النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 495]
السنة التى حكم فى أوّلها المستعلي أحمد ثم الآمر ولده، وهى سنة خمس وتسعين وأربعمائة.
فيها جلس الخليفة المستظهر بالله أحمد العباسىّ لمحمد شاه وسنجر شاه ابنى ملكشاه جلوسا عامّا ودخلا عليه وقبلا الأرض له، فأدناهما وأفاض عليهما الخلع، وتوّجهما وطوّقهما وسوّرهما، وقرأ الخليفة: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ...
الآية. ثم خرجا إلى قتال أخيهما بركياروق؛ فوقع بينهما وقائع وحروب أسفرت عن نصرة بركياروق وانهزام محمد شاه.
وفيها قبض بركياروق على الكيا «2» الهرّاسىّ الفقيه الشافعىّ، لأنه بلغه عنه أنه باطنىّ شيعىّ؛ فكتب الخليفة إليه ببراءة ساحته وحسن عقيدته ودينه، فأطلقه.
وفيها كانت وفاة صاحب الترجمة المستعلي بالله أحمد، كما تقدّم ذكره فى ترجمته.
وفيها توفّى حسين بن ملاعب جناح الدولة صاحب حمص. كان أميرا مجاهدا شجاعا يباشر الحروب بنفسه. دخل جامع «3» حمص يوم الجمعة فصلّى الجمعة، فوثب

(5/168)


عليه ثلاثة من الباطنيّة فقتلوه. وكان سبب قتله أنه كان عند رضوان بن تتش ملك حلب منجّم باطنىّ، وهو أوّل من أظهر مذهب الباطنيّة بالشام، فندب لقتل جناح الدولة هذا أولئك النفر. ثمّ قتل المنجم بحلب بعد ذلك بأربعة عشر يوما.
وفيها توفّى الشيخ أبو العلاء صاعد بن سيّار الكنانىّ الهروى الفقيه العالم المشهور.
كان إماما فقيها مفتيا مدرّسا صالحا ثقة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.

(5/169)


ذكر ولاية الآمر بأحكام الله على مصر
الآمر اسمه منصور، وكنيته أبو علىّ، ولقبه الآمر بأحكام الله بن المستعلى بالله أبى القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبى تميم معدّ بن الظاهر بالله علىّ بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدىّ عبيد الله العبيدىّ الفاطمىّ السابع من خلفاء مصر من بنى عبيد والعاشر منهم ممن ملك بالمغرب.
قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدّين محمد الذهبىّ فى تاريخ الإسلام: «كان رافضيّا كآبائه فاسقا ظالما «1» جبّارا متظاهرا بالمنكر واللهو، ذا كبر وجبروت، وكان مدبّر سلطانه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش. ولى الآمر وهو صبىّ فلما كبر قتل الأفضل وأقام فى الوزارة المأمون أبا عبد الله محمد بن مختار بن فاتك البطائحىّ «2» ، فظلم وأساء السّيرة إلى أن قبض عليه الآمر سنة تسع عشرة وخمسمائة، وصادره ثم قتله فى سنة اثنتين وعشرين وصلبه، وقتل معه خمسة من إخوته. وفى أيّام الآمر أخذ الفرنج عكّا سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وأخذوا طرابلس «3» فى سنة اثنتين وخمسمائة، فقتلوا وسبوا، وجاءتها نجدة المصريّين بعد فوات المصلحة؛ وأخذوا عرقة «4» وبانياس.
وتسلّموا فى سنة إحدى عشرة وخمسمائة تبنين «5» وتسلمّوا صور سنة ثمانى عشرة، وأخذوا بيروت بالسيف فى سنة ثلاث وخمسمائة، وأخذوا صيداء «6» سنة أربع وخمسمائة.

(5/170)


ثم قصد الملك بردويل الإفرنجىّ مصر ليأخذها، ودخل الفرما «1» وأحرق جامعها ومساجدها؛ فأهلكه الله قبل أن يصل إلى العريش «2» . فشقّ أصحابه بطنه وصبرود، ورموا حشوته «3» هناك؛ فهى ترجم إلى اليوم بالسبخة «4» ، ودفنوه بقمامة «5» . وهو الذي أخذ بيت المقدس وعكا وعدّة حصون من السواحل. وهذا كله بتخلّف هذا المشئوم الطلعة. وفى أيّامه ظهر ابن تومرت «6» بالغرب.
وولد الآمر فى أوّل سنة تسعين وأربعمائة، واستخلف وله خمس سنين، وبقي فى الملك تسعا وعشرين سنة وتسعة أشهر، إلى أن خرج من القاهرة يوما فى ذى القعدة

(5/171)


وعدّى على الجسر «1» إلى الجزيرة «2» ؛ فكمن له قوم بالسلاح. فلما عبر نزلوا عليه بأسيافهم، وكان فى طائفة يسيرة، فردّوه «3» إلى القصر وهو مثخن بالجراح، فهلك من غير عقب. وهو العاشر من أولاد المهدىّ عبيد الله الخارج بسجلماسة وبايعوا

(5/172)


بالآمر ابن عمه الحافظ أبا الميمون عبد المجيد بن محمد بن المستنصر بالله. وكان الآمر ربعة، شديد الأدمة، جاحظ العينين، حسن الخط، جيدّ العقل والمعرفة.
وقد ابتهج بقتله لفسقه وسفكه للدماء وكثرة مصادرته واستحسانه الفواحش.
وعاش خمسا وثلاثين سنة. وبنى وزيره المأمون بالقاهرة الجامع «1» الأقمر» . انتهى كلام الذهبىّ برمّته. ونذكر إن شاء الله قتله وأحواله بأوسع مما قاله الذهبىّ من أقوال جماعة من المؤرّخين أيضا.
وقال العلّامة أبو المظفّر فى مرآة الزمان: «لما كان يوم الثلاثاء ثالث ذى القعدة خرج من القاهرة (يعنى الآمر) وأتى الجزيرة وعبر بعض الجسر، فوثب عليه قوم فلعبوا عليه بالسيوف- وقيل: كانوا غلمان الأفضل- فحمل فى مركب إلى القصر فمات فى ليلته، وعمره أربع وثلاثون سنة- وزاد غيره فقال: وتسعة أشهر وعشرون يوما- وكانت أيّامه أربعا وعشرين سنة وشهرا.
قلت: وهم صاحب مرآة الزمان فى قوله: «وكانت مدّته أربعا وعشرين سنة وشهرا» . والصواب ما قاله الذهبىّ، فإنّه وافق فى ذلك جمهور المؤرخين.
ولعل الوهم يكون من الناسخ. وما آفة الأخبار إلّا رواتها.
قال (أعنى صاحب مرآة الزمان) : ومولده سنة تسعين وأربعمائة. قلت:
وزاد غيره وقال: فى يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرّم. قال: وكانت سيرته قد ساءت بالظلم والعسف والمصادرة. قال: ولمّا قتل الامر وثب غلام له أرمنىّ فاستولى على القاهرة، وفرّق الأموال فى العساكر، وأراد أن يتأمر على الناس؛ فخالفه جماعة

(5/173)


