النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 325]
السنة الثالثة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة خمس وعشرين وثلثمائة- فيها لم يحجّ أحد من العراق خوفا من القرمطىّ. وفيها ظهرت الوحشة بين محمد بن رائق وبين أبى عبد الله البريدىّ. و [فيها] وافى أبو طاهر القرمطىّ الكوفة «2» فدخلها في شهر ربيع الآخر؛ فخرج ابن رائق في جمادى الأولى وعسكر بظاهر بغداد وسيّر رسالته الى القرمطىّ فلم تغن شيئا. وفيها استوزر الراضى أبا الفتح بن جعفر ابن الفرات بمشورة ابن رائق، وكان ابن الفرات بالشام فأحضروه. وفيها أسّس أمير الأندلس الناصر لدين «3» الله الأموىّ مدينة الزّهراء، وكان منتهى الإنفاق في بنائها كلّ يوم ما لا يحدّ؛ كان يدخل فيها كلّ يوم من الحجر المنحوت ستة آلاف صخرة سوى الآجرّ وغيره؛ وحمل إليها الرّخام من أقطار الغرب، ودخل فيها أربعة آلاف وثلثمائة سارية؛ وأهدى له ملك الفرنج أربعين سارية رخام؛ وأما الوردىّ والأخضر فمن إفريقيّة؛ والحوض المذهّب جلب من قسطنطينيّة، والحوض الصغير عليه صورة أسد وصورة غزال وصورة عقاب وصورة ثعبان وغير ذلك، والكلّ بالذهب

(3/260)


المرصّع بالجوهر؛ وبقوا في بنائها ستّ عشرة سنة؛ وكان ينفق عليها ثلث دخل الأندلس، وكان دخل الأندلس يومئذ خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف درهم. وبين هذه المدينة (أعنى الزهراء) وبين قرطبة أربعة أميال. وأطوالها ألف وستمائة ذراع، وعرضها ألف وسبعون ذراعا. ولم يبن في الإسلام أحسن منها؛ لكنّها صغيرة بالنسبة إلى المدائن. وكان بسورها ثلثمائة برج. وعمل ثلثها قصورا للخلافة، وثلثها للخدم، وثلثها الثالث بساتين. وقيل: إنه عمل فيها بحرة ملأها بالزئبق. وقيل: إنه كان يعمل فيها ألف صانع مع كلّ صانع اثنا عشر أجيرا. وقد أحرقت هذه المدينة وهدمت في حدود سنة أربعمائة، وبقيت رسومها وسورها.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن حسن أبو حامد الشّرقىّ «1» النّيسابورىّ الحافظ الحجة تلميذ مسلم، سمع الكثير، وصنّف الصحيح، وكان أوحد عصره، وروى عنه غير واحد، ومات في شهر رمضان، وصلّى عليه أخوه عبد الله. وفيها توفّى الأمير عدنان ابن الأمير أحمد بن طولون، قدم بغداد وحدّث بها عن الربيع بن سليمان المزنىّ، وقدم دمشق أيضا وحدّث بها، وكان ثقة صالحا. رضى الله عنه. وفيها توفّى موسى بن عبيد الله ابن يحيى بن خاقان أبو مزاحم، كان أبوه وزير المتوكّل، وكان موسى هذا ثقة خيّرا من أهل السّنّة.
الذين ذكر الذهبى وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو حامد أحمد بن محمد بن [حسن] الشّرقىّ، وأبو إسحاق إبراهيم «2» بن عبد الصمد بن موسى الهاشمى، وأبو العبّاس محمد بن عبد الرّحمن، ومكّى بن عبدان التّميمىّ، وأبو مزاحم موسى بن عبيد الله الخاقانىّ.

(3/261)


أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 326]
السنة الرابعة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة ستّ وعشرين وثلثمائة- فيها سار أبو عبد الله البريدىّ لمحاربة بجكم بعد أن استعان البريدىّ بالأمير علىّ ابن بويه؛ فبعث علىّ بن بويه معه أخاه أبا الحسين أحمد بن بويه. وأما البريديّون فهم ثلاثة: أبو عبد الله، وأبو الحسين، وأبو يوسف، كانوا كتّابا على البريد. وفيها قطعت يد الوزير ابن مقلة الكاتب المشهور ثم قطع لسانه ومات «1» فى حبسه. وسببه أنّ ابن رائق لمّا وصل إليه التدبير كتب ابن مقلة الى بجكم يطمعه في الحضرة، وبلغ ابن رائق، وأظهر الخليفة أمره واستفتى القضاة، فيقال: إنهم أفتوا بقطع يده، ولم يصحّ ذلك؛ فأخرجه الراضى الى الدّهليز وقطع يده بحضرة الأمراء؛ وحبس ابن مقلة واعتلّ «2» ؛ فلما قرب بجكم من بغداد قطع ابن رائق لسانه أيضا؛ وبقى في الحبس الى أن مات، حسبما يأتى ذكره. وفيها ورد كتاب ملك الروم الى الراضى، وكانت الكتابة بالروميّة بالذهب والترجمة العربيّة بالفضّة، وعنوانه من رومانس وقسطنطين وإسطفانس عظماء ملوك الروم الى الشريف البهىّ ضابط سلطان المسلمين:
" باسم الأب والابن وروح القدس الإله الواحد، الحمد لله ذى الفضل العظيم، الرءوف بعباده الجامع للمفترقات، والمؤلّف للأمم المختلفة في العداوة حتى يصيروا

(3/262)


واحدا ... "، وحاصل الكتاب أنّه أرسل بطلب الهدنة. فكتب اليهم الراضى بإنشاء أحمد بن محمد بن جعفر بن ثوابة «1» بعد البسملة:
" من عبد «2» الله أبى العباس الإمام الراضى بالله أمير المؤمنين الى رومانس وقسطنطين وإسطفانس رؤساء الروم. سلام على من اتّبع الهدى، وتمسّك بالعروة الوثقى، وسلك سبيل النجاة والزّلفى ... » . ثم أجابهم الى ما طلبوا. وفيها قلّد الخليفة الراضى بجكم إمارة بغداد وخراسان، وابن رائق مستتر. وفيها كانت ملحمة عظيمة بين الحسن بن عبد الله بن حمدان وبين الدّمستق، ونصر الله الاسلام وهرب الدّمستق، وقتل من ناصريه «3» خلائق، وأخذ سرير الدمستق وصليبه، وفيها توفّى إبراهيم بن داود أبو إسحاق الرّقّىّ؛ كان من جلّة مشايخ دمشق وله كرامات وأحوال. وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن سفيان أبو الحسين «4» الجرّار «5» النحوىّ، كان له التصانيف في علوم القرآن وغيرها.

(3/263)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو ذرّ أحمد بن محمد ابن محمد بن سليمان بن الباغندىّ، وعبد الرّحمن بن أحمد بن محمد بن الحجّاج بن رشّد بن «1» ، ومحمد بن زكرياء بن القاسم المحاربىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 327]
السنة الخامسة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة سبع وعشرين وثلثمائة- فيها سافر الراضى وبجكم لمحاربة الحسن بن عبد الله بن حمدان، وكان قد أخّر الحمل عما ضمنه من الموصل والجزيرة؛ فأقام الراضى بتكريت، ثم التقى بجكم وابن حمدان، وانهزم أصحاب بجكم وأسر بعضهم «2» ؛ فحنق بجكم وحمل بنفسه فانهزم أصحاب ابن حمدان؛ وأتبعه بجكم الى أن بلغ نصيبين، وهرب ابن حمدان الى آمد. ثم صالحا بعد ذلك؛ وصاهر بجكم الحسن بن حمدان المذكور. وفيها مات الوزير أبو الفتح الفضل [بن جعفر] بن الفرات بالرّملة. وفيها استوزر الراضى أبا عبد الله أحمد بن محمد البريدىّ، أشار عليه بذلك ابن شيرزاد «3» ، وقال: نكفى شرّه؛ فبعث الراضى قاضى القضاة أبا الحسين عمر بن محمد بن يوسف إليه بالخلع والتقليد. وفيها كتب أبو علىّ عمر بن يحيى العلوىّ الى القرمطىّ- وكان يحبّه- أن يطلق طريق الحاجّ ويعطيه عن كلّ حمل خمسة دنانير، فأذن وحجّ بالناس؛ وهى أوّل سنة أخذ فيها المكس من الحجّاج. وفيها توفّى

