النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 175]
السنة التي حكم فيها موسى بن عيسى ثانياً على مصر وهي سنة خمس وسبعين
ومائة- فيها عقد الرشيد البيعة بالخلافة من بعده لابنه محمد بن زبيدة
ولقب بالأمين وعمره خمس سنين، وكانت أمه زبيدة حرضت الرشيد وأرضوا
الجند بأموال عظيمة حتى سكتوا. وفيها خرج يحيى بن عبد الله بن الحسن
العلوي بالديلم وقويت شوكته وتوجهت إليه الشيعة من الأقطار فاغتم
الرشيد من ذلك واشتغل عن اللهو والشرب وندب لحربه الفضل بن يحيى بن
خالد البرمكي في خمسين ألفاً وفرق فيهم الأموال، فانحلت عزائم يحيى
المذكور وطلب الصلح من الرشيد فصالحه الرشيد وأمنه ثم حبسه بعد مدة إلى
أن مات. وفيها هاجت العصبية بالشام بين القيسية «3» واليمانية وقتل
منهم عدد كثير، وكان على إمرة الشام موسى ابن ولي العهد عيسى العباسي،
فعزله الرشيد واستعمل على الشام موسى بن يحيى البرمكي فقدم موسى وأصلح
بينهم. وفيها عزل الرشيد عن إمرة خراسان العباس بن جعفر وأمر عليها
خاله «4» الغطريف بن عطاء.
(2/81)
وفيها توفي الليث بن سعد بن عبد الرحمن
الفهمي، مولاهم الأصبهاني الأصل المصري، أحد الأعلام وشيخ إقليم مصر
وعالمه، كنيته أبو الحارث، مولده في شعبان سنة أربع وتسعين.
قال الذهبي: وحج سنة ثلاث عشرة ومائة فلقى عطاء ونافعا وابن أبى مليكة
وأبا «1» سعيد المقبري وأبا الزبير وابن شهاب فأكثر عنهم، ثم ذكر جماعة
كثيرة ممن روى عنه. انتهى.
وكان كبير الديار المصرية ورئيسها وأمير من بها في عصره بحيث إن القاضي
والنائب من تحت أمره ومشورته؛ وكان الشافعي يتأسف على فوات لقيه. قيل:
إن الإمام مالكاً كتب إليه من المدينة: بلغني أنك تأكل الرقاق وتلبس
الرقاق وتمشي في الأسواق، فكتب إليه الليث بن سعد: (قل من حرم زينة
الله) الآية.
وعن ابن الوزير قال: قد ولي الليث الجزيرة وكان أمراء مصر لا يقطعون
أمراً إلا بمشورته، فقال أبو المسعد «2» وبعث بها إلى المنصور أبي
جعفر:
لعبد الله عبد الله عندي ... نصائح حكتها في السر وحدي
أمير المؤمنين تلاف مصراً ... فإن أميرها ليث بن سعد
وكانت وفاة الليث في رابع عشر شعبان.
ذكر الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وتوفي الحكم بن فصيل
«3» الواسطي؛ والخليل بن أحمد فيما قيل وقد مر، وخشاف «4» الكوفي صاحب
اللغة، والقاسم بن معن المسعودي الكوفي؛ والليث بن سعد فقيه مصر.
(2/82)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة
أذرع سواء، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعاً.
ذكر ولاية إبراهيم بن صالح ثانياً على مصر
تقدم ذكر ترجمته في ولايته الأولى على مصر، أعاده الرشيد إلى ولاية مصر
ثانيا بعد عزل موسى بن عيسى العباسىّ فى صفر سنة ست وسبعين ومائة. ولما
ولي إبراهيم مصر، أرسل باستخلاف عسامة بن عمرو على الصلاة، إلى أن قدم
نصر بن كلثوم على خراج مصر في مستهل شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين
ومائة.
وتوفي عسامة بن عمرو لسبع بقين من شهر ربيع الآخر من السنة. ثم قدم إلى
مصر روح بن زنباع خليفة لإبراهيم على الصلاة والخراج. وروح بن زنباع
هذا أبوه حفيد روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان، فدام روح بن
زنباع المذكور على صلاة مصر وخراجها إلى أن قدمها إبراهيم بن صالح بعده
بأيام في النصف من جمادى الأولى؛ كل ذلك من سنة ست وسبعين ومائة. وسكن
إبراهيم المعسكر وجمع له الرشيد بين الصلاة والخراج، فلم تطل أيامه
ومات لثلاث خلون من شعبان سنة ست وسبعين؛ وقام بأمر مصر بعد موته ابنه
صالح بن إبراهيم بن صالح مع صاحب شرطته خالد بن يزيد إلى أن ولي مصر
عبد الله بن المسيب. وكان «1» مقامه بها شهرين وثمانية عشر يوماً؛ وكان
إبراهيم المذكور من وجوه بني العباس وولي الأعمال الجليلة مثل دمشق
وفلسطين ومصر للمهدي أولاً، ثم ولي الجزيرة لموسى الهادي، ثم ولي مصر
ثانيا في هذه المرة لهارون الرشيد، وكان خيراً ديناً ممدحاً، وفد عليه
مرة عباد بن عباد الخواص فقال له إبراهيم هذا: عظني، فقال عباد: إن
(2/83)
أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى،
فانظر ماذا يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك! فبكى
إبراهيم حتى سالت دموعه على لحيته رحمه الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 176]
السنة التي حكم فيها إبراهيم بن صالح على مصر وهي سنة ست وسبعين ومائة-
فيها عقد الرشيد لابنه المأمون عبد الله العهد بعد أخيه محمد الأمين
ولقبه المأمون، وولاه الشرق وكتب بينهما كتاباً وعلقه في الكعبة، وكان
المأمون أسن من الأمين بشهر واحد غير أنّ الأمين أمّه زبيدة بنت جعفر
هاشميّة، والمأمون أمّه أم ولد اسمها مراجل، ماتت أيام نفاسها به،
ومولدهما في سنة سبعين ومائة. وفيها حج بالناس سليمان بن منصور
العباسي. وفيها أيضاً حجت زبيدة بنت جعفر زوج الرشيد، وأمرت في هذه
السنة ببناء المصانع والبرك في طريق الحج. وفيها عزل الرشيد الغطريف بن
عطاء عن إمرة خراسان وولاها حمزة بن مالك الخزاعي، وكان حمزة يلقب
بالعروس. وفيها توفي إبراهيم بن علي بن سلمة «1» بن عامر بن هرمة، أبو
إسحاق الفهري الشاعر المشهور. كان الأصمعي يقول: ختم الشعراء بابن هرمة
[و] هو آخر الحجج. وفيها توفي صالح بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن
محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي، ولي عدة أعمال
جليلة وكان من أعيان بني العباس. وفيها توفي أبو عوانة وآسمه الوضاح بن
عبد الله البزاز الواسطي الحافظ، مولى يزيد بن عطاء اليشكري، ويقال من
سبي جرجان، رأى الحسن البصري وابن سيرين. وتوفي بالبصرة في شهر ربيع
الأول.
(2/84)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم
أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر
إصبعا.
ذكر ولاية عبد الله بن المسيب على مصر
هو عبد الله بن المسيب بن زهير بن عمرو «1» بن جميل الضبي أمير مصر،
ولاه الرشيد مصر على الصلاة بعد موت إبراهيم بن صالح العباسي، فقدم إلى
مصر لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة ستّ وسبعين ومائة وسكن
المعسكر وجعل على شرطته أبا المكيس «2» ولم تطل ولاية عبد الله المذكور
على إمرة مصر، وعزل بإسحاق بن سليمان في شهر رجب سنة سبع وسبعين ومائة،
فكانت ولايته على إمرة مصر نحو عشرة أشهر، وأقام بمصر بطالاً من غير
إمرة إلى أن وليها استخلافاً عن عبد الملك بن صالح العباسي في سنة ثمان
وسبعين ومائة نحو الشهرين، وصرف عبد الملك بعبيد الله بن المهدي، فصرف
عبد الله بن المسيب هذا عن استخلاف مصر بعزل عبد الملك بن صالح، فإنه
كان خليفته على مصر ولزم عبد الله بن المسيب بيته إلى أن استخلفه
ثانياً عبيد الله بن المهدي لما ولي مصر بعد عبد الملك بن صالح، فباشر
عبد الله بن المسيب صلاة مصر قليلاً باستخلاف عبيد الله بن المهدي
المذكور، ثم صرف ولزم داره إلى أن مات.
وفي أيام ولايته على مصر مع قصرها وقع له حروب مع أهل الحوف.
