النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 485]
السنة الثامنة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة خمس وثمانين وأربعمائة.
فيها ورد الأمير تاج الدولة تتش على السلطان ملكشاه شاكيّا من «2» آق سنقر فلم يلتفت السلطان إليه؛ فترك ابنه عند السلطان وعاد إلى دمشق.

(5/133)


وفيها فى يوم الاثنين منتصف شهر ربيع الأوّل وقت الظهر، وهو السادس من نيسان، اقترن زحل والمرّيخ فى برج السّرطان، وذكر أهل صناعة النجوم أن هذا القران لم يحدث مثله فى هذا البرج منذ بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى هذه السنة. قال صاحب مرآة الزمان: وكان تأثير هذا القران هلاك ملكشاه السلجوقىّ سيّد الملوك، ومقتل نظام الملك سيّد الوزراء. انتهى.
وفيها فى شهر رمضان توجّه السلطان ملكشاه من أصبهان إلى بغداد بنيّة غير مرضيّة فى حقّ الخليفة المقتدى بالله وعزم على تغييره، وكان معه وزيره نظام الملك، فقتل فى شهر رمضان فى الطريق، على ما سيأتى ذكره؛ إن شاء الله.
ووصل ملكشاه إلى بغداد فى ثامن عشر شهر رمضان. فأوّل ما وصل بعث يقول للخليفة: لا بدّ أن تترك لى بغداد وتذهب إلى أىّ بلد شئت. فانزعج الخليفة وبعث إليه يقول: أمهلنى شهرا؛ فقال: ولا ساعة. فأرسل الخليفة إلى تاج الملك أبى الغنائم، وكان السلطان ملكشاه استوزره بعد قتل نظام الملك، فقال: سله بأن يؤخّرنا عشرة أيّام. فدخل تاج الملك على السلطان وقال له: لو أنّ بعض العوامّ أراد أن ينتقل من دار إلى دار لم يقدر على النّقلة فى أقلّ من عشرة أيام، فكيف بالخليفة! فأمر السلطان له بالمهلة عشرة أيام. ثم اشتغل بنفسه من مرض حصل له ومات منه بعد أيام.
ذكر وفاته- هو السلطان جلال الدولة أبو الفتح ملكشاه بن ألب أرسلان [بن «1» ] محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقمان «2» التركىّ السلجوقىّ. تسلطن

(5/134)


بعد موت أبيه بوصية منه إليه فى سنة خمس وستين وأربعمائة، وجعل وزيره نظام الملك وزيرا له ومتكلّما فى الدولة، وفرّق البلاد على أولاده وجعل مرجعهم إلى ملكشاه هذا. فلمّا تسلطن ملكشاه خرج عليه عمّه قاورد بك صاحب كرمان؛ فواقعه فأخذه ملكشاه أسيرا. فلمّا مثل بين يدى ملكشاه قال: أمراؤك كاتبونى، وأظهر مكاتبات. فأخذها ملكشاه وأعطاها للوزير نظام الملك، فأخذها نظام الملك وألقاها فى موقد «1» نار كان بين يدى ملكشاه فاحترقت. فسكنت قلوب الأمراء، وبذلوا الطاعة؛ وثبت ملكه بهذه الفعلة. ثم خنق عمّه قاورد بك المذكور بوتر، وتمّ له الأمر. وملك من الأقاليم ما لم يملكه أحد من السلاطين؛ فكان فى مملكته جميع بلاد ما وراء النهر، وبلاد الهياطلة «2» ، وباب الأبواب، وبلاد الروم والجزيرة والشام؛ حتّى إنّه ملك من مدينة كاشغر، وهى أقصى مدينة للترك، إلى بيت المقدس طولا، ومن القسطنطينيّة إلى بلاد الخزر وبحر الهند عرضا. وكان من أحسن الملوك سيرة، ولذلك كان يلقّب بالسلطان العادل. وكان منصورا فى حروبه، مغرى بالعمائر، حفر الأنهار وعمّر الأسوار والقناطر وعمّر جامع السلطان ببغداد ولم يتمّه، وأبطل المكوس فى جميع بلاده، وصنع بطريق مكة مصانع الماء، غرم عليها أموالا كثيرة. وكان مغرى بالصيد، حتى إنّه صاد مرّة فى حلقة واحدة عشرة آلاف صيد؛ وقد تقدّم ذكر ذلك. وكانت وفاته فى شوّال. قيل: إنّه سمّ فى خلال تخلّل به. ولم يشهده «3» الدولة ولا عمل له عزاء. وحمل فى تابوت إلى أصبهان فدفن بها. وقام فى السلطنة بعده أكبر أولاده بركياروق «4» ، ولقّب بركن الدولة. وخالفه عمّه، ووقع له معه وقائع.

(5/135)


وفيها توفّى الوزير نظام الملك وزير السلطان ملكشاه السلجوقىّ المقدّم ذكره.
واسمه الحسن بن إسحاق بن العبّاس الوزير أبو على الطّوسىّ. كان من أولاد الدّهاقين بناحية بيهق «1» ، وكان فقيرا مشغولا بسماع الحديث، ثم بعد حين اتّصل بداود بن ميكائيل السلجوقىّ، فأخذه بيده وسلّمه إلى ولده ألب أرسلان، وقال له: يا محمد، هذا حسن الطوسىّ اتّخذه والدا ولا تخالفه. فلمّا وصل الملك إلى ألب أرسلان استوزره، فدبّر ملكه عشر سنين. ومات ألب أرسلان، فازدحم أولاده على الملك، فقام بأمر ملكشاه حتّى تمّ أمره وتسلطن. ولمّا دخل نظام الملك على الخليفة المقتدى أمره بالجلوس، وقال له: يا حسن، رضى الله عنك لرضا أمير المؤمنين عنك.
وكان نظام الملك عالى الهمّة، وافر العقل، عارفا بتدبير الأمور، محبّا للعلماء والصلحاء، على ظلم وجور كان عنده، على عادة الوزراء.
ولمّا خرج من أصبهان بعد مخدومه ملكشاه قاصدا بغداد نزل «2» قرية من قرى نهاوند مكان الوقعة التى كانت فى زمان عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فقال:
هذا موضع مبارك؛ قتل فيه جماعة من الصحابة، طوبى لمن كان منهم. وكان جالسا والأمراء بين يديه، وكان صائما، فإنّه كان يوم الخميس؛ فقدّم الأكل فأكل الناس؛ ثم ركب محفّته إلى خيمة النساء، وكان به مرض النّقرس، فاعترضه صبىّ ديلمىّ فى زىّ الصوفيّة وبيده قصّة، فدعا له وسأله أن يناوله إيّاها من يده إلى يده؛ فقال: هات؛ فمدّ يده ليأخذها فضربه بسكّين فى فؤاده، فحمل الى مضربه ومات؛ فهرب الديلمى فعثر بطنب خيمة فقطّع قطعا. وكانت وزارة نظام الملك لبنى سلجوق

(5/136)


أربعا وثلاثين سنة- وقيل أربعين سنة- وكان عمره ستا وسبعين سنة. ومن شعره:
[البسيط]
بعد الثمانين ليس قوّه ... لهفى «1» على قوّة الصّبوّه
كأننى والعصا بكفّى ... موسى ولكن بلا نبوّه
وفيها توفّى مالك بن أحمد الإمام أبو عبد الله البانياسىّ «2» ثم البغدادىّ المعروف بالفرّاء فى جمادى الآخرة شهيدا فى الحريق. وكان معدودا من العلماء الفضلاء.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا. وأوفى فى سابع توت، ونقص فيه أيضا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 486]
السنة التاسعة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ستّ وثمانين وأربعمائة.
فيها خطب تاج الدولة تتش السلجوقىّ لنفسه بعد موت أخيه ملكشاه، وأرسل إلى الخليفة بأن يخطب له ويوعده؛ فما التفت إليه فى الجواب، غير أنّه أرسل يقول له: إنما تصلح للخطبة إذا حصلت «3» الدنيا بحكمك، والخزائن التى بأصبهان معك، وتكون صاحب الشرق وخراسان، ولم يبق من أولاد أخيك ملكشاه من يخالفك؛ وأمّا فى هذا الحال فلا سبيل إلى ما التمسته. فلمّا وقف تتش على ذلك سار إلى الموصل وبها إبراهيم بن قريش؛ فخرج إليه فى بنى عقيل والتقوا معه فقتل