(3/264)


عبد الرّحمن [بن محمد «1» ] بن إدريس أبو محمد بن أبى حاتم الرازىّ الحافظ ابن الحافظ؛ كان إماما، صنّف" الجرح والتعديل". قال أحمد بن عبد الله النّيسابورىّ: كنا عنده وهو يقرأ علينا الجرح والتعديل الذي صنّفه؛ فدخل يوسف بن الحسين الرازىّ، فجلس وقال: يا أبا محمد، ما هذا؟ فقال: الجرح والتعديل؛ قال: وما معناه؟
قال: أظهر أحوال العلماء من كان ثقة ومن كان غير ثقة؛ فقال له يوسف:
أما استحييت من الله تعالى! تذكر أقواما قد حطّوا رواحلهم في الجنة، أو عند الله، منذ مائة سنة أو مائتى سنة تغتابهم!؛ فبكى عبد الرّحمن وقال: يا ابا يعقوب، والله لو طرق سمعى هذا الكلام قبل أن أصنّفه ما صنّفته؛ وارتعد وسقط الكتاب من يده، ولم يقرأ في ذلك المجلس. قلت: فلو رأى الشيخ يوسف كلام الخطيب في تاريخ بغداد، وهو يقع في حقّ العلماء الأعلام الزهّاد بكلام يخرجهم من الإسلام بذلك اللسان الخبيث، فما كان يفعل به!. وفيها توفّى محمد بن جعفر بن محمد أبو بكر الخرائطىّ من أهل سرّ من رأى، وكان عالما ثقة جيّد التصانيف متفنّنا. رضى الله عنه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو علىّ الحسين بن القاسم الكوفىّ، وعبد الرّحمن بن أبى حاتم الرازىّ في المحرّم، وأبو بكر محمد بن جعفر السّامرّىّ الخرائطىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة أربع عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.

(3/265)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 328]
السنة السادسة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة ثمان وعشرين وثلثمائة- فيها ورد الخبر الى بغداد بأنّ سيف الدولة علىّ بن عبد الله بن حمدان هزم الدّمستق.
وفيها خرج بجكم الى الجبل وعاد. وفيها غرقت بغداد غرقا عظيما، بلغت الزيادة تسع عشرة ذراعا، وانبثق بثق من نواحى الأنبار فاجتاح «1» القرى، وغرق من الناس والسباع والبهائم ما لا يحصى، ودخل الماء الى بغداد من الجانب الغربىّ، وتساقطت الدّور، وانقطعت القنطرتان: القنطرة العتيقة والجديدة عند باب البصرة. وفيها تزوّج بجكم بسارّة بنت الوزير أبى عبد الله البريدىّ. وفيها في شعبان توفّى قاضى القضاة أبو الحسين عمر بن محمد بن يوسف وقلّد مكانه ابنه القاضى أبو نصر يوسف.
وفيها فسد الحال بين بجكم وبين الوزير أبى عبد الله البريدىّ بعد المصاهرة لأمور صدرت؛ فعزل بجكم الوزير المذكور واستوزر مكانه أبا القاسم سليمان [بن الحسن «2» ] ابن مخلد، وخرج بجكم الى واسط. وفي شهر رمضان ملك محمد بن رائق حمص والشام إلى الرّملة وإلى العريش، ووقع بينه وبين الإخشيذ وقعة انهزم فيها الإخشيذ.
قلت: هى الوقعة التى ذكرناها في ترجمة الإخشيذ. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب أبو عمر الأموىّ مولى هشام بن عبد الرّحمن الداخل الأموىّ الأندلسىّ القرطبىّ صاحب كتاب العقد [الفريد] في الأخبار. ولد سنة ستّ وأربعين ومائتين؛ وكان أديب الأندلس وفصيحها، مدح ملوك الأندلس، وكان صدوقا ثقة. وهو القائل:

(3/266)


الجسم في بلد والروح في بلد ... يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد
إن تبك عيناك لى يا من كلفت به ... من رحمة فهما سهماك في كبدى
وله:
يا ليلة ليس في ظلمائها نور ... إلّا وجوها تضاهيها الدنانير
خود سقتنى كأس الموت أعينها ... ماذا سقتنيه تلك الأعين الحور
إذا ابتسمن فدرّ الثّغر منتظم ... وإن نطقن فدرّ اللفظ منثور
وفيها توفّى الحسن بن أحمد بن يزيد أبو سعيد الإصطخرىّ «1» شيخ الشافعيّة؛ سمع الكثير وحدّث وبرع في الفقه وغيره، ومات في جمادى الآخرة. وفيها توفّى محمد ابن أحمد بن أيّوب بن الصّلت أبو الحسين المقرئ المشهور المعروف بابن شنّبود، وقد تقدّم ذكر واقعته مع الوزير ابن مقلة في سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة. قرأ ابن شنّبود على أبى حسّان محمد بن أحمد العنبرىّ وإسماعيل بن عبد الله النحّاس والزبير ابن محمد بن عبد الله العمرىّ المدنىّ صاحب «قالون «2» » وغيرهم؛ وسمع الحديث أيضا من جماعة، وقرأ القرآن ببغداد سنين، قرأ عليه خلائق؛ وكان قد تخيّر لنفسه شواذ قراءة كان يقرأ بها في المحراب حتى فحص أمره وقبض عليه في سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، ووقع له ما حكيناه مع ابن مقلة. وفيها توفّى محمد بن عبد الوهاب ابن عبد الرّحمن بن عبد الوهاب أبو علىّ الثّقفىّ النّيسابورىّ الزاهد الواعظ الفقيه، هو من ولد الحجّاج بن يوسف الثّقفىّ، ولد بقوهستان سنة أربع وأربعين ومائتين، وسمع الحديث في كبره من جماعة، وروى عنه آخرون؛ وكان كبير الشأن أعجوبة

(3/267)


زمانه في الوعظ والتصوّف والفقه والزهد. وفيها توفّى محمد بن علىّ بن الحسن «1» ابن مقلة أبو على الوزير صاحب الخطّ المنسوب [إليه] ، ولى بعض أعمال فارس ثم وزر للمقتدر سنة ستّ عشرة وثلثمائة، ثم قبض عليه وصادره وحبسه عامين، ثم وزر بعد ذلك ثانيا وثالثا لعدّة خلفاء؛ ووقع له حوادث ومحن حتّى قطعت يده ولسانه وحبس حتّى مات. قال الصّولى: ما رأيت وزيرا منذ توفّى القاسم بن عبيد الله أحسن حركة، ولا أظرف إشارة، ولا أملح خطّا، ولا أكثر حفظا، ولا أسلط قلما، ولا أقصد بلاغة، ولا آخذ بقلوب الخلفاء، من محمد بن علىّ (يعنى ابن مقلة) . قال: وله بعد هذا كلّه علم بالإعراب وحفظ اللغة. وقال محمد بن إسماعيل الكاتب: لما نكب أبو الحسن بن الفرات أبا علىّ بن مقلة لم أدخل إليه في «2» حبسه ولا كاتبته، خوفا من ابن الفرات، فلما طال أمره كتب إلىّ يقول:
ترى حرّمت كتب الأخلّاء بينهم ... أبن لى أم القرطاس أصبح غاليا
فما كان لو ساءلتنا كيف حالنا ... وقد دهمتنا نكبة هى ما هيا
صديقك من راعاك عند شديدة ... وكلّ تراه في الرخاء مراعيا
فهبك عدوّى لا صديقى فربّما ... تكاد الأعادى يرحمون الأعاديا
وأنفذ في طىّ الورقة ورقة الى الوزير، فيها:
" أمسكت- أطال الله بقاء الوزير- عن الشكوى، حتى تناهت البلوى؛ فى النفس والمال، والجسم والحال؛ الى ما فيه شفاء للمنتقم، وتقويم للمجترم؛ حتى أفضيت الى الحيرة والتبلّد، وعيالى الى الهتكة والتشرد. وما أبداه الوزير- أيّده الله- فى أمرى إلا بحقّ واجب، وظنّ غير كاذب. وعلى كل حال فلي ذمام وحرمة،

(3/268)


وصحبة وخدمة؛ إن كانت الإساءة أضاعتها، فرعاية «1» الوزير أيده الله تعالى بحفظه، ولا مفزع إلا إلى الله بلطفه، وكنف الوزير وعطفه؛ فإن رأى- أطال الله بقاءه- أن يلحظ عبده بعين رأفته، وينعم بإحياء مهجته، وتخليصها من العذاب الشديد، والجهد الجهيد؛ ويجعل له من معروفه نصيبا، ومن البلوى فرجا قريبا". وفيها توفّى محمد ابن القاسم بن محمد بن بشّار أبو بكر [بن «2» ] الأنبارىّ النحوىّ اللغوىّ العلّامة، ولد سنة إحدى وسبعين ومائتين، سمع الكثير وروى عنه جماعة كثيرة. وقال أبو علىّ القالىّ تلميذه: كان أبو بكر يحفظ ثلثمائة ألف بيت شاهد في القرآن. وفيها توفّى أبو الحسن المزيّن أحد مشايخ الصوفيّة ببغداد، كان اسمه فيما قيل علىّ بن محمد. قال السّلمىّ «3» :
صحب الجنيد وسهل بن عبد الله؛ وأقام بمكّة مجاورا الى أن مات، وكان من أورع المشايخ وأحسنهم حالا. وهذا هو أبو الحسن المزيّن الصغير؛ وأما أبو الحسن المزين الكبير فبغدادىّ أيضا، وله ترجمة في تاريخ السّلمىّ مختصرة. وفيها توفّى المرتعش «4» الزاهد النّيسابورىّ، هو عبد الله بن محمد، أصله من محلة الحيرة، وصحب ابا حفص «5» والجنيد، وكان أحد مشايخ العراق. قال أبو عبد الله الرازىّ: كان مشايخ العراق يقولون: عجائب بغداد في التصوّف ثلاث: إشارات الشّبلىّ «6» ، ونكت أبى محمد المرتعش،

(3/269)


وحكايات جعفر الخلدىّ «1» . وسئل المرتعش: بماذا ينال العبد المحبّة لمولاه؟ قال: بموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه. وقيل له: إن فلانا يمشى على الماء؛ فقال: عندى أن من يمكّنه الله من مخالفة هواه أعظم من المشى على الماء.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وستّ أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 329]
السنة السابعة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة تسع وعشرين وثلثمائة- فيها استكتب بجكم أبا عبد الله الكوفىّ، وعزل ابن شيرزاد عن كتابته وصادره. وفيها في صفر وصلت الروم الى كفرتوثا «2» من أعمال الجزيرة، فقتلوا وسبوا.
وفيها في شهر ربيع الأوّل اشتدّت علّة الراضى، وقاء في يومين أرطالا من الدم؛ فأرسل أبا عبد الله الكوفىّ المذكور الى بجكم يسأله «3» أن يولّى العهد ابنه أبا الفضل وهو الأصغر، وكان بجكم بواسط، ثم توفّى الراضى. وفيها في سابع جمادى الآخرة سقطت القبّة الخضراء بمدينة المنصور، وكانت تاج بغداد ومأثرة بنى العباس. قال الخطيب في تاريخه: إنّ المنصور بناها ارتفاع ثمانين ذراعا، وإن تحتها إيوانا طوله عشرون ذراعا في مثلها. وقيل: كان عليها مثال فارس في يده رمح، اذا استقبل به جهة علم أن خارجيّا يظهر من تلك الجهة؛ فسقط رأس هذه القبّة ليلة ذات مطر وبرد ورعد. وفيها كان غلاء مفرط ووباء عظيم ببغداد، وخرج الناس يستسقون وما في السماء غيم، فرجعوا يخوضون في الوحل، واستسقى بهم أحمد بن الفضل الهاشمىّ.

(3/270)


وفيها عزل المتّقى الوزير سليمان، واستوزر أبا الحسين «1» أحمد بن محمد بن ميمون الكاتب؛ ثم قدم أبو عبد الله البريدىّ يطلب الوزارة فأجابه المتّقى. وكانت وزارة ابن ميمون شهرا. وفيها قلّد الخليفة المتّقى إمرة [الأمراء «2» ] الأمير كورتكين الديلمىّ، وقلّد بدرا الخرشنىّ «3» الحجابة. وفيها توفى أمير المؤمنين الراضى بالله أبو إسحاق محمد ابن الخليفة جعفر المقتدر ابن الخليفة المعتضد أحمد ابن ولّى العهد الموفّق طلحة ابن الخليفة المتوكّل جعفر ابن الخليفة المعتصم محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله ابن العباس الهاشمىّ البغدادىّ العباس؛ بويع بالخلافة بعد موت عمّه القاهر بالله، ومات في منتصف شهر ربيع الآخر وهو ابن إحدى وثلاثين سنة وستّة أشهر.
وبويع بالخلافة أخوه إبراهيم، ولقّب بالمتّقى. وأم الراضى أم ولد روميّة. كان الراضى فاضلا سمحا جوادا شاعرا محبّا للعلماء؛ وهو آخر خليفة له شعر مدوّن، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجند، وآخر خليفة خطب يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس الندماء.
قال الصولىّ: سئل الراضى أن يخطب يوم جمعة، فصعد المنبر بسرّمن رأى، فحضرت أنا وإسحاق بن المعتمد؛ فلما خطب شنّف الأسماع وبالغ في الموعظة. انتهى.
قلت: ومن شعر الراضى رضى الله عنه:
كلّ صفو الى كدر ... كلّ أمن الى حذر
ومصير الشباب لل ... موت فيه أو الكبر
درّدرّ المشيب من ... واعظ ينذر البشر
أيّها الآمل الذي ... تاه في لجّة الغرر

(3/271)


أين من كان قبلنا ... ذهب الشخص والأثر
ربّ فاغفر لى الخطي ... ئة يا خير من غفر
وفيها في شوّال اجتمعت العامّة وتظلّموا من الديلم ونزولهم في دورهم، فلم يقع لذلك إنكار؛ فمنعت العامّة الإمام من الصلاة وكسرت المنبر، ومنعهم الديلم من ذلك، فقتل من «1» الفريقين جماعة كثيرة. وفيها استوزر المتّقى القراريطىّ «2» ، وخلع المتقى على بدر الخرشنىّ، وقلّده الحجابة وجعله حاجب الحجّاب. قلت: هذا أوّل ما سمعنا بمن سمّى حاجب الحجّاب؛ ولكن لا نعلم هل كان بهذه الكيفيّة أو غير هذه الصورة من أنه كبير الحجبة؛ ولعلّه ذلك. وفيها توفّى بجكم التركىّ الأمير أبو الخير، كان أمير الأمراء قبل بنى بويه، وكان عاقلا يفهم العربيّة «3» ، ولا يتكلّم بها بل يتكلّم بترجمانه، ويقول: [أخاف] «4» أن أتكلّم فأخطئ، والخطأ من الرئيس قبيح. وكان عاقلا سيوسا عارفا، يتولّى المظالم بنفسه. قال القاضى التّنوخىّ «5» : جاء رجل من الصوفيّة الى بجكم، فوعظه بالعربيّة وللفارسيّة حتى أبكاه؛ فلما خرج قال بجكم لرجل: احمل معك ألف درهم وادفعها إليه؛ فأخذها الرجل ولحقه؛ وأقبل بجكم يقول: ما أظنّه يقبلها؛ فلمّا عاد الغلام ويده فارغة قال بجكم: أخذها؟ قال: نعم؛ فقال بجكم بالفارسيّة:
كلّنا صيّادون ولكن الشباك تختلف. وفيها وقع الحرب بين محمد بن رائق وبين كورتكين وانكسر كورتكين واختفى. وفيها توفّى عبد الله بن طاهر بن حاتم أبو بكر الأبهرىّ، كان من أقران الشّبلىّ. سئل: ما بال الإنسان يحتمل من معلّمه مالا يحتمل

(3/272)


من أبويّه؟ فقال: لأن أبويه سبب لحياته الفانية، ومعلّمه سبب لحياته الباقية. وفيها توفّى العباس بن الفضل بن العبّاس بن موسى الأمير أبو الفضل الهاشمى العباسىّ، كان فاضلا، سمع الحديث ورواه، ومات في جمادى الأولى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحسن بن علىّ أبو محمد البربهارىّ «1» شيخ الحنابلة، والقاضى أبو محمد عبد الله بن أحمد بن زبر «2» ، وأبو القاسم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزىّ الحامض، والراضى بالله أبو إسحاق محمد بن المقتدر في [شهر] ربيع الآخر عن اثنتين وثلاثين سنة، وأبو نصر محمد بن حمدويه المروزىّ القارئ، وأبو بكر يوسف بن يعقوب التّنوخىّ الأزرق.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وإحدى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 330]
السنة الثامنة من ولاية الإخشيد على مصر، وهى سنة ثلاثين وثلثمائة- فيها استوزر الخليفة المتقى أبا عبد الله البريدىّ برأى ابن رائق لمّا رأى انضمام الأتراك إليه، فاحتاج إلى مداراته. وفيها في المحرّم وجد كورتكين الديلمىّ في درب، فأحضر الى دار [ابن] رائق فحبسه. وفيها كان الغلاء العظيم ببغداد، وأبيع كرّ القمح بمائتى دينار وعشرة دنانير، وأكلوا الميتة، وكثرت الأموات على الطرق، وعمّ البلاء؛ وخرج فى [شهر] ربيع الآخر الحرم من قصر الرّصافة يستغثن في الطرقات: الجوع الجوع!

(3/273)


وخرج الأتراك وتوزون فساروا «1» الى البريدىّ بواسط. وفي هذه الأيام وصلت الروم إلى حموص من أعمال حلب- وهى على ستة فراسخ من حلب- فأخربوا وأحرقوا وسبوا عشرة آلاف نسمة. وفيها ولى قضاء الجانبين ومدينة أبى جعفر القاضى أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقىّ «2» التاجر؛ وتعجّب الناس من تقليد مثله القضاء. وفيها عزل البريدىّ وقلّد القراريطىّ الوزارة. وفيها فى جمادى الأولى ركب المتّقى ومعه ابنه أبو منصور ومحمد بن رائق والوزير الفراريطىّ والجيش وساروا «3» بين أيديهم القرّاء في المصاحف لقتال البريدىّ، واجتمع الخلق على كرسى الجسر فثقل بهم وانخسف فغرق خلق؛ وأمر ابن رائق بلعن البريدىّ على المنابر. ثم أقبل أبو الحسين علىّ بن محمد أخو البريدىّ إلى بغداد وقارب المتقى وابن رائق وقاتلهما فهز مهما، وكان معه الترك والديلم والقرامطة؛ ودخلوا بغداد وكثر النهب بها؛ وتحصّن ابن رائق بها؛ فزحف أبو الحسين البريدىّ على الدار، واستفحل الشر، ودخل طائفة دار الخلافة وقتلوا جماعة؛ وخرج الخليفة المتقى وابنه هاربين الى الموصل ومعهما ابن رائق، واستتر الوزير القراريطىّ؛ ودخلوا على الحرم ونهبت دار الخلافة؛ ووجدوا في السجن كورتكين الديلمىّ وأبا الحسن «4» [سعيد بن عمرو «5» بن سنجلا] وعلىّ بن يعقوب، فجىء بهم إلى أبى الحسين؛ فقيّد كورتكين وبعث به الى أخيه بالبصرة؛ وكان آخر العهد به. ونزل أبو الحسين دار ابن رائق «6» ، وقلّد الشرطة [فى الجانب «7»

(3/274)


الشرقى] لتوزون ولأبى منصور نوشتكين الشرطة في الجانب الغربىّ. واشتدّ القحط ببغداد، حتى أبيع كرّ القمح بثلاثمائة وستة عشر دينارا. ثم وقع بين البريدىّ وبين توزون ونوشتكين حرب، ووقع لهم أمور؛ وانصرف توزون إلى الموصل وانضم إلى ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان. وفيها كانت وقعة بين الأتراك والقرامطة فانهزمت القرامطة. وفيها انضم محمد بن رائق على الحسن بن عبد الله بن حمدان المذكور؛ ثم وقّع بينهما؛ وقتل ابن رائق، قتله أعوان الحسن بن عبد الله بن حمدان المذكور؛ وخلع المتقى على الحسن بن عبد الله بن حمدان المذكور ولقّبة بناصر الدولة، وعلى أخيه علىّ ولقّبه بسيف الدولة؛ وعاد الخليفة إلى بغداد. قلت: وهذا أول عظمة بنى حمدان، فهم على هذا الحكم أقدم الملوك. ولما قدم الخليفة المتقى إلى بغداد ومعه بنو حمدان هرب منها البريدىّ الى واسط بعد أن أقام ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوما. وفيها توفّى العارف بالله أبو يعقوب إسحاق بن محمد النّهر جورىّ «1» شيخ الصوفيّة، مات بمكّة؛ وكان صحب سهل بن عبد الله والجنيد وغيرهما، وكان من كبار المشايخ. وفيها توفّى المحامليّ الزاهد، [و] «2» أبو صالح مفلح بن عبد الله الدّمشقىّ صاحب الدعاء وغيره، وإليه ينسب مسجد أبى صالح خارج الباب الشرقىّ، وكان من الصلحاء الزهّاد. وفيها توفّى محمد بن رائق الأمير أبو بكر، وكان من أكابر القوّاد، ولى الأعمال الجليلة، ثم قدم دمشق وأخرج منها بدرا الإخشيذى، وأقام بها شهرا، ثم توجّه إلى مصر والتقى هو والإخشيذ- وقد ذكرنا ذلك كلّه مفصّلا في ترجمة الإخشيذ وغيره- ثم عاد إلى بغداد فدخلها، وخلع عليه المتقى خلعة الإمارة وألبسه

(3/275)


الطّوق والسّوار وقلّده الأمور. ثم خرج مع المتقى «1» لجرب ناصر الدولة بن حمدان، وجرت له أمور طويلة حتى قتل بالموصل. قال الصولىّ أنشدنا الأمير محمد بن رائق فى فتاة مشرقيّة:
يصفرّ «2» اونى إذا بصرت به ... خوفا ويحمّر وجهه خجلا
حتّى كأنّ الذي بوجنته ... من دم قلبى إليه قد نقلا
وفيها توفّى نصر بن أحمد أبو القاسم البصرىّ الخبز أرزىّ الشاعر المشهور، قدم بغداد وكان يخبز خبز الأرز يتكسّب بذلك؛ وكان له نظم رائق، وكان أمّيّا لا يتهجّى ولا يكتب، وكان ينشد أشعاره وهو يخبز خبز الأرز بمربد البصرة في دكّان، وكان الناس يزدحمون عليه لاسمّاع شعره، ويتعجبون من حاله؛ وكان أبو الحسين محمد بن محمد [بن لنكك «3» ] الشاعر المشهور ينتاب «4» دكانه ليستمع شعره، واعتنى به وجمع له ديوانا. ومن شعره قوله:
خليلىّ هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشّى الى عند
أتى زائرا من غير وعد وقال لى ... أحلّك «5» عن تعليق قلبك بالوعد

