النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 295]
السنة الرابعة من ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر، وهى سنة خمس وتسعين ومائتين- فيها كان الفداء بين المسلمين وبين الروم، فكانت عدّة من فودى من المسلمين ثلاثة آلاف إنسان. وفيها بعث الخليفة المكتفى خاقان البلخىّ الى إقليم أذربيجان لحرب يوسف بن أبى الساج فسار في أربعة آلاف. وفيها في ذى القعدة مات الخليفة المكتفى بالله أبو محمد علىّ بن المعتضد بالله أحمد ابن ولىّ العهد طلحة الموفّق ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر بن محمد المعتصم بن الرشيد هارون بن المهدىّ محمد بن أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس العباسىّ الهاشمىّ أمير المؤمنين؛ ولد سنة أربع وستين ومائتين، وكان يضرب المثل بحسنه فى زمانه، كان معتدل القامة «3» درّىّ اللون أسود الشعر حسن اللحية جميل الصورة، وأمّه أمّ ولد تسمّى خاضع. بويع بالخلافة بعد موت والده المعتضد في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين ومائتين، وكانت خلافته ستة أعوام ونصفا، وبويع بالخلافة بعده أخوه جعفر المقتدر. وخلّف المكتفى في بيت المال خمسة عشر ألف ألف دينار،

(3/162)


وهو الذي خلّفه المعتضد وزاد على ذلك المكتفى أمثالها. وفيها توفّى إبراهيم بن محمد ابن نوح بن عبد الله الحافظ أبو إسحاق النّيسابورىّ، كان إمام عصره بنيسابور في معرفة الحديث والعلل والرجال والزهد والورع، وكان الإمام أحمد بن حنبل يثنى عليه. وفيها توفى أبو «1» الحسين أحمد بن محمد [بن الحسين «2» ] النّورىّ البغدادىّ المولد والمنشأ «3» ، وأصله من خراسان من قرية بين هراة ومرو الروذ. وإنما سمّى النّورىّ لأنه كان إذا حضر في مكان ينوّر «4» ، كان أعظم مشايخ الصوفيّة في وقته، كان صاحب لسان وبيان، كان من أقران الجنيد بل أعظم. وفيها توفّى إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان أحد ملوك السامانية، وهم أرباب الولايات بالشاش «5» وسمرقند وفرغانة وما وراء النهر، ولى إمرة خراسان بعد عمرو بن الليث الصفّار، وكان ملكا شجاعا صالحا بنى الرّبط «6» فى المفاوز وأوقف عليها الأوقاف، وكل رباط يسع ألف فارس، وهو الذي كسر الترك؛ ولمّا توفّى تمثّل الخليفة بقول أبى نواس:
لم يخلق «7» الدهر مثله أبدا ... هيهات هيهات شأنه عجب

(3/163)


وفيها توفى أبو حمزة «1» الصّوفىّ الصالح الزاهد الورع، كان من أقران الجنيد وأبى تراب النّخشبىّ، كان من كبار مشايخ القوم وأزهدهم وأورعهم وأفتاهم «2» ، وله المجاهدات والرياضات المشهورة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسين النّورىّ شيخ الصوفيّة أحمد بن محمد، وإبراهيم بن أبى طالب الحافظ، وإبراهيم بن معقل قاضى نسف «3» ، والحسن بن على المعمرىّ «4» ، والحكم بن معبد «5» الخزاعىّ، وأبو شعيب «6» الحرّانىّ، والمكتفى بالله بن المعتضد، وأبو جعفر محمد بن أحمد التّرمذىّ الفقيه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث أصابع، مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 296]
السنة الخامسة من ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر، وهى سنة ستّ وتسعين ومائتين- فيها خلع الخليفة جعفر المقتدر من الخلافة وبويع عبد الله بن المعتزّ بالخلافة، وسبب خلعه صغر سنّه وقصوره عن تدبير الخلافة واستيلاء أمّه والقهرمانة على الخلافة، وكانت أمّه أمّ ولد تسمّى شغب؛ فآتفق الجند على قتله وقتل وزيره

(3/164)


العبّاس [بن الحسن «1» ] وقتل فاتك المعتضدىّ، وثبوا على هؤلاء وقتلوهم. وكان المقتدر بالحلبة يلعب بالصّوالجة «2» - أعنى بالكرة على عادة الملوك- فلما بلغه قتلهم نزل وأغلق باب القصر؛ فبايعوا عبد الله بن المعتزّ بشروط شرطها عبد الله عليهم، وكان عبد الله بن المعتزّ أشعر بنى العباس و [من] خيارهم؛ ولقّبوه بالمنصف بالله، وقيل: بالغالب بالله، وقيل: بالراضى بالله، وقيل: بالمرتضى؛ واستوزر محمد بن داود بن الجرّاح.
ولما بلّغ هذا الخبر الى أبى جعفر الطبرىّ قال: ومن رشّح للوزارة؟ قالوا: محمد بن داود؛ قال: ومن ذكر للقضاء؟ قالوا: أبو المثنّى أحمد بن يعقوب؛ ففكّر طويلا وقال:
هذا أمر لا يتمّ؛ قيل: ولم؟ قال: لأن كلّ واحد من هؤلاء الذين ذكرتم مقدّم فى نفسه عالى الهمة رفيع الرتبة في أبناء جنسه، والزمان مدبر والدولة مولّية. وكان كما قال.
وخلع عبد الله بن المعتزّ من يومه وقتل من الغد؛ وكانت خلافته يوما وليلة، وقيل:
بل نصف نهار وهو الأصحّ. وقتل ابن المعتزّ ووصيف بن صوارتكين ويمن الخادم وجماعة من القضاة والفقهاء الذين اتفقوا على خلع المقتدر، قتلهم مؤنس الخادم، وأعيد جعفر المقتدر الى الخلافة. وفيها استوزر المقتدر أبا الحسن علىّ بن محمد بن الفرات.
وفيها أمر المقتدر ألّا يستخدم أحد [من] اليهود والنصارى إلا في الطب والجهبذة فقط، وأن يطالبوا بلبس العسلىّ وتعليق الرّقاع المصبوغة بين أظهرهم «3» . وفيها وقع ببغداد ثلج في كانون في أوّل النّهار الى العصر وأقام أيّاما لم يذب. وفيها انصرف أبو عبد الله

(3/165)