واستنجده هشام صاحب الأندلس فجهز له العساكر، وبينما هو في ذلك ورد
عليه الخبر بعزله. وكان هشام أرسل جيشاً كثيفاً واستعمل عليه عبد الملك
بن عبد الواحد
(2/85)
ابن مغيث، فدخلوا بلاد العدو وبلغوا أربونة
وجرندة «1» [فبدأ بجرندة «2» ] وكان بها حامية الفرنج، فقتل رجالها
وهدم أسوارها وأبراجها وأشرف على فتحها فرحل عنها إلى أربونة ففعل بها
مثل ذلك، وأوغل فى بلادهم ووطئ أرض بربطانية «3» فاستباح حريمها وقتل
مقاتلتها، وجاس البلاد شهراً يحرق الحصون ويسبي ويغنم، وقد أجفل العدو
من بين يديه هارباً، وأوغل في بلادهم ورجع سالماً ومعه من الغنائم ما
لا يعلمه إلا الله تعالى. وهي من أشهر مغازى المسلمين بالأندلس.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 177]
السنة التى حكم فيها على مصر عبد الله بن المسيب وهي سنة سبع وسبعين
ومائة- فيها عزل الرشيد حمزة بن مالك الخزاعي عن إمرة خراسان وولاها
الفضل ابن يحيى البرمكي مع سجستان والري. وفيها حج بالناس الرشيد، وكان
هذا دأب الرشيد، فسنة يحج وسنة يغزو، وفي هذا المعنى قال بعض شعراء
عصره:
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور
وفيها توفي شريك بن عبد الله بن أبي شريك أبو عبد الله القاضي النخعي،
أصله من الكوفة، وبها توفي يوم السبت مستهل ذي القعدة، وكان إماماً
عالما ديناً.
قال ابن المبارك: شريك أحفظ لحديث الكوفيين من سفيان الثوري. وفيها
توفي أبو الخطاب الأخفش الكبير في هذه السنة وقيل فى غيرها، واسمه عبد
الحميد ابن عبد المجيد شيخ العربية، أخذ عنه سيبويه ولولا سيبويه لما
كان يعرف، فإن
(2/86)
الأخفش الأوسط الذي أخذ عنه سيبويه أيضاً
الأتي ذكره هو المشهور؛ ولأبي الخطاب الأخفش هذا أشياء غريبة ينفرد بها
عن العرب، وقد أخذ عنه جماعة من العلماء، منهم: عيسى بن عمر النحوىّ،
وأبو عبيدة معمر بن المثنى وغيرهم.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها مات عبد العزيز بن
أبي ثابت المدني، وعبد الواحد بن زياد «1» الزاهد العبدىّ فيما قيل،
ومحمد بن جابر الحنفي اليمامي، ومحمد بن مسلم الطائفىّ، وموسى بن أعين
الحراني، وهياج بن بسطام الهروي، ويزيد بن عطاء اليشكري معتق أبي
عوانة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعاً،
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
ذكر ولاية إسحاق بن سليمان على مصر
هو إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي أمير
مصر، ولاه الرشيد إمرة مصر بعد عزل عبد الله بن المسيب في مستهل شهر
رجب سنة سبع وسبعين ومائة، وجمع له الرشيد صلاة مصر وخراجها؛ ولما دخل
مصر سكن المعسكر على عادة أمراء بني العباس، وجعل على شرطته بعض
أصحابه، وهو مسلم بن «2» بكار العقيلي؛ وأخذ إسحاق في إصلاح أمر مصر
وكشف [أمر «3» ] خراجها، فلم يرض بما كان يأخذه قبله الأمراء، وزاد على
المزارعين زيادة أفحشت بهم فسئمته الناس وكرهته وخرج عليه جماعة من أهل
الحوف «4» من قيس وقضاعة، فحاربهم
(2/87)
إسحاق المذكور وقتل من حواشيه وأصحابه
جماعة كبيرة؛ فكتب إسحاق يعلم الرشيد بذلك، فعظم على الرشيد ما ناله من
أمر مصر وصرفه عن إمرتها وعقد الرشيد لهرثمة على إمرة مصر وأرسله في
جيش كبير إلى مصر؛ وكان عزل إسحاق هذا عن إمرة مصر في شهر رجب من سنة
ثمان وسبعين ومائة، فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وأياماً وتوجه إلى
الرشيد.
وقال ابن الأثير: «وفي هذه السنة (يعني سنة ثمان وسبعين ومائة) وثبت
الجوفيّة بمصر على عاملهم إسحاق بن سليمان وقاتلوه وأمدّه الرشيد
بهرثمة بن أعين، وكان عامل فلسطين، فقاتلوا الحوفية وهم من قيس وقضاعة،
فأذعنوا بالطاعة وأدوا ما عليهم للسلطان. فعزل الرشيد إسحاق عن مصر
واستعمل عليها هرثمة مقدار شهر، ثم عزله واستعمل عليها عبد الملك بن
صالح» . انتهى كلام ابن الأثير برمته.
ذكر ولاية هرثمة بن أعين على مصر
هو هرثمة بن أعين أحد أمراء الرشيد وخواص قواده، ولاه على إمرة مصر لما
بلغه ما وقع لإسحاق بن سليمان العباسي مع أهل مصر، وبعثه إليها في جيش
كبير وحرضه على قتال المصريين، وولاه على صلاة مصر وخراجها معاً؛ فخرج
هرثمة من بغداد حتى قدم مصر ليومين خلوا من شعبان سنة ثمان وسبعين
ومائة؛ فتلقاه أهل مصر بالطاعة وأذعنوا له، فقبل هرثمة منهم ذلك وأمنهم
وأقر كل واحد على حاله.
وأرسل يعلم الرشيد بذلك، ثم جعل هرثمة على شرطته ابنه حاتما فلم تطل
مدّة هرثمة على إمرة مصر وورد عليه الخبر بعزله عن إمرة مصر وخروجه
بالعساكر إلى نحو إفريقية في يوم ثاني عشر شوال من السنة المذكورة؛
فكانت إقامته على إمرة مصر شهرين ونصف شهر. وولي مصر بعده عبد الملك بن
صالح العباسي، وتوجه هرثمة
(2/88)
إلى بلاد المغرب من مصر بجيوش عظيمة فلم
يلق حرباً بل أذعن إليه من كان ببلاد المغرب من العصاة لعظم هيبة هرثمة
المذكور، فإنه كان شجاعأ مقداماً مهيباً؛ و؟؟؟ م هرثمة بالمغرب سنين
إلى أن استعفى فأعفاه الرشيد في سنة إحدى وثمانين ومائة وأذن له في
القدوم عليه.
وكان الرشيد يندب هرثمة للمهمات ووقع له بالمغرب أمور: منها أنه لما
توجه إلى إفريقية سار صحبته يحيى بن موسى، فأمره هرثمة أن يتقدمه
ويتلطف بابن الجارود ليعود إلى الطاعة قبل وصول هرثمة، فقدم يحيى
القيروان فجرى بينه وبين ابن الجارود كلام كثير؛ حاصله أن ابن الجارود
شق العصا ولم يظهر الطاعة، فخلا يحيى ب [محمد «1» ] بن الفارسي وعاتبه
حتى استماله ووافقه على قتال ابن الجارود، وتقاتل يحيى وابن الفارسي مع
ابن الجارود فقتل ابن الفارسي غدراً وعاد يحيى بن موسى إلى هرثمة
بطرابلس الغرب؛ ثم سار هرثمة إلى ابن الجارود بجند طرابلس في محرم سنة
تسع وسبعين ومائة فلما وصل قابس «2» تلقاه عامة الجند، وخرج ابن
الجارود من القيروان في مستهل صفر، وكان العلاء بن سعيد عدوّ ابن
الجارود ويحيى بن موسى يستبقان إلى القيروان كل منهما يريد أن [يكون
«3» ] الذكر له؛ فسبقه العلاء ودخل القيروان وقتل جماعة من أصحاب ابن
الجارود وصار إلى هرثمة، وسار ابن الجارود أيضاً إلى هرثمة فسيره هرثمة
إلى الرشيد فاعتقله الرشيد ببغداد؛ وسار هرثمة إلى القيروان فأمن الناس
وسكنهم وبنى القصر الكبير وبنى سور مدينة طرابلس الغرب مما يلي البحر.
وكان إبراهيم بن الأغلب بولاية الزاب «4» فأكثر من الهدية إلى هرثمة
(2/89)
حتى أقرة هرثمة على الزاب فحسن أثره فيها.