(3/276)


فمازال نجم الكأس «1» بينى وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد
فطورا على تقبيل نرجس ناظر ... وطورا على تعضيض تفّاحة الخدّ
وله:
كم أناس وفوا لناحين غابوا ... وأناس جفوا وهم حضّار
عرّضوا ثم أعرضوا واستمالوا ... ثم مالوا وجاوروا «2» ثم جاروا
لا تلمهم على التجنّى فلو لم ... يتجنوا لم يحسن الاعتذار
وله:
وكان الصديق يزور الصديق ... لشرب المدام وعزف القيان
فصار الصديق يزور الصديق ... لبثّ الهموم وشكوى الزمان
وله القصيدة للطنّانة التى أوّلها:
بات الحبيب منادمى ... والسكر يصبغ وجنتيه
ثم اغتدى وقد ابتدا ... صبغ الخمار بمقلتيه
وهى طويلة. ومن شعره قوله:
رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النظر.
فلم أدر من حيرتى فيهما ... هلال الدّجى من هلال البشر
ولولا التورّد في الوجنتين ... وما راعنى من سواد الشّعر
لكنت أظنّ الهلال الحبيب ... وكنت أظنّ الحبيب القمر
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع ونصف إصبع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثمانى أصابع.

(3/277)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 331]
السنة التاسعة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة- فيها تزوّج أبو منصور إسحاق ابن الخليفة المتّقى بالله ببنت ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان التّغلبىّ؛ والصداق مائتا ألف دينار، وقيل: مائة ألف دينار وخمسمائة ألف درهم. وفيها في صفر وصلت الروم أرزن «1» وميّافارقين ونصيبين فقتلوا وسبوا؛ ثم طلبوا منديلا من كنيسة الرّها يزعمون أن المسيح مسح به وجهه فارتسمت صورته فيه، على أنهم يطلقون جميع من سبوا من المسلمين.
فاستفتى الخليفة الفقهاء فأفتوا بأنّ إرساله مصلحة للمسلمين؛ فأرسل الخليفة اليهم المنديل وأطلق الأسارى. وفيها ضيّق الأمير ناصر الدولة حسن بن عبد الله بن حمدان على الخليفة المتّقى في نفقاته، وأخذ ضياعه وصادر الدواوين وأخذ الأموال، فكرهه الناس. وفيها وافى الأمير أحمد بن بويه يقصد قتال البريدى، فاستأمن إليه جماعة من الديلم. وفيها هاج الأمراء على سيف الدولة علىّ بن عبد الله بن حمدان بواسط، فهرب منهم في البرّيّة «2» يريد بغداد؛ ثم سار ناصر الدولة الى الموصل خائفا لهروب أخيه سيف الدولة، ونهبت داره؛ واستوزر المتقى أبا الحسين «3» على بن أبى علىّ محمد بن مقلة. وفيها سار توزون من واسط وقصد بغداد في شهر رمضان؛ فانهزم سيف الدولة الى الموصل أيضا؛ فخلع الخليفة المتقى على توزون ولقّبه أمير الأمراء. ثم وقعت الوحشة بين المتقى وتوزون، فعاد توزون الى واسط. وفيها نزح خلق كثير من بغداد مع الحجّاج الى الشام ومصر خوفا من الفتنة. وفيها ولد لأبى

(3/278)


طاهر القرمطىّ ولد، فأهدى إليه أبو عبد الله البريدىّ هدايا عظيمة، فيها مهد ذهب مجوهر. وفيها استوزر المتّقى الخليفة غير وزير من هؤلاء الحاملين ويعزله «1» ، فاستوزر أبا العباس «2» الكاتب الأصبهانىّ. وكان أبو العباس المذكور ساقط الهمّة بحيث إنه كان يركب أيام وزارته وبين يديه اثنان، وما ذلك إلا لضعف دست الخلافة ووهن دولة بنى العباس. وفيها حجّ بالناس القرمطىّ على مال أخذه منهم. وفيها توفّى بدر الخرشنىّ، وكان قد جرت له أمور ببغداد، وكان من أكابر القوّاد؛ ثم سار الى الإخشيذ محمد بن طغج أمير مصر- أعنى صاحب الترجمة- فولّاه الإخشيذ إمرة دمشق، فوليها شهرين، ومات في ذى القعدة. وقد تقدّم ذكر بدر هذا في عدّة أماكن في الحوادث وغيرها. وفيها توفّى أبو سعيد سنان «3» بن ثابت المتطبّب، والد ثابت مصنّف التاريخ. وقد أسلم سنان على يد الخليفة القاهر بالله؛ وطبّب سنان المذكور جماعة من الخلفاء، وكان مفتنّا في علم الطبّ وغيره. وفيها توفّى محمد بن عبدوس مصنف" كتاب الوزراء" ببغداد، كان فاضلا رئيسا، وله مشاركة في فنون.
وفيها توفّى محمد بن إسماعيل أبو بكر الفرغانىّ الصوفىّ أستاذ أبى بكر الدقّاق، كان من المجتهدين في العبادة. قال الرّقّىّ: ما رأيت أحسن منه ممن يظهر الغنى في الفقر، كان يلبس قميصين ورداء وسراويل ونعلا نظيفا وعمامة، وفي يده مفتاح وليس له بيت، ينطرح في المساجد، ويطوى الخمس والستّ. وقال عبد الواحد بن بكر:
سمعت الرقىّ يقول سمعت الفرغانىّ محمد بن إسماعيل يقول:" دخلت الدّير الذي بطور سيناء، فأتانى مطرانهم بأقوام كأنهم نشروا من القبور، فقال: هؤلاء يأكل

(3/279)


أحدهم في الأسبوع مرّة، يفخرون بذلك؛ فقلت لهم: كم صبر مسيحكم هذا؟
قالوا: ثلاثين يوما، وكنت قاعدا في وسط الدّير، فلم أزل جالسا أربعين يوما لم آكل ولم أشرب؛ فخرج إلىّ مطرانهم فقال: يا هذا قم، فقد أفسدت قلوب كلّ من في الدير؛ فقلت: حتى أتمّ ستين يوما؛ فألحّوا فخرجت.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى حسن بن سعد الكتامىّ القرطبىّ الحافظ، ومحمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة السّدوسىّ، ومحمد ابن مخلد بن حفص العطّار، ويعقوب بن عبد الرّحمن الجصّاص.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وستّ أصابع. مبلغ الزيادة تسع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 332]
السنة العاشرة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- فيها قدم أبو جعفر بن شيرزاد من واسط من قبل توزون الى بغداد، فحكم على بغداد؛ فخرج الخليفة المتقى الى تكريت بأولاده ومعه الوزير؛ فقدم عليه سيف الدولة وأشار عليه بأن يصعد الى الموصل ليتّفقوا على رأى؛ فقال المتقى: ما على هذا عاهدتمونى.
ثم حضر ناصر الدولة بن حمدان والتقى مع توزون واقتتلوا أيّاما وأردفه أخوه، ثم انهزم بنو حمدان وفرّوا ومعهم المتّقى الى نصيبين. ثم أرسل المتقى لتوزون في الصلح فأجاب توزون الى الصلح. ورجع الخليفة الى بغداد بعد أمور صدرت له. وفيها قتل أبو عبد الله البريدىّ أخاه أبا يوسف، ثم مات بعده بيسير. وفيها ولىّ ناصر الدولة بن حمدان ابن عمّه الحسين بن سعيد بن حمدان قنّسرين والعواصم فسار الى حلب. وفيها كتب المتقى إلى الإخشيذ صاحب مصر أن يحضر إليه؛ فخرج من مصر

(3/280)


