النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 315]
السنة الرابعة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة خمس عشرة
وثلثمائة- فيها ظهرت الدّيلم على الرىّ والجبال؛ وأوّل من غلب منهم
لنكى «5» بن النعمان، فقتل من أهل الجبال مقتلة عظيمة وذبح الأطفال في
المهد؛ ثم غلب على قزوين أسفار بن
(3/216)
شيرويه وألزم أهلها مالا؛ وكان له قائد
يسمى مرداويج، فوثب على أسفار المذكور وقتله وملك البلاد مكانه، وأساء
السيرة بأصبهان، وجلس على سرير من ذهب وقال:
أنا سليمان بن داود وهؤلاء الشياطين أعوانى. وكان مع هذا سيّئ السيرة
في أصحابه؛ فدخل الحمّام يوما فدخل عليه أصحابه الأتراك فقتلوه ونهبوا
خزائنه، ومشى الدّيلم بأجمعهم حفاة تحت تابوته أربعة فراسخ. وفيها جاء
أبو طاهر القرمطىّ في ألف فارس وخمسة آلاف راجل؛ فجهّز المقتدر لحربه
يوسف بن أبى الساج في عشرين ألف فارس وراجل. فلما رآه يوسف احتقره، ثم
تقاتلا فكان بينهم مقتلة عظيمة لم يقع في هذه السنين مثلها، أسر فيها
يوسف بن أبى الساج جريحا وقتل فيها جماعة كثيرة من أصحابه. وبلغ
المقتدر فانزعج وعزم على النّقلة الى شرقىّ بغداد.
وخرج مؤنس بالعساكر الى الأنبار في أربعين ألفا، وانضم إليه أبو
الهيجاء عبد الله ابن حمدان وإخوته: أبو الوليد وأبو العلاء وأبو
السّرايا في أصحابهم وأعوانهم «1» .
وتقدّم نصر الحاجب، فأشار أبو الهيجاء على مؤنس بقطع القنطرة، فتثاقل
مؤنس عن قطعها؛ فقال له أبو الهيجاء: أيها الأستاذ، اقطعها واقطع لحيتى
معها فقطعها.
ثم صبّحهم القرمطىّ في ثانى عشر ذى القعدة فأقام بإزائهم يومين. ثم سار
القرمطىّ نحو الأنبار، فلم يتجاسر أحد أن يتبعه. ولولا قطع القنطرة
لكان القرمطىّ عبر عليها وهزم عسكر الخليفة وملك «2» بغداد. فانظر الى
هذا الخذلان؛ فإن القرمطىّ كان فى دون «3» الألف ومؤنس الخادم وحده في
أربعين ألفا سوى من انضم إليه من بنى حمدان وغيرهم من الملوك مع شدّة
بأس مؤنس في الحروب. فما شاء الله كان. ووقع في هذه السنة من القرمطىّ
بالأقاليم من البلاء والقتل والسبى والنهب ما لا مزيد عليه.
(3/217)
قلت: وكيف لا وهو الذي انزعج منه الخليفة
بنفسه وانكسرت عساكره منه، وذهب من بغداد ولم يتبعه أحد؛ فحينئذ خلاله
الجوّ وأخذ كلّ ما أراد ممّا لم يدفع كلّ واحد عن نفسه. وفيها تشغّبت
الجند على الخليفة المقتدر ووقع أمور. وفيها فى صفر قدم علىّ بن عيسى
الوزير على المقتدر، فزاد المقتدر في إكرامه وبعث إليه بالخلع وبعشرين
ألف دينار. وركب من الغد في الدّست «1» ، ثم أنشد:
ما النّاس إلّا مع الدنيا وصاحبها ... فكيفما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظّمون أخا الدنيا فإن وثبت ... يوما عليه بما لا يشتهى وثبوا
وفيها توفّى الحسين بن عبد الله أبو عبد الله الجوهرىّ، ويعرف بابن
الجصّاص، التاجر الجوهرىّ صاحب الأموال والجوهر، كان تاجرا يبيع
الجوهر؛ وقد تقدّم أنّ المقتدر صادره وأخذ منه ستة آلاف ألف دينار غير
المتاع والدوابّ والغلمان؛ ومع هذا المال كان فيه سلامة باطن، يحكى عنه
منها أمور، من ذلك: أنه دخل يوما على الوزير ابن الفرات فقال: أيها
الوزير عندنا كلاب ما تدعنا ننام؛ قال:
لعلهم جربى «2» ؛ قال: لا والله إلّا كلب كلب مثلى ومثلك. ونزل مرّة مع
«3» الوزير الخاقانىّ فى المركب وبيده بطّيخة كافور، [فأراد أن يبصق في
دجلة ويعطى الوزير البطّيخة] ، فبصق في وجه الوزير وألقى البطّيخة في
دجلة؛ [فارتاع «4» الوزير وقال له: ويحك! ما هذا؟] ؛ ثم أخذ يعتذر
للوزير فيقول: أردت أن أبصق في وجهك وألقى البطّيخة في الماء فغلطت؛
فقال: كذا فعلت يا جاهل!. [فغلط «5» فى الفعل وأخطأ فى الاعتذار!] .
ومع هذه البليّة كان متجوّلا «6» محظوظا عند الخلفاء والملوك. وفيها
(3/218)
توفّى عبد الله بن محمد بن جعفر أبو القاسم
القزوينىّ الشافعىّ، ولى قضاء دمشق نيابة عن محمد بن العبّاس الجمحىّ
وكان محمود السيرة فقيها، واختلط قبل موته. وفيها توفّى علىّ بن سليمان
بن الفضل أبو الحسن البغدادىّ النحوىّ، ويعرف بالأخفش الصغير، كان
متفنّنا يضاهى الأخفش الكبير في فضله وسعة علمه؛ ومات ببغداد. وفيها
توفّى محمد بن إسماعيل بن ابراهيم طباطبا الحسنىّ العلوىّ. وإنما سمّى
جدّه" طباطبا" لأن أمّه كانت ترقّصه وتقول: طباطبا (يعنى نم نم «1» ) .
كان سيّدا فاضلا جوادا، يسكن مصر، وكان له بها جاه ومنزلة، وبها مات،
وقبره يزار بالقرافة. وفيها توفّى محمد بن المسيّب بن إسحاق بن عبد
الله النيسابورىّ ثم الأرغيانىّ «2» ، ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين
وطاف البلاد في طلب العلم، وكان زاهدا عابدا، بكى حتى ذهب بصره؛ وكان
يقول: ما بقى من منابر الإسلام منبر إلا دخلته لسماع الحديث؛ وكان يعرف
بالكوسج «3» .
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد
بن [على بن «4» ] الحسين الرازىّ الحافظ بنيسابور، وأبو القاسم عبد
الله بن محمد بن جعفر القزوينىّ القاضى، وعلىّ بن سليمان النحوىّ
الأخفش الصغير، وأبو حفص محمد ابن الحسين «5» الخثعمىّ الأشنانىّ، وأبو
الحسن محمد بن الفيض الغسّانىّ، ومحمد بن المسيّب الأرغيانىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع واثنتان وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة أربع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
(3/219)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 316]
السنة الخامسة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة ستّ عشرة
وثلثمائة- فيها في المحرّم دخل أبو طاهر القرمطىّ الرّحبة «1» بعد حروب
ووضع فيها السيف؛ فبعث إليه أهل قرقيسياء «2» يطلبون الأمان فأمّنهم؛
وبعث سراياه في الأعراب فقتلوا ونهبوا وسبوا؛ ثم دخل قرقيسياء ونادى:
لا يظهر أحد من أهلها نهارا، فلم يظهر أحد. ثم توجّه الى الرّقّة
فأخذها. ولما رأى الوزير علىّ بن عيسى أن الهجرىّ- أعنى القرمطىّ-
استولى على البلاد استعفى من الوزارة. ولما رجع القرمطىّ من سفره بنى
دارا وسمّاها دار الهجرة، ودعا الى المهدىّ العلوىّ، وتفاقم أمره وكثر
أتباعه؛ فعند ذلك ندب الخليفة المقتدر هارون بن غريب وبعثه الى واسط
وبعث صافيا الى الكوفة؛ فوقع هارون بجماعة من القرامطة فقتلهم، وبعث
بجماعة منهم أسارى على الجمال الى بغداد ومعهم مائة وسبعون رأسا. وفيها
وقع بين نازوك وهارون حرب فى ذى القعدة؛ وسببها أن سواس نازوك وهارون
تغايروا على غلام أمرد، وقتل من الفريقين جماعة؛ فركب الوزير ابن مقلة
برسالة الخليفة بالكفّ عن القتال فكفّا.
وفيها سار ملك الروم الدّمستق في ثلثمائة ألف، فقصد ناحية خلاط «3»
وبدليس فقتل وسبى؛ ثم صالحه أهل خلاط على قطيعة وهى عشرة آلاف دينار؛
وأخرج المنبر من جامعها وجعل مكانه الصليب. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها توفّى بنان بن محمد ابن حمدان أبو الحسن الزاهد المشهور المعروف
بالحمّال، أصله من واسط ونشأ ببغداد
(3/220)
وسمع الحديث؛ ثم انتقل الى مصر وسكنها الى
أن مات بها؛ وهو أحد الأبدال؛ كان صاحب مقامات وكرامات؛ وبزهده وعبادته
يضرب المثل؛ صحب الجنيد وغيره؛ وهو أستاذ أبى الحسين النّورىّ. قال أبو
عبد الرّحمن السّلمىّ في محن الصوفيّة: إنّ بنانا الحمّال قام الى وزير
خمارويه فأنزله عن دابتّه، وكان نصرانيّا، وقال: لا تركب الخيل، ويلزمك
«1» ما هو مأخوذ عليكم في ملّتكم؛ فأمر خمارويه «2» ببنان المذكور بأن
يؤخذ ويطرح بين يدى سبع، فطرح وبقى ليلته ثم جاء السبع يلمسه «3» ؛
فلما أصبحوا وجدوه قاعدا مستقبل القبلة والسبع بين يديه؛ فأطلقه واعتذر
إليه. وذكر إبراهيم بن عبد الرّحمن أنّ القاضى أبا عبيد احتال على بنان
ثم ضربه سبع درر؛ فقال: حسبك الله بكل درّة سنة!؛ فحبسه ابن طولون سبع
سنين. ويروى أنه كان لرجل على رجل دين مائة دينار بوثيقة، فطلبها
الرجل- أعنى الوثيقة- فلم يجدها؛ فجاء الى بنان ليدعو له؛ فقال له
بنان: أنا رجل قد كبرت وأحبّ الحلواء، اذهب الى عند دار قربج فاشتر رطل
حلواء وأتنى به حتّى أدعو لك، ففعل الرجل وجاءه؛ فقال: بنان افتح ورقة
الحلواء، ففتحها فإذا هى الوثيقة؛ فقال: هذه وثيقتى؛ فقال: خذها وأطعم
الحلواء صبيانك.
