النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 475]
السنة الثامنة والأربعون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة خمس
وسبعين وأربعمائة.
فيها شفع أرتق بك إلى تاج الدولة تتش صاحب الشام فى مسمار الكلبىّ
فأفرج عنه، وسار الأمير أرتق بك إلى القدس.
وفيها فتح ابن قتلمش حصن أنطرطوس من الروم، وبعث إلى ابن عمّار قاضى
طرابلس وصاحبها يطلب منه قاضيا وخطيبا.
وفيها سار مسلم بن قريش صاحب حلب إلى دمشق وحصر بها صاحبها تتش، ثم عاد
عنها ولم يظفر بطائل.
وفيها توفّى ابن ماكولا علىّ بن هبة الله بن علىّ بن جعفر بن علكان بن
محمد ابن دلف ابن الأمير أبى دلف القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل
العجلىّ.
وعجل: بطن من بكر بن وائل من أمة ربيعة أخى مضر ابنى نزار بن معدّ بن
عدنان.
قال شيرويه فى طبقاته: وكان يعرف بالوزير سعد الملك بن ماكولا، وولد
بعكبرا فى سنة إحدى وعشرين وأربعمائة فى شعبان، وكنيته أبو نصر. قال
صاحب مرآة الزمان: «الأمير الحافظ أبو نصر العجلىّ» . قال أبو عبد الله
«1» الحميدىّ: ما راجعت الخطيب فى شىء إلّا وأحالنى على كتاب «2» وقال:
حتّى أبصره؛ وما راجعت أبا نصر ابن ماكولا فى شىء إلّا وأجابنى حفظا،
كأنّه يقرأ من كتاب. قلت: وهو الذي صنّف عن أوهام الخطيب كتابا سماه
«مستمرّ الأوهام» . ومات فى هذه
(5/115)
السنة. وقيل سنة تسع وسبعين، وقيل سنة سبع
وثمانين. ومن شعره- رحمه الله-:
[الطويل]
ولمّا توافينا تباكت قلوبنا ... فمسك دمع يوم ذاك كساكبه
فيا كبدى الحرّى البسى ثوب حسرة ... فراق الذي تهوينه قد كساك به
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن عيسى «1» الإمام أبو بكر السّمسار. مات فى
شوّال.
كان إماما فاضلا بارعا، سمع الحديث وبرع فى فنون.
وفيها وقع الطاعون ببغداد ثم بمصر وما والاهما، فمات فيه خلق كثير.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى عشرة ذراعا. ثم زاد حتّى
كان مبلغ الزيادة فى هذه السنة خمس عشرة ذراعا وعشر أصابع. ثم نقص فى
خامس بابة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 476]
السنة التاسعة والأربعون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ستّ
وسبعين وأربعمائة.
فيها عزل المقتدى بالله العباسىّ عميد الدولة عن الوزارة.
وفيها سلّم ابن صقيل قلعة بعلبكّ إلى تاج الدولة تتش صاحب الشام، وكان
مقيما فيها من قبل المستنصر العبيدىّ صاحب الترجمة، وكان ذلك فى صفر.
وفيها عزم تتش صاحب دمشق على مصاهرة أمير الجيوش بدر الجمالىّ وزير مصر
وصاحب عقدها وحلها [على ابنته»
] ، فأشار ابن عمّار قاضى طرابلس وصاحبها على تتش بألّا يفعل، فثنى
عزمه عن ذلك.
(5/116)
وفيها توفّى سلطان شاه بن قاورد بك بن داود
بن ميكائيل السّلجوقىّ صاحب كرمان وابن عمّ السلطان ملكشاه؛ فقدمت أمّه
على ملكشاه بهدايا وأموال، فأكرمها وأقرّ ولدها الآخر مكانه.
وفيها تغيّرت نيّة السلطان ملكشاة على وزيره نظام الملك، ثمّ أصلح نظام
الملك أمره معه.
وفيها توفّى إبراهيم بن علىّ بن يوسف أبو إسحاق الفيروزابادىّ
الشيرازىّ الشافعىّ. ولد سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، وتفقّه بفارس على
أبى عبد الله «1» البيضاوىّ، وببغداد على أبى الطّيب الطّبرىّ. وسمع
الحديث، وكان إماما فقيها عالما زاهدا.