وسار إلى الرقّة. وقد تقدّم ذكر ذلك في أوّل هذه الترجمة. وفيها قتل حمدى «1» اللص، وكان لصّا فاتكا، أمّنه «2» ابن شيرزاد وخلع عليه، وشرط معه أن يصله كلّ شهر بخمسة عشر ألف دينار، وكان يكبس بيوت الناس بالمشعل والشّمع ويأخذ الأموال، وكان أسكورج «3» الدّيلمىّ قد ولى شرطة بغداد فقبض عليه ووسّطه «4» . قلت: لعل حمدى هذا هو الذي يقال «5» له عند العامة في سالف الأعصار:" أحمد الدنف".
وفيها دخل أحمد بن بويه واسطا، وهرب أصحاب البريدىّ الى البصرة. وفيها فى شوّال عرض لتوزون صرع وهو على سرير الملك، فوثب ابن شيرزاد وأرخى عليه السّتر، وقال: قد حدثت للأمير حمّى. وفيها لم يحجّ أحد لموت القرمطىّ.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرّحمن مولى بنى هاشم أبو العباس الكوفىّ الحافظ المعروف بابن عقدة وهو لقب أبيه، سمع الكثير حتّى من أقرانه، وكان حافظا مفتنّا، جمع الأبواب والتراجم، وروى عنه الدارقطنىّ وغيره. وفيها هلك الخبيث الطريد من رحمة الله أبو طاهر سليمان بن أبى سعيد الجنّابى الهجرىّ القرمطىّ فى شهر رمضان بالجدرىّ، بعد أن رأى في نفسه العبر وتقطّعت أوصاله؛ وهو الذي قتل الحجيج واستباحهم غير مرّة، واقتلع الحجر الأسود. وتولّى مكانه أبو القاسم سعيد [بن الحسن أخوه «6» ] . وقد تقدّم ذكر أبى طاهر فيما مضى؛ غير أن صاحب المرآة أرّخ وفاته في هذه السنة. وقد ذكرناها ثانيا لهذا المنكر، عليه اللعنة والخزى.

(3/281)


وفيها دخل الدّمستق إلى رأس العين «1» فى ثمانين ألفا من الروم، فقتل وسبى خلقا كثيرا؛ وقيل: كان ذلك في الماضية.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العباس أحمد ابن محمد بن سعيد بن عقدة الحافظ، وأبو بكر محمد بن الحسين النّيسابورىّ القطّان، وعبد الله بن أحمد بن إسحاق المصرىّ الجوهرى. رضى الله عنهم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإصبع واحدة. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 333]
السنة الحادية عشرة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة- فيها خلع المتقى إبراهيم من الخلافة وسمل، فعل به ذلك توزون. قال المسعودىّ: لما التقى توزون بالمتقى ترجّل وقبّل الأرض، فأمره المتقى بالركوب فلم يفعل، ومشى بين يديه الى المخيّم الذي ضرب له؛ فلمّا نزل قبض عليه توزون وأكحله، فصاح المتقى وصاح النساء، فأمر توزون بضرب الدبادب «2» حول المخيّم، ثم دخل توزون بالمتّقى الى بغداد مسمول العينين؛ وأحضر توزون عبد الله بن المكتفى وبايعه بالخلافة ولقّبه بالمستكفى بالله. ولما بلغ القاهر بالله المخلوع عن الخلافة والمسمول أيضا قبل تاريخه أن المتقى خلع وسمل، قال: صرنا اثنين ونحتاج الى ثالث؛ يعرّض بالمستكفى الذي بويع بالخلافة؛ وكان كما قال على ما يأتى

(3/282)


ذكره إن شاء الله تعالى. وكنية المستكفى أبو القاسم. وأمّه أمّ ولد «1» . وبويع بالخلافة وعمره إحدى وأربعون سنة. وعاش المتقى بعد خلعه وسمله خمسا وعشرين سنة أعمى. وكان خلعه في عشرين صفر؛ فلم يحل الحول على توزون حتى مات. وفيها كانت وقعات عديدة بين توزون وبين أحمد بن بويه وكلّها على توزون والصّرع يعتريه، حتّى كلّ الرجال من الطائفتين؛ ورجع ابن بويه الى الأهواز، ورجع توزون الى بغداد مشغولا بنفسه من العلّة بالصرع الى أن مات. وفيها سار سيف الدولة ابن حمدان الى حلب فملكها وهرب أميرها يأنس المؤنسى الى مصر؛ فجهّز الإخشيذ صاحب الترجمة جيشا لحربه، كما تقدّم في أول الترجمة. وفيها غزا سيف الدولة ابن حمدان بلاد الروم وردّ سالما بعد أن بدّع بالعدوّ. وسبب هذه الغزوة أنه بلغ الدّمستق ما فيه سيف الدولة من الشغل بحرب أضداده، فسار في جيش عظيم وأوقع بأهل بغراس «2» ومرعش «3» وقتل وسبى؛ فأسرع سيف الدولة الى مضيق وشعاب وأوقع

(3/283)


بجيش الدمستق وبيّتهم واستنقذ الأسارى والغنيمة من أيدى الروم، وانهزم الروم أقبح هزيمة. ثم بلغ سيف الدولة أنّ مدينة الروم قد تهذم بعض سورها، وكان ذلك في الشتاء، فاغتنم سيف الدولة الفرصة فأناخ عليهم وقتل وسبى؛ لكن أصيب بعض جيشه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الطيب أحمد ابن إبراهيم الشّيبانىّ، وأبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن حكيم «1» المدنىّ، والمتقى بالله إبراهيم بن المقتدر خلع وسمل في صفر، ثم بقى خاملا منسيّا الى سنة سبع وخمسين وثلثمائة، وأبو علىّ محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان واثنتا عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 334]
السنة الثانية عشرة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة أربع وثلاثين وثلثمائة- فيها كانت وفاة الإخشيذ كما تقدّم ذكره. وفيها لقّب الخليفة المستكفى نفسه بإمام الحقّ وضرب ذلك على السّكّة. وفيها في المحرّم توفّى توزون التركى الأمير بهيت «2» ، وكان معه كاتبه أبو جعفر بن شيرزاد؛ فطمع «3» فى المملكة وحلّف العساكر لنفسه، وسار حتى نزل بباب حرب (أحد أبواب بغداد) ؛ فخرج إليه الديلم والجند؛ وبعث إليه المستكفى بالإقامات وبخلع بيض. ولم يكن مع ابن شيرزاد مال، فضاق

(3/284)


ما بيده، فشرع في مصادرات التجّار والكتّاب وسلّط الجند على العامّة، وتفرّغ لأذى الخلق؛ فهرب أعين بغداد وانقطع الجلب، فخربت وتخلخل أمرها. وفيها قدم معزّ الدولة أحمد بن بويه الى بغداد بعد أمور صدرت، وخلع عليه المستكفى ولقّبه" معزّ الدولة"، ولقّب أخاه عليّا" عماد الدولة"، وأخاه الحسن" ركن الدولة"، وضربت ألقابهم على السّكّة. ثم ظهر ابن شيرزاد واجتمع بمعزّ الدولة. ومعزّ الدولة المذكور هو أوّل من ملك من الديلم من بنى بويه، وهو أوّل من وضع السّعاة ببغداد ليجعلهم رسلا بينه وبين أخيه ركن الدولة الى الرىّ. وكان له ساعيان: فضل ومرعوش، وكان كلّ واحد [منهما «1» ] يمشى في اليوم ستة وثلاثين فرسخا، فضرى «2» بذلك شباب بغداد وانهمكوا فيه، حتى نجب منهم عدّة سعاة. وفيها خلع المستكفى من الخلافة وسمل، خلعه معزّ الدولة أحمد بن بويه الديلمىّ. وسببه أنه لمّا كان أوّل جمادى الآخرة دخل معزّ الدولة على الخليفة المستكفى فوقف والناس وقوف على مراتبهم، فتقدّم اثنان من الديلم فطلبا من الخليفة الرزق، فمدّ يده إليهما ظنّا منه أنّهما يريدان تقبيلها؛ فجذباه من السرير وطرحاه الى الأرض وجرّاه بعمامته. ثم هجم الديلم على دار الخلافة، وعلى الحرم ونهبوا وقبضوا على القهرمانة «3» وخواصّ الخليفة. ومضى معزّ الدولة الى منزله. وساقوا المستكفى ماشيا إليه، ولم يبق بدار الخلافة شىء إلّا نهب.