الداعى إلى سجلماسة «1» فافتتحها وأخرج المهدىّ عبيد الله «2» وولده من حبس اليسع [ابن مدرار «3» ] وأظهر أمره وأعلم أصحابه أنّه صاحب دعوته وسلّم عليه بأمير المؤمنين، وذلك في سابع ذى الحجة من سنة ستّ هذه. وعبيد الله هذا هو والد الخلفاء الفاطميّين وهو أوّل من ظهر منهم كما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب فى ترجمة المعزّ وغيره. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن هانئ أبو بكر الطائى الأثرم الحافظ، سمع الكثير ورحل [الى] البلاد وصنّف علل الحديث والناسخ والمنسوخ في الحديث، وكان حافظا ورعا متقنا. وفيها توفّى أمير المؤمنين أبو العبّاس عبد الله ابن الخليفة المعتزّ بالله محمد ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة محمد المهدىّ ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ، الشاعر الأديب صاحب الشعر البديع والتشبيهات الرائقة والنثر الفائق، أخذ العربيّة والأدب عن المبرّد وثعلب وعن مؤدّبه أحمد بن سعيد الدمشقىّ، ومولده في شعبان سنة تسع وأربعين ومائتين، وأمّه أمّ ولد تسمّى خاين «4» ، بويع بالخلافة بعد خلع المقتدر وكاد أمره أن يتمّ ثم تفرّق عنه جمعه فقبض عليه وقتل سرّا في شهر ربيع الآخر، كما ذكرناه في أوّل هذه السنة. ومن شعره:
انظر إلى اليوم ما أحلى شمائله ... صحو وغيم وإبراق وإرعاد
كأنّه أنت يا من لا شبيه له ... وصل وهجر وتقريب وإبعاد

(3/166)


وله في خال مليح:
أسفر ضوء الصبح من وجهه ... فقام خال الخدّ فيه بلال
كأنّما الحال على خدّه ... ساعة هجر في رمان الوصال
قلت: ويعجبنى في هذا المعنى قول السروجىّ:
فى الجانب الأيمن من خدّها ... نقطة مسك أشتهى شمّها
حسبته لما بدا خالها ... وجدته من حسنه عمّها
وأخذ في هذا المعنى المعزّ الموصلىّ فقال:
لحظت من وجنتها شامة ... فابتسمت تعجب من حالى
قالت قفوا واسمعوا ما جرى ... قد هام عمّى الشيخ في خالى
ومن شعر ابن المعتزّ أيضا بيت مفرد:
فنون «1» والمدام ولون خدّى ... شقيق في شقيق في شقيق
قلت: ويشبه «2» هذا قول ابن الرومىّ حيث قال:
كأنّ الكأس في يده وفيه «3» ... عقيق في عقيق في عقيق
قلت: ومن تشابيه ابن المعتز البديعة قوله ينعت البنفسج:
ولا زورديّة «4» تزهو بزرقتها ... وسط الرياض على حمر اليواقيت
كأنّها وضعاف القضب تحملها ... أوائل النار في أطراف كبريت

(3/167)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن نجدة الهروىّ، وأحمد بن يحيى الحلوانىّ، وخلف بن عمرو العكبرىّ، وعبد الله بن المعتزّ، وأبو الحصين الوادعىّ «1» محمد بن الحسين، ومحمد بن محمد بن شهاب البلخىّ، ويوسف ابن موسى القطّان الصغير.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع اذرع وتسع عشرة إصبعا، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 297]
السنة السادسة من ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر، وهى سنة سبع وتسعين ومائتين- فيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ. وفيها وصل الخبر إلى العراق بظهور عبيد الله المسمى بالمهدىّ- أعنى جدّ الخلفاء الفاطمييّن- وأخرج الأغلب من بلاده وبنى المهديّة «2» ، وخرجت بلاد المغرب عن حكم بنى العباس من هذا التاريخ، وهرب ابن الأغلب وقصد العراق؛ فكتب إليه الخليفة أن يصير إلى الرقّة ويقيم بها. وفيها أدخل طاهر ويعقوب ابنا محمد بن عمرو بن الليث الصفّار بغداد أسيرين. وفيها توفّى الجنيد بن محمد بن الجنيد الشيخ الزاهد الورع المشهور أبو القاسم القواريرىّ الخزّاز «3» ، وكان أبوه يبيع الزجاج وكان هو يبيع الخزّ؛

(3/168)


وأصله من نهاوند «1» إلا أنّ مولده ومنشأه ببغداد؛ وكان سيّد طائفة الصوفيّة من كبار القوم وساداتهم، مقبول القول على جميع الألسن، وكان يتفقّه على مذهب أبى ثور «2» الكلبىّ؛ أفتى في حلقته وهو ابن عشرين سنة؛ وأخذ الطريقة عن خاله سرىّ السّقطىّ، وكان سرىّ أخذها عن معروف الكرخىّ، ومعروف الكرخىّ أخذها عن علىّ بن موسى الرّضا. قال الجنيد: ما أخرج الله إلى الناس علما وجعل لهم إليه سبيلا إلّا وقد جعل لى فيه حظّا ونصيبا. وقيل: إنه كان اذا جلس بدكّانه كان ورده في اليوم ثلثمائة ركعة وكذا «3» وكذا ألف تسبيحة. وقيل: إنه كان يفتح دكّانه ويسبل الستر ويصلّى أربعمائة ركعة. وقال الجريرىّ «4» : سمعته يقول: ما أخذنا التصوّف عن القال والقيل لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات [والمستحسنات «5» ] . وذكر أبو جعفر الفرغانىّ أنه سمع الجنيد يقول: أقلّ ما في الكلام سقوط هيبة الرب سبحانه وتعالى من القلب، والقلب إذا عرى من الهيبة عرى من الإيمان. ويقال: إنّ نقش خاتم الجنيد:" إن كنت تأمله فلا تأمنه". وعن الخلدىّ «6» عن الجنيد قال: أعطى أهل بغداد الشطح والعبادة، وأهل خراسان القلب

(3/169)


