النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 445]
السنة الثامنة عشرة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة خمس
وأربعين وأربعمائة.
فيها وقف طغرلبك السّلجوقىّ على مقالات الأشعرىّ، وكان طغرلبك حنفيّا،
فأمر بلعن الأشعرىّ على المنابر، وقال: هذا يشعر بأن ليس لله فى الأرض
كلام.
فعزّ ذلك على أبى القاسم القشيرىّ «3» ، وعمل رسالة سمّاها «شكاية أهل
السّنّة ما نالهم من المحنة» . ووقع بعد ذلك أمور، حتّى دخل القشيرىّ
وجماعة من الأشعريّة إلى السلطان طغرلبك المذكور وسألوه رفع «4»
اللّعنة عن الأشعرىّ. فقال طغرلبك:
الأشعرىّ عندى مبتدع يزيد على المعتزلة، لأنّ المعتزلة أثبتوا أنّ
القرآن فى المصحف وهذا نفاه. قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزىّ رحمه
الله: لو أنّ القشيرىّ لم يعمل
(5/54)
فى هذه رسالة كان أستر للحال، لأنّه إنّما
ذكر فيها أنّه وقع اللعن على الأشعرىّ، وأنّ السلطان سئل أن يرفع ذلك
فلم يجب؛ ثمّ لم يذكر له حجّة، ولا دفع للخصم شبهة.
وذكر ابن الجوزىّ من هذا النوع أشياء كثيرة، حتّى قال: وذكر مثل هذا
نوع تغفّل. انتهى.
وفيها توفّى إبراهيم بن عمر بن أحمد أبو إسحاق الفقيه الحنبلىّ ويعرف
بالبرمكىّ، لأنّ أهله كانوا يسكنون بالبرمكيّة «1» ؛ كان إماما عارفا
بمذهبه، وله حلقة للفتوى بجامع المنصور، وسمع خلقا كثيرا، وروى عنه
الخطيب وغيره؛ وكان صالحا زاهدا ورعا ديّنا صدوقا ثقة.
وفيها توفّى أحمد بن عمر بن روح أبو الحسين «2» النّهروانىّ؛ كان فاضلا
شاعرا قال: كنت على شاطئ «3» دجلة، فمرّبى إنسان فى سفينة وهو يقول:
[الوافر]
وما طلبوا سوى قتلى ... فهان علىّ ما طلبوا
فقلت له: قف، ثم قلت بديها: أضف إليه:
على قلبى الأحبّة بالت ... مادى فى الجفا غلبوا
وبالهجران طيب النّو ... م من عينىّ قد سلبوا
وما طلبوا سوى قتلى ... فهان على ما طلبوا
(5/55)
وفيها توفّى مطهّر «1» بن محمد بن إبراهيم
أبو عبد الله الصوفىّ الشّيرازىّ أحد أعيان مشايخ الصوفيّة، جاور
بمدينة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أربعين سنة، ورحل إلى بغداد، ثمّ
عاد إلى دمشق فمات بها فى شهر رجب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 446]
السنة التاسعة عشرة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ستّ
وأربعين وأربعمائة.
فيها استوحش الخليفة القائم بأمر الله من الأمير أبى الحارث أرسلان
البساسيرىّ واستوحش البساسيرىّ منه. وهذا أوّل الفتنة التى ذكرناها فى
ترجمة المستنصر هذا من أنه خطب له على منابر بغداد. وكتب الخليفة
القائم بأمر الله إلى طغرلبك السّلجوقىّ فى الباطن يستنهضه إلى السير
إلى العراق، وكان بنواحى خراسان.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن إبراهيم أبو علىّ الأهوازىّ المقرئ، كان
إماما فى القراءات، وصنّف فى علوم القرآن كتبا كثيرة، وانتهت إليه
الرياسة بالشام فى القراءة، وسمع الحديث الكثير، وكان يكره مذهب
الأشعرىّ ويضعفه، ومن أجله صنّف ابن عساكر كتابه المسمّى «تبيين «2»
[كذب] المفترى، [فيما نسب] إلى أبى الحسن الأشعرىّ» .