(5/137)


إبراهيم وقتل عليه أعيان بنى عقيل. وكان علىّ بن مسلم بن قريش عند بركياروق ابن ملكشاه، فأخبره بمصاب عمّه، فعزّ عليه فكتب إلى تتش يلومه.
وفيها فتح عسكر مصر صور وحمل صاحبها إلى مصر ومعه أصحابه. فضرب بدر الجمالىّ رقاب الجميع، وقطع على أهل صور ستين ألفا «1» عقوبة لهم.
وفيها بطل مسير الحاجّ من العراق خوفا عليهم، وسار حجّاج دمشق، ولم يوصّلوا إلى أمير مكة ما يرضيه. فلمّا رحلوا خرج ونهبهم، وعاد من سلم منهم على أقبح حال، وتخطّفهم العرب فى الطريق.
وفيها توفّى عبد القادر بن عبد الكريم بن الحسين أبو البركات. كان شيخا صالحا، خطّب بدمشق لبنى العباس وللمصريّين؛ وأنشد لبعضهم:
[الطويل]
يعدّ رفيع القوم من كان عاقلا ... وإن لم يكن فى قومه بحسيب
فإن حلّ أرضا عاش فيها بعقله ... وما عاقل فى بلدة بغريب
وفيها توفّى علىّ بن أحمد بن يوسف بن جعفر بن عرفة الحافظ الفقيه الهكّارىّ.
كان ينعت بشيخ الإسلام- والهكّاريّة: جبال فوق الموصل فيها قرّى وبنّى- وكنيته أبو الحسن. كان إماما عالما فقيها، سمع الحديث ورواه، وبنى أربطة، وقدم بغداد. وكان صالحا متعبّدا شيخ بلاده فى التصوّف، وكان من أهل السنة والجماعة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث أصابع.

(5/138)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 487]
السنة الستون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وهى التى مات فيها المستنصر معدّ صاحب الترجمة حسب ما تقدّم ذكره.
وفيها أيضا توفّى الخليفة المقتدى بالله العباسىّ وبدر الجمالى أمير الجيوش بمصر، وآق سنقر صاحب حلب قتيلا، وبوزان بالشأم، وأمير مكة. وتسمّى هذه السنة سنة موت الخلفاء والأمراء؛ فعدّ الناس هذا كلّه من القران المقدّم ذكره فى سنة خمس وثمانين وأربعمائة. ويأتى كلّ واحد من هؤلاء على حدته فى هذه السنة.
وفيها كانت زلزلة عظيمة [ببغداد «1» ] بين العشاءين فى المحرّم.
وفيها حدث فتن وحروب وغلاء بسائر الأقاليم
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين أبو القاسم المقتدى بالله عبد الله ابن الأمير ذخيرة الدّين أبى العباس محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بأمر الله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة جعفر المقتدر ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد ابن الأمير طلحة الموفّق ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدى بالله محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس العباسى الهاشمى.
بويع بالخلافة بعد موت جدّه القائم بأمر الله فى ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وهو ابن تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر. وكان توفّى أبوه الذخيرة محمد، والمقتدى هذا حمل فى بطن أمّه، وكان اسم أمّه أرجوان- وقيل قرّة العين- وكانت أرمينيّة، فولدته بعد موت أبيه بستة أشهر. وكان المقتدى من رجال بنى العباس

(5/139)


له همّة عالية، وشجاعة وافرة، وظهرت فى أيامه خيرات؛ وخطب له فى الشرق بأسره وما وراء النهر والهند وغزنة والصين والجزيرة والشام واليمن؛ وعمّرت فى أيامه بغداد، واسترجع المسلمون الرّهاء. وأنطاكية ومات فجأة فى ليلة السبت خامس عشر المحرّم، وكان عمره ثمانيا وثلاثين «1» سنة وثمانية أشهر ويومين. وتخلّف بعده ابنه أبو العبّاس أحمد. وكانت خلافة المقتدى تسع عشرة سنة وثمانية أشهر.
وفيها توفّى الشريف أمير مكة محمد بن أبى هاشم. كان ظالما جبّارا فاتكا سفّا كاللدّماء مسرفا رافضيّا سبّابا خبيثا متلؤنا، تارة مع الخلفاء العباسيّين، وتارة مع المصريّين، وكان يقتل الحجّاج ويأخذ أموالهم. وهلك بمكة وقد ناهز السبعين.
وفرح المسلمون وأهل مكّة بموته، وقام بعده ابنه هاشم.
وفيها توفّى المستنصر صاحب الترجمة العبيدىّ خليفة مصر، وقد تقدّم ذكر وفاته فى ترجمته.
وفيها توفّى الحسن بن أسد أبو نصر الفارقىّ الشاعر المشهور. كان فصيحا فاضلا عارفا باللغة والأدب، وهو الذي سلّم ميّافارقين إلى [منصور «2» بن] مروان.
فلمّا دخلها تتش السلجوقىّ اختفى، ثم ظّهر لمّا عاد تتش، ووقف بين يديه وأنشده قصيدة، منها:
[البسيط]
واستحلبت حلب جفنىّ فانهملا ... وبشّرتنى بحرّ القتل حرّان
فقال تتش: من هذا؟ فقيل له: هذا الفارقىّ؛ فأمر بضرب عنقه من وقته.
فكان قوله:
وبشّرتنى بحرّ القتل حرّان
فألا عليه.

(5/140)


ومن شعره:
[المنسرح]
كم ساءنى الدّهر ثم سرّ فلم ... يدم لنفسى همّا ولا فرحا
ألقاه بالصبر ثم يعركنى ... تحت رحا من صروفه فرحا
وفيها توفّى الأمير آق سنقر بن عبد الله قسيم الدولة التّركىّ. كان شجاعا عادلا منصفا، وكان الملوك السلجوقيّة يحترمونه، ولم يكن له ولد غير زنكى. وآق سنقر هذا هو جدّ الملك العادل نور الدين محمود المعروف بالشهيد. ولمّا قتل آق سنقر انضمّ على ولده زنكى مماليك أبيه وصار معهم، واستفحل أمره، على ما يأتى ذكره إن شاء الله فى عدّة مواطن.
وفيها توفّى أمير الجيوش بدر الجمالىّ الأرمنىّ وزير مصر للمستنصر بل صاحب أمرها وعقدها وحلّها. كان أوّلا ولى الشام والسواحل للمستنصر، ثم خالفه مدّة وأقام بعكّا، إلى أن استدعاه المستنصر المذكور إلى مصر بعد أن اختلّ أمرها من الغلاء والفتن؛ وفوّض إليه أمور مصر والشام وجميع ممالكه؛ فاستقامت الأمور بتدبيره وسكنت الفتن، وصار الأمر كلّه له؛ وليس للخليفة المستنصر معه سوى الاسم لا غير. ومات قبل المستنصر بأشهر. ولمّا مات بدر الجمالىّ أقام المستنصر ابنه أبا القاسم شاهنشاه «1» ، ولقّبه الأفضل؛ فأحسن الأفضل السّيرة فى الرعيّة، لكنه عظم فى الدولة أضعاف مكانة أبيه. وخلّف بدر الجمالىّ أموالا كثيرة يضرب بها المثل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.

