النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 425]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة خمس وعشرين وأربعمائة.
فيها هبّت بنصيبين ريح سوداء قلعت معظم شجرها، وكان بين البساتين قصر عظيم فرمته من أصله.
وفيها زلزلت الرملة زلزلة هدمت ثلث مدينة الرملة، ونزل البحر مقدار ثلاثة فراسخ، فنزل الناس يصيدون السمك، فرجع عليهم فغرق من لم يحسن السباحة.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عبد الرّحمن أبو العبّاس القاضى الأبيوردىّ، ولد سنة سبع وخمسين وثلثمائة، وتولّى القضاء بالجانبين ببغداد، وسمع الحديث ورواه؛ وكان عالما ورعا مفتنا، يصوم الدهر ويفطر على الخبز والملح، وكان فقيرا ويظهر الثروة «2» ، ومات في جمادى الأولى، ودفن بباب «3» حرب.

(4/279)


وفيها توفّى أحمد بن محمد [بن أحمد «1» ] بن غالب الحافظ أبو بكر الخوارزمىّ، ولد سنة ستّ وثلاثين وثلثمائة، ورحل [إلى] البلاد وسمع الكثير وحدّث، وكان إماما فى اللغة والفقه والحديث، ومات في يوم الاربعاء غرّة شهر رجب.
وفيها توفّى عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث أبو الفرج التميمىّ الفقيه الحنبلىّ الواعظ، ولد سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة، وسمع الحديث ورواه، وكان فقيها محدّثا واعظا؛ وكانت وفاته في شهر ربيع الأوّل ببغداد، ودفن عند قبر الإمام أحمد ابن حنبل رضى الله عنه.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله أبو عبد الله بن باكويه الشيرازىّ أحد مشايخ الصوفية، كان أوحد زمانه، وله كرامات وإشارات، ولقى خلقا من المشايخ وحكى عنهم، وسمع الحديث الكثير وروى عنه خلق كثير.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو بكر أحمد بن محمد ابن أحمد بن غالب البرقانىّ الحافظ في رجب وله تسع وثمانون سنة. وأبو علىّ الحسن «2» بن أبى بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزاز «3» فى آخر يوم من السنة، وولد فى ربيع الأوّل عام تسعة وثلاثين وثلثمائة. وأبو سعيد عبد الرّحمن بن محمد بن عبد الله ابن بندار بن شبانة «4» الهمذانىّ. وأبو الحسن عبد الرّحمن بن محمد بن يحيى الجوبرىّ «5»

(4/280)


فى صفر. وأبو نصر عبد الوهّاب بن عبد الله بن عمر المرىّ الدمشقىّ. وأبو الفضل عمر بن أبى سعد ابراهيم بن إسماعيل الهروىّ الزاهد. وأبو بكر محمد بن علىّ بن إبراهيم ابن مصعب الأصبهانى التاجر. انتهى كلام الذهبىّ.
وفيها وقع الطاعون بشيراز، فكانت الأبواب تسدّ على الموتى؛ ثم انتقل إلى واسط وبغداد والبصرة والأهواز وغيرها.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 426]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة ست وعشرين وأربعمائة.
فيها استولى العيّارون على بغداد وملكوا الجانبين (أعنى الحراميّة) قال:
ولم يبق للخليفة ولا لجلال الدولة معهم حكم. وكان العيّارون في دور الأتراك والحواشى يقيمون نهارا ويخرجون ليلا، والأتراك والحواشى تقوم معهم في الباطن، فكانوا يخرجون ليلا ويعملون العملات، وأفسدوا وفعلوا أفعالا قبيحة، وأظهروا الإفطار في شهر رمضان نهارا، وكان ذلك كلّه بمواطأة الأتراك.
وفيها ورد كتاب مسعود بن محمود بن سبكتكين على الخليفة أنّه افتتح جرجان وطبرستان، وغزا الهند وافتتح بلادا كثيرة.
وفيها توفّى أحمد بن كليب الشاعر المغربىّ. قال أبو عبد الله محمد بن أبى نصر الحميدىّ «1» فى تاريخه: «كان أحمد هذا يهوى أسلم بن حمد بن سعيد قاضى قضاة

(4/281)


الأندلس؛ وكان أسلم من أحسن أهل زمانه؛ فافتتن به وقال فيه الأشعار الرائقة» .
ثم سكت الحميدىّ ولم يذكر ما قاله في أسلم المذكور من الأشعار.
وفيها توفّى الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان أبو علىّ البزّاز «1» ، إمام محدّث مشهور من أهل بغداد، ولد سنة تسع وثلاثين وثلثمائة؛ سمع خلقا كثيرا، وكان صالحا ثقة صدوقا.
وفيها توفّى الحسن بن عثمان بن أحمد بن الحسين بن سورة أبو عمر الواعظ البغدادىّ، سمع الحديث وتفقه، وكان شيخا، له لسان حلو في الوعظ، وكان له شعر على طريق القوم؛ فمنه قوله: [الطويل]
دخلت على السلطان في دار عزّه ... بفقر ولم أجلب بخيل ولا رجل
فقلت انظروا ما بين فقرى وملككم ... بمقدار ما بين الولاية والعزل
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 427]
السنة السادسة عشرة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وفيها كانت وفاته، حسب ما تقدّم في ترجمته.
فيها (أعنى سنة سبع وعشرين) أرسل الظاهر قبل موته خمسة آلاف دينار، فصلّح بها نهر ينتهى الى الكوفة ويرد إليه ماء الفرات؛ وجاء أهل الكوفة يستأذنون القائم بأمر الله في ذلك، فثقل عليه وسأل الفقهاء؛ فقالوا: هذا مال تغلّب عليه من فيء المسلمين، فصرفه في هذا الوجه؛ فأذن لهم القائم في ذلك.

(4/282)


وفيها لم يحجّ أحد من العراق، وحجّوا من الشام ومصر.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبىّ صاحب التفسير المشهور.
قال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزىّ: «ليس فيه ما يعاب به إلا ما ضمّنه من الأحاديث الواهية التى هى في الضعف متناهية خصوصا في أوائل السور» .
وفيها توفّى الحسن بن وهب أبو علىّ الكاتب المجوّد، كان فاضلا إماما مجوّدا، وخطّه معروف مشهور بالحسن.
وفيها توفّى حمزة بن يوسف بن إبراهيم الجرجانىّ الحافظ، هو من ولد هشام ابن العاص بن وائل السهمىّ، وكان عالما فاضلا، رحل في طلب العلم، وسمع الحديث الكثير، وقال أنبأنا الحسين بن عمر الضرّاب، أنشدنا شعبان «1» الصّيرفىّ:
[البسيط]
أشدّ من فاقة الزمان ... وقوف حرّ على هوان
فاسترزق الله واستعنه ... فإنّه خير مستعان
وإن نأى منزل بحرّ «2» ... فمن مكان إلى مكان
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
انتهى الجزء الرابع من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الخامس وأوّله: ذكر ولاية المستنصر بالله على مصر

(4/283)


تنبيه- أشرنا أثناء تعليقات هذا الجزء إلى أن صاحب العزة العالم المحقق الأستاذ محمد رمزى بك المفتش بوزارة المالية سابقا هو الذي أفادنا بتعليقاته المفيدة القيمة الخاصة بتعيين الأماكن الأثرية والقرى القديمة التى وردت في هذا الجزء مع تحديد موقعها الآن بغاية الدقة، مما يدلّ على سعة اطلاعه وغزارة علمه وطول باعه في البحث والتحقيق، فنسدى إليه جزيل الشكر على هذه المعاونة التاريخية لخدمة الجمهور.
وكنا نبهنا القارئ إلى أن تعليقاته الخاصة بتحديد الأماكن الأثرية هى من صفحة 30- 54 من هذا الجزء ولكنه واصل شرحه الى نهاية هذا الجزء، عدا الحاشية رقم 1 ص 54 الخاصّة بالجوامع الثلاثة المعلقة فمنقولة من كتاب الخطط التوفيقية كما هى؛ فجزاه الله خير الجزاء عن خدمته للعلم وأهله.