ثم إن عياض بن وهب الهواري وكليب ابن جميع الكلبي جمعا جموعاً وأرادا
قتال هرثمة فسيّر إليهما هرثمة يحيى بن موسى في جيش كبير ففرق جموعهما
وقتل كثيراً من أصحابهما ثم عاد إلى القيروان، فلما رأى هرثمة ما
بإفريقية من الاختلاف واصل كتبه إلى الرشيد يستعفي حتى أعفاه، وقدم
العراق حسبما تقدم ذكره. فكانت ولاية هرثمة على إفريقية سنتين ونصفا.
ذكر ولاية عبد الملك بن صالح على مصر
هو عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب،
الأمير أبو عبد الرحمن الهاشمي العباسي أمير مصر، وليها بعد توجه هرثمة
بن أعين إلى إفريقية، ولاه الرشيد إمرة مصر وجمع له الصلاة والخراج
معاً، فوليها عبد الملك هذا ولم يدخلها واستعمل عليها عبد الله بن
المسيب الضبى المعزول عن إمرة مصر قديماً، وقد ذكرنا نيابته عن عبد
الملك هذا في ترجمته أيضاً من هذا الكتاب؛ فجعل عبد الله بن المسيب على
شرطته عمار بن مسلم، فلم تطل مدة عبد الملك هذا على ولاية مصر وصرف
عنها في سلخ سنة ثمان وسبعين ومائة؛ وتولى مصر من بعده عبيد الله بن
المهدي وقد ولي في هذه السنة على مصر ثلاثة أمراء وهي سنة ثمان وسبعين
ومائة؛ وكان عبد الملك هذا شريفا نبيلا، وأمه أم ولد كانت لمروان بن
محمد الحمار فشراها صالح بن علي فولدت له عبد الملك هذا. ويقال: إن
الجارية حملت بعبد الملك هذا من مروان، ولهذا قال له الرشيد لما قبض
عليه وحبسه: ما أنت لصالح، قال: فلمن أنا؟ قال: لمروان، قال: ما أبالي
أي الفحلين غلب «1» علي. وكان أولاً معظماً عند الرشيد ولما ولاه دمشق
سنة سبع
(2/90)
وسبعين ومائة، وخرج الرشيد وودعه قال له
الرشيد: هل من حاجة؟ قال: نعم بيني وبينك بيت ابن الدّمينة حيث يقول:
فكوني «1» على الواشين لداء شغبة ... كما أنا للواشي ألد شغوب
فسكت الرشيد عن أمره حتى نقل عنه أنه يريد الخلافة فعزله عن دمشق في
سنة ثمان وسبعين «2» ومائة، وكانت إقامته عليها أقل من سنة؛ وأظن أن في
تلك الأيام أضيف إليه إمرة مصر، ثم أقدمه الرشيد إلى بغداد وكان قبل
ذلك كتب الى الرشيد يقول:
أخلاي بي شجو وليس بكم شجو ... وكل امرئ من شجو صاحبه خلو
من أي نواحي الأرض أبغي رضاكم ... وأنتم أناس ما لمرضاتكم «3» نحو
فلا حسن نأتي به تقبلونه ... ولا إن أسأنا كان عندكم عفو
فقال الرشيد: والله لئن أنشأها لقد أحسن، ولئن رواها كان أحسن.
وولي عبد الملك هذا الجزيرة مرتين وغزا الصائفة في سنة ثلاث وسبعين
ومائة، وغرا الروم سنة خمس وسبعين ومائة، فأخذ سبعة آلاف رأس من الروم.
ومات للرشيد ولد وولد له ولد في ليلة واحدة فدخل عليه عبد الملك هذا
فقال:
(2/91)
يا أمير المؤمنين، آجرك الله فيما ساءك ولا
ساءك فيما سرك؛ وجعل هذه بتلك جزاء الشاكرين، وثواب الصابرين! وكان
لعبد الملك لسان وبيان على فأفأة كانت فيه، وكانت وفاته بالرقة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 178]
السنة التى حكم فيها على مصر إسحاق بن سليمان، ثم هرثمة بن أعين، ثم
عبد الملك بن صالح وهي سنة ثمان وسبعين ومائة- فيها وثب أهل المغرب
وقاتلوا متولي إفريقية الفضل بن روح بن حاتم المهلبي فأمر الرشيد هرثمة
بن أعين أن يتوجه من مصر إلى المغرب، وقد ذكرنا ذلك في ترجمة هرثمة
وذكرنا توجهه واستيلاءه على بلاد المغرب، وأنهم أذعنوا إليه بالطاعة.
وفيها فوض الرشيد أمور المملكة إلى يحيى بن خالد البرمكي. وفيها سار
الفضل بن يحيى البرمكي إلى خراسان أميراً عليها فعدل في الرعية وأحسن
السيرة بها. وفيها هاجت الحوفية بديار مصر بين قضاعة وقيس، وقد ذكرنا
قصتهم مع إسحاق بن سليمان عامل مصر. وفيها غزا الصائفة معاوية بن زفر
بن عاصم وغزا الشاتية سليمان بن راشد «1» ومعه البند بطريق صقلّيّة.
وفيها حج بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي العباسي. وفيها خرج
بالجزيرة الوليد بن طريف وفتك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين وسار
إلى أرمينية وكثرت جموعه.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إبراهيم بن
حميد الرّؤاسىّ الكوفي، وجعفر بن سليمان الضبعي، وخارجة بن مصعب،
والصحيح قبل هذه بعشر سنين، وعليلة بن بدر البصري واسمه الربيع، وعليلة
لقب له. وعيثر «2» بن
(2/92)
القاسم الكوفي، وعبد الله بن جعفر أبو علي
المديني، وعمر بن المغيرة بالمصيصة «1» ، والمفضل بن يونس يقال فيها.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزيادة
خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
ذكر ولاية عبيد الله بن المهدي الأولى على مصر
هو عبيد الله ابن الخليفة محمد المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور
عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس العباسي الهاشمي أمير
مصر، ولي مصر بعد عزل عبد الملك بن صالح عنها، ولاه الرشيد وجمع له
صلاة مصر وخراجها، وهو أخو الرشيد لأبيه محمد المهدي؛ ولما ولي عبيد
الله مصر استخلف عليها داود بن «2» حبيش وأرسله أمامه، فقدم داود مصر
لسبع خلون من جمادى الآخرة؛ ثم قدمها عبيد الله المذكور بعده في يوم
الثلاثاء لأربع خلون من شعبان سنة تسع «3» وسبعين ومائة قاله صاحب
«البغية» .
وقال غيره: قدمها عبيد الله في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من
المحرم سنة تسع وسبعين ومائة. وجعل على شرطته معاوية بن صرد ثم عمار بن
مسلم،
(2/93)
فأقام عبيد الله على إمرة مصر مدّة وخرج
منها إلى جهة الإسكندرية لما بلغه أنّ الفرنج قصدوا الإسكندرية بعد
انهزل بهم من الحكم بن هشام على ما نذكره في آخر هذه الترجمة؛ واستخلف
على مصر عبد الله بن المسيب المقدم ذكره فغاب عبيد الله مدة ثم عاد
إليها ودام على إمرة مصر إلى أن صرفه أخوه الرشيد عنها في شهر رمضان من
[هذه] السنة. وخرج منها لليلتين خلتا من شوال، فكانت ولايته هذه المرة
تسعة أشهر إلا أياماً قليلة، وولي عوضه الأمير موسى بن عيسى العباسي
الهاشمي.
وقال صاحب «البغية» : صرف عنها لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى
وثمانين ومائة فوافق في الشهر وخالف في السنة.