والسخاء، وأهل البصرة الزهد والقناعة، وأهل الشأم الحلم والسلامة، وأهل الحجاز الصبر والإنابة. وقال إسماعيل بن نجيد: هؤلاء الثلاثة لا رابع لهم: الجنيد ببغداد، وأبو عثمان «1» بنيسابور، وأبو عبد الله «2» بن الجلّى بالشأم. وقال أبو بكر العطوىّ:
كنت عند الجنيد حين احتضر فختم القرآن، قال: ثم ابتدأ فقرأ من البقرة سبعين آية ثم مات. وقال أبو نعيم: أخبرنا الخلدىّ كتابة قال: رأيت الجنيد في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: طاحت تلك الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلا ركعتان «3» كنا نركعهما فى الأسحار. قال أبو الحسين [بن «4» ] المنادى: مات الجنيد ليلة النّوروز «5» فى شوّال سنة ثمان وتسعين ومائتين، قال: فذكر لى أنهم حزروا «6» الجمع الذين صلّوا عليه نحو ستين ألف إنسان، ثم ما زالوا يتعاقبون قبره في كلّ يوم نحو الشهر. ودفن عند قبر سرىّ السّقطىّ. قال الذهبىّ: وورّخه بعضهم في سنة سبع فوهم. قلت:
ورّخه صاحب المرآة وغيره في سنة سبع. وفيها توفّى عمرو «7» بن عثمان أبو عبد الله المكىّ، سكن بغداد وكان شيخ القوم في وقته، صحب الجنيد وغيره. وفيها توفّى الشيخ أبو الحارث الفيض بن الخضر أحمد، وقيل: الفيض بن محمد الأولاسىّ «8»

(3/170)


الطّرسوسىّ أحد الزهاد ومشايخ القوم، مات بطرسوس وكان صاحب حال وقال، وله إشارات ولسان حلو في علم التصوّف. وفيها توفّى محمد بن داود [بن علىّ «1» ] بن خلف الشيخ أبو بكر الأصبهانىّ الظاهرىّ صاحب كتاب الزهرة «2» ، كان عالما أديبا فصيحا، وكان يلقّب بعصفور الشوك لنحافته وصفرة لونه؛ ولما جلس محمد هذا بعد وفاة أبيه في مجلسه استصغروه عن ذلك، فسأله رجل عن حدّ السكر ما هو، ومتى يكون الرجل سكران؟ فقال محمد على البديهة: إذا عزبت عنه الهموم، وباح بسرّه المكتوم؛ فاستحسنوا منه ذلك.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى إبراهيم بن هاشم البغوىّ، وإسماعيل بن محمد بن قيراط، وعبد الرّحمن بن القاسم بن الروّاسىّ «3» الهاشمىّ، وعبيد بن غنّام «4» ، ومحمد بن عبد الله مطيّن، ومحمد بن عثمان بن [محمد بن «5» ] أبى شيبة، ومحمد بن داود الظاهرىّ، ويوسف بن يعقوب القاضى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم تسع أذرع وإحدى عشرة إصبعا، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا، وإحدى عشرة إصبعا.
ذكر ولاية تكين الأولى على مصر
هو تكين بن عبد الله الحربىّ، الأمير أبو منصور المعتضدىّ الخزرىّ «6» ، ولّاه الخليفة المقتدر بالله على صلاة مصر بعد موت عيسى النّوشرىّ، فدعى له بها في يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من شوّال سنة سبع وتسعين ومائتين. ثم قدم خليفته

(3/171)


إلى مصر يوم الأربعاء في ثالث عشرين شوّال، ودام خليفته بها إلى أن قدمها تكين المذكور في يوم ثانى ذى الحجّة من سنة سبع وتسعين ومائتين.
قال صاحب «البغية والاغتباط فيمن ولى الفسطاط» : قدم تكين يوم السبت لليلتين خلتا من ذى الحجّة موافقا لنا، لكنّه زاد في يوم السبت. وتكين هذا مولى المعتضد بالله، نشأ في دولته حتى صار من جملة القوّاد، ثم ولّاه المقتدر دمشق ومصر وأقرّه عليهما «1» القاهر. وكان تكين جبّارا مهيبا ولكنّه كانت لديه فضيلة. وحدّث عن القاضى يوسف وغيره. ودام تكين على إمرة مصر مدّة إلى أن بعث للخليفة في سنة تسع وتسعين ومائتين هدايا وتحفا، وفي جملة الهدايا ضلع إنسان طوله أربعة عشر شبرا في عرض شبر، زعموا أنّه من قوم عاد؛ وفي جملة الهدايا أيضا تيس له ضرع يحلب لبنا، وخمسمائة ألف دينار، ذكر تكين أنه وجدها فى كنز بمصر. واستمر تكين بعد ذلك على إمرة مصر حتّى خرج عليها جماعة من الأعراب والأحواش «2» فجهّز تكين لحربهم جيشا إلى برقة، وجعل على الجيش المذكور أبا اليمنى «3» وخرج الجيش إلى برقة- وكان هؤلاء الأعراب من جملة عساكر المهدىّ عبيد الله الفاطمىّ الذي استولى على بلاد المغرب- فلما قارب الجيش برقة خرج إليهم حباسة «4» بن يوسف بعساكر المهدىّ عبيد الله الفاطمىّ المقدّم ذكره، وقاتل

(3/172)


أبا اليمنى المذكور حتّى هزمه واستولى على برقة؛ ثم سار إلى الإسكندرية في زيادة على مائة ألف مقاتل. ولما عاد جيش تكين منهزما إلى مصر، أرسل تكين الى الخليفة يطلب منه المدد، فأمدّه الخليفة بالعساكر، وفي العسكر حسين [بن أحمد «1» ] الماذرائىّ وأحمد بن كيغلغ في جمع من القوّاد، وسار الجميع نحو مصر. وكان دخول عسكر المهدىّ الى الإسكندريّة في أوّل المحرم سنة اثنتين وثلثمائة. ووصلت عساكر الخليفة من العراق الى مصر في صفر ونزلت بها، فتلقّاهم تكين وأكرم نزلهم؛ ثم تهيّأ تكين بعساكره الى القتال، وخرج هو بعساكر مصر ومعه عساكر العراق وسار الجميع نحو الإسكندريّة، ونزلوا بالجيزة في جمادى الأولى، ثم سار الجميع حتى وافوا حباسة بعساكره وقاتلوه؛ فكانت بينهم وقعة عظيمة قتل فيها آلاف من الناس من الطائفتين، وثبت كلّ من العسكرين حتى استظهر عسكر الخليفة على جيش حباسة العبيدىّ الفاطمىّ وكسره وأجلاه عن الإسكندريّة وبرقة؛ وعاد حباسة بمن بقى معه من عساكره الى المغرب في أسوإ حال. وهذا أوّل عسكر ورد الى الإسكندرية من جهة عبيد الله المهدىّ الفاطمىّ. ثم عاد تكين الى مصر بعساكره بعد أن مهّد البلاد. وعند ما قدم تكين الى مصر وصل اليها بعده مؤنس الخادم مع جمع من القوّاد- أعنى الذين قدموا معه من العراق- ونزلوا بالحمراء في النصف من شهر رمضان ولقى الناس منهم شدائد الى أن خرج الأمير أحمد بن كيغلغ الى الشأم فى شهر رمضان المذكور، فلم تطل مدّة تكين بعد ذلك على مصر وصرف عن إمرتها في يوم الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من ذى القعدة، صرفه مؤنس الخادم المقدّم ذكره وأرسل الى الخليفة بذلك، فدام تكين بمصر الى أن خرج منها فى سابع ذى الحجة سنة اثنتين وثلثمائة؛ وأقام مؤنس الخادم بمصر يدعى له بها

(3/173)


ويخاطب بالأستاذ «1» الى أن ولّى الخليفة المقتدر ذكا «2» الرومىّ إمرة مصر عوضا عن تكين المذكور. فكانت ولايته على مصر خمس سنين وأياما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 298]
السنة الأولى من ولاية تكين الأولى على مصر، وهى سنة تمان وتسعين ومائتين- فيها قدم الحسين بن حمدان من قمّ «3» ، فولّاه المقتدر ديار بكر وربيعة. وفيها توفّى محمد ابن عمرويه صاحب الشّرطة، توفّى بآمد وحمل الى بغداد. وفيها توفّى صافى الحرمىّ «4» فقلّد المقتدر مكانه مؤنسا الخادم المقدّم ذكره. وفيها خرج على عبيد الله المهدىّ داعياه «5» أبو عبد الله الشّيعىّ وأخوه أبو العباس، وجرت لهما وقعة هائلة، وذلك في جمادى الآخرة، فقتل «6» الداعيان في جندهما، ثم خالف على المهدىّ أهل طرابلس المغرب، فجهّز اليهم ابنه أبا القاسم القائم بأمر الله فأخذها عنوة في سنة ثلثمائة، وتمهّد بأخذها بلاد المغرب

(3/174)


للمهدىّ المذكور. وفيها قدم القاسم بن سيما من غزوة الصائفة بالروم ومعه خلق من الأسارى وخمسون علجا «1» قد شهّروا على الجمال وبأيديهم صلبان الذهب والفضة.
وفيها استخلف على الحرم بدار الخليفة نظير الحرمىّ. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن مسروق الشيخ أبو العباس الصوفىّ الطّوسىّ أحد مشايخ القوم وأصحاب الكرامات، قدم بغداد وحدّث بها. وفيها «2» توفّى أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسين البغدادىّ المعروف بابن الرّاوندىّ «3» الماجن المنسوب الى الهزل والزندقة؛ كان أبوه يهوديا

(3/175)


فأسلم [هو «1» ] ؛ فكانت اليهود تقول للمسلمين: احذروا أن يفسد هذا عليكم كتابكم كما أفسد أبوه علينا كتابنا. وصنّف أحمد هذا في الزندقة كتبا كثيرة «2» ، منها: كتاب بعث «3» الحكمة، وكتاب الدامغ للقرآن وغير ذلك، وكان زنديقا، وكان يقول: إنا نجد في كلام أكثم بن صيفىّ أحسن من (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ)
و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)
، وإنّ الأنبياء وقعوا بطلّسمات «4» كما أنّ المغناطيس يجذب الحديد؛ وقوله صلّى الله عليه وسلّم لعمّار «5» :" تقتلك الفئة الباغية"، قال: فإنّ المنجّم يقول مثل هذا إذا عرف المولد و [أخذ «6» ] الطالع. ولهذا التعيس الضالّ أشياء كثيرة من هذا الكفر البارد الذي يسئم أسماع الزنادقة لعدم طلاوة كلامه. وأمره في الزندقة والمخرقة «7» أشهر من

(3/176)


أن يذكر؛ عليه اللعنة والخزى. ولما تزايد أمره صلبه بعض السلاطين وهو ابن ستّ وثمانين سنة «1» . وفيها توفّى أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن سعيد النيسابورىّ الحيرىّ الواعظ الإمام، مولده بالرّىّ ثم قدم نيسابور وسكنها، وكان أوحد مشايخ عصره وعنه انتشرت طريقة التصوّف بنيسابور.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العباس أحمد ابن محمد بن مسروق، وبهلول بن إسحاق الأنبارىّ «2» ، والجنيد شيخ الطائفة، والحسن ابن علّويه القطّان، وأبو عثمان الحيرىّ الزاهد، ومحمد بن علىّ بن طرخان البلخىّ الحافظ، ومحمد بن سليمان المروزىّ، ومحمد بن طاهر الأمير، ويوسف بن عاصم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 299]
السنة الثانية من ولاية تكين الأولى على مصر، وهى سنة تسع وتسعين ومائتين- فيها قبض المقتدر على وزيره أبى الحسن علىّ بن الفرات ونهبت دوره وهتكت حرمه، بسبب أنه قيل للخليفة: إنه كاتب الأعراب أن يكبسوا بغداد، ونهبت بغداد عند القبض عليه؛ واستوزر المقتدر أبا علىّ محمد بن عبيد الله بن يحيى ابن خاقان. وفيها سار «3» عبيد الله المهدىّ الفاطمىّ الى المهديّة ببلاد المغرب ودعى له بالخلافة برقّادة والقيروان وتلك النواحى؛ وعظم ملكه فشقّ ذلك على الخليفة

(3/177)


المقتدر العباسىّ. وفيها توفّى أحمد بن نصر بن إبراهيم «1» الحافظ أبو عمرو الخفّاف، رحل في طلب الحديث ولقى الشيوخ، وكان زاهدا متعبّدا صام نيّفا وثلاثين سنة وتصدّق سرّا وعلانية بأموال كثيرة. وفيها توفّى الحسين بن عبد الله بن أحمد الفقيه أبو على الخرقىّ «2» والد الإمام عمر مصنف كتاب" [مختصر «3» ] الخرقىّ" فى مذهب الإمام أحمد ابن حنبل، وكان زاهدا عابدا، مات يوم عيد الفطر. وفيها توفّى محمد بن أحمد بن كيسان الإمام أبو الحسن النحوىّ اللغوىّ أحد الأئمة النحاة، كان يحفظ مذاهب البصريّين والكوفيّين في النحو، لأنه أخذ عن المبرّد وثعلب. وفيها توفّى محمد بن إسماعيل الشيخ أبو عبد الله المغربىّ الزاهد أستاذ ابراهيم الخوّاص وابراهيم بن شيبان وغيرهما، كان كبير الشأن في علم المعاملات والمكاشفات، وحجّ على قدميه سبعا وتسعين حجّة. قال إبراهيم بن شيبان: توفّى أبو عبد الله على جبل الطور فدفنته إلى جانب أستاذه علىّ بن رزين بوصيّة منه، وعاش كلّ واحد منهما عشرين ومائة سنة.
قلت: ولهذا حجّ سبعا وتسعين حجّة. وفيها توفّى محمد بن يحيى بن محمد البغدادىّ المعروف ب «حامل كفنه» ، كان فاضلا، وقع له غريبة وهو أنّه مرض فأغمى عليه فغسّل وكفّن ودفن، فلمّا كان الليل جاءه نبّاش فنبش عنه، فلما حلّ أكفانه ليأخذها استوى قائما، فخرج النبّاش هاربا؛ فقام هو وحمل أكفانه وجاء إلى منزله وأهله وهم يبكون عليه، فدقّ الباب، فقالوا: من؟ قال: أنا فلان؛ فقالوا: يا هذا، لا يحلّ لك أن تزيدنا على ما نحن فيه! قال: افتحوا فو الله أنا فلان؛ فعرفوا صوته ففتحوا

(3/178)


له وعاد حزنهم فرحا، ويسمّى من حينئذ" حامل كفنه"؛ سكن" حامل كفنه" دمشق وحدّث بها. قال أبو بكر الخطيب: ومثل هذا سعيد الكوفىّ فإنّه لمّا دلّى في قبره اضطرب فحلّت عنه أكفانه فقام ورجع الى منزله، ثم ولد له بعد ذلك ابنه مالك.
وفيها توفّى ممشاد الدّينورىّ الزاهد المشهور، كان من أولاد الملوك فتزهّد وترك الدنيا وصحب أبا تراب النّخشبىّ وأبا عبيد [البسرىّ «1» ] وغيرهما، وكان عظيم الشأن؛ يحكى عنه خوارق، قيل: إنه لما احتضر قالوا له: كيف تجدك؟ فقال: سلوا العلّة عنّى؛ فقيل له: قل لا إله إلا الله؛ فحوّل وجهه الى الحائط فقال:
أفنيت كلّى بكلّك ... هذا جزا من يحبّك
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن أنس «2» ابن مالك الدمشقىّ، وأبو عمرو الخفّاف الزاهد أحمد بن نصر الحافظ، والحسين بن عبد الله الخرقىّ والد مصنّف" [مختصر] الخرقىّ" وعلىّ بن سعيد بن بشير الرازىّ، ومحمد بن يزيد بن عبد الصمد، وممشاد الدينورىّ الزاهد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإحدى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 300]
السنة الثالثة من ولاية تكين الأولى على مصر، وهى سنة ثلثمائة- فيها تتبّع الخليفة أصحاب الوزير أبى الحسن بن الفرات وصودروا وخرّبت ديارهم وضربوا، وعذّب ابن الفرات حتى كاد يتلف؛ ثم رفقوا به بعد أن أخذت أمواله. ثم عزل

(3/179)


الخاقانىّ عن الوزارة ورشّح لها علىّ بن عيسى. ويقال: فيها ولدت بغلة، فسبحان الله القادر على كلّ شىء!. وفيها ظهر محمد بن جعفر بن علىّ بن محمد بن موسى بن جعفر ابن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب في أعمال دمشق، فخرج إليه أمير دمشق أحمد بن كيغلغ، ثم اقتتلا فقتل محمد في المعركة وحمل «1» رأسه الى بغداد فنصب على الجسر. وفيها وقع ببغداد والبادية وباء عظيم وموت جارف، فمات الناس على الطريق. وفيها ساخ جبل بالدّينور في الأرض وخرج من تحته ماء كثير غرّق القرى. وفيها وقعت قطعة عظيمة من جبل لبنان في البحر، وتناثرت النجوم فى جمادى الآخرة تناثرا عجيبا وكلّه الى ناحية المشرق. وفيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ. وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن بن الحكم بن هشام ابن عبد الرّحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبى العاص ابن أميّة الأموىّ المغربى أمير الأندلس، وأمّه أمّ ولد يقال لها عشار؛ بويع بالإمرة فى صفر سنة خمس وسبعين ومائتين في السنة التى توفّى فيها أخوه المنذر في أيّام المعتمد؛ وكان زاهدا تاليا لكتاب الله تعالى؛ بنى الرّباط بقرطبة ولزم الصلوات الخمس بالجامع حتى مات في شهر ربيع الأوّل، وكانت أيّامه على الأندلس خمسا وعشرين سنة وستّة أشهر وأياما؛ وتولّى مكانه ابن ابنه عبد الرّحمن بن محمد بن عبد الله في اليوم الذي مات فيه جدّه المذكور، وكنيته أبو المظفّر فلقّب نفسه بالناصر؛ وتوفّى عبد الرّحمن هذا في سنة خمسين وثلثمائة. وقد تقدّم الكلام في ترجمة جدّ هؤلاء الثلاثة عبد الرّحمن الداخل أنّه فرّ من الشأم جافلا من بنى العبّاس ودخل المغرب وملكها، فسمّى لذلك عبد الرّحمن الداخل. وفيها توفّى عبيد الله [بن عبد الله «2» ] بن طاهر بن الحسين

(3/180)


الأمير أبو محمد الخزاعىّ، كان من أجلّ الأمراء، ولى إمرة بغداد ونيابتها عن الخليفة وعدّة ولايات جليلة، وكان أديبا فاضلا شاعرا فصيحا، وقد تقدّم ذكر والده فى أمراء مصر في هذا الكتاب، وأيضا نبذة من أخبار جدّه في عدّة حوادث؛ وفي الجملة هو من بيت رياسة وفضل وكرم.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العباس أحمد ابن محمد البراثىّ «1» ، وأبو أميّة الأحوص «2» بن الفضل الغلّابىّ، والحسين بن عمر بن أبى الأحوص، وعلىّ بن سعيد العسكرىّ الحافظ، وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الأمير، وعبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن الأموىّ صاحب الأندلس، ومحمد بن أحمد بن جعفر أبو العلاء الوكيعىّ، ومحمد بن الحسن بن سماعة، ومسدّد ابن قطن.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وإصبع واحدة. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 301]
السنة الرابعة من ولاية تكين الأولى على مصر، وهى سنة إحدى وثلثمائة- فيها قبض المقتدر على وزيره الخاقانىّ «3» فى يوم الاثنين لعشر خلون من المحرّم، وكانت مدّة وزارته سنة واحدة وشهرا وخمسة أيام؛ وكان المقتدر قد أرسل يلبق «4» المؤنسىّ

(3/181)


فى ثلثمائة غلام إلى مكّة لإحضار علىّ بن عيسى للوزارة، فقدم ابن عيسى المذكور في المحرّم وتولّى الوزارة. وفيها في شعبان ركب الخليفة المقتدر من داره الى الشماسيّة «1» ثم عاد فى دجلة، وهى أوّل ركبة ظهر فيها للعامّة منذ ولى الخلافة. وفيها في يوم الاثنين سادس شهر ربيع الأوّل أدخل الحسين بن منصور المعروف بالحلّاج مشهورا على جمل إلى بغداد وصلب وهو حىّ في الجانب الغربىّ وعليه جبّة عوديّة «2» ، ونودى عليه: هذا أحد دعاة القرامطة؛ ثم أنزلوه وحبس وحده في دار ورمى بعظائم، نسأل الله السلامة في الدين؛ فأحضره علىّ بن عيسى الوزير وناظره فلم يجد عنده شيئا من القرآن ولا من الفقه ولا من الحديث ولا من العربيّة؛ فقال له الوزير: تعلّمك الوضوء والفرائض أولى من رسائل ما تدرى ما فيها ثم تدّعى الإلهية! فردّه الى الحبس فدام به إلى ما يأتى ذكره فى محلّه. وفيها أفرج المقتدر عن الوزير الخاقانىّ فأطلق وتوجّه إلى داره. وفيها فى شعبان خلع المقتدر على ابنه أبى العبّاس وقلّده أعمال الحرب بمصر والغرب، وعمره أربع سنين، واستخلف له [على مصر «3» ] مؤنس الخادم. وفيها توفّى الحسن بن بهرام أبو سعيد القرمطىّ المتغلّب على هجر، كان أصله كيّالا فهرب واستغوى خلقا من القرامطة والأعراب وغلب على القطيف «4» وهجر، وشغل المعتضد عنه الموت، فاستفحل أمره ووقع له مع عساكر المكتفى وقائع وأمور، وقتل الحجيج وأفسد البلاد، وفعل مالا يفعله مسلم، حتّى قتله خادم صقلبىّ في الحمّام أراده على الفاحشة فخنقه الخادم وقتله وذهبت روحه الى سقر. وفيها توفّى حمدويه بن أسد الدمشقىّ المعلم، كان من

(3/182)


الأبدال [و] كان مجاب الدعوة وله كرامات وأحوال، مات بدمشق. وفيها توفّى عبد الله بن على بن محمد بن عبد الملك بن أبى الشوارب القاضى، كان إماما فاضلا عالما، استقضاه الخليفة المكتفى على مدينة المنصور في سنة اثنتين وتسعين ومائتين الى أن نقله المقتدر الى الجانب الشرقىّ في سنة ست وتسعين ومائتين فأصابه فالج ومات منه. وتوفّى ابنه «1» بعده بثلاثة وسبعين يوما وكان يخلفه على القضاء. وفيها توفّى علىّ بن أحمد الراسبىّ الأمير أبو الحسن، كان متولّيا من حدود واسط الى جنديسابور «2» ومن السوس «3» الى شهرزور «4» ، وكان شجاعا مات بجنديسابور وخلّف ألف ألف دينار و [من «5» ] آنية الذهب والفضة [ما قيمته «6» ] مائة ألف دينار [ومن «7» الخزّ ألف ثوب] وألف فرس وألف بغل وألف جمل، وكان له ثمانون طرازا تنسج فيها الثياب التى لملبوسه. وفيها توفّى محمد بن عثمان «8» بن إبراهيم بن زرعة الثّقفىّ مولاهم، كان قاضى دمشق ثم ولى قضاء مصر؛ كان إماما عالما عفيفا؛ ولما أراد أحمد بن طولون خلع الموفّق من ولاية العهد أمره بخلعه، فوقف بإزاء منبر دمشق وقال: قد خلعت أبا أحمق (يعنى [أبا] «9» أحمد) كما خلعت خاتمى من إصبعى، ومضى سنون الى أن ولى المعتضد بن الموفّق الخلافة ودخل الشأم يطلب من كان يبغض أباه، فأحضر القاضى هذا وجماعة فحملوا في القيود معه وسافر؛ فلما كان

(3/183)


فى بعض الأيام رآهم المعتضد في الطريق فطلبهم وأراد الفتك بهم، فقال: من الذي قال" أبا أحمق"؟ فخرس القوم؛ فقال له القاضى: يا أمير المؤمنين، نسائى طوالق وعبيدى أحرار ومالى في سبيل الله إن كان في هؤلاء القوم من قال هذه المقالة؛ فاستظرفه المعتضد وأطلق الجميع؛ ومشى له ذلك في باب المماجنة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن محمد ابن عبد العزيز بن الجعد الوشّاء، وأبو بكر أحمد بن هارون البرذعىّ «1» ، وإبراهيم بن يوسف الرازىّ، والحسين بن إدريس الأنصارىّ الهروىّ، وعبد الله بن محمد «2» بن ناجية في رمضان، وعمرو بن عثمان المكىّ الزاهد، ومحمد بن العبّاس بن الأخرم الأصبهانىّ، ومحمد بن يحيى بن مندة العبدىّ «3» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 302]
السنة الخامسة من ولاية تكين الأولى على مصر، وهى سنة اثنتين وثلثمائة- فيها عاد المهدىّ عبيد الله الفاطمىّ من المغرب الى الإسكندريّة ومعه صاحبه حباسة المقدّم ذكره، فجرت. بينه وبين جيش الخليفة حروب قتل فيها حباسة، وعاد مولاه عبيد الله الى القيروان. وفيها في المحرّم ورد كتاب نصر بن أحمد السامانىّ أمير خراسان أنّه واقع عمّه إسحاق بن إسماعيل وأنّه أسره؛ فبعث إليه المقتدر بالخلع واللواء.