(4/284)


فهرس الولاة الذين تولوا مصر من سنة 355 هـ- 427 هـ
(أ) أحمد بن على بن الإخشيذ محمد بن طغج بن جف أبو الفوارس ص 21- 28
(ج) جوهر بن عبد الله القائد المعزى أبو الحسن س 28- 69
(ح) الحاكم بأمر الله أبو على منصور بن العزيز بالله نزار بن المعز معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدى ص 176- 247
(ظ) الظاهر لإعزاز دين الله أبو هاشم على بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز نزار بن المعز معد بن المنصور إسماعيل ابن القائم محمد بن المهدى ص 247- 283
(ع) العزيز بالله نزار أبو منصور بن المعز لدين الله أبى تميم معد بن المنصور بالله أبى طاهر إسماعيل ص 112- 176
(ك) كافور بن عبد الله الإخشيذى الخادم الأسود الخصى أبو المسك ص 1- 20
(م) المعز أبو تميم معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدى عبيد الله العبيدى ص 69- 112

(4/285)


الجزء الخامس
[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 427]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين
الجزء الخامس من كتاب النجوم الزاهرة
ذكر ولاية المستنصر بالله على مصر
هو أبو تميم معدّ الملقّب بالمستنصر بالله بن الظاهر لإعزاز دين الله علىّ بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ أوّل خلفاء الفاطميّين بمصر ابن المنصور بالله إسماعيل بن القائم بالله محمد بن المهدىّ عبيد الله العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ الأصل، المصرىّ المولد والمنشأ والدار والوفاة؛ وهو الخامس من خلفاء مصر من بنى عبيد، والثامن من المهدىّ عبيد الله. ولى الخلافة بعد موت أبيه الظاهر لإعزاز دين الله فى يوم الأحد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وكان عمره يوم ولى الخلافة سبع سنين وسبعة وعشرين يوما، وخيّن وهو ابن ستّ سنين.
قال الذهبىّ رحمه الله: «هو معدّ أبو تميم الملقّب بأمير المؤمنين المستنصر بالله ابن الظاهر بن الحاكم بأمر الله- وساق بقية نسبه بنحو ما سقناه إلى أن قال-:
بقي فى الخلافة ستّين سنة وأربعة أشهر؛ وهو الذي خطب له بإمرة المؤمنين

(5/1)


على منابر العراق فى نوبة الأمير أبى «1» الحارث أرسلان المعروف بالبساسيرىّ فى سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. ولا أعلم أحدا فى الإسلام، لا خليفة ولا سلطانا، طالت مدّته مثل المستنصر هذا. وولى وهو ابن سبع سنين. ولمّا كان فى سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة قطع الخطبة له من المغرب الأمير المعزّ بن باديس- وقيل:
بل قطعها فى سنة خمس وثلاثين- وخطب لبنى العبّاس وخرج عن طاعة بنى عبيد الباطنيّة. وحدث فى أيّام المستنصر بمصر الغلاء الذي ما عهد بمثله منذ زمان يوسف عليه السلام، ودام سبع سنين حتّى أكل الناس بعضهم بعضا، حتّى قيل: إنّه بيع رغيف واحد بخمسين دينارا- فإنّا لله وإنّا اليه راجعون- وحتّى إنّ المستنصر هذا بقى يركب وحده، وخواصّه ليس لهم دوابّ يركبونها؛ وإذا مشوا سقطوا من الجوع؛ وآل الأمر إلى أن استعار المستنصر بغلة يركبها من صاحب «2» ديوان الإنشاء.
وآخر شىء نزحت أمّ المستنصر وبناته إلى بغداد خوفا من أن يمتن جوعا. وكان ذلك فى سنة «3» ستّين وأربعمائة. ولم يزل هذا الغلاء حتّى تحرّك الأمير بدر الجمالىّ والد الأفضل أمير الجيوش من عكّا وركب فى البحر وجاء إلى مصر وتولّى تدبير الأمور

(5/2)


وشرع فى إصلاح الأمر «1» . وتوفّى المستنصر فى ذى الحجّة. وفى دولته كان الرّفض والسبّ فاشيا مجهرا، والسنّة والإسلام غريبا! فسبحان الحليم الخبير الذي يفعل فى ملكه ما يريد. وقام بعده ابنه المستعلى أحمد، أقامه أمير الجيوش الأفضل.
واستقامت الأحوال؛ فخرج أخوه نزار من مصر خفية، فسار إلى ناصر الدولة أمير الإسكندرية، فأعانه ودعا إليه، فتمّت بين أمير الجيوش وبينهم حروب وأمور إلى أن ظفر بهم» . انتهى كلام الذهبىّ فى أمر المستنصر.
ونشرع الآن فى ذكر المستنصر وأمر الغلاء بأوسع ممّا ذكره الذهبىّ من أقوال جماعة من المؤرّخين وغيرهم.
قال العلّامة أبو المظفّر فى تاريخه: «ولم يل أحد من الخلفاء الأمويّين ولا العباسيّين ولا المصريّين مثل هذه المدّة (يعنى مدّة إقامة المستنصر فى الخلافة ستّين سنة) قال: وعاش المستنصر سبعا وستّين سنة وخمسة أشهر فى الهزاهز «2» والشدائد والوباء والغلاء والجلاء والفتن. وكان القحط فى أيّامه سبع سنين مثل سنى يوسف الصدّيق صلوات الله وسلامه عليه، من سنة سبع «3» وخمسين إلى سنة أربع وستّين وأربعمائة. أقامت البلاد سبع سنين يطلع النيل فيها وينزل، ولا يوجد من يزرع لموت النّاس واختلاف الولاة والرعيّة، فاستولى الخراب على كلّ البلاد، ومات أهلها، وانقطعت السّبل برّا وبحرّا. وكان معظم الغلاء سنة اثنتين وستّين.

(5/3)


وقال أبو يعلى «1» بن القلانسىّ: «فى أيّامه (يعنى المستنصر) ثارت الفتن فى «2» بنى حمدان وأكابر القوّاد، وغلت الأسعار، واضطربت الأحوال، واختلّت «3» الأعمال، وحصر فى قصره وطمع فيه. ولم يزل على ذلك حتّى استدعى أمير الجيوش بدرا الجمالىّ من عكّا إلى مصر فاستولى على التدبير، وقتل جماعة ممّن يطلب الفساد، فتمهّدت الأمور؛ ولم يبق للمستنصر أمر ولا نهى إلّا الركوب فى العيدين. ولم يزل كذلك حتّى مات بدر الجمالىّ وقام بعده ولده الأفضل. ولمّا مات المستنصر وقام المستعلي مقامه وتقرّرت الأمور، خرج عبد الله ونزار ابنا المستنصر من مصر خفية، وقصد نزار الإسكندريّة إلى ناصر «4» الدولة واليها، وجرت بينه وبين الأفضل حروب بسبب ذلك إلى أن ثبت أمر المستعلى» . انتهى كلام أبى يعلى باختصار.
قلت: وأمّا ما ذكره الذهبىّ- رحمه الله- من الخطبة للمستنصر «5» على منابر بغداد وبالعراق كلّه، وخلع القائم بأمر الله العبّاسىّ من الدعوة، فكان من قصّته أنّ السلطان

(5/4)


طغرلبك «1» اشتغل بحصار تلك النّواحى ونازل الموصل، ثمّ توجّه إلى نصيبين لفتح الجزيرة وتمهيدها. وأرسل الأمير أبو الحارث أرسلان المعروف بالبساسيرىّ إلى إبراهيم ينّال أخى السلطان طغرلبك لينجده؛ فأخذ البساسيرىّ يعده ويمنّيه ويطمعه فى الملك حتّى أصغى إليه وخالف أخاه طغرلبك. وساق إبراهيم ينّال فى طائفة من العسكر إلى الرّىّ.
وبلغ السلطان طغرلبك خبر عصيان إبراهيم فانزعج، وسار وراءه وترك بعض عسكره فى ديار بكر مع زوجته الخاتون ووزيره عميد الملك «2» الكندرىّ، فتفرّقت العساكر.
وعادت زوجته الخاتون بالعسكر الذي صحبها إلى بغداد. وأمّا زوجها السلطان طغرلبك فإنّه التقى هو وأخوه إبراهيم ينّال وتقاتلا، فظفر عليه أخوه إبراهيم ينّال وانهزم السلطان طغرلبك إلى همذان؛ فساق أخوه إبراهيم خلفه وحاصره بها. فعزمت الخاتون على إنجاد زوجها. واختبطت بغداد وعظم البلاء بها، وقامت الفتنة على ساق. وتمّ للأمير أبى الحارث أرسلان البساسيرىّ ما دبّره من المكر. وأرجف النّاس ببغداد بمجيء البساسيرىّ. ونفر الوزير عميد الملك وزير طغرلبك والأمير أنوشروان إلى الجانب الغربىّ من بغداد وقطعا الجسر. ونهبت الغزّ دار خاتون. وأكل القوىّ الضعيف. ووقع ببغداد وأعمالها أمور هائلة شنعة. ثمّ دخل الأمير

(5/5)


أبو الحارث أرسلان البساسيرىّ بغداد فى ثامن ذى القعدة بالرّايات المستنصريّة وعليها ألقاب المستنصر هذا صاحب مصر؛ فمال إلى البساسيرىّ أهل باب الكرخ وفرحوا به لكونهم «1» رافضة، والبساسيرىّ وخلفاء مصر أيضا رافضة؛ فانضمّوا إلى البساسيرىّ وتشفّوا من أهل السّنّة، وشمخت أنوف المنافقين الرافضة، وأعلنوا بالأذان ب «حىّ على خير العمل» ببغداد. واجتمع خلق من أهل السنّة على الخليفة القائم بأمر الله العباسىّ وقاتلوا معه، وفشت الحرب بين الفريقين فى السفن أربعة أيام. وخطب يوم الجمعة ثالث عشر ذى القعدة ببغداد للمستنصر هذا صاحب الترجمة بجامع المنصور وأذّنوا «2» ب «حىّ على خير العمل» . وعقد الجسر وعبرت عساكر البساسيرىّ إلى الجانب الشرقىّ؛ فحندق الخليفة القائم بأمر الله على نفسه حول داره وحول نهر المعلّى «3» ، فأحرقت الغوغاء نهر المعلّى ونهبت ما فيه، وقوى البساسيرىّ وتفلّل عن الخليفة القائم أكثر النّاس. فاستجار القائم بقريش «4» بن بدران أمير العرب، وكان مع البساسيرىّ، فأجاره ومن معه وأخرجه إلى مخيّمه. وقبض البساسيرىّ على وزير القائم بأمر الله رئيس الرؤساء «5» أبى القاسم بن المسلمة، وقيّده

