النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 305]
السنة الثالثة من ولاية ذكا الرومىّ على مصر، وهى سنة خمس وثلثمائة- فيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ وهى تمام ستّ عشرة حجّة حجّها بالناس.
وفيها خلع الخليفة المقتدر على أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان وإخوته خلعة الرضا.
وفيها قدمت رسل ملك الروم بهدايا تطلب عقد هدنة، فشحنت «1» رحبات دار الخلافة والدهاليز بالجند والسلاح، وفرشت سائر القصور بأحسن الفرش، ثم احضر الرسل والمقتدر على سريره والوزير ومؤنس الخادم قائمان بالقرب منه. وذكر الصّولىّ احتفال المقتدر بمجيء الرسل فقال: أقام المقتدر العساكر وصفّهم بالسلاح، وكانوا مائة وستين ألفا، وأقامهم من باب الشمّاسيّة الى دار الخلافة، وبعدهم الغلمان وكانوا سبعة آلاف خادم وسبعمائة حاجب؛ ثم وصف أمرا مهولا قال: كانت الستور ثمانية وثلاثين ألف ستر من الديباج، ومن البسط اثنان وعشرون ألفا، وكان في الدار مائة سبع في السلاسل، ثم أدخلوا دار الشجرة وكان في وسطها بركة والشجرة فيها، ولها ثمانية عشر غصنا عليها الطيور المصوغة تصفر، ثم أدخلوا الى الفردوس وبها من الفرش ما لا يقوّم، وفي الدهاليز عشرة آلاف جوشن «2» مذهّبة معلّقة وأشياء كثيرة يطول الشرح في ذكرها. وفيها وردت هدايا صاحب «3» عمان، فيها طير أسود يتكلّم بالفارسيّة والهندية «4» أفصح من الببّغاء، وظباء سود. وفيها توفّى الأمير غريب خال الخليفة المقتدر بالله بعلّة الذّرب «5» ، كان محترما في الدولة، وهو قاتل عبد الله بن المعتزّ حتّى قرّر

(3/192)


جعفرا المقتدر. وفيها توفّى سليمان بن محمد «1» بن أحمد أبو موسى النحوىّ كان يعرف بالحامض «2» ، وكان إماما في النحو وغيره وله تصانيف كثيرة، منها:" خلق الانسان"، و" كتاب الوحوش والنبات"، و" غريب الحديث" ومات في ذى الحجّة. وفيها توفّى عبد الصمد بن عبد الله القاضى أبو محمد القرشىّ قاضى دمشق، حدّث عن هشام ابن عمّار وغيره، وروى عنه أبو زرعة الدّمشقىّ وجماعة أخر. وفيها توفّى الفضل بن الحباب بن محمد بن شعيب أبو خليفة الجمحىّ البصرىّ، كان رحلة «3» الآفاق في زمانه، واسم أبيه عمرو ولقبه الحباب، ولد سنة ستّ ومائتين، وكان محدّثا ثقة راوية للأخبار فصيحا مفوها أديبا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 306]
السنة الرابعة من ولاية ذكا الرومىّ على مصر، وهى سنة ستّ وثلثمائة- فيها فتح بيمارستان «4» السيدة أمّ المقتدر «5» ببغداد، وكان طبيبه سنان بن ثابت، وكان مبلغ النفقة فيه في العام سبعة آلاف دينار. وفيها أمرت أمّ المقتدر ثمل القهرمانة «6» أن تجلس بالتّربة التى بنتها بالرّصافة للمظالم وتنظر في رقاع الناس في كلّ يوم «7» جمعة؛ فكانت

(3/193)


ثمل المذكورة تجلس ويحضر الفقهاء والقضاة والأعيان وتبرز التواقيع وعليها خطّها.
وفيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ؛ وقيل: أحمد بن العباس أخو أمّ موسى القهرمانة. وفيها توفّى أحمد بن عمر بن سريج القاضى أبو العبّاس البغدادىّ الفقيه العالم المشهور، قال الدارقطنىّ: كان فاضلا لولا ما أحدث في الإسلام مسألة الدور «1» فى الطلاق. وفيها توفّى أحمد بن يحيى الشيخ أبو عبد الله بن الجلّى «2» أحد مشايخ الصوفيّة الكبار، صحب أباه وذا النون المصرىّ وأبا تراب «3» النّخشبىّ؛ قال الرّقىّ «4» :
[لقيت نيّفا «5» وثلثمائة من المشايخ المشهورين فما لقيت أحدا بين يدى الله وهو يعلم أنه بين يدى الله أهيب من ابن الجلّى] . وفيها توفّى الأمير أبو عبد الله الحسين بن حمدان ابن حمدون التّغلبىّ «6» عمّ السلطان سيف الدولة بن حمدان، كان معظّما في الدول، ولّاه الخليفة المكتفى محاربة الطّولونيّة، ثم ولى حرب القرامطة في أيام المقتدر؛ ثم ولى ديار ربيعة فغزا وافتتح حصونا وقتل خلقا من الروم، ثم خالف وعصى على الخلافه فسار لحربه رائق الكبير فانكسر فتوجّه رائق إلى مؤنس الخادم وانضم إليه وعاد إليه

(3/194)