(5/141)


ذكر ولاية المستعلى بالله على مصر
المستعلى بالله خليفة مصر اسمه أحمد وكنيته أبو القاسم بن المستنصر بالله معدّ ابن الظاهر بالله علىّ بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدىّ عبيد الله، السادس من خلفاء مصر الفاطميّين بنى عبيد، والتاسع ممّن ولى من أجداده الخلافة بالمغرب. بويع بالخلافة بعد موت أبيه المستنصر معدّ فى يوم عيد الغدير، يوم ثامن عشر ذى الحجة سنة سبع وثمانين. ومولده بالقاهرة فى المحرّم سنة سبع وستين وأربعمائة.
ولمّا ولى الخلافة كانت سنه يوم ذاك نيّفت على عشرين سنة. وقال ابن خلّكان:
مولده لعشر ليال بقين من المحرّم، وذكر السنة. وكان القائم بأمره الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالىّ؛ فإنّ المستنصر كان قد أجلس بعده ابنه أبا منصور نزارا أكبر أولاده، وجعل إليه ولاية العهد بالخلافة. فلمّا مرض المستنصر أراد أخذ البيعة له فتقاعد الأفضل شاهنشاه ودافع المستنصر من يوم إلى يوم حتّى مات المستنصر؛ وكان ذلك كراهة من الأفضل فى نزار ولد المستنصر. وسببه أن نزارا خرج ذات يوم فى حياة أبيه المستنصر فإذا الأفضل راكب وقد دخل من أحد أبواب القصر، فصاح به نزار المذكور: انزل يا أرمنىّ يا نجس!. فحقدها عليه الأفضل وصار كلّ منهما يكره الآخر. فاجتمع الأفضل بعد موت المستنصر بالأمراء والخواصّ وخوّفهم من نزار وأشار عليهم بولاية أخيه الصغير أبى القاسم أحمد، فرضوا بذلك ما خلا محمود بن مصال اللّكّىّ «1» فإنّ نزارا كان وعده بالوزارة والتّقدمة على الجيوش مكان الأفضل. فلمّا علم ابن مصال الحال أعلم نزارا بذلك،

(5/142)


وبادر الأفضل بإخراج أبى القاسم أحمد هذا وبايعه ونعته بالمستعلى بالله، وذلك بكرة يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة، وأجلسه على سرير الخلافة، وجلس الأفضل شاهنشاه على دكّة الوزارة، وحضر قاضى القضاة المؤيّد بنصر الأنام علىّ بن نافع بن الكحّال والشهود معه، وأخذوا البيعة على مقدّمى الدولة ورؤسائها وأعيانها. ثم مضى الأفضل إلى إسماعيل وعبد الله ابنى المستنصر وهما بالمسجد بالقصر والموكّلون عليهما، فقال لهما: إنّ البيعة تمّت لمولانا المستعلى بالله، وهو يقرئكما السلام ويقول لكما: تبايعان أم لا؟ فقالا: السمع والطاعة؛ إنّ الله اختاره علينا؛ وقاما وبايعاه. فكتب الأفضل بذلك سجلّا قرأه الشريف سناء الملك محمد بن محمد الحسينىّ الكاتب بديوان الإنشاء على الأمراء. وأمّا أمر نزار فإنّه بادر وخرج من وقته وأخذ معه أخاه عبد الله الذي بايع وابن مصال اللّكّىّ وتوجّهوا إلى الإسكندريّة، وكان الوالى بها ناصر الدولة أفتكين التركىّ أحد مماليك أمير الجيوش بدر الجمالىّ (أعنى والد الأفضل هذا) ، فعرّفوه الحال ووعده نزار بالوزارة، فطمع أفتكين فى ذلك، وبايع نزارا المذكور، وبايع أيضا جميع أهل الإسكندرية، ولقّب المصطفى لدين الله. ثم وقع لنزار هذا أمور وحروب مع الأفضل نذكر منها نبذة من أقوال جماعة من المؤرخين.
قال العلّامة شمس الدين يوسف بن قزأوغلى فى تاريخه مرآة الزمان- بعد ما ساق نسبه بنحو ما ذكرناه وأقلّ- قال: وكان المتصرّف فى دولته الأفضل ابن أمير الجيوش (يعنى عن المستعلى) . قال: وكان هرب أخوه نزار بن المستنصر إلى الإسكندريّة وبها أفتكين مولى أبيه. قلت: وهذا بخلاف ما ذكره غيره من أنّ أفتكين كان مولى لبدر الجمالىّ والد الأفضل شاهنشاه. قال: وزعم نزار أنّ أباه عهد إليه، فقام له بالأمر أفتكين ولقّبه ناصر الدولة. وأخذ له البيعة على

(5/143)


أهل البلد، وساعده ابن عمّار «1» قاضى الإسكندرية. فتوجّه الأفضل إلى الإسكندرية وضايقها؛ فخرج إليه أفتكين فهزمه وعاد الأفضل إلى القاهرة (يعنى مهزوما) فحشد وعاد إليها ونازلها وافتتحها عنوة وقتل أعيان أهلها، واعتقل أفتكين وابن عمّار. فكتب ابن عمّار إلى الأفضل ورقة من الحبس يقول فيها:
[البسيط]
هل أنت منقذ شلوى من يدى زمن ... أضحى يقدّ أديمى قدّ منتهس
دعوتك الدّعوة الأولى وبى رمق ... وهذه دعوة والدهر مفترسى
فلم تصل إليه الورقة حتّى قتل. فلمّا وقف عليها قال: والله لو وقفت عليها قبل ذلك ما قتلته. وكان ابن عمّار المذكور من حسنات الدهر. وقدم الأفضل بأفتكين ونزار إلى القاهرة، وكان أفتكين يلعن المستعلى والأفضل بن أمير الجيوش على المنابر؛ فقتله المستعلى بيده وبنى على أخيه نزار حائطا فهو تحته إلى الآن. وكان للمستعلى أخ اسمه عبد الله [فظفر «2» به الأفضل] . انتهى كلام صاحب مرآة الزمان بآختصار.
وقال غيره: ولمّا استهلّت سنة ثمان وثمانين خرج الأفضل بعساكر مصر إلى الإسكندريّة، وهناك نزار وأفتكين، فكانت بينهم حرب شديدة بظاهر الإسكندرية، انكسر فيها الأفضل بمن معه، ورجع إلى القاهرة منهزما؛ فخرج نزار ونهب أكثر البلاد بالوجه البحرىّ. وأخذ الأفضل فى التجهّز لقتال نزار، ودسّ إلى جماعة ممّن كان مع نزار من العربان واستمالهم عنه، ثمّ خرج بالعساكر ثانيا إلى نحو الإسكندريّة، فكانت بينهم أيضا وقعة بظاهر الإسكندريّة انكسر فيها نزار بمن معه إلى داخل الإسكندرية؛ فحاصرهم الأفضل حصارا شديدا إلى ذى القعدة.

(5/144)


فلمّا رأى ذلك ابن مصال جمع ماله وفرّ إلى الغرب. وكان سبب فرار ابن مصال أنّه رأى فى منامه أنه راكب فرسا وسار والأفضل ماش فى ركابه؛ فقال له المعبّر:
الماشى على الأرض أملك لها؛ فلمّا سمع ذلك فرّ. ولمّا فرّ ابن مصال صعفت قوى نزار وأفتكين وخافا وطلبا من الأفضل الأمان فأمّنهما ودخل البلد؛ ثم قبض على نزار وأفتكين وبعث بهما إلى مصر، وكان ذلك آخر العهد بنزار. وكان مولد نزار فى يوم الخميس العاشر من شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. وقيل:
إنّ الأفضل بنى لنزار حائطين وجعله بينهما إلى أن مات. وأمّا أفتكين نائب الإسكندريّة فإنّه قتله بعد ذلك. ولم يزل الأفضل يؤمّن ابن مصال حتّى حضر إليه بالقاهرة ولزم داره حتّى رضى عنه الأفضل. انتهى ذكر نزار وكيفيّة قتله.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ: وفى أيّامه وهنت دولتهم (يعنى المستعلى صاحب الترجمة) . قال: وانقطعت دعوتهم من أكثر مدن الشام، واستولى عليها الأتراك والفرنج، ونزل الفرنج على أنطاكية وحصروها ثمانية أشهر، وأخذوها فى سادس عشر رجب سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وأخذوا المعرة سنة اثنتين وتسعين، ثم أخذوا القدس فيها أيضا فى شعبان، واستولى الملاعين على كثير من مدن الساحل. ولم يكن المستعلى مع الأفضل بن أمير الجيوش حكم. وفى أيّامه هرب أخوه نزار إلى الإسكندريّة، فأخذ له البيعة على أهل الثغر أفتكين، وساعده قاضى الثغر ابن عمّار، وأقاموا على ذلك سنة. فجاء الأفضل سنة ثمان وثمانين وحاصر الثغر وخرج إليه أفتكين فهزمه، ثم نازلها ثانيا وافتتحها عنوة وقتل جماعة، وأتى القاهرة بنزار وأفتكين، فذبح أفتكين صبرا، وبنى المستعلي على أخيه حائطا، فهو تحته إلى

(5/145)