ومضوا إلى أحمد بن الأفضل (يعنى الوزير) فعاهدوه وجاءوا به إلى القاهرة، فخرج الغلام الأرمنىّ فقتلوه، وولّوا أبا الميمون عبد المجيد بن محمد بن المستنصر، وولى الخلافة، ولقّبوه بالحافظ؛ ووزر له أبو علىّ أحمد بن الأفضل بن أمير الجيوش، وسمّاه أمير الجيوش. فأحسن إلى الناس، وأعاد إليهم ما صادرهم به الآمر وأسقطه؛ فأحبّه الناس؛ فحسده مقدّمو الدولة فاغتالوه. وقيل: إنّ الآمر لم يخلّف ولدا وترك امرأة حاملا؛ فماج أهل مصر وقالوا: لا يموت أحد من أهل هذا البيت إلّا ويخلّف ولدا ذكرا، منصوصة عليه الإمامة؛ وكان قد نصّ على الحمل قبل موته، فوضعت الحامل بنتا، فعدلوا إلى الحافظ؛ وانقطع النّسل من الآمر وأولاده. وهذا مذهب طائفة من شيعة المصريّين؛ فإنّ الإمامة عندهم من المستنصر إلى نزار.
وكان نقش خاتم الآمر هذا «الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين» . وابتهج الناس بقتله.
انتهى كلام صاحب مرآة الزمان أيضا برمّته.
قلت: ونذكر إن شاء الله قتلة الآمر هذا بأوسع من هذا فى آخر ترجمته بعد أن نذكر أقوال المؤرّخين فى أمره.
وقال قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن محمد بن خلّكان- رحمه الله-:
«وكان الآمر سيّئ الرأى جائر السّيرة مستهترا متظاهرا باللهو واللّعب. وفى أيّامه أخذت الفرنج مدينة عكّا- ثم ذكر ابن خلّكان نحوا ممّا ذكره الذهبىّ من أخذ الفرنج للبلاد الشامية. إلى أن قال:- خرج من القاهرة (يعنى الآمر) صبيحة يوم الثلاثاء ثالث عشر «1» ذى القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ونزل إلى مصر وعدّى على الجسر إلى الجزيرة التى قبالة مصر (يعنى الرّوضة) ؛ فكمن له قوم بالأسلحة

(5/174)


وتواعدوا على قتله فى السكة التى يمرّ بها. فلمّا مرّ بها وثبوا عليه ولعبوا عليه بالسيوف، وكان قد جاوز الجسر وحده فى عدّة قليلة من غلمانه وبطانته وخاصّته وشيعته، فحمل فى زورق فى النيل ولم يمت، وأدخل القاهرة وهو حىّ وجىء به إلى القصر فمات من ليلته، ولم يعقب. وكان قبيح السّيرة، ظلم الناس وأخذ أموالهم، وسفك الدماء، وارتكب المحظورات، واستحسن القبائح، وابتهج الناس بقتله» .
انتهى كلام ابن خلّكان.
وقيل: إنّ الآمر كان فيه هوج عند طلوعه المنبر فى خطبته فى الجمع والأعياد، فاستحيا وزيره المأمون بن البطائحىّ أن يشافهه بما يقع له من الهوج؛ وأراد أن يفهمها له من غير مشافهة، فقال له: يا مولانا، قد مضى من الشهر أيّام ولم يبق إلا الرّكوب إلى الجمعة الأولى- قلت: وقد تقدّم فى ترجمة المعزّ لدين الله ترتيب خروج الخلفاء الفاطميّين إلى صلاة الجمعة- ويصلّوا بالناس ثلاث جمع، والجمعة الأخيرة «1» من كلّ شهر يصلّى بالناس الخطيب وتسمّى تلك الجمعة جمعة الراحة (أعنى يستريح فيها الخليفة) . ونستطرد فى هذه الترجمة أيضا لذكر شىء من ذلك مما لم نذكره فى ترجمة المعزّ. قال الوزير: يا مولانا، وبعد غد جمعة الراحة، فإن حسن فى الرأى أن يخرج مولانا بحاشيته خاصّة من باب النوبة «2» إلى القصر النافعىّ «3» فما فيه سوى عجائز وقرائب وألزام، ويجلس مولانا على القبّة التى على المحراب قبالة الخطيب ليشاهد نائبه فى الخطابة كيف يخطب، فإنّه رجل شريف فصيح اللّسان حافظ القرآن.

(5/175)


فأجابه الخليفة الآمر إلى ذلك. ولمّا حضر الجامع وجلس فى القبّة وفتح الرّوشن وقام الخطيب فخطب، فهو فى الصلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فى الخطبة الثانية وإذا بالهوى قد فتح الطاق فرفع الخطيب رأسه فوقع وجهه فى وجه الخليفة فعرفه فأرتج عليه وارتاع ولم يدر ما يقول، حتّى فتح عليه فقال: معاشر المسلمين، نفعكم الله وإيّاى بما سمعتم، وعن الضلال عصمكم. قال الله تعالى فى كتابه العزيز:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...
. إلى آخر الآية، وصلّى بالناس. فلما انفصل المجلس تكلم الآمر مع وزيره المذكور بما وقع للخطيب. فانفتح الكلام للوزير وتكلّم فيما كان بصدده، فرجع الآمر عن الخطّابة واستناب وزيره المذكور؛ فصار الوزير يخطب بجامع القاهرة وجامع ابن طولون وجامع مصر.
وقال ابن أبى المنصور فى تاريخه: إنّ ابتداء خطبة الوزير المأمون كانت فى شهر رمضان سنة خمس وثمانين؛ وترك الآمر الخطابة مع ما كان له فى ذلك من الرغبة الزائدة، حتّى إنّه كان اقترح أشياء أخرى فى خروجه إلى الجامع زيادة على ما كانت آباؤه تفعله، غير أنّه كان يخطب فى الأعياد بعد ما استناب وزيره المأمون ابن البطائحىّ فى خطبة الجمع. فكان الآمر إذا خرج فى خطبة العيد خرج إلى المصلّى، ويخرجون قبله، على العادة السابقة المذكورة فى ترجمة المعزّ، بالفرش والآلات، وعلّق بالمحاريب الشروب المذهبة، وفرش فيه ثلاث سجّادات متراكبة، وبأغلاها السجادة اللطيفة التى كانت عندهم معظّمة، وهى قطعة من حصير، ذكر أنّها كانت من حصير لجعفر الصادق- رضى الله عنه- وكانت مما أخذه الحاكم بأمر الله عند فتح دار جعفر الصادق. ثم تغلق الأبواب الثلاثة التى بجنب القبّة التى فى صدرها المحراب.
قلت: والذي ذكرناه فى ترجمة المعزّ لدين الله كانت صلاته بالجامع الأزهر،

(5/176)


والآمر هذا كانت صلاته فى الجمعة بالجامع الحاكمىّ، وفى العيد بالمصلّى.
ونذكر أيضا هيئة خروج الامر إلى الجامع بنحو ما ذكرناه هناك وزيادة أخرى لم نذكرها؛ فبهذا المقتضى يكون للإعادة نتيجة. قال: ثمّ تفرش أرض القبّة المذكورة جمعيا بالحصر المحاريب المبطّنة، ثم تعلّق الستور بالمحراب وجانبى المنبر، ويفرش درجه، وينصب اللواءان ويعلّقان عليه، ويقف متولّى ذلك والقاضى تحت المنبر، ويطلق البخور، ويتقدّم «1» الوزير بألّا يفتح الباب أحد، وهو الباب الذي يدخل الخليفة منه ويقف عليه، ويقعد الداعى فى الدّهليز، ويقرأ المقرئون بين يديه، ويدخل الأمراء والأشراف والشهود والشيوخ، ولا يدخل غيرهم إلّا بضمان من الداعى. فإذا استحقّت الصلاة أقبل الخليفة فى زيه الذي ذكرناه فى ترجمة المعزّ لدين الله وقصيب الملك بيده، وجميع إخوته وبنو عمّه فى ركابه. فعند ذلك يتلقّاه المقرئون ويرجع من كان حوله من بنى عمه وإخوته. ويخرج من باب الملك إلى أن يصل إلى باب العيد، فتنشر المظلّة عليه- وقد ذكرنا أيضا زىّ المظلّة فى ترجمة المعزّ- ويترتّب الموكب فى دعة لا يتقدّم أحد ولا يتأخّر عن مكانه، وكذلك وراء الموكب العماريات- هم عوض المحفّات- والزّرافات والفيلة والأسود عليها الأسرّة مزيّنة بالأسلحة. ولا يدخل من باب المصلّى أحد راكبا إلا الوزير خاصّة، ثم يدخل الباب الثانى فيترجّل الوزير ويتسلّم شكيمه فرس الخليفة حتّى ينزل الخليفة ويمشى إلى المحراب، والقاضى والداعى عن يمينه ويساره يوصّلان التكبير لجماعة المؤذّنين. وكاتب الدّست وجماعة الكتّاب يصلّون تحت عقد المنبر، لا يمكن غيرهم أن يكون معهم. ويكبّر فى الأولى سبعا وفى الثانية خمسا على