(5/6)


وشهّره على جمل وعليه طرطور وعباءة، وجعل فى رقبته «1» قلائد كالمسخرة وطيف به بالشوارع، وخلفه من يصفعه، ثم سلخ له ثور وألبس جلده وخيط عليه، وجعلت قرون الثور فى رأسه، ثمّ علّق على خشبة، وعمل فى فيه «2» كلّو بان، فلم يزل يضطرب حتّى مات رحمه الله. ونصب للقائم الخليفة خيمة صغيرة بالجانب الشرقىّ «3» فى المعسكر، ونهبت العامّة دار الخلافة، فأخذوا منها ما لا يحصى ولا يوصف كثرة. فلمّا كان يوم الجمعة رابع ذى الحجة لم تصلّ الجمعة بجامع الخليفة، وخطب بسائر الجوامع للمستنصر المذكور، وقطعت الخطبة العباسيّة بالعراق. وهذا شىء لم يفرح به أحد من آباء المستنصر.
ثم حمل القائم بأمر الله إلى حديثة «4» عانة فجلس بها، وسلّم إلى صاحبها مهارش «5» .
وذلك أن البساسيرىّ وقريشا اختلفا فى أمر القائم بأمر الله، ثمّ وقع اتفاقهما بعد أمور على أن يكون عند مهارش إلى أن يتّفقا على ما يتّفقان عليه فى أمره. ثمّ جمع أبو الحارث أرسلان البساسيرىّ القضاة والأشراف ببغداد، وأخذ عليهم البيعة للمستنصر العبيدىّ صاحب الترجمة فبايعوا قهرا على رغم الأنف.
وقال الشيخ عزّ الدّين ابن الأثير فى تاريخه: «إنّ إبراهيم ينّال كان أخوه السلطان طغرلبك قد ولّاه الموصل عام أوّل، وإنّه فى سنة خمسين فارق [الموصل] «6» ورحل نحو

(5/7)


بلاد الجبل، فنسب السلطان رحيله إلى العصيان، فبعث وراءه رسولا معه الفرجيّة التى خلعها عليه الخليفة. ولمّا فارق الموصل قصدها البساسيرىّ وقريش بن بدران وحاصراها، وأخذا البلد ليومه، وبقيت القلعة، فحاصراها أربعة أشهر حتّى أكل أهلها دوابّهم ثمّ سلّموها بالأمان، فهدمها البساسيرىّ وعفّى أثرها. وسار طغرلبك بجريدة «1» فى ألفين إلى الموصل، فوجد البساسيرىّ وقريشا فارقاها فساق وراءهم، ففارقه أخوه وطلب همذان فوصلها فى رمضان. قال: وقد قيل إنّ المصريّين كاتبوه، وإن البساسيرىّ استماله وأطمعه فى السلطنة، فسار طغرلبك فى أثره (يعنى أثر أخيه إبراهيم ينّال) .
قال: وأمّا البساسيرىّ فوصل إلى بغداد فى ثامن ذى القعدة ومعه أربعمائة فارس على غاية الضّر والفقر، فنزل بمشرعة الروايا، ونزل قريش فى مائتى فارس عند مشرعة باب البصرة، ومالت العامّة للبساسيرىّ: أما الشّيعة فللمذهب، وأمّا أهل السنة فلما فعل بهم الأتراك. وكان رئيس الرؤساء لقلّة معرفته بالحرب ولما عنده من ضعف البساسيرىّ يرى المبادرة إلى الحرب؛ فاتّفق أنه فى بعض الأيام التى تحاربوا فيها حضر القاضى الهمذانىّ عند رئيس الرؤساء، ثمّ استأذن فى الحرب ونمن له قتل البساسيرىّ، فأذن له من غير أن يعلم عميد العراق، وكان رأى عميد العراق المطاولة رجاء أن ينجدهم طغرلبك، فخرج الهمذانىّ بالهاشميّين والخدم والعوامّ إلى الحلبة وأبعدوا؛ والبساسيرىّ يستجرّهم. فلمّا أبعدوا حمل عليهم فانهزموا، وقتل جماعة وهلك آخرون فى الزّحمة بباب «2» الأزج. وكان رئيس الرؤساء واقفا دون الباب

(5/8)


فدخل داره وهرب كلّ من فى الحريم؛ ولطم عميد العراق على وجهه كيف استبدّ رئيس الرؤساء بالأمر ولا معرفة له بالحرب. فاستدعى الخليفة عميد العراق وأمره بالقتال على سور الحريم، فلم يرعهم إلا الزّعقات؛ وقد نهب الحريم ودخلوا من باب النّوبى، فركب الخليفة لابسا للسّواد وعلى كتفه البردة وعلى رأسه اللّواء وبيده السيف وحوله زمرة من العباسيّين والخدم بالسيوف المسلّلة، فرأى النّهب إلى باب الفردوس من داره، فرجع إلى ورائه نحو عميد العراق، فوجده قد استأمن إلى قريش، فعاد وصعد إلى المنظرة. وصاح رئيس الرؤساء: علم الدّين (يعنى قريشا) أمير المؤمنين يستدنيك، فدنا منه؛ فقال: قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك، وأمير المؤمنين يستذمّ منك على نفسه وأصحابه بذمام الله وذمام رسوله وذمام العربيّة؛ فقال: قد أذمّ الله تعالى له؛ قال: ولى ولمن معه؟ قال نعم؛ وخلع قلنسوته وأعطاها الخليفة، وأعطى رئيس الرؤساء بحضرته ذماما. فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء وسارا معه. فأرسل إليه البساسيرىّ يقول: أتخالف ما استقرّ بيننا؟ - وكانا قد تحالفا ألّا ينفرد أحدهما عن الآخر بشىء، ويكون العراق بينهما نصفين- فقال قريش: ما عدلت عمّا استقرّ بيننا، عدوّك ابن المسلمة (يعنى رئيس الرؤساء) فخذه، وأنا آخذ الخليفة، فرضى البساسيرىّ بذلك. فبعث رئيس الرؤساء إليه مع منصور «1» بن مزيد، فحين رآه البساسيرىّ قال مرحبا بمدمّر الدولة، ومهلك الأمم، ومخرّب البلاد، ومبيد العباد. فقال له: أيّها الأجلّ، العفو عند المقدرة. فقال:
قد قدرت فما عفوت، وأنت تاجر صاحب طيلسان، ولم تبق على الحريم والأموال

(5/9)


والأطفال، فكيف أعفو عنك وأنا صاحب سيف وقد أخذت أموالى وعاقبت أصحابى ودرست دورى وسببتنى وأبعدتنى!. واجتمع العوامّ على ابن المسلمة (يعنى رئيس الرؤساء) وسبّوه ولعنوه وهمّوا به. فأخذه البساسيرىّ بيده وسيّره إلى جانبه خوفا عليه من العامّة. وحصل فى يد البساسيرىّ جميع من كان يطلبه مثل ابن المردرسىّ «1» ، وأبى عبد الله «2» الدّامغانىّ قاضى القضاة، وهبة الله بن المأمون، وأبى علىّ بن الشّيروانىّ، وأبى عبد الله بن عبد الملك؛ وكان من التّجار الكبار وبينه وبين البساسيرىّ عداوة، وكان قد سكن فى دار الخلافة خوفا منه على ماله ونعمته. وظفر بالسيدة خاتون بنت الأمير داود زوجة الخليفة، فأحسن معاملتها ولم يتعرّض لها.
وأمّا قريش فحصل فى يده الخليفة وعميد العراق وأبو منصور [بن «3» ] يوسف وولده؛ فحمل الحليفة إلى معسكره راكبا وعلى كنفه البردة وبيده سيف مسلول وعلى رأسه اللّواء. ولحق الخليفة ذرب عظيم قام منه فى اليوم مرارا، وامتنع من الطّعام والشراب؛ فسأله قريش وألحّ عليه حتّى أكل وشرب، وحمله فى هودج وسار به إلى حديثة عانة فنزل بها. وسار حاشية الخليفة على حامية إلى السلطان طغرلبك مستنفرين له.
ولمّا وصل الخليفة إلى الأنبار شكا البرد، فبعث يطلب من متولّيها ما يلبس، فأرسل إليه جبّة ولحافا. وركب البساسيرىّ يوم الأضحى وعلى رأسه الألوية المصريّة وعبر إلى المصلّى بالجانب الشرقىّ، وأحسن إلى الناس، وأجرى الجرايات على الفقهاء، ولم يتعصّب لمذهب، وأفرد لوالدة الخليفة دارا وراتبا، وكانت قد قاربت التسعين

(5/10)


سنة. ثمّ فى آخر ذى الحجّة أخرج رئيس الرؤساء مقيّدا وعلى رأسه طرطور، وفى رقبته مخنقة جلود، وهو يقرأ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ...
الآية.
فبصق أهل الكرخ فى وجهه، لأنّه كان متعصّبا لأهل السّنّة، رحمه الله، ثمّ صلب على صورة ما ذكرناه أوّلا.
وأمّا عميد العراق فقتله البساسيرى أيضا، وكان شجاعا شهما، وهو الذي بنى رباط شيخ الشيوخ. ثمّ بعث البساسيرىّ البشائر إلى مصر، وكان وزير المستنصر هناك «1» أبا الفرج «2» بن أخى أبى القاسم المغربىّ، وكان أبو الفرج ممّن هرب من البساسيرىّ، فذمّ للمستنصر فعله وخوّفه من سوء عاقبته؛ فتركت أجوبته مدّة، ثمّ عادت على البساسيرىّ بغير الذي أمّله، فسار البساسيرىّ إلى البصرة وواسط وخطب بهما أيضا للمستنصر. وأمّا طغرلبك فإنّه انتصر فى الآخر على أخيه إبراهيم ينّال وقتله، وكرّ راجعا إلى العراق، ليس له همّ إلّا إعادة الخليفة إلى رتبته.
وفى الجملة أنّ الذي حصل للمستنصر فى هذه الواقعة من الخطبة باسمه فى العراق وبغداد لم يحصل ذلك لأحد من آبائه وأجداده. ولولا تخوّف المستنصر من البساسيرىّ وترك تحريضه على ما هو بصدده وإلا «3» كانت دعوته تتمّ بالعراق زمانا طويلا، فإنّه كان أوّلا أمدّ البساسيرىّ بجمل مستكثرة. فلو دام المستنصر على ذلك لكان البساسيرىّ يفتتح له عدّة بلاد. قال الحسن بن محمد العلوىّ «4» : «إنّ الذي وصل إلى البساسيرىّ من المستنصر من المال خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ما قيمته

(5/11)


مثل ذلك، وخمسمائة فرس، وعشرة آلاف قوس، ومن السيوف ألوف، ومن الرماح والنّشّاب «1» شىء كثير» . يعنى قبل هذه الواقعة؛ ولهذا قلنا: لو دام المستنصر على عطائه للبساسيرىّ لكان افتتح له عدّة بلاد. قلت: ولله الحمد على ما فعله المستنصر من التقصير فى حقّ البساسيرىّ، وإلّا فكانت السّنّة تذهب بالعراق، وتملكها الرافضة بأجمعها كما كان وقع بمصر فى أيّام دولة الفاطميّين (أعنى صاحب الترجمة وآباءه) .
ولمّا خطب البساسيرىّ فى بغداد باسم المستنصر معدّ هذا غنّته مغنّية «2» بقولها:
[الرمل]
يا بنى العبّاس صدّوا «3» ... ملك الأمر معدّ
ملككم كان «4» معارا ... والعوارى تستردّ
فطرب المستنصر لذلك ووهبها أرضا بمصر رزقة لها جائزة لإنشادها هذا الشعر، وتلك الأرض الآن تعرف بأرض «5» الطّبّالة بالقرب من بركة الرّطلىّ لكونها غنّته بهذه الأبيات وهى تطبّل بدفّ كان فى يدها، فعرفت بأرض الطّبّالة، وحكرت الأرض

(5/12)


المذكورة وبنيت. وكان ما وقع للمستنصر هذا تمام سعده. ومن حينئذ أخذ أمره فى إدبار من وقوع الغلاء والوباء بالديار المصريّة. وقاسى النّاس شدائد، واختلّ أمر مصر- على ما سنذكره إن شاء الله تعالى فى وقته من هذه الترجمة- من استيلاء ناصر الدولة بن حمدان على ممالك الديار المصريّة، وزاد ابن حمدان فى عطاء الجند حتّى نفدت الخزائن، وقلّت الارتفاعات. واتّفق ابن حمدان مع الشريف أبى طاهر حيدرة بن الحسن الحسينىّ، وكان قد نفاه بدر الجمالىّ من دمشق، وكان محبّبا للناس، وتلقّبه العامّة بأمير المؤمنين، وكان لمّا نفاه بدر الجمالى من دمشق دخل إلى مصر شاكيا إلى ابن حمدان من بدر الجمالىّ- فاتّفق ابن حمدان والشريف وحازم «1» وحميد ابنا بحرّاح وهما من أمراء عرب الشام، وكان لهما فى حبس المستنصر نيّف وعشرون سنة، فأخرجهما ابن حمدان واتّفقوا على الفتك ببدر الجمالىّ، فأعطاهم ابن حمدان أربعين ألف دينار ينفقونها فى هذا الوجه. وتحدّث ابن حمدان بأن يرتّب الشريف إذا عاد مكان المستنصر فى الخلافة لنسبه الصحيح. وانقسم عسكر مصر قسمين:
قسما مع ابن حمدان، وقسما عليه؛ وزادت مطالبة ابن حمدان بالأموال «2» حتى استوعبها وأخرج جميع ما فى القصر من ثياب وأثاث وباعها بالثمن البخس. وحالف الأتراك سرّا على المستنصر. وعلم المستنصر بما فعله مضافا لما سمع عنه من أمر الشّريف، فقلق وأرسل لابن حمدان يقول: بأنّك قدمت علينا زائرا وجئتنا ضيفا؛ فقا بلناك بالإحسان وأكرمناك، فقابلتنا بما لا نستحقّه منك؛ ونحن عليك صابرون، وعنك مغضون. وقد انتهت بك الحال إلى محالفة العسكر علينا والسعى فى إتلافنا، وما ذاك مما يهمّك؛ ونحبّ أن تنصرف عنّا موفورا فى نفسك ومالك، وإلّا قابلناك على قبيح

(5/13)


أفعالك. فأغلظ ابن حمدان فى الجواب واستهزأ بالرسول. فبعث المستنصر إلى «1» إلدكز الملقّب بأسد الدولة، وكان شيخ الأتراك والمقدّم عليهم، وكان من المخالفين على ابن حمدان؛ فاستحضره واستحلفه وتوثّق منه ومن جماعة ممّن جرى مجراه، وجمع الأتراك الذين معه والمغاربة وكتامة إلى باب القصر. وعرف ابن حمدان بذلك فبرز بخيمة إلى بركة الحبش «2» ، وأخرج المستنصر خيمته الحمراء، وتسمّى خيمة الدّم، فضربها بين القصرين من القاهرة. واجتمع الناس على المستنصر، وركب وسار إلى حرب ابن حمدان. والتقوا بمكان يعرف بالباب الجديد «3» ، فورد أكثر من كان مع ابن حمدان بالأمان إلى المستنصر. وكان فى جملة من ورد الأمير أبو علىّ ابن الملك أبى طاهر ابن بويه، ثمّ قتل المذكور بعد ذلك بمدّة. ووقع القتال فانكسر ابن حمدان وهرب

(5/14)


بنفسه إلى الإسكندريّة، ونهبت دوره وأمواله ودور أصحابه. ومضى ابن حمدان إلى حىّ من العرب وتزوّج منهم وقوى بهم، فصار يشنّ الغارات على أعمال مصر؛ ويبعث إليه المستنصر فى كلّ وقت جيشا فيهزمه ابن حمدان. ولا زال على ذلك حتّى جمع ابن حمدان جمعا كبيرا ونزل الصالحيّة «1» ؛ فخرج إليه من كان يهواه من المشارقة، وامتدّت عسكره نحو عشرة فراسخ وحاصر مصر؛ فضعف المستنصر عن مقاومته وانحصر بالقاهرة. وطال الحصار وغلت الأسعار حتّى بلغت الرّاوية الماء ثلاثة عشر قيراطا، وكلّ ثلاثة عشر رطلا من الخبز دينارا، وعدمت الأقوات، فضجّ العوامّ، فخاف المستنصر أن يسلّموه إليه، فراسله وصالحه. واقترح عليه ابن حمدان إبعاد الدكز ومن يعاديه من المشارقة، وأن ينفرد ابن حمدان بالبلاد «2» وتدبير الأمور والعساكر، فرضى المستنصر بذلك كلّه؛ ورفع الحصار عن مصر، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه.
فهرب غالب من كان مع المستنصر إلى الشام، ووفدوا على صاحبها بدر الجمالىّ. وكان بدر الجمالىّ يكره ابن حمدان والشريف المذكور. ثمّ ظفر الجمالىّ بالشريف المذكور وقتله خنقا. على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى. وصار المستنصر فى قصره كالمحجور عليه ولا حكم له.
هذا والغلاء بمصر يتزايد، حتّى إنّه جلا من مصر خلق كثير لما حصل بها من الغلاء الزائد عن الحدّ، والجوع الذي لم يعهد مثله فى الدنيا، فإنّه مات أكثر أهل مصر، وأكل بعضهم بعضا. وظهروا على بعض الطبّاخين أنّه ذبح عدّة من الصّبيان والنساء وأكل لحومهم وباعها بعد أن طبخها. وأكلت الدوابّ بأسرها، فلم يبق

(5/15)


لصاحب مصر- أعنى المستنصر- سوىّ ثلاثة أفراس بعد أن كانت عشرة آلاف ما بين فرس وجمل ودابّة. وبيع الكلب بخمسة دنانير، والسّنّور بثلاثة دنانير.
ونزل الوزير أبو المكارم «1» وزير المستنصر على باب القصر عن بغلته وليس معه إلّا غلام واحد، فجاء ثلاثة وأخذوا البغلة منه، ولم يقدر الغلام على منعهم لضعفه من الجوع فذبحوها وأكلوها، فأخذوا وصلبوا، فأصبح الناس فلم يروا إلّا عظامهم، أكل الناس فى تلك الليلة لحومهم. ودخل رجل الحمّام فقال له الحمّامىّ: من تريد أن يخدمك سعد الدولة أو عزّ الدولة أو فخر الدولة؟ فقال له الرجل: أتهزأ بي! فقال: لا والله، انظر إليهم، فنظر فإذا أعيان الدّولة ورؤساؤها صاروا يخدمون الناس فى الحمّام لكونهم باعوا جميع موجودهم فى الغلاء واحتاجوا إلى الخدمة.
وأعظم من هذا أنّ المستنصر الخليفة صاحب الترجمة باع جميع موجوده وجميع ما كان فى قصره حتّى أخرج ثيابا كانت فى القصر من زمن الطائع الخليفة العباسىّ، لمّا نهب بهاء الدولة دار الخليفة فى إحدى وثمانين وثلثمائة، وأشياء أخر أخذت فى نوبة البساسيرىّ، وكانت هذه الثياب التى لخلفاء بنى العباس عند خلفاء مصر يحتفظون بها لبغضهم لبنى العبّاس، فكانت هذه الثياب عندهم بمصر بسبب المعيرة لبنى العبّاس. فلمّا ضاق الأمر على المستنصر أخرجها وباعها بأبخس «2» ثمن لشدّة الحاجة. وأخرج المستنصر أيضا طستا وإبريقا بلّورا يسع الإبريق رطلين ماء، والطّست أربعة أرطال، وأظنّه بالبغدادىّ، فبيعا باثنى عشر درهما فلوسا، ثمّ باع المستنصر من هذا البلور ثمانين ألف قطعة. وأمّا ما باع من الجواهر واليواقيت والخسروانىّ «3» فشىء لا يحصى. وأحصى من الثياب التى أبيعت فى هذا الغلاء من

(5/16)


قصر الخليفة ثمانون ألف ثوب، وعشرون ألف درع، وعشرون ألف سيف محلّى؛ وباع المستنصر حتّى ثياب جواريه وتخوت المهود، وكان الجند يأخذون ذلك بأقلّ ثمن. وباع رجل دارا بالقاهرة كان اشتراها قبل ذلك بتسعمائة «1» دينار بعشرين رطل دقيق. وبيعت البيضة بدينار، والإردبّ القمح بمائة دينار فى الأوّل، ثمّ عدم وجود القمح أصلا. وكان السّودان يقفون فى الأزقّة يخطفون النساء بالكلاليب ويشرّحون لحومهنّ ويأكلونها، واجتازت امرأة بزقاق «2» القناديل بمصر وكانت سمينة، فعلّقها السّودان بالكلاليب وقطعوا من عجزها قطعة، وقعدوا يأكلونها وغفلوا عنها، فخرجت من الدار واستغاثت، فجاء الوالى وكبس الدار فأخرج منها ألوفا من القتلى، وقتل السّودان. واحتاج المستنصر فى هذا الغلاء حتّى إنّه أرسل فأخذ قناديل الفضّة والستور من مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام. وخرجت امرأة من القاهرة فى هذا الغلاء ومعها مدّ جوهر، فقالت: من يأخذ هذا ويعطينى عوضه دقيقا أو قمحّا؟ فلم يلتفت إليها أحد؛ فألقته فى الطريق وقالت: هذا ما ينفعنى وقت حاجتى فلا حاجة لى به بعد اليوم؛ فلم يلتفت إليه أحد وهو مبدّد فى الطريق! فهذا أعجب من الأوّل.
وقيل: إنّ سبب ما حصل لمصر من الخلل فى أوّل الأمر «3» الفتنة التى كانت بمصر فى أيّام المستنصر هذا بين «4» الأتراك والعبيد، وهو أنّ المستنصر كان من عادته

(5/17)


فى كلّ سنة أن يركب على النّجب مع النساء والحشم إلى جبّ عميرة «1» ، وهو موضع نزهة، فيخرج إليه بهيئة أنّه خارج إلى الحجّ على سبيل الهزء والمجانة، ومعه الخمر فى الرّوايا عوضا عن الماء ويسقيه الناس، كما يفعل بالماء فى طريق مكّة. فلمّا كان فى جمادى الآخرة خرج على عادته المذكورة، فاتّفق أنّ بعض الأتراك جرّد سيفا فى سكرته على بعض عبيد الشّراء، فاجتمع عليه طائفة من العبيد فقتلوه؛ فاجتمع الأتراك بالمستنصر هذا وقالوا له: إن كان هذا عن رضاك فالسمع والطاعة، وإن كان عن غير رضاك فلا نرضى بذلك، فأنكر المستنصر ذلك؛ فاجتمع جماعة من الأتراك وقتلوا جماعة من العبيد بعد أن حصل بينهم وبين العبيد قتال شديد على كوم شريك «2» وانهزم العبيد من الأتراك. وكانت أمّ المستنصر تعين العبيد بالأموال والسّلاح؛ فظفر بعض الأيام أحد الأتراك بذلك، فجمع طائفة الأتراك ودخلوا على المستنصر وقاموا عليه وأغلظوا له فى القول، فحلف لهم أنّه لم يكن عنده خبر.
وصار السيف قائما بينهم. ثمّ دخل المستنصر على والدته وأنكر عليها. ودامت الفتنة بين الأتراك والعبيد إلى أن سعى وزير الجماعة أبو الفرج بن المغربىّ- وأبو الفرج هذا هو أوّل من ولى كتابة الإنشاء بمصر- ولا زال الوزير أبو الفرج هذا يسعى بينهم

(5/18)


حتى اصطلحوا صلحا يسيرا، فآجتمع العبيد وخرجوا إلى شبرى دمنهور «1» . فكانت هذه الواقعة أوّل الاختلاف بديار مصر؛ فإنّه قتل من «2» الأتراك والعبيد خلائق كثيرة، وفسدت الأمور فطمع كلّ أحد. وكان سبب كثرة السودان ميل أمّ المستنصر إليهم؛ فإنّها كانت جارية سوداء لأبى سعد «3» التّسترىّ اليهودىّ. فلمّا ولى المستنصر الخلافة ومات الوزير صفىّ «4» الدين الجرجرائيّ فى سنة ستّ وثلاثين «5» حكمت والدة المستنصر على الدولة، واستوزرت سيّدها أبا سعد المذكور، ووزر لابنها المستنصر الفلّاحىّ، فلم يمش له مع أبى سعد حال؛ فاستمال الأتراك وزاد فى واجباتهم حتّى قتلوا أبا سعد المذكور؛ فغضبت لذلك أمّ المستنصر وقتلت أبا منصور «6» الفلّاحىّ، وشرعت فى شراء العبيد السّود، وجعلتهم طائفة واستكثرت منهم. فلمّا وقع بينهم وبين الأتراك قامت فى نصرهم.
وقال الشيخ شمس الدين بن قزأوغلى فى المرآة: «وكلّ هذه الأشياء كان ابن حمدان سببها، ووافق ذلك انقطاع النيل؛ وضاقت يد أبى هاشم محمد أمير مكّة

(5/19)


بانقطاع ما كان يأتيه من مصر، فأخذ قناديل الكعبة وستورها وصفائح الباب والميزاب، وصادر أهل مكّة فهربوا. وكذا فعل أمير المدينة مهنأ، وقطعا الخطبة للمستنصر، وخطبا لبنى العبّاس الخليفة القائم بأمر الله، وبعثا إلى السلطان ألب أرسلان السّلجوقىّ حاكم بغداد بذلك، وأنهما أذّنا بمكّة والمدينة الأذان المعتاد، وتركا الأذان ب «حىّ على خير العمل» ؛ فأرسل ألب أرسلان إلى صاحب مكّة أبى هاشم المذكور بثلاثين ألف دينار، وإلى صاحب المدينة بعشرين ألف دينار. وبلغ الخبر بذلك المستنصر، فلم يلتفت إليه لشغله بنفسه ورعيّته من عظم الغلاء. وقد كاد الخراب أن يستولى على سائر الإقليم. ودخل ابن الفضل على القائم بأمر الله العبّاسىّ ببغداد، وأنشده فى معنى الغلاء الذي شمل مصر قصيدة، منها:
[الطويل]
وقد علم المصرىّ أنّ جنوده ... سنو يوسف منها وطاعون عمواس
أحاطت «1» به حتى استراب بنفسه ... وأوجس منها خيفة أىّ إيجاس
قلت: وهذا شأن أرباب المناصب، إذا عزل أحدهم بآخر أراد هلاكه ولو هلك العالم معه. وهذا البلاء من تلك الأيّام إلى يومنا هذا.
ثمّ فى سنة ستّ وستين سار بدر الجمالىّ أمير الجيوش من عكّا إلى مصر، ومعه عبد الله بن المستنصر باستدعاء المستنصر بعد قتل ابن حمدان بمدّة. واسم ابن حمدان الحسن بن الحسين بن حمدان أبو محمد التغلبىّ الأمير ناصر الدولة ذو المجدين.

