النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 505]
السنة العاشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة خمس وخمسمائة.
فيها عزل السلطان محمد شاه بن ملكشاه السلجوقىّ وزيره أحمد بن نظام الملك، وكانت وزارته أربع سنين وأحد عشر شهرا.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالىّ الطّوسىّ الفقيه الشافعىّ. كان إمام عصره. تفقّه على أبى المعالى الجوينىّ حتى برع فى عدّة علوم كثيرة، ودرس وأفتى، وصنّف التصانيف المفيدة فى الأصول والفروع، ودرّس بالنّظاميّة، ثم ترك ذلك كلّه ولبس الخام الغليظ، ولازم الصوم وحجّ وعاد، ثم قدم إلى القدس، وأخذ فى تصنيف كتابه «الإحياء» وتمّمه بدمشق. وله من المصنفات «البسيط» «والوسيط» «والوجيز» وله غير ذلك. وذكره ابن السمعانىّ فى الذيل فقال: ومن شعره:
[الكامل]
حلّت عقارب صدغه فى خدّه ... قمرا يجلّ بها عن التشبيه
ولقد عهدناه يحلّ ببرجها ... ومن العجائب كيف حلّت فيه
وفيها توفّى محمود بن علىّ بن المهنأ بن أبى المكارم الفضل بن عبد القاهر أبو سلامة المعرّىّ القائل فى حق المعرّة لما استولى عليها الفرنج الأبيات التى مرّت فى ترجمة وجيه بن عبد الله فى سنة ثلاث وخمسمائة التى أوّلها:
[الخفيف]
هذه صاح بلدة قد قضى اللّ ... هـ عليها كما ترى بالخراب
وجد والد محمود هذا الفضل بن عبد القاهر هو القائل:
[البسيط]
ليلى وليلى نفى نومى اختلافهما ... بالطّول والطّول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطّول ليلى كلّما بخلت ... بالطّول ليلى وإن جادت به بخلا

(5/203)


وفيها توفّى مقاتل بن عطيّة بن مقاتل الأمير شبل الدوله أبو الهيجاء البكرىّ من ولد أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه. قال العماد الكاتب: «كان شبل الدولة من أولاد العرب، وقع بينه وبين إخوته خشونة ففارقهم، وسار إلى خراسان وغزنة ومدح أعيانها، واختصّ بنظام الملك الوزير» . انتهى كلام العماد. قلت وهو الذي رثى نظام الملك بقوله:
[البسيط]
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... نفيسة صاغها الرحمن من شرف
أضحت ولا تعرف الأيّام قيمتها ... فردّها غيرة منه إلى الصّدف
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 506]
السنة الحادية عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ست وخمسمائة.
فيها توفّى محمد بن موسى بن عبد الله اللّامشىّ «1» التركىّ الإمام الفقيه الحنفىّ، مصنّف «أصول الفقه» على مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه. كان إماما عالما فقيها مفتنّا. ولى قضاء بيت المقدس مدّة. وكانت وفاته بدمشق فى يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الآخرة. وسمّاه الذهبىّ البلاساغونىّ «2» الحنفىّ قاضى دمشق عدوّ الشافعيّة.
وفيها توفّى قاضى القضاة أبو العلاء صاعد بن منصور النيسابورىّ الواعظ. كان إماما فقيها عالما واعظا، كان له لسان حلو فى الوعظ.

(5/204)


وفيها توفّى الشيخ أبو سعد المعمّر بن علىّ [بن المعمّر «1» ] بن أبى عمامة الحنبلىّ الفقيه الواعظ، كان فقيه بغداد وواعظها.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 507]
السنة الثانية عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة سبع وخمسمائة.
فيها توفّى إسماعيل بن أحمد بن الحسين بن علىّ بن موسى أبو علىّ البيهقىّ ولد أبى بكر «2» أحمد صاحب التصانيف. رحل البلاد، ولقى الشيوخ، وسكن خوارزم ودرس بها، ثم عاد إلى بيهق فتوفى بها. وكان إماما فاضلا صدوقا ثقة.
وفيها توفّى الأمير رضوان ابن الأمير تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان بن داود ابن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السلجوقىّ المنعوت بفخر الملك صاحب حلب.
ملكها بعد قتل أبيه تتش فى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وكان غير مشكور السّيرة.
قتل أخويه أبا طالب وبهرام؛ وقتل خواصّ أبيه. وهو أوّل من بنى بحلب دار الدعوة. وكان ظالما بخيلا شحيحا قبيح السّيرة، ليس فى قلبه رأفة ولا شفقة على المسلمين. وكانت الفرنج تغاور وتسبى وتأخذ من باب حلب ولا يخرج إليهم.
ومرض أمراضا مزمنة، ورأى العبر فى نفسه، حتّى مات فى ثامن عشر جمادى

