زائدة الشيباني، فلقيه يزيد فاقتتلا حتى صارا إلى المعانقة، فأسره يزيد المذكور وبعث به وبأصحابه إلى المهدي؛ فلما بلغوا النهروان حمل يوسف البرم على بعير قد حول وجهه إلى ذنبه وكذلك أصحابه، فأدخلوهم إلى الرصافة على تلك الحالة، وقطعت يدا يوسف ورجلاه ثم قتل هو وأصحابه وصلبوا على الجسر «2» . وقيل: إن يوسف المذكور كان حرورياً فتغلب على بوشنج «3» وعليها مصعب «4» جد طاهر بن الحسين فهرب منه، وكان تغلب أيضاً على مرو الروذ والطالقان وجوزجان «5» ، وقد كان من جملة أصحابه أبو معاذ الفاريابىّ فقبض عليه معه.

(2/27)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 156]
السنة الأولى من ولاية موسى بن علي على مصر وهي سنة ست وخمسين ومائة- فيها عزل الخليفة أبو جعفر المنصور الهيثم بن معاوية عن إمرة البصرة بسوار بن عبد الله، فاستقر سوار على إمرتها والقضاء، جمع له بينهما؛ ولما عزل الهيثم قدم بغداد فأقام [بها] أيامأ ومات فجأة على صدر سريته وهو يجامع، فخرج المنصور في جنازته وصلى عليه ودفن في مقابر قريش. وفيها توفي حمزة بن حبيب بن عمارة أبو عمارة الزيات أحد القراء السبعة؛ كان الأعمش إذا رآه يقول: هذا حبر القرآن.
وفيها توفي عبد الرحمن بن زياد أبو خالد الإفريقي المعافري قاضي إفريقية، كان فقيهاً زاهداً ورعاً؛ وهو أول مولود ولد بالإسلام بإفريقية، وهو من الطبقة الخامسة من أهل المغرب وفد على خلفاء بني أمية، وكان قوالاً بالحق مشكور السيرة عدلاً رحمه الله. وفيها توفي حماد الراوية أبو القاسم بن أبي ليلى، ولاؤه لبكر بن «1» وائل. وقيل اسم أبيه سابور بن مبارك الديلمي الكوفي، وكان إخبارياً عالماً علامة خبيراً بأيام العرب وشعرها؛ وامتحنه الوليد بن يزيد الخليفة في حفظ الشعر فتعب، فوكل به من يستوفي عليه فأنشد ألفين وسبعمائة «2» قصيدة مطولة، فأمر له الوليد بمائة ألف درهم.
وفيها توفي أيضاً حماد عجرد، واسمه حماد بن يونس «3» بن كليب أبو يحيى «4» الكوفي وقيل: الواسطي، كان أيضاً إخبارياً علامة، وكان بينه وبين بشار بن برد الشاعر الأعمى الآتي ذكره أهاج ومفاوضات؛ وكان بالكوفة في عصر واحد الحمادون

(2/28)


الثلاثة: حماد الراوية المقدم ذكره وحماد عجرد هذا، وحماد بن «1» الزبرقان، فكانوا يشربون الخمر ويتهمون بالزندقة.
قال خلف بن المثنى: كان يجتمع بالبصرة عشرة «2» في مجلس لا يعرف مثلهم:
الخليل بن أحمد صاحب العروض سني، والسيد محمد»
الحميري الشاعر رافضي «4» ، وصالح بن عبد القدوس ثنوي «5» ، وسفيان بن مجاشع صفري «6» ، وبشار بن برد خليع ماجن، وحماد عجرد زنديق، وابن رأس الجالوت الشاعر يهودي، وابن نظير النصراني متكلم، وعمرو ابن أخت المؤيد «7» مجوسي، وابن سنان الحراني الشاعر صابئي «8» ؛ فيتناشد الجماعة أشعاراً وأخباراً؛ فكان بشار يقول: أبياتك هذه يا فلان أحسن من سورة «9» كذا وكذا، وبهذا المزاح ونحوه كفروا بشاراً، وقيل: وفاة حماد عجرد سنة خمس وخمسين ومائة وقيل: سنة إحدى وستين ومائة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وخمسة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً واثنان وعشرون إصبعا.