الآن: انتهى كلام الذهبىّ. قلت: ومن حينئذ نذكر كيفيّة أخذ الفرنج للسواحل فى أيام المستعلى هذا، وهو كالشرح لمقالة الذهبىّ وغيره:
كان أوّل حركة الفرنج لأخذ السواحل وخروجهم إليها فى سنة تسعين وأربعمائة، فساروا إليها، فأوّل ما أخذوا نيقية «1» ، وهو أوّل بلد فتحوه وأخذوه من المسلمين.
ثمّ فتحوا حصون الدروب شيئا بعد شىء، ووصلوا إلى البارة «2» وجبل السّمّاق «3» وفامية وكفر طاب «4» ونواحيها. وفى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ساروا إلى أنطاكية ولم ينازلوها، وجاءوا إلى المعرّة فنصبوا عليها السّلا لم فنزلوا إليها فقتلوا من أهلها مائة ألف إنسان، قاله أبو المظفّر سبط ابن الجوزىّ؛ قال: وسبوا مثلها. ثمّ دخلوا كفر طاب وفعلوا مثل ذلك، وعادوا إلى أنطاكية، وكان بها الأمير شعبان «5» . وقيل شقبان، وقيل فى اسمه غير ذلك- وكان على الفرنج صنجيل، فحاصرها مدّة؛ فنافق رجل من أنطاكية يقال له فيروز «6» وفتح لهم فى الليل شبّاكا فدخلوا منه، ووضعوا السيف، وهرب شعبان وترك أهله وأمواله وأولاده بها. فلما بعد عن البلد «7» ندم على ذلك، فنزل عن فرسه فحثى التّراب على رأسه وبكى ولطم، وتفرّق عنه أصحابه وبقى وحده؛ فمرّ به رجل أرمنىّ حطّاب فعرفه فقتله وحمل رأسه إلى صنجيل ملك الفرنج.

(5/146)


وقال أبو يعلى [بن] القلانسىّ: فى جمادى الأولى ورد الخبر بأنّ قوما من أهل أنطاكية عملوا عليها وواطئوا الفرنج على تسليمها إليهم لإساءة تقدّمت من حاكم البلد فى حقّهم ومصادرته لهم، ووجدوا الفرصة فى برج من الأبراج التى للبلد مما يلى الجبل، فباعوهم إيّاه، وأصعدوا منه فى السّحر وصاحوا «1» ، فانهزم ياغى سيان وخرج فى خلق عظيم فلم يسلم منهم شخص؛ فسقط الأمير عن فرسه عند معرّة مصرين، فحمله بعض أصحابه وأركبه فلم يثبت على ظهر الفرس وسقط ثانيا فمات.
وأمّا أنطاكية فقتل منها وسبى من الرجال والنساء والأطفال ما لا يدركه حصر، وهرب إلى القلعة قدر ثلاثة آلاف تحصّنوا بها.
وكان أخذ المعرّة فى ذى الحجّة بعد أخذ أنطاكية. ولمّا وقع ذلك اجتمع ملوك الإسلام بالشام، وهم رضوان صاحب حلب وأخوه دقماق وطغتكين وصاحب «2» الموصل وسكمان «3» بن ارتق صاحب ماردين وأرسلان شاه صاحب سنجار «4» - ولم ينهض الأفضل بإخراج عساكر مصر. وما أدرى ما كان السبب فى عدم إخراجه مع قدرته على المال والرجال- فاجتمع الجميع ونازلوا أنطاكية وضيّقوا على الفرنج حتّى أكلوا ورق الشجر. وكان صنجيل مقدّم الفرنج عنده دهاء ومكر، فرتّب مع راهب حيلة وقال: اذهب فآدفن هذه الحربة فى مكان كذا، ثم قل للفرنج بعد ذلك: رأيت المسيح فى منامى وهو يقول: فى المكان الفلانىّ حربة مدفونة فآطلبوها، فإن

(5/147)


وجدتموها فالظّفر لكم، وهى حربتى، فصوموا ثلاثة أيّام وصلّوا وتصدّقوا ثم قام وهم معه إلى المكان ففتّشوه «1» فظهرت الحربة؛ فصاحوا وصاموا وتصدّقوا وخرجوا إلى المسلمين، وقاتلوهم حتى دفعوهم عن البلد؛ فثبت جماعة من المسلمين فقتلوا عن آخرهم، رحمهم الله تعالى. والعجب أنّ الفرنج لمّا خرجوا إلى المسلمين كانوا فى غاية الضعف من الجوع وعدم القوت حتّى إنهم أكلوا الميتة وكانت عساكر الإسلام فى غاية القوّة والكثرة، فكسروا المسلمين وفرّقوا جموعهم، وانكسر أصحاب الجرد السوابق، ووقع السيف فى المجاهدين والمطّوّعين. فكتب دقماق ورضوان والأمراء إلى الخليفة (أعنى المستظهر العباسىّ) يستنصرونه؛ فأخرج الخليفة أبا نصر ابن الموصلايا إلى السلطان بركياروق ابن السلطان ملكشاه السلجوقىّ يستنجده. كلّ ذلك وعساكر مصر لم تهيّأ للخروج.
وأمّا أخذ بيت المقدس فكان فى يوم الجمعة ثالث عشرين شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وهو أنّ الفرنج ساروا من أنطاكية ومقدّم الفرنج كندهرى فى ألف ألف، منهم خمسمائة ألف مقاتل فارس، والباقون رجّالة وفعلة وأرباب آلات من مجانيق وغيرها، وجعلوا طريقهم على الساحل وكان بالقدس افتخار الدولة من قبل المستعلى خليفة مصر صاحب الترجمة، فأقاموا يقاتلون أربعين يوما، وعملوا برجين مطلّين على السور؛ أحدهما بباب صهيون، والآخر بباب العمود وباب الأسباط، وهو برج الزاوية؛ ومنه فتحها السلطان صلاح الدّين بن أيوب، على ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى. فأحرق المسلمون البرج الذي كان بباب صهيون وقتلوا من فيه. وأمّا الآخر فزحفوا به حتّى ألصقوه بالسور، وحكموا به على البلد، وكشفوا من كان عليه من المسلمين؛ ثم رموا بالمجانيق والسّهام رمية رجل واحد،

(5/148)


فانهزم المسلمون فنزلوا إلى البلد، وهرب الناس إلى الصخرة والأقصى واجتمعوا بها، فهجموا عليهم وقتلوا فى الحرم مائة ألف وسبوا مثلهم، وقتلوا الشيوخ والعجائز وسبوا النساء، وأخذوا من الصخرة والأقصى سبعين قنديلا، منها عشرون ذهبا فى كلّ قنديل ألف مثقال، ومنها خمسون فضّة فى كلّ قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم بالشامىّ، وأخذوا تنّورا من فضّة زنته أربعون رطلا بالشامىّ، وأخذوا من الأموال ما لا يحصى. وكان بيت المقدس منذ افتتحه عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فى سنة ستّ عشرة من الهجرة، لم يزل بأيدى المسلمين إلى هذه السنة. هذا كلّه وعسكر مصر لم يحضر، غير أنّ الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالىّ صاحب أمر مصر لمّا بلغه أنّ الفرنج ضايقوا بيت المقدس خرج فى عشرين ألفا من عساكر مصر وجدّ فى السير، فوصل إلى القدس يوم ثانى فتحه ولم يعلم بذلك.
فقصده الفرنج وقاتلوه، فلم يثبت لهم ودخل عسقلان بعد أن قتل من أصحابه عدد كثير؛ فأحرق الفرنج ما حول عسقلان وقطعوا أشجارها، ثم عادوا إلى القدس. ثم عاد الأفضل إلى مصر بعد أمور وقعت له مع الفرنج. واستمرّ بيت المقدس مع الفرنج، فلا قوّة إلّا بالله.
وقال ابن القلانسىّ: إنّ أخذ المعرّة كان فى هذه السنة أيضا، وإنّه كان قبل أخذ بيت المقدس. قال: وزحف الفرنج فى محرم هذه السنة إلى سور المعرّة من الناحية الشرقيّة والشمالية، وأسندوا البرج إلى سورها، فكان أعلى منه. ولم يزل الحرب عليها إلى وقت المغرب من اليوم الرابع عشر من المحرّم، وصعدوا السور، وانكشف أهل البلد بعد أن تردّدت إليهم رسل الفرنج، وأعطوهم الأمان على نفوسهم وأموالهم وألّا يدخلوا إليهم، بل يبعثوا إليهم شحنة «1» فمنع من ذلك الخلف