(3/184)


وفيها صادر المقتدر أبا عبد الله الحسين بن عبد الله بن الجصّاص الجوهرىّ، وكبست داره وأخذ من المال والجوهر ما قيمته أربعة آلاف ألف دينار. وقال أبو الفرج ابن الجوزىّ: أخذوا منه ما مقداره ستة عشر ألف ألف دينار عينا وورقا [وآنية «1» ] وقماشا وخيلا [وخدما «2» ] . قال أبو المظفّر في مرآة الزمان: وأكثر أموال ابن الجصّاص المذكور من قطر النّدى بنت خمارويه صاحب مصر، فإنّه لما حملها من مصر الى زوجها المعتضد كان معها أموال وجواهر عظيمة؛ فقال لها ابن الجصّاص: الزمان لا يدوم ولا يؤمن على حال، دعى عندى بعض هذه الجواهر تكن ذخيرة لك، فأودعته، ثم ماتت فأخذ الجميع. وفيها خرج الحسن بن علىّ العلوىّ الأطروش، ويلقّب بالداعى، ودعا الديلم إلى الله، وكانوا مجوسا، فأسلموا وبنى لهم المساجد، وكان فاضلا عاقلا أصلح الله الديلم به. وفيها قلّد المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان الموصل والجزيرة. وفيها صلّى العيد في جامع مصر، ولم يكن يصلّى فيه العيد قبل ذلك، فصلّى بالناس علىّ بن أبى شيخة، وخطب فغلط بأن قال: اتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مشركون. نقلها علىّ «3» بن الطحّان عن أبيه وآخر.
وفيها في الرجعة قطع الطريق على الحاجّ العراقىّ الحسن بن عمر الحسينىّ مع عرب طيّئ وغيرهم، فاستباحوا الوفد وأسروا مائتين وثمانين امرأة، ومات الخلق بالعطش والجوع. وفيها توفّى العبّاس بن محمد أبو الهيثم كاتب المقتدر، كان كاتبا جليلا، كان يطمع في الوزارة، ولما ولى علىّ بن عيسى الوزارة اعتقله فمات يوم الأحد سلخ ذى الحجّة، وأوصى أن يصلّى عليه أبو عيسى البلخىّ وأن يكبّر عليه أربعا وأن يسمّ قبره.

(3/185)


أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
ذكر ولاية ذكا الرومىّ على مصر
الأمير أبو الحسن ذكا الرومىّ الأعور، ولى إمرة مصر بعد عزل تكين الحربىّ عن مصر، ولّاه الخليفة المقتدر على الصلاة؛ فخرج من بغداد وسافر إلى أن قدم مصر في يوم السبت لاثنتى عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلثمائة؛ فجعل على الشّرطة محمد بن طاهر مدّة ثم عزله بيوسف «1» الكاتب؛ وقدم بعده الحسين ابن أحمد الماذرائىّ على الخراج؛ ثم ردّ محمد بن طاهر على الشرطة. ثم بعد قدوم ذكا إلى مصر خرج منها مؤنس الخادم بجميع جيوشه لثمان خلون من شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثلثمائة؛ وكان ورد على مؤنس كتاب الخليفة المقتدر يعرّفه بخروج الحسين بن حمدان عن الطاعة وأن يعود إلى بغداد ويأخذ معه من مصر أعيان القوّاد: مثل أحمد بن كيغلغ وعلى بن أحمد بن بسطام والعبّاس بن عمرو وغيرهم ممن يخاف منهم؛ ففعل مؤنس ذلك. واستمرّ ذكا بمصر على إمرتها من غير منازع إلى أن خرج إلى الاسكندريّة في أوّل المحرّم سنة أربع وثلثمائة؛ فلم تطل غيبته عنها وعاد إليها في ثامن شهر ربيع الأوّل؛ فبلغه أنّ جماعة من المصريّين يكاتبون المهدىّ، فتتبّع كلّ من اتّهم بذلك، فقبض على جماعة منهم وسجنهم وقطع أيدى أناس «2» وأرجلهم، فعظمت هيبته في قلوب الناس. ثم أجلى أهل لوبية «3» ومراقية من مصر الى

(3/186)


الإسكندريّة. ثم فسد بعد ذلك ما بينه وبين جند مصر والرعيّة، بسبب ذكر الصحابة رضى الله عنهم بما لا يليق «1» ، ونسب القرآن الكريم إلى مقالة المعتزلة وغيرهم. وبينما الناس في ذلك قدمت عساكر المهدىّ عبيد الله الفاطمىّ من إفريقيّة إلى لوبية ومراقية، وعلى العساكر أبو القاسم، فدخل الإسكندريّة في ثامن صفر سنة سبع وثلثمائة، وفرّ الناس من مصر إلى الشأم في البرّ والبحر فهلك أكثرهم؛ فلما رأى ذكا ذلك تجهّز لقتالهم، وجمع العساكر وخرج بهم وهم مخالفون عليه، فعسكر بالجيزة، وكان الحسين بن أحمد الماذرائىّ على حراج مصر فجدّد العطاء للجند وأرضاهم، وتهيّأ ذكا للحرب وجدّ في ذلك وحفر خندقا على عسكره بالجيزة؛ وبينما هو في ذلك مرض ولزم الفراش حتى مات بالجيزة في عشيّة الأربعاء لإحدى عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل «2» سنة سبع وثلثمائة، فغسّل وصلّى عليه وحمل حتى دفن بالقرافة.
وكانت ولايته على مصر أربع سنين وشهرا واحدا. وتولّى تكين الحربىّ عوضه مصر إمرة ثانية. وكان ذكا أميرا شجاعا مقداما، وفيه ظلم وجور مع اعتقاد سيئ على معرفة كانت فيه وعقل وتدبير.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 303]
السنة الأولى من ولاية ذكاء الرومىّ على مصر، وهى سنة ثلاث وثلثمائة- فيها ولد سيف الدولة على بن عبد الله بن حمدان. وفيها كاتب الوزير علىّ بن عيسى

(3/187)