وقاتله حتى ظفر به وأسره ووجّهه الى الخليفة فحبسه الى أن قتل في محبسه ببغداد؛ وكان من أجلّ الأمراء بأسا وشجاعة، وهو أوّل من ظهر أمره من ملوك بنى حمدان.
وفيها توفّى عبدان بن أحمد بن موسى بن زياد أبو محمد الأهوازىّ الجواليقىّ الحافظ، وكان اسمه عبد الله فخفّف بعبدان، وهو أحد من طاف البلاد في طلب الحديث وسمع الكثير وصنّف التصانيف ورحل الناس إليه، وكان أحد الحفّاظ الأثبات.
وفيها توفّى محمد بن خلف بن حيّان بن صدقة أبو بكر القاضى الضّبّىّ ويعرف بوكيع، كان عالما نبيلا فصيحا عارفا بالسّير وأيام الناس، وله تصانيف كثيرة في أخبار القضاء وعدد آيات القرآن وغير ذلك.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
ذكر ولاية تكين الثانية على مصر
ولاية الأمير تكين الثانية على مصر- وليها من قبل المقتدر بعد موت ذكا الرومىّ في شهر ربيع الأوّل سنة سبع وثلثمائة، وسار من بغداد الى مصر؛ وكان المقتدر قد جهّز جيشا الى مصر نجدة لذكا وعلى الجيش الأمير إبراهيم بن كيغلغ والأمير محمود ابن جمل «1» فدخلوا مصر قبل تكين في شهر ربيع الأوّل المذكور؛ ثم دخل تكين بعدهم بمدّة فى حادى عشرين من شعبان من السنة؛ فلما وصل تكين الى مصر أقرّ على شرطته ابن طاهر، ثم تجهّز بسرعة وخرج من الديار المصريّة بجيوش مصر والعراق ونزل بالجيزة وحفر بها خندقا ثانيا غير الذي حفره ذكا قبل موته.

(3/195)


وأمّا عسكر المغاربة فإنّ مقدّمة القائم ابن المهدىّ عبيد الله الفاطمىّ دخلت الإسكندريّة في صفر هذه السنة، فاضطرب أهل مصر ولحق كثير منهم بالقلزم والحجاز لا سيما لمّا مات ذكا؛ فلما قدم تكين هذا تراجع الناس. ثم إنّ تكين بلغه أنّ القائم محمدا قد اعتلّ بالإسكندريّة علّة صعبة وكثر المرض في جنده فمات داود بن حباسة ووجوه من القوّاد؛ ثم تحاملوا ومشوا إلى جهة مصر، فاستمرّ تكين بمنزلته من الجيزة إلى أن أقبلت عساكر المهدىّ، فاستقبله المذكور فتقاتلا قتالا شديدا انتصر فيه تكين وظفر بالمراكب في شوّال من السنة؛ وتوجّهت عساكر المهدىّ إلى نحو الصعيد، وعاد تكين إلى مصر مؤيّدا منصورا، ودام بها إلى أن حضر إليها مؤنس الخادم فى نحو ثلاثة آلاف من عساكر العراق في المحرّم سنة ثمان وثلثمائة، وخرج تكين إلى الجيزة ثانيا وبعث ابن كيغلغ إلى الأشمونين «1» لقتال عساكر المهدىّ (أعنى المغاربة) فتوجّه إليه ابن كيغلغ المذكور فمات بالبهنسا في أوّل ذى القعدة. ثم بلغ تكين أنّ ابن المدينىّ القاضى وجماعة بمصر يدعون إلى المهدىّ، فأخذهم وضرب أعناقهم وحبس أصحابه. وملك أصحاب المهدىّ الفيّوم وجزيرة الأشمونين وعدّة بلاد، وضعف أمر تكين عنهم؛ فقدم عليه نجدة ثانية من العراق عليها جنّىّ الخادم «2» فى ذى الحجّة من السنة؛ خرج جنىّ أيضا بمن معه إلى الجزيرة؛ وتوجّه الجميع لقتال عساكر المهدىّ، فكانت بينهم حروب وخطوب بالفيوم والإسكندريّة، وطال ذلك بينهم أياما كثيرة إلى أن رجع أبو القاسم القائم محمد بن المهدىّ عبيد الله بعساكره إلى برقة.
وأقام تكين بعد ذلك مدّة، وصرفه مؤنس الخادم عن إمرة مصر في يوم الأحد

(3/196)


لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل من سنة تسع وثلثمائة، وولّى مكانه على مصر أبا قابوس محمود بن جمل؛ وكانت ولاية تكين هذه الثانية على مصر نحو السنة وسبعة أشهر تخمينا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 307]
السنة التى حكم فيها ذكا وفي آخرها تكين على مصر، وهى سنة سبع وثلثمائة- فيها اجدبت العراق فخرج أبو العباس أخو أمّ موسى القهرمانة والناس معه فاستقبوا. وفيها خلع المقتدر على نازوك الخادم وولّاه دمشق. وفيها خلع المقتدر على أبى منصور بن أبى دلف وولّاه «1» ديار بكر وسميساط. وفيها دخلت القرامطة البصرة فنهبوها وقتلوا وسبوا. وفيها توفّى الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ بها، وكان صاحب الصلاة بمدينة السلام وأمير مكّة والموسم، وقد تقدّم ذكر أنه حجّ بالناس نحو العشرين سنة، وتولّى ابنه عمر مكانه، وكانت وفاته في صفر.
وفيها توفّى أحمد بن علىّ بن المثنّى بن يحيى بن عيسى بن هلال أبو يعلى التميمىّ الموصلىّ الحافظ صاحب المسند، ولد في شوّال سنة عشرين ومائتين، وكان إماما عالما محدّثا فاضلا؛ وثّقه ابن حبّان «2» ووصفه بالإتقان والدّين، وقال: بينه وبين النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنفس. وقال الحاكم: هو ثقة مأمون، سمعت أبا علىّ الحافظ يقول:
كان أبو يعلى لا يخفى عليه من حديثه إلا اليسير. وفيها توفّى علىّ بن سهل بن الأزهر

(3/197)