(5/149)


بين أهلها، فملكت الفرنج البلد بعد المغرب بعد أن قتل من الفريقين خلق كثير، ثم أعطوهم الأمان. فلمّا ملكوها غدروا بهم وفعلوا تلك الأفعال القبيحة وأقاموا عليها، إلى أن رحلوا عنها فى آخر شهر رجب إلى القدس. وانجفل الناس بين أيديهم، فجاءوا إلى الرملة فأخذوها عند إدراك الغلّة، ثم انتهوا إلى القدس. وذكر فى أمر القدس نحوا مما قلناه، غير أنّه زاد فقال: ولمّا بلغهم (يعنى الفرنج) خروج الأفضل من مصر جدّوا فى القتال ونزلوا من السور وقتلوا خلقا كثيرا، وجمعوا اليهود فى الكنيسة وأحرقوها عليهم، وهدموا المشاهد وقبر الخليل- عليه السلام- وتسلّموا محراب داود بالأمان. ووصل الأفضل بالعساكر وقد فات الأمر، فنزل عسقلان فى يوم رابع عشر شهر رمضان ينتظر الأسطول فى البحر والعرب؛ فنهض إليه مقدّم الفرنج فى خلق عظيم، فانهزم العسكر المصرىّ إلى ناحية عسقلان؛ ودخل الأفضل عسقلان، ولعبت سيوف الفرنج فى العسكر والرجال والمطّوّعة وأهل البلد، وكانوا زهاء عن عشرة آلاف نفس، ومضى الأفضل. وقرّر الفرنج على أهل البلد عشرين ألف دينار تحمل إليهم، وشرعوا فى جبايتها من أهل البلد؛ فاختلف المقدّمون فرحلوا ولم يقبضوا من المال شيئا. ثم قال: وحكى أنّه قتل من أهل عسقلان من شهودها وتجارها وأحداثها سوى أجنادها ألفان وسبعمائة نفس.
ولما تمّت هذه الحادثة خرج المستنفرون من دمشق مع قاضيها زين الدين أبى سعد الهروىّ، فوصلوا بغداد وحضروا فى الديوان وقطّعوا شعورهم واستغاثوا وبكوا، وقام القاضى فى الديوان وأورد كلاما أبكى الحاضرين، وندب من الديوان من يمضى إلى العسكر السلطانىّ ويعرّفهم بهذه المصيبة؛ فوقع التقاعد لأمر يريده

(5/150)


الله. فقال القاضى الهروىّ- وقيل: هى لأبى «1» المظفّر الأبيوردىّ- القصيدة التى أوّلها:
[الطويل]
مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم «2»
ومنها:
وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هفوات «3» أيقظت كلّ ناتم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكى «4» أو بطون القشاعم «5»
ومنها:
وكاد لهنّ المستجنّ بطيبة ... ينادى بأعلى الصوت يا آل هاشم
أرى أمتى لا يشرعون إلى العدا ... رماحهم والدين واهى الدعائم
ومنها:
وليتهم إذ لم يذودوا حميّة ... عن الدين ضنّوا غيرة بالمحارم
وإذ زهدوا فى الأجر إذ حمى «6» الوغى ... فهلّا أتوه رغبة فى الغنائم
وقال آخر:
[الوافر]
أحلّ الكفر بالإسلام ضيما ... يطول عليه للدين النّحيب
فحقّ ضائع وحمّى مباح ... وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليبا ... ومسلمة لها حرم سليب

(5/151)


وكم من مسجد جعلوه ديرا ... على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوق ... وتحريق المصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهنّ طفل ... لطفّل «1» فى عوارضه المشيب
أتسبى المسلمات بكلّ ثغر ... وعيش المسلمين إذا يطيب
أمّا لله والإسلام حقّ ... يدافع عنه شبّان وشيب
فقل لذوى البصائر حيث كانوا ... أجيبوا الله ويحكم أجيبوا
وقال الناس فى هذا المعنى عدّة مراث. والمقصود أنّ القاضى ورفقته عادوا من بغداد إلى الشام بغير نجدة. ولا قوة إلّا بالله!. ثم إنّ الأفضل بن أمير الجيوش جهّز من مصر جيشا كثيفا وعليه سعد الدولة القواسىّ فى سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، فخرج سعد الدولة المذكور من مصر بعسكره فالتقى مع الفرنج بعسقلان؛ ووقف سعد الدولة فى القلب، فقاتل قتالا شديدا، فكبا به فرسه فقتل. وثبت المسلمون بعد قتله وحملوا على الفرنج فهزموهم إلى قيسارية «2» . فيقال: إنّهم قتلوا من الفرنج ثلثمائة ألف، ولم يقتل من المسلمين سوى مقدّم عسكرهم سعد الدولة القواسىّ المذكور ونفر يسير. قاله صاحب مرآة الزمان. وقال الذهبىّ فى تاريخه: هذه مجازفة عظيمة (يعنى كونه قال قتل ثلثمائة ألف من الفرنج) . انتهى. قلت: ومن يومئذ بدأت الفرنج فى أخذ السواحل حتّى استولوا على الساحل الشامى بأجمعه إلى أن استولت الدولة الأيوبيّة والتركيّة واسترجعوها شيئا بعد شىء، حسب ما يأتى ذكره إن شاء الله فى هذا الكتاب.

(5/152)


ومات المستعلى صاحب الترجمة فى يوم الثلاثاء تاسع صفر سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وقيل: فى ثالث عشر صفر، والأوّل أشهر. ومات وله سبع وعشرون سنة، وكانت خلافته سبع سنين وشهرين وأياما. وتولّى الخلافة بعده ابنه الآمر بأحكام الله منصور. وكان المتصرّف فى دولته وزيره الأفضل سيف الإسلام شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالىّ. فانتظمت أحوال مصر بتدبيره؛ واشتغل بها عن السواحل الشاميّة حتى استولت الفرنج على غالبها؛ وندم على ذلك حين لا ينفع الندم.
وكان المستعلى حسن الطريقة فى الرعيّة، جميل السيرة فى كافّة الأجناد، ملازما لقصره كعادة أبيه، مكتفيا بالأفضل فيما يريده، إلا أنّه كان مع تقاعده عن الجهاد وتهاونه فى أخذ البلاد متغاليا فى الرّفض والتشيّع؛ كان يقع منه الأمور الشنيعة فى مأتم عاشوراء، وببالغ فى النّوح والمأتم، ويأمر الناس بلبس المسوح وغلق الحوانيت واللطم والبكاء زيادة عما كان يفعله آباؤه، مع أنّ الجميع رافضة، ولكنّ التفاوت نوع آخر.
وأما الذي كان يفعله آباؤه وأجداده من النّوح فى يوم عاشوراء والحزن وترتيبه، فإذا كان يوم العاشر من المحرّم احتجب الخليفة عن الناس، فإذا علا النهار ركب قاضى القضاة والشهود وقد غيروا زيّهم ولبسوا قماش الحزن، ثم صاروا إلى المشهد الحسينىّ بالقاهرة- وكان قبل ذلك يعمل المأتم بالجامع الأزهر- فإذا جلسوا فيه بمن معهم من الأمراء والأعيان وقرّاء الحضرة والمتصدّرين فى الجوامع، جاء الوزير فجلس صدرا، والقاضى وداعى الدّعاة من جانبيه، والقرّاء يقرءون نوبة بنوبة، ثم ينشد قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة أشعارا يرثون بها الحسن والحسين وأهل البيت، وتصيح الناس بالضجيج والبكاء والعويل- فإن كان الوزير رافضيّا على

(5/153)


