النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

[ما وقع من الحوادث سنة 185]
السنة الثانية من ولاية الليث بن الفضل على مصر وهي سنة خمس وثمانين ومائة- فيها وثب أهل طبرستان على متوليهم مهرويه فقتلوه فولّى عوضه الرشيد عبد الله ابن سعيد الحرشي «1» . وفيها وقعت بالمسجد الحرام صاعقة فقتلت رجلين. وفيها خرج الرشيد إلى الرقة على طريق الموصل والجزيرة. وفيها حج بالناس أخو الخليفة منصور ابن المهدي، وكان يحيى بن خالد البرمكي استأذن الرشيد في العمرة، فخرج يحيى بن خالد في شعبان وأقام بمكة واعتمر في شهر رمضان وخرج إلى جدة فأقام بها على نية الرباط إلى زمن الحج، فحج وعاد إلى العراق. وفيها توفي عم «2» جد الرشيد عبد الصمد بن علىّ ابن عبد الله بن العباس الأمير أبو محمد الهاشمي العباسي، ولد سنة خمس أو ست ومائة، وأمه أم ولد، ويقال: إن أمه كثيرة «3» التي شبب بها عبد الله بن قيس الرقيات.
ولي عبد الصمد هذا إمرة دمشق والموسم غير مرة، وولي إمرة المدينة والبصرة.
واجتمع مرة بالرشيد وعنده جماعة من أقار به، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مجلس فيه أمير المؤمنين وعمه وعم عمه وعم عم عمه؛ وكان في المجلس سليمان بن أبي جعفر المنصور وهو عم الرشيد، والعباس بن محمد وهو عم سليمان المذكور، وعبد الصمد هذا وهو عم العباس. ومات وليس بوجه الأرض عباسية إلا وهو محرم لها، رحمه الله. وفيها توفي محمد ابن الإمام إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الأمير

(2/118)


أبو عبد الله الهاشمي العباسي. ولي إمرة دمشق لأبي جعفر المنصور ولولده المهدي؛ وحج بالناس عدة سنين، وكان عاقلاً جواداً ممدحاً.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي أبو إسحاق الفزاري في قول إبراهيم بن محمد، وخالد بن يزيد بن [عبد الرحمن «1» بن] أبي مالك الدمشقي، وصالح بن عمر الواسطي، وعبد الله بن صالح بن علي بسلمية «2» ، وعبد الواحد بن مسلم، وقاضي مصر محمد بن مسروق الكندي، والمسيب بن شريك، والمطلب بن زياد، ويزيد بن مزيد الشيباني، ويقطين بن موسى الأمير.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وسبعة أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 186]
السنة الثالثة من ولاية الليث بن الفضل على مصر وهي سنة ست وثمانين ومائة- فيها حج الرشيد ومعه ابناه: الأمين محمد والمأمون عبد الله وفرق بالحرمين الأموال. وفيها بايع الرشيد بولاية العهد لولده قاسم بعد الأخوين الأمين والمأمون، ولقبه المؤتمن وولاه الجزيرة والثغور وهو صبي، فلما قسم الرشيد الدنيا بين أولاده الثلاثة قال الشعراء في البيعة المدائح، ثم إنه علق نسخة البيعة في البيت العتيق، وفي ذلك يقول إبراهيم الموصلي:
خير الأمور مغبّة ... وأحقّ أمر بالنّمام
أمر قضى إحكامه الرّ ... حمن في البيت الحرام
وفيها أيضاً سار علي بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب، فالتقاه فقتل أبو الخصيب وغرقت جيوشه وسبيت حرمه واستقام أمر خراسان. وفيها

(2/119)


سجن الرشيد ثمامة بن الأشرس المتكلم لأنه وقف منه على شيء من «1» إعانة أحمد بن عيسى. وفيها توفي حماد- ويقال: سلم- بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر المعروف بسلم الخاسر الشاعر المشهور من أهل البصرة، سمّى الخاسر لأنه ورث من أبيه مصحفا فباعه واشترى بثمنه طنبورا، وقيل: اشترى شعر امرئ القيس، وقيل شعر الأعشى. وكان سلم من الشعراء المجيدين، وهو من تلامذة بشار بن برد المقدم ذكره. وفيها توفي العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، الأمير أبو الفضل الهاشمي العباسي أخو السفاح والمنصور لأبيهما، وأمه أم ولد. ولد في سنة ثمان عشرة ومائة وقيل سنة إحدى وعشرين ومائة، وولي دمشق والشأم كله والجزيرة، وحج بالناس غير مرة. وكان الرشيد يجله ويحبه. وفيها توفي يزيد بن هارون أبو خالد مولى بني سليم، ولد سنة ثمان عشرة ومائة، وكان من الزهاد العباد، كان إذا صلى العتمة لا يزال قائماً حتى يصلي الفجر بذلك الوضوء نيفاً وأربعين سنة. وفيها توفي الأمير يقطين بن موسى أحد دعاة بني العباس، ومن قرر أمرهم في الممالك والأقطار، وكان داهيةً عالماً حازماً شجاعاً عارفاً بالحروب والوقائع.
ذكر الذين أثبت الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي حاتم بن إسماعيل، أو سنة سبع؛ والحارث بن عبيدة الحمصي، وحسان بن إبراهيم الكرماني، وخالد بن الحارث، وصالح بن قدامة الجمحي، وطيفور الأمير مولى المنصور «2» ، والعباد بن العوّام فى قول، والعباس بن الفضل المقرئ، وعبد الرحمن بن عبد الله ابن عمر المدني، وعيسى البخاري غنجار «3» ، والمسيب بن شريك بخلف، والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي.

(2/120)


أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان سواء، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعاً واثنان وعشرون إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 187]
السنة الرابعة من ولاية الليث بن الفضل على مصر وهي سنة سبع وثمانين ومائة- فيها أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفراً ثم صلبه مدة وقطعت أعضاؤه وعلقت بأماكن، ثم بعد مدة أنزلت وأحرقت وذلك في صفر، وحبس الرشيد يحيى ابن خالد بن برمك، أعنى والد جعفر المذكور، وجميع أولاده وأحيط بجميع أموالهم.
وطال حبس يحيى بن خالد المذكور وابنه الفضل إلى أن ماتا في الحبس. وفي سبب قتل جعفر البرمكي اختلاف كبير ليس لذكره «1» هنا محل. وفيها غزا الرشيد بلاد الروم وفتح هرقلة وولى ابنه القاسم الصائفة وأعطاه العواصم، فنازل حصن سنان، فبعث إليه قيصر وسأله أن يرحل عنه ويعطيه ثلثمائة وعشرين أسيراً من المسلمين، ففعل.
وفيها قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك. وسبب قتله أنه كان يبكي على قتل جعفر وما وقع للبرامكة، فكان إذا أخذ منه الشراب يقول لغلامه: هات سيفي فيسله ويصيح: وا جعفراه! ثم يقول: والله لآخذن ثأرك ولأقتلن قاتلك!. فنم عليه ابنه عثمان للفضل بن الربيع فأخبر الفضل الرشيد، فكان ذلك سبب قتله. وفيها توفي الفضيل بن عياض الإمام الجليل أبو علي التميمي اليربوعي. ولد بخراسان بكورة أبيورد وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع الحديث من منصور وغيره ثم تعبد وتوجه إلى مكة وأقام بها إلى أن مات في يوم عاشوراء، قاله علي بن المديني وغيره. وكان ثقةً نبيلاً فاضلاً عابداً زاهداً كثير الحديث. وقيل: إن مولده بسمرقند. وذكر