أبو الحسن الأصبهانىّ، كان أوّلا من أبناء الدنيا المترفين فتزهّد وخرج عما كان فيه، وكان يكاتب الجنيد فيقول الجنيد: «1» ما أشبه كلامه بكلام الملائكة!.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 308]
السنة الثانية من ولاية تكين الثانية على مصر، وهى سنة ثمان وثلثمائة- فيها غلت الأسعار ببغداد وشغبت العامّة ووقع النهب، فركبت الجند؛ وسبب ذلك ضمان «2» حامد بن العباس السواد وتجديد المظالم لمّا ولى الوزارة «3» ، وقصدوا دار حامد فخرج اليهم غلمانه فحاربوهم ودام القتال بينهم أياما وقتل منهم «4» خلائق، ثم اجتمع من العامّة نحو عشرة آلاف، فأحرقوا الجسر وفتحوا السجون ونهبوا الناس، فركب هارون [بن غريب «5» ] فى العساكر وركب حامد بن العباس في طيّار «6» فرجموه، واختلّت أحوال الدولة العبّاسية وغلبت الفتن ومحقت الخزائن. وفيها استولى عبيد الله الملقّب بالمهدىّ الداعى على بلاد المغرب وعظم أمره؛ ومن يومئذ أخذ أمر عبيد الله هذا في إقبال،

(3/198)


وأخذت الدولة العباسيّة في إدبار. وفيها توفّى جعفر بن محمد بن جعفر بن الحسن «1» ابن جعفر بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب العلوىّ، كان فاضلا ورعا، مات في ذى القعدة. وفيها توفّى عبد الله بن ثابت بن يعقوب الشيخ أبو عبد الله التّوّزىّ (بزاى معجمة) ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وسكن بغداد ومات غريبا بالرّملة، وكان فاضلا عالما. وفيها توفّى إمام جامع المنصور الشيخ محمد بن هارون بن العباس بن عيسى بن أبى جعفر المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ العباسىّ، كان معرقا في النسب، أمّ بجامع المنصور خمسين سنة، وولى ابنه جعفر بعده فعاش تسعة أشهر ومات. وفيها توفّيت ميمونة بنت المعتضد «2» بالله الهاشميّة العباسيّة عمّة الخليفة المقتدر، كانت من عظماء نساء عصرها.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
ذكر ولاية أبى قابوس محمود على مصر
هو محمود بن جمل «3» أبو قابوس، ولّاه مؤنس الخادم إمرة مصر بعد عزل تكين عنها لأمر اقتضى ذلك في يوم الأحد ثالث «4» عشر شهر ربيع الأوّل سنة تسع وثلثمائة، فلم ينجح أمره، وخالفت عليه جند مصر استصغارا له؛ فعزله مؤنس بعد ثلاثة أيّام في يوم الثلاثاء لستّ عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل المذكور؛ وعاد الأمير

(3/199)


نكين على إمرة مصر لثالث مرّة. وكانت ولاية محمود هذا على مصر ثلاثة أيام، على أنه لم يبتّ فيها أمراء قلت: ومتى تفرّغ «1» للنظر في الأمور! فانه يوم لبس الخلعة جلس فيه للتهانىّ، ويوم عزل للتآسى؛ فإمرته على هذا يوم واحد وهو يوم الاثنين، فما عسى [أن] يصنع فيه!. وكان مؤنس الخادم حضر إلى مصر في عسكر من قبل الخليفة المقتدر في سنة ثمان وثلثمائة، فصار يدبّر أمرها ويراجع الخليفة.
ذكر ولاية تكين الثالثة على مصر
ولما عزل مؤنس الخادم تكين هذا بأبى قابوس في ثالث عشر شهر ربيع الأوّل سنة تسع وثلثمائة بغير جنحة عظم ذلك على المصريين، فلم يلتفت مؤنس لذلك وولّى أبا قابوس على إمرة مصر عوضه، فكثر الكلام في عزل تكين المذكور وولاية أبى قابوس حتى أشيع بوقوع فتنة؛ وتكلّم الناس وأعيان مصر مع مؤنس الخادم في أمر تكين وخوّفوه عاقبة ذلك وألحّوا عليه في عوده، فأذعن لهم بذلك وأعاده فى يوم الثلاثاء سادس عشرين شهر ربيع الأوّل على رغمه حتى أصلح من أمره ما دبّره من أمر المصريين، وقرّر مع القوّاد ما أراده من عزل تكين المذكور عن إمرة مصر، ولا زال بهم حتى وافقه الجميع؛ فلما رأى مؤنس أن الذي رامه تمّ له عزله بعد أربعة أيام من ولايته، وذلك في يوم تاسع عشرين شهر ربيع الأوّل وهو يوم سلخه من سنة تسع وثلثمائة. ثم بدا لمؤنس إخراج تكين هذا من الديار المصريّة خوف الفتنة، فأخرجه منها إلى الشأم في أربعة آلاف من أهل الديوان؛ وبعث مؤنس إلى الخليفة يعرّفه بما فعل؛ فلما بلغ الخليفة ذلك ولّى على مصر الأمير هلال آبن بدر الآتى ذكره، وأرسله إلى الدّيار المصريه.

(3/200)