مذهب القوم تغالوا فى ذلك وأمعنوا، وإن كان الوزير سنّيّا اقتصروا- ولا يزالون كذلك حتّى تمضى ثلاث ساعات، فيستدعون إلى القصر عند الخليفة بنقباء الرسائل؛ فيركب الوزير وهو بمنديل صغير إلى داره، ويدخل قاضى القضاة والداعى ومن معهما إلى باب الذهب (أحد أبواب القصر) فيجدون الدّهاليز قد فرشت مساطبها بالحصر والبسط «1» ، وينصب فى الأماكن الخالية الدكك لتلحق بالمساطب وتفرش؛ ويجدون صاحب الباب جالسا هناك، فيجلس القاضى والداعى إلى جانبه والناس على اختلاف طبقاتهم؛ فيقرأ القرّاء وينشد المنشدون أيضا. ثم يفرش وسط القاعة بالحصر المقلوبة (ليس على وجوهها، وإنما تخالف مفارشها) ؛ ثمّ يفرش عليها سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس والملوحات والمخلّلات والأجبان والألبان الساذجة والأعسال النّحل والفطير والخبز المغيّر لونه بالقصد لأجل الحزن. فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب وصاحب المائدة (يعنى الحاجب والمشدّ) وأدخل الناس للأكل من السّماط. فيدخل القاضى والداعى ويجلس صاحب الباب ببابه؛ ومن الناس من لا يدخل من شدّة الحزن، فلا يلزم أحد بالدخول. فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى مكانهم ركبانا بذلك [الزىّ «2» ] الذي ظهروا فيه من قماش الحزن. وطاف النّوّاح بالقاهرة فى ذلك اليوم، وأغلق البيّاعون حوانيتهم إلى بعد العصر، والنّوح قائم بجميع شوارع القاهرة وأزقّتها. فإذا فات العصر يفتح الناس دكاكينهم ويتصرّفون فى بيعهم وشرائهم؛ فكان [ذلك] دأب الخلفاء الفاطميّين من أولهم المعزّ لدين الله معدّ إلى آخرهم العاضد عبد الله. انتهت ترجمة المستعلى. ويأتى بعض أخباره أيضا فى السنين المتعلّقة به على سبيل الاختصار، كما هو عادة هذا الكتاب.

(5/154)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 488]
السنة الأولى من ولاية المستعلى أحمد على مصر وهى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
فيها اصطلح أهل السّنة والرافضة ببغداد وعملوا الدعوات ودخل بعضهم إلى بعض.
وفيها قتل تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق أبو سعيد السلجوقىّ أخو السلطان ملكشاه. كان أوّلا فى المشرق، فاستنجده أتسز الخوارزمىّ صاحب الشام فقدم دمشق، وقتل أتسز المذكور واستولى على الشام، وامتدّت أيّامه. وهو الذي قتل آق سنقر وبوزان، ثمّ خالف على ابن أخيه بركيا روق بن ملكشاه، ووقع بينهما أمور آخرها فى هذه السنة؛ كانت بينهما وقعة هائلة على الرّىّ. وكان لمّا قتل آق سنقر وبوزان أخذ جماعة من أمرائهما فقتلتهم بين يديه؛ وكان بكجور من أكابر الأمراء، فقتل أولاده بين يديه صبرا، وهرب بكجور إلى بركيا روق. فلمّا انتصر على الرّىّ جاء بكجور إلى السلطان بركياروق وهو يبكى، فقال: قد قتل عمّك أولادى وأنا قاتله بأولادى؛ فقال:
افعل. وكان تش قد وقف بالقلب مقابل ابن أخيه السلطان بركياروق، فقصده الأمير بكجور المذكور وطعنه فألقاه عن فرسه؛ فنزل سنقرجه- وكان أيضا صاحب ثار- فحزّ رأسه، وقيل؛ رماه مملوك بوزان بسهم فى ظهره فوقع منه، وانهزم أصحابه؛ وطيف برأسه. وأسر وزيره فخر الملك علىّ بن نظام الملك، فعفا عنه السلطان بركياروق لأجل أخيه وزيره مؤيّد الملك بن نظام الملك. قلت: كان مؤيّد الملك وزير بركياروق، وفخر الملك وزير تتش، وهما ابنا نظام الملك. ثم وقع أيضا لأولاد تاج الدولة تتش هذا أمور وفتن بعد موت أبيهم؛ وهم رضوان وإخوته، على ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.

(5/155)


وفيها توفّى عبد السلام بن محمد بن يوسف بن بندار أبو يوسف القزوينىّ شيخ المعتزلة. كان إماما فى فنون، فسّر القرآن فى سبعمائة مجلّد- وقيل فى أربعمائة، وقيل ثلثمائة- وكان الكتاب وقفا فى مشهد أبى حنيفة رضى الله عنه. وكان رحل إلى مصر وأقام بها أربعين سنة. وكان محترما فى الدول، ظريفا، حسن العشرة، صاحب نادرة. قيل: إنّه دخل على نظام الملك الوزير وكان عنده أبو محمد التميمىّ ورجل آخر أشعرىّ، فقال له القزوينىّ: أيّها الصدر قد اجتمع عندك رءوس أهل النار.
قال نظام الملك: وكيف ذلك؟ قال: أنا معتزلىّ، وهذا مشبّه (يعنى التميمىّ) وذلك أشعرىّ، وبعضنا يكفّر بعضا؛ فضحك النظام. وقيل: إنّه اجتمع مع ابن البراج متكلّم الشّيعة، فقال له ابن البراج: ما تقول فى الشيخين؟ فقال: سفلتين ساقطين. قال: من تعنى؟ قال: أنا وأنت. وكانت وفاة القزوينىّ هذا فى ذى القعدة، وقد بلغ ستّا وتسعين سنة، ودفن بمقابر الخيزران عند أبى حنيفة، رضى الله عنه.
وفيها توفّى محمد بن فتوح بن عبد الله بن حميد أبو عبد الله بن أبى نصر الحميدىّ الأندلسىّ. كان من جزيرة «1» ميورقة. ولد قبيل الأربعمائة، وسمع الكثير ورحل إلى الأقطار ثم استوطن بغداد. وكان مختصّا بصحبة ابن حزم الظاهرىّ، وحمل عنه أكثر كتبه. قال ابن ماكولا: «صديقنا أبو عبد الله الحميدىّ من أهل العلم والفضل، ورد بغداد وسمع أصحاب الدارقطنىّ وابن شاهين وغيرهم، وسمع منه خلق كثير، وصنّف «تاريخ الأندلس» ، ولم أر مثله فى عفّته ونزاهته» .

(5/156)


وفيها توفّى منصور [بن نظام «1» الدين] بن نصر الدولة بن مروان صاحب ميّافارقين، وكان استولى على الجزيرة فمات بها، فحمل إلى آمد فدفن بقبّة بنتها له زوجته ستّ الناس بنت عميد «2» الأمّة. وأوّل ولاية بنى مروان لديار بكر فى سنة ثمانين وثلثمائة، واستولى الوزير ابن جهير على بلادهم سنة تسع وسبعين وأربعمائة، ومات منصور فى هذه السنة. فكانت ولايتهم نيّفا ومائة سنة. وأعيان ملوكهم أوّلهم پاد الكردىّ، وبعده مروان وهو جدّهم، ثم بعده ولده أحمد، ثم بعده ولده نظام الدين ثم ولداه «3» سعيد ومنصور هذا.
وفيها توفى محمد بن عبّاد بن محمد بن إسماعيل بن قريش السلطان المعتمد على الله أبو القاسم ابن السلطان المعتضد بالله أبى عمرو ابن الفقيه قاضى إشبيلية ثم سلطانها الظافر ابن المؤيّد بالله أبى العباس بن أبى الوليد اللّحمىّ، من ولد النّعمان بن المنذر صاحب الحيرة. كان المعتمد هذا صاحب إشبيلية وقرطبة. وأصلهم من بلد العريش «4» التى كانت فى أوّل رمل مصر. وكان المعتمد عالما ذكيا شاعرا عادلا فى الرعيّة، كان من محاسن الدنيا.

(5/157)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 489]
السنة الثانية من ولاية المستعلى أحمد على مصر وهى سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
فيها حكم المنجّمون بأن يكون طوفان مثل طوفان نوح عليه السلام. فسأل الخليفة ابن عيسون المنجّم، فقال: أخطأ المنجّمون، طوفان نوح قد اجتمع فى برج الحوت الطوالع السبعة، والآن قد اجتمع فيه ستة، زحل لم يجتمع معها؛ ولكنّى أقول: إنّ بقعة من البقاع يجتمع بها عالم من بلاد كثيرة فيغرقون. فقيل:
ما ثمّ أكبر من بغداد، ويجتمع فيها ما لا يجتمع فى غيرها، وربّما كانت هى؛ فقال ابن عيسون: لا أدرى غير ما قلت. فأمر الخليفة بإحكام المسنّيات «1» وسدّ الفروج، وكان الناس يتوقّعون الغرق؛ فوصل الخبر بأن الحاج نزلوا فى واد عند نخلة «2» ، فأتاهم سيل عظيم وأخذ الجميع بالجمال «3» والرجال، وما نجا منهم إلّا من تعلّق برءوس الجبال. فخلع الخليفة على ابن عيسون وأجرى له الجراية وأمن الناس.
وفيها ورد كتاب المستعلى صاحب مصر وكتاب وزيره الأفضل أمير الجيوش إلى رضوان بن تتش السلجوقىّ بالدخول فى الطاعة. فأجاب وخطب للمستعلى صاحب الترجمة.