(2/121)


بإسناده عن الفضل بن موسى قال: كان الفضيل بن عياض شاطراً «1» يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس. وكان سبب توبته أنه عشق جاريةً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع رجلاً يتلو: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ
فقال: يا رب قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال قوم: حتى نصبح فإن فضيلا على الطريق. وقيل في توبته غير ذلك. وأما مناقبه فكثيرة: منها عن بشر الحافي قال: كنت بمكة مع الفضيل فجلس معنا إلى نصف الليل ثم قام يطوف إلى الصبح، فقلت: يا أبا علي ألا تنام؟
فقال: ويحك! وهل أحد يسمع بذكر النار وتطيب نفسه أن ينام!. وقال الأصمعي: نظر الفضيل إلى رجل يشكو إلى رجل، فقال الفضيل: تشكو من يرحمك الى من لا يرحمك!. وسئل الفضيل: ما الإخلاص؟ قال الفضيل: أخبرني من أطاع الله هل تضره معصية أحد؟ قال: لا؛ قال: فمن يعصي الله هل تنفعه طاعة أحد؟ قال: لا؛ قال: فهذا الإخلاص. وعن الفضيل قال: من ساء شان دينه وحسبه ومروءته. وعنه قال: لن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على نفسه ودينه. وقال: خصلتان تقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل. وعنه قال:
إذا أراد الله أن يتحف العبد سلط عليه من يظلمه. واجتمع مع الرشيد بمكة، فقال له الرشيد: إنما دعوناك لتحدثنا بشيء وتعظنا؛ قال: فأقبلت عليه وقلت:

(2/122)


يا حسن الخلق والوجه حساب الخلق كلهم عليك؛ قال: فبكى الرشيد وشهق، فرددت عليه حتى جاء الخدام فحملوني وأخرجوني. وعنه قال: الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحاً، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل. وقال الفضيل: قول العبد أستغفر الله يعني أقلني يا رب.
قلت: روي عن علي بن أبى طالب رضى عنه أنه قال: أتعجب ممن يهلك ومعه النجاة، قيل: وما هو؟ قال: الاستغفار. وقال بعض المشايخ في دعائه:
اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو الاستغفار والإيمان، وعصيت الشيطان في أبغض الأشياء إليك وهو الشرك فاغفرلى ما بينهما. وكان بعض المشايخ يقول أيضا: اللهم إن حسناتي من عطائك وسيئاتي من قضائك، فجد بما أعطيت على ما به قضيت حتى يمحى ذلك بذلك. وفيها قتل جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك قتله الرشيد لأمر اقتضى ذلك واختلف الناس في سبب «1» قتله اختلافاً كبيراً يضيق هذا المحل عن ذكره. وكان قتله في أول صفر من هذه السنة، وصلبه على الجسر وسنه سبع وثلاثون سنة وقتل بعده جماعة كثيرة من أقاربه البرامكة. وكان أصله من الفرس، وكان جعفر جميلاً لسناً أديباً بليغاً عالماً يضرب بجوده الأمثال، إلا أنه كان مسرفا على نفسه غارقا في اللذات؛ تمكن من الرشيد حتى بلغ من الجاه والرفعة ما لم ينله أحد قبله وولي هو وأبوه وأخوه الفضل الأعمال الجليلة. وكان أبوه يحيى قد ضم جعفراً إلى القاضي أبي يوسف يعقوب حتى علمه وفقهه وصار نادرة عصره.
يقال: إنه وقع في ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع ونظر في جميعها، فلم يخرج شيئاً منها عن موجب الفقه والعربية. وكان جعفر مثل أخيه الفضل في السخاء وأعظم. وأما ما حكي من كرمه فكثير: من ذلك أن أبا علقمة الثقفي صاحب الغريب

(2/123)


كان عند جعفر في مجلسه، فأقبلت إليه خنفساء، فقال أبو علقمة: أليس يقال: إن الخنفساء إذا أقبلت إلى رجل أصاب خيرا؟ قالوا: بلى؛ فقال جعفر: يا غلام، أعط الشيخ ألف دينار، ثم نحوها عنه، فأقبلت الخنفساء ثانياً، فقال: يا غلام أعطه ألفاً أخرى. وله من هذا أشياء كثيرة، ثم زالت عنه وعن أهله تلك النعم حتى احتاجت أمه إلى السؤال. قال الذهبي عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي صاحب صلاة الكوفة قال: دخلت على أمي يوم النحر وعندها امرأة في أثواب رثة، فقالت لي أمي: أتعرف هذه؟ قلت: لا؛ قالت: هذه عبادة أم جعفر البرمكي، فسلمت عليها ورحبت بها، ثم قلت: يا فلانة حدثينا بعض أمركم؛ قالت: أذكر لك جملة فيها عبرة، لقد هجم علي مثل هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة جارية ونحرت في بيتي خاصة ثمانمائة رأس، وأنا أزعم أن ابني جعفراً عاق لي، وقد أتيتكم الآن يقنعني جلد شاتين أجعل أحدهما شعاراً «1» والآخر دثاراً.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وإصبعان.
ذكر ولاية أحمد بن إسماعيل على مصر
هو أحمد بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس الأمير أبو العباس الهاشمي العباسي أمير مصر. ولاه الرشيد على صلاة مصر بعد عزل الليث بن الفضل عنها في سنة سبع وثمانين ومائة، فقدمها يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وسكن المعسكر على عادة أمراء بني العباس، وجعل على شرطته معاوية بن صرد. وفي ولايته استنجده إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية فأمده بالعساكر وتوجهوا إليه ثم عادوا.