ولما قدم خراسان فى الرسالة تلقّاه الناس وخرجوا إليه من نيسابور، فحمل
إمام الحرمين أبو المعالى الجوينىّ غاشيته «2» ومشى بين يديه كالخدم
وقال: أنا أفتخر بهذا «3» .
قال أبو المظفر فى المرآة: وما عيب عليه شىء إلّا دخوله النّظاميّة «4»
، وذكره الدروس
(5/117)
[بها «1» ] ، لأنّ حاله فى الزهد والورع
خلاف ذلك. ثم ساق له أشعارا كثيرة. منها فى غريق فى الماء:
[الطويل]
غريق كأنّ الموت رقّ لأخذه ... فلان له فى صورة الماء جانبه
أبى الله أن أنساه دهرى فإنّه ... توفّاه فى الماء الذي أنا شاربه
وله:
[الوافر]
سالت الناس عن خلّ وفى ... فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسّك إن ظقرت بود «2» حرّ ... فإنّ الحرّ فى الدنيا قليل
وكانت وفاته ببغداد من الجانب الشرقى.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد بن إسماعيل أبو طاهر بن أبى الصقر
«3» الأنبارىّ، كان محدّثا فاضلا ثقة صدوقا صاحب صيام وقيام. وله شعر.
وأنشد لابن الرومىّ:
[الكامل]
يا دهر صافيت اللئام مواليّا ... أبدا وعاديت الأكارم عامدا
فغدرت كالميزان ترفع ناقصا ... أبدا وتخفض لا محالة زائدا
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا.
وفتح الخليج فى ثانى النسىء. وكان الوفاء فى ثامن توت. وكان مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع أصابع. ونقص فى تاسع بابة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 477]
السنة الخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة سبع وسبعين
وأربعمائة.
(5/118)
فيها بنى أمير الجيوش بدر الجمالىّ جامع
العطّارين «1» بالإسكندرية. وسببه أنّ ولد بدر الجمالىّ عصى عليه
وتحصّن بالإسكندرية. فسار إليه أبوه بدر الجمالىّ حتى نزل على
الإسكندرية وحاصرها شهرا حتّى طلب أهلها الأمان وفتحوا له الباب،
فدخلها وأخذ ابنه أسيرا ثم بنى هذا الجامع.
وفيها توفّى عبد السعيد بن محمد بن عبد الواحد أبو نصر بن الصبّاغ
الفقيه الشافعىّ. ولد سنة أربعمائة، وتفقّه وبرع حتّى صار فقيه العراق،
وكان يقدّم على أبى إسحاق الشيرازىّ فى معرفة مذهبه. وصنّف الكتب فى
الفقه، منها: «الشامل» و «الكامل» و «تذكرة العالم» و «الطريق السالم»
. وولى تدريس النّظاميّة قبل أبى إسحاق عشرين يوما. ومات فى جمادى
الأولى.
وفيها توفّى مسلم بن قريش بن بدران الأمير أبو البركات شرف الدولة أمير
بنى عقيل صاحب الموصل والجزيرة وحلب. وزوّجه السلطان ألب أرسلان
السلجوقى أخته. وكان شجاعا جوادا ذا همّة وعزم، احتاج إليه الخلفاء
والملوك والوزراء، وخطب له على المنابر من بغداد إلى العواصم والشام.
وأقام حاكما على البلاد نيّفا وعشرين سنة. ولمّا مدحه ابن حيّوس
بقصيدته التى أوّلها:
[الكامل]
ما أدرك الطّلبات «2» مثل مصمّم ... إن أقدمت أعداؤه لم يحجم
فأعطاه الموصل جائزة له، فأقامت فى حكمه ستة أشهر. وقتل مسلم هذا فى
وقعة كانت بينه و [بين سليمان «3» بن] قتلمش فى هذه السنة.
(5/119)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس
أذرع وأربع عشرة إصبعا.