وكانت وفاته في شهر رمضان، وخرج في جنازته أكثر أهل مصر. وفيها توفّى
داود بن الهيثم بن إسحاق بن البهلول أبو سعد «4» التّنوخىّ، مولده
بالأنبار وبها توفّى وله ثمان وثمانون سنة؛ كان إماما عارفا بالنحو
واللغة والأدب، وصنّف كتبا في اللغة والنحو على مذهب الكوفيّين، وله
كتاب كبير في خلق الإنسان. وفيها توفّى عبد الله بن سليمان بن الأشعث
(3/221)
الحافظ أبو بكر بن الحافظ أبى داود
السّجستانى محدّث العراق وابن محدّثها، ولد بسجستان سنة ثلاثين
ومائتين، ورحل به أبوه وطوّف به البلاد شرقا وغربا، واستوطن بغداد،
وصنّف السّنن والمسند والتفاسير والقراءات والناسخ والمنسوخ وغير ذلك.
قال أبو بكر الخطيب: سمعت الحسن بن «1» محمد الخلّال يقول: كان أبو بكر
بن أبى داود أحفظ من أبيه. قلت: وأبوه أبو داود هو صاحب السنن: أحد
الكتب الستّة؛ وقد وقع لنا سماعه ثلاثا حسبما ذكرناه في ترجمة أبيه رضى
الله عنه. وفيها توفّى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد أبو عوانة
الإسفراينىّ «2» النّيسابورىّ الحافظ المحدّث، كان إماما، طف البلاد
وصنّف المسند الصحيح المخرّج على صحيح مسلم، حجّ عدّة حجّات، وكان
زاهدا عابدا. رضى الله عنه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى بنان الحمّال
أبو الحسن الزاهد، وأبو بكر عبد الله بن أبى داود السّجستانىّ وله ستّ
وثمانون سنة، وأبو بكر محمد بن حريم «3» العقيلىّ، وأبو بكر محمد بن
السّرىّ بن السرّاج صاحب المبرّد، ومحمد ابن عقيل البلخىّ، وأبو عوانة
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الإسفراينى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
(3/222)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 317]
السنة السادسة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة سبع عشرة
وثلثمائة- فيها خلع أمير المؤمنين المقتدر بالله جعفر من الخلافة، خلعه
مؤنس الخادم ونازوك الخادم وأبو الهيجاء عبد الله بن حمدان، وأحضروا من
دار الخلافة «1» محمد ابن الخليفة المعتضد، وبايعوه بالخلافة ولقّبوه
بالقاهر بالله؛ وذلك في الثّلث الأخير من ليلة السبت خامس عشر المحرّم
من السنة المذكورة. وتولّى أبو علىّ بن مقله صاحب الخط المنسوب [اليه]
الوزارة، وقلّد نازوك الحجبة مضافة الى شرطة بغداد، وأضيف الى أبى
الهيجاء عبد الله بن حمدان ولاية حلوان والدّينور ونهاوند وهمذان
وغيرها مع ما كان بيده قبل ذلك من الولايات، مثل: الموصل والجزيرة
وميّافارقين.
ووقع النهب في دار الخلافة؛ وكان لأمّ المقتدر سمّائة ألف دينار في
الرصّافة فأخذت؛ واستتر المقتدر عند»
أمّه. وبعد ثلاثة أيّام حضرت الرّجّالة من الجند وامتلأت دار الخلافة
وازدحم الناس ودخلوا الى المقتدر وحملوه على رقابهم، وصاحوا: يا مقتدر
يا منصور، وخرجوا به وبايعوه ثانيا بالخلافة بعد أمور وقعت بين القوّاد
والجند من وقائع وحروب؛ وقتل أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان ونازوك،
وخلع القاهر محمد، وأمّنه أخوه المقتدر هذا؛ وسكنت الفتنة بعد حروب
وقعت ببغداد وقتل فيها عدّة من الأعيان والجند. قلت: وهذه ثانى مرّة
خلع فيها المقتدر من الخلافة؛ لأنه خلع أوّلا بعبد الله بن المعتزّ في
شهر ربيع الأول سنة ستّ وتسعين ومائتين، وهذه الثانية.
ثم استقر بعد هذه في الخلافة الى أن مات، حسبما يأتى ذكره في محلّة.
وفيها ظهر
(3/223)
هارون بن غريب ودخل الى مؤنس وسلّم عليه،
وقلّد الجبل فخرج إليه. وقلّد المقتدر إبراهيم ومحمدا ابنى رائق شرطة
بغداد، وقلّد مظفّر بن ياقوت الحجابة. وماتت ثمل القهرمانة وخلّفت
أموالا كثيرة. وفيها سيّر المقتدر ركب الحاجّ مع منصور الديلمىّ فوصلوا
الى مكّة سالمين؛ فوافاهم يوم التروية عدوّ الله أبو طاهر القرمطىّ
فقتل الحجيج قتلا ذريعا في فجاج مكّة وفي داخل البيت الحرام- لعنه
الله- وقتل ابن محارب أمير [مكة] «1» ، وعرّى البيت، وقلع باب البيت،
واقتلع الحجر الأسود وأخذه، وطرح القتلى فى بئر زمزم، وفعل أفعالا لا
يفعلها النصارى ولا اليهود بمكّة؛ ثم عاد الى هجر ومعه الحجر الأسود؛
فدام الحجر الأسود عندهم الى أن ردّ الى مكانه في خلافة المطيع، على ما
سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى. [وجلس «2» أبو طاهر على باب الكعبة
والرجال تصرع حوله في المسجد الحرام يوم التروية، الذي هو من أشرف
الأيام، وهو يقول] :
أنا لله وبالله أنا ... يخلق الخلق وأفنيهم أنا «3»
ودخل رجل من القرامطة الى حاشية الطواف وهو راكب سكران، فبال فرسه عند
البيت، ثم ضرب الحجر الأسود بدبّوس فكسره ثم اقتلعه. وكانت إقامة
القرمطىّ بمكّة أحد عشر يوما. فلما عاد القرمطىّ الى بلاده رماه الله
تعالى في جسده حتى طال عذابه وتقطّعت أوصاله وأطرافه وهو ينظر اليها،
وتناثر الدود من لحمه.
قلت: هذا ما عذّب به في الدنيا، وأما الأخرى فأشدّ إن شاء الله تعالى
وأدوم عليه
(3/224)
وأعوانه وذرّيته لعنة الله عليهم. وفيها
وقعت الوحشة بين الأمير تكين أمير مصر صاحب الترجمة وبين محمد بن طغج
أمير الحوف، فخرج محمد بن طغج من مصر سرّا «1» خوفا من تكين ولحق
بالشام. وفيها هلك القرمطىّ أبو طاهر سليمان بن أبى سعيد الحسن بن
بهرام الجنّابىّ القرمطىّ لعنه الله. ولى أبو طاهر هذا أمر القرامطة
بعد موت أبيه- عليهما اللعنة- بوصيّة أبيه إليه، وغلط أبو القاسم
السّمنانىّ «2» فى تاريخه، قال: الذي قلع الحجر الأسود أبو سعيد
الجنّابىّ «3» ؛ وإنما هو ابنه أبو طاهر هذا، عليهما اللعنة. ولما ولى
أبو طاهر هذا أمر القرامطة قوى أمره وحارب عساكر الخليفة، واتسع ملكه
وكثرت جنوده ونال من الدنيا ما لم ينله أبوه ولا جدّه؛ وكان زنديقا
ملحدا لا يصلّى ولا يصوم شهر رمضان، مع أنه كان يظهر الإسلام ويزعم أنه
داعية المهدىّ عبيد الله. وقد تقدّم من أخباره ما فيه كفاية عن ذكره
هنا: من قتله الحجّاج، وسفكه الدماء، وأخذه أموال الناس، وأشياء كثيرة
من ذلك.
وقد كان هذا الملعون أشدّ ما يكون من البلاء على الإسلام وأهله، وطالت
أيّامه.
ومنهم من يقول: إنه هلك عقيب أخذه الحجر الأسود- أعنى في هذه السنة-
والظاهر «4» خلافه. وكان أبو طاهر المذكور مع قلّة دينه عنده فضيلة
وفصاحة وأدب. ومن شعره القصيدة التى أوّلها:
أغرّكم منّى رجوعى الى هجر ... فعمّا قليل سوف يأتيكم الخبر
إذا طلع المرّيخ من أرض بابل ... وقارنه كيوان فالحذر الحذر
فمن مبلغ أهل العراق رسالة ... بأنّى أنا المرهوب «5» فى البدو والحضر
(3/225)
ومنها:
فيا ويلهم من وقعة بعد وقعة ... يساقون سوق الشاء للذّبح والبقر
سأصرف «1» خيلى نحو مصر وبرقة ... الى قيروان الترك والروم والخزر
ومنها:
أكيلهم بالسيف حتّى أبيدهم ... فلا أبق منهم نسل أنثى ولا ذكر
أنا الدّاع للمهدىّ لا شكّ غيره ... أنا الصارم الضّرغام والفارس الذكر
أعمّر حتّى يأتى عيسى بن مريم ... فيحمد آثارى وأرضى بما أمر
ولكنّه حتم علينا مقدّر ... فنفنى ويبقى خالق الخلق والبشر
وفيها توفّى أحمد بن الحسين الإمام العلامة أبو سعيد البردعىّ الحنفىّ
شيخ الحنفيّة في زمانه، استشهد بمكّة بيد القرامطة. وفيها توفّى أحمد
بن مهدىّ بن رستم، كان شيخا صالحا ذا مال كثير أنفقه كلّه على العلم،
ولم يعرف له فراش أربعين سنة.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن المرزبان بن شابور بن
شاهنشاه أبو القاسم البغوىّ الأصل البغدادىّ، مسند الدنيا وبقيّة
الحفّاظ، وهو ابن بنت أحمد بن منيع؛ ولد ببغداد في أوّل شهر رمضان سنة
أربع عشرة ومائتين، وسمع الكثير ورحل [الى] البلاد، وروى عنه خلائق لا
يحصيهم إلا الله، لأنه طال عمره وتفرّد في الدنيا بعلوّ السند. رضى
الله عنه. وفيها توفى نازوك الخادم قتيلا في هذه السنة في واقعة خلع
المقتدر. كان نازوك المذكور شجاعا فاتكا، غلب على الأمر وتصرّف في
الدولة، وعلم مؤنس الخادم أنه متى وافقه على خلع المقتدر لم يبق له فى
الدولة أمر ولا نهى، فوافقه ظاهرا وواطأ الرّجالة على «2» قتله حتى تمّ
له ذلك.
وكان لتازوك أكثر من ثلثمائة مملوك.
(3/226)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ
أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 318]
السنة السابعة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة ثمانى عشرة
وثلثمائة- فيها حجّ بالناس عبد السميع بن أيّوب بن عبد العزيز
الهاشمىّ، وقيل:
عمر بن الحسن بن عبد العزيز. قال أبو المظفّر في مرآة الزمان: «والظاهر
أنه لم يحجّ أحد منذ سنة سبع عشرة وثلثمائة الى سنة ستّ وعشرين
وثلثمائة خوفا من القرامطة» . وفيها في المحرّم صرف المقتدر ابنى رائق
عن الشّرطة وقلّدها أبا بكر محمد بن ياقوت. وفيها في شهر ربيع الآخر
هبّت ريح شديدة حملت رملا أحمر، قيل: إنه من جبل «1» ذرود فامتلأت به
أزقّة بغداد وسطوحها. وفيها قبض المقتدر على الوزير ابن مقلة، وأحرقت
داره وكانت عظيمة، وقد ظلم الناس فى عمارتها؛ وعزّ على مؤنس الخادم
حتّى لم يشاوره المقتدر في القبض عليه.