(2/124)


وكان سبب هذه التجريدة «1» أن أهل طرابلس الغرب كان كثر شغبهم على ولاتهم، وكان ابراهيم بن الأغلب المذكور قد استعمل عليهم عدة ولاة، فكانوا يشكون من ولاتهم فيعزلهم ويولي غيرهم إلى أن استعمل عليهم سفيان بن المضاء وهي ولايته الرابعة، فاتفق أهل البلد على إخراجه عنهم وإعادته إلى القيروان فزحفوا إليه، فأخذ سلاحه وقاتلهم هو وجماعة ممن معه، فأخرجوه من داره فدخل الجامع وقاتلهم فيه فقتلوا من أصحابه جماعة ثم أمنوه فخرج عنهم في شعبان [من هذه السنة «2» ] ، وكانت ولايته سبعاً وعشرين يوما، واستعمل جند طرابلس عليهم إبراهيم بن سفيان التميمي. ثم وقع أيضاً بين الأبناء بطرابلس وبين قوم يعرفون ببني أبي كنانة وبني يوسف حروب كثيرة وقتال حتى فسدت طرابلس؛ فبلغ ذلك إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية فاستنجد أحمد ابن إسماعيل أمير مصر وجمع جمعاً كبيراً وأمرهم أن يحضروا بني أبي كنانة والأبناء وبني يوسف فأحضروهم عنده بالقيروان، فلما قدموا عليه أراد قتلهم الجميع، فسألوه العفو عنهم في الذي فعلوه فعفا عنهم، وعادوا إلى بلادهم بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق بالطاعة. واستمر أحمد هذا على إمرة مصر إلى أن صرف عنها بعبد الله بن محمد العباسي في يوم الاثنين لثمان عشرة خلت من شعبان سنة تسع وثمانين ومائة؛ فكانت ولايته على إمرة مصر سنتين وشهراً ونصف شهر.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 188]
السنة الأولى من ولاية أحمد بن إسماعيل على مصر وهي سنة ثمان وثمانين ومائة- فيها غزا المسلمون الصائفة فبرز إليهم نقفور «3» بجموعه فالتقوا فجرح نقفور ثلاث جراحات وانهزم هو وأصحابه بعد أن قتل من الروم مقتلة عظيمة، فقيل: إن القتلى

(2/125)


بلغت أربعين ألفاً، وقيل: أربعة آلاف وسبعمائة. وفيها حج الرشيد بالناس وهي آخر حجة حجها، وكان الفضيل بن عياض قال له: استكثر من زيارة هذا البيت فإنه لا يحجه خليفة بعدك. وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري، كان إماماً عالماً صاحب سنة وغزو وكان صاحب حال ولسان وكرامات.
قال الفضيل بن عياض: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وإلى جانبه فرجة فذهبت لأجلس فيها، فقال: هذا مجلس أبى إسحاق الفزارىّ. وفيها توفّى إبراهيم ابن ماهان بن بهمن أبو إسحاق الأرجاني النديم المعروف بالموصلي، أصله من الفرس ودخل إلى العراق، ثم رحل إلى البلاد في طلب الأغاني، فبرع فيها بالعربية والعجمية؛ وكان مع ما انتهى إليه من الرياسة في الغناء فاضلاً عالماً أديباً شاعراً؛ نادم جماعة من خلفاء بني العباس؛ وكان ذا مال، يقال: إنه لما مات وجد له أربعة وعشرون ألف ألف درهم، وهو والد إسحاق النديم المغني أيضاً. حكي أن الرشيد كان يهوى جاريته ماردة؛ فغاضبها ودام على ذلك مدة، فأمر جعفر البرمكي العباس بن الأحنف أن يعمل في ذلك شيئاً، فعمل أبياتاً وألقاها إلى إبراهيم الموصلي هذا فغنى بها الرشيد، فلما سمعها بادر إلى ماردة فترضاها، فسألته عن السبب فقيل لها، فأمرت لكل واحد من العباس وإبراهيم بعشرة آلاف درهم، ثم سألت الرشيد أن يكافئهما، فأمر لهما بأربعين ألف درهم. والأبيات:
العاشقان كلاهما متجنب ... وكلاهما متبعد متغضب
صدت مغاضبة وصد مغاضباً ... وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن المتيم قلما يتجنب
إن التجنب إن تطاول منكما ... دب السلو له فعز المطلب

(2/126)


الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إسحاق بن مسور المرادي المصري، وجرير بن عبد الحميد الضبي، والحسين بن الحسن البصرىّ، وسليم ابن عيسى المقرئ، وعبد الملك بن ميسرة الصدفي، وعبدة بن سليمان الكوفي، وعتاب «1» بن بشير الحراني بخلف، وعقبة بن خالد السكوني، وعمر بن أيوب الموصلي، وعيسى بن يونس السبيعي، ومحمد بن يزيد الواسطي، ومعروف بن حسان الضبي، ومهران بن أبي عمر الرازي، ويحيى بن عبد الملك بن أبي غنية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 189]
السنة الثانية من ولاية أحمد بن إسماعيل على مصر وهي سنة تسع وثمانين ومائة- فيها سار الرشيد إلى الري بسبب شكوى أهل خراسان عاملهم علي بن عيسى بن ماهان، فقد «2» رموه بعظائم وذكروا أنه على نية الخروج عن طاعة الرشيد؛ فأقام الرشيد بالري أربعة أشهر حتى وافاه ابن عيسى بالأموال والجواهر والتحف للخليفة ولكبار القواد حتى رضي عنه الرشيد ورده إلى عمله، وخرج مشيعا له لما خرج إلى خراسان.
قلت: لله درّ القائل فى هذا المعنى:
بعثت في حاجتي رسولا ... يكنى أبا درهم فتمت
ولو سواه بعثت فيها ... لم تحظ نفسي بما تمنت
وفيها كان الفداء، حتى لم يبق بممالك الروم في الأسر مسلم. وفيها توفي العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة أبو الفضل الشاعر المشهور حامل لواء

(2/127)