(5/177)


سنّة القوم، ثم يطلع الوزير ثمّ يسلّم الدعو «1» القاضى، فيستدعى من جرت عادته بطلوع المنبر، وكلّ لا يتعدّى مكانه. ثم ينزل الخليفة بعد الخطبة ويعود فى أحسن زىّ على هيئة خروجه من رحبة باب العيد حتّى يأكل الناس السّماط. وقد ذكرنا كيفيّة السّماط وزىّ لبس الخليفة والمظلّة وصفة ركوبه وطلوعه إلى المنبر ونزوله، فى ترجمة المعزّ لدين الله أوّل خلفائهم، فينظر هناك من هذا الكتاب.
قلت: وكان الآمر يتناهى فى العظمة ويتقاعد عن الجهاد. وما قاله الذهبىّ فى ترجمته فبحقّ؛ فإنّه مع تلك المساوى التى ذكرت عنه كان فيه تهاون فى أمر الغزو والجهاد حتّى استولت الفرنج على غالب السواحل وحصونها فى أيّامه، وإن كان وقع لأبيه المستعلى أيضا ذلك وأخذ القدس فى أيامه فإنّه اهتمّ لقتال الفرنج وأرسل [الأفضل «2» بن] بدر الجمالىّ أمير الجيوش بالعساكر، فوصلوا بعد فوات المصلحة بيوم. فكان له فى الجملة مندوحة، بخلاف الآمر هذا، فإنّه لم ينهض لقتال الفرنج البتّة، وإن كان أرسل مع الأسطول عسكرا فهو كلا شىء. وسنبيّن ذلك عند استيلاء الفرنج على طرابلس وغيرها على سبيل الاختصار فى هذا المحلّ، فنقول:
أوّل ما وقع فى أيّامه من طمع الفرنج فى البلاد فإنّهم خرجوا فى أوّل سنة سبع وتسعين وأربعمائة من الرّهاء، وانقسموا قسمين، قسم قصد حرّان، وقسم قصد الرّقّة. فالذى توجّه إلى الرّقّة خرج لهم سكمان بن أرتق صاحب ماردين، وكان سالم بن بدر العقيلىّ فى بنى عقيل، وقد نزلوا على رأس «3» العين، فخرج بهم سكمان

(5/178)


المذكور، والتقوا مع الفرنج واقتتلوا قتالا شديدا أسر فيه سالم بن بدر المذكور، ثم كانت الدائرة على الفرنج، فانهزموا وقتل منهم خلق كثير. والقسم الآخر من الفرنج الذي قصد حرّان والبلاد الشاميّة لم ينهض لقتالهم وصالحهم ابن عمّار قاضى طرابلس وصاحبها وهادنهم، على أن يكون لصنجيل ملك الفرنج ظاهر البلد، وألّا يقطع الميرة عنها وأن يكون داخل البلد لابن عمّار. وهلك فى أثناء ذلك صنجيل المذكور ملك الروم. ولم ينهض أحد من المصريّين لقتال المذكورين.
فعلمت الفرنج ضعف من بمصر. ثم بعد ذلك فى سنة اثنتين وخمسمائة قصد الفرنج طرابلس وأخذوها، بعد أن اجتمع عليها ملوك الفرنج مع ريمند «1» بن صنجيل المقدّم ذكره فى ستين مركبا فى البحر مشحونة بالمقاتلة؛ وطنكرى الفرنجىّ صاحب أنطاكية، وبغدوين الفرنجىّ صاحب القدس بمن معهم، جاءوا من البرّ وشرعوا فى قتالها وضايقوها من أوّل شعبان إلى حادى عشر ذى الحجّة، وأسندوا أبراجهم إلى سور البلد. فلمّا رأى أهل طرابلس ذلك أيقنوا بالهلاك مع تأخّر أسطول مصر عنهم. ثم حضر أسطول مصر من البحر. وصار كلّما سار نحو البلد ردّه الفرنج إلى نحو مصر.
قلت: ومن هذا يظهر عدم اكتراث أهل مصر بالفرنج من كلّ وجه. الأوّل:
من تقاعدهم عن المسير فى هذه المدّة الطويلة. والثانى: لضعف العسكر الذي أرسلوه مع أسطول مصر، ولو كان لعسكر الأسطول قوّة لدفع الفرنج من البحر عن البلد على حسب الحال. والثالث: لم لا خرج الوزير الأفضل بن أمير الجيوش بالعساكر المصرية كما كان فعل والده بدر «2» الجمالىّ فى أوائل الأمر. هذا مع قوّتهم

(5/179)


من العساكر والأموال والأسلحة. فلله الأمر من قبل ومن بعد. ولله درّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب فيما فعله فى أمر الجهاد وفتح البلاد، كما يأتى ذلك كلّه إن شاء الله مفصّلا فى وقته وساعته فى ترجمة السلطان صلاح الدين- رحمه الله-.
ثمّ إنّ الفرنج لما علموا بحال أهل طرابلس وتحقّقوا أمرهم حملوا حملة رجل واحد فى يوم الاثنين حادى عشر ذى الحجة وهجموا على طرابلس، فأخذوها ونهبوها وأسروا رجالها وسبوا نساءهم وأخذوا أموالها وذخائرها؛ وكان فيها ما لا يحصى ولا يحصر واقتسموها بينهم. وطمعوا فى الغنائم، فساروا إلى جبلة وبها فخر الملك ابن عمّار الذي كان صاحب طرابلس وقاضيها، وتسلّموها منه بالأمان فى ثانى عشر ذى الحجّة فى يوم واحد، وخرج منها ابن عمّار سالما. ثم وصل بعد ذلك الأسطول المصرىّ بالعساكر، فوجدوا البلاد قد أخذت فعادوا كما هم إلى مصر. وسار ابن عمّار إلى شيزر، فأكرمه صاحبها سلطان بن علىّ بن منقذ واحترمه وعرض عليه المقام عنده فأبى، وتوجّه إلى الأمير طغتكين صاحب دمشق، فأكرمه طغتكين وأنزله وأقطعه الزّبدانىّ «1» وأعماله. ثم وقع بين بغدوين صاحب القدس وبين طغتكين المذكور أمور، حتّى وقع الاتفاق بينهما على أن يكون السّواد «2» وجبل عوف مثلّثة، الثّلث للفرنج والباقى للمسلمين. ثم انقضى ذلك فى سنة خمس وخمسائة. وقصد بغدوين الفرنجىّ المذكور صور؛ فكتب واليها وأهلها إلى طغتكين يسألونه أنهم يسلّمونها إليه قبل مجىء الفرنج لأنّهم يئسوا من نصرة مصر؛ فأبى وبعث إليهم الفرسان والرّجالة، وجاءهم هو من جبل عاملة ثمّ عاد. ثمّ سار إليهم بغدوين فى «3» الخامس

(5/180)