(5/56)
وفيها توفّى الحسين بن جعفر بن محمد «1» بن
جعفر بن داود أبو عبد الله السّلماسىّ «2» الفقيه الصالح، كان مشهورا
بأفعال البرّ والصدقات، ينفق ماله على الفقراء والصالحين، وأخذ منه
السلطان عشرة آلاف دينار قرضا، ثمّ أراد ردّها فلم يقبلها، وقال: إننى
رجل يأكل من مالى قوم لو علموا أنّنى أخذت من مال السلطان لأمتنعوا.
وفيها توفى عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأصبهانىّ الفقيه المحدّث،
كان زاهدا عالما ورعا، وكنيته أبو محمد «3» ، ويعرف بابن اللبّان. أثنى
على علمه وفضله جماعة من العلماء. وكانت وفاته فى جمادى الآخرة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع
عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 447]
السنة العشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة سبع وأربعين
وأربعمائة.
فيها دخل طغرلبك السّلجوقىّ بغداد، وهرب منها أبو الحارث أرسلان
البساسيرىّ إلى الرّحبة «4» ، وكاتب البساسيرىّ المستنصر صاحب مصر،
ومشت الرّسل بينهما.
(5/57)
وفيها استولى أبو كامل «1» علىّ بن محمد
الصّليحىّ على اليمن، وانتمى إلى المستنصر صاحب مصر، وخطب له باليمن،
وأزال دعوة بنى العبّاس منها، وكان يدعى بها للقائم بأمر الله، فصار
يدعو للمستنصر هذا صاحب الترجمة.
وفيها توفّى الحسين [بن علىّ»
] بن جعفر بن علكان بن محمد بن دلف أبو عبد الله العجلىّ القاضى، وكان
يعرف بآبن ماكولا، ولى قضاء البصرة وبغداد، وكان قاضيا نزها عفيفا
ديّنا أديبا شاعرا.
وفيها توفّى على بن المحسّن بن علىّ بن محمد بن أبى الفهم أبو القاسم
التّنوخىّ القاضى، تقلّد القضاء فى عدّة بلاد، وسمع الحديث الكثير،
وصنف الكتب المفيدة؛ ومات فى بغداد فى المحرّم. وكان صدوقا محتاطا فى
الحديث. وقيل:
إنّه كان معتزليّا يميل إلى الرّفض.
وفيها توفّى محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله العباسىّ فى حياة
والده، كان قد نشأ نشوءا حسنا، ورشّحه أبوه القائم بأمر الله للخلافة،
ولقّبه «ذخيرة الدين» . وكانت وفاته فى ذى القعدة، وحزن عليه أبوه
القائم حزنا شديدا، وخرج حتّى صلّى عليه بنفسه، فصلّى عليه وبينه وبين
الناس سرادق وهم يصلّون خلفه بصلاته؛ وجلس الوزير رئيس الرؤساء للعزاء
ثلاثة أيّام، ومنع من ضرب الطّبول ثلاثة أيّام، فلمّا كان اليوم الرابع
حضر عميد الملك وزير السلطان بين يدى القائم بأمر الله، وأدّى عن
السلطان رسالة تتضمّن التعزية والسؤال بقيام الوزير والجماعة من مجلس
التّعزية فقاموا، ثم حمل تابوته بعد ذلك إلى الرّصافة فدفن هناك.
(5/58)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع
أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 448]
السنة الحادية والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثمان
وأربعين وأربعمائة.
فيها عم الوباء والقحط بغداد والشام ومصر والدنيا، وكان الناس يأكلون
الميتة. وبلغت الرّمانة والسفرجلة دينارا، وكذا الخيارة واللّينوفرة،
وانقطع ماء النيل بمصر، وكان يموت بها فى كلّ يوم عشرة آلاف إنسان.