وفتح الخليج فى رابع عشرين مسرى، والماء على اثنتى عشرة إصبعا من ست
عشرة ذراعا. وكان الوفاء آخر أيام النسىء. ووقف مدّة ثم نقص فى العشرين
من توت بعد ما بلغ سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 478]
السنة الحادية والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثمان
وسبعين وأربعمائة.
فيها وقع طاعون عظيم بالعراق ثم عمّ الدنيا؛ فكان الرجل قاعدا فى شغله
فتثور به الصفراء فتصرعه فيموت من وقته. ثم هبّت ريح سوداء ببغداد،
أظلمت الدنيا، ولاحت نيران فى أطراف السماء وأصوات هائلة، فأهلكت خلقا
كثيرا من الناس والبهائم. فكان أهل الدرب يموتون فيسدّ الدرب عليهم.
قاله صاحب مرآة الزمان- رحمه الله-.
وفيها اتّفق جماعة بمصر مع ولد أمير الجيوش بدر الجمالىّ على قتل والده
وينفرد الولد بالملك، ففطن به أبوه فقتل الجماعة وعفّى أثر ولده؛
ويقال: إنّه دفنه حيّا، وقيل: غرّقه، وقيل: جوّعه حتى مات. وكان بدر
الجمالىّ أرمنىّ الجنس، فاتكا جبّارا، قتل خلقا كثيرا من العلماء
وغيرهم، وأقام الأذان ب «حىّ على خير العمل» ، وكبّر على الجنائز خمسا،
وكتب سبّ الصحابة على الحيطان. قلت: وبالجملة إنّه كان من مساوئ
الدنيا، جزاه الله. وغالب من كان بمصر فى تلك الأيام كان رافضيّا خبيثا
بسبب ولاة مصر بنى عبيد إلّا من ثبّته الله تعالى على السنّة.
(5/120)
وفيها توفّى أحمد بن الحسن «1» بن محمد بن
إبراهيم أبو بكر سبط ابن فورك وختن أبى القاسم القشيرىّ على ابنته،
وكان يعظ فى النّظاميّة، وكان قبيح السّيرة.
وفيها توفّى عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالى الجوينىّ
الفقيه الشافعىّ المعروف بإمام الحرمين. وجوين: قرية من قرى نيسابور.
ولد سنة سبع عشرة وأربعمائة، وتفقّه على والده فأقعد مكانه وله دون
العشرين من العمر، فأقام الدرس، وسمع بالبلاد، وحجّ وجاور؛ ثم عاد إلى
نيسابور، ودرّس بها ثلاثين سنة، وإليه المنبر والمحراب، ويجلس للوعظ،
وتخرّج به جماعة، وصنّف «نهاية المطلب [فى رواية «2» المذهب] » . وصنّف
فى الكلام الكتب الكثيرة: «الإرشاد» وغيره. قال صاحب مرآة الزمان: وقال
محمد بن علىّ تلميذ أبى المعالى الجوينىّ: دخلت عليه فى مرضه الذي مات
فيه وأسنانه تتناثر من فيه ويسقط منها الدود، لا يستطاع شمّ فيه؛ فقال:
هذه عقوبة اشتغالي بالكلام فاحذروه! وكانت وفاته ليلة الأربعاء الخامس
والعشرين من شهر ربيع الأوّل عن تسع وخمسين سنة.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد أبو علىّ
المتكلّم المعتزلىّ شيخ المعتزلة والفلاسفة والداعية إلى مذهبهم. وهو
من أهل الكرخ، وكان يدرّس هذه العلوم، فآضطرّه أهل السّنة إلى أنّه لزم
بيته خمسين سنة لا يتجاسر أن يظهر.
ومات فى ذى الحجة.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن محمد بن الحسن بن عبد الملك «3» بن عبد
الوهّاب بن حمويه، الإمام أبو عبد الله الدّامغانىّ القاضىّ الحنفىّ.
ولد بالدامغان فى شهر ربيع الآخر
(5/121)
سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وتفقّه ببلده،
ثم قدم بغداد وتفقّه أيضا بالصّيمرىّ والقدورىّ، وسمع منهما الحديث،
وبرع فى الفقه، وخصّ بالفضل الوافر والتواضع الزائد، وارتفع وشيوخه
أحياء، وانتهت إليه رياسة المذهب فى زمانه. وكان فصيح العبارة مليح
الإشارة غزير العلم سهل الأخلاق معظّما عند الخلفاء والملوك. ولى قضاء
القضاة ببغداد سنة سبع وأربعين، وصار رأس علماء عصره فى كلّ مذهب.