والعشرين من جمادى الأولى سنة خمس وخمسمائة فقطع أشجارها وقاتلها أياما، وهو يعود خاسرا. وخرج طغتكين وخيّم ببانياس وجهّز الخيّالة والرّجالة إلى صور نجدة، فلم يقدروا على الدخول إليها من الفرنج وثمّ رحلت الفرنج عنها، ونزلوا على الحبيس «1» (وهو حصن عظيم) وحاصروه حتى فتحوه عنوة؛ وقتلوا كلّ من كان فيه، ثم عاد بغدوين إلى صور وشرع فى عمل الأبراج، وأخذ فى قتالها «2» والزحف فى كلّ يوم.
فلمّا بلغ ذلك طغتكين زحف عليهم ليشغلهم، فخندق عليهم وهجم الشتاء فلم يبال الفرنج به لأنّهم كانوا فى أرض رملة، والميرة تصل إليهم من صيداء فى المراكب.
ثمّ ركب طغتكين البحر وسار إلى نحو صيداء، وقتل جماعة من الفرنج وغرّق مراكبهم وأوصل مكاتبته إلى أهل صور، فقوّى قلوبهم. ثم عمل الفرنج برجين عظيمين، طول الكبير منهما زيادة على خمسين ذراعا، وطول الصغير زيادة على أربعين ذراعا، وزحفوا بهما أوّل شهر رمضان، وخرج أهل صور بالنّفط والقطران ورموا النار، فهبّت الريح فاحترق البرج الصغير بعد المحاربة العظيمة، ونهب منه زرديات «3» وطوارق «4» وغير ذلك؛ ولعبت النار فى البرج الكبير أيضا فأطفأها الفرنج.
ثم إنّ الفرنج طمّوا الخندق، وواتروا الزّحف طول شهر رمضان، وأشرف أهل البلد على الهلاك. فتحيّل واحد من المسلمين له خبرة بالحرب، فعمل كباشا من أخشاب تدفع البرج الذي يلصقونه بالسور. ثم تحيّل فى حريق البرج الكبير حتّى أحرقه، وخرج المسلمون فأخذوا منه آلات وسلاحا. فحينئذ يئس الفرنج من

(5/181)


أخذها، ورحلوا عنها بعد ما أحرقوا جميع ما كان لهم من المراكب على الساحل والأخشاب والعمائر والعلوفات وغيرها. وجاءهم طغتكين فما سلّموا إليه البلد؛ فقال طغتكين: أنا ما فعلت الذي فعلته إلّا لله تعالى لا لرغبة فى حصن ولا مال، ومتى دهمكم عدوّكم جئتكم بنفسى وبرجالى، ثمّ رحل عنهم- فلله درّه من ملك- كلّ ذلك ولم تأت نجدة المصريّين. ودام الأمر بين أهل صور والفرنج، تارة بالقتال وتارة بالمهادنة، إلى أن طال على أهل صور الأمر ويئسوا من نصرة مصر، فسلّموها للفرنج بالأمان فى سنة ثمانى عشرة وخمسمائة.
قلت: وما أبقى أهل صور- رحمهم الله تعالى- ممكنا فى قتالهم مع الفرنج وثباتهم فى هذه السنين الطويلة مع عدم المنجد لهم من مصر. وقيل فى أخذ صور وجه آخر.
قال ابن القلانسىّ: وفى سنة تسع عشرة وخمسمائة، ملك الفرنج صور بالأمان.
وسببه خروج سيف الدولة مسعود منها، وكان قد حمل إلى مصر، وأقام الوالى الذي بها فى البلد. قلت: وهذه زيادة فى النّكاية للمسلمين من صاحب مصر؛ فإنّ سيف الدولة المذكور كان قائما بمصالح المسلمين، وفعل ما فعل مع الفرنج من قتالهم وحفظ سور المدينة هذه المدّة الطويلة، فأخذوه منها غصبا وخلّوا البلد مع من لا قبل له بمحاربة الفرنج. فكان حال المصريّين فى أوّل الأمر أنّهم تقاعدوا عن نصرة المسلمين، والآن بأخذهم سيف الدولة من صور صاروا نجدة للفرنج.
وهذا ما فعله إلا الآمر هذا صاحب الترجمة بنفسه بعد أن قبض على الأفضل ابن أمير الجيوش وقتله، وقتل غيره أيضا معه.

(5/182)


ونعود إلى كلام ابن القلانسىّ قال: وعرف الفرنج (يعنى بخروج سيف الدولة) فتأهّبوا للنزول عليها، وعرف الوالى أنه لا قبل له بهم لقلّة النجدة والميرة بها؛ فكتب إلى صاحب مصر يخبره. فكتب إليه: قد رددنا أمرها إلى ظهير الدين- أظنه يعنى بظهير الدين طغتكين المقدّم ذكره أمير دمشق- قال: ليتولّى حمايتها والذّب عنها، وبعث منشورا له بها. ونزل الفرنج عليها وضايقوها بالحصار والقتال حتّى خفّت الأقوات، وجاء طغتكين فنزل ببانياس، وتواترت المكاتبات.
إلى مصر باستدعاء المؤن، فتمادت الأيّام إلى أن أشرف أهلها على الهلاك. ولم يكن للأتابك طغتكين قدرة على دفع الفرنج، ويئس من مصر؛ فراسل أهلها الفرنج وطلبوا الأمان على نفوسهم وأهاليهم وأموالهم، ومن أراد الخروج خرج ومن أراد الإقامة أقام. وجاء الاتابك بعسكره فوقف بإزاء الفرنج، وركبت الفرنج ووقفوا بإزائه وصاروا صفّين؛ وخرج أهل البلد يمرّون بين الصّفّين ولم يعرض لهم أحد، وحملوا ما أطاقوه، ومن ضعف منهم أقام. فمضى بعضهم إلى دمشق، وبعضهم إلى غزّة، وتفرّقوا فى البلاد، وعاد الأتابك إلى دمشق. ودخل الفرنج صور وملكوها سنين إلى حين فتحت ثانيا، حسب ما سيأتى ذكره فى ترجمة السلطان الذي يتولّى فتحها. قلت: وهذا الذي ذكرناه هو كالشرح لكلام الذهبىّ وغيره من المؤرّخين فيما ذكروه عن الآمر هذا. ونعود إلى ترجمة الآمر.
وكان للآمر نظم ونظر فى الأدب. ومما نسب إليه من الشعر قوله:
[السريع]
أصبحت لا أرجو ولا أتّقي ... إلّا إلهى وله الفضل
جدّى نبيّى وإمامى أبى ... ومذهبى التوحيد والعدل

(5/183)


وقد نسب هذا الشعر لغيره من الفاطميّين «1» أيضا. وكان الآمر يحفظ القرآن، انفرد بذلك دون جميع خلفاء مصر من الفاطميّين، وكان ضعيف «2» الخطّ. وأمّا ما وعدنا به من ذكر قتله فنقول: كان الامر صاحب الترجمة مطلوبا من جماعة من أعوان عمه نزار المقتول بيد أبيه بعد واقعة الإسكندرية المقدّم ذكرها؛ لأنّ الآمر وأباه المستعلي غصبا الخلافة، وأن النّص كان على نزار. وقد ذكرنا ذلك كلّه فى أوّل ترجمة المستعلى. فاتّصل بالآمر أنّ جماعة من النّزارية حصلوا بالقاهرة ومصر يريدون قتله، فاحترز الآمر على نفسه وتحيّل فى قبضهم، فلم يقدّر له ذلك لما أراده الله. وفشا أمر النّزارية وكانوا عشرة، فخافوا أن يقع عليهم الآمر فيقتلهم قبل قتله، فآجتمعوا فى بيت وقال بعضهم لبعض: قد فشا أمرنا ولا نأمن أن يظفر بنا الآمر فيقتلنا، ومن المصلحة والرأى أن نقتل واحدا منّا ونلقى رأسه بين القصرين، وحلانا «3» عندهم؛ فإن عرفوه فلا مقام لنا عندهم، وإن لم يعرفوه تمّ لنا ما نريد، لأنّ القوم فى غفلة. فقالوا للذى أشار عليهم: ما يتّسع لنا قتل واحد منّا، ينقص عددنا وما يتمّ بذلك أمرنا، فقال الرجل: أليس هذا من مصلحتنا ومصلحة من تلزمنا طاعته؟ فقالوا نعم. فقال: وما دللتكم إلّا على نفسى، وشرع فى قتل نفسه بيده بسكّين فى جوفه فمات من وقته. فأخذوا رأسه فرموه فى الليل بين القصرين، وأصبحوا متفرّقين ينظرون ما يجرى فى البلد بسبب الرأس. فلمّا وجد الرأس اجتمع عليه الناس وأبصروه، فلم يقل أحد منهم أنا أعرفه. فحمل إلى الوالى، فأحضر الوالى عرفاء الأسواق وأرباب المعايش فلم يعرف؛ فأحضر أيضا