(5/20)


ذكر سبب قتل ابن حمدان المذكور
وسببه أنّه كان ابن حمدان اتّفق مع إلدكز التركىّ، وكان إلدكز تزوّج بابنته؛ فاتّفقا اتفاقا كليّا وتحالفا وأمن أحدهما للآخر. ووصل ناصر الدولة إلى مصر- أعنى بعد توجهه إلى الإسكندرية حسب ما ذكرناه- على طمأنينة مرتّبا للمواكب والعساكر، فركب إلدكز يوم الجمعة مستهلّ شهر رمضان فى خمسين فارسا، وكان له غلام يقال له: أبو منصور كمشتكين ويلقّب حسام «1» الدولة؛ وكان يثق به. فقال له الدكز: أريد أن أطلعك على أمر لم أر له أهلا غيرك؛ قال: وما هو؟ قال: قد علمت ما فعل ابن حمدان بالمسلمين من سفك الدماء والغلاء والجلاء، وقد عزمت على قتله، فهل فيك موافقة ومشاركة وأريح الإسلام منه؟ فقال نعم، ولكن أخاف أن يفلت فتتبرّأ منّى؛ قال لا، وقصدوا ابن حمدان قبل أن يلحقه أصحابه واستأذنوا عليه، فأذن لهم فدخلوا والفرّاشون ينفّضون البسط ليقعد عليها ابن حمدان، وهو يتمشّى فى صحن الدار، ومشى الدكز معه، ثم تأخّر عنه وضربه ب «يافروت» كان معه، وهو سكّين مغربىّ فى خاصرته، وضربه كمشتكين فقطع رجليه، فصاح: فعلتموها! فحزّوا رأسه. وكان محمود بن ذبيان أمير بنى سنبس «2» فى خزانة الشّراب، فدخلوا عليه وقتلوه. ثم خرجوا إلى دار كان فيها فخر العرب ابن حمدان وقد شرب دواء وعنده الأمير شاور فقتلوهما. وخرجوا إلى خيمة الأمير تاج المعالى بن حمدان أخى ناصر الدولة، وكان على عزم المسير إلى الصعيد، فهرب إلى خراب مقابل خيمته، فكمن فيه فرآه بعض العبيد فأعطاه معضدة»
فيها مائة دينار، وقال له: اكتم علىّ؛

(5/21)


فأخذها العبد وجاء إلى الدكز ونمّ عليه، فدخل وقتله. وانهزم ابن أخى ابن المدبر «1» فى زىّ المكدّين «2» فأخذ، وكان قد تزوّج بإحدى بنات نزار بن المستنصر الخليفة، فقطع ذكره وجعل فى فمه ثمّ قتل. وقطّع ابن حمدان قطعا، وأنفذ كلّ قطعة إلى بلد. وجاءوا إلى القصر إلى الخليفة المستنصر هذا ومعهم الرءوس، وأرسلوا إلى الخليفة وقالوا: قد قتلنا عدوّك وعدوّنا، من أخرب البلاد وقتل العباد، ونريد من المستنصر الأموال. فقال المستنصر: أمّا المال فما نزك ابن حمدان عندى مالا.
وأمّا ابن حمدان فما كان عدوّى، وإنّما كانت الشّحنة «3» بينك وبينه يا إلدكز، فهلكت الدنيا بينكما، وإنّى ما اخترت ما فعلت من قتله ولا رضيته، وستعلم غبّ الغدر، ونقض العهد. ووقع بينهما كلام كثير. وآل الأمر إلى بيع المستنصر قطع مرجان وعروضا وحمل إلى إلدكز ورفقته مالا من أثمان ذلك وغيره. ثمّ علم المستنصر أنّ أمره يؤول مع إلدكز إلى شرّ حال؛ فلذلك أرسل أحضر بدرا الجمالىّ المقدّم ذكره.
ولما حضر بدر الجمالىّ إلى مصر وجد إلدكز تغلّب عليها. ووصل إلى دمياط وبها ابن المدبّر، وكان قد هرب منه، فقتله وصلبه، وعاد «4» إلى مصر، واتفق مع بدر الجمالىّ وتحالفا وتعاهدا. فلم يكن إلّا مدّة يسيرة وقبض بدر الجمالىّ على إلدكز وأهانه وعذّبه وطالبه بالمال؛ فلم يظهر سوى اثنى عشر ألف دينار، وكان له من الأموال والجواهر شىء كثير إلّا أنّه لم يقرّبه، فقتله بدر الجمالىّ، وقيل: هرب إلى الشام.
وأخذ بدر الجمالىّ فى إصلاح امور الديار المصريّة: انتزع الشرقية من أيدى عرب لواتة «5» ، وقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر أمراءهم، وأخذ منهم أموالا جمّة. وعمّر

(5/22)


الريف فرخصت الأسعار ورجعت إلى عادتها القديمة. ثمّ أخذ الإسكندرية وسلّمها إلى القاضى ابن المحيرق. وأصلح أموال الصعيد واستدعى أكابرهم إليه، فجاءه منهم الكثير. وصلح الحال لهلاك الأضداد، ورفعت الفتن، وانفرد أمير الجيوش بدر الجمالىّ بالأمر إلى أن مات فى خلافة المستنصر. وتولّى بعده ابنه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالىّ المذكور. ويأتى ذكر ذلك وغيره مما ذكرنا من الغلاء والفناء والحروب فى الحوادث المتعلّقة بالمستنصر من سنين خلافته على سبيل الاختصار، كما هو عادة هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ودام المستنصر فى الخلافة وهو كالمحجور عليه مع بدر الجمالىّ؛ ثم من بعده مع ولده الأفضل شاهنشاه إلى أن توفّى بالقاهرة فى يوم عيد الفطر، وهو يوم الخميس سنة سبع وثمانين وأربعمائة. وبايع الناس ابنه أحمد من بعده، ولقّب بالمستعلى بالله. وقام الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالى بتدبير ملكه. وقد تقدّم مدّة إقامة المستنصر فى الخلافة، وكم عاش من السنين فى أوّل ترجمته فيطلب هناك.
وممّا رثى به المستنصر قول حظّى الدولة أبى المناقب عبد الباقى بن علىّ التنوخىّ الشاعر:
[الطويل]
وليس ردى المستنصر اليوم كالرّدى ... ولا أمره أمر يقاس به أمر
لقد هاب ملك الموت إتيانه ضحّى ... ففاجأه ليلا ولم يطلع الفجر
فأجرى عليه حين مات دموعنا ... سماء فقال الناس لا بل هو القطر
وقد بكت الخنساء صخرا وإنّه ... ليبكيه من فرط المصاب به الصخر
وقلّدها المستعلى الظّهر حسب ما ... عليه قديما نصّ والده الطّهر

(5/23)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 428]
السنة الأولى من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
فيها فى المحرّم خلع الخليفة القائم بأمر الله على الأفضل أبى تمّام محمد بن محمد ابن علىّ الزينبىّ الحنفىّ العلوىّ وفوّض إليه نقابة الهاشميّين والصلاة، وأمره باستخلاف أبى منصور محمد على ذلك؛ وأحضر الخليفة القضاة والأعيان وقال لهم:
قد عوّلنا على محمد بن محمد بن علىّ الزينتى فى نقابة أهله من العباسيّين رعاية لحقوق سالفة. فقبّل أبو تمّام الأرض؛ وخلع عليه السّواد والطيلسان، ولقّب عميد الرؤساء.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق. وحجّ الناس من مصر وغيرها.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان الإمام العلّامة أبو الحسين الحنفىّ الفقيه البغدادى المشهور بالقدورىّ- قال أبو بكر «1» الخطيب: لم يحدّث إلّا شيئا يسيرا؛ كتبت عنه، وكان صدوقا، انتهت إليه بالعراق رياسة أصحاب أبى حنيفة، وعظم [عندهم] «2» قدره وارتفع جاهه، وكان حسن العبارة فى النظر، جرىء اللسان مديما للتلاوة. قلت: والفضل ما شهدت به الأعداء، ولولا أنّ شأن هذا الرجل كان قد تجاوز الحدّ فى العلم والزّهد ما سلم من لسان الخطيب، بل مدحه مع عظم تعصّبه على السادة الحنفية وغيرهم؛ فإنّ عادته ثلم أعراض العلماء والزّهّاد بالأقوال الواهية، والروايات المنقطعة، حتّى أشحن تاريخه من هذه القبائح. وصاحب الترجمة هو مصنّف «مختصر القدّورىّ» فى فقه الحنفية، و «شرح مختصر الكرخىّ»