ثم استوزر المقتدر سليمان بن الحسن، فكان لا يصدر عن أمر حتّى يشاور
علىّ بن عيسى. وكانت وزارة ابن مقلة سنتين وأربعة أشهر وثلاثة أيّام.
وفيها توفّى جعفر «2» بن محمد بن يعقوب الشيخ أبو الفضل الصّندلىّ
البغدادىّ، كان من الأبدال، سمع علىّ بن حرب وغيره، واتفقوا على ثقته
وصدقه. وفيها توفّى سعيد بن عبد العزيز بن مروان الشيخ أبو عثمان
الحلبىّ الزاهد، وهو من أكابر مشايخ الشام، صحب سريّا السّقطىّ، وروى
عنه أبو الحسين الرازىّ وغيره، ومات بدمشق. وفيها
(3/227)
توفّى عبد الواحد بن محمد بن المهتدىّ أبو
أحمد الهاشمىّ، سمع يحيى بن أبى طالب، وروى عنه أبو الحسين الرازىّ
وغيره. وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الإسفراينىّ، ولد
بقرية من أعمال أسفراين يقال لها «جوربذ» ، وسافر في طلب الحديث، وكان
من الأثبات. وفيها توفّى محمد بن سعيد بن محمد أبو عبد الله الميورقىّ،
قدم بغداد وحدّث بها، وكان يتفقّه على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة.
وفيها توفّى يحيى بن محمد بن صاعد أبو محمد مولى أبى جعفر المنصور، كان
محدّثا فاضلا.
قال الدارقطنىّ: بنو صاعد ثلاثة: يوسف وأحمد ويحيى. وكانت وفاة يحيى
هذا ببغداد.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو جعفر
أحمد بن إسحاق بن بهلول الأنبارىّ قاضى مدينة المنصور، وأبو عروبة
الحسين بن محمد بن أبى معشر الحرّانىّ، وسعيد بن عبد العزيز الحلبىّ
الزاهد، وأبو بكر عبد الله بن محمد ابن مسلم الإسفراينىّ، وأبو بكر
محمد بن إبراهيم بن فيروز «1» الأنماطىّ، ويحيى بن محمد ابن صاعد في ذى
القعدة وله تسعون سنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإحدى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 319]
السنة الثامنة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة تسع عشرة
وثلثمائة- فيها نزل القرامطة الكوفة فهرب أهلها الى بغداد. وفيها دخل
الديلم
(3/228)
الدّينور وقتلوا أهلها وسبوا؛ فورد بعض أهل
دينور بغداد وقد سوّدوا وجوههم ورفعوا المصاحف على رءوس القصب، وحضروا
يوم عيد النحر الى جامع بغداد واستغاثوا ومنعوا الخطيب من الخطبة
والصلاة، وثار معهم عامّة بغداد، وأعلنوا بسبّ «1» المقتدر؛ ولازم
الناس المساجد وأغلقوا الأسواق خوفا من القرمطىّ. وفيها ولد المعزّ أبو
تميم معدّ العبيدىّ رابع خلفاء بنى عبيد وأوّل من ملك منهم ديار مصر
الآتى ذكره في محلّه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وفيها قبض
المقتدر على الوزير سليمان بن الحسن وحبسه، وكانت وزارته سنة وشهرين،
وكان المقتدر يميل الى وزارة الحسين بن القاسم فلا يمكّنه مؤنس، وأشار
مؤنس بعبيد الله بن محمد الكلوذانىّ، فاستوزره المقتدر مع مشاورة علىّ
بن عيسى في الأمور. وفيها كانت وقعة بين هارون بن غريب وبين مرداويج
الديلمىّ بنواحى همذان، فانهزم هارون؛ وملك الديلمىّ الجبل بأسره الى
حلوان. وفيها أيضا عزل المقتدر الكاوذانىّ، واستوزر الحسين بن القاسم
بن عبيد الله؛ لأنه كتب الى المقتدر وهو على حاجة:" أنا أقوم بالنففات
وزيادة ألف ألف دينار في كلّ سنة". وكانت وزارة الكلوذانىّ شهرين.
وفيها في ذى الحجّة استوحش مؤنس من الخليفة المقتدر لأنه بلغه اجتماع
الوزير والقوّاد على العمل على مؤنس، فعزم خواصّ مؤنس على كبس «2»
الوزير؛ فعلم الوزير فتغيّب «3» عن داره؛ وطلب من المقتدر عزل الوزير
فعزله، فقال: انفه الى عمان، فامتنع المقتدر. وأوقع الوزير في ذهن
المقتدر أنّ مؤنسا يريد أن يأخذ أبا العباس من داره ويذهب به الى الشأم
ومصر ويبايعه بالخلافة هناك. ثم
(3/229)
وقعت أمور ألجأت مؤنسا الى الخروج من بغداد
الى الشمّاسيّة، وكتب الى المقتدر يطلب منه مفلحا «1» الأسود؛ فقويت
الوحشة بين المقتدر وبين مؤنس حتى أرسل المقتدر الى قتاله ثلاثين ألفا،
وكان مؤنس في ثمانمائة، فانتصر عليهم وهزمهم وملك الموصل. وفيها كان
الوباء المفرط ببغداد حتى كان يدفن في القبر الواحد جماعة.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن أحمد بن بشّار أبو بكر الشاعر المشهور
الضرير النّهروانىّ «2» المعروف بابن العلّاف، أحد ندماء المعتضد، وكان
من الشعراء المجيدين. قال: كنت فى دار المعتضد مع جماعة من ندمائه،
فأتى الخادم ليلا فقال: أمير المؤمنين يقول لكم: أرقت الليلة بعد
انصرافكم، فقلت:
ولمّا انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذا الدّار قفر والمزار بعيد
وقد أريج علىّ تمامه. فمن أجازه بما يوافق غرضى أمرت له بجائزة؛ قال:
فأرتج على الجماعة، وكلّهم شاعر فاضل، فابتدرت وقلت:
فقلت لعينى عاودى النوم واهجعى ... لعلّ خيالا طارقا سيعود
ومن شعر ابن العلّاف هذا قصيدته التى رثى فيها [المحسن «3» بن أبى]
الحسن ابن الفرات الوزير وكنى عنه بالهرّ خوفا من الخليفة، وعددها خمسة
وستون بيتا، وأوّلها:
ياهرّ فارقتنا ولم تعد ... وكنت منّا بمنزل الولد
فكيف ننفكّ عن هواك وقد ... كنت لنا عدّة من العدد
(3/230)
تطرد عنّا الأذى وتحرسنا ... بالغيب من
حيّة ومن جرد
وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها الى السّدد
وكلّها على هذا المنوال، وفيها حكم أضربت عن ذكرها لطولها. وفيها توفّى
الحسن ابن علىّ بن زكريا بن صالح بن عاصم بن زفر أبو سعيد العدوىّ
البصرىّ، روى عنه الدارقطنىّ «1» وغيره، وعاش مائة وثمانين «2» سنة.
وفيها توفّى علىّ بن الحسين بن حرب أبو عبيد القاضىّ البغدادىّ، ويعرف
بابن حربويه، ولى قضاء مصر وأقام بها دهرا طويلا. قال الرّقاشىّ: سألت
عنه الدارقطنىّ فقال: ذلك الجليل الفاضل. وفيها توفّى محمد بن سعيد،
وقيل: ابن سعد، أبو الحسين «3» الورّاق النّيسابورىّ صاحب أبى عثمان
الحيرىّ، كان من كبار المشايخ، عالما بالشريعة والحقيقة. وفيها توفّى
محمد بن الفضل بن العباس أبو عبد الله البلخىّ الزاهد، كان أحد الأبدال
وله كرامات؛ قال: ما خطوت أربعين سنة خطوة لغير الله. وفيها توفّى
المؤمّل.
ابن الحسن بن عيسى بن ماسرجس أبو الوفاء النّيسابورىّ الماسرجسىّ شيخ
نيسابور فى عصره؛ وكان أبوه من بيت حشمة في النصارى فأسلم على يد ابن
المبارك وهو شيخ.
سمع المؤمّل هذا الكثير ورحل [الى] البلاد، وروى عنه ابناه أبو بكر
محمد وأبو القاسم علىّ وغيرهما. قال الحاكم: سمعت محمد بن المؤمّل
يقول: حجّ جدّى وهو ابن نيّف وسبعين سنة فدعا الله تعالى أن يرزقه
ولدا، فلمّا رجع رزق أبى فسمّاه المؤمّل، لتحقيق ما أمّله، وكنّاه أبا
الوفاء ليفى لله بالنّذور، ووفّاها.
(3/231)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة،
قال: وفيها توفّى أبو الجهم أحمد بن الحسين [بن أحمد «1» ] بن طلّاب
خطيب مشغرى «2» ، وأبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرّحمن ابن عبد الملك بن
مروان في رجب، وأبو سعيد الحسن بن علىّ بن زكرياء العدوىّ الكذّاب،
وأبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخىّ رأس المعتزلة، وأبو عبيد علىّ بن
الحسين بن حربويه القاضى، وأبو الوفاء المؤمّل بن الحسن الماسرجسىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وتسع أصابع. مبلغ
الزيادة خمس عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 320]
السنة التاسعة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة عشرين وثلثمائة-
فيها عزل المقتدر الحسين بن القاسم من الوزارة، واستوزر أبا الفتح بن
الفرات.
وفيها بعث المقتدر بالعهد واللواء لمرداويج الدّيلمىّ على إمرة
أذربيجان وإرمينية وأرّان وقم ونهاوند وسجستان. وفيها نهب الجند دور
الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات، فهرب الوزير إلى طيّار له في الشطّ
فأغرق الجند الطّيارات، وسخّم الهاشميّون وجوههم وصاحوا: الجوع الجوع!؛
وكان قد اشتدّ الغلاء لأن القرمطىّ ومؤنسا الخادم منعا الغلّات من
النواحى أن تصل. ولم يحجّ ركب العراق فى هذه السنة. وفيها في صفر غلب
مؤنس على الموصل، فتسلّل إليه الجند والفرسان من بغداد وأقام بالموصل
أشهرا؛ ثم تهيّأ المقتدر لقتاله وأخرج مضربه الى باب «3»
(3/232)
الشمّاسيّة، وبعث أبا العلاء سعيد بن حمدان
الى سرّمن رأى في ألف فارس؛ فأقبل مؤنس في جمع كبير، فلمّا قارب
[العكبرا «1» ] اجتهد المقتدر بهارون بن غريب أن يحارب مؤنسا فامتنع
واحتجّ بأن أصحابه مع مؤنس في الباطن ولا يثق بهم. وقيل: إنه عسكر
هارون وابن ياقوت وابنا رائق وصافى الحرمىّ ومفلح بباب الشمّاسيّة
وانضمّوا الى المقتدر، وقالوا له: إنّ الرجال لا يقاتلون إلا بالمال،
وإن أخرجت المال أسرع «2» اليك رجال مؤنس وتركوه؛ وسألوه مائتى ألف
دينار فلم يرض، وأمر بجمع الطيّارات لينحدر فيها بأولاده وحرمه إلى
واسط ويستنجد منها ومن البصرة وغيرها على مؤنس.
