النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 455]
السنة الثامنة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة خمس
وخمسين وأربعمائة.
فيها دخل الصّليحىّ «3» إلى مكّة، واستعمل الجميل مع أهلها، وأظهر
العدل والإحسان، وطابت قلوب الناس له ورخصت الأسعار؛ وكان شابّا أشقر
اللّحية أزرق العينين، وليس كان باليمن أشقر أزرق غيره. وكان متواضعا،
إذا اجتاز بقوم سلّم عليهم بيده؛ وكسا البيت الحرام بثياب بيض، وردّ
بنى شيبة عن قبيح أفعالهم.
وفيها كانت واقعة بين قاورد بك بن داود وبين فضلويه الشونكارىّ على
فرسخين من شيراز، فانهزم فضلويه وغنم قاورد بك أمواله. وكان فضلويه فى
عشرين ألفا من الدّيلم وغيرهم؛ وكان قاورد بك فى أربعة آلاف من الترك
لا غير.
(5/72)
وفيها ثار أهل همذان على العميد فقتلوه مع
سبعمائة رجل من أصحاب السلطان، وقتلوا أيضا شحنة «1» البلد.
وفيها قصد قتلمش الرّىّ ومعه خمسون ألفا من التركمان، فدفعه عميد الملك
عنها.
وفيها توفّى السّلطان طغرلبك. واسمه محمد بن ميكائيل بن سلجوق أبو طالب
السّلجوقىّ. قدم بغداد سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وخلع عليه الخليفة
القائم بأمر الله العباسىّ، وخاطبه بملك المشرق والمغرب. قلت: وهذا
أوّل ملوك السلجوقيّة، وهو الذي مهّد لهم الدولة، وردّ ملك بنى العباس
بعد أن كان اضمحلّ وزالت دعوتهم من العراق، وخطب لبنى عبيد خلفاء مصر
لمّا استولى أبو الحارث أرسلان البساسيرىّ على بغداد. وقد تقدّم ذكر
ذلك. فما زال طغرلبك هذا حتّى ردّ الخليفة القائم بأمر الله من الحديثة
إلى بغداد، وأعاد الخطبة باسمه، وقتل البساسيرىّ.
وكان شجاعا مقداما حليما، عصى عليه جماعة فظفر بهم وعفا عنهم. وهو الذي
أزال ملك بنى بويه من العراق وغيره. وكانت وفاته بالرّىّ فى يوم الجمعة
ثامن شهر رمضان من هذه السنة. وكانت مدّة ملكه خمسا وعشرين سنة؛ وقيل
ثلاثون سنة. ومات وعمره سبعون سنة- وقيل جاوز الثمانين- والأول أشهر.
وطغرلبك (بضم الطاء المهملة وكسر «2» الراء المهملة وسكون اللام وفتح
الباء ثانية الحروف وسكون الكاف) .
وفيها توفّى مسلم بن إبراهيم أبو الفضل السلمىّ البزّاز، ويعرف بابن
الشّويطر، كان أديبا فاضلا. ومن شعره:
[البسيط]
ما فى زمانك من ترجو مودّته ... ولا صديق إذا خان الزمان وفا
فعش فريدا ولا تركن إلى أحد ... فقد نصحتك فيما قلته وكفى
(5/73)
وفيها توفّى منصور بن إسماعيل بن أبى قرّة
القاضى أبو المظفّر الفقيه الهروىّ الحنفىّ قاضى هراة وخطيبها ومسندها،
سمع الكثير وحدّث. وهو أحد أعيان فقهاء الحنفيّة فى زمانه. كان إماما
حافظا مفتنّا. مات فى ذى القعدة عن قريب تسعين سنة.
وفيها كان الطاعون العظيم بمصر وقراها فمات بمصر فى عشرة أشهر كلّ يوم
ألف إنسان.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 456]
السنة التاسعة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ستّ
وخمسين وأربعمائة.
فيها وقعت فتنة عظيمة بين عبيد مصر والتّرك؛ ووصل ناصر الدولة بن حمدان
إلى الإسكندرية، والتقى مع العبيد بموضع يعرف بالكرم؛ فقتل من العبيد
ألف رجل، وهرب من بقى. ثم تردّدت الرسل فى إصلاح ذات البين فتمّ. وقد
تقدّم شىء من ذلك فى ترجمة المستنصر هذا.