ذكر ولاية هلال بن بدر على مصر
هو هلال بن بدر الأمير أبو الحسن؛ ولى إمرة مصر بعد عزل تكين عنها فى شهر ربيع الآخر- أعنى من دخوله إلى مصر؛ فإنه قدمها في يوم الاثنين لسّت خلون من شهر ربيع الآخر من سنة تسع وثلثمائة، ولّاه الخليفة المقتدر على الصلاة.
ولما دخل إلى مصر أقرّ ابن طاهر على الشّرطة ثم صرفه بعد مدّة بعلىّ بن فارس.
وكان هلال هذا لما قدم إلى مصر جاء معه كتاب الخليفة المقتدر لمؤنس بخروجه من مصر وعوده إلى بغداد، فلما وقف مؤنس على كتاب الخليفة تجهّز وخرج من الديار المصريّة بعساكر العراق ومعه محمود بن جمل الذي كان ولى مصر. وكان خروج مؤنس من مصرفى يوم ثامن عشر شهر ربيع الآخر من سنة تسع وثلثمائة المذكورة.
وأقام هلال بن بدر المذكور على إمرة مصر وأحوالها مضطربة إلى أن خرج عليه جماعة من المصريين وأجمعوا على قتاله، وتشغّبت الجند أيضا ووافقوهم على حربه، وانضمّ الجميع بمن معهم وخرجوا من الديار المصرية إلى منية الأصبغ ومعهم الأمير محمد بن طاهر صاحب الشرطة. ولمّا بلغ هلالا هذا أمرهم تهيّأ وتجهّز لقتالهم، وجمع من بقى من جند مصر وطلب المقاتلة وأنفق فيهم وضمّهم إليه وجهّزهم، ثم خرج بهم وحواشيه إلى أن وافاهم وقاتلهم أياما عديدة؛ وطال الأمر فيما بينه وبينهم، ووقع له معهم حروب، وكثر القتل والنهب بينهم، وفشا الفساد وقطع الطريق بالديار المصرية؛ فعظم ذلك على أهل مصر، لا سيما الرعيّة. وضعف ابن هلال هذا عن إصلاح أحوال مصر، فصار كلّما سدّ أمرا انخرق عليه آخر؛ فكانت أيامه على مصر شرّ أيام. ولما تفاقم الأمر عزله الخليفة المقتدر بالله جعفر عن إمرة مصر بالأمير

(3/201)


أحمد بن كيغلغ. فكانت ولاية هلال المذكور على مصر سنتين وأياما، قاسى فيها خطوبا وحروبا ووقائع وفتنا، إلى أن خلص منها كفافا لا له ولا عليه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 309]
السنة التى حكم في أوّلها تكين إلى ثالث عشر شهر ربيع الأوّل، ثم أبو قابوس محمود ثلاثة أيام، ثم تكين المذكور أربعة أيام، ثم هلال بن بدر إلى آخرها، وهى سنة تسع وثلثمائة- فيها كانت مقتلة الحلّاج واسمه الحسين بن منصور بن محمّى أبو مغيث، وقيل: أبو عبد الله، الحلّاج. كان جدّه محمّى مجوسيّا فأسلم. ونشأ الحلّاج بواسط، وقيل: بتستر، وتلمذ لسهل بن عبد الله التسترىّ، ثم قدم بغداد وخالط الصوفيّة ولقى الجنيد والنّورىّ «1» وابن عطاء «2» وغيرهم. وكان في وقت يلبس المسوح وفي وقت الثياب المصبّغة وفي وقت الأقبية. واختلفوا في تسميته بالحلّاج، قيل: إن أباه كان حلّاجا، وقيل: إنه تكلّم على الناس [و «3» على ما في قلوبهم] فقالوا: هذا حلّاج الأسرار، وقيل: إنه مرّ على حلّاج فبعثه «4» في شغل له فلما عاد الرجل وجده قد حلّج كلّ قطن في الدكان. وقد دخل الحلّاج الهند وأكثر الأسفار وجاور بمكة سنين، ثم وقع له أمور يطول شرحها، وتكلّم في اعتقاده بأقوال كثيرة حتى اتفقوا على زندقته، والله أعلم بحاله. وكان قد حبس في سنة إحدى وثلثمائة فأخرج في هذه السنة من الحبس في يوم الثلاثاء لثلاث بقين من ذى القعدة، وقيل: لستّ بقين منه، فضرب

(3/202)


ألف سوط ثم قطعت أربعته ثم حزّ رأسه وأحرقت جثّته، ونصب رأسه على الجسر أياما، ثم أرسل إلى خراسان فطيف به. وفيها وقع بين أبى جعفر محمد بن جرير الطبرىّ وبين السادة الحنابلة كلام، فحضر أبو جعفر عند الوزير علىّ بن عيسى لمناظرتهم ولم يحضروا. وفيها قدم مؤذن؟؟؟ الخادم على الخليفة من مصر فخلع عليه ولقّبه بالمظفّر.
قلت: وهذا أوّل لقب سمعناه من ألقاب ملوك زماننا. وفيها توفى محمد بن خلف بن المرزبان بن بسّام أبو بكر المحوّلىّ- والمحوّل: قرية غربىّ بغداد- كان إماما عالما، وله التصانيف الحسان، وهو مصنّف كتاب" تفضيل «1» الكلاب على كثير ممن لبس الثياب"، وحدّث عن الزبير بن بكّار وغيره، وروى عنه ابن الأنبارىّ وغيره، وكان صدوقا ثقة. وفيها توفى محمد بن [أحمد «2» بن] راشد بن معدان الحافظ أبو بكر الثقفىّ مولاهم، كان حفّاظا محدّثا، طاف البلاد ولقى الشيوخ وصنّف الكتب، ومات بشروان «3» .
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن أنس «4» ابن مالك الدمشقىّ، وأبو عمرو أحمد بن «5» نصر الخفّاف الزاهد، وعلى بن «6» سعيد بن بشير

(3/203)


الرازىّ، ومحمد بن حامد بن سرىّ يعرف «1» بخال السّنّىّ، ومحمد بن يزيد «2» بن عبد الصمد، وممشاد الدّينورىّ «3» الزاهد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 310]
السنة الثانية من ولاية هلال بن بدر على مصر، وهى سنة عشر وثلثمائة- فيها قبض الخليفة المقتدر على أمّ موسى القهرمانة وصادر أخاها وحواشيها وأهلها؛ وسبب ذلك أنّها زوّجت بنت أخيها أبى بكر «4» أحمد بن العباس من أبى العباس محمد بن إسحاق بن المتوكّل على الله، وكان من سادة بنى العباس يترشّح للخلافة، فتمكّن أعداؤها من السعى عليها، وكانت قد أسرفت بالمال في جهازها، وبلغ المقتدر أنها تعمل له على الخلافة؛ فكاشفتها السيدة أمّ المقتدر وقالت: قد دبرّث على ولدى وصاهرت ابن المتوكّل حتى تقعديه في الخلافة؛ فسلّمتها الى ثمل القهرمانة ومعها أخوها وأختها، وكانت ثمل مشهورة بالشرّ وقساوة القلب، فبسطت عليهم العذاب واستخرجت منهم الأموال والجوهر؛ يقال: إنه حصّل من جهتهم ما مقداره ألف ألف دينار. وفيها قلّد الخليفة المقتدر نازوك الشّرطة بمدينة السلام مكان محمد بن