(2/29)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 157]
السنة الثانية من ولاية موسى بن علي اللخمي على مصر وهي سنة سبع وخمسين ومائة- فيها أنشأ الخليفة أبو جعفر المنصور قصره الذي سمّاه الخلد على شاطئ دجلة. وفيها عرض المنصور جيوشه في السلاح والخيل وخرج وهو عليه درع وقلنسوة سوداء مصرية وفوقها الخوذة. وفيها نقل المنصور الأسواق من بغداد، وعملت بظاهرها بباب الكرخ، ووسع شوارع بغداد وهدم دوراً كثيرة لذلك. وفيها غزا الروم يزيد بن أسيد، فوجه على بعض جيشه سناناً مولى البطال، فسبى وقتل وغنم. وفيها توفي سوار بن عبد الله قاضي البصرة، كان عادلاً في حكمه، شكاه أهل البصرة إلى المنصور فاستقدمه المنصور، فلما قدم عليه جلس فعطس المنصور فلم يشمّته سوّار، فقال له المنصور: مالك لم تشمتني؟ فقال: لأنك لم تحمد الله، فقال المنصور: أنت ما حابيتني في عطسة تحابي غيري! ارجع إلى عملك. وفيها توفي عبد الوهاب ابن الإمام إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي ابن أخي المنصور، ولاه عمه المنصور دمشق وفلسطين والصائفة ولم تحمد ولايته وولي عدة أعمال غير ذلك. وكان أبوه إبراهيم بويع بالخلافة بعد موت أبيه فلم يتم أمره وقبض عليه مروان الحمار وحبسه حتى مات فعدل الناس بعده إلى أخيه السفاح وبايعوه فتم أمره. وفيها توفي عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد «1» الفقيه أبو عمرو الاوزاعي فقيه الشام وصاحب المذهب المشهور الذي ينسب إليه الأوزاعية قديماً، والأوزاع: بطن من همدان وقيل: من حمير الشام «2» وقيل قرية بدمشق، وقيل:

(2/30)


إنما سمي الأوزاعي لأنه من أوزاع القبائل، ومولده ببعلبك، ونشأ بالبقاع، ونقلته أمه إلى بيروت فرابط بها إلى أن مات بها فجأة، فوجدوه يده اليمنى تحت خده وهو ميت؛ وكان فقيهاً ثقة فاضلاً عالماً كثير الحديث حجة رحمه الله. وفيها توفي محمد ابن طارق المكي من الطبقة الثالثة «1» من أهل مكة، كان من الزهاد العباد.
قال محمد بن فضل «2» : رأيته في الطواف وقد انفرج له أهل الطواف فحزر «3» طوافه في اليوم والليلة فكان عشرة فراسخ. وبه ضرب ابن شبرمة المثل حيث قال:
لو شئت كنت ككرز في تعبده ... أو كابن طارق حول البيت في الحرم
قد حال دون لذيذ العيش خوفهما ... وسارعا في طلاب الفوز فالكرم
وذكر الذهبي وفاة جماعة مختلف فيهم، فقال: وفيها توفى- قاضى مرو- الحسين ابن واقد، وسعيد بن أبي عروبة في قول، وطلحة بن أبي سعيد الإسكندراني، وعامر بن اسماعيل المسلى «4» الأمير، وفقيه الشام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعىّ، ومحمد بن عبد الله بن أخي الزهري، ومصعب بن ثابت «5» بن الزبير فى قول، ويوسف ابن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي (بفتح السين) ، وأبو محنف «6» لوط في قول.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 158]
السنة الثالثة من ولاية موسى بن علي اللخمي على مصر وهي سنة ثمان وخمسين ومائة- فيها حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد العباسى بن أخي الخليفة أبي جعفر

(2/31)


المنصور وهو شاب أمرد. وفيها مات طاغية الروم. وفيها ولى الخليفة خالد بن برمك الجزيرة، وكان ألزمه الخليفة المنصور بثلاثة آلاف ألف درهم. وفيها توفي زفر بن الهذيل العنبري، الإمام الفقيه صاحب أبي حنيفة ومولده سنة عشر ومائة؛ روى علىّ بن المدرك عن الحسن بن زياد قال: كان زفر وداود الطائي متحابين، فأما داود فترك الفقه وأقبل على العبادة، وأما زفر فجمعهما. قال أبو نعيم: كنت أعرض الحديث على زفر فيقول: هذا ناسخ وهذا منسوخ، وهذا يؤخذ وهذا يرفض. وقال الحسن بن زياد: ما رأيت أحداً يناظر زفر إلا رحمته. قلت:
يعني لكثرة علومه وبلاغته وقدرته على العلم. وهو أول أصحاب أبي حنيفة موتاً رحمه الله. وفيها توفي شيبان الراعي، وكان من كبار الفقهاء من الزّهاد والعبّاد، كان من أكابر أهل دمشق ثم ترك الدنيا وخرج إلى جبل لبنان، فانقطع به وأكل المباحات وصحب سفيان الثوري وغيره. قيل: إنه كان إذا حصل له جنابة أتته سحابة مطر فيغتسل منها؛ وكان إذا ذهب إلى الجمعة يخط على غنمه خطاً فيجيء فلم يجدها تتحرك. قال الهيثم: حج شيبان وسفيان الثوري فعرض لهما سبع، فقال سفيان: أما ترى السبع؟ فقال شيبان لا تخف غير الله عز وجل، فلما سمع السبع صوت شيبان جاء إليه وبصبص «1» فعرك شيبان أذنه بعد أن بصبص السبع، فقال له:
اذهب.
وفيها توفي الخليفة أمير المؤمنين عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أبو جعفر المنصور الهاشمي العباسي، ولد فى سنة خمس وتسعين أو فى حدودها، وأمه أم ولد اسمها سلامة البربرية؛ وروى عن أبيه وجده، وروى عنه ولده محمد المهدي؛ وكان قبل أن يلي الخلافة يقال له: عبد الله الطويل؛ ولي الخلافة بعد