الشعراء في عصره، أصله من غرب خراسان ونشأ ببغداد وقال الشعر الفائق، وكان معظم شعره في الغزل والمديح، وله أخبار مع الخلفاء، وكان حلو المحاضرة مقبولاً عند الخاص والعام، وهو شاعر الرشيد، وخال إبراهيم بن العباس الصولي.
قال ابن خلكان: وحكى عمر بن شبة قال: مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي، والعباس بن الأحنف، وهشيمة «1» الخمارة، فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلّى عليهم، فخرج فصفوا بين يديه فقال: من هذا الأول؟ فقالوا: إبراهيم الموصلي؛ فقال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف، فقدم فصلى عليه، فلما فرغ دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي، فقال: يا سيدي، كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقدمة على من حضر! فقال: لقوله:
وسعى «2» بها ناس وقالوا إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد «3»
فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد
قلت: وفي موت الكسائىّ وابراهيم الموصلي والعباس بن الأحنف في يوم واحد نظر، والصحيح أن وفاة العباس هذا تأخرت عن وفاة هؤلاء المذكورين بمدة طويلة.
ومما يدل على ذلك ما حكاه المسعودي في تاريخه عن جماعة من أهل البصرة، قالوا:
خرجنا نريد الحج، فلما كنا ببعض الطريق إذا غلام واقف ينادي الناس: هل فيكم أحد من أهل البصرة؟ قالوا: فعدلنا إليه وقلنا: ما تريد؟ قال: إنّ مولاى يريد

(2/128)


أن يوصيكم؛ قالوا: فملنا معه وإذا شخص ملقى تحت شجرة لا يحير جواباً، فجلسنا حوله فأحس بنا فرفع طرفه وهو لا يكاد يرفعه ضعفا، وأنشأ يقول:
يا غريب الدار عن وطنه ... مفرداً يبكي على شجنه
كلّما جدّ «1» البكاء؟؟؟ هـ ... دبت الأسقام في بدنه
ثم أغمي عليه طويلاً، ونحن جلوس حوله إذ أقبل طائر فوقع على أعلى الشجرة وجعل يغرد، ففتح عينيه فسمع تغريده ثم قال:
ولقد زاد الفؤاد شجاً ... طائر يبكي على فننه
شفه ما شفني فبكى ... كلنا يبكي على سكنه
ثم تنفس تنفساً فاضت نفسه منه، فلم نبرح من عنده حتى غسلناه وكفناه وتولينا الصلاة عليه. فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنه، فقال: هذا العباس بن الأحنف رحمه الله.
وذكر «2» أبو علىّ الفالى في «كتاب الأمالي» : قال بشار بن برد: ما زال غلام من بني حنيفة (يعني العباس) يدخل نفسه فينا ويخرجها منا حتى قال:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتصباً ... بثقل ما حملوني منهم قعدوا
وقد خرجنا عن المقصود لطلب الفائدة، ونرجع الآن إلى ما نحن بصدده.

(2/129)


وفيها توفي علي بن حمزة «1» بن عبد الله بن بهمن بن فيروز مولى بني أسد، أبو الحسن المعروف بالكسائىّ النحوىّ المقرئ، وسمي بالكسائي لأنه أحرم في كساء. وهو معلم الرشيد وفقيهه وبعده لولديه الأمين والمأمون، وكان إماماً في فنون عديدة: النحو والعربية وأيام الناس، وقرأ القران على حمزة الزيات أربع مرات، واختار لنفسه قراءة صارت إحدى القراءات السبع، وتعلم النحو على كبر سنه، وخرج الى البصرة وجالس الخليل ابن أحمد. وذكر ابن الدورقي قال: اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد، فحضرت العشاء فقدموا الكسائي فأرتج عليه [فى] قراءة (قل يأيّها الكافرون) ؛ فقال اليزيدي: قراءة هذه السورة يرتج [فيها] على قارئ أهل الكوفة!. قال:
فحضرت الصلاة فقدموا اليزيدي فارتج عليه في الحمد؛ فلما سلم قال:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق
وكان الكسائي عند الرشيد بمنزلة رفيعة، سار معه إلى الري فمرض ومات بقرية رنبويه «2» ، ثم مات مع الرشيد محمد بن الحسن الفقية صاحب أبي حنيفة فقال الرشيد لما رجع إلى العراق: [اليوم»
] دفنت الفقه والنحو برنبويه. وفيها توفي محمد بن الحسن الفقيه ابن فرقد الشيباني مولاهم الكوفي الفقيه العلامة شيخ الإسلام وأحد العلماء الأعلام مفتى العراقين أبو عبد الله، قيل: إن أصله من حرستا «4» من غوطة دمشق، ومولده بواسط ونشأ بالكوفة وتفقه بأبي يوسف ثم بأبي حنيفة وسمع مسعراً ومالك

(2/130)


ابن مغول والأوزاعي ومالك بن أنس؛ وأخذ عنه الشافعي وأبو عبيد وهشام بن عبيد الله وعلي بن مسلم الطوسي وخلق سواهم؛ وكان إماماً فقيهاً محدثاً مجتهداً ذكياً، انتهت إليه رياسة العلم في زمانه بعد موت أبي يوسف. قال أبو عبيد: ما رأيت أعلم بكتاب الله منه. وقال الشافعي: لو أشاء أن أقول نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلت لفصاحته، وقد حملت عنه وقر «1» بختي كتباً. وقال إبراهيم الحربي:
قلت لأحمد بن حنبل: من أين لك هذه المسائل الدّقاق؟ قال: من كتب محمد ابن الحسن. وعن الشافعي قال: ما ناظرت أحداً إلا تغير وجهه ما خلا محمد بن الحسن. وقال أحمد بن محمد بن أبي رجاء: سمعت أبي يقول: رأيت محمد بن الحسن في النوم فقلت: إلام صرت؟ قال: غفرلى؛ قلت: بم؟ قال:
قيل لي: لم نجعل هذا العلم فيك إلا ونحن نغفر لك.
قلت: وقد تقدم في ترجمة الكسائي أنهما ماتا في صحبة الرشيد بقرية رنبويه من الري، فقال الرشيد: دفنت الفقه والعربية بالري.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبعان.
ذكر ولاية عبد الله بن محمد على مصر
هو عبد «2» الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، الأمير أبو محمد الهاشمي العباسي المعروف بابن زينب، ولاه الرشيد إمرة مصر على الصلاة بعد عزل أحمد بن إسماعيل سنة تسع وثمانين ومائة. ولما ولي مصر أرسل يستخلف

(2/131)