وباع عطّار واحد فى يوم واحد ألف قارورة شراب. ووقع بمصر أنّ ثلاثة
لصوص نقبوا نقبا فوجدوا عند الصّباح موتى: أحدهم على باب النقب،
والثانى على رأس الدرجة، والثالث على الكارة التى سرقها. وهذا الوباء
والغلاء خلاف الغلاء الذي ذكرناه فى ترجمة المستنصر؛ ويأتى ذكر ذلك
أيضا فى محلّه. غير أنّه كان ينذر عن ذاك بأمور استرسلت إلى أن عظم
الأمر.
وفيها أقيم الأذان فى مشهد موسى بن جعفر ومساجد الكرخ ب «الصلاة خير من
النوم» على رغم أنف الشّيعة، وأزيل ما كانوا يقولونه فى الأذان من «حىّ
على خير العمل» .
وفيها توفّى جعفر بن محمد بن عبد الواحد أبو طالب الجعفرىّ الشريف
الطّوسىّ شيخ الصوفية، كان محدّثا فاضلا، سافر [إلى] البلاد فى طلب
الحديث، وسمع بالعراقين والشام وخراسان وغيرها.
(5/59)
وفيها توفّى علىّ بن أحمد بن علىّ أبو
الحسن المؤدّب. أصله من قرية ببلاد خوزستان يقال لها «فالة» (بفاء) ثم
قدم البصرة وسمع الحديث، ثم قدم بغداد ومات بها، وكان محدّثا شاعرا
أديبا فصيحا ثقة.
وفيها توفّى هلال بن المحسّن بن إبراهيم بن هلال أبو الحسين الكاتب
الصابئ صاحب التاريخ- قلت: نقلنا عنه كثيرا فى هذا التاريخ- وكان مولده
فى سنة تسع وخمسين وثلثمائة، وجدّه إبراهيم هو صاحب الرسائل المقدّم
ذكر وفاته، وأن الشريف الرضى رثاه، وعيب عليه من كونه من الأشراف ورثى
صابئا. وكان أبو هلال هذا المحسّن صابئا، وأسلم هو متأخرا؛ وكان قبل أن
يسلم سمع جماعة من النحاة، منهم أبو علىّ الفارسىّ وعلىّ بن عيسى
الرّمّانىّ وغيرهما.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 449]
السنة الثانية والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة تسع
وأربعين وأربعمائة.
فيها استعفى ابن النّسوىّ من ولاية الشّرطة ببغداد لأستيلاء الحراميّة
واللصوص عليها بحيث إنه أقيم جماعة لحفظ قصر الخليفة والطّيّار الذي
للخليفة من الحريق، لأنّ «1» اللصوص كانوا إذا امتنع عليهم موضع
حرّقوه.
وفيها كان الطاعون العظيم ببخارى، حتّى إنه خرج منها فى يوم واحد
ثمانية عشر ألف إنسان. وحصر من مات فيه فكان ألف ألف وستمائة ألف
وخمسين ألف
(5/60)
شخص. ثمّ وقع فى أذربيجان والأهواز وواسط
والبصرة، حتّى كانوا يحفرون التّربة الواحدة ويلقون فيها العشرين
والثلاثين. ثمّ وقع بسمرقند وبلخ، فكان يموت فى كلّ يوم ستة آلاف
وأكثر. وذكر صاحب المرآة فى هذا الطاعون أشياء مهولة يطول الشرح فى
ذكرها، منها أن مؤدّب «1» أطفال كان عنده تسعمائة صغير فلم يبق منهم
واحد. ومات من عاشر شوّال إلى سلخ ذى القعدة بسمرقند خاصّة مائتا ألف
وستة وثلاثون ألفا. وكان ابتداء هذا الطاعون من تركستان إلى كاشغر
وفرغانة انتهى.