(2/32)


موت أخيه عبد الله السفاح، أتته البيعة وهو بمكة، فإنه كان حج تلك السنة بعهد السفاح إليه لما احتضر في سنة ست وثلاثين ومائة، فدام فيها اثنتين وعشرين سنة إلى أن مات في ذي الحجة. وولي الخلافة من بعده ابنه محمد المهدي بعهد منه إليه.
وقال الربيع بن يونس الحاجب: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والملوك أربعة: معاوية وعبد الملك وهشام وأنا. قال شباب «1» :
أقام الحج للناس أبو جعفر المنصور سنة ست وثلاثين ومائة وسنة أربعين ومائة وسنة أربع وأربعين ومائة وسنة اثنتين وخمسين ومائة. وزاد الفسوي «2» أنه حج أيضاً سنة سبع وأربعين ومائة.
قال أبو العيناء حدثنا الأصمعي: أن المنصور صعد المنبر فشرع في الخطبة؛ فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، اذكر من أنت في ذكره، فقال له: مرحباً، لقد ذكرت جليلاً، وخوفت عظيماً، وأعوذ بالله أن أكون ممن إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم؛ والموعظة منا بدت ومن عندنا خرجت، وأنت يا قائلها فأحلف بالله ما الله أردت، إنما أردت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، فأهون بها ويلك «3» ! وإياك وإياكم معشر الناس وأمثالها؛ ثم عاد إلى الخطبة وكأنما يقرأ من كتاب.
وقال الربيع: كان المنصور يصلي الفجر ثم يجلس [وينظر] في مصالح الرعية إلى أن يصلي الظهر، ثم يعود إلى ذلك إلى أن يصلي العصر، ثم يعود إلى أن يصلي

(2/33)


المغرب؛ فيقرأ ما بين المغرب والعشاء الآخرة «1» ، ثم يصلي العشاء ويجلس مع سماره إلى ثلث الليل الأول، فينام الثلث الأوسط ثم ينتبه إلى أن يصلي الفجر، ويقرأ في المصحف إلى أن ترتفع الشمس فيجلس للناس، فكان هذا دأبه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبعان ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 159]
السنة الرابعة من ولاية موسى بن علي اللخمي على مصر وهي سنة تسع وخمسين ومائة. فيها خرج الخليفة محمد المهدي من بغداد فنزل البردان «2» وجهز الجيوش إلى الصائفة، وجعل على الجيوش عمه العباس بن محمد العباسي وبين يديه الحسن «3» بن وصيف في الموالي وقواد خراسان وغيرهم؛ فساروا إلى الروم حتى بلغوا أنقرة وفتحوا مدينة يقال لها: المطمورة «4» وعادوا سالمين غانمين. وفيها فتح الخليفة المهدي الخزائن وفرق الأموال. وذكر الربيع الحاجب قال: مات المنصور وفي بيت المال مائة ألف ألف درهم وستون ألف درهم فقسم ذلك المهدي وأنفقه. وفيها أمر المهدي بإطلاق من كان في حبس أبيه إلا من كان عليه دم وأشباه ذلك. وفيها أعتق المهدي جاريته الخيزران وتزوجها، وهي أم الهادي والرشيد. وفيها عزم المهدي

(2/34)


على خلع ابن عمه عيسى بن موسى من ولاية العهد وتولية ولده موسى الهادي [فكتب «1» إلى عيسى بن موسى بالقدوم عليه] فامتنع عيسى من ذلك. وفيها توفي عبد العزيز مولى المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة من الطبقة الرابعة من أهل مكة، وكان معروفاً بالعبادة والورع وله أحاديث. وفيها أطلق المهدي الحسن وأخاه ولدي إبراهيم بن عبد الله بن حسن وسلم الحسن إلى أمير يحتفظ به، فهرب الحسن فتلطف المهدي حتى وقع به بعد مدّة. وفيها عزل المهدي إسماعيل الثقفي عن الكوفة بعثمان ابن لقمان الجمحي وقيل بغيره. وفيها عزل المهدي خاله يزيد بن منصور عن اليمن وولاها رجاء بن روح.
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر في هذه السنة، قال: وتوفي أصبغ بن زيد الواسطي، وحميد بن قحطبة الأمير، وعبد العزيز بن أبي رواد «2» بمكة، وعكرمة بن عمار اليمامي، وعمار بن رزيق «3» الضبي، ومالك بن مغول قيل في أولها، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي، وأبو بكر الهذلي واسمه سلمى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 160]
السنة الخامسة من ولاية موسى بن علي اللّخمىّ على مصر وهى سنة سئين ومائة. فيها عزل المهدي أبا عون عن إمرة خراسان وولاها بعده معاذ بن