(3/285)


وخلع المستكفى وسملت عيناه. وكانت خلافته سنة وأربعة أشهر ويومين. وتوفّى بعد ذلك في سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة، وعمره ستّ وأربعون سنة. على ما يأتى ذكره في محلّه.
وهذا ثالث خليفة خلع وسمل كما بشّر به القاهر لمّا خلع المتّقى وسمل؛ فإنّه قال:
بقينا اثنين ولا بدّ لنا من ثالث. وقد تقدّم ذكر ذلك عند خلع المتّقى. ثم أحضر معزّ الدولة أبا القاسم الفضل بن المقتدر جعفر وبايعه بالخلافة ولقّبه بالمطيع لله، وسنّه يومئذ أربع وثلاثون سنة. ثم قدّموا ابن عمّه المستكفى المذكور فسلّم عليه بالخلافة وأشهد على نفسه بالخلع؛ وذلك قبل أن يسمل. ثم صادر المطيع خواصّ المستكفى وأخذ منهم أموالا كثيرة. وقرّر له معزّ الدولة في كلّ يوم مائة دينار. وفيها عظم الغلاء ببغداد في شعبان وأكلوا الجيف والرّوث وماتوا على الطّرق، وأكلت الأكلب لحومهم، وبيع العقار بالرّغفان، ووجدت الصغار مشويّة مع المساكين، وهرب الناس إلى البصرة وواسط فمات خلق في الطّرقات. وذكر ابن الجوزىّ أنّه اشترى لمعزّ الدولة كرّ دقيق بعشرين ألف درهم. قلت: والكرّ: سبعة «1» عشر قنطارا بالدّمشقىّ، لأن الكرّ: أربعة وثلاثون كارة، والكارة: خمسون رطلا بالدمشقىّ. وفيها وقّع بين معزّ الدولة أحمد بن بويه وبين ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان التّغلبىّ؛ وجاء فنزل سامرّا؛ فخرج إليه معزّ الدولة ومعه الخليفة المطيع لله في شعبان، وابتدأت الحروب بينهم بعكبرا «2» . وكان معزّ الدولة قد تغيّر على «3» ابن شيرزاد واستخانه فى الأموال. فلما وقع القتال جاء ناصر الدولة فنزل بغداد من الجانب الشرقىّ وملكها؛ وجاء معزّ الدولة ومعه المطيع كالأسير فنزل في الجانب الغربىّ، ثم

(3/286)


قوى أمر معزّ الدولة حتّى ملك بغداد، ونهبت عساكره الديلم أهل بغداد، وهرب ناصر الدولة من بغداد. وفيها توفّى القائم بأمر الله نزار، وقيل: محمد وهو الأشهر، وكنيته أبو القاسم بن المهدىّ عبيد الله الذي توثّب على الأمر وادّعى أنّه علوىّ فاطمىّ. يأتى ذكر أحوالهم في تراجم من ملك مصر من ذرّيتهم كالمعزّ وغيره.
ولى القائم هذا بعد موت أبيه المهدىّ بعهد منه إليه، وسار إلى مصر مرّتين، ووقع له مع أصحاب مصر حروب وخطوب؛ تقدّم ذكر بعضها في تراجم ملوك مصر يوم ذاك. وكانت وفاة القائم هذا بالمهديّة من بلاد المغرب في شوّال. قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ: وكان القائم شرّا من أبيه المهدىّ زنديقا ملعونا. ذكر القاضى عبد الجبّار أنّه أظهر سبّ الأنبياء عليهم السلام؛ وكان مناديه ينادى العنوا الغار وما حوى. وقتل خلقا من العلماء. وكان يراسل أبا طاهر القرمطىّ «1» الى البحرين وهجر، وأمره بإحراق المساجد والمصاحف. فلما كثر فجوره خرج عليه رجل يقال له مخلد بن كيداد «2» . وساق الذهبىّ أمورا نذكر بعضها في تراجم أولاده الآتى ذكرهم في أخبار ملوك مصر؛ فحينئذ نطلق هناك عنان القلم في نسبهم وكيفيّة دخولهم الى مصر وأحوالهم مبسوطا مستوعبا. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن الحسن أبو بكر المعروف بالصّنوبرىّ الضبىّ الحلبىّ الشاعر المشهور. كان إماما بارعا

(3/287)


فى الأدب فصيحا مفوّها. روى عنه من شعره أبو الحسن الأديب وأبو الحسن ابن جميع وغيرهما. ومن شعره:
لا النوم أدرى به ولا الأرق ... يدرى بهذين من به رمق
إنّ دموعى من طول ما استبقت ... كلّت فما تستطيع تستبق
ولى «1» مليك لم تبد صورته ... مذ كان إلّا صلّت له الحدق
نويت تقبيل نار وجنته ... وخفت ادنو منها فأحترق
وفيها توفّى علىّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح أبو الحسن البغدادىّ الكاتب الوزير؛ وزر للمقتدر والقاهر، وحدّث عن أحمد بن شعيب النّسائىّ والحسن بن محمد الزعفرانىّ وحميد بن الرّبيع، وروى عنه ابنه عيسى والطبرانىّ وأبو طاهر الهذلىّ، وكان صدوقا ديّنا خيّرا صالحا عالما من خيار الوزراء ومن صلحاء الكبراء؛ وكان كبير البر والمعروف والصلاة والصيام ومجالسة العلماء. حكى أبو سهل بن زياد القطّان أنّه كان معه لما نفى إلى مكّة، قال: فطاف يوما [وسعى «2» ] وجاء فرمى بنفسه، وقال: أشتهى على الله شربة ماء مثلوج؛ فنشأت بعد ساعة سحابة فبرقت «3» ورعدت وجاءت بمطر يسير وبرد كثير، وجمع الغلمان منه جرارا، وكان الوزير صائما؛ فلمّا كان الإفطار جئته بأقداح مملوءة من أصناف الأشربة؛ فأقبل يسقى المجاورين، ثم شرب وحمد الله، وقال: ليتنى تمنّيت المغفرة. وقال أحمد بن كامل القاضى:
سمعت علىّ بن عيسى الوزير يقول: كسبت سبعمائة ألف دينار أخرجت منها

(3/288)


فى وجوه البرّ ستمائة وثمانين ألف دينار. وقال الصّولىّ: لا أعلم أنه وزر لبنى العباس وزير يشبهه في عفّته وزهده وحفظه للقرآن وعلمه بمعانيه، وكان يصوم نهاره ويقوم ليله؛ ولا أعلم أنّنى خاطبت أحدا أعرف [منه «1» ] بالشعر. ولما نكب وعزل عن الوزارة قال أبياتا منها:
ومن يك عنّى سائلا لشماتة ... لما نابنى أو شامتا غير سائل
فقد أبرزت منّى الخطوب ابن حرّة «2» ... صبورا على أهوال «3» تلك الزلازل
وفيها توفّى عمر بن الحسين بن عبد الله أبو القاسم الخرقىّ البغدادىّ الحنبلىّ صاحب «المختصر» فى الفقه. وقد مرّ ذكر أبيه في محلّه. قال أبو يعلى بن الفرّاء:
كانت لأبى القاسم مصنّفات كثيرة لم تظهر، لأنه خرج من بغداد لمّا ظهر بها سبّ أصحابه، وأودع كتبه في دار فاحترقت تلك الدار. وكانت وفاته بدمشق ودفن بباب الصغير «4» . وفيها توفّى أبو بكر الشّبلىّ الصوفىّ المشهور صاحب الأحوال، واسمه دلف بن جحدر، وقيل: جعفر بن يونس، وقيل: جعفر بن دلف، وقيل غير ذلك؛ أصله من الشّبليّة، وهى قرية بالعراق، ومولده بسرّمن رأى. ولى خاله إمرة الإسكندريّة، وولّى أبوه حجابة الحجّاب، وولّى هو حجابة الموفّق ولىّ العهد.
وسبب توبته أنه حضر مجلس خير النساج وتاب فيه، وصحب الجنيد ومن في عصره، وصار أحد مشايخ الوقت حالا وقالا في حال صحوه لا في حال غيبته؛ وكان فقيها مالكى المذهب، وسمع الحديث، وكان له كلام وعبارات، ومات في آخر هذه السنة