وأما ما وعدنا بذكره من انهزام الفرنج من الحكم بن هشام صاحب الأندلس
الأموي فإنه ندب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج وصحبته العساكر،
فدخل بلاد الفرنج وبث سراياه في بلادهم يحرقون وينهبون ويأسرون، وسير
سرية فجازوا خليجاً من البحر كان الماء قد جزر عنه؛ وكان الفرنج قد
جعلوا أموالهم وأهاليهم وراء ذلك الخليج ظناً منهم أن أحداً لا يقدر أن
يعبره، فجاءهم ما لم يكن في حسابهم فغنم المسلمون منهم جميع ما لهم
وأسروا الرجال وقتلوا منهم فأكثروا وسبوا الحريم وعادوا سالمين إلى عبد
الكريم المذكور؛ فسير عبد الكريم طائفة أخرى فخربوا كثيرا من بلاد
فرنسية «1» وغنموا أموال أهلها وأسروا الرجال، فأخبره بعض الأسرى أن
جماعة من ملوك الفرنج قد سبقوا المسلمين إلى واد وعر المسلك على
طريقهم؛ فجمع عبد الكريم عساكره وسار على التعبئة وأجد السير، فلم يشعر
الكفار إلا وقد خالطهم المسلمون ووضعوا السيف فيهم، فانهزموا وغنم ما
معهم وعاد عبد الكريم سالما هو ومن معه؛ فلما وقع للفرنج
(2/94)
ذلك أرادوا أن يهجموا على ثغر الإسكندرية
وغيرها لينالوا من المسلمين بعض الغرض وركبوا البحر لقطع الطريق، فخرج
عبيد الله بعساكره إلى ثغر الإسكندرية فلم يقدر أحد من الفرنج على
التوجّه الى جهتها وعادوا بالذّلة والخزى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 179]
السنة التي حكم فيها عبيد الله بن المهدي على مصر وهي سنة تسع وسبعين
ومائة- فيها ولى الرشيد إمرة خراسان لمنصور بن يزيد بن منصور الحميري.
وفيها رجع الوليد بن طريف الشاري بجموعه من ناحية أرمينية إلى الجزيرة
وقد عظم أمره وكثرت جيوشه، فسار لحربه يزيد بن مزيد الشيباني من قبل
الرشيد فراوغه يزيد مدّة ثم التقاه على غرة بقرب هيت وقاتله حتى ظفر به
وقتله وبعث برأسه إلى الرشيد، فرثته أخته الفارعة «1» بنت طريف
بقصيدتها التى سارت بها الركبان التى أوّلها:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف
(2/95)
حليف «1» الندى ما عاش يرضى به الندى ...
فإن مات لم يرض الندى بحليف
ومنها:
فإن يك أرداه يزيد بن مزيد ... فرب زحوف لفها بزحوف
عليه سلام الله وقفاً فإنني ... أرى الموت وقاعاً بكل شريف
وفيها اعتمر الرشيد في رمضان ودام على إحرامه إلى أن حج ومشى من بيوت
مكة إلى عرفات. وفيها في شهر ربيع الأول وصل هرثمة بن أعين أميراً على
القيروان والمغرب فأمن الناس وسكنوا وأحسن سياستهم، وبنى القصر الكبير
في سنة ثمانين ومائة وبنى سور طرابلس الغرب؛ ثم إنه رأى اختلاف الأهواء
فطلب من الرشيد أن يعفيه وألح في ذلك حتى أعفاه. وفيها توفي الإمام
مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل
«2» بن عمرو بن الحارث، شيخ الإسلام وأحد الأعلام وإمام دار الهجرة
وصاحب المذهب، أبو عبد الله المدني الأصبحي مولده سنة اثنتين وتسعين،
وقيل سنة ثلاث وتسعين وهى السنة التى مات فيها أنس ابن مالك الصحابي،
وكان الإمام مالك رحمه الله عظيم الجلالة كبير الوقار غزير العلم
متشددا في دينه.
قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فما لك النجم. وقال في رواية أخرى: لولا
مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز، وما في الأرض كتاب أكثر صواباً من
الموطأ.
وقال ابن مهدي: مالك أفقه من الحكم وحماد.
(2/96)
وقال ابن وهب عن مالك قال: دخلت على أبي
جعفر مراراً وكان لا يدخل عليه أحد من الهاشميين وغيرهم إلا قبل يده
فلم أقبل يده قط. وعن عيسى بن عمر المدني قال: ما رأيت بياضاً قط ولا
حمرة أحسن من وجه مالك، ولا أشد بياضا من ثوب مالك. وقال غير واحد: كان
مالك رجلاً طوالاً جسيماً عظيم الهامة أبيض الرأس واللحية أشقر أصلع
عظيم اللحية عريضها، وكان لا يحفي شاربه ويراه مثله.
قلت: ومناقب الإمام مالك كثيرة وفضله أشهر من أن يذكر. وكانت وفاته في
صبيحة أربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل في حادي عشر ربيع الأول،
وقيل في ثالث عشر؛ وأما السنة فمجمع عليها، أعنى فى سنة تسع وسبعين
ومائة رحمه الله. وفيها توفي الهقل «1» بن زياد الدّمشقىّ نزيل بيروت
أبو عبد الله، كان كاتب الأوزاعي وتلميذه وحامل علمه من بعده.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي حماد بن زيد،
وخالد بن عبد الله الطحان، وعبد الله بن سالم الأشعري الحمصي، ومالك بن
أنس الإمام، وفقيه دمشق هقل بن زياد، والوليد بن طريف الخارجي، وأبو
الأحوص سلام بن سليم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ
الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.
(2/97)
ذكر ولاية موسى بن
عيسى الثالثة على مصر
قلت: هذه ولاية موسى بن عيسى الهاشمي العباسي الثالثة على مصر، ولاه
الرشيد على مصر بعد عزل أخيه عبيد الله بن المهدي على الصلاة؛ فلما ولي
موسى من بغداد قدم أمامه ابنه يحيى بن موسى إلى مصر واستخلفه على
صلاتها، فقدم يحيى ابن موسى إلى مصر لثلاث خلون من شهر رمضان سنة تسع
وسبعين ومائة، ودام بمصر على صلاتها إلى أن قدمها والده موسى بن عيسى
في آخر ذي القعدة من سنة تسع وسبعين ومائة المذكورة؛ وسكن المعسكر على
العادة وأخذ في إصلاح أمور مصر وأصلح بين قيس ويمن من الحوف، واستمر
على إمرة مصر إلى أن صرفه الرشيد عنها بعبيد الله بن المهدي ثانياً في
جمادى الآخرة سنة ثمانين ومائة؛ فكانت ولاية موسى على مصر في هذه المرة
الثالثة نحوا من عشرة أشهر. وخرج من مصر وتوجه إلى بغداد وصار من أكابر
أمراء الرشيد، وحجّ بالناس من بغداد في السنة المذكورة.
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائة مات بعد عوده من الحج وله خمس وخمسون
سنة.
وقيل: كانت وفاته في سنة تسع وثمانين ومائة. ولما حج في سنة اثنتين
وثمانين ومائة ندبه الرشيد ليقرأ عهد أولاده بالخلافة في مكة والمدينة
لأن الرشيد كان بايع في هذه السنة لابنه عبد الله المأمون بولاية العهد
بعد أخيه محمد الأمين؛ وولاه خراسان وما يتصل بها إلى همذان ولقبه
بالمأمون وسلمه إلى جعفر بن يحيى. وهذا من العجائب لأن الرشيد رأى ما
صنع أبوه وجده المنصور بعيسى بن موسى حتى خلع نفسه من ولاية العهد، ثم
ما صنع به أخوه الهادي ليخلع نفسه من العهد، فلو لم يعاجله الموت
لخلعه؛ ثم هو بعد ذلك يبايع للمأمون بعد الأمين حتى وقع لهما بعد موته
ما فيه عبرة لمن اعتبر.
(2/98)
قلت: وهذا البلاء والتدميغ إلى يومنا هذا،
فإن كل ملك من الملوك إلى زماننا هذا يخلع ابن الملك الذي قبله ثم يعهد
هو لابنه من غير أن يقعد له قاعدة يثبت ملكه بها، بل جل قصده العهد،
ويدع الدنيا بعد ذلك تنقلب ظهراً لبطن. وكان أميراً جليلاً جواداً
ممدحاً، تقدم التعريف بأحواله في ولايته الأولى والثانية على مصر من
هذا الكتاب اهـ.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 180]
السنة التي حكم فيها موسى بن عيسى العباسي على مصر وهي سنة ثمانين
ومائة- فيها كانت الزلزلة العظيمة التي سقط منها رأس منارة الإسكندرية.
وفيها تنقل الخليفة الرشيد من بغداد إلى الموصل ثم إلى الرقة فاستوطنها
مدة وعمر بها دار الملك واستخلف على بغداد ابنه الأمين محمد بن زبيدة.