وفيها توفّى أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن
سليمان ابن داود بن المطهّر بن زياد بن ربيعة [بن الحارث «2» ] بن أنور
بن أسحم بن أرقم بن النّعمان بن عدىّ بن غطفان بن عمرو بن بريح بن
خزيمة «3» بن تيم الله بن أسد بن وبرة ابن تغلب بن حلوان بن عمران بن
الحاف بن قضاعة أبو العلاء المعرّىّ التّنوخىّ اللغوىّ الأعمى الشاعر
المشهور صاحب التصانيف المشهورة. قال الذهبىّ:
وصاحب الزندقة المأثورة. وقال أبو المظفّر فى مرآة الزمان: وتنوخ قبيلة
من اليمن. وتوفّى أبو العلاء بمعرّة النّعمان فى يوم الجمعة ثالث عشر
[شهر] ربيع الأوّل.
ومولده يوم الجمعة لثلاث بقين من [شهر] ربيع الأوّل سنة ثلاث وستين
وثلثمائة.
وأصابه جدرىّ بعد ثلاث سنين من عمره فعمى منه. وقال الشعر وهو ابن إحدى
عشرة سنة. قلت: وقد اختلف الناس فى أبى العلاء المذكور، فمن الناس
(5/61)
من جعله زنديقا وهم الأكثر، ومن الناس من
أوّل كلامه ودفع عنه. وممّا يستشهد عليه من المقالة الأولى قوله:
[الوافر]
عقول «1» تستخفّ بها سطور ... ولا يدرى الفتى لمن الثّبور
كتاب محمد وكتاب موسى ... وإنجيل ابن مريم والزّبور
وله فى غير هذا المعنى أشياء كثيرة، وتصانيف مشهورة، منها «سقط الزّند»
وشرحه بنفسه وسماه «ضوء السقط» . وله غير ذلك.
وفيها توفّى إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن
عابد بن عامر أبو عثمان الواعظ المفسر الصّابونىّ النيسابورىّ شيخ
الإسلام. قال أبو عبد الله المالكىّ: أبو عثمان ممن شهد له أعيان
الرجال بالكمال فى الحفظ والتفسير وغيرهما.
وقال البيهقىّ: أنبأنا إمام المسلمين حقّا، وشيخ الإسلام صدقا أبو
عثمان الصابونىّ.
وفيها توفّى علىّ بن هندىّ القاضى أبو الحسن قاضى حمص. ولد سنة
أربعمائة.
كان عالما فاضلا نزها عفيفا فصيحا، مات بدمشق.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع
عشرة دراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 450]
السنة الثالثة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة خمسين
وأربعمائة.
فيها أقام أبو الحارث أرسلان البساسيرىّ الدعوة للمستنصر ببغداد وخطب
له على منابرها. وقد استوعبنا واقعته مع الخليفة القائم بأمر الله
العباسىّ فى أوّل ترجمة المستنصر هذا، فيطلب هناك.
(5/62)
وفيها ولّى المستنصر الأمير ناصر الدولة
أبا محمد الحسن بن الحسين بن حمدان على دمشق، فدام بها إلى أن أمره
المستنصر أن يتوجّه إلى حلب فى سنة اثنتين وخمسين لقتال العرب الذين
استولوا عليها؛ فتوجّه إليها ودافع العرب بظاهرها فكانت بينهم وقعة
هائلة انكسر فيها ناصر الدولة المذكور وعاد جريحا، واستولت العرب على
أثقاله وما كان معه.
وفيها توفّى داود جغرى بك أخو السلطان طغرلبك السّلجوقى، وداود كان
الأكبر. ولم يقدم بغداد، وكان مقيما بخراسان بإزاء أولاد محمود بن
سبكتكين. وهو حمو الخليفة القائم بأمر الله. وكان ملكا شجاعا عاقلا
جوادا مدبّرا حكيما. مات ببلخ.
وتوجّه ولداه ياقوتى «1» بك وقاورد «2» بك إلى عند أخيهما متملّك الأمر
بعد أبيهما، واسمه ألب أرسلان، وقرّر عمّهما السلطان طغرلبك أمورهما،
وكان بأصبهان وقد عزم على قصد العراق.
وفيها توفّى طاهر بن عبد الله بن طاهر أبو الطيّب الطّبرىّ القاضى
الشافعىّ.
تفقّه بخراسان وبالعراق، وولى القضاء بربع الكرخ. ومولده سنة ثمان
وأربعين وثلثمائة، ومات يوم السبت عشرين [شهر] ربيع الأوّل، وقد بلغ
مائة سنة وسنتين وهو صحيح العقل ثابت الفهم سليم الأعضاء والحواسّ.
وفيها توفّى عبد الله بن علىّ بن عياض أبو محمد الصّورىّ، كان يلقّب
بعين الدولة، كان جليلا نبيلا، ولى القضاء بصور، وسمع الكثير، وخرّج له
أبو بكر الخطيب فوائد فى أربعة أجزاء وقرأها عليه بصور. وهو الذي أخذ
الخطيب مصنّفاته وادّعاها لنفسه. ومات فجأة فى الزّيب (قرية بين عكّا
وصور) فى شوّال. وكان صدوقا ثقة.
(5/63)
وفيها قتل الوزير رئيس الرؤساء علىّ بن
الحسين بن أحمد بن محمد الوزير ابو القاسم، كان من بيت رياسة ومكانة،
استكتبه القائم بأمر الله العبّاسىّ، ثمّ استوزره ولقّبه «رئيس الرؤساء
شرف الوزراء» . ومولده فى شعبان سنة تسع وتسعين وثلثمائة. وكان عالما
بفنون كثيرة مع سداد رأى ووفور عقل. قتله أبو الحارث أرسلان
البساسيرىّ. حسب ما ذكرناه فى أوّل ترجمة المستنصر صاحب الترجمة.
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن حبيب أبو الحسن «1» الماوردىّ البصرىّ
الإمام الفاضل الفقيه الشافعىّ صاحب التصانيف الحسان، منها «التفسير» و
«كتاب الحاوى» و «الأحكام السلطانية» و «قوانين الوزارة» و «الأمثال» .
وولى القضاء ببلدان كثيرة. وكان محترما عند الخلفاء والملوك.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع أصابع. مبلغ
الزيادة ستّ عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 451]
السنة الرابعة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة إحدى
وخمسين وأربعمائة.
فيها انصرف أبو الأغرّ دبيس بن مزيد عن بغداد على غضب من البساسيرىّ.
وفيها كان بمكة رخص لم يعهد مثله «2» ، حتّى بلغ البرّ والتمر مائتى
رطل بدينار.
وفيها قتل أبو الحارث أرسلان التركىّ المعروف بالبساسيرىّ صاحب الدعوة
للمستنصر ببغداد، كان يلقّب بالمظفّر. وكان فى مبدأ أمره مقدّما على
الأتراك
(5/64)
خصيصا عند القائم بأمر الله العباسىّ، لا
يقطع القائم أمرا دونه. فتجبّر وطغى، فجفاه القائم واستنصر عليه
بالسلطان طغرلبك السّلجوقىّ حتّى خرج من بغداد على غضب.
وصار يسعى فى زوال الخلافة عن القائم، ولا زال يدبّر عليه حتى فعل تلك
الأمور، ودخل بغداد وقاتل الخليفة القائم وقطع خطبته وخطب للمستنصر
صاحب الترجمة، وقتل الوزير رئيس الرؤساء المقدّم ذكره- وقد ذكرنا ذلك
كلّه فى أوّل ترجمة المستنصر هذا- وملك بغداد ودام بها حتّى ظفره «1»
السلطان طغرلبك السّلجوقىّ وقتله شرّ قتلة. وأعاد الخليفة القائم بأمر
الله من حديثة «2» عانة إلى بغداد، وأعيدت الخطبة باسمه، وأبطل طغرلبك
اسم المستنصر هذا من بغداد والعراق، ومهّد أمورها (أعنى العراق) حتّى
عادت كما كانت عليه، وكان قتله فى آخر السنة.
وفيها توفّى الحسن بن أبى «3» الفضل الإمام أبو علىّ الشّرمقانىّ «4» -
والشّرمقان:
قرية من قرى نيسابور- كان إماما فاضلا حافظا للقرآن ووجوه القراءات،
زاهدا عابدا ورعا سليم الصدر. وكان لا يقبل من أحد، ويقنع بورق الخسّ.
فاتفق أنّ ابن العلّاف خرج يوما متوجّها على دجلة «5» فرأى الشّرمقانىّ
هذا يأخذ ما يرمى به أصحاب الخسّ فيأكله، فشقّ عليه ذلك، فحكى أمره
للوزير رئيس الرؤساء؛ فقال:
نبعث له شيئا؛ فقال: لا يقبل. فقال الوزير: تحيّل فيه. فقال لغلام له:
اذهب إلى مسجد الشّرمقانىّ واعمل لغلقه «6» مفتاحا من حيث لا يشعر
ففعل. فقال:
(5/65)
احمل له فى كلّ يوم ثلاثة أرطال خبز،
ودجاجة مشوية، وقطعة حلوى سكّر.
فكان الغلام يرصده، فإذا خرج من المسجد فتح الباب وترك ذلك فى خلوته
وخرج؛ فيقول الشّرمقانىّ: المفتاح معىّ، من أين ذلك! وما هو إلّا من
الجنّة! وسكت ولم يخبر أحدا خوفا من أن ينقطع، فأخصب جسمه وسمن؛ فقال
له ابن العلّاف:
قد سمنت، فإيش تأكل؟ فأنشد الشّرمقانىّ يقول: [البسيط]
من أطلعوه على سرّ فباح به ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأخذ يورّى ولم يصرّح بما يقع له، فقال: هذا كرامة. فقال له بعضهم:
ينبغى أن تدعو للوزير؛ ففهم وانكسر قلبه وامتنع من أكل ذلك. وتوفّى بعد
ذلك بمدّة يسيرة.
وفيها توفّى سعيد بن محمد بن أحمد الشيخ أبو عثمان النّجيرمىّ «1»
النيسابورىّ العدل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 452]
السنة الخامسة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة اثنتين
وخمسين وأربعمائة.
فيها فى صفر دخل عطيّة «2» صاحب بالس «3» إلى الرّحبة وحصرها وافتتحها.
فلمّا دخلها أحسن معاملة أهلها، وخطب بها للمستنصر هذا صاحب الترجمة،
بعد أن كانوا خطبوا فيها بأمر السلطان طغرلبك السّلجوقىّ للقائم بأمر
الله العبّاسىّ.
(5/66)
وفيها دخل السلطان طغرلبك بغداد وفى خدمته
أبو كاليجار من ملوك بنى بويه، واسمه هزارسب، والأمير أبو الأغرّ بن
مزيد، والأمير أبو الفتح بن ورّام، وصدقة ابن منصور بن الحسين؛ ونزل
بدار الملك ببغداد. وانقرضت دولة بنى بويه من بغداد بسلطنة طغرلبك
السلجوقىّ هذا.
وفيها توفّى أحمد بن عبد الله «1» بن فضالة أبو الفتح الموازينىّ
الحلبىّ «2» الشاعر.