(2/35)


مسلم. وفيها حج بالناس الخليفة محمد المهدي ونزع المهدي كسوة البيت الحرام وكساه كسوة جديدة، فقيل: إن حجبة الكعبة أنهوا إليه أنهم يخافون على الكعبة أن تهدم لكثرة ما عليها من الأستار، فأمر بها فجردت عنها الستور، فلما انتهوا إلى كسوة هشام بن عبد الملك بن مروان وجدوها ديباجاً غليظاً إلى الغاية. ويقال:
إن المهدي فرق في حجته هذه في أهل الحرمين ثلاثين ألف ألف درهم منها دنانير كثيرة، ووصل إليه من اليمن أربعمائة «1» ألف دينار فقسمها أيضاً في الناس، وفرق من الثياب الخام مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب؛ ووسع في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقرر في حرسه خمسمائة رجل من الأنصار ورفع أقدارهم. وفيها خلع المهدي ابن عمه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس من ولاية العهد وجعلها في ولده موسى الهادي. وفيها توفي إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر التميمي العجلي أبو إسحاق البلخي، وأصله من كورة بلخ من أبناء الملوك، حج أدهم ومعه امرأة فولدت بمكة إبراهيم هذا، فطاف به أبوه حول الكعبة ودار به على الخلق في المسجد وقال: ادعوا له.
قال ابن مندة: سمعت عبد الله بن محمد البلخي، سمعت عبد الله بن محمد العابد، سمعت يونس بن سليمان البلخي يقول: كان إبراهيم بن أدهم من الأشراف، وكان أبوه شريفاً كثير المال والخدم والجنائب «2» والبزاة، فبينما إبراهيم يأخذ كلابه وبزاته للصيد وهو على فرسه يركضه إذ هو بصوت يناديه: يإبراهيم، ما هذا العبث! أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً. اتق الله وعليك بالزاد ليوم الفاقة، قال: فنزل عن دابته ورفض الدنيا.

(2/36)


وذكر الذهبي بإسناد عن إبراهيم بن أدهم أنه قيل لإبراهيم بن أدهم:
ما كرامة المؤمن على الله؟ قال: أن يقول للجبل تحرك فيتحرك، قال: فتحرك الجبل، فقال: ما إياك عنيت.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا سواء.
ذكر ولاية عيسى بن لقمان على مصر
هو عيسى بن لقمان بن محمد بن حاطب الجمحي (بضم الجيم وتقدمها نسبة إلى جمح) أمير مصر، وليها بعد عزل موسى بن علي اللخمي من قبل أمير المؤمنين محمد المهدىّ على الصلاة والخراج معاً في سنة إحدى وستين ومائة، وكان دخوله إلى مصر في يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقين من ذي الحجة سنة إحدى وستين ومائة؛ فجعل على الشرطة الحارث بن الحارث الجمحي وهو من بني عمه، ثم سكن عيسى هذا المعسكر على عادة أمراء مصر ودام على إمرة مصر مدة يسيرة، ثم جاءه الخبر بعزله عن إمرة مصر في جمادى الآخرة «1» لاثنتي عشرة بقيت منها من سنة اثنتين وستين ومائة، وولاية واضح مولى أبي جعفر المنصور. فكانت ولاية عيسى هذا على مصر نحو خمسة أشهر، وهي بسفارة يعقوب بن داود. وكان سبب تقدم يعقوب بن داود عند المهدي لما أحضره المهدي عنده في أمر الحسن بن إبراهيم العلوي فقال يعقوب: يا أمير المؤمنين، إنك قد بسطت عدلك لرعيتك وأنصفتهم وأحسنت إليهم فعظم رجاؤهم، [وانفسحت آمالهم «2» ] ؛ وقد بقيت أشياء لو ذكرتها [لك «3» ] لم تدع النظر فيها، وأشياء خلف بابك يعمل فيها ولا تعلم بها، فإن جعلت

(2/37)


لي السبيل إليك رفعتها؛ فأمره بذلك. فكان يدخل عليه كلما أراد ويرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمور الثغور والولايات وبناء الحصون ونقوية الغزاة وتزويج العزاب وفكاك الأسرى والمحبسين والقضاء عن الغارمين والصدقة على المتعففين، فحظي عنده بذلك وتقدمت منزلته حتى سقطت منزلة أبي عبيد الله وحبس. وكتب المهدي توقيعاً بأنه اتخذه أخاً في الله ووصله بمائة ألف درهم.
ولما عزل عيسى هذا عن إمرة مصر قربه إلى المهدي فأكرمه غاية الإكرام.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 161]
السنة التي حكم فيها عيسى بن لقمان على مصر وهي سنة إحدى وستين ومائة على أنه ولي في آخرها غير أننا نذكرها في ترجمته، ونذكر سنة اثنتين وستين ومائة في ترجمة غيره لأن كلاً منهما ترجمته غير مستوفاة لقلة اعتناء المؤرخين بهما قديماً.
فيها خرج المقنع الخارجي بخراسان واسمه عطاء، وقيل حكيم، بأعمال مرو وادّعى النبوّة، وكان يقول بتناسخ الأرواح، واستغوى خلقاً عظيماً وتوثب على بعض ما وراء النهر، فانتدب لحربه أمير خراسان معاذ بن مسلم والأمير جبريل بن يحيى وليث مولى المهدي وسعيد الحرسىّ، فجمع المقنّع الأقوات وتحصّن للحصار بقلعة من أعمال كش»
على ما يأتي ذكره. وفيها ظفر نصر بن [محمد «2» بن] الأشعث الخزاعي بعبد الله ابن الخليفة مروان الحمار الأموي المكنى بأبي الحكم وهو أخو عبيد الله؛ وكانا وليّى عهد مروان، فلما قتل مروان حسبما ذكرناه بديار مصر هرب عبد الله هو وأخوه إلى الحبشة فقتل عبيد الله واختفى هذا إلى أن أتي به إلى المهدي فجلس له مجلسا

(2/38)


عاماً وقال: من يعرف هذا؟ فقام عبد العزيز العقيلي إلى جنبه، ثم قال له: أبو الحكم؟
قال: نعم، فسجنه المهدي. وفيها أمر المهدي بعمارة طريق مكة وبنى بها قصوراً «1» أوسع من القصور التي أنشأها عمه السفاح، وعمل البرك وجدد الأميال «2» ودام العمل في ذلك حتى تم في عشر سنين. ثم أمر المهدي بترك المقاصير التي في الجوامع وقصر المنابر وصيرها على مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها حج بالناس موسى الهادي ولي عهد المهدي وابنه الأكبر. وفيها زاد الخليفة المهدي في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي أبو دلامة زند «3» بن الجون الكوفي الشاعر المشهور مولى بني أسد، كان عبداً حبشياً فصيحاً خليعاً ماجناً، وهو ممن ظهر ذكره في الدولة العباسية من الشعراء. ومن شعره وهو من نوع المقابلة ثلاثة بثلاثة:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر على اختلاف يرد عليه في وفاتهم. قال: وفيها مات أرطاة بن الحارث النخعي، وإسرائيل بن يونس، وحرب بن شداد أبو الخطاب، ورجاء بن أبي سلمة بالرملة «4» ، وزائدة بن قدامة في أولها، وسالم بن أبي المهاجر الرقي، وسعيد بن أبي «5» أيوب المصري، وسفيان بن سعيد الثوري، وعبد الحكم بن أعين المصري، ونصر بن مالك الخزاعي الأمير، ويزيد «6» بن إبراهيم التستري.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وأربعة أصابع.

(2/39)


ذكر ولاية واضح المنصوري على مصر
هو واضح بن عبد الله المنصوري الخصي أمير مصر، وليها من قبل المهدي بعد عزل عيسى بن لقمان عن مصر في جمادى الأولى سنة اثنتين وستين ومائة. فدخلها واضح المذكور في يوم السبت لست بقين من جمادى الأولى سنة اثنتين وستين ومائة المذكورة؛ وجمع له المهدي صلاة مصر وخراجها معاً، ولما دخل مصر سكن المعسكر على عادة أمراء مصر وجعل على شرطته موسى بن زريق مولى بني تميم. وواضح هذا أصله من موالي صالح ابن الخليفة أبى جعفر المنصور. وكان خصيصاً عند المنصور إلى الغاية، وكان يندبه إلى المهمات لشجاعة كانت فيه وشدة. ولما ولي إمرة مصر شد على أهلها فشكوا منه فعزله المهدي عنهم في شهر رمضان من سنة اثنتين وستين ومائة المذكورة بمنصور بن يزيد. فكانت ولاية واضح هذا على مصر نحو أربعة أشهر.
وقال صاحب «البغية» : ثلاثة شهور. واستمر واضح هذا على بريد مصر إلى أن خرج إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وكان واضح المذكور فيه ميل للعلوبّين فحمله واضح على البريد إلى الغرب فنزل إدريس بمدينة يقال لها وليلة «1» ، وكان إدريس هذا قد خرج أولاً مع الحسين صاحب فخ «2» ، فلما قتل الحسين هرب إدريس هذا إلى مصر واختفى بها إلى أن وجهه واضح هذا إلى الغرب، فلما وصل إدريس هذا إلى الغرب دعا لنفسه فأجابه من كان بها

(2/40)