وفيها حجّ بالناس موسى ابن عيسى العباسي المعزول عن إمرة مصر المقدم
ذكره. وفيها هدم الرشيد سور الموصل لئلا يغلب عليها الخوارج. وفيها ولى
الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك خراسان وسجستان فولى عليهما جعفر
محمد بن الحسن بن قحطبة ثم بعد مدة يسيرة عزل الرشيد جعفراً المذكور
وولى عليهما عيسى بن جعفر. وفيها خرج خراشة «1» الشيباني متحكماً
بالجزيرة فقتله مسلم بن بكار العقيلي. وفيها خرجت المحمرة «2» بجرجان
هيجهم على الخروج زنديق يقال له؛ عمرو بن محمد العمركىّ «3» ، فقتل
عمرو المذكور بأمر الرشيد بمدينة مرو. وفيها توفي سيبويه إمام النحاة
أبو بشر عمرو بن عثمان البصري، أصله فارسي وطلب الفقه والحديث ثم مال
إلى العربية حتى برع فيها وصار أفضل
(2/99)
أهل زمانه، وصنف فيها كتابه الكبير الذي لم
يصنف مثله، وفي سنة وفاة سيبويه أقوال كثيرة، وقيل: إن مدة عمره كانت
اثنتين وثلاثين سنة، وقيل: بل أزيد من أربعين سنة. وفيها توفي عافية بن
يزيد بن قيس الكوفىّ الأودىّ «1» ، كان من أصحاب أبي حنيفة الذين
يجالسونه ثم ولي القضاء، وكان فقيهاً ديناً صالحاً. وفيها توفي المبارك
بن سعيد بن مسروق أخو سفيان الثورىّ، وكنيته أبو عبد الرحمن، ولد
بالكوفة وسكن بغداد، وكان ثقة ديناً كف بصره بأخره «2» . وفيها توفي
هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان
الأموي الهاشمي أمير الأندلس، وليها في سنة ثلاث وسبعين ومائة بعد وفاة
أبيه، فكانت مدة ملكه بالأندلس سبع سنين وأياما، ومات في صغره وله تسع
وثلاثون سنة. وقد تقدم التعريف به «3» : أن عبد الرحمن الداخل دخل
المغرب جافلاً من بني العباس وملكه وسمي بالداخل.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إسماعيل بن
جعفر المدني، وبشر بن منصور السليمي الواعظ، وحفص بن سليمان المقرئ،
ورابعة العدوية،. قلت: وقد تقدمت وفاتها في قول غير الذهبي. قال: وصدقة
بن خالد الدمشقي بخلف، وعبد الوارث بن سعيد التنوري؛ وعبيد «4» الله بن
عمرو الرقىّ، والمبارك ابن سعيد الثوري، وفضيل «5» بن سليمان بخلف،
ومحمد بن الفضل بن عطية البخاري،
(2/100)
ومسلم بن خالد الزنجي المكي، ومعاوية بن
عبد الكريم الضال، وصاحب الأندلس هشام بن عبد الرحمن الأموي، وأبو
المحياة يحيى بن يعلى التيمي؛ ويقال: مات فيها سيبويه شيخ النحو.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعاً،
مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة أصابع.
ذكر ولاية عبيد الله بن المهدي الثانية على مصر
تقدم التعريف به في أول ولايته على إمرة مصر ولما عزل الرشيد موسى بن
عيسى العباسي أعاد أخاه عبيد الله هذا على إمرة مصر عوضه ثانياً، فأرسل
عبيد الله هذا داود بن حبيش «1» خليفة له على صلاة مصر، فسار داود حتى
وصل إلى مصر لسبع خلون من جمادى الآخرة من سنة «2» ثمانين ومائة، فخلفه
داود على صلاة مصر إلى أن حضر إليها عبيد الله بن المهدي في يوم رابع
شعبان من السنة، فلم تطل مدته على مصر ووقع له بها أمور حتى صرف عنها
لثلاث خلون من شهر رمضان من سنة إحدى وثمانين ومائة؛ فكانت ولاية عبيد
الله بن المهدي في هذه المرة الثانية على إمرة مصر سنة واحدة وشهرين
تقريباً. وقيل: غير ذلك. وتوفي سنة أربع وتسعين ومائة، ولما عزل عن مصر
توجه إلى الرشيد ودام عنده إلى أن خرج معه في سنة اثنتين وتسعين ومائة
في مسيره إلى خراسان، فسار الرشيد من الرقة إلى بغداد يريد خراسان لحرب
رافع بن الليث، وكان الرشيد مريضاً واستخلف على الرقة ابنه القاسم
(2/101)
وضم إليه خزيمة بن خازم، وسار من بغداد إلى
النهروان واستخلف على بغداد ابنه الأمين وأمر ابنه المأمون بالمقام
ببغداد، فقال الفضل بن سهل للمأمون حين أراد الرشيد المسير: لست تدري
ما يحدث بالرشيد، وخراسان ولايتك والأمين مقدّم عليك، وإنّ أحسن ما
يصنع بك أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها،
فاطلب من أبيك الرشيد أن تسير معه، فطلب، فأجابه الرشيد بعد امتناع.
فلما سار الرشيد سايره الصباح الطبري، فقال له الرشيد: يا صباح، لا
أظنك تراني أبداً، فدعا له الصباح بالبقاء؛ فقال: يا صباح، ما أظنك
تدري ما أجد؛ قال الصباح: لا والله؛ فعدل الرشيد عن الطريق واستظل
بشجرة وأمر خواصه بالبعد عنه، ثم كشف عن بطنه فإذا عليه عصابة حرير،
فقال: هذه علة أكتمها عن الناس ولكل واحد من ولدي علي رقيب؛ فمسرور
رقيب المأمون، وجبريل بن بختيشوع رقيب الأمين، وما منهم أحد إلا وهو
يحصي أنفاسي ويستطيل دهري، وإن أردت أن تعلم ذلك فالساعة أدعو بدابة
فيأتونني بدابة أعجف قطوف «1» لتزيدني علة؛ ثم طلب الرشيد دابة فجاءوا
بها على ما وصف. وكان أخوه عبيد الله هذا أشار عليه بعدم السفر، فلم
يسمع منه وأخذه معه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 181]
السنة التي حكم فيها عبيد الله بن المهدي في ولايته الثانية على مصر
وهي سنة إحدى وثمانين ومائة- فيها غزا الرشيد بلاد الروم وافتتح حصن
الصفصاف «2» عنوة، وسار عبد الملك «3» بن صالح العباسي حتى بلغ أرض
الروم وافتتح حضنابها. وفيها حجّ
(2/102)
بالناس الرشيد. وفيها استعفى يحيى بن خالد
بن برمك من التحدث في أمور الممالك فأعفاه الرشيد وأخذ الخاتم منه وأذن
له في المجاورة بمكة. وفيها كتب الرشيد إلى هرثمة بن أعين يعفيه عن
إمرة المغرب وأذن له في المجاورة والقدوم عليه، واستعمل عوضه على
المغرب محمد بن مقاتل العكي رضيع الرشيد، وكان أبوه مقاتل أحد من قام
بالدعوة العباسية.
وفيها أمر الرشيد أن يصدر في مكاتباته بعد البسملة بالصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي
مولاهم التركي، ثم المروزي الحافظ فريد الزمان وشيخ الإسلام، وأمه
خوارزمية مولده سنة ثمان عشرة ومائة.
وقيل: سنة عشر ومائة، ورحل سنة إحدى وأربعين ومائة فلقي التابعين وأكثر
الترحال في طلب العلم، وروى عن جماعة كثيرة، وروى عنه خلائق وتفقه بأبي
حنيفة. وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام المسلمين. وعن
إسماعيل ابن عياش قال: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك. وقال العباس
بن مصعب المروزي: جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس
والشجاعة والسخاء.
وقال شعيب بن حرب: سمعت سفيان الثوري يقول: لو جهدت جهدي أن أكون في
السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر. وقال الذهبي: قال
عبد الله ابن محمد قاضي نصيبين حدثني محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة:
أملى علي ابن المبارك بطرسوس- وودعته وأنفذها معي (يعني الورقة) إلى
الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة- هذه الأبيات:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... وتهج السنابك والغبار الأطيب
(2/103)
ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح
صادق لا يكذب
لا «1» يستوي غبار خيل الله في ... أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال: فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم، فلما قرأه ذرفت عيناه، ثم قال: صدق
أبو عبد الرحمن ونصح.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إبراهيم بن
عطيّة الثقفىّ، واسماعيل بن عيّاش الحمصىّ، وأبو المليح الحسن بن عمر
الرقّىّ، وحفص ابن ميسرة الصنعاني، والحسن بن قحطبة الأمير، وحمزة بن
مالك، وسهل بن أسلم العدوي، وخلف بن خليفة الواسطي بها، وعباد بن عباد
المهلّبىّ، وعبد الله ابن المبارك المروزي، وروح بن المسيب الكلبي،
وسهيل بن صبرة العجلي، وعبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر، وعفان بن
سيار قاضي جرجان، وعلىّ بن هاشم ابن البريد «2» الكوفي، وعيسى ابن
الخليفة المنصور، وقران بن تمام الأسدي (بضم القاف وتشديد الراء)
تخمينا، ومحمد بن حجّاح الواسطي، ومحمد بن سليمان الأصبهاني الكوفي،
ومصعب بن ماهان المروزي، ومفضل بن فضالة قاضي مصر ويعقوب ابن عبد
الرحمن القاري «3» ، وأم عروة بنت جعفر بن الزبير بن العوام.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ
الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية أصابع ونصف.