وفيها جرت مراسلة بين قاورد بك ابن [أخى] «1» طغرلبك السّلجوقىّ وبين
أخيه ألب أرسلان، وسببه أن ألب أرسلان لمّا ملك الرىّ واستولى على
الأموال.
كان قاورد بك على أصبهان فرجع إلى كرمان وخطب لألب أرسلان المذكور
ولنفسه من بعده؛ فلم يحصل له إنصاف من ألب أرسلان؛ فوقع بسبب ذلك ما
وقع.
(5/74)
وفيها توفّى الحسن بن عبد الله بن أحمد أبو
الفتح الحلبىّ الشاعر المعروف بآبن أبى حصينة. كان فاضلا شجاعا فصيحا،
يخاطب بالأمير.
وفيها توفّى عبد الواحد بن علىّ بن برهان «1» أبو القاسم النحوىّ. كان
إماما فاضلا نحويّا وفيه شراسة خلق؛ ولم يلبس سراويل قطّ ولا غطّى رأسه
أبدا. ومات ببغداد فى جمادى الأولى.
وفيها توفّى علىّ بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف ابن
معدان بن سفيان بن يزيد مولى يزيد بن أبى سفيان بن حرب بن أميّة الأموى
الفارسىّ الأصل، ثمّ الأندلسىّ القرطبىّ أبو محمد المعروف بآبن حزم
المحدّث صاحب التصانيف المشهورة. كان ظاهرىّ المذهب. وقد تكلّم فيه كلّ
أحد ما خلا أهل الحديث، فإنّهم أثبتوا «2» على حفظه. كان إماما عارفا
بفنون الحديث، إلا أنّه كان صاحب لسان خبيث، ويقع فى حقّ العلماء
الأعلام حتّى صار مثلا، فيقال:
«نعوذ بالله من سيف الحجّاج ولسان ابن حزم» . وكان له شعر جيّد. فمن
ذلك قوله:
[الوافر]
لئن أصبحت مرتحلا بجسمى ... فقلبى عندكم أبدا مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
(5/75)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 457]
السنة الثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة سبع وخمسين
وأربعمائة.
فيها توفّى محمد «1» بن منصور أبو نصر عميد الملك الكندرىّ وزير
السلطان طغرلبك السّلجوقى. كان فاضلا مدبّرا حازما عاقلا. وكان طغرلبك
فى مبدأ أمره قد بعثه ليخطب له امرأة فتزوّجها هو، فحصاه طغرلبك ثم
أقرّه على خدمته، فآستولى عليه إلى أن مات. ووزر بعد موت طغرلبك لابنه
ألب أرسلان وهو الذي قتله. وولى الوزارة بعده نظام الملك الذي نشر مذهب
الإمام الشافعى بالعجم. وكان عميد الملك المذكور فاضلا أديبا شاعرا.
ومن شعره لمّا تحقّق قتله، وأجاد إلى الغاية:
[البسيط]
إن كان بالناس ضيق عن مزاحمتى ... فالموت قد وسّع الدنيا على الناس
قضيت والشامت المغرور يتبعنى ... إنّ المنية كاس كلّنا حاسى
وفيها توفّى عبيد «2» الله بن عمر القاضى أبو زيد الدّبوسىّ «3»
الحنفىّ شيخ الحنفيّة بما وراء النهر «4» . كان إماما عالما فقيها
نحويّا بارعا فى فنون عفيفا مشكور السّيرة،
(5/76)
انتهت إليه رياسة مذهب أبى حنيفة فى زمانه
بما وراء النهر، ومات والمعوّل على فتواه بها.
وفيها توفّى عبد الملك «1» بن محمد بن عبد الله بن بشران أبو القاسم
الواعظ الفقيه المحدّث فى شهر ربيع الآخر. وكان له لسان حلو فى الوعظ
مع دين وزهد وعفّة.
وفيها توفّى موسى «2» بن عيسى بن أبى حاجّ أبو عمران الفقيه المالكىّ
القابسىّ، شيخ المالكيّة فى زمانه. كان فقيها نحويّا إماما فاضلا بارعا
فى فنون من العلوم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 458]
السنة الحادية والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثمان
وخمسين وأربعمائة.
فيها شرع أهل الكرخ فى عمل مأتم الحسين فى يوم عاشوراء، فثار عليهم أهل
السنّة. فقال القائم بأمر الله: هذا شىء قد كان فلا تعاودوه، ونهى عنه.
فانكفّت الرافضة بغيظهم إلى لعنة الله.
وفيها توفّى أحمد بن الحسين بن علىّ بن عبد الله الحافظ أبو بكر
البيهقىّ؛ مولده سنة أربع وثمانين. كان أوحد زمانه فى الحديث والفقه،
وله تصانيف كثيرة، جمع نصوص الإمام الشافعىّ- رضى الله عنه- فى عشرة
مجلّدات. ومات بنيسابور فى جمادى
(5/77)
الاخرة، ونقل تابوته إلى بيهق «1» . وقد
روينا سننه الكبرى عن الشيخ أبى النعيم رضوان العقبىّ ثنا «2» التقىّ
بن حاتم انا علىّ بن عمر الأرموىّ «3» انا ابن البخارىّ «4» انا منصور
«5» بن عبد المنعم الفراوىّ انا محمد بن إسماعيل «6» الفارسىّ انا أبو
بكر البيهقىّ.
وفيها توفّى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفرّاء أبو
يعلى القاضى الحنبلىّ. ولد سنة ثمانين وثلثمائة فى المحرّم، وسمع
الكثير وتفقّه على جماعة من العلماء، وانتهت إليه رياسة الحنابلة فى
زمانه، ومات يوم الاثنين العشرين من شهر رمضان، وكانت جنازته مشهورة
مشى فيها الأعيان مثل القاضى الدّامغانىّ الحنفىّ ونقيب الهاشميّين أبى
الفوارس طرّاد وغيرهما.
وفيها توفّى محمد «7» بن الفضل بن نظيف أبو عبد الله المصرىّ الفرّاء
فى شهر ربيع الآخر وله تسعون سنة، وكان إماما عالما زاهدا ورعا.
وفيها توفّى المسدّد «8» بن علىّ أبو المعمّر الأملوكىّ الإمام المحدّث
البارع خطيب حمص. كان إماما فقيها فصيحا، سمع الحديث ورواه.
(5/78)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث
أذرع وأربع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع عشرة
إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 459]
السنة الثانية والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة تسع
وخمسين وأربعمائة.
فيها بعث المستنصر صاحب الترجمة إلى محمود بن الرّوقلية المتغلّب على
حلب يطالبه بحمل المال وغزّو الروم، وصرف ابن خاقان «1» ومن معه من
الغزّ إن كان على طاعته. فأجاب بأنّنى التزمت على أخذ حلب من عمّى
أموالا افترضتها وأنا مطالب بها، وليس فى يدى ما أقضيها فضلا عمّا
أصرفه لغيره. وأمّا الرّوم فقد هادنتهم مدّة وأعطيتهم ولدى رهينة على
مال اقترضته منهم، فلا سبيل إلى محاربتهم. وأمّا ابن خاقان والغزّ معه
فيدهم فوق يدى. فلمّا وصل الجواب إلى المستنصر كتب المستنصر أيضا إلى
بدر الجمالىّ أمير الجيوش المقيم بدمشق: إنّ ابن الرّوقلية خلع الطاعة
ومال إلى جهة العراقية. ثم ندب بدر الجمالىّ المذكور عطيّة وهو
بالرّحبة لقتاله؛ فدخل القاضى ابن عمّار المقيم بطرابلس بينهم وأصلح
الحال.
وفيها كان بمصر الغلاء والقحط المتواتر الذي خرج عن الحدّ- وقد تقدّم
ذكره- ولا زال فى زيادة فى هذه السنة والتى قبلها إلى أن أخذ أمره فى
نقص فى سنة إحدى وستّين وأربعمائة. وأبيع القمح فى هذه السنة بثمانين
دينارا الإردبّ.
وفيها توفّى سعيد بن محمد بن الحسن أبو القاسم إمام جامع صور. كان
فاضلا سمع الحديث ورواه، ومن رواياته عن الحسن البصرىّ أنه قال: «لا
تشتروا مودّة ألف رجل بعداوة رجل واحد» .
(5/79)
وفيها توفّى علىّ بن الخضر أبو الحسن
العثمانىّ الدمشقىّ الحاسب. كان له تصانيف فى علم الحساب. ومات بدمشق
فى شوّال.