(3/204)


عبد الله بن طاهر. وفيها توفّى بدر [بن عبد الله «1» ] الحمامىّ الكبير أبو النجم «2» المعتضدىّ، كان أوّلا مع ابن طولون فولّاه الأعمال الجليلة، ثم جهّزه خمارويه إلى الشأم لقتال القرمطىّ فواقعه وقتله، ثم ولى من قبل الخلفاء أصبهان وغيرها إلى أن مات على عمل مدينة «3» فارس، وكان أميرا ديّنا شجاعا وجوادا محبّا للعلماء والفقراء؛ وقيل: إنّه كان مستجاب الدعوة؛ ولما مات ولّى المقتدر مكانه ابنه محمّدا. وفيها توفّى محمد بن جرير ابن يزيد بن كثير «4» بن غالب أبو جعفر الطبرىّ العالم المشهور صاحب التاريخ وغيره، مولده في آخر سنة أربع وعشرين ومائتين أو أوّل سنة خمس وعشرين ومائتين، وهو أحد أئمة العلم، يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه، وكان متفنّنا في علوم كثيرة، وكان واحد عصره؛ وكانت وفاته في شوّال بخراسان، وأصله من مدينة طبرستان. قال أبو بكر الخطيب: «جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظا لكتاب الله، بصيرا بالمعانى، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، بصيرا بأيّام الناس وأخبارهم؛ له الكتاب المشهور في تاريخ الأمم، وكتاب التفسير، وكتاب تهذيب الآثار لكن لم يتمّه؛ وله في الأصول والفروع كتب كثيرة» . انتهى. وفيها توفّى أحمد بن يحيى بن زهير أبو جعفر التسترىّ الحافظ الزاهد، سمع الكثير وحدّث وروى عنه خلق كثير. قال الحافظ أبو عبد الله بن مندة: ما رأيت في الدنيا أحفظ من أبى جعفر التسترىّ؛ وقال التسترىّ: ما رأيت في الدنيا أحفظ من أبى زرعة الرازىّ؛ وقال أبو زرعة: ما رأيت في الدنيا أحفظ من أبى بكر بن أبى شيبة.

(3/205)


الذين ذكر الذهبى وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى إسحاق بن إبراهيم ابن محمد بن حنبل «1» الأصبهانىّ، وأبو شيبة «2» داود بن إبراهيم، وعلى بن عبّاس المقانعىّ البجلىّ، ومحمد بن أحمد بن حمّاد أبو بشر الدّولابىّ في ذى القعدة، وأبو جعفر محمد ابن جرير الطبرىّ في شوّال، وله أربع وثمانون سنة، وأبو عمران موسى بن جرير الرّقّىّ، والوليد بن أبان أبو العباس الأصبهانىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع أصابع.
ذكر ولاية أحمد بن كيغلغ الأولى على مصر
هو أحمد بن كيغلغ الأمير أبو العبّاس؛ ولّاه المقتدر إمرة مصر بعد عزل هلال ابن بدر عنها في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلثمائة؛ فلما وليها قدم ابنه العباس خليفته على مصر، فدخلها العباس المذكور في مستهلّ جمادى الأولى من سنة إحدى عشرة وثلثمائة، فأقرّ ابن منجور على الشرطة، ثم قدم أحمد بن كيغلغ إلى مصر ومعه محمد بن الحسين بن عبد الوهاب الماذرائىّ على الخراج؛ ولما دخلا إلى مصر أحضرا الجند ووضعا العطاء لهم، وأسقطا كثيرا من الرّجالة «3» ، وكان ذلك بمنية «4» الأصبغ، فثار الرجّالة، ففرّ أحمد بن كيغلغ منهم الى فاقوس، وهرب الماذرائىّ ودخل المدينة لثمان خلون من شوّال. وأما الأمير أحمد بن كيغلغ هذا فإنه أقام بفاقوس الى أن صرف عن إمرة مصر بتكين في ثالث ذى القعدة سنة إحدى عشرة وثلثمائة؛ فكانت ولايته على مصر نحوا من سبعة أشهر؛ وتولّى تكين مصر عوضه وهى ولايته الرابعة

(3/206)