(5/184)


أصحاب الأرباع والحارات فلم يعرف؛ ففرح التسعة بذلك ووثقوا بالمقام بالقاهرة لقضاء مرادهم. واتّفق للخليفة الآمر أن يمضى إلى الرّوضة- حسب ما ذكر فى أوّل ترجمته- وأنّه يجوز على الجسر الذي من مصر إلى جزيرة الرّوضة للمقام بها أياما للفرجة. وكان من شأن الخلفاء أنهم يشيعون الركوب فى أرباب خدمتهم حيثما قصدوا حتّى لا يتفرّقوا عنه، وأيضا لا يتخلّف أحد عن الركوب؛ فعلم النّزارية التسعة بركوبه فجاءوا إلى الجزيرة، ووجدوا قبالة الطالع من الجسر فرنا، فدخلوا فيه قبل مجىء الخليفة الآمر، ودفعوا إلى الفرّان دراهم وافرة ليعمل لهم بها فطيرا بسمن وعسل؛ ففرح الفرّان بها وعمل لهم الفطير؛ فما هو بأكثر ممّا أكلوه، ولم يتموا أكلهم إذ طلع الخليفة الآمر من آخر الجسر، وقد تفلّل عنه الرّكابيّة ومن يصونه لحرج الجواز على الجسر لضيقه، فلمّا قابلوه وثبوا عليه وثبة رجل واحد وضربوه بالسكاكين حتى إنّ واحدا منهم ركب وراءه وضربه عدّة ضربات؛ وأدوكهم الناس فقتل التسعة. وحمل الآمر فى عشارىّ «1» إلى قصر «2» اللّؤلؤة، وكان ذلك فى أيّام النيل، ففاضت نفس الآمر قبل وصوله إلى اللؤلؤة. وقد تقدّم عمر الآمر ومدّة خلافته فى أوّل ترجمته، فلا حاجة لذكر ذلك ثانيا. وقيل: إنّ بعض منجّميه كان عرّفه أنّه يموت مقتولا بالسكاكين، فكان الآمر كثيرا ما يلهج بقوله: الآمر مسكين، المقتول بالسكين.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 496]
السنة الأولى من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ستّ وتسعين وأربعمائة.

(5/185)


فيها أعيدت الخطبة ببغداد إلى السلطان بركياروق السلجوقىّ بعد أن التقى مع أخيه محمد شاه وهزمه بركياروق. فتوجّه محمد شاه إلى أرمينية وأخلاط، ثم عاد إلى تبريز فى جمادى الآخرة، ومضى بركياروق إلى زنجان. ووقع بينهما فى الآخر الاتّفاق على شىء فعلوه.
وفيها استوزر الخليفة المستظهر بالله العبّاسىّ زعيم الرؤساء أبا القاسم علىّ بن محمد [بن محمد «1» ] بن جهير على كره منه، وعزل وزيره سديد الملك أبا الفضل «2» بن عبد الرزّاق.
فكانت ولايته عشرة أشهر.
وفيها توفّى أردشير بن منصور أبو الحسين العبّادىّ الواعظ الأستاذ. كان أصله من أهل مرو، وكان يخاطب بالأمير قطب الدين. قدم بغداد وجلس فى النّظاميّة، وحضر أبو حامد الغزالىّ مجلس وعظه، وكان يحضر مجلسه من الرجال والنساء ثلاثون ألفا. وكان صمته أكثر من نطقه، وإذا تكلّم هابته الناس؛ وبوعظه حلق أكثر الصّبيان رءوسهم، ولزموا المساجد وبدّدوا الخمور وكسروا الملاهى. ولمّا قدم بغداد ووعظ بها، وكان البرهان «3» الغزنوىّ يعظ بها قبله فانكسر «4» سوقه. فقال الدّهّان الشاعر المشهور فى ذلك:
[السريع]
لله قطب الدّين من عالم ... منفرد بالعلم والباس
قد ظهرت حجّته للورى ... قام بها البرهان للناس
ومات قطب الدين فى غرّة جمادى الآخرة. رحمه الله.

(5/186)


وفيها توفّى الشيخ أبو المعالى الزاهد الصالح البغدادىّ. كان مقيما بمسجد باب الطاق ببغداد؛ فحضر مجلس ابن أبى عمامة «1» فوقع كلامه فى قلبه فتزهّد. وكان لا ينام إلّا جالسا ولا يلبس إلّا ثوبا واحدا شتاء وصيفا. وكان منقطعا إلى العبادة، ويقصد للزيارة.
وفيها توفّى الشيخ أبو طاهر أحمد بن علىّ بن عبيد «2» الله بن عمر بن سوار المقرئ المجوّد. كان إماما عارفا بالقراءات، وسمع الحديث واشتغل فى القراءات سنين.
وفيها توفّى الشيخ أبو داود سليمان بن نجاح المؤيّدىّ المقرئ الإمام. مات فى شهر رمضان وله ثلاث وثمانون سنة، وقد انتهت إليه رياسة القرّاء فى زمانه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 497]
السنة الثانية من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة سبع وتسعين وأربعمائة.
فيها وقع الصلح بين الإخوة أولاد السلطان ملكشاه السلجوقىّ، وهم السلطان بركياروق ومحمد شاه وسنجر شاه، على أن يكون اسم السلطنة لبركياروق وضرب «3» النّوبة (أعنى الطبلخانات) فى أوقات الصلوات الخمس على بابه، وأن يكون لمحمد شاه أرمينية وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل، وأن يكون لسنجر شاه خراسان

(5/187)


على حاله أوّلا، وأن يكون لبركياروق الجبل وهمذان وأصبهان والرّىّ وبغداد وأعمالها والخطبة ببغداد، وأن محمد شاه وسنجر شاه يخطبان لنفوسهما «1» .
وفيها نزل الأمير سكمان بن أرتق صاحب ماردين، وجكرمش صاحب الموصل على رأس العين عازمين على لقاء الفرنج، وكان خرج ريمند وطنكرى صاحب أنطاكية بعساكر الفرنج إلى الرّهاء، فالتقوا فنصر الله المسلمين وقتلوا منهم عشرة آلاف، وانهزم ريمند وطنكرى فى نفر يسير من الفرنج.
وفيها نزل بغدوين صاحب القدس الفرنجىّ على عكّا فى البرّ والبحر فى نيّف وتسعين مركبا فحصروها من جميع الجهات، وكان واليها زهر الدولة الجيوشىّ، فقاتل حتّى عجز، فطلب الأمان له وللمسلمين فلم يعطوه لمّا علموا (الفرنج) من أهل مصر أنهم لم ينجدوه، ثم أخذوها بالسيف فى شهر رمضان. وقد قدّمنا ذكر ذلك فى ترجمة الآمر هذا بأكثر من هذا القول.
وفيها حاصر صنجيل الفرنجىّ طرابلس وبنى عليها حصنا؛ فخرج القاضى ابن عمّار صاحب طرابلس بعسكره فى ذى الحجة، وهدم الحصن وقتل من فيه من الفرنج ونهبه، وكان فيه شىء كثير.
وفيها توفّى أحمد بن الحسين بن حيدرة الأديب أبو الحسين، ويعرف بابن خراسان الطرابلسىّ الشاعر المشهور. وكان شاعرا مجيدا، هجا فخر الملك ابن عمّار قاضى طرابلس وصاحبها وأخاه؛ فأمر به قاضى طرابلس المذكور فضرب حتّى مات. ومن شعره من قصيدة:
[الطويل]
[جزى «2» الله عنا النّيرب الفرد صالحا ... لقد جمع المعنى الذي يذهب الفكرا
]
خرجنا على أنّا نقيم ثلاثة ... فطاب لنا حتّى أقمنا به عشرا