وحسنت سيرته فى القضاء حتّى أقام فيه ثلاثين سنة. ومات ليلة السبت
الرابع والعشرين من شهر رجب. وكانت جنازته عظيمة، نزع العلماء طيالستهم
ومشوا فيها، وكثر أسف الناس عليه. رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى منصور بن دبيس بن علىّ بن مزيد الأمير الرافضىّ أبو كامل
بهاء الدولة صاحب الحلّة. مات فيها فى شهر رجب، وكانت ولايته ستّ سنين.
وقام بعده ولده سيف الدولة صدقة. قلت: والجميع رافضة، كلّ واحد أنجس من
الآخر، عاملهم الله بما يستحقّونه.
وفيها توفّى هبة الله بن عبد الله بن أحمد أبو الحسن السّيبىّ «1»
البغدادىّ. سمع الحديث وتفقّه، وكان أديبا شاعرا فصيحا. مات فى
المحرّم. ومن شعره:
[المتقارب]
رجوت الثمانين من خالقى ... لما جاء فيها عن المصطفى
فبلّغنيها وشكرا له ... وزاد ثلاثا بها أردفا
وهأنا منتظر وعده ... لينجزه فهو أهل الوفا
(5/122)
وفيها توفّى يحيى بن محمد بن طباطبا الشريف
أبو المعمّر بقيّة «1» شيوخ الطالبيّين.
كان هو وأخوه من نسّابيهم، وكان فاضلا شاعرا فقيها فى مذهب الشّيعة.
ومات فى شهر رمضان. وهو آخر من بقى من أولاد طباطبا بالعراق ولم يعقب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة يأتى ذكره؛ لأنّ النيل لم يزد فى هذه السنة إلى أوّل مسرى
إلا ثلثى ذراع فقط، ثم زاد فى ثانى عشرين مسرى أذرعا حتى صار فى يوم
النوروز على ثلاث عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا. ثم نقص إصبعين ثم
ثمانيا، ثم زاد فى خامس توت ستّ أصابع؛ وخرج الناس إلى الجبل واستسقوا،
فزاد حتّى بلغ ثلاث عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا، ثم نقص سبع أصابع-
وقيل: ثمانيا- ثم زاد فى عيد الصليب حتّى صار على أربع عشرة ذراعا وخمس
عشرة إصبعا. ونقص تسع أصابع، ثم زاد فى أوّل بابة حتّى بلغ خمس عشرة
ذراعا وخمس أصابع. وكان ذلك منتهى زيادته فى هذه السنة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 479]
السنة الثانية والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة تسع
وسبعين وأربعمائة.
فيها صاد السلطان ملكشاه أربعة آلاف غزال- وقيل: عشرة آلاف وبنى
بقرونها منارة سمّاها أمّ القرون.
وفيها توفّى ختلغ بن كنتكين «2» الأمير أبو منصور أمير الكوفة والحاج.
ذمّه محمد ابن هلال الصابئ وذمّ سيرته فى تاريخه، إلّا أنّه كان شجاعا،
وله وقائع مع العرب
(5/123)
فى البرّيّة. وكان محافظا على الصلوات فى
الجماعة، ويختم القرآن فى كلّ يوم، ويختصّ بالعلماء والقرّاء، وله آثار
جميلة بطريق الحجاز والمشاهد والمساجد. ومكث فى إمارة الحاج اثنتى عشرة
سنة.
وفيها قتل سليمان بن قتلمش، هو ابن عمة السلطان ملكشاه السّلجوقىّ. كان
أميرا شجاعا، فتح عدّة بلاد، وآخر ما فتحه أنطاكية، وكان قد حاصر حلب
ورجع.