(3/289)


وقد نيّف على الثمانين. قيل: إنّه سأله سائل: هل يتحقّق العارف بما يبدوله؟
فقال: كيف يتحقّق بما لا يثبت! وكيف يطمئن الى ما يظهر! وكيف يأنس بما لا يخفى! فهو الظاهر الباطن؛ ثم أنشأ:
فمن كان في طول الهوى ذاق سلوة ... فإنّى من ليلى بها غير واثق
وأكثر شىء نلته من وصالها ... أمانىّ لم تصدق كلمحة بارق
وله:
تغنّى العود فاشتقنا ... الى الأحباب إذ غنّى
وكنّا حيثما كانوا ... وكانوا حيثما كنّا
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الفضل أحمد ابن عبد الله بن نصر بن هلال السّلمىّ، وأبو بكر الصّنوبرىّ الحلبىّ أحمد بن محمد، والحسين بن يحيى بن عبّاس القطّان، والمستكفى بالله عبد الله بن المكتفى خلع في جمادى الآخرة وسمل وسجن ثم مات بعد أربعة أعوام، وعلىّ بن إسحاق المادرانىّ «1» ، وأبو الحسن علىّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح الوزير، وأبو القاسم عمر بن الحسين الخرقىّ الحنبلىّ صاحب «المختصر» ، وأبو علىّ محمد بن سعيد القشيرىّ الحرّانىّ الحافظ، والإخشيذ محمد بن طغج التركىّ في ذى الحجة بدمشق عن ستّ وستين سنة، والقائم بأمر الله نزار، ويقال: محمد بن المهدىّ عبيد الله، مات بالمهديّة في شوّال، وأبو بكر الشّبلىّ شيخ الصوفيّة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشر أصابع.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وستّ أصابع.

(3/290)


ذكر ولاية أنوجور بن الإخشيذ على مصر
هو أنوجور «1» بن الإخشيذ محمد بن جفّ الأمير أبو القاسم الفرغانىّ التركىّ.
وأنوجور اسم أعجمىّ غير كنية، معناه باللغة العربية محمود «2» . ولى مصر بعد وفاة أبيه الإخشيذ في يوم الجمعة لثمان بقين من ذى الحجّة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة؛ ولّاه الخليفة المطيع لله على مصر والشام وعلى كلّ ما كان لأبيه من الولاية؛ فإنّه كان أبوه استخلفه وجعله ولىّ عهده؛ فأقرّه الخليفة على ما عهده له أبوه. ولما ثبت أمر أنوجور المذكور صار الخادم كافور الإخشيذىّ مدبّر مملكته، فكان كافور يطلق في كلّ سنة لابن أستاذه أنوجور هذا أربعمائة ألف دينار، ويتصرّف كافور فيما يبقى. ثم قبض كافور على أبى بكر محمد بن علىّ بن مقاتل صاحب خراج مصر فى يوم ثالث المحرّم سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، وولّى مكانه على الخراج محمد بن علىّ الماذرائىّ «3» . ولما تمّ أمر أنوجور بدمشق خرج منها وصحبته الأستاذ كافور الإخشيذى الى مصر؛ فدخلها بعساكره في أوّل صفر؛ فأقام بها مدّة، ثم خرج منها بعساكره الى الشام أيضا لقتال سيف الدولة علىّ بن عبد الله بن حمدان؛ فإنّ سيف الدولة كان بعد خروج أنوجور من دمشق ملكها. ولما خرج أنوجور من مصر الى الشام في هذه المرّة خرج معه عمّه الحسن بن طغج أخو الإخشيذ، ومدبّر دولته الخادم كافور الإخشيذىّ؛ فخرج سيف الدولة من دمشق وتوجّه نحو الديار المصريّة حتّى وصل الى الرّملة؛ فالتقى مع المصرييّن؛ فكان بينهم وقعة هائلة انكسر

(3/291)


فيها سيف الدولة وانهزم الى السام، فسار المصريّون وراءه فانهزم الى حلب، فساروا خلفه فانهزم الى الرّقّة. وقال المسبّحىّ: كان بين سيف الدولة وبين أبى المظفّر الحسن بن طغج وهو أخو الإخشيذ- قلت: ذكر المسعودىّ الحسن هذا لصغر سنّ أنوجور- وقعة باللّجّون «1» ؛ فانكسر سيف الدولة ووصل الى دمشق بعد شدّة وتشتّت؛ وكانت أمّه بدمشق فنزل بالمرج «2» خائفا، وأخرج حواصله، وسار نحو حمص على طريق قارة «3» . وسار أخو الإخشيذ وكافور الإخشيذىّ الى دمشق.
واستقر أمرهم على الصلح، على أن يعود سيف الدولة الى ما كان بيده من حلب وغيرها. وأقرّ أنوجور يأنس المؤنسىّ على عادته في إمرة دمشق؛ فإنّه كان أولا انهزم من سيف الدولة وسلّمه دمشق بالأمان. وعاد أنوجور وعمّه الحسن بن طغج وكافور الإخشيذىّ الى الديار المصرية سالمين. ولما كان أنوجور بالشام خرج بمصر غلبون متولّى الريف في جموع ونهب مصر وتغلّب عليها؛ فقدم أنوجور فهرب غلبون من مصر، فتبعه أبو المظفر الحسن بن طغج أخو الإخشيذ حتى ظفر به وقتله.
ثم استوزر أنوجور أبا القاسم جعفر بن الفضل بن الفرات. ودام أنوجور على إمرة مصر سنين الى أن وقع بينه وبين كافور وحشة في سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة.
وسببها أنّ قوما كلّموا أنوجور وقالوا له: قد احتوى كافور على الأموال وانفرد بتدبير الجيوش، وأخذ أملاك أبيك وأنت معه مقهور، وحملوه على التنكّر؛ فلزم

(3/292)


أنوجور الصيد والتباعد فيه الى المحلّة «1» وغيرها وانهمك في اللهو، ثمّ أجمع «2» على المسير الى الرملة. فأعلمت أمّه كافورا بما عزم عليه ولدها خوفا عليه من كافور. فلمّا علم كافور بذلك راسله، ثم بعثت أمّه إليه تخوّفه الفتنة؛ فاصطلحا ودام الأمر على حاله. ولم يزل أنوجور على إمرة مصر الى أن مات بها في يوم السبت سابع أو ثامن ذى القعدة سنة تسع وأربعين وثلثمائة، وحمل الى القدس فدفن عند أبيه الإخشيذ. وكانت مدّة ولايته على مصر أربع عشرة سنة وعشرة أيّام. ولمّا مات أنوجور أقام كافور الإخشيذى أخاه عليّا أبا الحسين بن الإخشيذ مكانه، وأقرّه الخليفة المطيع على إمرة مصر على الجند والخراج، وأضاف إليه الشام، كما كان لأبيه الإخشيذ ولأخيه أنوجور. وقويت شوكة كافور في ولاية علىّ هذا أكثر مما كانت في ولاية أخيه لوجوه عديدة.