(5/205)


الاخرة، وملك بعده ابنه ألب أرسلان وعمره ستّ عشرة سنة، وقام بكفالته لؤلؤ الخادم.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن الحسين أبو بكر الشّاشىّ الفقيه الشافعىّ. ولد سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وكان يعرف بالمستظهرىّ، تفقّه بجماعة وقرأ على ابن الصّبّاغ «1» كتابه «2» «الشامل» ودرس بالنظاميّة. ومات فى شوّال، ودفن عند أبى إسحاق الشّيرازىّ. وكان كثيرا ما ينشد:
[الوافر]
تعلّم يافتى والعود رطب ... وطينك ليّن والطبع قابل
فحسبك يا فتى شرفا وفخرا ... سكوت الحاضرين وأنت قائل
وفيها توفّى محمد «3» بن أحمد بن محمد الإمام العلّامة أبو المظفّر الأبيوردىّ، وهو من ولد معاوية بن محمد بن عثمان بن عتبة بن عنبسة بن أبى سفيان صخر بن حرب.
كان عالما بالأنساب وفنون اللغة والآداب، وسمع الحديث ورواه، وصنّف لأبيورد «4» تاريخا، وصنّف «المختلف والمؤتلف» فى أنساب العرب. وكان له الشعر الرائق.
وكان فيه كبروتيه بحيث إنّه كان إذا صلّى يقول: اللهم ملّكنى مشارق الأرض ومغاربها. وكتب قصّة للخليفة وعلى رأسها «الخادم المعاوىّ» (يريد بذلك نسبه إلى

(5/206)


معاوية) . فأمر الخليفة بكشط الميم وردّ القصة؛ فبقيت «الخادم العاوى» .
وكانت وفاته بأصبهان. ومن شعره وأجاد إلى الغاية:
[الطويل]
تنكّر لى دهرى ولم يدر أننى ... أعزّ وأحداث الزمان تهون
وظلّ يرينى الخطب كيف اعتداؤه ... وبتّ أريه الصبر كيف يكون
وفيها توفّى الأمير مودود صاحب الموصل. كان قدم الشام لمساعدة الأتابك ظهير الدين طغتكين وكسر الفرنج. وكان مودود هذا يدخل كلّ جمعة فيصلى بجامع دمشق ويتبرّك بمصحف عثمان رضى الله عنه. فدخل على عادته ومعه الأتابك طغتكين يمشى فى خدمته والغلمان حوله بالسيوف مسلّلة؛ فلمّا صار فى صحن الجامع وثب عليه رجل لا يؤبه له، وقرب من مودود هذا كأنّه يدعو له، وضربه بخنجر أسفل سرّته ضربتين، إحداهما نفذت إلى خاصرته، والأخرى إلى فخذه، والسيوف تأخذه من كلّ ناحية؛ وقطع رأسه ليعرف شخصه فما عرف.
ومات مودود من يومه، وكان صائما فلم يفطر، وقال: والله ما ألقى الله إلّا صائما.
وكان من خيار الملوك دينا وشجاعة وخيرا. ولمّا بلغ السلطان محمدا شاه السلجوقىّ موته أقطع الموصل والجزيرة لآق سنقر البرسقىّ، وأمره بتقديم عماد الدين زنكى والرجوع إلى إشارته. وزنكى هذا هو والد الملك العادل نور الدين محمود المعروف بالشهيد، المنشئ «1» لدولة بنى أيوب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبعان.