وقتل مسلم بن قريش فى حربه؛ فجاءه تاج الدولة تتش والأمير أرتق بك من
دمشق، والتّقوا معه واقتتلوا فجاء سليمان هذا سهم فى وجهه فوقع عن فرسه
ميتا، فدفن إلى جانب مسلم بن قريش الذي قتل فى محاربته قبل ذلك بأيام.
وفيها توفّى علىّ بن فضّال بن علىّ أبو الحسن المغربىّ الفيروانىّ. كان
فاضلا أديبا، له نظم ونثر. ومات بغزنة فى شهر ربيع الأوّل. ومن شعره
قوله:
[السريع]
إن تلقك الغربة فى معشر ... قد أجمعوا فيك على بغضهم
فدارهم ما دمت فى دارهم ... وأرضهم ما دمت فى أرضهم
وفيها توفّى علىّ بن المقلّد بن نصر بن منقذ بن محمد بن مالك الأمير
أبو الحسن الكنانىّ. كان بينه وبين ابن عمّار قاضى طرابلس وصاحبها
مودّة، وكان شجاعا فاضلا نحويّا لغويّا شاعرا، وكان صاحب شيزر وبها
توفّى. وتولّى شيزر بعده ابنه نصر بن علىّ. وكان له ديوان شعر مشهور.
ومن شعره:
[البسيط]
إذا ذكرت أياديك التى سلفت ... وسوء فعلى وزلّاتى ومجترمى
أكاد أقتل نفسى ثم يمنعنى ... علمى بأنّك مجبول على الكرم
وفيها توفى أبو سعيد «1» أحمد بن محمد بن دوست النيسابورىّ الفقيه
المحدّث الصوفىّ شيخ الشيوخ ببغداد.
(5/124)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ
أذرع وتسع عشرة إصبعا.
وزاد فى نصف بشنس، ثم نقص نصف ذراع، ثم زاد فى أوانه حتى أوفى فى ثالث
أيام النسىء. وكان مبلغ الزيادة فى هذه السنة سبع عشرة ذراعا وخمس عشرة
إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 480]
السنة الثالثة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثمانين
وأربعمائة.
فيها بعث تتش أخو السلطان ملكشاه يقول لأخيه: قد استولى المصريّون على
الساحل وضايقوا دمشق، وأسأل السلطان أن يأمر آق سنقر وبوزان «1» أن
ينجدانى.
فكتب ملكشاه إليهما أن ينجداه. وكان الأمير بوزان بالرّهاء وآق سنقر
بحلب.
وسبب ذلك أنّ أمير الجيوش بدرا الجمالىّ لمّا قوى أمره بمصر، وصار هو
المتحدّث عن المستنصر صاحب الترجمة بهذه البلاد، واسترجع كثيرا مما كان
ذهب من ممالكهم، جهّز «2» جيشا إلى الساحل. فعظم ذلك على تتش صاحب
دمشق.
وفيها بنى تاج الملك أبو الغنائم «3» ببغداد المدرسة التاجيّة بباب
أبرز «4» وضاهى بها النّظاميّة. قلت: ومن باب أبرز هذا أصل بنى البارزى
كتّاب سرّ زماننا هذا.
كان جدّهم مسلم يسكن فى بغداد بباب أبرز المذكور، ثم خرج من بغداد فى
جفلة التتار إلى حلب فسمّى الأبرزىّ، ثم خفّف فسمّى البارزىّ. ويأتى
ذكر جماعة منهم فى هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
(5/125)
وفيها توفّى شافع بن صالح بن حاتم أبو محمد
الفقيه الحنبلىّ «1» . كان إماما عالما، تفقّه على أبى يعلى، ومات فى
صفر ودفن بباب حرب، وكان صالحا زاهدا ثقة.
وفيها توفّى محمد بن هلال بن المحسّن بن إبراهيم الصابئ أبو الحسن
الملقّب بغرس النعمة صاحب التاريخ المسمّى ب «عيون التواريخ» ذيّله على
تاريخ أبيه، وأبوه ذيّله على تاريخ ثابت بن سنان، وثابت ذيّل على تاريخ
محمد بن جرير الطّبرىّ. وكان تاريخ الطبرىّ انتهى إلى سنة اثنتين أو
ثلاث وثلثمائة. وتاريخ ثابت انتهى إلى سنة ستين وثلثمائة. وتاريخ هلال
انتهى إلى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. وتاريخ غرس النعمة هذا انتهى
إلى سنة تسع وسبعين وأربعمائة. وكان غرس النعمة هذا فاضلا أديبا
مترسّلا، وله صدقة ومعروف، محترما عند الخلفاء والملوك والوزراء.