على صلاة مصر لهيعة بن موسى «1» الحضرمي، فصلى لهيعة المذكور بالناس إلى أن قدم عبد الله بن محمد المذكور إلى مصر في يوم السبت للنصف من شوال سنة تسع وثمانين ومائة المذكورة؛ وسكن المعسكر على عادة أمراء بني العباس، ثم جعل على شرطته أحمد بن حوىّ «2» العذري مدة، ثم عزله وولى محمد بن عسّامة. ولم تطل مدة عبد الله المذكور على إمرة مصر وعزل بالحسين بن جميل لإحدى عشرة بقيت من شعبان سنة تسعين ومائة. وخرج عبد الله من مصر واستخلف على صلاتها هاشم بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج؛ فكانت مدة ولاية عبد الله هذا على مصر ثمانية أشهر وتسعة عشر يوماً. وتوجه إلى الرشيد فأقره الرشيد من جملة قواده وأرسله على جماعة نجدة لعلي بن عيسى لقتال رافع بن الليث بن نصر بن سيار، وكان رافع ظهر بما وراء النهر مخالفاً للرشيد بسمرقند. وكان سبب خروج رافع أن يحيى بن الأشعث تزوج ابنة لعمه أبي النعمان وكانت ذات يسار ولسان، ثم تركها يحيى بن الأشعث بسمرقند وأقام ببغداد واتخذ السراري، فلما طال ذلك عليها أرادت التخلص منه، وبلغ رافعاً خبرها فطمع فيها وفي مالها،؟؟؟ دس إليها من قال لها:
لا سبيل إلى الخلاص من زوجها إلا أن تشهد عليها قوماً أنها أشركت بالله ثم تتوب فينفسخ نكاحها وتحل للأزواج، ففعلت ذلك فتزوجها رافع. فبلغ الخبر يحيى بن الأشعث فشكا إلى الرشيد، فكتب الرشيد إلى علي بن عيسى يأمره أن يفرق بينهما وأن يعاقب رافعاً ويجلده الحد ويقيده ويطوف به في سمرقند على حمار [حتى يكون عظة «3» لغيره] ففعل به ذلك ولم يحدّه، وحبس رافع

(2/132)


بسمرقند مدة، ثم هرب من الحبس فلحق بعلي بن عيسى ببلخ، فأراد ضرب عنقه فشفع فيه عيسى بن علي بن عيسى، وأمره بالانصراف إلى سمرقند، فرجع إليها ووثب بعامل علي بن عيسى عليها وقتله واستولى على سمرقند واستفحل أمره حتى خرجت إليه العساكر وأخذته وقتل بعد أمور. ولما عاد عبد الله صاحب الترجمة إلى الرشيد سأله في إمرة مصر ثانياً فأبى واستمر عند الرشيد الى أن مات.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 190]
السنة التي حكم فيها عبد الله بن محمد العباسي على مصر وهي سنة تسعين ومائة- فيها افتتح الرشيد مدينة هرقلة «1» وبث جيوشه بأرض الروم وكان في مائة ألف فارس وخمسة وثلاثين ألفاً سوى المطوعة، وجال الأمير داود بن موسى بن عيسى العباسي في أرض الكفر وكان في سبعين ألفاً؛ وكان فتح هرقلة في شوال، وأخربها وسبى أهلها، وكان الحصار ثلاثين يوماً. وفيها افتتح شراحيل بن معن بن زائدة الشيباني حصن الصقالبة بالمغرب. وفيها أسلم الفضل بن سهل المجوسىّ على يد المأمون ابن الرشيد. وفيها بعث نقفور ملك الروم إلى الرشيد بالخراج «2» والجزية. وفيها نقضت أهل قبرس [العهد] ، فغزاهم ابن يحيى وقتل وسبى. وفيها افتتح يزيد بن مخلد الصفصاف «3» وملقونية «4» . وفيها توفي يحيى بن خالد بن برمك في حبس الرشيد، ويحيى هذا هو والد جعفر البرمكي- وقد تقدم ذكر جعفر وقتله في محله من هذا الكتاب-.
وفيها توفى سعدون المجنون، كان صاحب محبة وحال، صام ستين عاماً حتى خفّ

(2/133)


دماغه فسماه الناس مجنوناً. قيل: إنه وقف يوماً على حلقة ذي النون [المصري] وهو يعظ الناس فسمع سعدون كلامه، فصرخ وقال:
ولا خير في شكوى إلى غير مشتكى ... ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها مات أسد بن عمرو البجلي الفقيه، وإسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين مقرئ مكة في قول، والحكم بن سنان الباهلي القربىّ «1» ، وشجاع بن أبى نصر البلخىّ المقرئ، وعبد الله بن عمر «2» بن غانم قاضي إفريقية، وأبو علقمة عبد الله بن محمد الفروي «3» المدني، وعبد الحميد بن كعب بن علقمة المصري، وعثمان بن عبد الحميد اللاحقي، وعبيدة بن حميد الكوفي الحذاء «4» ، وعطاء بن مسلم الحلبي الخفاف، وعمر بن علي المقدمي، ومحمد بن بشير المعافري بحلب، ومحمد بن يزيد الواسطي، ومخلد بن الحسين في رواية، ومسلمة بن علي الخشني «5» ، ويحيى بن أبي زكريا الغساني بواسط، ويحيى بن ميمون البغدادي التمار.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.
ذكر ولاية الحسين بن جميل على مصر
هو الحسين بن جميل مولى أبي جعفر المنصور أمير مصر، ولاه الرشيد إمرة مصر بعد عزل عبد الله بن محمد العباسي عنها على الصلاة في سنة تسعين ومائة، فقدم

(2/134)


مصر يوم الخميس لعشر خلون من شهر رمضان من السنة المذكورة وسكن المعسكر؛ وجعل على شرطته كاملاً الهنائي ثم معاوية بن صرد، ثم جمع له الرشيد بين الصلاة والخراج في يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر رجب سنة إحدى وتسعين ومائة.
ولما ولي الخراج تشدد فيه فخرج عليه أهل الحوف بالشرق من الوجه البحري وامتنعوا من أداء الخراج، وخرج عليهم أبو النداء بأيلة «1» في نحو ألف رجل وقطع الطريق وأخاف السبل، وتوجه من أيلة إلى مدين، وأغار على بعض نواحي قرى الشأم وآنضم إليه من جذام وغيرها جماعة كبيرة وأفسدوا غاية الإفساد، وبلغ أبو النداء المذكور من النهب والقتل مبلغاً عظيماً، حتى بلغ الرشيد أمره، فجهز إليه جيشاً من بغداد لقتاله. ثم بعث الحسين بن جميل هذا من مصر عبد العزيز الجززىّ «2» في عسكر آخر فالتقى عبد العزيز بأبي النداء المذكور بأيلة وقاتله بمن معه حتى هزمه وظفر به.
وعند ما ظفر عبد العزيز بأبي النداء المذكور وصل جيش الخليفة الرشيد إلى بلبيس في شوال سنة إحدى وتسعين ومائة، فلما رأى أهل الحوف مسك كبيرهم ومجيء عسكر الخليفة أذعنوا بالطاعة وأدوا الخراج وحملوا ما كان انكسر عليهم بتمامه وكماله.
فلما وقع ذلك عاد عسكر الرشيد إلى بغداد. وأخذ الحسين هذا في إصلاح أمور مصر.
فبينما هو في ذلك قدم عليه الخبر بعزله عن إمرة مصر بمالك بن دلهم وذلك في يوم ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين ومائة، فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وسبعة أشهر وأياما.