على مصر. وشقّ ذلك على الخليفة. غير أنه أطاع الجند وأرضاهم واستمالهم مخافة من عساكر المهدىّ الفاطمىّ؛ فإن عساكره تداول تحكّمهم الى نحو الديار المصريّة فى كلّ قليل؛ وصار أمير مصر في حصر من أجل ذلك وهو محتاج الى الجند وغيرهم، لأجل القتال والدفع عن الديار المصريّة. قلت: ويأتى بقيّة ترجمة أحمد بن كيغلغ هذا في ولايته الثانية على مصر إن شاء الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 311]
السنة التى حكم في غالبها الأمير أحمد بن كيغلغ على مصر، وهى سنة إحدى عشرة وثلثمائة- فيها صرف أبو عبيد «1» بن حربويه عن قضاء مصر وتأسّف الناس عليه وفرح هو بالعزل وانشرح له؛ وولى قضاء مصر بعده أبو يحيى عبد الله بن إبراهيم ابن مكرم. وفي هذه السنة ظهر شاكر الزاهد صاحب حسين الحلّاج وكان من أهل بغداد. قال السّلمىّ في تاريخ الصوفيّة: شاكر خادم الحلّاج كان متّهما مثل الحلّاج، ثم حكى عنه حكايات إلى أن قتل وضربت رقبته بباب الطاق «2» . وفيها صرف المقتدر حامد بن العبّاس عن الوزارة، وعلىّ بن عيسى عن الديوان؛ وكانت ولايتهما أربع سنين وعشرة أشهر وأربعة عشر يوما. واستوزر المقتدر أبا الحسن علىّ بن محمد بن الفرات الثالثة في يوم الخميس لسبع بقين من شهر ربيع الآخر؛ وهذه ولاية ابن الفرات الثالثة للوزارة. وفيها نكب الوزير أبو الحسن بن الفرات المذكور أبا علىّ بن مقلة كاتب حامد بن العبّاس وضيّق عليه. وابن مقلة هذا هو صاحب الخطّ المنسوب [إليه] ، يأتى ذكره إن شاء الله تعالى في محلّه. وفيها دخل أبو طاهر سليمان بن

(3/207)


الحسن الجنّابىّ القرمطىّ الى البصرة ووضع السيف في أهلها وأحرق البلد والجامع ومسجد طلحة وهرب الناس وألقوا بأنفسهم في الماء فغرق معظمهم. وفيها توفّى ابراهيم بن السّرىّ بن سهل أبو إسحاق الزجّاج الإمام الفاضل مصنّف" كتاب معانى القرآن" و" الاشتقاق" و" القوافى والعروض" و" فعلت وأفعلت" ومختصرا فى النحو، وغير ذلك. وفيها توفّى الوزير الأمير حامد بن العبّاس، كان أوّلا على نظر فارس وأضيف إليها البصرة، ثم آل أمره إلى أن طلب وولّى الوزارة للمقتدر؛ وكان كثير الأموال والحشم بحيث إنه كان له أربعمائة مملوك يحملون السلاح وفيهم جماعة أمراء؛ كان جوادا ممدّحا كريما، غير أنه كان فيه شراسة خلق، وكان ينتصب في بيته كلّ يوم عدّة موائد ويطعم كلّ من حضر إلى بيته حتى العامة والغلمان، فيكون فى بعض الأيام أربعون مائدة. ورأى يوما في دهليزه قشر باقلاء، فأحضر وكيله وقال له: ويحك! يؤكل في دارى باقلاء! فقال: هذا فعل البوّابين؛ فقال: أو ليست لهم جراية لحم؟ قال: بلى؛ [فقال «1» : سلهم عن السبب؛ فسألهم] فقالوا: لا نتهنّا بأكل اللحم دون عيالنا فنحن نبعثه إليهم ونجوع بالغداة فنأكل الباقلاء؛ فأمر أن يجرى عليهم لحم لعيالهم. وقيل: إنه ركب قبل الوزارة بواسط إلى بستان له فرأى شيخا يولول وحوله نساء وصبيان يبكون، فسأل حامد عن خبرهم؛ فقيل له: احترق منزله وقماشه فافتقر؛ فرقّ له حامد وطلب وكيله وقال له: أريد منك أن تضمن لى ألّا أرجع عشيّة من النزهة إلّا وداره كما كانت مجصّصة، وبها المتاع والقماش والنّحاس كما «2» كانت، وتبتاع له ولعياله كسوة الشتاء والصيف مثل ما كانوا؛ فأسرع فى طلب الصّنّاع وبادروا فى العمل، وصبّ الدراهم وأضعف الأجر حتى فرغوا من

(3/208)


الجميع بعد العصر، فلما ردّ حامد وقت العتمة شاهدها مفروغا «1» منها بآلاتها وأمتعتها الجدد، وازدحم الناس يتفرّجون وضجّوا لحامد بالدعاء؛ ونال «2» التاجر من المال فوق ما ذهب له، ثم زاده بعد ذلك كلّه خمسة آلاف درهم ليقوّى بها تجارته. وفيها توفّى محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السّلمىّ النيسابورىّ الحافظ أبو بكر، ولد في صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين. قال الدارقطنى: كان ابن خزيمة إماما ثبتا معدوم النظير. توفّى ثانى ذى القعدة. وفيها توفّى محمد بن زكريا أبو بكر الرازىّ الطبيب العلّامة في علم الأوائل وصاحب المصنّفات المشهورة، مات ببغداد وقد انتهت إليه الرياسة في فنون من العلوم، وكان في صباه مغنيّا [يضرب] بالعود.
قيل: إنه لما ترك الضرب بالعود والغناء قيل له في ذلك؛ فقال: كل غناء يطلع بين شارب ولحية لا يستحسن.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن محمد «3» بن هارون أبو بكر الخلّال الحنبلىّ، وإبراهيم بن السّرىّ أبو إسحاق الزجّاج في جمادى الآخرة، وحمّاد بن شاكر النسفىّ، وعبد الله بن إسحاق المدائنىّ، وأبو حفص عمر بن محمد ابن بجير «4» السّمرقندىّ، وأبو بكر بن إسحاق بن خزيمة السّلمىّ في ذى القعدة، ومحمد ابن زكريا الرازىّ الطبيب.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.