فقال له محمد بن ياقوت: اتّق الله في المسلمين ولا تسلّم بغداد بلا
حرب، وأمعن فى ذلك؛ حتّى قال له المقتدر: أنت رسول إبليس وبنى عزمه
وأصبح يقاتل مؤنسا وأبلى ابن ياقوت المذكور بلاء حسنا. وكان غالب عسكر
مؤنس البربر؛ فلمّا انكشف عن المقتدر أصحابه جاءه واحد من البربر فضربه
من خلفه ضربة سقط منها إلى الأرض؛ فقال له: ويلك! أنا الخليفة؛ فقال:
أنت المطلوب وذبحه بالسيف وشال رأسه على رمح، ثم سلب ما عليه وتركه
مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش وحفر له في الموضع ودفن فيه وعفّى أثره،
وذلك في شوّال. وبات مؤنس [بالشمّاسيّة «3» ] ، ووقع له بعد قتل
المقتدر أمور، حتّى أخرج القاهر وبايعه بالخلافة وتمّ أمره.
ذكر ترجمة المقتدر- اسمه جعفر، وكنيته أبو الفضل، ابن الخليفة المعتضد
بالله أحمد ابن ولىّ العهد طلحة الموفّق ابن الخليفة المتوكّل على الله
جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون
ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن
محمد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس، أمير المؤمنين الهاشمىّ العباسىّ
(3/233)
البغدادىّ. بويع بالخلافة بعد وفاة أخيه
المكتفى بالله علىّ في سنة خمس وتسعين ومائتين، وله ثلاث عشرة سنة، ولم
يل الخلافة أحد قبله أصغر منه. وخلع من الخلافة أوّل مرّة بعبد الله بن
المعتزّ في شهر ربيع الأوّل في سنة ستّ وتسعين ومائتين، ثم أعيد وقتل
ابن المعتزّ؛ ثم خلع في سنة سبع عشرة وثلثمائة بأخيه القاهر ثلاثة
أيام؛ ثم أعيد إلى الخلافة إلى أن قتل في هذه السنة. وقد تقدّم ذكر ذلك
كلّه فى الحوادث من هذا الكتاب كلّ واقعة في موضعها. واستخلف من بعده
أخوه القاهر محمد، وكنيته أبو منصور، وعمره يوم ولى الخلافة ثلاث
وثلاثون سنة. وكانت خلافة المقتدر خمسا وعشرين سنة إلّا بضعة عشر يوما؛
وكانت النساء «1» قد غلبن عليه، وكان سخيّا مبذّرا يصرف في السنة للحجّ
أكثر من ثلثمائة ألف دينار، وكان في داره أحد عشر ألف غلام خصىّ غير
الصّقالبة والروم؛ وأخرج جميع جواهر الخلافة ونفائسها على النساء
وغيرهنّ «2» ؛ وأعطى الدّرّة اليتيمة لبعض حظاياه، وكان زنتها ثلاثة
مثاقيل؛ وأخذت زيدان القهرمانة سبحة جوهر لم ير مثلها، [قيمتها ثلثمائة
«3» ألف دينار] ؛ هذا مع ما ضيّع من الذهب والمسك والأشياء والتّحف.
قيل: إنه فرّق ستين حبّا «4» من الصينىّ. وقال الصولىّ: كان المقتدر
يفرّق يوم عرفة من الإبل والبقر أربعين ألف رأس، ومن الغنم خمسين ألفا.
ويقال: إنه أتلف من المال في أيّام خلافته ثمانين ألف ألف دينار. وخلّف
المقتدر عدّة أولاد ذكور وإناث. وفيها توفّى أحمد ابن عمير بن يوسف
الحافظ أبو الحسين بن جوصى «5» ، كان حافظ الشام في وقته، كان إماما
حافظا متقنا رحالا. قال الدارقطنىّ: تفرّد بأحاديث وليس بالقوىّ.
(3/234)
وفيها توفّى الحسين بن صالح أبو علىّ بن
خيران «1» الفقيه الشافعىّ القاضى، كان من أفاضل الشيوخ وأماثل
الفقهاء. وفيها توفّى عبد الوهّاب بن عبد الرزّاق بن عمر بن مسلم أبو
محمد القرشىّ مولاهم الدمشقىّ؛ حدّث عن هشام بن عمّار وطبقته، وروى عنه
أبو الحسين الرازىّ وغيره. وفيها توفّى محمد بن يوسف بن إسماعيل أبو
عمر «2» القاضى الأزدىّ مولى جرير بن حازم، ولى قضاء مدينة المنصور،
وكان عالما عاقلا ديّنا متفننا.
وفيها توفّى أبو عمرو «3» الدمشقىّ أحد مشايخ الصوفيّة، صحب ابن الجلىّ
وأصحاب ذى النون، وكان من عظماء مشايخ الفقه، وله مقالات وأحوال.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسن
أحمد بن القاسم الفرائضىّ، والمقتدر بالله جعفر بن المعتضد، قتل في
شوّال عن ثمان وثلاثين سنة، وأبو القاسم عبد الله بن محمد بن يوسف
الفربرىّ، وأبو عمر محمد بن يوسف القاضى، وأبو علىّ بن خيران الشافعىّ
الحسين بن صالح.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
ذكر ولاية محمد بن طغج الأولى على مصر
هو محمد بن طغج بن جفّ بن يلتكين «4» بن فوران بن فورى، الأمير أبو بكر
الفرغانىّ التركىّ. مولده في يوم الاثنين منتصف شهر رجب سنة ثمان وستين
ومائتين
(3/235)
ببغداد بشارع باب الكوفة. ولى إمرة مصر بعد
موت تكين، ولّاه أمير المؤمنين القاهر بالله على الصلاة بعد أن اضطربت
أحوال الديار المصريّة؛ وخرج ابن تكين منها في سادس عشر [شهر] ربيع
الأوّل سنة إحدى وعشرين وثلثمائة؛ فأرسل محمد ابن طغج هذا كتابه
بولايته على مصر في سابع شهر رمضان من سنة إحدى وعشرين وثلثمائة
المذكورة. ولم يدخل مصر في هذه الولاية، وما دخلها أميرا عليها إلا في
ولايته الثانية من قبل الخليفة الراضى بالله. وقال ابن خلّكان بعد ما
سمّاه وأباه الى أن قال:
" الفرغانىّ الأصل، صاحب سرير الذهب، المنعوث بالإخشيذ «1» صاحب مصر
والشام والحجاز. أصله من أولاد ملوك فرغانة؛ وكان المعتصم بالله بن
هارون الرشيد قد جلبوا اليه من فرغانة جماعة كثيرة، فوصفوا له جفّ
وغيره بالشجاعة والتقدّم في الحروب، فوجّه اليهم المعتصم من أحضرهم؛
فلما وصلوا إليه بالغ في إكرامهم وأقطعهم قطائع بسرّمن رأى. وقطائع جفّ
الى الآن معروفة هناك؛ فلم «2» يزل جفّ بها الى أن مات ليلة قتل
المتوكّل". انتهى كلام ابن خلكان. قلت: ودعى له على منابر مصر وهو مقيم
بدمشق نحوا من ثلاثين يوما- وقال صاحب البغية: اثنين وثلاثين يوما- الى
أن قدم رسول الأمير أحمد بن كيغلغ بولايته على مصر ثانى مرّة من قبل
الخليفة القاهر بالله في تاسع شوّال من السنة. وأما الأيّام التى قبل
ولاية محمد بن طغج على مصر فكان يحكم «3» فيها ابن تكين باستخلاف والده
تكين له، ويشاركه في ذلك أيضا الماذرائىّ صاحب خراج مصر المقدّم ذكره.
ووقع في هذه الأيّام بمصر أمور ووقائع، وكان الزمان مضطربا لقتل
الخليفة المقتدر بالله جعفر واشتغال الناس بحرب القرمطى. وكان
(3/236)
فى تلك الأيّام كلّ من غلب على أمر صار له.
وفي ولاية محمد بن طغج هذا على مصر ثانيا- على ما سيأتى ذكره إن شاء
الله تعالى- لقّب بالإخشيذ. والإخشيذ بلسان الفرغانة:
ملك الملوك. وطغج: عبد الرّحمن. والإخشيذ: لقب ملوك فرغانة، كما أن
أصبهبذ: لقب ملوك طبرستان، وصول: لقب ملوك جرجان، وخاقان: لقب ملوك
الترك، والأفشين: لقب ملوك أشروسنة، وسامان: لقب ملوك سمرقند، وقيصر:
لقب ملوك الروم، وكسرى: لقب ملوك العجم، والنجاشى والحطىّ: لقب ملوك
الحبشة، وفرعون قديما: [لقب] ملوك مصر، وحديثا السلطان. ولما مات جدّه
جفّ في سنة سبع وأربعين ومائتين اتصل ابنه طغج أبو محمد هذا بالأمير
أحمد ابن طولون صاحب مصر، وكان من أكابر قوّاده؛ ودام على ذلك حتى قتل
خمارويه ابن أحمد بن طولون: فسار طغج الى الخليفة المكتفى بالله علىّ؛
فأكرم الخليفة مورده.
ثم بدا من طغج المذكور تكبّر على الوزير، فحبس «1» هو وابنه محمد الى
أن مات طغج المذكور في الحبس. وبعد مدّة أخرج محمد هذا من الحبس؛ وجرت
له أمور يطول شرحها، إلى أن قدم مصر في دولة تكين، وولّى الأحواف
بأعمال مصر وأقام على ذلك مدّة إلى أن وقّع بينه وبين تكين، وخرج من
مصر مختفيا إلى الشام؛ ثم ولّى إمرة الشام، ثم أضيف إليه إمرة مصر فلم
يدخلها، على ما تقدّم ذكره، وعزل بالأمير أحمد بن كيغلغ. وتأتى بقيّة
ترجمته في ولايته الثانية على مصر إن شاء الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 321]
السنة التى حكم فيها عدّة أمراء على مصر، حكم في أوّلها تكين الى أن
مات في شهر ربيع الأوّل، ثم ابنه من غير ولاية الخليفة بل باستخلاف
أبيه، ثم الأمير محمد بن طغج من أواخر شعبان الى أواخر شهر رمضان،
وكانت ولايته اثنين
(3/237)
وثلاثين يوما ولم يدخلها، ثم الأمير أحمد
بن كيغلغ من آخر [شهر] رمضان؛ ولم يصل رسوله إلا لسبع خلون من شوّال،
وهى سنة إحدى وعشرين وثلثمائة- فيها شغب الجند على الخليفة القاهر
بالله وهجموا [على] الدار، فنزل في طيّار إلى دار مؤنس الخادم فشكا
إليه، فصبّرهم مؤنس عشرة أيام. وكان الوزير ابن مقلة منحرفا عن محمد بن
ياقوت، فنقل الى مؤنس أن ابن ياقوت يدبّر عليهم؛ فاتفّق مؤنس وابن مقلة
ويلبق «1» وابنه على الإيقاع بابن ياقوت، فعلم فاستتر. ثم جاء علىّ بن
يلبق الى دار الخلافة فوكل بها أحمد بن زيرك «2» وأمره بالتضييق على
القاهر. وطالب ابن يلبق [القاهر «3» ] بما كان عنده من أثاث أمّ
المقتدر. وفيها استوحش المظفّر مؤنس وابن مقلة ويلبق من الخليفة
القاهر. وفيها أشيع ببغداد أن يلبق والحسن بن هارون كاتبه عزما على سبّ
معاوية بن أبى سفيان على المنابر، فاضطربت الناس، وقبض يلبق على جماعة
من الحنابلة ونفاهم الى البصرة. وفيها تأكّدت الوحشة بين الخليفة
القاهر وبين وزيره ابن مقلة ويلبق، وقبض على يلبق وعلى أحمد بن زيرك
وعلى يمن المؤنسىّ صاحب شرطة بغداد وحبسوا، وصار الحبس كلّه في دار
الخلافة. ثم طلب الخليفة مؤنسا فضر إليه، فقبض عليه أيضا. واختفى
الوزير ابن مقلة؛ فاستوزر القاهر عوضه أبا جعفر [محمد «4» ] بن القاسم
بن عبيد الله، وأحرقت دار ابن مقلة كما أحرقت قبل هذه المرّة.