وفيها كان بالرملة الزّلزلة الهائلة التى أخربتها حتّى طلع الماء من
رءوس الآبار، وهلك من أهلها- كما نقل ابن الأثير- خمسة وعشرون ألفا.
وقال ابن الصابئ:
حدّثنى علوىّ كان بالحجاز: أنّ الزلزلة كانت عندهم فى الوقت المذكور،
وهو يوم الثلاثاء حادى عشر جمادى الأولى، فرمت شرفتين من مسجد النّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم، وانشقّت الأرض فبان فيها كنوز ذهب وفضّة،
وانفجرت فيها عين ماء، وأنها أهلكت أيلة ومن فيها؛ وذكر أشياء كثيرة من
هذه المقولة. وأمّا ابن الأثير فإنّه قال: وانشقّت صخرة بيت المقدس
وعادت بإذن الله، وأبعد البحر عن ساحله مسيرة يوم، فنزل النّاس إلى
أرضه يلتقطون السمك فرجع الماء عليهم فأهلكهم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 460]
السنة الثالثة والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ستّين
وأربعمائة.
فيها ولّى المستنصر دمشق للأمير بارزطغان قطب الدولة، ووصل معه الشريف
أبو طاهر حيدرة، ونزل بدار العقيقىّ «1» ، وانهزم بدر الجمالىّ أمير
الجيوش من دمشق، فنهب أهلها خزائنه لأنّه كان مسيئا إليهم؛ ثم ظفر بدر
الجمالى بالشريف حيدرة بعد أمور صدرت وسلخه.
(5/80)
وفيها جاء ناصر الدولة بالأتراك إلى باب
المستنصر بالقاهرة- وقيل: بالساحل- وزحف المذكورون إلى باب وزيره ابن
كدينة «1» فطالبوه بالمال؛ فقال: وأىّ مال بقى عندى بعد أخذكم الأموال
واقتسامكم الإقطاعات! فقالوا: لا بدّ أن تكتب إلى المستنصر. فكتب إليه
بما جرى. فكتب المستنصر الجواب على الرّقعة بخطه يقول:
[السريع]
أصبحت لا أرجو ولا أتّقى ... إلّا إلهى وله الفضل
جدّى نبيّى وإمامى أبى ... وقولى التوحيد والعدل
المال مال الله، والعبد عبد الله، والإعطاء خير من المنع وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عقيل الشّهرزورىّ «2» الشاعر الفاضل فى
القدس الشريف. وكان إماما فاضلا أديبا شاعرا. ومن شعره:
[البسيط]
وا حسرتا مات حظّى من قلوبكم ... وللحظوظ كما للناس آجال
وفيها توفّى الحسن بن أبى طاهر بن الحسن أبو على الختّلىّ «3» . كان
يسكن دمشق وبها توفّى. ومن رواياته عن الحسن عن الحسن عن الحسن عن
الحسن عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أحسن الحسن الخلق
الحسن» فالحسن الأوّل
(5/81)
ابن حسّان التميمىّ، والثانى ابن دينار،
والثالث البصرىّ، والرابع ابن علىّ ابن أبى طالب، رضى الله عنهما.
وفيها توفّيت خديجة بنت محمد بن علىّ بن عبد الله الواعظة
الشّاهجانيّة. كانت عظيمة مشهورة بالصدق والورع والزهد والدّين المتين.
ولدت «1» سنة ستّ وسبعين وثلثمائة. وكانت تسكن قطيعة الربيع «2» .
وصحبت ابن «3» سمعون الواعظ. ولمّا ماتت دفنت إلى جانبه.
وفيها توفّى عبد الملك بن محمد بن يوسف أبو منصور البغدادىّ، كان إماما
بارعا لم يكن فى زمانه من يخاطب بالشيخ الأجلّ سواه. ولد سنة خمس
وتسعين وثلثمائة، وكان أوحد زمانه فى فعل المعروف، والقيام بأمور
العلماء، وقمع أهل البدع.
وفيها توفّى أبو جعفر الطّوسىّ «4» فقيه الإماميّة الرافضة وعالمهم.