(2/135)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 191]
السنة التي حكم فيها الحسين بن جميل على مصر وهي سنة إحدى وتسعين ومائة- فيها حج بالناس أمير مكة الفضل بن العباس. وفيها ولى الرشيد حمويه الخادم [بريد «1» ] خراسان. وفيها غزا يزيد بن مخلد الروم في عشرة آلاف مقاتل، فأخذ الروم عليه المضيق، فقتل بقرب طرسوس وقتل معه سبعون رجلاً من المقاتلة ورجع الباقون، فولى الرشيد غزو الصائفة هرثمة بن أعين المتقدم ذكره في أمراء مصر في محله، وضم إليه الرشيد ثلاثين ألفاً من جند خراسان، ووجه معه مسروراً الخادم، وإلى مسرور المذكور النفقات في الجيش المذكور وجميع أمور العسكر، خلا الرياسة على الجيش فإن ذلك لهرثمة بن أعين المذكور. وفيها نزل الرشيد بالرقة وأمر بهدم الكنائس التي بالثغور. ثم عزل علي بن عيسى بن ماهان عن إمرة خراسان بهرثمة بن أعين المذكور. وبعد هذه الغزوة لم يكن للمسلمين صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين.
وفيها توفي عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي (بفتح السين المهملة) أبو عمرو الكوفي، كان محدثاً حافظاً زاهداً ورعاً. قال جعفر البرمكي: ما رأينا مثل ابن يونس، أرسلنا إليه فأتانا بالرقة، وحدث المأمون فاعتل قبل خروجه؛ فقلت: يا أبا عمرو، قد أمر لك بخمسين ألف درهم؛ فقال: لا حاجة لي فيها؛ فقلت: هي مائة ألف؛ فقال: لا والله، لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمناً. وفيها توفى مخلد ابن الحسين أبو محمد البصري، كان من أهل البصرة فتحول إلى المصيصة ورابط بها، وكان عالماً زاهداً ورعاً حافظاً للسنة، لا يتكلم فيما لا يعنيه.

(2/136)


الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي خالد بن حيان الرقي الخراز «1» ، وسلمة بن الفضل الأبرش بالري، وعبد الرحمن بن القاسم المصري الفقيه، وعيسى بن يونس في قول خليفة وابن سعد، ومخلد بن الحسين المهلبي بالمصيصة، ومطرف بن مازن قاضى صنعاء، ومعمّر بن سليمان النّخعىّ الرّقّىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.
ذكر ولاية مالك بن دلهم على مصر
هو مالك بن دلهم بن عيسى «2» بن مالك الكلبي أمير مصر، ولاه الرشيد إمرة مصر بعد عزل الحسين بن جميل عنها، ولاه على الصلاة والخراج، فقدم مصر يوم الخميس لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين ومائة. ولما دخل مالك هذا إلى مصر وافى خروج يحيى بن معاذ أمير جيش الرشيد الذي كان أرسله نجدة للحسين ابن جميل على قتال أبي النداء الخارجي. وكان يحيى بن معاذ خرج من مصر ثم عاد إليها بعد عزل الحسين بن جميل. ولما دخل يحيى المذكور الفسطاط كتب إلى أهل الأحواف أن اقدموا علي حتى أوصي بكم مالك بن دلهم أمير مصر، وكان مالك المذكور قد نزل بالمعسكر وسكنه على عادة أمراء مصر، فدخل رؤساء اليمانية والقيسية من الحوف، فأغلق عليهم يحيى الأبواب وقبض عليهم وقيدهم وسار بهم، وذلك في نصف شهر رجب من السنة. واستمر مالك بن دلهم على إمرة مصر بعد ذلك مدة، وجعل على شرطته محمد «3» بن توبة بن آدم الأودي من أهل حمص،

(2/137)


فاستمر على ذلك إلى أن صرفه الخليفة بالحسن بن البحباح «1» في يوم الأحد لأربع خلون من صفر سنة ثلاث وتسعين ومائة. فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وخمسة أشهر تنقص أياماً لدخوله مصر وتزيد أياماً لولايته ببغداد من الرشيد.
وكان سبب عزله أن الأمين أرسل إليه في أول خلافته بالدعاء على منابر مصر لابنه موسى، واستشاره في خلع أخيه المأمون من ولاية العهد فلم يشر عليه. وكان الذي أشار على الأمين بخلع أخيه المأمون الفضل بن الربيع الحاجب، وكان المأمون يغض من الفضل، فعلم الفضل إن أفضت الخلافة للمأمون وهو حي لم يبق عليه، فأخذ في إغراء الأمين بخلع أخيه المأمون والبيعة لابنه موسى بولاية العهد، ولم يكن ذلك في عزم الأمين، ووافقه على هذا علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما؛ فرجع الأمين إلى قولهم وأحضر عبد الله بن خازم، فلم يزل في مناظرته إلى «2» الليل، فكان مما قال عبد الله بن خازم: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تكون أول الخلفاء نكث عهد أبيه ونقض ميثاقه! ثم جمع الأمين القواد وعرض عليهم خلع المأمون فأبوا ذلك، وساعده قوم منهم، حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم فقال: يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك، لا «3» تجرّئ القواد على الخلع فيخلعوك ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول والناكث «4» مغلول. فأقبل الأمين على علي بن عيسى بن ماهان وتبسم وقال: لكن شيخ هذه الدعوة وناب «5» هذه الدولة لا يخالف على إمامه «6» ولا يوهن طاعته؛ لأنه هو والفضل ابن الربيع حملاه على خلع المأمون. ثم انبرم الأمر على أن يكتب للعمال بالدعاء لابنه

(2/138)