ثم ظفر القاهر بعلىّ بن يلبق بعد جمعة فحبسه بعد الضرب؛ ثم ذبح القاهر
يلبق وابنه عليّا ومؤنسا وخرج برءوسهم الى الناس وطيف بها. ووقع في هذه
السنة أمور. وأطلق
(3/238)
القاهر أرزاق الجند فسكنوا، واستقامت له
الأمور وعظم في القلوب، وزيد في ألقابه:
«المنتقم من أعداء دين الله» ، ونقش ذلك على السّكّة. وفيها أمر القاهر
بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنّين، ونفى المخنّثين، وكسر آلات
اللهو، وأمر بتتبّع المغنّيات من الجوارى، وكان هو مع ذلك يشرب المطبوخ
ولا يكاد يصحو من السكر. وفيها عزل القاهر الوزير محمدا، واستوزر أبا
العباس بن الخصيب. وفيها حجّ بالناس مؤنس الورقانىّ. وفيها توفّيت
السيدة شغب أمّ الخليفة المقتدر بالله جعفر، كان متحصّلها فى السنة ألف
ألف دينار، فتتصدّق بها وتخرج من عندها مثلها؛ وكانت صالحة. ولما قتل
ابنها كانت مريضة، فقوى مرضها وامتنعت من الأكل حتى كادت تهلك؛ ثم
عذّبها القاهر حتى ماتت. ولم يظهر لها إلا ما قيمته مائة وثلاثون ألف
دينار؛ وكان لها الأمر والنهى في دولة ابنها. وفيها قتل مؤنس الخادم،
وكان لقّب بالمظفّر لمّا عظم أمره، وكان شجاعا مقداما فاتكا مهيبا، عاش
تسعين سنة، منها ستون سنة أميرا، وكان كل ما له في علوّ ورفعة، وكان قد
أبعده المعتضد الى مكة. ولما بويع المقتدر بالخلافة أحضره وقرّبه وفوّض
إليه الأمور، فنال من السعادة والوجاهة ما لم ينله خادم قبله. وفيها
توفّى أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك أبو جعفر الأزدىّ
الحجرىّ «1» المصرىّ الطّحاوىّ الفقيه الحنفى المحدّث الحافظ أحد
الأعلام وشيخ الإسلام- وطحا «2» : قرية من قرى مصر من ضواحى القاهرة
بالوجه البحرىّ- قال ابن يونس «3» : ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين. وسمع
هارون بن سعيد
(3/239)
الأيلىّ وعبد الغنىّ بن رفاعة ويونس بن عبد
الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وطائفة غيرهم؛ وروى عنه أبو
الحسن «1» الإخميمىّ وأحمد بن القاسم الخشّاب وأبو بكر «2» ابن المقرئ
وأحمد بن عبد الوارث الزجّاج والطبرانىّ وخلق سواهم، ورحل الى البلاد.
قال أبو اسحاق الشيرازىّ: انتهت الى أبى جعفر رياسة أصحاب أبى حنيفة
بمصر.
أخذ العلم عن أبى جعفر أحمد بن أبى عمران وأبى حازم وغيرهم، وكان إمام
عصره بلا مدافعة في الفقه والحديث واختلاف العلماء والأحكام واللغة
والنحو، وصنّف المصنّفات الحسان، وصنّف" اختلاف العلماء" و" أحكام
القرآن" و" معانى الآثار" و" الشروط"، وكان من كبار فقهاء الحنفيّة.
والمزنىّ الشافعىّ هو خال الطحاوىّ، وقصّته «3» معه مشهورة في ابتداء
أمره. وكانت وفاة الطحاوىّ في مستهل ذى القعدة. وفيها توفى محمد ابن
الحسن بن دريد بن عتاهية، العلّامة أبو بكر الأزدىّ البصرىّ نزيل
بغداد، تنقّل فى جزائر البحر وفارس، وطلب الأدب واللغة حتّى صار رأسا
فيهما وفي أشعار العرب، وله شعر كثير وتصانيف؛ وكان أبوه من رؤساء
زمانه. وحدّث ابن دريد عن أبى حاتم السّجستانىّ وأبى الفضل العبّاس
الرّياشىّ وابن أخى «4» الأصمعى؛ وروى عنه أبو سعيد السّيرافىّ «5»
وأبو بكر بن شاذان «6» وأبو الفرج «7» صاحب الأغانى وأبو عبد الله «8»
المرزبانىّ.
(3/240)
وعاش ابن دريد بضعا وتسعين سنة؛ فإنّ مولده
في سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
وقال أبو حفص «1» بن شاهين: كنّا ندخل على ابن دريد، فنستحى مما نرى من
العيدان المعلّقة والشراب وقد جاوز التسعين. ولابن دريد من المصنّفات:
كتاب: «الجمهرة» وكتاب «الأمالى» وكتاب «اشتقاق أسماء القبائل» وكتاب
«المجتبى «2» » وهو صغير وكتاب «الخيل «3» » وكتاب «السلاح» وكتاب
«غريب القرآن» ولم يتمّ، وكتاب «أدب الكاتب» وأشياء غير ذلك. وكان
يقال: ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء. ولما مات دفن هو وأبو هاشم
الجبّائىّ في يوم واحد في مقبرة الخيزران لاثنتى عشرة ليلة بقيت من
شعبان. ومن شعره قوله:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبى نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفا فسلّطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
وله:
ثوب الشباب علىّ اليوم بهجته ... فسوف ينزعه عنّى يدا الكبر
أنا ابن عشرين لا زادت ولا نقصت ... إنّ ابن عشرين من شيب على خطر
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو حامد
أحمد [ابن حماد «4» ] بن حمدون النّيسابورىّ الأعمشىّ «5» ، وأحمد بن
عبد الوارث العسّال،
(3/241)
وأبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوىّ
في ذى القعدة عن اثنتين وثمانين سنة، وأبو هاشم عبد السلام بن أبى علىّ
الجبّائىّ، وأبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدىّ ببغداد، ومكحول
البيروتىّ محمد [بن عبد الله «1» ] بن عبد السلام، ومحمد بن نوح
الجنديسابورىّ، ومؤنس الخادم الملقّب بالمظفّر، وأبو حامد محمد بن
هارون الحضرمىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا ونصف إصبع.
ذكر ولاية أحمد بن كيغلغ الثانية على مصر
ولى أحمد بن كيغلغ المذكور مصر ثانيا من قبل القاهر محمد لمّا اضطربت
أحوال الديار المصريّة بعد عزل الأمير محمد بن طغج بن جفّ في آخر شهر
رمضان؛ وقدم رسوله إلى الديار المصريّة بولايته لتسع خلون من شوّال سنة
إحدى وعشرين وثلثمائة. واستخلف ابن كيغلغ المذكور أبا الفتح [محمد «2»
] بن عيسى النّوشرىّ على مصر؛ فتشغّب عليه الجند في طلب أرزاقهم؛
وطلبوا ذلك من الماذرائىّ صاحب خراج مصر، فاستتر الماذرائىّ منهم،
فأحرقوا داره ودور أهله. ووقعت فتنة عظيمة وحروب قتل فيها جماعة كثيرة
من المصريّين. ودامت الفتنة إلى أن قدم محمد ابن تكين إلى مصر من
فلسطين لثلاث عشرة خلت من شهر جمادى «3» الأولى سنة اثنتين وعشرين
وثلثمائة؛ فظهر الماذرائىّ صاحب الخراج وأنكر ولاية ابن تكين على مصر؛
فتعصّب لمحمد المذكور جماعة من المصريّين ودعى له بالإمارة على
المنابر؛ ووقع
(3/242)
بين الناس بسبب ذلك، وصاروا فرقتين: فرقة
تنكر ولاية محمد بن تكين وتثبت ولاية أحمد بن كيغلغ، وفرقة تتعصّب
لمحمد بن تكين وتنكر ولاية ابن كيغلغ. ووقع بسبب ذلك فتن، وخرج منهم
قوم إلى الصعيد: فيهم ابن النّوشرىّ خليفة ابن كيغلغ وغيره، وأمّر ابن
النّوشرىّ عليهم، وهم مستمرّون [فى] الدعاء لابن كيغلغ. فكانت حروب
كثيرة بديار مصر بسبب هذا الاختلاف إلى أن أقبل الأمير أحمد بن كيغلغ
ونزل بمنية الأصبع في يوم ثالث شهر رجب سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة.
فلما وصل ابن كيغلغ لحق به كثير من أصحاب محمد بن تكين، فقوى أمره بهم.
فلما رأى محمد بن تكين أمره في إدبار فرّ ليلا من مصر، ودخلها من الغد
الأمير أحمد بن كيغلغ، وذلك لستّ خلون من شهر رجب. فكان مقام ابن تكين
على مصر في هذه الأيّام مائة يوم واثنى عشر يوما وهو غير وال بل متغلّب
عليها؛ وكان المتولّى من الخليفة في هذه المرّة ابن كيغلغ المذكور؛ غير
أنه كان قد تأخّر عن الحضور إلى الديار المصريّة لأمر ما. ولما دخل ابن
كيغلغ إلى مصر وأقام بها أقرّ بجكم الأعور على شرطة مصر، ثم عزله بعد
أيام بالحسين بن علىّ بن معقل مدّة ثم أعيد بجكم. وأخذ ابن كيغلغ في
إصلاح أمر مصر والنظر في أحوالها وفي أرزاق الجند. ومع هذه الفتن التى
مرّت كان بمصر في هذه السنة والماضية زلازل عظيمة خربت فيها عدّة بلاد
ودور كثيرة وتساقطت عدّة كواكب. وبينما أحمد بن كيغلغ في إصلاح أمر مصر
ورد عليه الخبر بخلع الخليفة القاهر بالله وتولية الراضى بالله محمد بن
المقتدر جعفر. فلما بلغ محمّد بن تكين تولية الراضى بالله عاد إلى مصر
بجموعه وأظهر أن الراضى ولّاه مصر؛ فخرج إليه عسكر مصر وأعوان أحمد بن
كيغلغ وحاربوه فيما بين بلبيس وفاقوس شرقىّ مصر؛ فكانت بينهم مقتلة
انكسر فيها محمد بن تكين وأسروجىء به إلى الأمير أحمد بن كيغلغ
المذكور؛ فحمله ابن كيغلغ إلى الصعيد؛ واستقامت الأمور بمصر لأحمد بن
كيغلغ. وبعد
(3/243)
ذلك بمدّة يسيرة ورد كتاب الخليفة بخبر
ولاية الأمير محمد بن طغج على مصر وعزل أحمد بن كيغلغ هذا عنها، وأن
محمد بن طغج واصل اليها عن قريب. فأنكر ابن كيغلغ ذلك وتهيّأ لحربه
وجهّز إليه عساكر مصر ليمنعوه من الدخول إلى الفرما. فأقبلت مراكب محمد
بن طغج من البحر إلى تنّيس، وسارت مقدّمته في البر؛ والتقوا مع عساكر
أحمد بن كيغلغ؛ فكانت بينهم وقعة هائلة وقتال شديد في سابع عشر شعبان
سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة؛ فانكسر أصحاب ابن كيغلغ؛ وأقبلت مراكب محمد
بن طغج الى ديار مصر في سلخ شعبان؛ فسلّم أحمد بن كيغلغ الأمر الى محمد
بن طغج من غير قتال واعتذر أنه ما قاتله إلا جند مصر بغير إرادته. وملك
محمد بن طغج ديار مصر وهى ولايته الثانية عليها. وكانت ولاية ابن كيغلغ
على مصر في هذه المرّة الثانية سنة واحدة وأحد عشر شهرا تنقص أيّاما
قليلة. وأحمد بن كيغلغ هذا غير منصور بن كيغلغ الشاعر الذي من جملة
شعره هذه الأبيات الخمريّة «1» :
يدير «2» من كفّه مداما ... ألذّ من غفلة الرقيب
كأنّها إذ صفت ورقّت ... شكوى محبّ إلى حبيب
***
[ما وقع من الحوادث سنة 322]
السنة الثانية من ولاية أحمد بن كيغلغ الثانية على مصر (أعنى بالثانية
أنه حكم في الماضية أشهرا، وقد تقدّم ذكر ذلك فتكون هذه السنة هى
الثانية) وهى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة- فيها ظهرت الدّيلم عند دخول
أصحاب مرداويج إلى أصبهان، وكان علىّ بن بويه من جملة أصحاب مرداويج،
فاقتطع مالا جزيلا وانفرد عن مرداويج، والتقى مع ابن ياقوت فهزمه
واستولى على فارس وأعمالها.