(5/158)


وفيها خرج العسكر المصرىّ إلى الساحل ونزل على صور وفتحوها عنوة، وأخذوا منها أموالا عظيمة، وكان بها رجل يعرف بالكتيلة، فأسر وحمل إلى مصر.
وفيها سار الأفضل أمير الجيوش المذكور من مصر بالعساكر إلى القدس، وكان به سكمان بن أرتق وأخوه ايلغازى؛ فحصّر البلد ونصب عليها المجانيق وقاتلهم أربعين يوما؛ وأرسل أهل القدس فواطئوه على فتح الباب، وطلبوا منه الأمان فأمّنهم وفتحوا له الباب، وخرج سكمان من باب آخر ومضى إلى الرّها، ومضى أخوه ايلغازى إلى بغداد. وهما أول ملوك الارتقيّة ظهورا.
وفيها تواترت الأخبار بخروج ملك الروم من بلاد الروم بقصد البلاد الشاميّة.
وفيها قتل رضوان بن تاج الدولة تتش السلجوقىّ وقتل ولده ونهبت داره.
وكان ظالما فاتكا. كان استوزر أبا الفضل بن الموصلىّ مشيّد الدين.
وفيها توفّى عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله أبو حكيم الخيرىّ- وخير: إحدى بلاد فارس- وهو جدّ [أبى «1» ] الفضل بن ناصر لأبيه «2» . تفقّه على أبى إسحاق الشيرازىّ وبرع فى الفرائض، وله فيها مصنّف. وكان فقيها صالحا حسن الطريقة.
وفيها توفّى عبد الرزّاق بن عبد الله بن المحسّن أبو غانم التّنوخىّ المعرّىّ. كان فاضلا شاعرا. ومن شعره فى كوز فقّاع «3» :
[الوافر]
ومحبوس بلا ذنب جناه ... له سجن بباب من رصاص
يضيّق بابه خوفا [عليه «4» ] ... ويوثق بعد ذلك بالعفاص «5»
إذا أطلقته خرج أرتقاصا ... وقبل فاك من فرح الخلاص

(5/159)


وفيها توفّى منصور بن محمد بن عبد الجبّار الشيخ أبو المظفّر السمعانىّ، جدّ أبى سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور صاحب «الذيل» . وكان أبو المظفّر هذا من أهل مرو، وتفقّه على مذهب أبى حنيفة حتى برع، ثمّ ورد بغداد وانتقل لمذهب الشافعىّ لمعنى من المعانى، ورجع إلى بلده فلم يقبلوه وقام عليه العوامّ، فخرج إلى طوس، ثم قصد نيسابور. وصنّف «التفسير» و «البرهان» و «الاصطلام» و «القواطع فى أصول الفقه» وغير ذلك. ومات فى شهر ربيع الأول بمرو.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثلاث عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 490]
السنة الثالثة من ولاية المستعلي أحمد على مصر وهى سنة تسين وأربعمائة.
فيها أخذت الفرنج نيقية وهى أوّل بلد أخذوه، ثم [فتحوا «1» حصون الدورب] شيئا بعد شىء، كما ذكرناه مفصّلا فى أوّل ترجمة المستعلى هذا.
وفيها توفّى المعمّر»
بن محمد بن المعمّر بن أحمد بن محمد أبو الغنائم الحسينىّ «3» الطاهر ذو المناقب نقيب الطالبيّين. مات بالكرخ، فحمل إلى مقابر قريش فدفن بها. وكان من كبار الشيعة. وولى النقابة بعده ولده أبو الفتوح حيدرة، ولقّب بالرضىّ ذى الفخرين.
وفيها توفّى نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم أبو الفتح الفقيه القدسىّ الشافعىّ.
أصله من نابلس، وأقام بالقدس مدّة ودرس بها. وكان فقيها عابدا زاهدا ورعا.
مات فى المحرّم من هذه السنة.

(5/160)


وفيها توفّى يحيى بن أحمد السّيبىّ «1» . مات فى شهر ربيع الاخر وعاش مائة وثلاثا وخمسين سنة وثلاثة أشهر وأياما، وكان صحيح الحواسّ، يقرأ عليه القرآن، ويسمع الحديث، ورحل الناس إليه. وكان ثقة صالحا صدوقا.
وفيها قتل الملك أرسلان أرغون بن السلطان ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السلجوقىّ بمرو، كان قد حكم على خراسان. وسبب قتله أنه كان مؤذيا لغلمانه جبّارا عليهم؛ فوثب عليه رجل منهم فقتله بسكّين. وكان قد ملك مرو ونيسابور وبلخ وترمذ، وأساء السيرة وخرّب أسوار مدن خراسان، وصادر وزيره عماد الملك بن نظام الملك، وأخذ منه ثلثمائة ألف دينار ثم قتله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإحدى عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 491]
السنة الرابعة من ولاية المستعلى أحمد على مصر وهى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة.
فيها تواترت الشّكايات من الفرنج، وكتب السلطان بركياروق السلجوقىّ إلى العساكر يأمرهم بالخروج مع عميد «2» الدولة للجهاد، وتجهّز سيف الدولة صدقة، وبعث مقدّماته إلى الأنبار. ثمّ وردت الأخبار إلى بغداد بأنّ الفرنج ملكوا أنطاكية وساروا إلى معرّة النعمان فى ألف ألف إنسان، فقتلوا وسبوا، حسب ما ذكرنا فى أول ترجمة المستعلى هذا.

(5/161)


وفيها عزل السلطان بركياروق وزيره مؤيّد الملك بن نظام الملك عن وزارته، واستوزر أخاه فخر الملك. وكان مؤيّد الملك فى غاية من العقل والفضل وحسن التدبير؛ وفخر الملك بعكس ذلك كلّه. فلحق مؤيّد الملك بأخى بركياروق محمد بن ملكشاه، وأطمعه فى الملك. وكان عزل مؤيد الملك بإشارة [مجد «1» الملك] القمّى المستوفى.
وفيها خرج محمد بن ملكشاه المذكور على أخيه بركياروق. وكان لملكشاه عدّة أولاد، منهم بركياروق السلطان بعده وأمّه زبيدة «2» ، ومحمود وأمه خاتون، ومحمد شاه هذا الذي خرج، وسنجر؛ ومحمد وسنجرهما أخوان لأب وأم. وكان محمد هذا رباه أخوه بركياروق وأقطعه كنجة «3» وأعمالها، ورتّب معه شخصا كالأتابك، واسمه أيضا محمد؛ فوثب عليه محمد شاه وقتله لكونه كان يحجر عليه، ولا يبتّ أمرا حتى يراجع بركياروق. ووافق ذلك مجىء مؤيّد الملك بن نظام الملك إليه، فجرت له مع أخيه بركياروق حروب ووقائع.
وفيها توفّى طرّاد بن محمد بن علىّ أبو الفوارس الزينبىّ العبّاسىّ الهاشمىّ. هو من ولد زينب بنت سليمان بن علىّ بن عبد الله بن عباس. ولد سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وسمع الكثير، ورحل الناس إليه من الأقطار، وأملى بجامع المنصور، وحجّ سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وأملى بمكة والمدينة، وولى نقابة العباسيّين بالبصرة، وكانت له رياسة وجلالة. ومات فى شوّال وقد جاوز تسعين سنة.