(5/188)


وفيها توفّى إسماعيل بن علىّ بن الحسن «1» بن علىّ الشيخ أبو علىّ الجاجرمىّ «2» الأصمّ النّيسابورىّ. ولد سنة ستّ وأربعمائة، ورحل فى طلب العلم، وطاف البلاد وعاد إلى نيسابور فمات بها فى المحرّم. وكان فقيها واعظا زاهدا ورعا صدوقا ثقة حسن الطريقة.
وفيها توفّى دقماق بن تش الأمير أبو نصر شمس الملوك السلجوقىّ صاحب دمشق. وسمّاه الذهبىّ وصاحب مرآة الزمان دقاقا بلا ميم. ولعلّ الذي قلناه هو الصواب؛ فإننا لم نسمع باسم قبل ذلك يقال له دقاق، وأيضا فإنّ جدّ السلجوقيّين الأعلى اسمه دقماق، وهذا من أكبر الأدلّة على أنّ اسمه دقماق. ولى دمشق بعد قتل أبيه تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان؛ وقام بأمره الأتابك ظهير الدّين طغتكين، وتزوّج طغتكين والدته. فأقام فى مملكة دمشق حتّى مات. وملك دمشق بعده ابنه تتش وهو حدث السن، وأوصى أن يكون طغتكين أيضا القائم بدولته؛ فوقع ذلك، وقام طغتكين بالأمر أحسن قيام.
وفيها توفّى العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلا يا أبو سعد الكاتب الفاضل.
كتب فى الإنشاء للخلفاء خمسا وستّين سنة. وكان نصرانيّا، فأسلم فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة على يد الخليفة المقتدى بالله العبّاسىّ. ومات فجاءة. وكان طاهر اللّسان كريم الأخلاق شاعرا مجيدا مترسّلا. ومن شعره:
[الوافر]
يا خليلىّ خليّانى ووجدى ... فملام «3» العدول ما ليس يجدى

(5/189)


ودعانى فقد دعانى إلى الحك ... م غريم الغرامة الّت «1» عندى
فعساه يرقّ إذ ملك الرّ «2» ... قّ بنقد من وصله أو بوعد
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 498]
السنة الثالثة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة.
فيها هلك صنجيل عظيم الفرنج وصاحب أنطاكية.
وفيها بعث ضياء الدّين محمد وزير ميّافارقين إلى قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش وهو بملطية يستدعيه إلى ميّافارقين؛ فتوجّه إليه قلج أرسلان وملك ميافارقين. وكان مبدأ قلج أرسلان هذا أنّه خدم ملكشاه السلجوقىّ، فأرسله على جيش لغزو الرّوم؛ فسار وافتتح ملطية وقيساريّة وأقصرى «3» وقونية وسيواس «4» وجميع ممالك الروم؛ فأقرّه ملكشاه بها، فأقام بها وعدّ من الملوك؛ إلى أن قدم ميافارقين واستولى عليها، وولّاها لمملوك والده خمرتاش السليمانىّ. واستوزر قلج أرسلان ضيا الدّين المذكور، وأخذه معه وولّاه أبلستين «5» . ثمّ وقع بين قلج

(5/190)


أرسلان هذا وبين جاولى مملوك السلطان محمد شاه بن ملكشاه وتقاتلا، فانكسر فلج أرسلان. فلمّا رأى الهزيمة عليه ألقى نفسه فى الخابور فغرق، فأخرج وحمل تابوته إلى ميّافارقين ودفن بها.
وفيها بعث يوسف بن تاشفين صاحب المغرب إلى الخليفة المستظهر بالله العبّاسىّ يخبره أنّه خطب له على منابر ممالكه، وأرسل يطلب منه الخلع والتقليد؛ فبعث إليه بما طلب.
وفيها توفّى السلطان ركن الدولة بركياروق ابن السلطان ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان بن داوود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السلجوقىّ أبو المظفّر.
مات فى شهر ربيع الأوّل وهو ابن أربع وعشرين سنة. وكانت سلطنته اثنتى عشرة سنة. وعهد لولده ملكشاه، وأوصى به الأمير آياز؛ فتوجّه آياز بالصبىّ إلىّ بغداد، ونزل به دار المملكة، وعمره أربع سنين وعشرة أيام، وأجلسه على تخت الملك مكان أبيه بركياروق؛ وخطب له ببغداد فى جمادى الأولى. فلم يتمّ أمر الصبىّ، وملك عمّه محمد شاه الذي كان ينازع أخاه بركياروق، وقتل آياز المذكور.
وبركياروق: بفتح الباء الموحدة وسكون الراء والكاف وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف راء مضمومة وبعد الراء واو وقاف.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن الحسن بن أبى الصقر أبو الحسن الواسطىّ. تفقّه على أبى إسحاق الشّيرازىّ، وسمع الحديث الكثير. وكان أديبا عالما. ومن شعره لمّا كبر سنّه وصار لا يستطيع القيام لأصحابه:
[الوافر]
علّة سمّيت ثمانين عاما ... منعتنى للأصدقاء القياما
فإذا عمّروا تمهّد عذرى ... عندهم بالذى ذكرت وقاما

(5/191)


وفيها توفّى الحافظ أبو علىّ الحسين بن محمد الغسّانىّ الجيّانىّ «1» عن إحدى وتسعين سنة. كان إماما حافظا، سمع الكثير وحدّث وكتب وصنّف.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 499]
السنة الرابعة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
فيها ظهر رجل من نواحى نهاوند وادّعى النبوّة، وكان ممخرقا «2» بالسّحر والنجوم فتبعه خلق كثير وحملوا إليه أموالهم. وكان يعطى جميع ما عنده لمن يقصده، وسمّى أصحابه بأسماء الصحابة الخلفاء، رضوان الله عليهم. وكان خرج أيضا فى هذه السنة بنهاوند رجل من ولد ألب أرسلان السلجوقىّ يطلب الملك؛ فخرج إليهما العساكر، وأخذوا الرجل المدّعى النبوّة، والذي طلب الملك معا وقتلا.
وفيها كان بين الفرنج وبين طغتكين واقعة عظيمة على سواد طبريّة.
وفيها ملكت الإسماعيليّة «3» حصن فامية، وقتلوا خلف بن ملاعب صاحب الحصن بأمر أبى طاهر الصائغ العجمىّ المقيم بحلب. وهذا الصائغ هو الذي أظهر مذهب الباطنية الرافضة، وقتلته الفرنج، وأراح الله المسلمين منه.