(3/244)
قلت: وهذا أوّل ظهور بنى بويه. قيل: إنّ
بويه كان فقيرا؛ فرأى في منامه أنه بال فخرج من ذكره عمود من نار، ثم
تشعّب «1» يمنة ويسرة وأماما وخلفا حتى ملأ الدنيا؛ فقصّ رؤياه على
معبّر؛ فقال له المعبّر: ما أعبّرها إلا بألف درهم؛ فقال بويه: والله
ما رأيتها قطّ ولا عشرها، وإنما أنا صيّاد أصطاد السمك؛ ثم اصطاد سمكة
فأعطاها للمعبّر؛ فقال له المعبّر: ألك أولاد؟ قال نعم؛ قال: أبشر،
فإنهم يملكون الأرض ويبلغ سلطانهم فيها على قدر ما احتوت عليه النار.
وكان معه أولاده الثلاثة: علىّ أكبرهم وهو أوّل ما بقل عذاره، وثانيهم
الحسن، وثالثهم أحمد. قلت: علىّ هو عماد الدولة، والحسن هو ركن الدولة،
وأحمد هو معزّ الدولة.
وفيها دخل مؤنس الورقانىّ بالحجّاج سالمين من القرمطىّ إلى بغداد.
وفيها قتل القاهر بالله الأمير أبا السّرايا نصر بن حمدان، وإسحاق بن
إسماعيل بن يحيى، وهو الذي أشار على مؤنس بخلافة القاهر لما قتل
المقتدر. وفيها مات مؤنس الورقانىّ الذي حجّ في هذه السنة بالناس.
وفيها استوحش الناس من الخليفة القاهر بالله، ولا زالوا به حتّى خلعوه
في يوم السبت ثالث جمادى الأولى وسملوا عينيه حتى سانتا على خدّيه
فعمى؛ وهو أوّل خليفة سملت عيناه؛ وسملوه خوفا من شرّه. فكانت خلافته
الى حين سمل سنة وستة أشهر وسبعة أيّام أو ثمانية أيّام. وبويع
بالخلافة من بعده ابن أخيه الراضى بن المقتدر جعفر. والراضى المذكور
اسمه محمد.
قال الصّولىّ: كان القاهر هرجا «2» سافكا للدماء محبّا للمال قبيح
السيرة كثير التلوّن والاستحالة مدمنا على شرب الخمر، فإذا شربها
تغيّرت أحواله وذهب عقله.
ويأتى بقيّة ترجمة القاهر بالله في وفاته. وفيها قتل مرداويج مقدّم
الديلم بأصبهان
(3/245)
وكان قد عظم أمره «1» وأساء السيرة في
أصحابه، فقتله مماليكه الأتراك. وفيها بعث علىّ ابن بويه الى الخليفة
الراضى يقاطعه على البلاد التى في حكمه في كلّ سنة ثمانية آلاف ألف
درهم؛ فأجابه الى ذلك وبعث له [لواء و «2» ] خلعا مع حرب بن إبراهيم
«3» المالكىّ.
وفيها تحكّم محمد بن ياقوت في الأمور واستقل بها، وبقى الوزير ابن مقلة
معه كالعارية.
وفيها توفّى أحمد بن سليمان بن داود أبو عبد الله الطّوسىّ، مات وله
ثلاث وثمانون سنة، روى عنه ابن شاذان وغيره. وفيها توفّى أحمد بن عبد
الله بن مسلم بن قتيبة أبو جعفر الكاتب الدّينورىّ ابن صاحب" المعارف"
و"" أدب الكاتب" وغيرهما، ولد ببغداد ثم قدم مصر وولى القضاء بها حتى
مات في شهر ربيع الأوّل. وفيها توفّى عبيد الله بن «4» محمد بن ميمون
بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وكنيته أبو محمد ويلقّب بالمهدىّ،
جدّ الخلفاء الفاطميّين المصريّين الآتى ذكرهم باستيعاب.
وأمّ عبيد الله هذا أمّ ولد. وولد هو بسلمية «5» ، وقيل ببغداد، سنة
ستين ومائتين.
ودخل مصر في زىّ التجّار، ثم مضى الى المغرب الى أن ظهر بسجلماسة «6»
ببلاد، المغرب في يوم الأحد سابع ذى الحجّة في سنة ستّ وتسعين ومائتين،
وسلّم عليه بأمير المؤمنين في أرض الجوّانيّة؛ ثم انتقل الى رقّادة «7»
من أرض القيروان، وبنى المهديّة وسكنها. يأتى ذكر نسبهم وما قيل فيه من
الطعن وغيره عند ذكر جماعة من أولاده ممن ملك الديار المصريّة بأوسع من
هذا؛ لأنّ شرطنا في هذا الكتاب ألا نوسّع
(3/246)
إلا في ترجمة من ولى مصر خاصّة، وما عدا
ذلك يكون على سبيل الاختصار.
وقد ولى جماعة كبيرة من ذريّة المهدىّ هذا ديار مصر فينظر ذلك في ترجمة
أوّل من ولى منهم، وهو المعزّ لدين الله معدّ. وفيها توفّى الأمير
هارون بن غريب ابن «1» خال الخليفة المقتدر، كان يلى حلوان وغيرها؛
ولمّا زالت دولة ابن «2» عمته المقتدر عصى على الخلافة حتى حاربه جيش
الخليفة الراضى وظفروا به وقتلوه وبعثوا برأسه الى بغداد. وفيها توفّى
يعقوب بن إبراهيم بن أحمد بن عيسى الحافظ أبو بكر «3» البزّار
البغدادىّ، كان زاهدا متعبّدا، روى عنه الدارقطنىّ وغيره، وكان ثقة
صدوقا، مات وهو ساجد. وفيها توفّى أبو علىّ الرّوذبارىّ «4» ، واسمه
محمد «5» بن أحمد بن القاسم بن المنصور بن شهريار من أولاد كسرى. أصله
من بغداد من أبناء الوزراء، وصحب الجنيد ولزمه وأخذ عنه حتى صار أحد
أئمّة الزمان؛ وأقام بمصر وصار شيخ الصوفيّة بها الى ان مات بها، وكان
ثقة صدوقا، يقول: أستاذى في التصوف الجنيد، وفي الحديث إبراهيم
الحربىّ، وفي النحو ثعلب، وفي الفقه ابن سريج.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو «6» عمر
أحمد بن خالد بن الجباب القرطبىّ الحافظ، وخير النسّاج «7» أبو الحسن
الزاهد، والمهدىّ
(3/247)
أبو محمد عبيد الله أوّل خلفاء الفاطميّة،
وكانت دولته بضعا وعشرين سنة، ومحمد بن ابراهيم الدّيبلىّ «1» ، وأبو
محمد بن عمرو العقيلىّ، والقاهر بالله محمد بن المعتضد خلع وسمل في
جمادى الأولى ثم بقى خاملا سبع عشرة سنة، وهو الذي سأل يوم الجمعة.
- قلت: ومعنى قول الذهبىّ. «وهو الذي سأل يوم الجمعة» شرح ذلك أن
القاهر لما طال خموله في عماه قلّ ما بيده ووقف في يوم من أيّام جمعة
وسأل الناس، ليقيم بتلك الشناعة على خليفة الوقت- قال الذهبىّ: وأبو
بكر محمد بن علىّ الكنانىّ الزاهد، وأبو على الرّوذبارىّ، يقال: اسمه
محمد بن أحمد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وستّ أصابع. مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 323]
السنة الثالثة من ولاية أحمد بن كيغلغ الثانية على مصر، وهى سنة ثلاث
وعشرين وثلثمائة- فيها تمكّن الراضى بالله من الخلافة، وقلّد ابنيه
المشرق والمغرب وهما أبو جعفر وأبو الفضل، واستكتب لهما أبا الحسين
علىّ بن محمد بن مقلة. وفيها بلغ الوزير أبا [الحسين] علىّ بن مقلة أن
ابن شنّبود المقرئ- وشنّبود بشين معجمة ونون مشدّدة وباء مضمومة ودال-
بغيّر حروفا من القرآن ويقرأ بخلاف ما أنزل؛ فأحضره وأحضر عمر بن أبى
عمر «2» محمد بن يوسف القاضى وأبا بكر «3» بن مجاهد وجماعة من القراء،
ونوظر فأغلظ للوزير في الخطاب وللقاضى ولابن مجاهد ونسبهم الى الجهل
وأنهم ما سافروا في طلب العلم كما سافر؛ فأمر الوزير بضربه؛ فنصب بين
يديه
(3/248)
وضرب سبع درر وهو يدعو على الوزير بأن تقطع
يده ويشتّت شمله. ثم وقف على الحروف التى قيل إنه كان يقرأ بها، من
ذلك:" فامضوا الى ذكر الله في الجمعة".
" وكان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة غصبا"." وتكون الجبال كالصوف
المنفوش"." تبّت يدا أبى لهب وقد تبّ"." فلما خرّ تيقّنت الإنس أنّ
الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين". ثم
استتيب غصبا ونفى الى البصرة «1» . وكان إماما في القراءة. وفيها قبض
الخليفة الراضى على محمد بن ياقوت وأخيه المظفّر وأبى إسحاق «2»
القراريطىّ، وأخذ خطّ القراريطىّ بخمسمائة ألف دينار.
وعظم شأن الوزير ابن مقلة واستقلّ بتدبير الدولة. وفيها أخرج المنصور
اسماعيل العبيدىّ يعقوب بن إسحاق في أسطول من المهديّة عدّته ثلاثون
[مركبا] حربيا الى ناحية فرنجة، ففتح مدينة جنوة، ومرّوا بجزيرة
سردانية فأوقعوا بأهلها وسبوا وأحرقوا عدّة مراكب وقتلوا رجالها، ثم
عادوا بالغنائم الى المهديّة. وفيها في جمادى الأوّلى هبّت ريح عظيمة
ببغداد واسودّت الدنيا وأظلمت من العصر الى المغرب برعد وبرق.