وهو صاحب «التفسير الكبير» وهو عشرون مجلّدا، وله تصانيف أخر. مات
بمشهد علىّ- رضى الله عنه- وكان مجاورا بضريحه. كان رافضيّا قوىّ
التشيّع.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عيسى بن هلال أبو عمر القرطبىّ المعروف
بابن القطّان المالكىّ المغربىّ شيخ المالكيّة فى زمانه وعالمهم. مات
فى هذه السنة وله سبعون سنة.
وفيها توفّى أحمد بن الفضل أبو بكر الباطرقانىّ «5» المقرئ فى صفر وله
ثمان وثمانون سنة. كان إماما عالما بالقراءات رحمه الله.
(5/82)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع
أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وستّ أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 461]
السنة الرابعة والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة إحدى
وستّين وأربعمائة.
فيها خرج ناصر الدولة بن حمدان من عند الوزير أبى عبد الله [الماسكىّ
«1» ] وزير المستنصر بمصر؛ فوثب عليه رجل صيرفىّ وضربه بسكّين؛ فأمسك
الصيرفىّ وشنق فى الحال، وحمل ناصر الدولة بن حمدان إلى داره جريحا،
فعولج فبرىء بعد مدّة.
وقيل: إنّ المستنصر ووالدته كانا دسّا الصيرفىّ عليه. وفى هذه الأيام
اضمحلّ أمر المستنصر بالديار المصريّة لتشاغله باللهو والشرب والطّرب.
فلمّا عوفى ابن حمدان اتّفق مع مقدّمى المشارقة، مثل سنان الدولة
وسلطان الجيوش وغيرهما، فركبوا وحصروا القاهرة. فاستنجد المستنصر وأمّه
بأهل مصر، وأذكرهم حقوقه عليهم، ووعدهم بالإحسان؛ فقاموا معه ونهبوا
دور أصحاب ابن حمدان وقاتلوهم. فخاف ابن حمدان وأصحابه، ودخلوا تحت
طاعة المستنصر، بعد أمور كثيرة صدرت بين الفريقين.
وفيها أبيع القمح بمصر بمائة دينار الإردبّ، ثمّ عدم وجوده. وقد ذكرنا
ذلك كلّه فى أوّل ترجمة المستنصر مفصّلا.
(5/83)
وفيها توفّى عبد الرحيم بن أحمد بن نصر
الحافظ أبو زكريّا البخارىّ التميمىّ، سمع الحديث وطاف البلاد فى طلب
الحديث، وسمع بعدّة أقطار واتّفقوا على صدقه وثقته. وكانت وفاته فى
المحرّم بمصر.
وفيها توفّى محمد بن مكّى بن عثمان الحافظ أبو الحسين الأزدىّ المصرىّ
فى جمادى الأولى، وكان إماما فاضلا محدّثا، سمع الحديث ورحل البلاد.
وفيها توفّى نصر بن عبد العزيز أبو الحسين الشّيرازىّ الفارسىّ المقرئ،
كان إماما فى علم القراءات، وله سماع ورواية.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وأربع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 462]
السنة الخامسة والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة
اثنتين وستّين وأربعمائة.
فيها كان معظم الغلاء بالديار المصريّة حتّى خربت وخرب غالب أعمالها.
وأبطل صاحب مكّة و [صاحب «1» ] المدينة خطبة المستنصر، وخطبا للقائم
بأمر الله العبّاسىّ؛ فلم يلتفت المستنصر لذلك لشغله بنفسه ورعيّته من
عظم الغلاء.
وفيها وقف الوزير نظام الملك الأوقاف على مدرسته النظاميّة ببغداد.
(5/84)
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن محمد أبو
الجوائز الواسطىّ الكاتب، ولد سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة؛ وسكن بغداد
دهرا طويلا. وكان شاعرا ماهرا. ومن شعره- رحمه الله تعالى-:
[الرجز]
واحربا «1» من قولها: ... خان عهودى ولها
وحقّ من صيّرنى ... وقفا عليها ولها
ما خطرت بخاطرى ... إلا كستنى ولها
وفيها توفّى الشريف حيدرة بن إبراهيم أبو طاهر بن أبى الجنّ، الشريف
العلوىّ. كان عالما قارئا محدّثا وكان عدوّا لبدر الجمالىّ؛ فلمّا دخل
بدر الجمالىّ دمشق هرب منها حيدرة المذكور إلى عمّان «2» البلقاء؛ فغدر
به بدر بن حازم وبعث به إلى بدر الجمالىّ بعد أن أعطاه بدر الجمالىّ
اثنى عشر ألف دينار وخلعا كثيرة؛ فقتله بدر الجمالىّ أقبح قتله ثمّ سلخ
جلده. وقيل: سلخه حيّا. وأظنّ القاضى شهاب الدين أحمد قاضى دمشق وكاتب
مصر فى زماننا هذا كان من ذرّيّة ابن أبى الجنّ هذا. والله أعلم.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن سهل أبو غالب بن بشران النحوىّ الواسطىّ
الحنفىّ ويعرف بابن الخالة. كان إماما عالما فاضلا عارفا بالأدب
والنّحو واللّغة والحديث وللفقه، وكان شيخ العراق ورحلته. وابن بشران
جدّه لأمّه. ومات بواسط.