وبنواحيها من البربر وعظم أمره وبلغ ذلك الخليفة الهادي موسى، فطلب واضحاً هذا وقتله وصلبه في سنة تسع وستين ومائة، وقيل: الذي قتله هارون الرشيد لما تخلف بعد موت أخيه موسى الهادي في أول خلافته.
ذكر ولاية منصور بن يزيد على مصر
هو منصور بن يزيد بن منصور بن عبد الله بن شهر بن يزيد الزنجاني الحميري الرعيني أمير مصر وهو ابن خال المهدي؛ ولاه المهدي إمرة مصر بعد عزل واضح عنها في سنة اثنتين وستين ومائة على الصلاة، فقدم مصر يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة اثنتين وستين ومائة المذكورة، وسكن المعسكر على عادة أمراء مصر، وجعل على شرطته هاشم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية ابن حديج مدة يسيرة، ثم عزله وولى عبد الأعلى بن سعيد «1» الجيشاني، ثم عزله أيضاً وولى عسّامة بن عمرو؛ وكل ذلك في مدة يسيرة فإن ولاية منصور المذكور لم تطل على إمرة مصر وعزل عنها في النصف من ذي القعدة من سنة اثنتين وستين ومائة المذكورة بيحيى بن داود؛ فكانت مدة ولاية منصور بن يزيد هذا على مصر شهرين وثلاثة أيام، ولم أقف على وفاته بعد ذلك غير أنه ذكر في واقعة عبد السلام الخارجي أنه حضرها بقنسرين. وأمر عبد السلام بن هاشم اليشكري المذكور، [أنه] كان قد خرج بالجزيرة واشتدت شوكته وكثر أتباعه فلقي عدة من قوّاد المهدىّ فيهم عيسى «2» ابن موسى القائد فقتله بعد أمور في عدة ممن معه وهزم جماعة من القواد فيهم شبيب ابن واج «3» المرورّوذىّ، فندب المهدي إلى شبيب ألف فارس وأعطى كل رجل

(2/41)


منهم ألف درهم معونة فوافوا شبيباً، فخرج بهم في طلب عبد السلام المذكور فهرب منه فأدركه بقنّسرين وقتله.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 162]
السنة التي حكم فيها واضح مولى المنصور على مصر ثم من بعده منصور ابن يزيد الحميري الرعيني وهي سنة اثنتين وستين ومائة- فيها وضع الخليفة المهدي دواوين الأزمة وولى عليها عمرو «1» بن مربع، ولم يكن لبني أمية ذلك. (ومعنى دواوين الأزمة: أن يكون لكل ديوان زمام وهو رجل يضبطه، وقد كان قبل ذلك الدواوين مختلطة) . وفيها وصلت الروم إلى الحدث «2» فهدموا سورها فغزا الناس غزوة لم يسمع بمثلها، وكان مقدم الغزاة الحسن بن قحطبة سار إليهم في ثمانين ألف مقاتل سوى المطوعة؛ فأغار على ممالك الروم وأحرق وأخرب ولم يلق بأساً. وفيها ولي اليمن عبد الله بن سليمان. وفيها ظهرت المحمّرة «3» بجرجان ورأسهم عبد القهار فغلبوا على جرجان وقتلوا وأفسدوا؛ فسار لحربهم من طبرستان عمر بن العلاء فقتل عبد القهّار ورءوس أصحابه وتشتت باقي أصحابه. وفيها كان مقتل عبد السلام بن هاشم اليشكري الذي خرج بحلب وبالجزيرة، وكثرت جموعه وهزم الجيوش التي حاربته حتى انتدب لحربه شبيب بن واج في ألف فارس من الأبطال وأعطوا ألف ألف

(2/42)


درهم، ففر منهم اليشكري إلى حلب فلحقه بها شبيب وقتله. وفيها توفي أبو عتبة «1» عباد بن عباد الخواص كان من أهل المحبة وعنه أخذ مشايخ الطريقة، كان يمشي فى الأسواق ويصيح: وا شوقاه إلى من يراني ولا أراه! وكان صاحب أحوال وكرامات رحمه الله. وفيها توفي محمد بن جعفر بن عبيد «2» الله بن العباس العباسي الهاشمي، كان صاحب فضل ومروءة وكان بمنزلة عظيمة عند الخليفة أبي جعفر المنصور، وكان المنصور يعجب به ويحادثه، وكان لبيباً لسناً فصيحاً.
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر ممن تقدم ذكرهم وغيرهم على اختلاف يرد في وفاتهم، قال: وفيها توفي إبراهيم بن أدهم الزاهد، وإبراهيم بن نشيط المصري في قول، وخالد ابن أبي بكر العمري «3» المدني، وداود بن نصير الطائي، وزهير بن محمد التميمي المروزي، وإسرائيل بن يونس بخلف، وعبد الله بن محمد بن أبي يحيى المدني سحبل، ويزيد بن إبراهيم التستري بخلف، ويعقوب بن محمد بن طحلاء المدني، وأبو بكر بن أبي سبرة القاضي، وأبو الأشهب العطاردي واسمه جعفر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.

(2/43)


ذكر ولاية يحيى بن داود على مصر
هو يحيى بن داود الشهير بابن ممدود الأمير أبو صالح الخرسي «1» من أهل خراسان.
وقال صاحب «البغية» : من أهل نيسابور. ولي مصر من قبل المهدي على الصلاة والخراج بعد عزل منصور بن يزيد عنها في ذي الحجة سنة اثنتين وستين ومائة، ولما قدم مصر سكن المعسكر على العادة، وجعل على شرطته عسامة بن عمرو، وكان أبو صالح المذكور تركياً وفيه شدة بأس وقوة جنان مع معرفة وتدبير؛ وكان لما قدم مصر وجد السبل بها مخيفة لكثرة المفسدين وقطاع الطريق، فأخذ أبو صالح هذا في أقماع المفسدين وأبادهم وقتل منهم جماعة كثيرة، فعظمت حرمته وتزايدت هيبته في قلوب الناس حتى تجاوز ذلك الحدّ؛ فكان يمنع الناس من غلق الدروب والأبواب وغلق الحوانيت حتى جعلوا عليها [شرائج «2» ] القصب والشباك لمنع الكلاب من دخولها في الليل، وهو أول من صنع ذلك بمصر؛ فكان ينادي بمصر ويقول: من ضاع له شيء فعلي أداؤه، ومنع حراس الحمامات أن يجلسوا فيها، وقال: من راح له شيء فأنا أقوم له به من مالي؛ فكان الرجل يدخل الحمّام فيضع ثيابه فى المسلخ «3» ثم يقول: يا أبا صالح احرس ثيابي ثم يدخل الحمام ولم يكن بها حارس ويقضي حاجته على مهل ويخرج فيلقى ثيابه كما هي لا يجسر أحد على أخذها من عظم حرمته، فإنه كان أشد الملوك حرمة وأعظمهم هيبة وأقدمهم على سفك الدماء وأنهكهم عقوبة؛ ثم إنه أمر أهل مصر من الأشراف والفقهاء والأعيان أن يلبسوا القلانس الطوال ويدخلوا بها عليه في يوم الاثنين والخميس بلا أردية؛ فقاسى أهل مصر منه شدائد، غير أن البلاد ومصر كانت

(2/44)


في أيامه في غاية الأمن. قيل: إن أبا جعفر المنصور كان إذا ذكره يقول: هو رجل يخافني ولا يخاف الله. واستمر على إمرة مصر إلى أن عزله الخليفة محمد المهدىّ بسالم بن سوادة في محرم سنة أربع وستين ومائة، وفرح المصريون بعزله عنهم؛ فكانت ولايته على مصر سنة وشهراً إلا أياماً. وقال صاحب «البغية» : سلتين وشهراً، والأول أثبت. وهو أحد من مهد الديار المصرية وأباد أهل الحوف من قيس ويمن وغيرهم من قطاع الطريق؛ وكان من أجل أمراء مصر لولا شدة كانت فيه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 163]
السنة الأولى من ولاية أبي صالح يحيى بن داود على مصر وهي سنة ثلاث وستين ومائة- فيها جدّ الأمير سعيد الحرسىّ في حصار المقنع حتى أشرف على أخذ قلعته، فلما أحس المقنع بالهلاك مص سما وأسقى نساءه فتلف وتلفوا. وفيها عزل الخليفة محمد المهدي عبد الصمد بن علي عن إمرة الجزيرة وولاها زفر بن عاصم الهلالي. وفيها ولى المهدي ابنه هارون الرشيد بلاد المغرب كلها وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها قدم المهدي إلى حلب وجهز البعوث لغزو الروم، وكانت غزوة عظيمة، أمر عليها ابنه هارون الرشيد وضم إليه الربيع الحاجب وموسى «1» بن عيسى بن موسى والحسن بن قحطبة، فافتتح المسلمون فتحاً كبيراً. وفيها قتل المهدي جماعة من الزنادقة وصلبهم وأحضرت كتبهم فقطعت. وفيها زار المهدي القدس، وحج بالناس علي بن

(2/45)


المهدي. وفيها توفي الخليل بن أحمد بن عبد الرحمن الازدي الفراهيدي البصري صاحب العربية والعروض، وقد تقدم ذكره من قول صاحب مرآة الزمان في سنة ثلاثين ومائة؛ والأصح وفاته في هذه السنة. وفيها توفي أرطاة بن المنذر بن الأسود أبو عدي السكوني «1» الحمصي، قال: أتيت عمر بن عبد العزيز فعرض لي في خيله وقال: يا أرطاة: ألا أحدثك بحديث هو عندنا من العلم المخزون؟ قلت: بلى، قال: إذا توضأت عند البحر فالتفت إليه وقل: يا واسع المغفرة اغفر لي، فإنه لا يرتد إليك طرفك حتى يغفر لك ذنوبك.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعا.
ذكر ولاية سالم بن سوادة على مصر
هو سالم بن سوداة التميمي أمير مصر، وليها من قبل محمد المهدي بعد عزل يحيى بن داود في أول المحرم سنة أربع وستين ومائة، فقدمها يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم، وجعل على شرطته الأخضر بن مروان، وقدم معه أيضاً أبو قطيفة «2» إسماعيل بن إبراهيم على الخراج؛ ولما دخل سالم إلى مصر سكن بالمعسكر على العادة، ودام على إمرة مصر إلى أن مضت سنة أربع وستين ومائة ودخلت سنة خمس وستين ومائة؛ وورد عليه الخبر من قبل الخليفة محمد المهدي بصرفه عن إمرة مصر بإبراهيم بن صالح العباسي، فكانت ولايته على مصر نحو السنة.

(2/46)


وقال صاحب «البغية» : صرف في سلخ ذي الحجة فكان مقامه بمصر سنة إلا ثمانية عشر يوماً. وفي أيامه كانت حروب كثيرة بمصر وبلاد المغرب، وجهز عساكر مصر نجدة إلى من كان في برقة ثم عادوا من غير قتال لما بلغتهم الفتنة التي كانت بالمغرب بين بربر بلنسية «1» وبربر شنت «2» برية من الأندلس وجرت بينهم حروب كثيرة قتل فيها خلق من الطائفتين، وكانت بينهم وقائع مشهورة دامت أشهرا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 164]
السنة التي حكم فيها سالم بن سوادة، على مصر وهي سنة أربع وستين ومائة- فيها حج بالناس صالح بن المنصور. وفيها غزا هارون الرشيد ابن الخليفة المهدي الصائفة فوغل في بلاد الروم ووقع له بالروم حروب وافتتح عدة حصون حتى بلغ خليج قسطنطينية، وصالح ملك الروم في العام على سبعين ألف دينار مدة ثلاث سنين بعد أن غنم وسبى واستنقذ خلقاً من المسلمين من الأسر، وغنم ما لا يوصف من المواشي حتى بيع البرذون بدرهم والزردية بدرهم وعشرون سيفاً بدرهم؛ وقتل من العدو نحو خمسين ألفاً؛ قاله الذهبي، ثم رجع فسر به أبوه المهدي. وقيل: إن هذه الغزوة كانت فى سنة خمس وسنتين ومائة. وفيها عزل المهدي محمد بن سليمان عن البصرة وفارس واستعمل عليها صالح بن داود بن علي. وفيها خرج المهدي حاجاً فوصل العقبة فعطش الناس وجهد الحجيج.

(2/47)


وأخذت المهدي الحمى فرجع من العقبة، وغضب على يقطين بن موسى حيث لم يصلح المصانع على الوجه، ولاقى الناس شدة من قلة الماء. وفيها توفي شبيب بن شيبة أبو معمر المنقري «1» ، كان خطيباً لسناً فصيحاً دخل على المنصور فقال: يا شبيب عظني وأوجر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يرض أن يجعل أحداً من خلقه فوقك، فلا ترض لنفسك أن يكون أشكر له فى الأرض منك؛ فقال أحسنت وأوجرت!.
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر في تاريخه مع خلاف يرد عليه، قال: وفيها توفي إسحاق بن يحيى بن طلحة التيمي، وسلام بن مسكين في قول، وسلام بن أبي مطيع في قول أيضاً، وعبد الله بن زيد بن أسلم العدوي، وعبد الله بن شعيب بن الحبحاب وعبد الله بن العلاء بن زئر؟؟؟ «2» ، وعبد الرحمن بن عيسى بن وردان، وعبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون، وعبد المجيد بن أبي عبس «3» الأنصاري، وعمر «4» بن أبي زادة في قول الواقدي، وعمر بن «5» عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، والقاسم بن معن المسعودي في قول خليفة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً.

(2/48)


ذكر ولاية إبراهيم بن صالح الأولى على مصر
هو إبراهيم بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي أمير مصر، وليها من قبل ابن عمه المهدىّ على الصلاة والخراج معا؛ وقدم إلى مصر لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة خمس وستين ومائة ونزل المعسكر على عادة أمراء مصر في الدولة العباسية، ثم ابتنى دارا عظيمة بالموقف «1» من المعسكر، وجعل على شرطته عسامة بن عمرو، ودام إبراهيم بمصر إلى أن خرج دحية بن المعصب «2» بن الأصبغ «3» بن عبد العزيز ابن مروان بالصعيد ودعا لنفسه بالخلافة، فتراخى عنه إبراهيم هذا ولم يحفل بأمره حتى استفحل أمر دحية وملك غالب بلاد الصعيد وكاد أمره أن يتم ويفسد بلاد مصر وأمرها؛ فسخط المهدي عليه بسبب ذلك وعزله عزلاً قبيحا فى سابع ذى الحجّة سنة 167 هـ بموسى بن مصعب. فكانت ولاية إبراهيم بن صالح هذه على مصر ثلاث سنين إلا أياماً، وصادره المهدي بعد عزله وأخذ منه ومن عمّاله ثلثمائة وخمسين ألف دينار، ثم رضي عنه بعد ذلك وولاه غير مصر ثم أعاده الرشيد إلى عمل مصر ثانياً في سنة ست وسبعين ومائة. يأتي ذكر ذلك في ولايته الثانية ان شاء الله تعالى.