وفيها في ذى القعدة انقضّت النجوم سائر الليل انقضاضا عظيما ما رئى
مثله. وفيها غلا السعر ببغداد حتى بيع كرّ القمح بمائة وعشرين دينارا
والشعير بتسعين دينارا، وأقام الناس أيّاما لا يجدون القمح فأكلوا خبز
الذرة والدّخن والعدس. وفيها توفّى إبراهيم بن حمّاد بن إسحاق، الشيخ
أبو إسحاق الأزدىّ المحدّث الصوفىّ، سمع خلقا كثيرا وكان زاهدا عابدا.
وفيها توفّى أبو عبد الله محمد بن «3» زيد الواسطىّ المتكلّم.
وفيها توفى إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن
المهلّب بن
(3/249)
أبى صفرة، أبو عبد الله الأزدىّ العتكىّ
الواسطىّ النحوىّ، ويعرف بنفطويه، ولد بواسط سنة أربعين ومائتين، وقيل:
سنة خمسين ومائتين، وكان إمام عصره فى النحو والأدب وغيرهما. ومن شعره
قوله:
أحبّ من الإخوان كلّ مواتى ... وكلّ غضيض الطرف عن عثراتى
يطاوعنى في كلّ أمر أريده ... ويحفظنى حيّا وبعد وفاتى
وهجاه أبو عبد الله محمد بن زيد الواسطىّ المتكلّم فقال:
من سرّه ألّا يرى فاسقا ... فليجتهد ألّا يرى نفطويه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصيّر الباقى صراخا عليه
وفيها توفّى أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك أبو الحسن
النديم الشاعر المشهور البرمكىّ، ويعرف بجحظة، ولد في شعبان سنة أربع
وعشرين ومائتين، كان فاضلا صاحب فنون وأخبار ونوادر ومنادمة، وهو من
ذرّية البرامكة.
وجحظة (بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الظاء «1» المعجمة وبعدها
هاء) هو لقب غلب عليه لقّبه به عبد الله بن المعتزّ؛ وكان كثير الأدب
عارفا بالنحو واللغة، وأما صنعة الغناء فلم يلحقه [فيها] أحد في زمانه.
ومن شعره:
فقلت لها بخلت علىّ يقظى ... فجودى في المنام لمستهام
فقالت لى: وصرت تنام أيضا ... وتطمع أن أزورك في المنام
وكتب إليه الوزير ابن مقلة مرة بصلة، فمطله الجهبذ «2» ؛ فكتب إليه
جحظ- المذكور يقول:
(3/250)
اذا كانت صلاتكم رقاعا ... تخطّط بالأنامل
و «1» الأكفّ
ولم تجد الرقاع علىّ نفعا ... فها خطّى خذوه بألف ألف
وفيها توفّى محمد بن إبراهيم بن عبدويه «2» الشيخ أبو عبد الله الهذلىّ
من ولد عبد الله «3» بن مسعود رضى الله عنه؛ ولد بنيسابور ورحل في طلب
العلم وصنّف الكتب وخرج حاجّا فأصابه جراح في نوبة القرمطىّ وردّ الى
الكوفة فمات بها.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو طالب
أحمد بن نصر البغدادىّ الحافظ، وإبراهيم بن محمد بن عرفة النحوىّ
نفطويه، وإسماعيل بن العباس الورّاق، وأبو نعيم عبد الملك بن محمد بن
عدىّ الأسترآباذيّ، وأبو عبيد القاسم بن إسماعيل المحاملىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
ذكر ولاية محمد بن طغج الإخشيذ ثانية على
مصر
الإخشيذ محمد بن طغج بن جفّ الفرغانىّ، وليها ثانيا من قبل الخليفة
الراضى بالله محمد على الصلاة والخراج بعد عزل الأمير أحمد بن كيغلغ
عنها، بعد أمور وقعت تقدّم ذكر بعضها في ترجمة ابن كيغلغ. ودخل الإخشيذ
هذا إلى مصر أميرا عليها، بعد أن سلّم الأمير أحمد بن كيغلغ في يوم
الخميس لستّ بقين من شهر رمضان- وقال صاحب البغية: لخمس بقين من شهر
رمضان- سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة. وأقرّ
(3/251)
على شرطته سعيد بن عثمان. ثم ورد عليه
بالديار المصريّة أبو الفتح الفضل بن جعفر ابن محمد بالخلع من الخليفة
الراضى بالله بولايته على مصر، فلبسها وقبّل الأرض. ورسم الخليفة
الراضى بالله بأن يزاد في ألقاب الأمير محمد هذا" الإخشيذ" فى شهر
رمضان سنة سبع وعشرين وثلثمائة- وقد تقدّم ذكر ذلك في ولايته الأولى
على مصر وما معنى الإخشيذ- فزيد في ألقابه ودعى له بذلك على منابر مصر
وأعمالها. ثم وقع بين الإخشيذ هذا وبين أصحاب أحمد بن كيغلغ فتنة وكلام
أدّى ذلك للقتال والحرب؛ ووقع بينهما قتال، فانكسر في آخره أصحاب ابن
كيغلغ، وخرجوا من مصر على أقبح وجه وتوجّهوا الى برقة، ثم خرجوا من
برقة وصاروا الى القائم بأمر الله ابن المهدىّ عبيد الله العبيدىّ
بالمغرب، وحرّضوه على أخذ مصر وهوّنوا عليه أمرها؛ وكان في نفسه من ذلك
شىء، فجهّز إليها الجيوش لأخذها. وبلغ محمد بن طغج الإخشيذ ذلك، فتهيّأ
لقتالهم وجمع العساكر وجهّز الجيوش الى الإسكندرية والصعيد.
وبينما هو في ذلك إذ ورد عليه كتاب الخليفة يعرّفه بخروج محمد بن رائق؛
ولمّا بلغه حركة محمد بن رائق ومجيئه الى الشامات، عرض الإخشيذ عساكره
وجهّز جيشا فى المراكب لقتال ابن رائق؛ ثم خرج هو بعد ذلك بنفسه في
المحرّم سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، وسار من مصر، بعد أن استخلف أخاه
الحسن «1» بن طغج على مصر، حتى نزل الإخشيذ بجيوشه الى الفرما؛ وكان
محمد بن رائق بالقرب منه؛ فسعى بينهما الحسن «2» ابن طاهر بن يحيى
العلوى في الصلح حتّى تمّ له ذلك واصطلحا؛ وعاد الإخشيذ الى مصر في
مستهل جمادى الأولى من سنة ثمان وعشرين وثلثمائة. وبعد قدوم الإخشيذ
الى مصر انتقض الصلح وسار محمد بن رائق من دمشق في شعبان من السنة
(3/252)
الى نحو الديار المصرية. وبلغ ذلك الإخشيذ
فتجهّز وعرض عساكره وأنفق فيهم وخرج بجيوشه من مصر لقتال محمد بن رائق
في يوم سادس عشر «1» شعبان، وسار كل منهما بعساكره حتى التقيا بالعريش-
وقال أبو المظفّر في مرآة الزمان: باللّجّون «2» - فكانت بينهما وقعة
عظيمة انكسرت فيها ميمنة «3» الإخشيذ وثبت هو في القلب؛ ثم حمل هو
بنفسه على أصحاب «4» محمد بن زائق حملة شديدة فأسر كثيرا منهم وأمعن في
قتلهم وأسرهم؛ وقتل أخوه الحسين بن طغج في الحرب. وافترق العسكران وعاد
كل واحد الى محل إقامته، فمضى ابن رائق نحو الشام وعاد الإخشيذ الى
الرملة بخمسمائة أسير؛ ثم تداعيا الى الصلح. وكان لما قتل الحسين بن
طغج أخو الإخشيذ في المعركة عزّ ذلك على محمد بن رائق، وأخذه وكفّنه
وحنّطه وأنفذ معه ابنه مزاحما الى الإخشيذ، وكتب معه كتابا يعزّيه فيه
ويعتذر إليه ويحلف له أنه ما أراد قتله، وأنه أرسل ابنه مزاحما إليه
ليفتديه بالحسين بن طغج إن أحبّ الإخشيذ ذلك. فاستعاذ الإخشيذ بالله من
ذلك واستقبل مزاحما بالرّحب والقبول وخلع عليه وعامله بكلّ جميل، وردّه
الى أبيه. واصطلحا على أن يفرج محمد بن رائق للإخشيذ عن الرّملة، ويحمل
إليه الإخشيذ في كلّ سنة مائة وأربعين ألف دينار، ويكون باقى الشام في
يد ابن رائق، وأن كلّا منهما يفرج عن أسارى الآخر؛ فتمّ ذلك. وعاد
الإخشيذ الى مصر فدخلها لثلاث خلون من المحرّم سنة تسع وعشرين
وثلثمائة، وعاد محمد بن رائق الى دمشق، فلم تطل مدّة الإخشيذ بمصر إلّا
وورد عليه الخبر من بغداد بموت الخليفة الراضى بالله
(3/253)
فى شهر ربيع الآخر من السنة، وأنه بويع
أخوه المتقى بالله إبراهيم بن المقتدر جعفر بالخلافة، وكان ورود هذا
الخبر على الإخشيذ بمصر في شعبان من السنة، وأن المتقى أقرّ الإخشيد
هذا على عمله بمصر. فاستمرّ الإخشيذ على عمله بمصر بعد ذلك مدّة طويلة
الى أن قتل محمد بن رائق في قتال كان بينه وبين بنى حمدان بالموصل في
سنة ثلاثين وثلثمائة؛ فعند ذلك جهزّ الإخشيذ جيوشه الى الشام لمّا بلغه
قتل محمد ابن رائق، ثم سار هو بنفسه لستّ خلون من شوّال سنة ثلاثين
وثلثمائة المذكورة، واستخلف أخاه أبا المظفّر الحسن بن طغج على مصر؛
وسار الإخشيذ حتى دخل دمشق وأصلح أمورها وأقام بها مدّة. ثم خرج منها
عائدا الى الديار المصريّة حتى وصلها في ثالث عشر جمادى الأولى سنة
إحدى وثلاثين وثلثمائة، ونزل البستان «1» الذي يعرف الآن بالكافورىّ
داخل القاهرة؛ ثم انتقل بعد أيّام الى داره؛ وأخذ البيعة على المصريّين
لابنه أبى القاسم أنوجور وعلى جميع القوّاد والجند، وذلك في آخر ذى
القعدة. وبعد مدّة بلغ الإخشيذ مسير الخليفة المتقى بالله الى بلاد
الشام ومعه بنو حمدان؛ فخرج الإخشيذ من مصر وسار نحو الشام لثمان خلون
من شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، واستخلف أخاه أبا المظفّر
الحسن بن طغج على مصر، ووصل دمشق ثم سار حتّى وافى المتقى بالرّقّة،
فلم يمكن من دخولها لأجل سيف الدولة علىّ بن حمدان. ثم بان للخليفة
المتّقى من بنى حمدان الملل والضجر منه، فراسل توزون «2» واستوثق منه.