(5/162)


وفيها توفّى نصر بن علىّ بن المقلّد بن نصر بن منقذ أبو المرهف الكنانىّ عزّ الدولة. ملك شيزر بعد أبيه، وقام بتربية إخوته أحسن قيام. وفيه يقول أبوه علىّ بن المقلّد من قصيدة:
[الطويل]
جزى الله نصرا خير ما جزيت به ... رجال قضوا فرض العلا وتنفلّوا
ومنها:
سألقاك يوم الحشر أبيض واضحا ... وأشكر عند الله ما كنت تفعل
ومنها:
إلى الله أشكو من فراقك لوعة ... توقّد فى الأحشاء ثم ترحّل
ومن شعر نصر هذا:
[الخفيف]
كنت أستعمل البياض من الأم ... شاط عجبا بلمّي وشبابى
فاتّخذت السواد فى حالة الشّي ... ب سلوّا عن الصّبا بالتّصابى
وفيها توفى الحافظ أبو العباس أحمد بن بشرويه «1» الأصبهانىّ الإمام المحدّث.
مات وله ست وتسعون سنة. وكان إماما حافظا، سمع الحديث وروى عنه غير واحد، وكان من أئمة المحدّثين. رحمه الله تعالى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 492]
السنة الخامسة من ولاية المستعلى أحمد على مصر وهى سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.

(5/163)


فيها استولى الفرنج على بيت المقدس فى يوم الجمعة ثالث عشر شعبان، حسب ما ذكرناه فى ترجمة المستعلي هذا.
وفيها توفّى السلطان إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وغيرها من بلاد الهند. كان ملكا عادلا منصفا منقادا إلى الخير كثير الصدقات، كان لا يبنى لنفسه مكانا حتى يبنى لله مسجدا أو مدرسة. قال الفقيه أبو الحسن الطّبرى.
أرسلنى إليه بركياروق فى رسالة، فرأيت فى مملكته ما لا يتأتّى وصفه. ومات فى شهر رجب وقد جاوز السبعين، وأقام ملكا نيّفا وأربعين سنة.
وفيها توفّى الشيخ عبد الباقى بن يوسف بن علىّ بن صالح أبو تراب المراغىّ الفقيه الشافعىّ. كان إماما فقيها زاهدا مدرّسا. مات فى ذى القعدة عن اثنتين «1» وتسعين سنة، وقد انتهت إليه رياسة العلم بنيسابور.
وفيها توفّى علىّ بن الحسن بن الحسين بن محمد القاضى أبو الحسن «2» الموصلىّ الأصل المصرىّ الفقيه الشافعىّ المعروف بالخلعىّ. ولد بمصر فى أوّل سنة خمس وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير ورواه، وكان مسند الديار المصريّة فى وقته.
ومات فى ذى الحجة.
وفيها توفّى الحافظ أبو القاسم «3» مكىّ بن عبد السلام الرّميلىّ ببيت المقدس شهيدا حين أخذته الفرنج فى شعبان، واستشهد به عالم لا يحصى. وكان إماما محدّثا حافظا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع واثنتان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.

(5/164)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 493]
السنة السادسة من ولاية المستعلي أحمد على مصر وهى سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة.
فيها عادت الخطبة ببغداد باسم بركياروق بعد الخليفة، وكان بطل اسمه وخطب لأخيه محمد شاه؛ وهذا بعد أن وقع بينهما حروب إلى أن ملك بركياروق وأخرج أعوان محمد شاه من بغداد.
وفيها توفّى عبد الله بن أحمد بن علىّ بن صابر أبو القاسم السلمىّ الدمشقىّ ويعرف بابن سيدة. ولد سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، ومات فى شهر ربيع الآخر بدمشق. وأنشد:
[الوافر]
صبرا لحكمك أيّها الدهر ... لك أن تجور ومنّى الصبر
آليت لا أشكوك مجتهدا ... حتى يردّك من له الأمر
وفيها توفّى محمد بن سلطان بن محمد بن حيّوس أبو الفتيان الأمير الشاعر.
ولد سنة إحدى «1» وأربعمائة، وهو من بيت الفضل والعلم والرياسة. ومات فى شهر رجب وقد جاوز تسعين سنة. ومن شعره من قصيدة أوّلها:
[الطويل]
لكم أن تجوروا معرضين وتغضبوا ... وعادتكم أن تزهدوا حين تغضبوا
جنيتم علينا واعتذرنا إليكم ... ولولا الهوى لم يسأل الصّفح مذنب
وفيها توفّى الوزير محمد بن محمد [بن محمد «2» ] بن جهير الصاحب شرف الدين عميد الدولة. كان حسن التدبير، كافيا فى المهام، شجاعا جوادا عظيما فى الدول. وزر للخليفة القائم، ثم من بعده للمقتفى فعزله بأبى شجاع، ثم أعاده المستظهر فدبّر أموره ثمانى

(5/165)


سنين وأحد عشر شهرا وأربعة أيام. وكان له ترسّل بديع، وتوقيعات وجيزة وأشعار رقيقة. ومدحه شعراء عصره؛ وفيه يقول أبو منصور علىّ بن الحسن المعروف بصرّدرّ الشاعر قصيدته العينية المشهورة التى أوّلها:
[الكامل]
قد بان عذرك والخليط مودّع ... وهوى النفوس مع الهوادج يرفع
وفيها توفّى يحيى بن عيسى بن جزلة أبو علىّ المتطبّب صاحب «المنهاج «1» » فى الطب. كان نصرانيّا يقرأ على أبى علىّ بن الوليد المعتزلىّ، فلم يزل يدعوه إلى الإسلام حتى أسلم وحسن إسلامه. واستخدمه أبو عبد الله «2» الدامغانى قاضى القضاء فى كتب السّجلّات. وكان يطبّ أهل محلّته بغير عوض، ويعود الفقراء ويحسن إليهم. ووقف كتبه على مشهد أبى حنيفة- رضى الله عنه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم عشر أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 494]
السنة السابعة من ولاية المستعلى أحمد على مصر وهى سنة أربع وتسعين وأربعمائة.
فيها قتل السلطان بركياروق خلقا من الباطنية، وكانوا ثلثمائة ونيّفا، وكتب إلى الخليفة بالقبض على من اتّهم أنّه منهم.

(5/166)


وفيها التقى بركياروق مع أخيه محمد شاه، وكان مع محمد شاه خمسة عشر ألفا، ومع بركياروق خمسة وعشرون ألفا؛ فاقتتلوا قتالا شديدا، قتل من الفريقين عدّة كبيرة؛ فانهزم محمد شاه وهرب وزيره مؤيّد الملك بن نظام الملك، فتبعه غلمان بركياروق وأخذوه وجاءوا به إلى بركياروق، فقام وضرب عنقه بيده. ومضى محمد شاه واستجار بأخيه سنجر شاه؛ فأرسل سنجر شاه إلى بركياروق يسأله فيه؛ فقال بركياروق: لا بدّ أن يطأ بساطى. ثم وقع أمور؛ وانتصر سنجر شاه لأخيه محمد شاه، ولا زال حتّى دخل محمد بغداد وخالب له بها، وتوجّه بركياروق إلى واسط.
وفيها أخذ الفرنج جبلة من بلاد الساحل وأرسوف «1» وقيساريّة بالسيف.
وفيها توفّى محمد بن منصور أبو سعد شرف الملك المستوفى الخوارزمىّ. كان جليل القدر فاضلا نبيلا متعصّبا لأصحاب أبى حنيفة- رضى الله عنه- وهو الذي بنى على أبى حنيفة القبّة والمدرسة الكبيرة بباب الطّاق- وقد قدّمنا ذكره فى وفاة أبى حنيفة فى هذا الكتاب- وبنى أيضا مدرسة بمرو، ووقف فيها كتبا نفيسة، وبنى الرّباطات فى المفاوز، وعمل خيرات كثيرة. ثم انقطع فى آخر عمره. وبذل لملكشاه مائة ألف دينار حتى أعفاه من الخدمة. ومات بأصبهان فى جمادى الآخرة.
وفيها قتل أبو المحاسن «2» وزير بركياروق. كان قد نقم على أبى سعيد «3» شيئا فقتله؛ فركب بعد ذلك وسار على باب أصبهان، فوثب عليه غلام أبى سعيد الحدّاد فقتله وأخذ بثأر أستاذه. فأمر بركياروق بسلخ الغلام فسلخ وعلّق.

(5/167)


وفيها توفّى الشيخ أبو الحسن علىّ بن أحمد بن الأخرم «1» المدينىّ المؤذّن. كان إماما محدّثا فاضلا. مات فى المحرّم وله تسع وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع أصابع.