وجدّ أبيه إبراهيم الصابئ هو صاحب «الرسائل» فى أيام عضد الدولة بن
بويه.
وقد تقدّم ذكره فى محلّه من هذا الكتاب.
وفيها توفّى أمير الملثّمين «2» بمرّاكش وغيرها من بلاد المغرب الأمير
أبو بكر بن عمر. أصله من ولد تاشفين. كان أميرا جليلا يجاهدا فى سبيل
الله تعالى. ركب فى بعض غزواته فى خمسمائة ألف مقاتل من رجال الديوان
والمطّوّعة. وكان يخطب فى بلاده للدولة العباسيّة، وكان يصلّى بالناس
الصلوات الخمس، ويقيم الحدود، ويلبس الصوف، وينصف المظلوم، ويعدل فى
الرعيّة، وكان بين رعيّته كواحد منهم. رحمه الله تعالى.
(5/126)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ
أذرع وخمس أصابع.
وكان الوفاء فى آخر أيّام النسىء. وكان مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا
وسبع أصابع.
ونقص فى رابع بابة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 481]
السنة الرابعة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة إحدى
وثمانين وأربعمائة.
فيها توفّى أحمد بن محمد بن الحسن بن الخضر الحافظ أبو طاهر الجواليقىّ
والد أبى منصور موهوب. كان شيخا صالحا متعبّدا، من أهل البيوتات
القديمة ببغداد، وكان جدّه صاحب دنيا واسعة. ومات هو فجأة فى شهر رجب.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن علىّ بن محمد بن متّ بن أحمد بن علىّ
بن جعفر ابن منصور بن متّ الحافظ شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصارىّ
الهروىّ. هو من ولد أبى أيّوب الأنصارىّ رضى الله عنه. سمع الكثير وروى
عنه جماعة. وكان إماما حافظا بارعا فى اللغة إمام وقته. قال المؤتمن:
وكان يدخل على الأمراء والجبابرة فما كان يبالى بهم. ومات فى ذى الحجة
وقد جاوز أربعا وثمانين سنة.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن بن ماجة أبو بكر الأبهرىّ
الأصبهانىّ الإمام العالم المشهور. مات بأصبهان عن خمس وتسعين سنة، وقد
انتهت إليه رياسة العلم بها.
وفيها توفّى عثمان بن محمد بن عبيد الله أبو عمرو المحمىّ «1» . مات فى
صفر. وكان إماما عالما مفتنّا.
(5/127)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس
أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع. فهلكت الزروع والغلّات
والمخازن من كثرة الماء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 482]
السنة الخامسة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة اثنتين
وثمانين وأربعمائة.
فيها جهّز بدر الجمالىّ أمير الجيوش عسكرا من مصر مع نصير الدولة
الجيوشىّ، فنزل على صور وبها القاضى عين الدولة بن أبى عقيل، فسلّمها
إليه لمّا لم يكن له به طاقة. وفتح نصير الدولة صيداء وعكّا. وكان لتتش
بهذه البلاد ذخائر وأموال، فأخذها نصير الدولة المذكور، ثم نزل على
بعلبكّ، وجاءه ابن ملاعب وخطب للمستنصر صاحب الترجمة (أعنى أنه دخل تحت
طاعة المصريّين) . وبعث تتش إلى آق سنقر وبوزان وقال لهما: هذه البلاد
كان لى فيها ذخائر وقد أخذت، وطلب منهما النجدة، فبعثا له عسكرا.
وفيها توفّى طاهر بن بركات «1» بن إبراهيم الحافظ أبو الفضل القرشىّ
الخشوعىّ.
كان عظيم الشأن، من أكابر شيوخ دمشق. قال ابن عساكر: سألت ولده إبراهيم
ابن طاهر: لم سمّيتم الخشوعيّين؟ فقال: لأنّ جدّنا الأعلى كان يؤمّ
الناس فمات بالمحراب. انتهى. وكانت وفاة طاهر هذا بظاهر دمشق. وكان ثقة
صدوقا عالما.
وفيها توفى عاصم بن الحسن بن محمد بن على بن عاصم أبو الحسين. كان
ظريفا أديبا شاعرا فصيحا حافظا للشعر.
(5/128)
وفيها توفّى علىّ بن أبى يعلى بن زيد الشيخ
أبو القاسم الدّبوسىّ من أهل دبوسية، وهى بلدة بين بخارى وسمرقند. كان
إماما عالما. أقدمه الوزير نظام الملك إلى بغداد للتدريس [فى] مدرسته
النظاميّة. وكان عارفا بالفقه والجدل والمناظرة.
ومات ببغداد فى شعبان.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن صاعد رئيس نيسابور وعالمها وقاضيها أبو
نصر النيسابورىّ الحنفىّ. كان إمام وقته ووحيد دهره علما وزهدا وفضلا
ورياسة وعفّة. انتهت إليه رياسة السادة الحنفيّة فى زمانه.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو حامد أحمد بن محمد السّرخسىّ الشّجاعىّ
البلخىّ الفقيه العالم المشهور. كان إماما عالما فاضلا، سمع الحديث
الكثير وتفقّه وبرع فى فنون.
وفيها توفّى إبراهيم بن سعيد الحافظ أبو إسحاق النّعمانىّ مولاهم
الحبّال. كان إماما فاضلا حافظا، سمع الكثير ورحل البلاد وحدّث وسمع
منه خلائق، ثمّ سكن مصر، وبها كانت وفاته، ومات وله تسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 483]
السنة السادسة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثلاث
وثمانين وأربعمائة.
(5/129)
فيها نزل تتش على حصن بعلبكّ «1» وبها ابن
ملاعب ومع تتش آق سنقر وبوزان فقاتلوه مدّة، وقالوا له: أنت توجّهت إلى
مصر وخطبت للمستنصر. فلمّا أخافوه طلب الأمان فأعطوه؛ فنزل من القلعة
وتوجّه إلى مصر؛ وملك تتش بعلبكّ «2» . وأقام ابن ملاعب بمصر مدّة،
وأحسن إليه المستنصر صاحب الترجمة، ثمّ عاد إلى الشام ودبّر الحيلة على
حصن فامية حتّى ملكه.
وفيها توفّى الشيخ الإمام علىّ بن محمد القيروانىّ. كان فقيها عالما
شاعرا. ومن شعره- وأجاد إلى الغاية-:
[الكامل]
ما فى زمانك ماجد ... لو قد تأمّلت الشواهد «3»
فاشهد بصدق مقالتى ... أو لا فكذّبنى بواحد
قلت: لله درّه! لقد عبّر عن زماننا هذا كأنّه قد رآه.
وفيها توفّى محمد بن محمد بن جهير الوزير أبو نصر فخر الدولة. أصله من
الموصل وبها ولد، وقدم ميّافارقين. وكتب للخليفة القائم بأمر الله
العبّاسىّ يسأله أن يستوزره، فأجابه ثم نقم عليه ونفاه إلى الحلّة ثم
أعاده. ولما تولّى المقتدى الخلافة وزرله، ثم عزل ونفى؛ فمضى إلى
السلطان ملكشاه وانتمى إليه، وفتح له ديار بكر وأتحفه بالأموال. ثم
تغيّر عليه السلطان؛ فاستأذن فى الإقامة بالموصل فأذن له؛ فتوجّه إليه
فلم يقم به إلّا اليسير، ومرض ومات ودفن بالموصل. وكان سخيّا كريما
شجاعا مدبّرا عارفا.
(5/130)
وفيها توفّى الشيخ المسند أبو الحسين «1»
عاصم بن الحسن العاصمىّ الكرخىّ. كان إماما محدّثا، سمع الكثير وروى
عنه خلق كثير، وكان أديبا شاعرا ثقة.
وفيها توفّى الحافظ أبو نصر عبد العزيز بن محمد بن علىّ التّرياقىّ «2»
. مات بمدينة هراة وله أربع وتسعون سنة. وكان عالما محدّثا فقيها
فاضلا.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العارف بالله أبو بكر محمد بن إسماعيل
التّفليسىّ الصوفىّ النّيسابورىّ. مات فى شوّال بنيسابور، وكان إماما
محدّثا فقيها صوفيا معدودا من أعيان الصوفيّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وست وعشرون إصبعا. مبلغ
الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 484]
السنة السابعة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة أربع
وثمانين وأربعمائة.
فيها فى صفر كتب الوزير أبو شجاع إلى الخليفة يعرّفه باستطالة أهل
الذمّة على المسلمين، وأنّ الواجب تمييزهم عنهم؛ فأمره الخليفة أن يفعل
ما يراه. فألزمهم الوزير لبش الغيّار «3» والزّنانير وتعليق الدراهم
الرّصاص فى أعناقهم مكتوب على الدراهم [ذمىّ «4» ] ، وتجعل هذه الدراهم
أيضا فى أعناق نسائهم فى الحمّامات ليعرفن بها، وأن يلبسن الخفاف فردا
أسود وفردا أحمر، وجلجلا فى أرجلهنّ. فذلّوا وانقمعوا
(5/131)
بذلك. وأسلم حينئذ أبو سعد بن الموصّلايا
«1» ، كاتب الإنشاء للخليفة وابن أخته «2» أبو نصر هبة الله.
وفيها فى جمادى الأولى قدم أبو حامد الطّوسىّ الغزالىّ إلى بغداد
مدرّسا بالنظاميّة ومعه توقيع نظام الملك.
وفيها وقع بالشام زلزلة عظيمة ووافق «3» ذلك تشرين الأوّل، وخرج الناس
من دورهم هاربين، وانهدم معظم أنطاكية ووقع من سورها نحو من تسعين
برجا.
وفيها نزل آق سنقر على فامية فأخذها من ابن ملاعب.
وفيها فى شهر رمضان خرج توقيع الخليفة المقتدى بالله العبّاسىّ بعزل
الوزير أبى شجاع من الوزارة؛ وكان له أسباب، منها أنّ نظام الملك وزير
السلطان ملكشاه السلجوقىّ كان يسعى عليه لابنه. فلمّا أتاه الخبر بعزله
قام من الديوان ولم يتأثر؛ وأنشد:
[الوافر]
تولّاها وليس له عدوّ ... وفارقها وليس له صديق
وفيها حاصر تتش أخو السلطان ملكشاه طرابلس ومعه آق سفر وبوزان وبها
قاضيها، وهو صاحبها، واسمه جلال الملك بن عمّار، ونصب عليها المجانيق.
فاحنجّ عليهم ابن عمّار بأن معه منشور السلطان ملكشاه بإقراره على
طرابلس؛ فلم يقبل منه تتش ذلك، وتوقّف آق سنقر عن قتاله. فقال له تتش:
أنت تبع لى، فكيف تخالفنى فقال: أنا تبع لك إلّا فى عصيان السلطان.
فغضب تاج الدولة تتش
(5/132)
ورجع إلى دمشق، ومضى آق سنقر إلى حلب، ومضى بوزان إلى الرّهاء (أعنى
كلّ واحد إلى بلده) .
وفيها ملك يوسف بن تاشفين الأندلس ونفى ابن عبّاد عنها.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن علىّ بن حامد أبو نصر المروزىّ. كان إماما
فى القراءات، وصنّف فيها التصانيف، وانتهت إليه الرياسة فيها. وكانت
وفاته فى ذى القعدة.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن محمد أبو عبد الله التّنوخىّ الحلبىّ،
ويعرف بابن العظيمىّ «1» . كان إماما شاعرا فصيحا بليغا. ومن شعره
قوله:
[البسيط]
يلقى العدا بجنان ليس يرعبه ... خوض الحمام ومتن ليس ينقصم
فالبيض تكسر والأوداج دامية ... والخيل تعرم والأبطال تلتطم
والنقع غيم ووقع المرهفات به ... لمع البوارق والغيث الملثّ دم
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا. |