ومن شعره:
[المتقارب]
يقول الحبيب غداة الوداع ... كأن قد رحلنا فما تصنع
فقلت أواصل سفح «3» الدموع ... وأهجر نومى فما أهجع
(5/85)
وله أيضا:
[البسيط]
لمّا رأيت سلوّى غير متّجه ... وأنّ عزم اصطبارى عاد مفلولا
دخلت بالرّغم منّى تحت طاعتكم ... ليقضى الله أمرا كان مفعولا
وفيها توفّى هزار سب بن تنكر «1» بن عياض أبو كاليجار تاج الملوك
الكردىّ. كان قدم على السلطان ألب أرسلان السلجوقىّ بأصبهان ثمّ عاد
إلى خوزستان، ونزل بموضع يعرف بخرندة «2» . وكان قد تجبّر وتكبر «3»
وتسلط وتفرعن وتزوّج بأخت السلطان ألب أرسلان، فلحقه مرض الذّرب حتى
مات منه.
وفيها توفّى محمد بن عتّاب الإمام الفقيه أبو عبد الله القرطبىّ
المالكىّ مفتى قرطبة وعالمها، انتهت إليه رياسة مذهبه فى زمانه ببلاد
قرطبة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ
الزيادة ستّ عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 463]
السنة السادسة والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهذه سنة ثلاث
وستين وأربعمائة.
فيها كانت الواقعة العظيمة بين السلطان ألب أرسلان بن طغرلبك
السّلجوقىّ وبين ملك الرّوم، وانتصر المسلمون ولله الحمد. ثم سار ألب
أرسلان إلى ديار بكر وافتتح بها عدّة حصون، ثم نزل على الفرات؛ ولم
يخرج إليه محمود صاحب حلب
(5/86)
فغاظه ذلك، فقدم حلب فسار إليها ووصلها،
وأخربت عساكره حلب ونهبوها، ووصلت عساكره إلى القريتين «1» من أعمال
حمص؛ ثم شفع فيه الخليفة القائم بأمر الله، فقبل ألب أرسلان الشّفاعة
واصطلحا.
وفيها ملكت الفرنج جزيرة صقلّيّة. وسببه أنّه كان بها وال، فبعث إليه
المستنصر صاحب مصر يطلب منه المال، وكان عاجزا عمّا طلب منه، فبعث إلى
الفرنج وفتح لهم باب البلد فدخلوا وقتلوا «2» وملكوا الجزيرة.
وفيها ظهر أتسز بن أوق مقدّم الأتراك، وفتح الرّملة وبيت المقدس، وضايق
دمشق، وأخرب الشام.
وفيها توفّى أحمد بن علىّ بن ثابت بن أحمد بن مهدى أبو بكر الخطيب
البغدادىّ.