(3/209)


ذكر ولاية تكين الرابعة «1» على مصر
قد تقدّم ذكره في ولايته على مصر، وأنه صرف عن إمرة مصر في النّوبة الثالثة بهلال بن بدر، ثم ولى بعد هلال بن بدر الأمير ابن كيغلغ؛ فلما وقع لابن كيغلغ ما وقع من خروج جند مصر عليه واضطربت أحوال الديار المصرية وبلغ الخليفة المقتدر ذلك صرف ابن كيغلغ وأعاد تكين هذا على إمرة مصر رابع مرّة.
ووصل رسول تكين هذا إلى مصر بإمرته يوم الخميس لثلاث خلون من ذى القعدة سنة إحدى عشرة وثلثمائة؛ وخلفه ابن منجور على الصلاة إلى أن قدم مصر فى يوم عاشوراء من سنة اثنتى عشرة وثلثمائة، فأقرّ ابن منجور على الشّرطة ثم عزله، وولى قرا «2» تكين، ثم عزل قراتكين وولّى وصيفا الكاتب، ثم عزله أيضا وولّى بجكم الأعور؛ كلّ ذلك من اضطراب المصريّين، حتى مهّد أمور الديار المصريّة وتمكّن [و «3» ] أسقط كثيرا من الجند وكانوا أهل شرّ ونهب ونفاق؛ ثم نادى ببراءة الذمّة ممن أقام منهم بالديار المصريّة «4» بعد ذلك؛ فخرج الجميع على حميّة وأجمعوا على قتله؛ فتهيأ تكين أيضا لقتالهم وجمع العساكر؛ وصلّى الجمعة بدار الإمارة بالعسكر وترك حضور الجماعة خوفا من وقوع فتنة؛ ولم يصلّ قبله أحد من الأمراء بدار الإمارة الجمعة؛ وأنكر عليه أبو الحسن علىّ بن محمد الدّينورىّ ذلك وأشياء أخر؛ وبلغ تكين ذلك فأمر بإخراج الدينورىّ من مصر إلى القدس فخرج منها؛ ولم يقع له مع الجند ما راموا من القتال. وأخذ في تمهيد مصر إلى أن حسن حالها وتمكّنت

(3/210)


قدمه فيها ورسخت، حتى ورد عليه الخبر بموت الخليفة المقتدر في شوّال سنة عشرين وثلثمائة، وبويع بالخلافة من بعده أخوه القاهر بالله محمد؛ فأقرّ القاهر تكين هذا على عمله بمصر وأرسل إليه بالخلع؛ ودام تكين على ذلك حتى مرض ومات بها فى يوم السبت لستّ عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، وحمل في تابوت الى بيت المقدس فدفن به. وتولّى «1» مصر بعده محمد بن طغج.
وكانت ولاية تكين هذه المرّة على مصر تسع سنين وشهرين وخمسة أيام. وكان تكين المذكور يعرف بتكين الخاصّة وبالخزرىّ، وكان أميرا عاقلا شجاعا عارفا مدبّرا، ولى الأعمال الجليلة، وظالت أيّامه في السعادة، وكان عنده سياسة ودربة بالأمور ومعرفة بالحروب. رضى الله عنه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 312]
السنة الأولى من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة اثنتى عشرة وثلثمائة- فيها حجّ بالناس الحسن «2» بن عبد العزيز الهاشمىّ. وفيها عارض أبو طاهر بن أبى سعيد الجنّابىّ القرمطىّ الحاجّ وهو في ألف فارس وألف راجل، وكان من جملة الحجّاج أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وأحمد بن بدر عمّ السيدة أمّ المقتدر، وشقيق «3» خادمها وجماعة من الأعيان؛ فأسر القرمطىّ الجميع وأخذ جميع أموال الحاجّ، وسار بهم الى

(3/211)


هجر «1» ؛ ثم بعد أشهر أطلق القرمطىّ أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان المذكور. وفيها أرسل القرمطىّ المقدّم ذكره يطلب من المقتدر البصرة والأهواز. وذكر ابن حمدان أنّ القرمطىّ قتل من الحاجّ من الرجال ألفين ومائتين ومن النساء ثلثمائة، وبقى عنده بهجر ألفان ومائتا رجل وخمسمائة امرأة. وفيها فتحت فرغانة «2» على يد أمير خراسان.
وفيها أطلق أبو نصر وأبو عبد الله ولدا أبى الحسن بن الفرات وخلع عليهما؛ وقد وزّر أبوهما ابن الفرات ثالث مرّة، وملك من المال ما يزيد على عشرة آلاف ألف دينار، وأودع المال عند وجوه بغداد؛ وكان جبّارا فاتكا، وفيه كرم وسياسة، ومات «3» فى هذه السنة. وفيها توفّيت فاطمة بنت عبد الرّحمن ابن أبى صالح الشيخة أمّ محمد الصوفيّة، كانت من الصالحات المتعبّدات، طال عمرها حتى جاوزت الثمانين، ولقيت جماعة كثيرة من مشايخ القوم، وكان لها أحوال وكرامات. وفيها توفّى محمد بن محمد بن سليمان بن الحارث الحافظ أبو بكر الواسطىّ المعروف بالباغندىّ «4» ، سمع علىّ بن المدينى «5» ومحمد بن عبد الله بن نمير وشيبان بن فرّوخ وغيرهم بمصر والشام والعراق، وعنى بشأن الحديث أتمّ عناية، وروى عنه دعلج ومحمد بن المظفّر وعمر بن شاهين وأبو بكر بن المقرىّ وخلق كثير. قال أبو بكر الأبهرىّ «6» وغيره سمعنا أبا بكر الباغندىّ يقول: أجبت في ثلثمائة ألف مسئلة في حديث

(3/212)


النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الدارقطنى: كان كثير التدليس يحدّث بما لم يسمع.
ومات في ذى الحجّة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسن علىّ ابن محمد بن موسى بن الفرات الوزير، وأبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندىّ، وأبو بكر محمد بن هارون بن المجدّر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 313]
السنة الثانية من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة ثلاث عشرة وثلثمائة- فيها سار الحاجّ من بغداد ومعهم جعفر بن ورقاء في ألف فارس، فلقيهم القرمطىّ فناوشهم بالحرب، فرجع الناس الى بغداد، ونزل القرمطىّ على الكوفة، فقاتلوه فغلبهم ودخل البلد ونهب ما لا يحصى؛ فندب المقتدر مؤنسا الخادم لحرب القرمطىّ، وجهّزه بألف ألف دينار. وفيها عزل المقتدر أبا القاسم الخاقانىّ الوزير عن الوزارة؛ فكانت وزارته [سنة و «1» ] ستة أشهر؛ واستوزر أحمد ابن عبيد الله بن أحمد بن الخصيب، فسلّم إليه الخاقانىّ، فصادره وكتّابه وأخذ أموالهم. وفيها كان الرّطب كثيرا ببغداد حتى أبيع كلّ ثمانية أرطال بحبّة. وفيها قدم مصر علىّ بن عيسى الوزير من مكّة ليكشفها وخرج بعد ثلاثة أشهر للرملة.
وفيها عزل عن قضاء مصر عبد الله بن ابراهيم [بن «2» محمد] بن مكرم بهارون [بن إبراهيم «3» ] بن حمّاد القاضى من قبل المقتدر. وفيها توفّى علىّ بن عبد الحميد [بن عبد «4» الله

(3/213)


ابن سليمان] بن سليمان أبو الحسن الغضائرىّ «1» نزيل حلب، كان صالحا زاهدا، حجّ أربعين حجّة على أقدامه؛ قال: طرقت باب السّرىّ السّقطىّ فسمعته يقول:
«اللهمّ اشغل من شغلنى عنك بك» [قال فنالنى «2» بركة هذه الدعوة فحججت على قدمى من حلب الى مكّة أربعين سنة ذاهبا وآئبا] . وفيها توفّى علىّ بن محمد بن بشّار الشيخ أبو الحسن الزاهد العابد البغدادىّ صاحب الكرامات، كان من الأبدال، كان يتكلّم ويعظ الناس وكان لكلامه تأثير في القلوب؛ وكانت وفاته ببغداد ودفن غربيّها، وقبره هناك يقصد للزيارة. وفيها توفّى محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثّقفىّ مولاهم النّيسابورىّ الحافظ أبو العبّاس السّراج محدّث خراسان ومسندها. قال أبو إسحاق المزكّى «3» سمعته يقول: «ختمت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتى عشرة ألف ختمة، وضحّيت عنه اثنتى عشرة ألف ضحيّة» . قال محمد بن أحمد الدقّاق:
رأيت السّراج يضحّى في كل أسبوع أو أسبوعين أضحية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم يصيح بأصحاب الحديث فيأكلون. وقال الحاكم «4» : سمعت أبى يقول: لمّا ورد الزعفرانىّ «5» وأظهر خلق القرآن سمعت السّراج غير مرّة إذا مرّ بالسوق يقول:
«العنوا الزعفرانىّ» ؛ فيصيح الناس بلعنه، حتى ضيّق عليه نيسابور وخرج الى بخارى. وكانت وفاة السّراج في شهر ربيع الآخر، وله سبع «6» وتسعون سنة.

(3/214)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العباس أحمد ابن محمد الماسرجسىّ، وعبد الله بن زيدان بن يزيد البجلىّ، وعلى بن عبد الحميد الغضائرىّ، وأبو لبيد «1» محمد بن إدريس الشامىّ السّرخسىّ، ومحمد بن إسحاق أبو العباس السّراج في [شهر] ربيع الآخر وله سبع «2» وتسعون سنة، وأبو قريش محمد ابن جمعة القوهستانىّ «3» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 314]
السنة الثالثة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة أربع عشرة وثلثمائة- فيها جمدت دجلة بالموصل وعبرت عليها الدوابّ، وهذا لم يعهد مثله، وسقطت ثلوج كثيرة ببغداد. وفيها نزح أهل مكّة عنها خوفا من القرمطىّ، ولم يحجّ الرّكب العراقىّ في هذين العامين. وفيها دخلت الروم ملطية بالسيف فقتلوا وسبوا وبقوا فيها أيّاما. وفيها ردّ حجّاج خراسان خوفا من القرمطىّ. وفيها قبض المقتدر على الوزير ابن الخصيب لاشتغاله باللهو واختلال الدولة، فأحضر الوزير علىّ بن عيسى فأعيد الى الوزارة. وفيها في شهر رمضان هبّت ريح عظيمة فقلعت شجر نصيبين وهدمت دورها. وفيها توفّى الحسين «4» بن أحمد بن رستم أبو علىّ الكاتب، ويعرف بأبى زنبور الماذرائى، كان من كبار آل طولون، وكان من الفضلاء، أحضره

(3/215)


المقتدر لمناظرة ابن الفرات، ثم قلّده خراج مصر، ثم سخط عليه وأحضره الى بغداد وأخذ خطّه بثلاثة آلاف ألف دينار وستمائة ألف دينار؛ ثم أخرج الى مصر مع مؤنس الخادم فمات بدمشق؛ كان فاضلا كاتبا، حدّث عن أبى حفص العطّار وغيره وحدّث عنه الدارقطنىّ. وفيها توفّى نصر بن القاسم [بن نصر «1» ] بن زيد الشيخ الإمام أبو الليث الحنفىّ، كان عالما فقيها دينّا إماما في الفرائض جليلا نبيلا ثقة ثبتا، حدّث عن القواريرىّ وغيره، وروى عنه ابن شاهين وجماعة؛ وله مصنّفات كثيرة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد بن محمد «2» بن عمر القرشىّ المنكدرىّ، ومحمد بن محمد بن [عبد الله] النفّاح «3» الباهلىّ، ومحمد ابن يحيى [بن «4» عمر] بن لبابة القرطبىّ، وأبو الليث نصر بن القاسم الفرائضىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإصبع واحدة.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع.