النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 165]
السنة الأولى من ولاية إبراهيم بن صالح الأولى على مصر وهي سنة خمس
وستين ومائة- فيها كانت غزوة هارون الرشيد ابن الخليفة المهدي السابق
ذكرها
(2/49)
على الأصح. وفيها حج بالناس صالح بن
المنصور. وفيها توفي داود بن نصير أبو «1» سليمان الطائىّ العابد، كان
كبير الشأن في العلم والورع والزهد وسمع الحديث كثيراً وتفقه على أبي
حنيفة رضي الله عنه، وأحد أصحابه الكبار. وفيها توفي حماد بن أبي حنيفة
النعمان بن ثابت الكوفي، كان أحد الأعلام تفقه بأبيه وكان إماماً كثير
الورع فقيهاً صالحاً. وفيها توفي خالد بن برمك والد البرامكة ووالد
يحيى بن خالد وجد جعفر والفضل، وكان جليل القدر خصيصاً عند المنصور
وابنه المهدي وولي الأعمال الجليلة، وكان عاقلاً مدبراً سيوساً.
وذكر الذهبي وفاة جماعة على اختلاف فيهم، قال: وفيها توفي حماد «2» بن
أبي حنيفة وخالد بن برمك والد البرامكة، وخارجة بن عبد الله بن سليمان
بن زيد بن ثابت المدني، وسليمان بن المغيرة البصري، وداود الطائي
الزاهد بخلف- وقول الذهبي بخلف، يعني أنه على اختلاف وقع في وفياتهم
انتهى- وعبد الرحمن بن ثابت ابن ثوبان، ومعروف بن مشكان «3» قارئ مكة،
ووهيب بن خالد بالبصرة، وأبو الأشهب العطاردي بخلف.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة
أربعة عشر ذراعا وإصبع واحد.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 166]
السنة الثانية من ولاية إبراهيم بن صالح الأولى على مصر وهي سنة ست
وستين ومائة- فيها خرج موسى بن المهدي الخليفة إلى جرجان واستقضى أبا
يوسف
(2/50)
يعقوب صاحب أبي حنيفة. وفيها أمر الخليفة
محمد المهدي بإقامة البريد من اليمن «1» إلى مكة ومن مكة إلى بغداد،
ولم يكن البريد قبل ذلك بقطر من الأقطار. وفيها توفي عاصم بن عبد
الحميد الفهري شيخ ابن وهب، كان إماماً فاضلاً رحمه الله. وفيها عزل
المهدي عن قضاء البصرة عبيد الله بن الحسن وولاها خالد بن طليق بن
عمران ابن حصين. وفيها غضب الخليفة المهدي على وزيره يعقوب بن داود بن
طهمان وكان خصيصاً بن فحسده موالي المهدي وسعوا به حتى قبض عليه، وكان
الوزير يعقوب كثير الأنهماك في اللذات، وكان المهدي لا يحب النبيذ لكن
يتفرج على غلمانه وهم يشربون، فلما عظم أمر الوزير يعقوب وصار الحل
والعقد بيده مع انهماكه، قال في ذلك بشار بن برد:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا «2» ... خليفة الله بين الدف والعود
وفيها اضطربت خراسان على المسيب بن زهير فصرفه المهدىّ عن إمرتها
بالفضل ابن سليمان الطوسي وأضاف إليه سجستان. وفيها قدم وضاح الشروي
بعبد الله «3» ابن الوزير أبي عبيد الله يعقوب المقدم ذكره، وكان رمي
بالزندقة فقتله المهدي بحضرة أبيه، وأباد المهدي الزنادقة في هذه السنة
وقتل منهم خلائق.
(2/51)
الذين ذكرهم الذهبي في وفيات هذه السنة.
قال: وفيها توفي خالد بن يزيد المري، وخليد بن دعلج السدوسي، وصدقة بن
عبد الله السمين، وعقبة بن عبد الله الرفاعي الأصم بخلف، وعقبة بن أبي
الصهباء الباهلي البصريان، وعفير بن معدان «1» الحمصي، وعقبة بن نافع
المعافري الإسكندراني في قول؛ والصواب في سنة ثلاث وستين ومائة، وعاصم
بن عبد الحميد الفهري شيخ ابن وهب، ومعقل بن عبيد الله الجزري «2» .
وفي أولها دفنوا أبا الأشهب العطاردي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعاًن سواء، مبلغ الزيادة سبعة
عشر ذراعا وإصبع واحد.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 167]
السنة الثالثة من ولاية إبراهيم بن صالح الأولى على مصر وهي سنة سبع
وستين ومائة- فيها أمر المهدي بالزيادة الكبرى في المسجد الحرام، فدخلت
في ذلك دور كثيرة وولّى البناء يقطين الأمير ومات المهدي ولم يتم
بناؤه. وفيها أظلمت الدنيا ظلمة شديدة لليال بقين من ذي الحجة وأمطرت
السماء رملاً أحمر، ثم وقع عقيبه وباء شديد هلك فيه معظم أهل بغداد
والبصرة. وفيها حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد أمير المدينة، ثم
توفي بعد عوده إلى المدينة بأيام، وتولى المدينة من بعده إسحاق بن عيسى
ابن علي. وفيها عزل المهدي عن ديوان الرسائل أبا عبيد الله الأشعري «3»
الذي كان وزيره
(2/52)
وقبض عليه في الماضية ثم أطلقه وولاه ديوان
الرسائل فعزله في هذه السنة، وولى مكانه الربيع الحاجب، فاستناب الربيع
فيه سعيد بن واقد «1» . وفيها جد المهدي في تتبع الزنادقة والبحث عنهم
في الآفاق وقتل منهم خلائق. وفيها توفي بشار بن برد أبو معاذ العقيلي
بالولاء، الضرير الشاعر المشهور، ولد أعمى جاحظ الحدقتين قد تغشاهما
لحم أحمر. وكان ضخماً عظيم الخلقة والوجه مجدراً طويلا، وكان يرمى
بالزندقة، ويروى عنه أنه كان يفضل النار على الأرض، ويصوب رأي إبليس في
امتناعه من السجود لآدم صلوات الله عليه؛ وفى تفضيل النار يقول:
الأرض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار
ومن شعره في غير هذا:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي «2» فقلت لهم ... الأذن كالعين توفي القلب ما
كانا
وله فى المشورة:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... بحزم نصيح أو فصاحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضةً ... فإن «3» الخوافي قوة للقوادم
وله في التشبيهات قوله:
كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى «4» كواكبه
وفيها توفي عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الأمير
الهاشمي العباسي، وهو ابن أخي السفاح والمنصور، وجعله السفاح ولي عهده
بعد أخيه
(2/53)
المنصور، فلا زال به المنصور في أيام
خلافته حتى جعل المهدي ابنه قبله في ولاية العهد ثم خلعه المهدي من
ولاية العهد بالكلية بعد أمور صدرت؛ وكان عيسى هذا يلقب في أيام ولاية
العهد بالمرتضى، وولي عيسى المذكور أعمالاً جليلة إلى أن توفي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع واحد وأربعة أصابع، مبلغ
الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.
ذكر ولاية موسى بن مصعب على مصر
هو موسى بن مصعب بن الربيع الخثعمي مولى خثعم أصله من أهل الموصل ولاه
المهدي إمرة مصر- بعد عزل إبراهيم بن صالح عنها سنة سبع وستين ومائة-
على الصلاة والخراج؛ وقدم مصر في يوم السبت سابع ذي الحجة من السنة
المذكورة؛ وعند دخوله إلى مصر رد إبراهيم بن صالح معه إلى مصر بعد أن
كان خرج منها، وقال:
أمرني الخليفة بمصادرتك فصادره وأخذ منه ومن عمّاله ثلثمائة ألف دينار،
ثم أمر إبراهيم بالمسير إلى بغداد فسار إليها؛ ولما دخل موسى هذا الى
مصر سكن بالمعسكر.
وجعل على شرطته عسامة بن عمرو، وأخذ موسى في أيام إمرته على مصر يتشدد
على الناس في استخراج الخراج وزاد على كل فدان ضعف ما كان أولا، ولقي
الناس منه شدائد وساءت سيرته وارتشى في الأحكام؛ ثم رتّب دراهم على أهل
الأسهواق وعلى الدواب فكرهه الجند وتشغبوا عليه ونابذوه؛ وثارت قيس
واليمانية وكاتبوا أهل مصر فاتفقوا عليه؛ ثم اشتغل موسى هذا بأمر دحية
الأموي الخارج ببلاد الصعيد المقدم ذكره وجهز إليه جيوشا لقتاله؛ ثم
خرج هو بنفسه في جميع جيوش مصر لقتال قيس واليمانية؛ فلما التقوا انهزم
عنه أهل مصر بأجمعهم وأسلموه فقتل، ولم
(2/54)
يتكلم أحد من أهل مصر لأجله كلمة واحدة؛
وكان قتله لسبع خلون من شوال سنة ثمان وستين ومائة؛ فكانت ولايته على
مصر عشرة أشهر، وولي بعده عسامة بن عمرو، وكان موسى استخلفه بعد خروجه
للقتال. وكان موسى هذا من شر ملوك مصر، كان ظالماً غاشماً، سمعه الليث
بن سعد يقرأ في خطبته: (إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها)
فقال الليث: اللهم لاتقه منها.
ومن غريب الاتفاق: أن موسى بن كعب أمير مصر المقدم ذكره في موضعه لما
عزله أبو جعفر المنصور عن إمرة مصر بمحمد بن الأشعث كتب إليه: إني قد
عزلتك لا لسخط ولكن بلغني أن غلاما يقتل بمصر من أمرائها يقال له موسى
فكرهت أن تكونه، فأخذ موسى كلام المنصور لغرض. وبقي أهل مصر يتذاكرون
ذلك إلى أن قتل موسى هذا بعد ذلك بسبع وعشرين سنة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 168]
السنة التي حكم فيها موسى بن مصعب على مصر وهي سنة ثمان وستين ومائة-
فيها جهز المهدي سعيداً الحرشي لغزو طبرستان في أربعين ألفا. وفيها حج
بالناس علي بن المهدي. وفيها نقضت الروم الصلح بعد «1» فراغه بثلاثة
أشهر، فتوجّه إليهم يزيد بن بدر بن أبي محمد البطال في سرية فغنموا
وظفروا. وفيها مات عمر «2»
(2/55)
الكلواذاني عريف الزنادقة وتولى بعده
حمدويه الميساني. وفيها توفي الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي
طالب، أبو محمد الهاشمي المدني، وأمه أم ولد كان عابداً ثقة، ولي
المدينة لأبي جعفر المنصور خمس سنين، ثم غضب عليه أبو جعفر وعزله
واستصفى أمواله وحبسه، فلم يزل محبوسا حتى مات المنصور فأخرجه المهدي
ورد عليه كل شيء كان أخذ له؛ ولم يزل عند المهدي مقرباً إلى أن مات في
هذه السنة.
وفيها توفي حماد بن سلمة أبو سلمة البصري مولى بني تميم، كان من أهل
البصرة وهو ابن أخت حميد الطويل، كان ثقة عالماً زاهداً صالحاً كبير
الشأن.
الذين ذكر وفاتهم الذهبي على اختلاف في وفاتهم، قال: وتوفى أبو أميّة
[أيوب] ابن خوط «1» البصري، وجعفر الأحمر بخلف، وأبو الغصن «2» ثابت بن
قيس المدني، والأمير الحسن بن زيد بن السيد الحسن سبط النبي صلى الله
عليه وسلم.
قلت وهو الذي ذكرناه في هذه السنة. قال: وتوفي خارجة بن مصعب السرخسي
«3» ، وسعيد بن بشير بدمشق وقيل سنة تسع، وأبو مهدي سعيد بن سنان
الحمصي، وطعمة بن عمرو الجعفري الكوفي، وعبيد الله بن الحسن العنبرىّ
قاضي البصرة، وغوث بن سليمان بمصر، ومحمد بن صالح التمار، وأبو حمزة
السكري في قول، ومفضل بن مهلهل «4» في قول، ونافع بن يزيد الكلاعي بمصر
ويحيى بن أيوب المصري وقيل سنة ثلاث.
(2/56)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم
ذراعان سواء، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً.
ذكر ولاية عسامة بن عمرو على مصر
هو عسامة بن عمرو بن علقمة بن معلوم بن جبريل «1» بن أوس بن دحية
المعافري الأمير أبو داجن أمير مصر (وعسامة بفتح العين المهملة والسين
المهملة مشددة وبعد الألف ميم مفتوحة وهاء ساكنة) وليها باستخلاف موسى
بن مصعب له، فلما قتل موسى أقره المهدي على إمرة مصر عوضه؛ وكان ذلك في
شوال سنة ثمان وستين ومائة، وكان ولى الشّرطة بمصر لعدة من أمراء مصر؛
ولما ولي إمرة مصر افتتح إمرته بحرب دحية الأموي الخارج ببلاد الصعيد
في إمرة موسى، فبعث إليه جيوشا مع أخيه بكار بن عمرو فحارب بكار
المذكور يوسف بن نصير مقدمة جيش دحية المذكور وتطاعنا فوضع يوسف الرمح
في خاصرة بكار ووضع بكار الرمح في خاصرة يوسف فقتلا معاً ورجع الجيشان
منهزمين؛ وكان ذلك في ذي الحجة سنة ثمان وستين ومائة. فلم يقم عسامة
بعد ذلك إلا أياماً يسيرة وورد عليه الخبر من الفضل بن صالح العباسي
أنه ولي مصر وقد استخلف عسامة المذكور على صلاتها حتى يحضر، فخلفه
عسامة على الصلاة حتى حضر الفضل في سلخ المحرم سنة تسع وستين ومائة؛
فكانت ولاية عسامة على مصر ثلاثة أشهر إلا أياما. واستمر عسامة بمصر
بعد ذلك سنين إلى أن استخلفه إبراهيم بن صالح لما ولي مصر قبل أن
يدخلها على الصلاة فخلفه عسامة المذكور أياما يسيرة بها حتى حضر
إبراهيم، ثم أقام عسامة بعد ذلك بمصر إلى أن مات بها يوم الجمعة لست أو
لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين ومائة.
(2/57)
[ما وقع من
الحوادث سنة 169]
السنة التي حكم فيها عسامة وغيره على مصر وهي سنة تسع وستين ومائة-
فيها خرج المهدىّ من بغداد يريد ما سبذان «1» واستخلف الربيع الحاجب
على بغداد، وسبب خروجه أنه رأى تقديم ولده هارون على أخيه موسى وكلاهما
أمه الخيزران، فأرسل المهدي إلى ولده موسى وكلاء وهو بجرجان فامتنع من
المجيء، ثم أرسل إليه ثانياً فلم يأت، فسار إليه المهدي فمات في طريقه.
ذكر وفاة المهدي ونسبه
هو محمد بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن
العباس الهاشمي العباسي أمير المؤمنين، وهو الثالث من خلفاء بني
العباس، بويع بالخلافة بعد وفاة أبيه في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين
ومائة ومولده سنة سبع وعشرين ومائة، وأمه بنت منصور الحميرية، ومات في
المحرم من هذه السنة. وسبب موته قيل؛
إنه ساق في مسيره خلف صيد فاقتحم الصيد خربة فدخلت الكلاب خلفه وتبعهم
المهدي فدق ظهره في باب الخربة مع شدة سوق الفرس فمات من ساعته، وقيل:
بل سمه بعض حواشيه. وقيل: بل أكل أبخاصاً «2» فصاح: جوفي جوفي ومات من
الغد بقرية من قرى ما سبذان، وقيل غير ذلك. فبويع موسى الهادي ولده
بالخلافة، وركب البريد من جرجان إلى بغداد في عشرين يوما ولا يعرف
خليفة ركب البريد سواه. وكان وصول الهادي إلى بغداد في عاشر صفر من سنة
تسع وستين ومائة.
(2/58)
قلت: وينبغي أن نلحق قضية موسى الهادي في
كتاب «الفرج بعد الشدة» فإنه كان أبوه يريد خلعه من ولاية العهد ويقدم
الرشيد عليه فجاءته الخلافة دفعة واحدة.
وفيها توفي الربيع الحاجب، كان من عظماء الدولة العباسية ونالته
السعادة وطالت أيامه وولي حجوبية المنصور والمهدي، وولي نيابة بغداد
وغيرها. وفيها حج بالناس سليمان بن أبي جعفر المنصور. وفيها توفي
إبراهيم بن عثمان أبو شيبة قاضي واسط مولى بني عبس، كان كاتبه يزيد بن
هارون، وكان عادلا في أحكامه حسن السيرة. وفيها توفي إدريس بن عبد الله
بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كان خرج مع الحسين صاحب فخ فلما
قتل الحسين هرب إدريس هذا إلى مصر، وكان على بريد مصر واضح، فحمله واضح
المذكور إلى المغرب فنزل بمدينة وليلة وبايعه الناس والبربر وكاد أمره
أن يتم؛ فدس عليه الهادي أو الرشيد الشماخ اليماني مولى المهدي، فخرج
الشماخ إلى المغرب في صفة طبيب، فشكا إدريس من أسنانه فأعطاه الشماخ
سنوناً «1» مسموماً وقال له: بعد صلاة الفجر استعمله وهرب الشماخ من
يومه، فمات إدريس بعد أن استعمل السنون بيوم. وقد تقدم أيضاً ذكر إدريس
هذا في ولاية واضح على مصر. وفيها قتل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن
بن الحسن بن علي بن أبي طالب، صاحب فخ الذي كان خرج قبل هذه المرة، ثم
ظهر ثانيا في هذه السنة بالمدينة، وكان متولي المدينة عمر بن عبد
العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقاتله عمر المذكور،
وآخر الأمر أن الحسين هذا قتل وقتل معه أصحابه، وكانت عدّة الرءوس التي
حملت إلى الخليفة مائة رأس.
وفيها توفي محمد بن عبد الرحمن بن هشام أبو خالد القاضي المكي، ولي
قضاء مكة
(2/59)
وكان قصيرا دميما، وكان عنقه داخلاً في
بدنه؛ سمعته امرأته يوماً وهو يقول:
اللهم أعتق رقبتي من النار، فقالت: وأي رقبة لك! وقيل: إن أمه قالت له:
يا ولدي، إنك قد خلقت خلقة لا تصلح معها لمعاشرة الفتيان، فعليك
بالدّين والعلم فانّهما يتمّان النقائص، [ويرفعان «1» الخسائس؛ فنفعني
الله بما قالت فتعلمت العلم حتى وليت القضاء] .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وخمسة عشر إصبعا، مبلغ
الزيادة سبعة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً.
ذكر ولاية الفضل بن صالح على مصر
هو الفضل بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس الأمير أبو العباس
الهاشمي العباسي، ولاه المهدي إمرة مصر بعد عزل عسامة بن عمرو على
الصلاة والخراج؛ وقبل خروجه مات محمد المهدي في أول المحرم سنة تسع
وستين ومائة، وولي الخلافة ابنه موسى الهادي فأقر الهادي الفضل هذا على
عمل مصر وسفره، فسار الفضل حتى دخل إلى مصر في يوم الخميس سلخ المحرم
المذكور؛ وكان الفضل استعمل عسامة المعزول عن إمرة مصر على الصلاة إلى
أن حضر، فلما قدم الفضل استعمل عسامة أيضاً على عادته الأولى قبل أن
يلي الإمرة؛ ولما دخل الفضل إلى مصر وجد أمر مصر مضطربا من عصيان أهل
جزيرة الحوف، بالوجه البحري، وأيضاً من خروج دحية الأموي بالصعيد وقد
طال أمره على أمراء مصر، وكان مع الفضل جيوش الشأم فحال قدومه جهز
العساكر لحرب دحية المذكور. فقاتله العسكر وهزموه، وأسر دحية بعد أمور
وحروب، وقدموا به إلى الفسطاط، فضرب
(2/60)
الفضل عنقه وصلب جثته وبعث برأسه إلى
الهادي. وكان قتل دحية المذكور في جمادى الآخرة سنة تسع وستين ومائة،
فكان الفضل يقول: أنا أولى الناس بولاية مصر لقيامي في أمر دحية
وهزيمته وقتله وقد عجز عنه غيري، وكاد أمره أن يتم لطول مدته ولاجتماع
الناس عليه لولا قيامي في أمره، وكان الفضل لما قدم مصر سكن المعسكر و
[بنى «1» ] به الجامع، فلم يكن بعد قتله لدحية بمدة يسيرة إلا وقدم
عليه البريد بعزله عن إمرة مصر بعلي بن سليمان؛ فلما سمع الفضل خبر
عزله ندم على قتل دحية ندماً عظيماً فلم يفده ذلك. وكان عزل الفضل عن
إمرة مصر في أواخر سنة تسع وستين ومائة المذكورة؛ فكانت ولايته على مصر
دون السنة.
وقد ولي الفضل هذا إمرة دمشق مدة. ولا أعلم ولايته على دمشق قبل ولايته
على مصر أو بعدها. وهو الذي عمر أبواب جامع دمشق والقبة التي في الصحن
وتعرف بقبة المال في أيام إمرته على دمشق. وكانت وفاة الفضل هذا في سنة
اثنتين وسبعين ومائة وهو ابن خمسين سنة، وكان أميراً شجاعاً مقداماً
شاعراً فصيحاً أديباً صاحب خطب وشعر، من ذلك قوله:
عاش الهوى واستشهد الصبر ... وعاث في الحزن والضر
وسهل التوديع يوم نوى ... ما كان قد وعّره الهجر
ذكر ولاية علي بن سليمان على مصر
هو علي بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، الأمير أبو الحسن
الهاشمي العباسي، ولي إمرة مصر بعد عزل الفضل بن صالح عنها؛ ولاه موسى
الهادي على إمرة مصر وجمع له الصلاة والخراج معاً، ودخل علي بن سليمان
هذا إلى مصر
(2/61)
في شوال سنة تسع وستين ومائة وسكن المعسكر،
وجعل على شرطته عبد الرحمن ابن موسى اللخمي ثم عزله وولى الحسن بن يزيد
الكندي. ولما قدم علي المذكور إلى مصر أقام مدة يسيرة وورد عليه الخبر
بموت موسى الهادي في نصف شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وولاية هارون
الرشيد الخلافة من بعده وأن الرشيد أخاه أقر علياً على عمل مصر على
عادته؛ وكان علي بن سليمان المذكور عادلاً وفيه رفق بالرعية آمراً
بالمعروف ناهياً عن المنكر، ومنع في أيامه الملاهي والخمور، وهدم
الكنائس بمصر وأعمالها، فتكلم القبط معه في تركها وأن يجعلوا له في
مقابلة ذلك خمسين ألف دينار، فامتنع من ذلك وهدم الكنائس؛ وكان كثير
الصدقة في الليل فمالت الناس إليه، فلما رأى ميل الناس إليه أظهر ما في
نفسه من أنه يصلح للخلافة، وطمع في ذلك وحدثته نفسه بالوثوب، فكتب بعض
أهل مصر إلى هارون الرشيد وعرفه بذلك، فسخط عليه هارون وعاجله بعزله؛
فعزله عن إمرة مصر في يوم الجمعة لأربع بقين من شهر ربيع الأول سنة
إحدى وسبعين ومائة؛ وولى مصر بعده موسى بن عيسى. فكانت ولاية علي بن
سليمان هذا على مصر نحو سنة وثلاثة أشهر، وقيل أكثر من ذلك. وتوجه علي
بن سليمان إلى الرشيد فندبه لقتال يحيى بن عبد الله بالديلم وصحبته
الفضل بن يحيى البرمكي- ويحيى بن عبد الله هو يحيى بن عبد الله بن
الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم- كان خرج بالديلم
واشتدت شوكته وكثرت جموعه وأتاه الناس من الأمصار، فاغتمّ الرشيد لذلك،
وندب إليه علي بن سليمان هذا بعد عزله وجعل أمر الجيش للفضل بن يحيى،
وولاه جرجان وطبرستان والري وغيرها وسيرهما في خمسين ألفاً، وحمل معهما
الأموال؛ فكاتبا يحيى بن عبد الله وتلطفا به وحذراه المخالفة وأشارا
(2/62)
عليه بالطاعة؛ ونزل الفضل بن يحيى
بالطالقان بمكان يقال له: آشب «1» ؛ ووالى كتبه إلى يحيى بن عبد الله
العلوي المذكور، حتى أجاب يحيى إلى الصلح على أن يكتب له الرشيد أمانا
بخطه يشهد عليه فيه القضاة والفقهاء وجلة بني العباس ومشايخهم، منهم
عبد الصمد بن علي؛ فأجاب الرشيد إلى ذلك وسرّبه وعظمت منزلة الفضل
عنده، وسير الرشيد الأمان إلى يحيى بن عبد الله مع هدايا وتحف فقدم
يحيى مع الفضل وعلي بن سليمان إلى بغداد، فلقيه الرشيد بما أحب وأمر له
بمال كثير، ثم بعد مدة قبض عليه وحبسه حتى مات في الحبس؛ وكان الرشيد
قد عرض كتاب أمان يحيى بن عبد الله المذكور على الإمام محمد بن الحسن
صاحب أبي حنيفة وعلى أبي البختري «2» القاضي؛ فقال محمد بن الحسن:
الأمان صحيح، فحاجه الرشيد وأغلظ له فلم يرجع حتى حنق منه الرشيد وكاد
يسطو عليه. وقال أبو البختري: هذا أمان منتقض من وجه كذا، فمزقه
الرشيد. واستمر علي بن سليمان معظماً إلى أن مات.
وتوفي بعد عزله عن مصر في سنة اثنتين وسبعين ومائة قاله الذهبي وقيل:
سنة ثمان وسبعين ومائة.
[ما وقع من الحوادث سنة 170]
السنة التي حكم فيها علي بن سليمان على مصر وهي سنة سبعين ومائة- فيها
توفي الخليفة موسى الهادي ابن الخليفة محمد المهدي ابن الخليفة أبي
جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس العباسي
الهاشمي، أمير المؤمنين أبو جعفر وقيل أبو محمد، وقيل أبو موسى، الرابع
من خلفاء بني العباس ببغداد، ولد سنة خمس
(2/63)
وأربعين ومائة، وقيل سنة ست وأربعين ومائة،
وقيل سنة ثمان وأربعين ومائة؛ وأمه أم ولد تسمى الخيزران، وهي أم
الرشيد أيضا؛ وكان موته من قرحة أصابته، وقيل: إن أمه الخيزران سمته
لما أجمع على قتل أخيه هارون الرشيد، وكانت الخيزران مستبدة بالأمور
الكبار حاكمة، وكانت المواكب تغدو إلى بابها فزجرهم الهادي ونهاهم عن
ذلك وكلمها بكلام فج، وقال لها: متى وقف ببابك أمير ضربت عنقه، أما لك
مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك، أو سبحة! فقامت الخيزران وهي ما تعقل من
الغضب، وقيل: إنه بعث إليها بسم أو طعام مسموم فأطعمت الخيزران منه
كلباً فمات من وقته فعملت على قتله حتى قتلته: وقيل في وفاته غير ذلك،
وكانت وفاته في نصف شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، فكانت خلافته
سنة واحدة وثلاثة أشهر وقيل سنة وشهراً، وبويع أخوه هارون الرشيد
بالخلافة. وكان الهادي طويلاً جسيماً أبيض، بشفته العليا تقلص، وكان
أبوه قد وكل به في صغره خادماً، فكلما رآه مفتوح الفم قال: موسى أطبق،
فيضيق على نفسه ويضم شفته.
حكى مصعب الزبيري عن أبيه قال: دخل مروان بن أبي حفصة شاعر وقته على
الهادي فأنشد قصيدة فيها:
تشابه يوما بأسه ونواله ... فما أحد يدري لأيهما الفضل
فقال له الهادي: أيما أحب إليك، ثلاثون ألفاً معجلة أو مائة ألف درهم
تدون في الدواوين؟ قال: تعجل الثلاثون، وتدون المائة ألف؛ قال: بل
تعجلان لك. وفيها ولد للرشيد ابنه الأمين محمد من بنت عمه زبيدة وابنه
المأمون عبد الله وأمه أم ولد- يأتي ذكرها في ترجمته-، وفيها عزل
الرشيد عمر بن عبد العزيز [العمرىّ]
(2/64)
عن إمرة المدينة وولاها لإسحاق بن سليمان
بن علي العباسي. وفيها فوض الرشيد أمور الخلافة إلى يحيى بن خالد بن
برمك وقال له: قد قلدتك أمور الرعية وأخرجتها من عنقي فول من رأيت
وافعل ما تراه، وسلم إليه خاتم الخلافة وكان الهادي قد حجر على أمه
الخيزران فردها الرشيد إلى ما كانت عليه وزادها، فكان يحيى بن خالد
يشاورها في الأمور. وفيها فرق الرشيد في أعمامه وأهله أموالاً لم
يفرقها أحد من الخلفاء قبله. وفيها خرج من الطالبيين إبراهيم بن
إسماعيل ويقال له طباطبا؛ وخرج أيضاً على الرشيد علي بن الحسن بن
إبراهيم بن عبد الله بن الحسن. وفيها حج الرشيد ماشيا كان يمشي على
اللبود، كانت تبسط له من منزلة إلى منزلة؛ وسبب حجه ماشياً أنه رأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: يا هارون، إن هذا
الأمر صائر إليك فحج ماشياً، واغز «1» ووسع على أهل الحرمين. فأنفق
فيهم الرشيد أموالاً عظيمة ولم يحج خليفة قبله ولا بعده ماشياً رحمه
الله، ولقد كان من أحاسن «2» الخلفاء. وفيها توفيت جوهرة العابدة «3»
الزاهدة زوجة أبي عبد الله البراثي الزاهد، كان زوجها أبو عبد الله
منقطعا بقرية براثى غربي بغداد. وفيها توفى فتح بن محمد ابن وشاح أبو
محمد الأزدي الموصلي الزاهد العابد، كان صاحب كرامات وأحوال.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وتوفي إسحاق بن سعيد بن
عمرو الأموي، وعبد الله بن جعفر المخرمي المدني، وجرير بن حازم
البصرىّ، والربيع ابن يونس الحاجب، وسعيد بن حسين الأزدي، وعبد الله بن
المسيب أبو السوار المدني- بمصر يروي عن عكرمة-، وعبد الله بن المؤمل
المخزومي، وعبد الله
(2/65)
ابن الخليفة مروان الأموي في السجن، وعمرو
بن ثابت الكوفي. وفي «التذهيب» قال: مات سنة اثنتين وسبعين ومائة.
وغطريف بن عطاء متولي اليمن، ومحمد بن أبان بن صالح الجعفي «1» ، ومحمد
بن الزبير المعيطي إمام مسجد حران، ومحمد بن مسلم، أبو سعيد المؤدب
بخلف، ومحمد بن مهاجر الأنصاري الحمصي، ومهدي بن ميمون في قول، وموسى
الهادي بن المهدي الخليفة، وأبو معشر نجيح السندي المدني، ويزيد بن
حاتم الأزدي متولي إفريقية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ
الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع.
ذكر ولاية موسى بن عيسى الأولى على مصر
هو موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، الأمير
أبو عيسى العباسي الهاشمي، «2» ولاه الخليفة هارون الرشيد إمرة مصر على
الصلاة بعد عزل علي بن سليمان عنها؛ فقدم موسى إلى مصر في أحد الربيعين
من سنة إحدى وسبعين ومائة وسكن بالمعسكر، وجعل على شرطته أخاه إسماعيل
ثم عزله وولى عسامة بن عمرو، ثم وقع من موسى هذا أمور غير مقبولة،
منها: أنه أذن للنصارى في بنيان الكنائس التي كان هدمها علي بن سليمان
فبنيت بمشورة الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة، وقالا: هى عمارة
البلاد، واحتجا بأن الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمان
الصحابة والتابعين. وهذا كلام يتأول. وكان موسى المذكور عاقلاً جواداً
ممدحاً ولي الحرمين لأبي جعفر المنصور والمهدي مدة طويلة، ثم ولي اليمن
للمهدي أيضا، ثم ولي مصر لهارون الرشيد، وكان فيه رفق بالرعية
(2/66)
وتواضع؛ قيل: إنه دخل اليه ابن السمّاك
الواعظ وذكره ثم وعظه حتى بكى بكاء شديداً، فقال ابن السماك: لتواضعك
في شرفك أحب إلينا من شرفك؛ وقيل: إنه جلس يوماً بميدان مصر فأطال
النظر في النيل ونواحيه، فقيل له: ما يرى الأمير؟
فقال «1» : أرى ميدان رهان، وجنان نخل، وبستان شجر، ومنازل سكنى، ودور
خيل «2» وجبان أموات، ونهراً عجاجاً، وأرض زرع، ومرعى ماشية، ومرتع
خيل، ومصايد بحر، وقانص «3» وحش، وملاح سفينة، وحادي إبل، ومفازة رمل،
وسهلاً وجبلاً في أقل من ميل في ميل.
قلت: لله دره فيما وصف من كلام كثرت معانيه وقل لفظه. واستمر موسى بعد
ذلك على إمرة مصر إلى أن عزله الرشيد عنها بمسلمة بن يحيى لأربع عشرة
خلت من شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين ومائة. فكانت ولايته على مصر سنة
واحدة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوماً. وتوجه إلى الرشيد فلما قدم عليه
ولاه الكوفة مدة ثم صرفه عن الكوفة وولاه دمشق، فأقام بها مدة أيضاً
وصرف عنها وأعيد إلى إمرة مصر ثانياً كما سيأتي ذكره إن شاء الله
تعالى- لما «4» كانت الفتنة بدمشق بين المضرية «5» واليمانية، وهذه
الفتنة هي سبب العداوة بين قيس وبين اليمن إلى يومنا هذا. وكان أول
الفتنة بين المضرية واليمانية. وكان رأس المضرية أبا الهيذام «6»
(2/67)
واسمه عامر بن عمارة المري أحد فرسان
العرب. وكان سبب الفتنة أموراً: منها أن أحد غلمان الرشيد بسجستان قتل
أخاً لأبي الهيذام، فرثى أبو الهيذام أخاه وجمع جمعاً وخرج إلى الشام،
فاحتال عليه الرشيد بأخ له وأرغبه «1» حتى قبض عليه وكتفه، وأتى به إلى
الرشيد فمن عليه وأطلقه؛ وقيل: إن أول ما هاجت الفتنة بالشام، أن رجلاً
من القين خرج بطعام له يطحنه في الرحى بالبلقاء فمر بحائط رجل من لخم
أو جذام وفيه بطيخ فتناول منه، فشتمه صاحبه وتضاربا، وسار القينىّ،
فجمع صاحب البطيخ قوماً ليضربوه إذا عاد من اليمن، فلما عاد ضربوه،
فقتل رجل من اليمانية فطلبوا بدمه واجتمعوا لذلك، فخاف الناس أن يتفاقم
ذلك؛ فاجتمع الناس ليصلحوا بينهم فأتوا بني القين فكلموهم فأجابوهم،
فأتوا اليمانية فقالوا: انصرفوا عنا حتى ننظر في أمرنا؛ ثم ساروا
وبيتوا للقين فقتلوا منهم ستمائة وقيل ثلثمائة، فاستنجدت القين قضاعة
وسليحاً «2» فلم ينجدوهم، فاسنجدت قيسا فأجابوهم، وساروا معهم فقتلوا
من اليمانية ثمانمائة؛ وكثر القتال بينهم والتقوا غير مرة نحو سنتين ثم
آصطلحوا ثم تقاتلوا؛ وتعصب لكل طائفة آخرون ودام ذلك إلى يومنا هذا
بسائر بلاد الشام «3» .
*** [ما وقع من الحوادث سنة 171]
السنة الأولى من ولاية موسى بن عيسى الأولى على مصر وهي سنة إحدى
وسبعين ومائة- فيها أخرج الرشيد من كان ببغداد من العلويين إلى
المدينة.
وفيها في شهر رمضان حجت الخيزران أم الرشيد وكان أمير الموسم عبد الصمد
بن علي العباسي، وأقامت بمكة شهراً وتصدقت بأموال كثيرة. وفيها توفي
اسماعيل بن
(2/68)
محمد بن زيد «1» بن ربيعة، أبو هاشم ويلقب
بالسيد الحميري؛ كان شاعراً مجيداً وله ديوان شعر. وفيها توفي عيسى بن
يزيد بن بكر بن دأب أبو الوليد التيمي «2» المدني، كان راوية العرب
وافر الأدب عالماً بالنسب، أعطاه الخليفة موسى الهادي مرة ثلاثين ألف
دينار. وفيها توفي المفضل «3» بن محمد بن يعلى الضبي، كان أحد الأئمة
الفضلاء الثقات، وكان علامة في النسب وأيام العرب. قال جحظة: اجتمعنا
عند الرشيد فقال للمفضل: أخبرني بأحسن ما قالت العرب في الذئب ولك هذا
الخاتم وشراؤه ألف وستمائة دينار، فقال: أحسن ما قيل فيه:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
فقال الرشيد: ما ألقى الله هذا على لسانك إلا لذهاب الخاتم ورمى به
إليه؛ فبلغ زبيدة فبعثت إلى المفضل بألف وستمائة دينار وأخذت الخاتم
منه وبعثت به إلى الرشيد، وقالت: كنت أراك تعجب به؛ فألقاه إلى المفضل
ثانياً وقال له: خذه وخذ الدنانير ما كنت لأهب شيئاً وأرجع فيه.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم على اختلاف في وفاتهم، قال: وفيها توفي
إبراهيم بن سويد المدنىّ «4» ، وحبّان «5» بن علي بخلف، وحديج بن
معاوية فيها أو بعدها، وأبو المنذر سلام القارئ، وعبد الله بن عمر
العمري المديني، وعبد الرحمن بن الغسيل وله مائة
(2/69)
وست سنين، وعدي بن الفضل البصري، وعمر بن
ميمون بن الرمّاح، ومهدىّ ابن ميمون البصري بخلف، ويزيد بن حاتم
المهلبي، في قول، وأبو الشهاب الحناط «1» عبد ربه بن نافع فيها أو فى
الآتية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعاً،
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 172]
السنة الثانية من ولاية موسى بن عيسى الأولى على مصر وهي سنة اثنتين
وسبعين ومائة- فيها حج بالناس يعقوب بن المنصور. وفيها عزل الرشيد عن
أرمينية يزيد بن مزيد الشيباني وولى أخاه عبيد الله بن المهدي. وفيها
زوج الرشيد أخته العباسة بنت المهدي بمحمد بن سليمان العباسي الهاشمي
أمير البصرة.
وفيها توفي عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن
الحكم، أبو المطرف الأموي المعروف بالداخل؛ مولده بدير حنين من عمل
دمشق في سنة ثلاث عشرة ومائة ونشأ بالشام، فلما زال ملك بني أمية
وقتلوا وتفرقوا فر عبد الرحمن هذا إلى المغرب بحواشيه وملك جزيرة
الأندلس وتم أمره بها غير أنه لم يلقب بأمير المؤمنين، وقيل: إنه لقب
به، والأول أصح لأن جماعة كثيرة ملكوا الأندلس من ذريته وليس فيهم من
لقب بأمير المؤمنين، يأتي ذكرهم الجميع في هذا الكتاب إن شاء الله
تعالى؛ وولادة بنت المستكفي صاحبة ابن زيدون الشاعر هي من ذريته أيضاً.
(2/70)
الذين ذكرهم الذهبي في الوفيات، قال: وفيها
توفي الحسن بن عياش أخو أبي بكر بن عياش بالكوفة، وروح بن مسافر
البصري، وسليمان بن بلال، وصالح المري بخلف، وصاحب الأندلس عبد الرحمن
الداخل الأموي، وابن عم المنصور علي بن سليمان بن علي، وابن عمه الآخر
الفضل بن صالح بن علي، والوليد بن أبي ثور، والوليد بن المغيرة المصري
«1» ، ويحيى بن سلمة «2» بن كهيل بخلف.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع، مبلغ
الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبعان ونصف.
ذكر ولاية مسلمة بن يحيى على مصر
هو مسلمة بن يحيى بن قرة بن عبيد الله بن عتبة البجلي الخراساني أمير
مصر، أصله من أهل خراسان وقيل من جرجان وخدم بني العباس وكان من أكابر
القواد؛ ولاه هارون الرشيد على إمرة مصر على الصلاة والخراج معاً بعد
عزل موسى بن عيسى العباسي في سنة اثنتين وسبعين ومائة، وقدم إلى مصر في
شهر رمضان من السنة المذكورة في عشرة آلاف من الجند، وسكن المعسكر على
عادة أمراء بني العباس؛ وجعل على الشرطة ابنه عبد الرحمن، فلم تطل مدته
على مصر ووقع في ولايته على مصر أمور وفتن حتى عزله الخليفة هارون
الرشيد في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائة بمحمد بن زهير الأزدي؛ فكانت
ولايته على إمرة مصر أحد عشر شهراً، وكانت أيامه مع قصرها كثيرة الفتن؛
ووقع له أمور مع أهل الحوف ثم أخرج العساكر لحفظ البحيرة من الفتن التي
كانت بالمغرب: منها خروج سعيد بن الحسين بن
(2/71)
يحيى الأنصاري بالأندلس وتغلبه على أقاليم
طرطوشة «1» في شرق الأندلس، وكان قد التجأ إليها حين قتل أبوه الحسين
ودعا إلى اليمانية وتعصب لهم، فاجتمع له خلق كثير وملك مدينة طرطوشة
وأخرج عاملها يوسف القيسي «2» فعارضه موسى بن فرتون «3» وقام بدعوة
هشام الأموي ووافقته جماعة؛ وخرج أيضاً مطروح بن سليمان بن يقظان
بمدينة برشلونة وخرج معه جمع كبير، فملك مدينة سرقسطة ومدينة وشقة
وتغلب على تلك الناحية وقوي أمره. وكان هشام مشغولاً بمحاربة أخويه
سليمان وعبد الله، ولم تزل الحرب قائمة بالغرب، وأمير مصر يتخوف من
هجوم بعضهم إلى أن عزل مسلمة عن مصر.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 173]
السنة التي حكم فيها مسلمة بن يحيى على مصر وهي سنة ثلاث وسبعين ومائة-
فيها عزل الرشيد عن إمرة خراسان جعفر بن محمد بن الأشعث وولى عوضه ولده
العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث. وفيها حج الرشيد بالناس ولما عاد
أخذ معه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
وحبسه إلى أن مات. وفيها توفيت الخيزران جارية المهدي وأم ولديه موسى
الهادي وهارون الرشيد، كان اشتراها المهدي وأعتقها وتزوجها، ذكرنا ذلك
في وقته من هذا الكتاب في محله، وكانت عاقلة لبيبة دينة؛ كان دخلها في
السنة ستة آلاف وستين ألف ألف درهم، فكانت تنفقها في الصدقات وأبواب
البر، وماتت ليلة الجمعة
(2/72)
لثلاث بقين من جمادى الآخرة، ومشى ابنها
الرشيد في جنازتها وعليه طيلسان أزرق وقد شد وسطه وأخذ بقائمة التابوت
حافياً يخوض في الطين والوحل من المطر الذي كان في ذلك اليوم حتى أتى
مقابر قريش فغسل رجليه وصلى عليها ودخل قبرها ثم خرج وتمثل بقول متمم
[بن نويرة] الأبيات المشهورة، التى أوّلها:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ثم تصدق عنها بمال عظيم ولم يغير على جواريها وحواشيها شيئاً مما كان
لهم.
وفيها توفيت غادر جارية الهادي وكانت بارعة الجمال، وكان الهادي
مشغوفاً بحبها فبينما هي تغنيه يوما فّكر وتغيّر لونه وقال: وقع في
نفسي أني أموت ويتزوجها أخي هارون من بعدي، فأحضر هارون واستحلفه
بالأيمان المغلظة من الحج ماشياً وغيره [أنه لا يتزوجها «1» ] ، ثم
استحلفها أيضاً كذلك، ومكث الهادي بعد ذلك أقل من شهر ومات وتخلف هارون
الرشيد فأرسل هارون الرشيد خطبها «2» ، فقالت له: وكيف يميني ويمينك؟
فقال: أكفر عن الكلّ، فتزوجته فزاد حب الرشيد لها على حب الهادي أخيه
حتى إنها كانت تنام فتضع رأسها على حجره فلا يتحرك حتى تنتبه؛ فبينما
هي ذات يوم نائمة [ورأسها «3» ] على ركبته انتبهت فزعة تبكي وقالت:
رأيت الساعة أخاك الهادي وهو يقول وأنشدت أبياتاً منها:
ونكحت عامدة أخي ... صدق الذي سماك غادر
فلم تزل تبكي وتضطرب حتى ماتت وتنغص عليه عيشه بموتها. وقيل: إن الرشيد
ما حج ماشياً إلا بسبب اليمين التي كانت حلفه [إياها] أخوه الهادي
بسببها. وفيها توفي محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، كان
من وجوه بني العباس وتولّى
(2/73)
الأعمال الجليلة، وهو الذي تزوج العباسة
بنت المهدي أخت هارون الرشيد، وكان له خمسون ألف عبد، منهم عشرون ألفاً
عتقاً. قاله أبو المظفر في مرآة الزمان.
ذكر الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي اسماعيل
ابن زكرياء الخلقاني، وجويرية بن أسماء الضبعي، وأم الرشيد الخيزران،
وسعيد ابن عبد الله المعافري، وسلام بن أبي مطيع، والسيد الحميري
الشاعر، وزهير ابن معاوية بن كامل اللخمي المصري، وعبد الرحمن بن أبي
الموالي مولى بني هاشم، والأمير محمد بن سليمان بن علي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع، مبلغ
الزيادة خمسة عشر ذراعاً وثلاثة أصابع.
ذكر ولاية محمد بن زهير على مصر
هو محمد بن زهير الأزدي أمير مصر ولاه هارون الرشيد على إمرة مصر وجمع
له بين الصلاة والخراج معاً، وذلك بعد عزل مسلمة بن يحيى لخمس خلون من
شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائة، وسكن المعسكر على عادة أمراء بني العباس
واستعمل على خراج مصر عمر بن غيلان وعلى الشرطة حنك «1» بن العلاء ثم
صرفه وولّى حبيب ابن أبان البجلي؛ ولما ولي عمر بن غيلان خراج مصر شدد
على الناس وعلى أهل الخراج، فنفرت القلوب منه وثار عليه الجند وقاتلوه
وحصروه في داره فلم يدافع عنه محمد بن زهير صاحب الترجمة، فانحطّ قدر
عمر بن غيلان وتلاشى أمره مع الجند وغيرهم؛ وبلغ الخليفة هارون الرشيد
ذلك فعظم عليه عدم قيام محمد بن زهير بنصرة عمر بن غيلان المذكور فعزله
عن إمرة مصر بداود بن يزيد بن حاتم المهلبي فى سلخ
(2/74)
ذى الحجّة من سنة ثلاث وسبعين ومائة؛ فكانت
ولاية محمد بن زهير على إمرة مصر خمسة أشهر تنقص أياماً، وتوجه إلى
الرشيد فزجره ثم جعله من جملة القواد وندبه للاستيلاء على مال محمد بن
سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بالبصرة بعد موته، وكانت تركة
محمد بن سليمان عظيمة: من المال والمتاع والدواب، فحملوا منها ما يصلح
للخلافة وتركوا ما لا يصلح؛ وكان من جملة ما أخذوا له ستون ألف ألف
درهم؛ فلما قدموا بذلك على الرشيد أطلق منه للندماء والمغنين شيئاً
كثيراً ورفع الباقي إلى خزانته.
وكان سبب أخذ الرشيد تركته أن أخاه جعفر بن سليمان كان يسعى به إلى
الرشيد حسداً له ويقول: إنه لا مال له ولا ضيعة إلا وقد أخذ أكثر من
ثمنها ليتقوى به على ما تحدثه به نفسه- يعني الخلافة- وأن أمواله حل
طلق «1» لأمير المؤمنين. وكان الرشيد يأمر بالاحتفاظ بكتبه، فلما توفي
محمد بن سليمان أخرجت الكتب الواردة من جعفر أخيه واحتج الرشيد عليه
بها في أخذ أمواله ولم يكن له أخ لأبيه وأمه غيره، فأقر جعفر بالكتب،
فأخذ الرشيد جميع المال ولم يعط جعفراً منها الدرهم الواحد.
قلت: انظر إلى شؤم الحسد وسوء عاقبته، ولله در القائل: الحاسد ظالم في
صفة مظلوم، مبتلى غير مرحوم. ودام محمد بن زهير عند الرشيد إلى أن كان
ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ولاية داود بن يزيد على مصر
هو داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة المهلبي أمير
مصر، ولاه الخليفة هارون الرشيد على إمرة مصر على الصلاة بعد عزل محمد
بن زهير الأزدي، فقدم مصر لأربع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة أربع
وسبعين ومائة،
(2/75)
وقدم معه إبراهيم بن صالح بن علي العباسىّ
على الخراج؛ فدخلا مصر معا وسكن داود المعسكر على العادة وجعل على
شرطته عمّار بن مسلم الطائي، ثم أخذ داود في إصلاح أمر مصر وأخرج الجند
الذين كانوا ثاروا على عمر بن غيلان صاحب خراج مصر في أيام محمد بن
زهير المعزول عن إمرة مصر إلى بلاد المغرب، وأخرج بعضهم أيضاً إلى بلاد
المشرق وكانوا عدة كبيرة. ثم ورد عليه الأمر من الرشيد أن يأخذ
المصريين ببيعة ابنه الأمير محمد بن زبيدة ففعل ذلك. وكان الرشيد عقد
لابنه محمد المذكور بولاية العهد ولقبه بالأمين وأخذ له البيعة من
الناس وعمره خمس سنين وكتب بذلك إلى الأقطار. وكان سبب البيعة للأمين
أن خاله عيسى بن جعفر بن المنصور جاء إلى الفضل بن يحيى بن خالد بن
برمك وسأله في ذلك وقال له:
إنه ولدك وخلافته لك، وإن أختي زبيدة تسألك في ذلك، فوعده الفضل بذلك
وسعى فيه عند الرشيد حتى بايع له الناس بولاية العهد وترك ولده المأمون
وهو أسن من ولده محمد الأمين بشهر، ثم بعد ذلك عهد الرشيد للمأمون
بولاية العهد بعد الأمين على ما سيأتي ذكره.
وأما جند مصر الذين أخرجوا من مصر فإنهم ساروا إلى المغرب في البحر
فأسرهم الفرنج بعد حروب، وسكن الحال بديار مصر وأمن الناس، واستمر داود
على إمرة مصر إلى أن صرفه الرشيد عنها بعيسى بن موسى بن عيسى العباسي
المعزول عن إمرة مصر قديماً، وذلك لست خلون من المحرم سنة خمس وسبعين
ومائة، فكانت ولايته على مصر سنة واحدة ونصف شهر.
وأما أمر الجند الذين أسرهم الفرنج فإن داود بن يزيد المذكور جهزهم
نجدة إلى هشام بن عبد الرحمن الأموي فيما قيل، وسببه أن هشام بن عبد
الرحمن صاحب الأندلس لما فرغ من حرب أخويه سليمان وعبد الله وأجلاهما
عن الأندلس وخلا
(2/76)
سره منهما انتدب لمطروح بن سليمان بن يقظان
الذي كان خرج عليه وسير إليه جيشاً كثيفاً وجعل عليهم أبا عثمان عبيد
الله بن عثمان، فساروا إلى مطروح، وهو بسرقسطة، فحصروه بها فلم يظفروا
به، فرجع أبو عثمان ونزل بحصن طرطوشة بالقرب من سرقسطة وبث سراياه على
أهل سرقسطة، ثم إن مطروحاً خرج في بعض الأيام يتصيد وأرسل البازي على
طائر فاقتنصه، فنزل مطروح ليذبحه ومعه صاحبان له قد انفرد بهما فقتلاه
وأتيا برأسه إلى أبي عثمان فأرسله أبو عثمان الى هشام.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 174]
السنة التي حكم فيها داود بن يزيد على مصر وهي سنة أربع وسبعين ومائة-
فيها حج بالناس هارون الرشيد على طريق البصرة ودخل البصرة ووسع في
جامعها من ناحية القبلة. وفيها وقعت العصبية وثارت الفتن بين أهل السنة
والرافضة. وفيها ولى الرشيد إسحاق بن سليمان العباسي إمرة السند
ومكران. وفيها استقضى الرشيد يوسف ابن القاضي أبي يوسف يعقوب صاحب أبي
حنيفة في حياة والده. وفيها توفي روح بن حاتم بن؟؟؟ صة بن المهلب بن
أبي صفرة المهلبي الأمير، كان هو وأخوه من وجوه دولة بني العباس. ولي
روح هذا إفريقية والبصرة وغيرهما، وكان جليلاً شجاعاً جواداً. وفيها
توفي عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان الإمام الحافظ عالم الديار
المصرية وقاضيها ومحدثها أبو عبد الرحمن الحضرمىّ المصري، مولده سنة
سبع وتسعين وقيل سنة ست وتسعين؛ ومات في يوم الأحد نصف شهر ربيع الأول
من السنة وصلى عليه الأمير داود بن يزيد ودفن بالقرافة من جبّانة مصر
وقبره معروف بها يقصد للزيارة. قال الذهبي: وكان ابن لهيعة من الكتابين
للحديث والجماعين للعلم والرحالين فيه، ولقد حدثني شكر «1» أخبرنا يوسف
بن مسلم عن بشر بن المنذر
(2/77)
قال: كان ابن لهيعة يكنى أبا خريطة، وذاك
أنه كانت له خريطة معلقة في عنقه فكان يدور بمصر، فكلّما قدم قوم كان
يدور عليهم، فكان إذا رأى شيخا سأله: من لقيت وعمن كتبت. وفيها توفي
منصور مولى عيسى بن جعفر بن منصور، وكان منصور هذا يلقب بزلزل، وكان
مغنياً يضرب بغنائه وضربه بالعود المثل، وكان الغناء يوم ذاك غير
الموسيقى الآن، وإنما كانت زخمات عددية وأصوات مركبة في أنغام معروفة،
وهو نوع من إنشاد زماننا هذا على الضروب لإنشاد المداح والوعاظ. وقد
أوضحنا ذلك في غير هذا المحل في مصنف على حدته وبينا فيه الفرق بينه
وبين الموسيقى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ
الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية أصابع ونصف.
ذكر ولاية موسى بن عيسى الثانية على مصر
هو موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي
العباسي، ولي إمرة مصر ثانية من قبل الرشيد بعد عزل داود بن يزيد
المهلبي وجمع له صلاة مصر وخراجها، فكتب موسى المذكور من بغداد إلى
الأمير عسامة بن عمرو يستخلفه على الصلاة، ثم قدم خليفته على الحراج
نصر بن كلثوم ثم قدم موسى إلى مصر في سابع صفر سنة خمس وسبعين ومائة
وسكن بالمعسكر على العادة، وحدثته نفسه بالخروج على الرشيد فبلغ الرشيد
ذلك.
قال أبو المظفر بن قزأوغلي في تاريخه «مرآة الزمان» : وبلغ الرشيد أن
موسى ابن عيسى يريد الخروج عليه فقال: والله لا عزلته إلا بأخس من على
بابي؛ فقال لجعفر بن يحيى: ول مصر أحقر من على بابي وأخسهم، فنظر فإذا
عمر بن مهران كاتب الخيزران وكان مشوه الخلقة ويلبس ثياباً خشنة ويركب
بغلاً ويردف غلامه خلفه، فخرج إليه جعفر وقال: أتتولى مصر؛ فقال: نعم،
فسار إليها فدخلها
(2/78)
وخلفه غلام على بغل للثقل «1» ، فقصد دار
موسى بن عيسى فجلس في أخريات الناس، فلما انفض المجلس قال موسى: ألك
حاجة؟ فرمى إليه بالكتاب، فلما قرأه قال: لعن الله فرعون حيث قال:
(أليس لي ملك مصر) ! الآية، ثم سلم إليه ملك مصر فمهدها عمر المذكور
ورجع إلى بغداد وهو على حاله. انتهى كلام أبي المظفر.
قلت: لم يذكر عمر بن «2» مهران أحد من المؤرخين في أمراء مصر، والجمهور
على أن موسى بن عيسى عزل بابراهيم بن صالح العباسي، ولعل الرشيد لم
يرسل عمر هذا إلا لنكاية موسى؛ ثم أقر الرشيد إبراهيم بعد خروج المذكور
من بغداد، فكانت ولاية عمر على مصر شبه الاستخلاف من إبراهيم بن صالح
ولهذا أبطأ إبراهيم بن صالح عن الحضور إلى الديار المصرية بعد ولايته
مصر عن موسى المذكور؛ أو كانت ولاية عمر بن مهران على خراج مصر
وإبراهيم على الصلاة وهذا أوجه من الأول.
(2/79)
وقال الذهبي: ولى الرشيد مصر لجعفر بن يحيى
البرمكي بعد عزل موسى، فعلى هذا يكون عمر نائباً عن جعفر ولم يصل جعفر
إلى مصر في هذه السنة ولهذا لم يثبت ولايته أحد من المؤرخين انتهى.
وكان عزل موسى بن عيسى عن إمرة مصر فى ثامن عشرين صفر سنة 176 هـ،
فكانت ولايته هذه الثانية على مصر سنة واحدة إلا أياماً قليلة.
قلت: ومما يؤيد قولي إنه كان على الخراج قول ابن الأثير في الكامل،
وذكر ذلك في سنة 176 هـ قال: «وفيها عزل الرشيد موسى بن عيسى عن مصر
ورد أمرها إلى جعفر بن يحيى بن خالد فاستعمل عليها جعفر عمر بن مهران.
وكان سبب عزله أن الرشيد بلغه أن موسى عازم على الخلع فقال: والله لا
أعز له آلا بأخس من على بابي، فأمر جعفراً فأحضر عمر بن مهران وكان
أحول مشوه الخلق وكان لباسه خسيساً وكان يردف غلامه خلفه، فلما قال له
الرشيد: أتسير إلى مصر أميرا؟ قال: أتولاها على شرائط إحداها أن يكون
إذني إلى نفسي إذا أصلحت البلاد انصرفت، فأجابه إلى ذلك؛ فسار فلما وصل
إليها أتى دار موسى فجلس في أخريات الناس، فلما تفرقوا قال: ألك حاجة؟
قال: نعم، ثم دفع إليه الكتب فلما قرأها قال: هل يقدم أبو حفص أبقاه
الله؟ قال: أنا أبو حفص؛ فقال موسى: لعن الله فرعون حيث قال: (أليس لي
ملك مصر) ثم سلم له العمل. فتقدم عمر إلى كاتبه ألا يقبل هدية إلا ما
يدخل في الكيس «1» ، فبعث الناس بهداياهم، فلم يقبل دابة ولا جارية ولم
يقبل إلا المال والثياب، فأخذها وكتب عليها أسماء أصحابها وتركها؛ وكان
أهل مصر قد اعتادوا المطل بالخراج وكسره، فبدأ عمر برجل منهم فطالبه
بالخراج فلواه «2» ، فأقسم ألا يؤديه
(2/80)
إلا بمدينة السلام، فبذل الخراج فلم يقبله منه وحمله إلى بغداد فأدى
الخراج بها فلم يمطله أحد، فأخذ النجم «1» الأول والنجم الثاني، فلما
كان النجم الثالث وقعت المطاولة والمطل وشكوا الضيق، فأحضر تلك الهدايا
وحسبها لأربابها وأمرهم بتعجيل الباقي فأسرعوا في ذلك فاستوفى خراج مصر
عن آخره ولم يفعل ذلك غيره ثم انصرف إلى بغداد» . انتهى «2» كلام ابن
الأثير برمّته. |