موسى ثم بعد ذلك بخلع المأمون، فكتب بذلك لجميع العمال. فلما بلغ ذلك المأمون أسقط اسم الأمين من الطرز وبدت الوحشة بين الأخوين الخليفة الأمين ثم المأمون، وانقطعت البرد من بينهما، فأخذ الأمين يولي الأمصار من يثق به، فعزل مالكاً هذا عن مصر وولى عليها الحسن، كما سيأتي ذكره.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 192]
السنة التي حكم فيها مالك بن دلهم على مصر وهي سنة اثنتين وتسعين ومائة- فيها قدم يحيى بن معاذ على الرشيد ومعه أبو النداء أسيراً فقتله. وفيها قتل الرشيد هيصماً اليماني «1» وكان قد خرج عليه. وفيها تحركت الخرمية «2» ببلاد أذربيجان، فسار إلى حربهم عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فقتل وسبى وعاد منصوراً. وفيها توفي إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن [أبي «3» ] وداعة أبو القاسم المكي، كان قد قرأ القرآن وسمع الحديث، ثم غلب عليه الغناء حتى فاق فيه أهل زمانه، وأخذ عن زلزل المغني وغيره. وفيها توفي عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن، أبو محمد الأودي، مولده سنة خمس عشرة ومائة، وقيل: سنة عشرين ومائة، وتوفي بالكوفة في عشر ذي الحجة. وكان ثقة إماماً زاهداً ورعاً حجة كثير الحديث صاحب سنة وجماعة، كان لا يستقضى أحداً يسمع عليه الحديث حاجة. وفيها توفي علي بن ظبيان أبو الحسن العبسي الكوفي، كان إماماً عالماً جليلاً نبيلاً متواضعاً زاهداً عارفا

(2/139)


بالفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، تقلد قضاء القضاة عن الرشيد. وفيها «1» توفي الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي في حبس الرشيد، كان قد حبسه الرشيد هو وأباه بعد قتل أخيه جعفر، فحبسا إلى أن مات أبوه يحيى، ثم مات الفضل هذا بعده وكلاهما في حبس الرشيد. وكان الفضل هذا متكبراً جداً عسر الخلق إلا أنه كان أجود من أخيه جعفر وأندى راحة؛ ومولده في ذي الحجة سنة سبع وأربعين ومائة، وكان أسن من هارون الرشيد بنحو شهر، لأن مولد الرشيد في أول يوم من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائة، فأرضعت الخيزران أم الرشيد الفضل وأرضعت أم الفضل الرشيد أياماً، وأم الفضل هي زبيدة بنت منير بن يزيد من مولدات المدينة. ولما مات الفضل حزن الناس عليه وعلى أبيه وأخيه جعفر من قبله، وفيه يقول بعضهم:
يا بني برمك واهاً لكم ... ولأيامكم المقتبله
كانت الدنيا عروساً بكم ... وهي اليوم ملول أرمله
وفيها توفي القاضي أبو يعقوب يوسف بن القاضي أبي يوسف يعقوب صاحب أبي حنيفة، كان ولي القضاء في حياة أبيه وكان إماماً عالماً.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم، قال: وفيها توفي صعصعة بن سلام خطيب قرطبة، وعبد الله بن إدريس الأودي، ويحيى بن كريب الرعيني المصري، ويوسف ابن القاضي أبي يوسف، وعرعرة بن البرند «2» السامي البصري.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.

(2/140)


ذكر ولاية الحسن بن البحباح «1» على مصر
هو الحسن بن البحباح أمير مصر، وليها بعد عزل مالك بن دلهم عنها في صفر سنة ثلاث وتسعين ومائة. ولما ولاه الرشيد على إمرة مصر جمع له بين الصلاة والخراج، فأرسل الحسن هذا يستخلف على صلاة مصر العلاء بن عاصم الخولاني حتى قدم مصر يوم الاثنين لثلاث خلون من شهر ربيع الأوّل من السنة، وسكن المعسكر، وجعل على شرطته محمد بن خالد «2» مدة، ثم عزله بصالح بن عبد الكريم ثم عزل صالح المذكور بسليمان بن غالب بن جبريل، واستمر الحسن هذا على إمرة مصر إلى أن توفي الخليفة هارون الرشيد في جمادى الآخرة من السنة وولي الخلافة ابنه الأمين محمد بن زبيدة، فثار جند مصر على الحسن هذا وقاتلوه، فقتل من «3» الفريقين مقتلة عظيمة حتى سكن الأمر، وجمع مال الخراج بمصر وأرسله إلى الخليفة.
فوثب أهل الرملة «4» على أصحاب المال وأخذوا المال منهم. وبينما الحسن في ذلك ورد عليه الخبر بعزله عن مصر بحاتم بن هرثمة، فخرج من مصر بعد أن استخلف عوف ابن وهيب «5» على الصلاة، ومحمد بن زياد على الخراج، وسافر من طريق الحجاز لفساد طريق الشأم. وكان خروجه من مصر لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين ومائة. فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وشهرا وثمانية وعشرين يوما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 193]
السنة التي حكم فيها الحسن بن البحباح على مصر وهي سنة ثلاث وتسعين ومائة- فيها وافى الرشيد جرجان، فأتته بها خزائن علي بن عيسى على ألف

(2/141)


وخمسمائة بعير، ثم رحل الرشيد منها في صفر وهو عليل إلى طوس فلم يزل بها إلى أن مات في ثالث جمادى الآخرة. وفيها كانت وقعة بين هرثمة وأصحاب رافع بن الليث فانتصر هرثمة وأسر أخا رافع وملك بخارا وقدم بأخي رافع إلى الرشيد فسبه ودعا بقصاب وقال: فصل أعضاءه، ففصله. وذكر بعضهم أن جبريل بن بختيشوع الحكيم غلط في مداواة الرشيد في علته التي مات فيها فهم الرشيد بأن يفصله كما فعل بأخي رافع ودعا به؛ فقال جبريل: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين فإنك تصبح في عافية فأنظره فمات الرشيد في ذلك اليوم. وفيها قتل نقفور ملك الروم في حرب برجان «1» ، وكان له في المملكة تسع «2» سنين، وملك بعده ابنه استبراق شهرين وهلك فملك ميخائيل بن جورجس زوج أخته. وفيها توفي الخليفة أمير المؤمنين أبو جعفر هارون الرشيد بن الخليفة محمد المهدىّ بن الخليفة أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، العباسي الهاشمي البغدادي وهو الخامس من خلفاء بني العباس وأجلهم وأعظمهم، نال في الخلافة ما لم ينله خليفة قبله، استخلف بعهد من أبيه المهدي بعد وفاة أخيه موسى الهادي، فإن أباه المهدي كان جعله ولي عهده بعد أخيه الهادي، فلما مات الهادي حسبما تقدم ذكره ولي الرشيد بالعهد السابق من أبيه، وذلك في سنة سبعين ومائة، ومولده بالري لما كان أبوه أميراً عليها في أول يوم من محرم سنة ثمان وأربعين ومائة، ومات في ثالث جمادى الآخرة بطوس، وصلى عليه ابنه صالح ودفن بطوس؛ وأمه أم ولد تسمى الخيزران وهي أم أخيه الهادي أيضاً.