كان يعرف بالماهر. سكن دمشق وبها توفّى. ومن شعره: [الكامل]
يا من توقّد فى الحشا بصدوده ... نار بغير وصاله لا تنطفى
وظننت جسمى أن سيخفى بالضّنا ... عن عاذلىّ فقد ضنيت وما خفى
وفيها توفّيت الترنجان «3» زوجة السلطان طغرلبك السّلجوقىّ وأمّ أنو
شروان التى تزوّجها خوارزم شاه؛ كانت أمّ ولد، وفيها دين وافر، ومعروف
ظاهر، وصدقات كثيرة، وكانت صاحبة رأى وتدبير وحزم وعزم؛ وكان زوجها
السلطان طغرلبك سامعا لها ومطيعا، والأمور مردودة إلى عقلها، وكانت
تسير بالعساكر وتنجده وتقاتل أعداءه.
وفيها توفّيت أمّ الخليفة القائم بأمر الله العباسىّ، وهى أرمينيّة أمّ
ولد. تسمّى قطر الندى- وقيل بدر الدجى، وقيل علم- وهى التى حبسها
البساسيرىّ لمّا ملك بغداد. وكانت وفاتها فى شهر رجب ببغداد، وصلّى
عليها ابنها الخليفة القائم بأمر الله.
وقد جاوزت التسعين سنة من العمر.
(5/67)
وفيها توفّى الحسن بن أبى الفضل الأمير أبو
محمد النّسوىّ صاحب شرطة بغداد الذي اصطلح أهل السنّة والرافضة خوفا
منه فيما تقدّم ذكره. وكان صار ما فاتكا ظالما، يقتل الناس ويأخذ
أموالهم. وشهد عليه الشهود عند القاضى أبى الطيب «1» فحكم بقتله، فصالح
بمال فسلم، وعزل من الشّرطة ثم أعيد؛ فاتّفقت أهل السّنة والرافضة عليه
فقتلوه.
وفيها وقع الطاعون بالحجاز واليمن، وخربت قرى كثيرة، وصار من يدخلها
هلك من ساعته.
وفيها توفّى محمد بن عبيد الله بن أحمد أبو الفضل المالكىّ المعروف
بابن عمروس، انتهت إليه رياسة المالكية ببغداد فى زمانه، وكان من
القرّاء المجوّدين ثقة دينّا؛ أخرج له الخطيب حديثا عن معاذ بن جبل رضى
الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من عيّر أخاه بذنب
لم يمت حتّى يعمله «2» » .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتان وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 453]
السنة السادسة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثلاث
وخمسين وأربعمائة.
(5/68)
فيها توفّى الأمير أحمد «1» بن مروان بن
دوستك نصر الدولة الكردىّ صاحب ميّافارقين وديار بكر، ملك البلاد بعد
أن قتل أخوه أبو سعيد منصور. وكان نصر الدولة هذا عالى الهمّة، قوىّ
الحرمة، مقبلا على اللّذّات، عادلا فى الرعيّة. قيل:
لم تفته صلاة الصبح مع الجماعة مع انهما كه فى اللهو. وكان له ثلثمائة
وستّون جارية، يخلو كلّ ليلة بواحدة على عدد أيّام السنة. وخلّف عدّة
أولاد. وقد وزر له أبو القاسم الحسين بن على المغربىّ صاحب الرسائل.
وكان أوّلا وزير صاحب مصر، فقدم عليه فوزر له مرّتين. ومات نصر الدولة
فى شوّال بظاهر ميّافارقين وله سبع وسبعون سنة. وكانت سلطنته إحدى
وخمسين سنة. وملك بعده ولده نظام الدين أبو القاسم نصر بن أحمد.
وفيها توفّى علىّ بن رضوان بن علىّ بن جعفر أبو الحسن المصرىّ صاحب
المصنّفات. كان من كبار الفلاسفة فى الإسلام، وكان له دار بمدينة مصر
على قصر الشّمعة «2» تعرف بدار ابن رضوان. وقد تهدّمت الآن. كان إماما
فى الطّبّ والحكمة، كثير الردّ على أرباب «3» فنّه. وكان فيه سعة خلق
عند بحثه، وله مصنّفات كثيرة.