(5/24)


فى عدّة مجلّدات، وأملى «التجريد فى الخلافيّات» أملاه فى سنة خمس وأربعمائة، وأبان فيه عن حفظه لما عند الدار قطنىّ من أحاديث الأحكام وعللها، وصنّف كتاب «التقريب الأوّل» فى الفقه فى خلاف أبى حنيفة وأصحابه فى مجلد، و «التقريب الثانى» فى عدّة مجلّدات. وكانت وفاته فى منتصف «1» رجب من السنة. ومولده سنة اثنتين وستين وثلثمائة. وقد روينا جزأه المشهور عن الشيخ رضوان بن محمد العقبىّ «2» عن أبى الطاهر بن الكويك «3» عن محمد بن «4» البلوىّ انا «5» عبد الله بن عبد الواحد بن علّاق انا فاطمة بنت سعد الخير الأنصارية انا أبو بكر بن أبى طاهر انا العلّامة أبو الحسين القدورىّ رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علىّ بن سينا الرئيس أبو علىّ صاحب الفلسفة والتصانيف الكثيرة. كان إمام عصره فى الحكمة وعلوم الأوائل، بل كان إماما فى سائر العلوم. وتصانيفه كثيرة فى فنون العلوم، حتّى قيل عنه: إنّه ليس فى الإسلام من هو فى رتبته. قال أبو عبد الله الذهبىّ: كان ابن سينا آية فى الذكاء، وهو رأس الفلاسفة الإسلاميّين الذين مشوا خلف العقول، وخالفوا الرسول- قلت-: لم يكن ابن سينا بهذه المثابة بل كان حنفىّ المذهب، تفقّه على

(5/25)


الإمام أبى بكر بن أبى عبد الله الزاهد الحنفى- وتاب فى مرض موته، وتصدّق بما كان معه، وأعتق مماليكه، وردّ المظالم على من عرفه، وجعل يختم فى كلّ ثلاثة أيّام ختمة إلى أن توفّى يوم الجمعة فى شهر رمضان. قلت: ومن يمشى حلف العقول، ويخالف الرسول لا يقلّد الأحكام الشرعية، ولا يتقرّب بتلاوة القرآن العظيم.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن أبى موسى أبو علىّ الهاشمىّ البغدادىّ شيخ الحنابلة وعالمهم، وصاحب التصانيف الكثيرة. مات فى شهر ربيع الاخر.
وفيها توفّى مهيار بن مرزويه الدّيلمىّ أبو الحسن «1» الكاتب الشاعر المشهور، كان مجوسيّا فأسلم على يد الشريف الرضىّ، وهو أستاذه فى الأدب والنّظم والتشيع. اشتغل حتّى مهر فى الأدب والكتابة والتشيّع حتّى صار من كبار الشعراء الروافض «2» . قال أبو القاسم «3» بن برهان النحوىّ: كان مجوسيّا فأسلم فى سنة أربع وتسعين وثلثمائة؛ فقلت له: يا أبا الحسن، انتقلت [بإسلامك «4» ] من زاوية إلى زاوية فى جهنّم؛ قال: وكيف؟
قلت: لأنّك كنت مجوسيّا ثمّ صرت تتعرّض لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمجوسىّ والرافضىّ فى النار. انتهى. قلت: وأمّا شعر مهيار ففى غاية الجودة. فمن ذلك قوله:
[البسيط]
أستنجد الصبر فيكم وهو مغلوب ... وأسأل النوم عنكم وهو مسلوب
وأبتغى عندكم قلبا سمحت به ... وكيف يرجع شىء وهو موهوب

(5/26)


وله فى إنجاز وعد:
[الطويل]
أظلّت «1» علينا منك يوما غمامة ... أضاء لها برق وأبطا رشاشها
فلا غيمها يجلى فيبأس طامع ... ولا غيثها يأتى فيروى عطاشها
وفيها توفّى الحسن بن عبد الله بن حمدان ناصر الدولة أبو المطاع التّغلبىّ ويعرف بدى القرنين ووجيه الدولة. ولى إمرة دمشق للحاكم بأمر الله ثمّ عزل عنها بلؤلؤ، ثمّ أعيد إليها سنة خمس عشرة وأربعمائة من قبل الظاهر بن الحاكم؛ ومات بها وقيل بمصر. وكان شاعرا أديبا شجاعا فصيحا. ومن شعره:
[الرمل]
موعدى بالبين ظنّا «2» ... أننى بالبين أشقى
ما أرى بين مماتى ... وفراقى لك فرقا
لا تهدّدنى ببين ... لست منه أنوقّى
إنّما يشقى ببين ... منك من بعدك يبقى
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 429]
السنة الثانية من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
فيها توفّى عبد الرحمن بن عبد الله بن علىّ أبو علىّ العدل، ويعرف بابن أبى العجائز، ولد سنة أربعين وثلثمائة بدمشق وبها مات فى المحرّم؛ وكان ثقة سمع الحديث ورواه،

(5/27)


روى عنه غير واحد؛ قال: وحدّثنا محمد بن سليمان الرّبعىّ عن محمد بن تمّام الحرّانى «1» .
عن محمد بن قدامة قال: أتينا سفيان بن عيينة فحجبنا «2» ، فجاء خادم لهارون الرشيد يقال له حسين فى طلبه فأخرجه، فقمنا إليه فقلنا: أمّا أهل الدنيا فيصلون إليك، وأمّا نحن فلا نصل! فنظر إلينا وقال: لا أفلح صاحب عيال؛ ثم أنشد:
[البسيط]
اعمل بعلمى ولا تنظر إلى عملى ... ينفعك علمى ولا يضررك تقصيرى
ثم قال: بم تشبّهون قوله عليه [الصلاة «3» و] السلام إخبارا عن ربّه تعالى:
«ما أشغل عبدى ذكرى عن مسألتى إلّا أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» ؟ فقلنا:
قل يرحمك الله؛ فقال قول القائل:
[الكامل]
وفتى «4» خلا من ماله ... ومن المروءة غير خال
أعطاك قبل سؤاله ... وكفاك مكروه السؤال
وفيها توفّى أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد الله العلوىّ الطّلمنكىّ «5» الحافظ، كان إماما حافظا محدّثا. مات فى ذى الحجة وله تسعون سنة.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن الصّقر «6» الإمام الكاتب المقرئ صاحب زيد بن أبى بلال الكوفىّ، كان فاضلا قرأ القراءات بالرّوايات وبرع فى فنون.

(5/28)


وفيها توفّى أبو الوليد يونس بن «1» عبد الله بن محمد بن مغيث المقرئ القرطبىّ الفقيه المعروف بابن الصفّار قاضى الجماعة، كان من أوعية العلم، كان فقيها محدّثا عالما زاهدا. مات فى شهر رجب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 430]
السنة الثالثة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثلاثين وأربعمائة.
فيها سأل جلال الدولة الخليفة القائم بأمر الله أن يلقّب ابنه لقبا، فلقّبه «الملك العزيز» وكان مقيما بواسط. قلت: وهذا أوّل لقب سمعناه من ألقاب ملوك الأتراك وغيرهم من ملوك زماننا.
وفيها استولى بنو سلجوق «2» على خراسان والجبال، وهرب منهم السلطان مسعود ابن محمود بن سبكتكين إلى غزنة، واقتسموا البلاد. وهذا أوّل ظهور بنى سلجوق الآتى ذكرهم فى عدّة أماكن. وأصلهم أتراك من [ما] وراء النهر، فزوّج سلجوق ابنته من رجل يعرف بعلىّ تكين، فأفسدوا على محمود بن سبكتكين البلاد بالنهب والغارات، فقصدهم محمود بن سبكتكين فقبض على سلجوق المذكور وهرب علىّ تكين وطغرلبك، واسمه محمد بن ميكائيل بن سلجوق، وبقى طغرلبك فى أربعة آلاف خركاه، إلى أن توفّى محمود بن سبكتكين، واشتغل ابنه مسعود بن محمود

(5/29)


ابن سبكتكين باللهو. فصار أمر طغرلبك ينمو إلى أن واقع مسعودا وهزمه واستولى على خراسان، وولّى أخاه داود مرو وسرخس وبلخ، وولّى ابن عمّه الحسن بن موسى هراة وبوشنج وسجستان، وولّى أخاه لأمّه إبراهيم ينّال دهستان «1» . وعظم أمر طغرلبك إلى أن كان من أمره ما سنذكره فى عدّة أماكن إن شاء الله تعالى.
وفيها توفّى أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الحافظ أبو نعيم الأصبهانىّ الصوفىّ والأحول سبط الزاهد محمد بن يوسف البنّاء؛ كان أحد الأعلام، جمع بين علوّ الرواية وكثرة الدّراية، ورحل إليه من الأقطار، وألحق الصغار بالكبار؛ وولد سنة ستّ وثلاثين وثلثمائة بأصبهان. واستجاز له أبوه طائفة من شيوخ العصر حتّى تفرّد فى آخر عمره فى الدنيا عنهم.
وفيها توفّى عبد الملك بن محمد بن عبد الله الشيخ أبو القاسم البغدادىّ الواعظ.
كان مسند العراق فى زمانه، سمع الحديث وروى الكثير. قال أبو بكر الخطيب:
كتبنا عنه وكان ثقة ثبتا صالحا؛ ولد فى شوّال سنة تسع وثلاثين وثلثمائة.
وفيها توفّى موسى بن عيسى بن أبى حاجّ الفاسىّ المقرئ الإمام أبو عمران، الفاسىّ الدار الغفجومىّ «2» النسب- وغفجوم: قبيلة من زناتة- البربرىّ الفقيه المالكىّ نزيل القيروان وإليه انتهت رياسة العلم بها. تفقّه على أبى الحسن «3» القابسىّ وهو أجل أصحابه؛ ودخل الأندلس فتفقّه على أبى محمد «4» الأصيلىّ، وسمع وحدّث وحجّ غير مرّة، وكان من كبار العلماء.