ثم اجتمع بالإخشيذ هذا وخلع عليه؛ وأهدى إليه الإخشيذ
(3/254)
تحفا وهدايا وأموالا. وبلغ الإخشيذ مراسلة
توزون، فقال للخليفة: يا أمير المؤمنين أنا عبدك وابن عبدك، وقد عرفت
الأتراك وغدرهم وفجورهم، فالله في نفسك! سر معى إلى الشام ومصر فهى لك،
وتأمن على نفسك؛ فلم يقبل المتقى ذلك؛ فقال له الإخشيذ: فأقم هنا وأنا
أمدّك بالأموال والرجال، فلم يقبل منه أيضا. ثم عدل الإخشيذ الى الوزير
ابن مقلة وقال له: سر معى، فلم يقبل ابن مقلة أيضا مراعاة للخليفة
المتقى. وكان ابن مقلة بعد ذلك يقول: يا ليتنى قبلت نصح الإخشيذ!.
ثم سلّم الإخشيذ على الخليفة ورجع الى نحو بلاده حتى وصل الى دمشق؛
فأمّر عليها الحسين بن لؤلؤ؛ فبقى ابن لؤلؤ على إمرة دمشق سنة وأشهرا؛
ثم نقله الإخشيذ الى نيابة حمص؛ وولّى على دمشق يأنس المؤنسىّ. وعاد
الإخشيذ الى الديار المصريّة ودخلها لأربع خلون من جمادى الأولى سنة
ثلاث وثلاثين وثلثمائة، ونزل بالبستان المعروف بالكافورىّ على عادته.
فلم تكن مدّة إلا وورد عليه الخبر بخلع المتقى من الخلافة وتولية
المستكفى، وذلك لسبع خلون من جمادى الآخرة من السنة؛ وأن الخليفة
المستكفى أقرّ الإخشيد هذا على ولايته بمصر والشأم على عادته. ثم وقع
بين الإخشيذ وبين سيف الدولة علىّ [بن عبد الله] بن حمدان وحشة وتأكدت
الى أوّل سنة أربع وثلاثين وثلثمائة؛ ثم اصطلحا على أن يكون لسيف
الدولة حلب وأنطاكية وحمص، ويكون باقى بلاد الشام للإخشيذ. وتزوّج سيف
الدولة ببنت أخى الإخشيذ.
ثم وقّع أيضا بين الإخشيذ وبين سيف الدولة ثانيا، وجهّز الإخشيذ الجيوش
لحربه وعلى الجيوش خادمه كافور الإخشيذى وفاتك الإخشيذى؛ ثم خرج
الإخشيذ بعدهما من مصر في خامس شعبان سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة،
واستخلف أخاه أبا المظفّر الحسن ابن طغج على مصر، وسار الإخشيذ بعساكره
حتّى لقى سيف الدولة علّى بن عبد الله ابن حمدان بقنّسرين، وحاربه
فكسره وأخذ منه حلب. ثم بلغه خلع المستكفى من
(3/255)
الخلافة وبيعة المطيع لله الفضل في شوّال
سنة أربع وثلاثين وثلثمائة؛ وأرسل المطيع الى الإخشيذ باستقراره على
عمله بمصر والشام. فعاد الإخشيذ الى دمشق، فمرض بها ومات في يوم الجمعة
لثمان بقين من ذى الحجّة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة. وولى بعده ابنه
أبو القاسم أنوجور باستخلاف أبيه له. فكانت مدّة ولاية الإخشيذ على مصر
فى هذه المرّة الثانية إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر ويومين. والإخشيذ:
بكسر الهمزة وسكون الخاء المعجمة وكسر الشين المعجمة وبعدها ياء ساكنة
مثناة من تحتها ثم ذال معجمة، وتفسيره بالعربىّ ملك الملوك. وطغج: بضم
الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وبعدها جيم. وجفّ: بضم الجيم وفتحها
وبعدها فاء مشدّدة.
وكان الإخشيذ ملكا شجاعا مقداما حازما متيقّظا حسن التدبير عارفا
بالحروب مكرما للجند شديد البطش ذا قوّة مفرطة لا يكاد أحد يجرّ قوسه،
وله هيبة عظيمة في قلوب الرعيّة، وكان متجمّلا في مركبه وملبسه. وكان
موكبه يضاهى موكب الخلافة. وبلغت عدة مماليكه ثمانية آلاف مملوك، وكان
عدّة جيوشه أربعمائة ألف. وكان قوىّ التحرّز على نفسه، وكانت مماليكه
تحرسه بالنّوبة عند ما ينام كلّ يوم ألف مملوك، ويوكّل الخدم بجوانب
خيمته، ثم لا يثق بأحد حتّى يمضى الى خيمة الفراشين فينام فيها. وعاش
ستين سنة. وخلّف أولادا ملوكا. وهو أستاذ كافور الإخشيذىّ الآتى ذكره.
قال الذهبىّ: وتوفّى بدمشق في ذى الحجّة عن ستّ وستين سنة، ونقل فدفن
ببيت المقدس الشريف، ومولده ببغداد. وقال ابن خلكان:" ولم يزل في
مملكته وسعادته الى أن توفّى في الساعة الرابعة يوم الجمعة لثمان بقين
من ذى الحجّة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة". انتهى.
(3/256)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 324]
السنة الثانية من ولاية الإخشيذ محمد بن طغج على مصر، وقد تقدّم أنه
حكم فى السنة الماضية على مصر من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة،
فتكون سنة أربع وعشرين وثلثمائة هذه هى الثانية من ولايته، ولا عبرة
بتكملة السنين- فيها (أعنى سنة أربع وعشرين وثلثمائة) قطع محمد بن رائق
الحمل عن بغداد، واحتج بكثرة كلف الجيش عنده. وفيها توفّى هارون بن
المقتدر أخو الخليفة المطيع لله وحزن عليه أخوه الخليفة واغتمّ له،
وأمر بنفى الطبيب بختيشوع بن يحيى واتهمه بتعمّد الخطأ في علاجه. وفيها
في شهر ربيع الأوّل أطلق من الحبس المظفّر بن ياقوت، وحلف للوزير على
المصافاة، وفي نفسه الحقد عليه، لأنه نكبه ونكب أخاه محمدا؛ ثم أخذ
يسعى في هلاكه، ولا زال يدبّر على الوزير ابن مقلة حتى قبض عليه وأحرقت
داره، وهذه المرّة الثالثة؛ واستوزر عوضه عبد الرّحمن بن عيسى، وهو أخو
الوزير علىّ بن عيسى برغبة أخيه عن الوزارة- وكان ابن مقلة قد أحرق دار
سليمان ابن الحسن- وكتبوا على داره:
أحسنت ظنّك بالأيّام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يجرى به القدر
وسالمتك الليالى فاغتررت بها ... وعند صفو الليالى يحدث الكدر
ثم وقع بعد ذلك أمور يطول شرحها. وقبض الراضى على الوزير عبد الرّحمن
ابن عيسى وعلى أخيه علىّ بن عيسى لعجزه عن القيام بالكلف؛ واستوزر أبا
جعفر محمد بن القاسم الكرخىّ، وسلّم ابنى عيسى للكرخىّ، فصادرهما برفق،
فأدّى كلّ واحد سبعين ألف دينار. ثم عجز الكرخىّ أيضا؛ فاستوزر الراضى
عوضه أبا القاسم سليمان ابن الحسن؛ فكان سليمان في العجز بحال الكرخىّ
وزيادة. فدعت الضرورة أن الراضى
(3/257)
كاتب محمد بن رائق واستقدمه وقلّده جميع
أمور الدولة؛ وبطل حينئذ أمر الوزارة والدواوين وبقى اسم الوزارة لا
غير، وتولّى الجميع محمد بن رائق. وفيها كان الوباء العظيم بأصبهان
وبغداد، وغلت الأسعار. وفيها سار الدّمستق بجيوش الروم إلى آمد
وسميساط؛ فسار سيف الدولة بن حمدان [إلى آمد «1» ]- وهذا أوّل مغازيه-
وحاربه ووقع له معه أمور حتّى ملك الدّمستق سميساط وأمّن أهلها؛ وكان
الحسن أخو سيف الدولة قد غلب على الموصل واستفحل أمره. وفيها عاثت
العرب من بنى نمير وقشير وملكوا ديار ربيعة ومضر وشنّوا الغارات وقطعوا
السّبل؛ وخلت المدائن من الأقوات لضعف أمر الخلافة، لأن الخليفة الراضى
صار مع ابن رائق كالمحجور عليه والأسير في يده، والأمر كلّه لابن رائق.
وفيها توفّى أحمد بن موسى بن العباس الشيخ أبو بكر المقرئ البغدادىّ
الإمام العلّامة. مولده في سنة خمس وأربعين ومائتين، وكان إمام القرّاء
في زمانه، وله مشاركة في فنون. وفيها توفّى الحسن بن محمد بن أحمد
الشيخ أبو القاسم السّلمىّ الدّمشقىّ، ويعرف بابن برغوث. روى عن صالح
بن الإمام أحمد بن حنبل قصّة الشعر «2» . وفيها توفّى صالح بن محمد بن
شاذان
(3/258)
الشيخ أبو الفضل الأصبهانىّ الحافظ
المحدّث، رحل الى البلاد وسمع الكثير ثم توجّه الى مكة فمات بها في شهر
رجب من السنة. وفيها توفى عبد الله [بن أحمد «1» ] ابن محمد بن المغلّس
أبو الحسن الفقيه الظاهرىّ؛ أخذ الفقه عن أبى بكر بن داود الظاهرىّ
وبرع في علم الظاهر. وفيها توفّى محمد بن الفضل بن عبد الله الشيخ أبو
ذرّ التّميمىّ الشافعىّ فقيه جرجان ورئيسها. وفيها توفّى عبد الله بن
محمد ابن زياد بن واصل بن ميمون الحافظ أبو بكر النيسابورىّ الفقيه
الشافعىّ مولى آل عثمان بن عفّان رضى الله عنه. قال الدارقطنىّ: ما
رأيت أحفظ منه. ومولده فى سنة ثمان وثلاثين ومائتين، ومات في رابع شهر
ربيع الآخر. وفيها توفّى على ابن إسماعيل بن أبى بشر إسحاق بن سالم بن
إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال ابن أبى بردة بن أبى موسى بن عبد
الله بن قيس الأشعرىّ البصرىّ المتكلم أبو الحسن، صاحب التصانيف في
الكلام والأصول والملل والنحو؛ ومولده سنة ستّين ومائتين؛ وكان معتزليا
ثم تاب. وفيها كان الطاعون العظيم بأصبهان ومات فيه خلق كثير وتنقّل في
عدّة بلاد.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو عمرو «2»
أحمد ابن بقىّ بن مخلد، وجحظة النّديم أحمد بن جعفر بن موسى البرمكىّ،
وأبو بكر أحمد ابن موسى بن العبّاس بن مجاهد المقرئ، وأبو الحسن عبد
الله بن أحمد المغلّس البغدادىّ الداودىّ إمام أهل الظاهر في زمانه،
وأبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد النّيسابورىّ، وأبو القاسم عبد
الصمد بن سعيد الحمصىّ «3» ، وأبو الحسن علىّ بن إسماعيل
(3/259)
الأشعرىّ المتكلّم، وعلىّ بن عبد الله بن المبشّر الواسطىّ، وأبو
القاسم علىّ بن محمد ابن كاس «1» النّخعىّ الكوفىّ الحنفىّ قاضى دمشق.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا. |