(2/104)
ذكر ولاية إسماعيل بن صالح على مصر
هو إسماعيل بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن
هاشم، الهاشمي العباسي أمير مصر، ولاه الرشيد إمرة مصر على الصلاة في
يوم الخميس لسبع خلون من شهر رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائة بعد عزل
عبيد الله بن المهدي عنها، فاستخلف إسماعيل على صلاة مصر عوف بن وهب
الخزاعىّ فصلّى المذكور بالناس إلى أن حضر إسماعيل بن صالح إلى مصر
لخمس بقين من شهر رمضان المذكور، ولما قدم إلى مصر سكن بالمعسكر وجعل
على الشرطة سليمان بن الصمة المهلبي مدة ثم صرفه «1» بزيد بن عبد
العزيز الغساني وأخذ في إصلاح أمر الديار المصرية، وكان شجاعاً فصيحاً
عاقلاً أديباً.
قال ابن عفير: ما رأيت على هذه الأعواد أخطب من إسماعيل بن صالح.
واستمر إسماعيل بن صالح على إمرة مصر إلى أن صرف عنها لأمر اقتضى ذلك
بإسماعيل بن عيسى في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين ومائة.
وقال صاحب «البغية» : إنه عزل بالليث بن الفضل وأن الليث عزل باسماعيل
المذكور وسماه إسماعيل بن علي. والأقوى أن إسماعيل هذا عزل باسماعيل
الذي سميته، وعلى هذا الترتيب ساق غالب من ذكر أمراء مصر. وكانت مدته
على إمرة مصر ثمانية أشهر وعدة أيام تقارب شهرا اهـ.
[ما وقع من الحوادث سنة 182]
السنة التي حكم فيها إسماعيل بن صالح على مصر، وهي سنة اثنتين وثمانين
ومائة- فيها حجّ بالناس عيسى «2» بن موسى العباسي. وفيها أخذ الرشيد
البيعة بولاية
(2/105)
العهد ثانياً من بعد ولده الأمين محمد
لولده الآخر عبد الله المأمون، وكان ذلك بالرقة، فسيره الرشيد إلى
بغداد وفي خدمته عم الرشيد جعفر بن أبي جعفر المنصور وعبد الملك ابن
صالح وعلي بن عيسى، وولى المأمون ممالك خراسان بأسرها وهو يومئذ مراهق.
وفيها وثبت الروم على ملكهم قسطنطين فسملوه «1» وعقلوه وملكوا عليهم
غيره. وفيها توفي عبد الله «2» بن عبد العزيز بن عبد الله [بن عبد «3»
الله] بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الله العمري العدوي، كان إماماً
عالماً عابداً ناسكاً ورعاً. وفيها توفي مروان بن سليمان بن يحيى ابن
أبى حفصة أبو السّمط- وقيل: أبو الهندام- الشاعر المشهور. كان أبو حفصة
جد أبيه مولى مروان بن الحكم أعتقه يوم الدار «4» لأنه أبلى بلاء حسنا
في ذلك اليوم، يقال: إنه كان يهودياً فأسلم على يد مروان، وقيل غير
ذلك. ومولد مروان هذا صاحب الترجمة سنة خمس ومائة، وكان شاعراً مجيداً،
مدح غالب خلفاء بني أمية وغيرهم، وما نال أحد من الشعراء ما ناله مروان
لا سيما لما مدح معن بن زائدة الشيباني بقصيدته اللامية؛ يقال: إنه أخذ
منه عليها مالاً كثيراً لا يقدر قدره، وهي القصيدة التي فضل بها على
شعراء زمانه. قال ابن خلكان: والقصيدة طويلة تناهز الستين بيتاً، ولولا
خوف الإطالة لذكرتها لكن «5» نأتي ببعض مديحها وهو من أثنائها:
بنو مطر «6» يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في بطن خفان «7» أشبل
(2/106)
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين
السماكين منزل
بهاليل «1» في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول
هم القوم إن قالوا أصابوا وان دعوا ... أجابوا وان أعطوا أطابوا
وأجزلوا
وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
وفيها توفي هشيم «2» بن بشير بن أبي خازم أبو معاوية الواسطي مولى بني
سليم وكان بخاري الأصل، كان ثقة كثير الحديث ثبتاً، وكان يدلس في
الحديث، وكان ديناً أقام يصلي الفجر بوضوء صلاة العشاء الآخرة سنين
كثيرة، وتوفي ببغداد في يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر رمضان أو شعبان.
وفيها توفي شيخ الإسلام قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب
[بن خنيس «3» ] بن سعد بن حبتة بن معاوية.
وسعد بن حبتة من الصحابة أتى يوم الخندق إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فدعا له ومسح على رأسه. ومولد أبى يوسف بالكوفة سنة ثلاث عشرة ومائة،
وطلب العلم سنة نيف وثلاثين؛ وسمع من هشام بن عروة وعطاء بن السائب
والأعمش وغيرهم.
وروى عنه ابن سماعة ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وخلق سواهم. وكان في
ابتداء أمره يطلب الحديث، ثم لزم أبا حنيفة وتفقه به حتى صار المقدم في
تلامذته، وبرع
(2/107)
في عدة علوم. قال الذهبي: وكان عالماً
بالفقه والأحاديث والتفسير والسير وأيام العرب، وهو أول من دعي في
الإسلام بقاضي القضاة. قلت: ولم يقع هذا الاسم على غيره كما وقع له
فيه، فإنه كان قاضي المشرق والمغرب، فهو قاضي القضاة على الحقيقة. قال
محمد بن الحسن: مرض أبو يوسف فعاده أبو حنيفة، فلمّا خرج قال: إن يمت
هذا الفتى فهو أعلم من عليها (وأومأ إلى الأرض) . وقال ابن معين: ما
رأيت في أصحاب «1» الرأي أثبت في الحديث، ولا أحفظ ولا أصح رواية من
أبي يوسف. وروى أحمد بن عطية عن محمد بن سماعة قال: كان أبو يوسف بعد
ما ولي القضاء يصلي كل يوم مائتي ركعة. وقال محمد بن سماعة المذكور:
سمعت أبا يوسف يقول في اليوم الذي مات فيه: اللهم إنك تعلم أني لم أجر
في حكم حكمت به متعمدا، وقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك.
وكان أبو يوسف عظيم الرتبة عند هارون الرشيد. قال أبو يوسف: دخلت على
الرشيد وفي يده درتان يقلبهما فقال: هل رأيت أحسن منهما؟ قلت: نعم يا
أمير المؤمنين؛ قال: وما هو؟ قلت: الوعاء الذي هما فيه، فرمى إلي بهما
وقال: شأنك بهما.
وكانت وفاته في يوم الخميس لخمس خلون من شهر ربيع الأول، وقيل: في ربيع
الآخر. وفي يوم موته قال عباد بن العوام: ينبغي لأهل الإسلام أن يعزي
بعضهم بعضاً بأبي يوسف. وفيها توفي يزيد بن زريع أبو معاوية العيشي «2»
البصري، كان
(2/108)
ثقة كثير الحديث عالماً فاضلاً صدوقاً،
وكان أبوه والي البصرة، فمات فلم يأخذ من ميراثه شيئاً، وكان يتقوت من
سف «1» الخوص بيده رحمه الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وتسعة عشر إصبعاً، مبلغ
الزيادة سبعة عشر ذراعاً سواء.
ذكر ولاية إسماعيل بن عيسى على مصر
هو إسماعيل بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن علي بن
العباس، العباسي الهاشمي، أمير مصر. ولاه الرشيد على إمرة مصر بعد عزل
إسماعيل بن صالح العباسي عنها على الصلاة، فقدم مصر لأربع عشرة بقيت من
جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين ومائة. ولما دخل مصر سكن المعسكر على
عادة أمراء مصر، ودام على إمرتها إلى أن صرفه الرشيد عنها بالليث بن
الفضل في شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائة، فكانت ولايته على مصر
ثلاثة أشهر تنقص أياماً. وتوجه إلى الرشيد فأكرمه ودام عنده إلى أن حج
معه في سنة ست وثمانين ومائة تلك الحجة التي لم يحجها خليفة قبله.