(5/192)


وفيها توفّى عمر بن المبارك بن عمر أبو الفوارس البغدادىّ. ولد سنة ثلاث عشرة «1» وأربعمائة، وبرع فى علم القرآن، وقرأ الناس عليه سنين كثيرة، وسمع الحديث الكثير، وكان من الصالحين.
وفيها توفّى مهارش البدوىّ بن مجلّى الأمير أبو الحارث صاحب الحديثة، الذي خدم الخليفة القائم بأمر الله، فيما تقدّم ذكره لمّا حصل عنده بالحديثة. وكان مهارش هذا كثير الصلاة والصوم والصدقة صالحا محبّا لأهل العلم. وعاش نيّفا وثمانين سنة. رحمه الله.
وفيها توفّى الشيخ الإمام المقرئ أبو البركات محمد بن عبد الله بن يحيى بن الوكيل المقرئ المحدّث؛ مات وله ثلاث وتسعون سنة. وكان عالما بفنون كثيرة، عارفا بعلوم القرآن.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو البقاء المعمّر بن محمد بن علىّ الكوفىّ الحبّال؛ ومات وله ستّ وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 500]
السنة الخامسة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة خمسمائة.
فيها ولى الخليفة المستظهر بالله أبا جعفر عبد الله «2» الدّامغانىّ أخا قاضى القضاة حجبة الباب؛ فرمى الطّيلسان وتزيّا بزىّ الحجبة، فشقّ ذلك على أخيه.

(5/193)


وفيها بعث «1» السلطان محمد شاه برأس أحمد بن عبد الملك بن عطّاش مقدّم الباطنيّة، ورأس ولده. وكان ابن عطّاش هذا فى قلعة عظيمة بأصبهان.
وفيها توفّى جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد الشيخ أبو محمد السّراج القارئ البغدادىّ. ولد سنة ستّ عشرة وأربعمائة. وقرأ بالروايات وأقرأ سنين، وسافر إلى مصر والشام، وسمع الحديث وصنّف المصنّفات الحسان، منها كتاب «مصارع العشّاق» وغيره. وكان فاضلا شاعرا لطيفا. نظم «كتاب التنبيه» وغيره. ولم يمرض فى عمره سوى مرض الموت. ومن شعره:
[السريع]
يا ساكنى الدّير «2» حلولا به ... يطربهم فيه النواقيس
قيسوا لنا القرب وكم بينه ... وبين أيّام النّوى قيسوا
وفيها قتل السلطان محمد شاه بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقىّ وزيره سعد الملك، سعد بن محمد أبا المحاسن «3» ، واستوزر عوضه أبا نصر أحمد بن نظام الملك.
وكان سبب قتله أنه بلغه أنّه دبّر عليه هو وجماعة، وكاتب أخاه سنجر شاه، فقبض عليه وصلبه وأصحابه.
وفيها قتل أيضا الوزير فخر الملك علىّ بن الوزير نظام الملك حسن، وكنيته أبو المظفّر. كان استوزره بركياروق، ثم توجّه إلى نيسابور، فوزر إلى سنجر شاه.
وثب عليه شخص فى زىّ الصوفيّة من الباطنيّة وناوله قصّة ثم ضربه بسكّين فقتله.
قلت: وهكذا أيضا وقع لأبيه نظام الملك. حسب ما ذكرناه فى محلّه. فأخذ الباطنىّ وفصّل على قبر فخر الملك عضوا عضوا.

(5/194)


وفيها توفّى محمد بن إبراهيم أبو عبد الله الأسدىّ. ولد بمكّة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وسافر البلاد ولقى العلماء. وكان إماما فاضلا شاعرا. ومن شعره:
[الخفيف]
قلت ثقّلت «1» إذ أتيت مرارا ... قال ثقّلت كاهلى بالأيادى
قلت طوّلت قال لا بل تطوّل ... ت وأبرمت قال حبل ودادى
ورأيت هذين البيتين فى شرح البديعيّة لابن حجّة «2» فى القول بالموجب، ونسبهما لابن حجّاج. والله أعلم.
وفيها توفّى الحافظ أبو الفتح أحمد بن محمد بن أحمد الحدّاد الإمام العالم المحدّث.
مات فى ذى القعدة بأصبهان وله اثنتان وتسعون سنة.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو غالب محمد بن الحسن الكرخىّ الباقلّانىّ العالم المشهور. مات وله ثمانون سنة.
وفيها توفّى أبو الكرم «3» المبارك بن فاخر النحوىّ البغدادىّ. كان إماما عالما بالنحو واللغة والعربيّة، وله مصنّفات حسان. وتوفّى ببغداد.
وفيها توفّى سلطان المسلمين بالمغرب يوسف بن تاشفين اللّمتونىّ «4» صاحب المغرب، كان من عظماء ملوك الغرب.

(5/195)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وتسع أصابع.
مبلغ الزيادة تسع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 501]
السنة السادسة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة إحدى وخمسمائة.
فيها ظهرت ببغداد صبيّة عمياء تتكلّم عن أسرار الناس؛ فكانت تسأل عن نقوش الخواتم وما عليها، وألوان الفصوص، إلى غير ذلك.
وفيها حاصر بغدوين الفرنجىّ صاحب القدس صيداء وضايقها. حسب ما ذكرناه فى أوّل هذه الترجمة.
وفيها توفّى الحسين بن أحمد بن النّقّار الشيخ أبو طاهر. ولد بالكوفة ونشأ ببغداد. وكان أديبا شاعرا فاضلا. ومن شعره:
[السريع]
وزائر زار على غفلة ... وقد أماط الصبح ثوب الظلام
راح وقد سهّلت الراح من ... أخلاقه ما كان صعب المرام
وفيها قتل صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأمير أبو الحسن سيف الدولة صاحب الحلّة. كان كريما عفيفا عن الفواحش، وكانت داره ببغداد حرما للخائفين.
لم يتزوّج غير امرأة واحدة فى عمره، ولا تسرى قطّ. قتل فى واقعة كانت بينه وبين عسكر السلطان محمد شاه.
قلت: وكانت سيرته مشكورة، وخصاله محمودة وما سلم «1» من مذهب أهل الحلّة «2» ، فإنّ أباه كان من كبار الرافضة.

(5/196)


وفيها توفّى عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد الشيخ الإمام أبو المحاسن الرّويانىّ الطّبرىّ فخر الإسلام. ولد فى ذى الحجّة سنة خمس عشرة وأربعمائة، وتفقّه ببخارى مدة؛ وبرع فى مذهب الشافعىّ- رضى الله عنه- وله مصنّفات فى مذهبه منها كتاب «بحر المذهب» وهو أطول كتب الشافعيّة، وكتاب «مناصيص «1» الشافعىّ» وكتاب «الكافى» وصنّف فى الأصول والخلاف. وكان قاضى طبرستان؛ فقتلته الملاحدة فى يوم الجمعة حادى عشر المحرّم- ورويان:
بلدة بنواحى طبرستان- وقيل: إنّه مات فى سنة اثنين وخمسمائة.
وفيها توفّى يحيى بن علىّ بن محمد بن الحسن بن بسطام أبو زكريّاء الشّيبانى.
التّبريزىّ الخطيب اللغوىّ. كان إماما فى علم اللّسان. رحل إلى الشام، وقرأ اللغة على أبى العلاء المعرّىّ، وسمع الحديث وحدّث؛ وأقرأ اللغة. ومات فى جمادى الآخرة، وله إحدى وثمانون سنة.
وفيها توفّى الملك تميم بن المعزّ بن باديس صاحب إفريقية وما والاها من بلاد المغرب. امتدّت أيّامه وكان من أجلّ ملوك المغرب، أقام هو وأبوه المعزّ نحوا من مائة سنة وأكثر؛ ومات وله تسع وسبعون سنة. والصحيح أنه مات فى القابلة.
حسب ما يأتى ذكره. وقد أثبت الذهبىّ وفاته فى هذه السنة.
وفيها توفّى الشيخ المسلّك أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الدّونىّ «2» الصوفىّ، أحد كبار مشايخ الصوفيّة فى شهر رجب. وكان له قدم فى علم التصوّف.