(2/142)


قال عبد الرزاق بن همام: كنت مع الفضيل بن عياض بمكة فمر هارون الرشيد، فقال الفضيل: الناس يكرهون هذا وما في الأرض أعز علي منه، لو مات لرأيت أموراً عظاماً. وقال الجاحظ: اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره: وزراؤه البرامكة، وقاضيه أبو يوسف، وشاعره مروان بن أبي حفصة، ونديمه العباس بن محمد عم أبيه، وحاجبه الفضل بن الربيع أتيه الناس وأعظمهم، ومغنيه إبراهيم الموصلىّ، وزوجته زبيدة بنت عمه جعفر اهـ. وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين ونصفاً، وتولى الخلافة من بعده ابنه محمد الأمين بن زبيدة. ومات الرشيد وله خمس وأربعون سنة. وفيها نوفّى صالح [بن عمرو «1» ] بن محمد بن حبيب بن حسان، الحافظ أبو علي البغدادي مولى أسد بن خزيمة المعروف بجزرة (بجيم وزاي معجمة وراء مهملة) ، لقب بجزرة لأنه قرأ على بعض مشايخ الشأم: «كان لأبي أمامة جزرة يرقي بها المرضى» ، فصحف خرزة جزرة فسمي بذلك «2» ؛ وكان إماماً عالماً حافظاً ثقة صدوقاً. وفيها توفي غندر «3» واسمه محمد أبو عبد الله البصري الحافظ، سمع الكثير وروى عنه خلائق، وكان فيه سلامة باطن. قال ابن معين: اشترى غندر سمكاً وقال لأهله: أصلحوه، فأصلحوه وهو نائم وأكلوا ولطخوا يده وفمه؛ فلما انتبه قال: قدموا السمك، فقالوا: قد أكلت، فقال: لا، قالوا: فشم يدك، ففعل فقال: صدقتم، ولكني ما شبعت.

(2/143)


الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إسماعيل «1» بن علية أبو بشر البصري، والعباس بن الأحنف الشاعر المشهور، والعباس بن الحسن العلوي، والعباس بن الفضل بن الربيع الحاجب، وعبد الله بن كليب المرادىّ بمصر، وعون بن عبد الله المسعودي، ومحمد بن جعفر البصري، ومروان بن معاوية الفزاري نزيل دمشق، وأبو بكر بن عيّاش المقرئ بالكوفة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
ذكر ولاية حاتم بن هرثمة على مصر
هو حاتم بن هرثمة بن أعين أمير مصر، وليها بعد عزل الحسن بن البحباح عنها، ولاه الخليفة الأمين محمد على إمرة مصر وجمع له الصلاة والخراج؛ وسار من بغداد حتى قدم بلبيس في عساكره ونزل بها، وطلب أهل الأحواف فجاءوه وصالحوه على خراجهم، ثم انتقض ذلك وثاروا عليه واجتمعوا على قتاله وعسكروا؛ فبعث إليهم حاتم المذكور جيشاً فقاتلوهم وكسروهم ثم سار حاتم من بلبيس حتى دخل مصر يوم الأربعاء لأربع خلون من شوال سنة أربع وتسعين ومائة ومعه نحو مائة من الرهائن من أهل الحوف.
وسكن حاتم المعسكر على عادة أمراء مصر وجعل على شرطه ابنه، ثم عزله بعلي بن المثنى، ثم عزل علياً أيضاً بعبيد الله الطرسوسي. واستمر على إمرة مصر ومهد أمورها وابتنى بها القبّة المعروفة بقبّة الهواء. ودام على ذلك حتى ورد عليه الخبر من الخليفة

(2/144)


الأمين محمد بعزله عن إمرة مصر في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة.
وتولى مصر بعده جابر بن الأشعث. فكانت ولاية حاتم هذا على إمرة مصر سنة واحدة ونصف سنة تنقص أياما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 194]
السنة التى حكم فيها حاتم بن هرثمة على مصر وهي سنة أربع وتسعين ومائة- فيها أمر الخليفة الأمين بالدعاء لابنه موسى على المنابر بعد ذكر المأمون والقاسم، فتنكر كل واحد من الأمين والمأمون لصاحبه وظهر الفساد بينهما وهذا أول الشر والفتنة بين الأخوين. ثم أرسل الأمين في أثناء السنة إلى المأمون يسأله أن يقدم ولد الأمين موسى المذكور على نفسه ويذكر له أنه سماه الناطق بالحق؛ فقويت الوحشة بينهما أكثر، ووقع أمور يأتي ذكر بعضها. ثم عزل الأمين أخاه القاسم عن الثغور والعواصم وولى عوضه خزيمة بن خازم، واستدعى القاسم إلى بغداد وأمره بالمقام عنده. وفيها ثار أهل حمص بعاملهم إسحاق بن سليمان فنزح إلى سلمية «1» فولى عليهم الأمين عبد الله بن سعيد الحرشي؛ فحبس عدة من وجوههم، وقتل عدّة وضرب النار في نواحي حمص؛ فسألوه الأمان فأمّنهم فسكنوا ثم هاجوا فقتل طائفة منهم. وفيها في شهر ربيع الأول بايع الأمين بولاية العهد لابنه موسى ولقبه بالناطق بالحق، وجعل وزيره علي بن عيسى بن ماهان. وكان المأمون لما بلغه عزل القاسم عن الثغور قطع البريد «2» عن الأمين وأسقطه اسمه من

(2/145)


الطرز والسكة «1» . وفيها وثب الروم على ملكهم ميخائيل فهرب وترهب، وكان ملك سنتين، فملكوا عليهم ليون القائد. وفيها توفي حفص بن غياث بن طلق أبو «2» عمر النخعي الكوفي قاضي بغداد بالوجه الشرقي، ولي القضاء مدة طويلة وحسنت سيرته إلى أن مات قاضياً في ذي الحجة، وكان ثقة ثبتاً مأموناً إلا أنه كان يدلس.
وفيها توفي أبو نصر الجهني المصاب من أهل المدينة. قال محمد بن إسماعيل بن أبي فديك: كان يجلس مكان أهل الصفة من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكلم أحداً، فإذا سئل عن شيء أجاب بجواب حسن، ووقع له مع الرشيد أمور ودفع إليه أموالاً فلم يقبلها.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي سالم بن سالم البلخي العابد ضعيف، وسويد بن عبد العزيز قاضي بعلبك، وشقيق بن إبراهيم البلخي الزاهد، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وعبيد الله بن المهدي محمد بن المنصور، وأبو عبد الله محمد بن حرب الخولاني «3» الأبرش، ومحمد بن سعيد بن أبان الأموي الكوفي، ومحمد بن أبي عدي، ويحيى بن سعيد بن أبان الأموي، والقاسم بن يزيد الجرمي «4» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً.

(2/146)