وخبرها أن الرشيد سار إلى مكة بأولاده وأكابر أقار به مثل إسماعيل هذا
وغيره، وكان مسير الرشيد من الأنبار فبدأ بالمدينة فأعطي فيها ثلاثة
أعطية: أعطى هو عطاء، وابنه محمد الأمين عطاء، وابنه عبد الله عطاء؛
وسار إلى مكة فأعطى أهلها فبلغ عطاؤهم بمكة والمدينة ألف ألف دينار
وخمسين ألف دينار. وكان الرشيد قد ولى الأمين العراق والشأم إلى آخر
المغرب، وولى المأمون من همذان إلى آخر المشرق، ثم بايع الرشيد لابنه
القاسم بولاية العهد بعد المأمون ولقبه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور
والعواصم، وكان المؤتمن في حجر عبد الملك بن صالح وجعل خلعه وإثباته
للمأمون؛ ولما وصل
(2/109)
الرشيد إلى مكة ومعه أولاده وأقاربه
والقضاة والفقهاء والقواد، كتب كتاباً أشهد فيه على محمد الأمين من حضر
بالوفاء للمأمون، وكتب كتاباً أشهد عليه فيه بالوفاء للأمين، وعلق
الكتابين في الكعبة وجدد عليهما العهود في الكعبة. ولما فعل الرشيد ذلك
قال الناس: قد ألقى بينهم حرباً وخافوا عاقبة ذلك، فكان ما خافوه.
ثم إن الرشيد في سنة تسع وثمانين ومائة قدم بغداد «1» وأشهد على نفسه
من عنده من القضاة والفقهاء أن جميع ما في عسكره من الأموال والخزائن
والسلاح وغير ذلك للمأمون وجدد له البيعة عليهم بعد الأمين. ثم بعد عود
الرشيد وجه إسماعيل هذا إلى الغزو، فعاد «2» ودام عنده إلى أن وقع ما
سنذكره.
[ما وقع من الحوادث سنة 183]
السنة التي حكم فيها إسماعيل بن عيسى على مصر وهي سنة ثلاث وثمانين
ومائة- فيها حج بالناس العباس بن موسى الهادي الخليفة. وفيها تمرّد
متولّى الغرب محمد ابن مقاتل العكي وظلم وعسف واقتطع من أرزاق الأجناد
وآذى العامة، فخرج عليه تمام بن تميم التميمي نائبه على تونس، فزحف
إليه وبرز لملتقاه العكي ووقع المصاف «3» ، فانهزم العكي وتحصّن
بالقيروان في القصر وغلب تمام على البلد، ثم نزل العكي بأمان وانسحب
إلى طرابلس؛ فنهض لنصرته إبراهيم بن الأغلب، فتقهقر تمام إلى تونس ودخل
ابن الأغلب القيروان فصلى بالناس وخطب وحض على الطاعة؛ ثم التقى ابن
الأغلب وتمام فانهزم تمام، واشتد بغض الناس للعكىّ وكاتبوا الرشيد فيه
فعزله وأمّر عليهم إبراهيم بن الأغلب. وفيها توفي البهلول المجنون،
واسم أبيه عمرو، وكنيته
(2/110)
أبو وهيب، الصيرفي الكوفي، تشوش عقله فكان
يصحو في وقت ويختلط في آخر، وهو معدود من عقلاء المجانين، كان له كلام
حسن وحكايات ظريفة. قال الذهبي:
وقد حدث عن عمرو بن دينار وعاصم بن بهدلة وأيمن بن نابل «1» ، وما
تعرضوا إليه بجرح ولا تعديل ولا كتب عنه الطلبة، وكان حيّا فى دولة
الرشيد كلها. وقيل: إن الرشيد مر به، فقام إليه البهلول وناداه ووعظه،
فأمر له الرشيد بمال؛ فقال:
ما كنت لأسود وجه الوعظ، فلم يقبل. وأما حكاياته فكثيرة، وفي وفاته
اختلاف كثير، والصحيح أنه مات في هذا العصر. وفيها توفي زياد بن عبد
الله بن الطفيل، الحافظ أبو محمد البكائي العامري الكوفي صاحب رواية
السيرة النبوية عن ابن إسحاق، وهو أتقن من روى عنه السيرة. وفيها توفي
علي بن الفضيل بن عياض، مات شاباً لم يبلغ عشرين سنة في حياة والده
فضيل، وكان شاباً عابداً زاهداً ورعاً وكان يصلي حتى يزحف إلى فراشه
زحفاً، فيلتفت إلى أبيه فيقول: يا أبت سبقنا العابدون. وفيها توفي محمد
بن صبيح «2» أبو العباس المذكر الواعظ، كان يعرف بابن السماك، كان له
مقام عظيم عند الخلفاء؛ وعظ الرشيد مرة فقال:
يا أمير المؤمنين، إن لك بين يدي الله تعالى مقاماً وإن لك من مقامك
منصرفاً، فانظر إلى أين منصرفك، إلى الجنة أو إلى النار! فبكى الرشيد
حتى قال بعض خواصه: ارفق بأمير المؤمنين؛ فقال: دعه فليمت حتى يقال:
خليفة الله مات من مخافة الله تعالى! قال الذهبي: قال ثعلب: أخبرنا ابن
الأعرابي قال: كان ابن السماك يتمثل بهذه الأبيات:
(2/111)
إذا خلا القبور ذو خطر ... فزره يوماً
وانظر إلى خطره
أبرزه الدهر من مساكنه ... ومن مقاصيره ومن حجره
ومن كلام ابن السماك أيضاً قال: «الدنيا كلها قليل، والذي بقي منها في
جنب الماضي قليل، والذي لك من الباقي قليل، ولم يبق من قليلك إلا
القليل» . وفيها توفي الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد
الباقر بن علي زين العابدين بن السيد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي
الله عنهم أجمعين. كان موسى المذكور يدعى بالعبد الصالح لعبادته،
وبالكاظم «1» لعلمه. ولد بالمدينة سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة، وكان
سيداً عالماً فاضلاً سنياً جواداً ممدحاً مجاب الدعوة.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إبراهيم بن
سعد، وإبراهيم بن الزبرقان الكوفي، وأبو إسماعيل المؤدب إبراهيم بن
سليمان، وإبراهيم ابن سلمة المصري، وأنيس بن سوار الحرمىّ «2» ، وبكار
بن بلال الدمشقي، وبهلول ابن راشد للفقيه، وجابر بن نوح الحمّانىّ،
وخاتم بن وردان، في قول، وحيوة بن معن التجيبي، وخالد بن يزيد الهدادي
«3» ، وحبيش بن عامر؛ يروى عن أبي قبيل المعافري، وداود بن مهران
الربعي الحراني، وزياد بن عبد الله البكائي، وسفيان بن حبيب البصري،
وسليمان بن سليم الرفاعي العابد، وعباد بن العوام، فى قول، وعبد لله بن
مراد المرادىّ، وعفيف بن سالم الموصلي، وعمرو بن يحيى الهمذاني «4» ،
ومحمد بن السماك
(2/112)
الواعظ، ومحمد بن أبي عبيدة بن معن، وموسى
الكاظم بن جعفر، وموسى بن عيسى الكوفىّ القارئ، والنعمان بن عبد السلام
الأصبهاني، ونوح بن قيس البصري، وهشيم بن بشير، ويحيى بن حمزة قاضي
دمشق، ويحيى بن [زكرياء «1» بن] أبي زائدة في قول، ويوسف بن [يعقوب بن
عبد الله بن أبي سلمة «2» بن] الماجشون، قاله الواقدىّ، ويونس بن حبيب
صاحب العربية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانية عشر إصبعا، مبلغ
الزيادة أربعة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية الليث بن الفضل على مصر
هو الليث بن الفضل الأبيوردي أمير مصر، أصله من أبيورد «3» ، ولاه
الرشيد على إمرة مصر على الصلاة والخراج معاً في شهر رمضان في سنة ثلاث
وثمانين ومائة بعد عزل إسماعيل بن عيسى؛ وقدم إلى مصر لخمس خلون من
شوال من السنة المذكورة، وسكن المعسكر، وجعل أخاه علي بن الفضل على
الشرطة، ومهد أمور مصر واستوفى الخراج، ودام على ذلك إلى أن خرج من مصر
وتوجه إلى الخليفة هارون الرشيد في سابع شهر رمضان سنة أربع وثمانين
ومائة بالهدايا والتحف، واستخلف أخاه علي بن الفضل على صلاة مصر، فوفد
على الرشيد وأقام عنده مدة ثم عاد إلى مصر على عمله في آخر السنة،
واستمر على إمرة مصر إلى أن خرج منها ثانياً إلى الرشيد في اليوم
الحادي «4» والعشرين من رمضان سنة خمس وثمانين ومائة.