ولد سنة إحدى وتسعين وثلثمائة بدرزيجان (قرية من قرى العراق) ثمّ انتقل
إلى بغداد، ورحل وسمع الحديث، وصنّف الكتب الكثيرة. ويروى عن أبى «3»
الحسين ابن الطيورىّ أنه قال: أكثر كتب الخطيب مستفادة من كتب الصورىّ
«4» (يعنى أخذها برقتها) . منها: «تاريخ بغداد» الذي تكلّم فيه فى غالب
علماء الإسلام بالألفاظ القبيحة بالرّوايات الواهية الأسانيد المنقطعة،
حتى امتحن فى دنياه بأمور قبيحة- نسأل الله السلامة وحسن العاقبة- ورمى
بعظائم. وأمر صاحب دمشق بقتله لولا [أنه] استجار بالشريف ابن أبى الجنّ
«5» فأجاره. وقصته مع الصبىّ الذي عشقه
(5/87)
مشهورة. ومن أراد شيئا من ذلك فلينظر فى
تاريخ الإمام الحافظ الحجة أبى الفرج ابن الجوزى المسمّى ب «المنتظم» ؛
وأيضا ينظر فى تاريخ العلّامة شمس الدين يوسف ابن قزأوغلى (أعنى مرآة
الزمان) وما وقع له من الأمور والمحن. وما ربّك بظلّام للعبيد. أضربت
عن ذكر [ذلك] كلّه لكونه متخلّقا بأخلاق الفقهاء، وأيضا من حملة الحديث
الشريف. غير أنّنى أذكر من شعره ما تغزّل «1» به فى محبوبه المذكور.
فمن ذلك قوله من قصيدة أوّلها:
[البسيط]
تغيّب الناس عن عينى سوى قمر ... حسبى من الناس طرّا ذلك القمر
وكلّه على هذه الكيفيّة.
وفيها توفّى أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون أبو الوليد
المخزومىّ الأندليسىّ القرطبىّ الشاعر المشهور المعروف بابن زيدون،
حامل لواء الشعراء فى عصره. كانت وفاته فى شهر رجب بمدينة إشبيلية. ومن
شعره:
[السريع]
أيّتها النفس إليه اذهبى ... فما لقلبى عنه من مذهب
مفضّض الثغر له نقطة ... من عنبر فى خدّه المذهب
أنسانى التّوبة من حبّه ... طلوعه شمسا من المغرب
وله القصيدة التى سارت بها الركبان الموسومة بالزيدونية التى أوّلها
«2» :
[البسيط]
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفّت مآقينا
(5/88)
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن محمد بن حباب
أبو عبد الله الصّورىّ الشاعر المشهور.
كان فاضلا فصيحا. مات بطرابلس. ومن شعره أوّل قصيدة:
[الكامل]
صبّ جفاه حبيبه ... فحلا له تعذيبه
وفيها توفّى محمد بن وشاح بن عبد الله أبو علىّ. ولد سنة تسع وسبعين
وثلثمائة.
وكان فاضلا كاتبا شاعرا فصيحا مترسّلا. رحمه الله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** ا
[ما وقع من الحوادث سنة 464]
لسنة السابعة والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة أربع
وستين وأربعمائة.
فيها بعث الخليفة القائم بأمر الله الشريف أبا طالب الحسن بن محمد أخا
طرّاد الزّينبىّ إلى أبى هاشم محمد أمير مكّة بمال وخلع، وقال له: غيّر
الأذان وأبطل «حىّ على خير العمل» . فناظره أبو هاشم المذكور مناظرة
طويلة، وقال له: هذا أذان أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب. فقال له أخو
الشريف: ما صحّ عنه، وإنّما عبد الله بن عمر بن الخطّاب روى عنه أنه
أذّن به فى بعض أسفاره، وما أنت وابن عمر! فأسقطه من الأذان.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عثمان القاضى أبو طالب أمير الدولة،
الحاكم على طرابلس الشأم والمتولّى عليها. وكان كريما، كثير الصدقة،
عظيم المراعاة للعلويّين.
مات فى نصف شهر رجب.
(5/89)
وفيها توفّى عيسون «1» بن علىّ الشيخ أبو بكر الصّقلّى الزاهد المشهور.
كان كثير العبادة والزّهد والورع. صنّف كتابا سماه «دليل القاصدين» فى
اثنى عشر مجلدا.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصّمد ابن
الخليفة المهتدى بالله أبو الحسين «2» الهاشمىّ العبّاسىّ، خطيب جامع
المنصور ببغداد. كان صالحا عالما زاهدا ثقة.
وفيها توفّى المعتضد «3» بالله عبّاد بن محمد بن إسماعيل بن عبّاد
الملك الجليل صاحب إشبيلية من بلاد الغرب، فى قول الذهبىّ. كان من أجلّ
ملوك المغرب وأعظمهم؛ وكان محبّا للعلماء والشعراء، وعنده فضيلة
ومشاركة. وكان ابن زيدون الشاعر- المقدّم ذكره- عنده فى صورة وزير.
رحمه الله تعالى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ
الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشر أصابع. |