(5/207)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 508]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ثمان وخمسمائة.
فيها واطأ لؤلؤ خادم رضوان على قتل ابن أستاذه ألب أرسلان، ففتكوا به فى قلعة حلب.
وفيها نزل الأمير نجم الدين إيلغازى بن أرتق على حمص، وفيها خيرخان «1» بن قراجا. وكان عادة نجم الدين إذا شرب الخمر وتمكّن منه أقام أيّاما مخمورا لا يفيق، لتدبيره، ولا يستأمر فى أمور. وعرف منه خيرخان هذه العادة فتركه حتّى سكر، فهجم عليه برجاله وهو فى خيمته، فقبض عليه وحمله إلى قلعة حمص وسجنه بها أيّاما، حتى أرسل إليه طغتكين يوبّخه ويلومه فأطلقه.
وفيها هلك بغدوين الفرنجىّ صاحب القدس من جرح أصابه فى وقعة طبريّة، وأراح الله المسلمين منه، ومصيره إلى سقر.
وفيها قتل الأمير أحمديل «2» الرّوّادى صاحب مراغة «3» ، قتله باطنىّ ضربه بسكّين فى دار السلطان محمد شاه ببغداد. وكان شجاعا جوادا، وكان يركب فى خمسة آلاف فارس. وكان إقطاعه أربعمائة ألف دينار فى السنة.
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن محمد بن محمد بن جهير الصاحب أبو القاسم الوزير ابن الوزير ابن الوزير، وزر لجماعة من الخلفاء غير مرّة. ومات فى سابع عشرين شهر ربيع الأوّل. وكان وزيرا عاقلا حليما سديد الرأى، حسن التدبير والثبات، من بيت رياسة ووزر.
وفيها توفى الشريف الحسيب النسيب أبو القاسم علىّ بن إبراهيم الحسينىّ خطيب دمشق فى شهر ربيع الآخر. وكان فاضلا فصيحا خطيبا.

(5/208)


وفيها توفّى الحافظ الفقيه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله الخولانىّ القرطبىّ، كان عالم بلاده ومفتيها.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 509]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة تسع وخمسمائة.
فيها صالح الأفضل أمير الجيوش مدبّر مملكة الآمر صاحب الترجمة بردويل الفرنجىّ صاحب القدس. وكان بردويل قد أخذ قافلة عظيمة من المسلمين بالسبخة المعروفة الآن بسبخة «1» بردويل. فرأى الأفضل مهادنته لعجزه عنه، وأمر الناس بذلك، وساروا إلى الشام وغيره.
وفيها توفّى علىّ بن جعفر بن القطّاع «2» أبو القاسم السعدىّ الصقلىّ، من أولاد كبار علماء صقلّية. وقدم مصر ومدح الأفضل أمير الجيوش. وكان شاعرا بارعا.
ومن شعره:
[الطويل]
ألا فليوطّن نفسه كلّ عاشق ... على سبعة محفوفة بغرام
رقيب وواش كاشح ومفنّد ... ملحّ ودمع واكف وسقام «3»

(5/209)


وفيها توفّى محمد بن علىّ- وقيل محمد بن محمد- بن صالح الشيخ الأديب أبو يعلى العبّاسىّ المعروف بابن الهبّاريّة «1» الشاعر البغدادىّ. كان فيه إقدام بالهجو على أرباب المناصب. وقدم أصبهان وبها السلطان ملكشاه السلجوقىّ ووزيره نظام الملك حسن الطّوسىّ، فدخل على النظام المذكور ومعه رقعتان، رقعة فيها هجوه والأخرى فيها مدحه؛ فأعطاه التى فيها الهجو يظنّ أنها التى فيها المدح. وكان الهجو:
[الكامل]
لا غرو أن ملك ابن إس ... حاق وساعده القدر
وصفا لدولته وخص ... أبا المحاسن «2» بالكدر
فالدهر كالدّولاب لي ... س يدور إلّا بالبقر
- وأبو المحاسن الذي أشار إليه كان صهر نظام الملك، وكان بينهما عداوة- فكتب نظام الملك: يصرف لهذا القوّاد رسمه مضاعفا. ثم هجاه بعد ذلك فأهدر دمه. قال العماد الكاتب: كان ابن الهبّاريّة من شعراء نظام الملك، غلب على شعره الهجاء والهزل والسّخف، وسلك فى قالب ابن «3» حجّاج وفاقه فى الخلاعة والمجون.
ومن شعره أيضا:
[الكامل]
وإذا البيادق فى الدّسوت تفرزنت ... فالرأى أن يتبيدق الفرزان
وإذا النفوس مع الدنوّ تباعدت ... فالحزم أن تتباعد الأبدان
خد جملة البلوى ودع تفصيلها ... ما فى البريّة كلّها إنسان
قلت: وابن الهبّاريّة هذا هو صاحب «الصادح «4» والباغم» .