(5/197)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 502]
السنة السابعة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة اثنتين وخمسمائة.
فيها توفّى إسماعيل بن إبراهيم بن العبّاس بن الحسن الشريف أبو الفضل الحسينىّ الدمشقىّ المعروف بابن أبى الجنّ. كان فقيها فاضلا ثقة. ولى قضاء دمشق مدّة، وبها توفّى.
وفيها توفّى ملك المغرب تميم بن المعزّ بن باديس أبو يحيى صاحب إفريقيّة، وينتهى نسبه إلى يعرب بن قحطان، قاله السمعانىّ. ولد سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وعاش ثمانين سنة، وأقام فى الإمرة ستّا وأربعين سنة، وخلّف مائة ولد لصلبه، قاله صاحب مرآة الزمان؛ قال: لأنّه كان مغرى بالجوارى مع اهتمامه بالملك؛ وقيل: إنّه مات وله خمسون ولدا. وكان مقامه بالمهديّة. وكان عظيم القدر شاعرا جوادا ممدّحا. وله ديوان شعر. ومن شعره:
[الكامل]
ما بان عذرى فيه حتّى عذّرا «1» ... ومشى الدّجى فى خدّه فتحيّرا
همّت تقبّله عقارب صدغه ... فأسلّ ناظره عليها خنجرا
والله لولا أن يقال تغنى «2» ... وصبا وإن كان التّصابى أجدرا
لأعدت تفّاح الخدود بنفسجا ... لثما وكافور الترائب عنبرا

(5/198)


وله أيضا:
[الطويل]
أما والذي لا يعلم السّرّ غيره ... ومن هو بالسّر المكتّم أعلم
لئن كان كتمان المصائب مؤلما ... لإعلامها عندى أشدّ وآلم
وفيها توفّى الحسن العلوىّ أبو هاشم رئيس همذان. كان جوادا ممدّحا مموّلا شجاعا صاحب صدقات وصلوات. صادره السلطان محمد شاه السلجوقىّ على تسعمائة ألف دينار، أدّاها فى نيّف وعشرين يوما، ولم يبع فيها عقارا.
وفيها توفّى الشيخ أبو القاسم علىّ بن الحسين الربعىّ البغدادىّ الفقيه المحدّث.
مات فى شهر رجب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 503]
السنة الثامنة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ثلاث وخمسمائة.
فيها كاتب السلطان محمد شاه السلجوقىّ الأمير سكمان بن أرتق صاحب أرمينية وأخلاط وميّافارقين، والأمير شرف الدّين مودودا صاحب الموصل، ونجم الدين إيلغازى صاحب ماردين بالاجتماع على جهاد الفرنج؛ فآجتمعوا وبدءوا بالرّهاء.
وبلغ الفرنج، فاجتمع طنكرى صاحب أنطاكية، وابن صنجيل صاحب طرابلس، وبغدوين صاحب القدس، وتحالفوا هم أيضا على قتال المسلمين، وساروا؛ فكانت وقعة عظيمة نصر الله المسلمين فيها وغنموا منهم شيئا كثيرا.

(5/199)


وفيها توفّى [عمر «1» بن] عبد الكريم بن سعدويه الحافظ ابو الفتيان الدّهستانىّ.
كان إماما حافظا محدّثا، رحل البلاد وسمع الكثير، وروى عنه أبو بكر الخطيب وغيره، واتّفقوا على صدقه وثقته ودينه. ومات فى شهر ربيع الأول.
وفيها توفّى وجيه «2» بن عبد الله بن نصر الأديب الفاضل أبو المقدام التّنوخىّ.
كان شاعرا فصيحا. ولمّا أخربت الفرنج المعرّة، أنشد فى المعنى لمحمود بن علىّ:
[الخفيف]
هذه صاح «3» بلدة قد قضى اللّ ... هـ عليها كما ترى بالخراب
وقّف العيس وقفة وابك من كا ... ن بها من شيوخها والشّباب
واعتبر إن دخلت يوما إليها ... فهى كانت منازل الأحباب
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو سعيد محمد بن محمد بن محمد الأصبهانىّ المعروف بالمطرّز. مات فى شوّال.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 504]
السنة التاسعة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة أربع وخمسمائة.
فيها بنى الخليفة المستظهر بالله العباسىّ على الخاتون بنت ملكشاه السلجوقىّ أخت السلطان محمد شاه.

(5/200)


وفيها أيضا جهّز السلطان محمد شاه المذكور العساكر إلى الشام لقتال الفرنج، وندب جماعة من الملوك معهم، منهم شرف الدّين مودود صاحب الموصل، وقطب الدين سكمان بن أرتق صاحب ديار بكر فاجتمعوا ونزلوا على تلّ «1» باشر ينتظرون البرسقىّ صاحب همذان، فوصل إليهم وهو مريض، فاختلفت آراؤهم لأمور وقعت، ورجع كلّ واحد إلى بلاده.
وفيها توفّى الأمير قطب الدّين سكمان بن أرتق- المقدّم ذكره- صاحب ديار بكر. عاد من الرّهاء مريضا فى محفّة حتّى وصل ميّافارقين فمات بها. وحمل تابوته من ميّافارقين إلى أخلاط فدفن به. وكان ملكا عادلا مجاهدا. وأبوه أرتق مات بالقدس. ونجم الدّين إيلغازى بن أرتق أخو سكمان المذكور هو الذي ولى بعده. توجّه إيلغازى المذكور إلى السلطان محمد شاه السلجوقىّ، فولاه شحنجية «2» العراق عوضا عن أخيه سكمان، ثم أخذ منه ماردين فى سنة ثمان وخمسمائة، وميّافارقين فى سنة اثنتى عشرة وخمسمائة، ثم أخذ منه حلب أيضا. ولسكمان هذا وقائع مع الفرنج كثيرة ومواقف. رحمه الله.
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن علىّ الشيخ الإمام العلّامة الفقيه العالم المشهور بالكيا الهرّاسىّ الشافعىّ العجمىّ. لقبه عماد «3» الدّين. كان من أهل طبرستان وخرج إلى نيسابور، وتفقّه على أبى المعالى الجوينىّ، وقدم بغداد ودرس بالنظاميّة ووعظ

(5/201)


وذكر مذهب الأشعرىّ، فرجم وثارت الفتن، واتّهم بمذهب الباطنيّة. فأراد السلطان قتله، فمنعه الخليفة المستظهر بالله وشهد له بالبراءة. وكانت وفاته فى يوم الخميس غرّة المحرم، ودفن عند الشيخ أبى إسحاق الشيرازىّ، وحضر لدفنه الشيخ أبو طالب الزّينبىّ وقاضى القضاة أبو الحسن الدامغانىّ- وكانا مقدّمى طائفة السادة الحنفية- فوقف أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الدّامغانىّ متمثّلا بهذا البيت:
[الوافر]
وما تغنى النوادب والبواكى ... وقد أصبحت مثل حديث أمس
وأنشد الزّينبىّ أيضا متمثّلا بهذا البيت:
[الكامل]
عقم النساء فما يلدن شبيهه ... إنّ النساء بمثله عقم
ولمّا مات رثاه أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان الغزّىّ الشاعر المشهور ارتجالا بقصيدة أوّلها:
[البسيط]
هى الحوادث لا تبقى ولا تذر ... ما للبريّة من محتومها وزر
لو كان ينجى علوّ من بوائقها ... لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر
والكيا: بكسر الكاف وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها ألف. والهرّاسىّ معروف. والكيا بلغة الأعجام: الكبير القدر.
وفيها توفّى أبو يعلى حمزة بن محمد الزّينبىّ أخو الإمام العالم طرّاد. مات فى شهر رجب وله سبع وتسعون سنة.
وفيها توفّى الشيخ الإمام المقرئ أبو الحسين يحيى بن علىّ بن الفرج الخشّاب بمصر. كان عالم مصر ومقرئها.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.

(5/202)