(2/113)
واستخلف على صلاة مصر هشام «1» بن عبد الله
بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، فتوجه إلى الرشيد لأمر اقتضى ذلك، ثم
عاد إلى مصر في رابع عشر المحرم سنة ست وثمانين ومائة، وكان هذا دأبه
كلما غلق «2» خراج سنة ونجز حسابها وفرق أرزاق الجند، أخذ ما بقي وتوجه
به إلى الرشيد ومعه حساب السنة. ودام على ذلك إلى أن خرج عليه أهل
الحوف بشرقي مصر وساروا إلى الفسطاط، فخرج إليهم الليث هذا في أربعة
آلاف من جند مصر، وكان ذلك في الثامن والعشرين «3» من شعبان من سنة ست
وثمانين ومائة المذكورة؛ واستخلف على مصر عبد الرحمن بن موسى بن علي بن
رباح على الصلاة والخراج، فواقع أهل الحوف فانهزم عنه الجند وبقي هو في
نحو المائتين من أصحابه، فحمل بهم على أهل الحوف حملة هزمهم فيها،
فتولوا وتبع أقفيتهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، وبعث إلى مصر بثمانين
رأساً. ثم قدم إلى مصر فلم ينتج أمره بعد ذلك من خوف أهل الحوف منه،
فخافوه ومنعوا الخراج فلم يجد الليث بداً من خروجه إلى الرشيد، فتوجه
إليه وعرفه الحال وشكا له من منع الخراج وسأله أن يبعث معه جيشاً إلى
مصر فإنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الحوف إلا بجيش؛ فلم يسمح
له الرشيد بذلك؛ وأرسل محفوظاً «4» إلى مصر، فقدم إليها محفوظ المذكور
وضم خراجها من غير سوط ولا عصا، فولاه الرشيد عوضه على خراج مصر، ثم
عزل الليث عن إمرة مصر بأحمد بن إسماعيل في جمادى الآخرة سنة سبع
وثمانين ومائة، فكانت ولاية الليث على مصر أربع سنين وسبعة أشهر، وتوجه
إلى الرشيد، وكان ممن حضر الإيقاع بالبرامكة في سنة سبع وثمانين ومائة
المذكورة.
(2/114)
ولنذكر أمر البرامكة هنا وإن كان ذلك غير
ما نحن بصدده غير أنه في الجملة خبر يشتاقه الشخص فنقول على سبيل
الاختصار من عدة أقاويل:
كان من جملة أسباب القبض على جعفر أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن
أخته عباسة بنت المهدي، فقال لجعفر: أزوجها لك ليحل لك النظر إليها ولا
تقربها؛ فقال: نعم، فزوجها منه، وكانا يحضران معه ويقوم الرشيد عنهما،
فجامعها جعفر فحملت منه وولدت غلاماً، فخافت الرشيد فسيرت الولد مع
حواضن إلى مكة ثم وقع بين العباسة وبعض جواريها [شر «1» ] ، فأنهت
الجارية أمرها إلى الرشيد، وقيل: الذي أنهته زبيدة لبغضها لجعفر.
وقيل في قتله سبب آخر وهو أن الرشيد دفع إليه عدوه يحيى بن عبد الله
العلوي فحبسه جعفر ثم دعا به وسأله عن أمره فقال له: اتق الله في أمري،
فرق له جعفر وأطلقه ووجه معه من أوصله الى بلاده؛ فنم على جعفر الفضل
بن الربيع إلى الرشيد وأعلمه القصة من عين كانت للفضل على جعفر، فطلب
الرشيد جعفراً على الطعام وصار يلقمه ويحدثه عن يحيى بن عبد الله،
وجعفر يقول: هو بحاله في الحبس؛ فقال: بحياتي، ففطن جعفر وقال: لا
وحياتك، وقص عليه أمره، فقال الرشيد: نعم ما فعلت! ما عدوت ما في نفسي!
فلما قام عنه قال: قتلني الله إن لم أقتلك. وقيل غير ذلك، وهو أن
جعفراً ابتنى داراً غرم عليها عشرين ألف ألف درهم؛ فقيل للرشيد: هذه
غرامته على دار فما ظنك بنفقاته! وقيل: إن يحيى بن خالد لما حج تعلق
بأستار الكعبة وقال: اللهم إن كان رضاك أن تسلبني نعمك فاسلبني، اللهم
إن كان رضاك أن تسلبني مالي وأهلي وولدي فاسلبني إلا
(2/115)
الفضل، ثم عاد واستثنى الفضل ثم دعا يحيى
بن خالد بدعوات أخر، وكان الفضل عنده مقدماً على جعفر فإنه كان الأسن،
فلما انصرف من الحج هو وأولاده ووصلوا إلى الأنبار نكبهم الرشيد، ولما
أرسل للقبض على جعفر توجه إليه مسرور ومعه جماعة وجعفر فى لهوه ومغنّيه
«1» يغنيه قوله:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
وكل ذخيرة لابد يوماً ... وإن كرمت «2» تصير الى نفاد
قال مسرور: فقلت له: يا جعفر، الذي جئت له هو والله ذاك قد طرقك، فأجب
أمير المؤمنين؛ فوقع على رجلي يقبلها وقال: حتى أدخل وأوصي! فقلت:
أما الدخول فلا سبيل إليه، وأما الوصية فاصنع ما شئت، فأوصى. وأتيت
الرشيد به فقال: ائتني برأسه، فأتيته به.
[ما وقع من الحوادث سنة 184]
السنة الأولى من ولاية الليث بن الفضل على مصر وهي سنة أربع وثمانين
ومائة- فيها ولى الرشيد حماداً البربري إمرة مكة واليمن كله، وولى داود
بن يزيد بن حاتم المهلبي السند، وولى ابن الأغلب المغرب، وولى مهرويه
الرازي طبرستان. وفيها طلب أبو الخصيب الخارج بخراسان الأمان فأمنه علي
بن عيسى بن ماهان وأكرمه. وفيها سار أحمد بن هارون الشيباني فأغار على
ممالك الروم فغنم وسلم. وفيها توفي أحمد ابن الخليفة هارون الرشيد
الشاب الصالح، كان قد ترك الدنيا وخرج على وجهه وتزهد وصار يعمل
بالأجرة ولا يعلم به أحد، وكان أكبر أولاد الرشيد، وأمه أم ولد؛ ولم
يزل أحمد هذا منقطعا إلى الله تعالى حتى مات ولم يعلم به أحد؛ وكان
أحمد هذا
(2/116)
يعرف بالسبتي «1» ، وأحمد هذا خفي عن كثير
من الناس، ومن الناس من يظنه البهلول الصالح ويقول: البهلول كان ابن
الرشيد، وليس هو كذلك، وقد تقدم ذكر البهلول.
وأحمد هذا هو ابن الرشيد، وله أيضاً حكايات كثيرة في الزهد والصلاح.
على أن بعض أهل التاريخ ينكرون ذلك بالكلية، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وفيها توفي محمد بن يوسف بن معدان أبو عبد الله الأصبهاني؛ كان عبد
الله بن المبارك يسميه عروس الزهاد وكان له كرامات وأحوال. وفيها توفي
المعافى بن عمران أبو مسعود الموصلي الأزدي، رحل البلاد في طلب الحديث
وجالس العلماء وجمع بين العلم والورع والسخاء والزهد ولزم سفيان الثوري
وتفقه به وتأدب بآدابه، فكان يقول له: أنت معافى كاسمك.
الذين ذكرهم الذهبي في الوفيات في هذه السنة، قال: وفيها توفي إبراهيم
بن سعد الزهري في قول، وإبراهيم بن أبي يحيى المدنىّ، وحميد بن الأسود،
وصدقة ابن خالد في قول، وعبد الله بن عبد العزيز الزاهد العمري، وعبد
الله بن مصعب الزبيري، وعبد الرحيم بن سليمان الرازي «2» ، وعثمان بن
عبد الرحمن الجمحي في قول، وعبد السلام بن شعيب بن الحبحاب، وعبد
العزيز بن أبي حازم في قول، وعلي بن غراب القاضي، ومحمد بن يوسف
الأصبهاني الزاهد، ومروان بن شجاع الجزري، ويوسف بن الماجشون قاله
البخارىّ، وأبو أميّة بن يعلى قاله خليفة.
(2/117)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ
الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع. |