(5/69)
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن يحيى بن محمد
أبو محمد وأبو القاسم السلمىّ الدّمشقىّ المعروف بالسّميساطىّ «1» واقف
خانقاه «2» دمشق وغيرها. سمع الحديث، وكان مقدّما فى علم الهندسة
والهيئة، وروى عنه أبو بكر الخطيب وغيره.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 454]
السنة السابعة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة أربع
وخمسين وأربعمائة.
فيها قبض المستنصر على وزيره أبى الفرج ابن المغربىّ، واستوزر أبا
الفرج «3» البابلىّ، ثمّ ردّ ابن المغربىّ إلى كتابة الجيش، وهى كانت
رتبته قبل الوزارة؛ ولم يكن قبله وزير يعزل فيعود إلى قديم تصرفه.
وفيها كانت وقعة بين أبى المكارم مسلم بن قريش بن بدران وبين عمّه مقبل
ابن بدران. وكان مقبل قد طلب الأمر لنفسه واجتمع إليه خلق من الأكراد
وغيرهم، والتقيا على الخابور «4» فانهزم مسلم، وملك مقبل الجزيرة. فبذل
مسلم المال وجمع وعاد إلى عمّه مقبل فهزمه. ثمّ اتّفقا واجتمعا واصطلحا
على أمر مشى بينهما.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن محمد بن الحسن أبو محمد الجوهرىّ ثم
الشّيرازىّ ثمّ البغدادىّ، مسند العراق فى عصره. ولد فى شعبان سنة ثلاث
وستّين وثلثمائة،
(5/70)
وسمع الكثير وتفرّد بأشياء عوال. وكان يعرف
بالمقنّعى «1» لأنّه كان يتطيلس ويلتفّ بها تحت حنكه. ومات فى ذى
القعدة، وكان له شعر. فمن ذلك قوله:
[السريع]
يا موت «2» ما أجفاك من زائر ... تنزل بالمرء على رغمه
وتأخذ العذراء من خدرها ... وتسلب الواحد من أمّه
وفيها توفّى عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن بن بندار أبو الفضل العجلىّ
الرّازىّ المقرئ الإمام الزاهد. أصله من الرّىّ، وولد بمكّة، وكان
يتنقّل من بلد إلى بلد.
وكان مقرئا، جليل القدر، كثير التصانيف، حسن السّيرة، زاهدا متعبّدا.
وفيها توفّى المعزّ بن باديس بن منصور بن بلكّين الحميرىّ الصّنهاجىّ
سلطان إفريقيّة وما والاها من الغرب. كان الحاكم صاحب مصر قد لقبّه شرف
الدولة، وأرسل إليه خلعة فى سنة سبع وأربعمائة، وعاش المعزّ إلى هذا
الوقت. وكان ملكا رئيسا جليلا عالى الهمّة، وهو الّذى حسم مادّة الخلاف
ببلاد الغرب. وكان مذهب أبى حنيفة ظاهرا بإفريقيّة، فحمل أهل مملكته
بالاشتغال بمذهب مالك وترك ما دونه من المذاهب. وكان المعزّ شيخا جوادا
ممدّحا. وهو الذي خلع طاعة خلفاء مصر من بنى عبيد، وأبطل دعوتهم من
الغرب، وخطب للقائم بأمر الله العبّاسىّ، فكتب إليه المستنصر هذا
يتهدّده، فما التفت إلى ذلك. ثمّ وقع بين عساكره وعساكر المستنصر حروب
بسبب ذلك.
(5/71)
وفيها توفّى سبكتكين [بن عبد الله «1» ] التّركى أبو منصور تمام «2»
الدولة. تولى إمارة دمشق من قبل المستنصر صاحب الترجمة، ومات بها فى
شهر ربيع الأول.
وكان صالحا عفيفا، سمع الحديث ورواه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ أصابع. مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء. |