القرامطة وأطلق لهم ما أرادوا من البيع والشراء، فنسبه الناس الى موالاتهم، وليس هو كذلك، وإنما قصد أن يتألّفهم «1» خوفا على الحاجّ منهم. وفيها تواترت الأخبار أنّ الحسين بن حمدان قد خالف، وكان مؤنس الخادم مشغولا بحرب عسكر المهدىّ بمصر، فندب علىّ بن عيسى الوزير رائقا الكبير لمحاربته؛ فتوجّه إليه رائق بالعساكر وواقعه فهزمه ابن حمدان، فسار رائق إلى مؤنس الخادم وانضم عليه، وكان بين مؤنس وابن حمدان خطوب وحروب. وفيها توفى أحمد [بن علىّ] بن شعيب بن علىّ ابن سنان بن بحر الحافظ أبو عبد الرّحمن القاضى النّسائىّ «2» مصنّف السنن وغيرها من التصانيف، ولد سنة خمس عشرة ومائتين، وسمع الكثير، ورحل الى نيسابور والعراق والشأم ومصر والحجاز والجزيرة؛ وروى عنه خلق وكان فيه تشيّع حسن.
قال أبو عبد الله بن مندة عن حمزة العقبىّ المصرىّ وغيره: إن النّسّائىّ خرج من مصر في آخر عمره الى دمشق، فسئل بها عن معاوية وما روى من فضائله؛ فقال:
أما «3» يرضى [معاوية أن يخرج «4» ] رأسا برأس حتّى يفضّل! انتهى. وقال الدّارقطنىّ:
إنّه خرج حاجّا فامتحن «5» بدمشق وأدرك الشهادة، فقال: احملونى الى مكّة، فحمل وتوفّى بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة؛ وكانت وفاته في شعبان، وقيل في وفاته غير ذلك: إنه مات بفلسطين في صفر. وفيها توفّى جعفر بن أحمد بن نصر الحافظ أبو محمد النيسابورىّ الحصرىّ «6» أحد أركان الحديث، كان ثقة عابدا صالحا.

(3/188)


وفيها توفّى الحسن «1» بن سفيان بن عامر بن عبد العزيز بن النعمان الشيبانىّ النّسوىّ الحافظ أبو العبّاس مصنّف المسند؛ تفقّه على أبى ثور إبراهيم بن خالد وكان يفتى على مذهبه، وسمع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وإسحاق بن إبراهيم الحنظلىّ وغيرهم. وفيها توفّى محمد بن عبد الوهاب بن سلّام أبو علىّ الجبّائىّ «2» البصرىّ شيخ المعتزلة، كان رأسا في علم الكلام وأخذ هذا «3» العلم عن أبى يوسف يعقوب ابن عبد الله الشحّام البصرىّ، وله مقالات مشهورة وتصانيف، وأخذ عنه ابنه أبو هاشم «4» والشيخ أبو الحسن الأشعرىّ. قال الذهبىّ: وجدت على ظهر كتاب عتيق: سمعت أبا عمرو يقول سمعت عشرة من أصحاب الجبّائىّ يحكون عنه، قال:
الحديث لأحمد بن حنبل، والفقه لأصحاب أبى حنيفة، والكلام للمعتزلة، والكذب للرافضة. وفيها توفى رويم بن أحمد- وقيل: ابن محمد بن رويم- الشيخ أبو محمد الصوفىّ، قرأ القرآن وكان عارفا بمعانيه، وتفقّه على مذهب داود الظاهرىّ، وكان مجرّدا من الدنيا مشهورا بالزهد والورع والدّين. وفيها توفى علىّ بن محمد بن منصور ابن نصر بن بسّام البغدادىّ الشاعر المشهور، وكان شاعرا مجيدا، إلا أن غالب شعره كان في الهجاء حتّى هجا نفسه وهجا أباه وإخوته وسائر أهل بيته، وكان يكنى أبا جعفر «5» ، فقال:
بنى أبو جعفر دارا فشيّدها ... ومثله لخيار الدّور بنّاء
فالجوع داخلها والذلّ خارجها ... وفي جوانبها بؤس وضرّاء

(3/189)


وله يهجو المتوكّل على الله لما هدم قبور العلوييّن:
تالله إن كانت أميّة قد أتت ... قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله ... هذا لعمرك قبره مهدوما
ومن شعره في الزهد:
أقصرت عن طلب البطالة والضّبا ... لمّا علانى للمشيب قناع
لله أيّام الشباب ولهوه ... لو أنّ أيّام الشباب تباع
فدع الصّبا يا قلب واسل عن الهوى ... ما فيك بعد مشيبك استمتاع
وانظر الى الدنيا بعين مودّع ... فلقد دنا سفر وحان وداع
[والحادثات «1» موكّلات بالفتى ... والناس بعد الحادثات سماع]
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 304]
السنة الثانية من ولاية ذكا الرومىّ على مصر، وهى سنة أربع وثلثمائة- فيها في المحرّم عاد نصر الحاجب من الحجّ ومعه العلوىّ «2» الذي قطع الطريق على ركب الحاجّ عام أوّل، فحبس في المطبق «3» . وفيها غزا مؤنس الخادم بلاد الروم من ناحية ملطية وفتح حصونا كثيرة وآثارا جميلة وعاد الى بغداد فخلع المقتدر عليه. وفيها وقع ببغداد حيوان يسمّى الزّبزب «4» ، وكان يرى في الليل على السطوح «5» ، وكان «6» يأكل أطفال

(3/190)


الناس، وربّما قطع يد الإنسان وهو نائم وثدى «1» المرأة فيأكلهما، فكانوا يتحارسون طول الليل ولا ينامون ويضربون الصوانىّ والهواوين ليفزعوه فيهرب، وارتجّت بغداد من الجانبين وصنع «2» الناس لاطفالهم مكابّ من السّعف يكبّونها عليهم بالليل، ودام ذلك عدّة ليال. وفيها عزل المقتدر الوزير علىّ بن عيسى، وكان قد ثقل عليه أمر الوزارة وضجر من سوء أدب الحاشية واستعفى غير مرّة؛ ولما عزله المقتدر لم يتعرّض له بسوء، وكانت وزارته ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية عشر يوما؛ وأعيد أبو الحسن بن الفرات الى الوزارة. وفيها توفّى زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب الأمير أبو نصر، وقيل: أبو منصور، صاحب الفيروان. قال الحميرىّ: يقال له زيادة الله الأصغر وجدّ جدّه زيادة الله الأكبر. وردّ زيادة الله الى مصر منهزما من عبيد الله المهدىّ الخارجىّ فأكرم، وقيل: إنه مات في «3» برقة، وقيل: بالرملة. وفيها توفّى يموت ابن «4» المزرّع بن يموت أبو بكر العبدى من عبد القيس، كان من البصرة ثم رحل عنها ونزل بغداد ثم قدم دمشق ثم سكن طبريّة «5» ، وكان حافظا ثقة محدّثا أخباريا. وفيها توفى يوسف بن الحسين بن علىّ الحافظ أبو يعقوب الرازىّ شيخ الرىّ والجبال «6» فى وقته، كان عالما زاهدا ورعا كبير الشأن.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا مثل الماضية.

(3/191)