(5/30)


وفيها توفّى الفضل بن منصور أبو الرضا البغدادىّ المعروف بابن الظّريف، كان شاعرا أديبا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 431]
السنة الرابعة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة.
فيها توفّى محمد بن علىّ بن أحمد بن يعقوب بن مروان القاضى أبو العلاء الواسطىّ، أصله من فم الصّلح، ونشأ بمدينة واسط. وكان فقيها فاضلا محدّثا، سمع الحديث، وولى القضاء. ومات ببغداد فى جمادى الآخرة من السنة.
وفيها توفّى محمد بن الفضل بن نظيف أبو عبد الله المصرىّ الفرّاء مسند الديار المصريّة فى زمانه، سمع الكثير وتفرّد بأشياء، وروى عنه خلائق كثيرة. ومات فى شهر ربيع الآخر، وله تسعون سنة.
وفيها شغب الأتراك وخرجوا بالخيم [إلى شاطىء»
دجلة] وشكوا من تأخّر النفقة ووقوع الاستيلاء على إقطاعاتهم، [فعرف السلطان «2» هذا] ، فكاتب دبيس [بن علىّ «3» ] ابن مزيد [و «4» ] أبا الفتح [بن ورّام «5» ] وأبا الفوارس بن سعد «6» ؛ ثمّ كتب إلى الأتراك يلومهم. وحاصل الأمر أنّ الناس ماجوا وانزعجوا، ووقع النهب وغلت الأسعار وزاد الخوف، حتّى إنّ الخطيب صلّى صلاة الجمعة بجامع براثا «7» وليس وراءه إلا ثلاثة

(5/31)


أنفس، ونودى فى الجمعة المقبلة من أراد الصلاة بجامع براثا فكلّ ثلاثة أنفس بدرهم خفارة.
وفيها توفّى القاضى أبو العلاء صاعد بن محمد بن أحمد الفقيه الاستوائىّ «1» الحنفىّ قاضى نيسابور وفقيهها وعالمها، كان إماما فقيها عالما عفيفا ورعا كثير العلم، كان المعوّل على فتواه بنيسابور فى زمانه. ومات فى هذه السنة. قاله الذهبىّ رحمه الله.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى القاضى أبو العلاء صاعد بن محمد بن أحمد الفقيه الاستوائىّ الحنفىّ قاضى نيسابور وفقيهها. والقاضى أبو العلاء محمد بن على الواسطى المقرئ. وأبو الحسن محمد بن عوف المزنىّ فى [شهر] ربيع الآخر. وأبو عبد الله محمد بن الفضل بن نظيف المصرىّ الفرّاء فى [شهر] ربيع الآخر، وله تسعون سنة. وأبو المعمّر مسدّد بن علىّ الأملوكىّ «2» خطيب حمص.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 432]
السنة الخامسة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة.
فيها اتّفق جلال الدولة مع قرواش وتحالفا وسكنت الفتنة بينهما.

(5/32)


وفيها توفّى القاضى أبو العلاء صاعد المقدّم ذكره فى السنة الماضية، فى قول صاحب مرآة الزمان.
وفيها توفّى أبو بكر محمد بن عمر بن بكير «1» بن النّجّار، كان إماما عالما محدّثا. مات فى هذه السنة.
وفيها توفّى عبد الباقى بن محمد الحافظ أبو القاسم الطحّان، كان إماما فاضلا فقيها محدّثا. مات ببغداد فى جمادى الأولى من هذه السنة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو العبّاس جعفر بن محمد بن المعتزّ المستغفرىّ. وأبو القاسم عبد الباقى بن محمد الطحّان ببغداد فى جمادى الأولى. وأبو بكر محمد بن عمر بن بكير النحّار.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشر أصابع مثل الخالية. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 433]
السنة السادسة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
فيها توفّى محمد بن جعفر أبو الحسين البغدادىّ المقرئ، كان فاضلا قارئا أديبا شاعرا محدّثا. ومن شعره:
[الكامل]
يا ويح قلبى من تقلّبه ... أبدا يحنّ إلى معذّبه
قالوا كتمت هواه عن جلد ... لو كان لى جلد لبحت به

(5/33)


وفيها توفّى السلطان مسعود ابن السلطان محمود بن سبكتكين أبو سعيد صاحب خراسان وغزنة وغيرهما. كان ملكا عادلا حسن السّيرة فى الرعيّة، سلك طريق أبيه فى الغزو وفتح البلاد، إلّا أنّه كان عنده محبّة فى اللهو والطّرب. وكان ولى الملك بعد موت أبيه السلطان محمود فى ذى الحجّة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، فكانت مدّة حكمه «1» على بلاد الهند وغيرها اثنتى عشرة سنة إلّا أشهرا.
وفيها توفّى الأمير أنوشتكين الدّزبرىّ «2» قسيم الدولة نائب الشام للمستنصر صاحب الترجمة، كان خصيصا عند المستنصر يندبه إلى المهمّات، وكان شجاعا مقداما عظيم الهيبة حسن السياسة؛ طرد العرب من الشام وأباد المفسدين، ومهّد أمور الشام حتى أمنت السّبل فى أيّامه. وقد قدّمنا من ذكره نبذة فى ترجمة المستنصر فى هذا المحلّ. ولمّا مات ولى دمشق بعده الأمير ناصر الدولة الحسن بن الحسين ابن عبد الله بن حمدان.
وفيها توفّى الأمير أبو جعفر علاء الدولة بن كاكويه «3» صاحب أصبهان. ولى بعده منصور «4» ، وأقام الدعوة والسّكة للملك أبى كاليجار فى جميع بلاد أبيه.
وفيها توفّى سعيد بن العبّاس الحافظ أبو عثمان القرشىّ الهروىّ، كان إماما فاضلا محدّثا فقيها. مات فى المحترم من هذه السنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.

(5/34)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 434]
السنة السابعة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
فيها ورد الخبر من تبريز «1» أنّ زلزلة عظيمة وقعت بها هدمت قلعتها وسورها وكثيرا من دورها ومساكنها، ونجا أميرها بنفسه. وأحصى من مات تحت الهدم فكانوا خمسين ألفا، ولبس الناس بها السّواد وجلسوا على المسوح لعظم هذه المصيبة.
ثمّ زلزلت تدمر «2» أيضا وبعلبك، فمات تحت الهدم معظم أهل تدمر.
وفيها توفّى حمزة بن الحسن بن العبّاس الشريف العلوىّ أبو يعلى فخر الدولة ولى قضاء دمشق عن الظاهر العبيدىّ، وهو الذي أجرى الفوّارة يجيرون «3» ، وبنى قيساريّة الأشراف «4» وتعرف بالفخريّة. قال الشريف أبو الغنائم عبد الله بن الحسين:
أنشدنى لقسّ بن ساعدة فى النجوم:
[الكامل]
علم النجوم على العقول وبال ... وطلاب شىء لا ينال ضلال
ماذا طلابك علم شىء أغلقت ... من دونه الأبواب والأقفال
افهم فما أحد بغامض فطنة ... يدرى متى الأرزاق والآجال
إلّا الذي من فوق سبع عرشه ... فلوجهه الإكرام والإفضال

(5/35)


وفيها توفّى عبيد الله «1» بن هشام بن عبد الله بن سوار أبو الحسين من أهل داريّا بدمشق، كان إماما فاضلا متديّنا.
وفيها توفّى عبد «2» بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير «3» أبو ذرّ الأنصارىّ الهروىّ المالكىّ الحافظ، كان يعرف فى بلده بابن السمّاك، سمع الحديث ورحل [إلى] البلاد، وكان إماما عالما فاضلا سخيّا صوفيّا. قال القاضى عيّاض: ولأبى ذرّ كتاب كبير مخرّج «4» على الصحيحين [و] «كتاب السنة والصفات» . رحمه الله تعالى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.