(5/210)


وفيها توفّى الحافظ البارع أبو شجاع شيرويه بن شهردار «1» بن شيرويه الديلمىّ الهمذانى بهمذان. كان إماما حافظا، سمع الكثير ورحل البلاد وحدّث، وكان من أوعية العلم.
وفيها توفّى- فى قول الذهبىّ- الأمير يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس صاحب بلاد المغرب. وقد تقدّم ذكر أبيه وجدّه فى هذا الكتاب. كان ملك بعد أبيه تميم فى سنة اثنتين وخمسمائة إلى أن مات فى هذه السنة رحمه الله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 510]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة عشر وخمسمائة.
فيها قتل الأمير لؤلؤ الذي كان قتل ابن أستاذه ألب أرسلان. والصحيح أنّه قتل فى الآتية.
وفيها حجّ بالناس أمير الجيوش الجيوشى الحبشىّ المستظهرى العباسىّ، ودخل مكّة وعلى رأسه الأعلام وخلفه الكوسات «2» والبوقات والسيوف فى ركابه، وقصد بذلك إذلال «3» أمير مكة والسودان؛ فوقع له بمكة أمور، ولم يقاومه أحد.

(5/211)


وفيها توفّى محمد بن علىّ بن ميمون الحافظ أبو الغنائم بن النّرسىّ الكوفىّ، محدّث مشهور ويعرف بأبىّ «1» لأنّه كان جيّد القراءة، وسمع الحديث الكثير وسافر البلاد، وختم به علم الحديث بالكوفة. قال محمد بن ناصر: ما رأيت مثل أبى الغنائم فى ثقته «2» وحفظه، ما كان أحد يقدر أن يدخل فى حديثه ما ليس منه. وعاش ستا وثمانين سنة.
وفيها توفّى محفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطّاب الكلواذانىّ «3» الفقيه الحنبلىّ.
تفقّه على القاضى أبى يعلى، وسمع الحديث وحدّث وأفتى ودرّس، وصنّف «الهداية «4» » وغيرها، وشهد عند قاضى القضاة أبى عبد الله الدّامغانىّ الحنفىّ. وكان فاضلا شاعرا. وله قصيدة «5» من جنس العقيدة؛ أولها:
[الكامل]
دع عنك تذكار الخليط المنجد ... والشّوق نحو الآنسات الخرّد
والنوح فى أطلال سعدى إنّما ... تذكار سعدى شغل من لم يسعد
وله أيضا من غير هذه القصيدة:
[الوافر]
لئن جار الزمان علىّ حتّى ... رمانى منه فى ضنك وضيق
فإنّى قد خبرت له صروفا ... عرفت بها عدوّي من صديقى
ومات وله ثمان وسبعون سنة.

(5/212)


وفيها توفى المسند المعمّر أبو بكر عبد الغفّار بن محمد الشّيرويىّ «1» ، مسند نيسابور فى ذى الحجة، وله ستّ وتسعون سنة، ورحل إليه الناس من الأقطار.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وست أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 511]
السنة السادسة عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة إحدى عشرة وخمسمائة.
فيها زلزلت بغداد يوم عرفة زلزلة عظيمة ارتجّت لها الدنيا؛ فكانت الحيطان تذهب وتجىء، ووقع الدّور على أهلها فمات تحتها خلق كثير. ثم كان عقبها موت السلطان محمد شاه السّلجوقى، ثم موت الخليفة المستظهر العباسىّ فى السنة الآتية، وحارب دبيس بن مزيد الخليفة المسترشد بالله، وغلت الأسعار حتى بلغ الكرّ القمح أو الدقيق ثلثمائة دينار، وفقد أصلا، ومات الناس جوعا، وأكلوا الكلاب والسنانير. ثم جاء سيل عظيم فأخرب سنجار «2» . قال ذلك صاحب مرآة الزمان.
وفيها نزل آق سنقر البرسقى على حلب وبها يارقتاش «3» الخادم بعد لؤلؤ، فحاصرها فلم يظفر منه بطائل، وعاد إلى الموصل.

(5/213)


وفيها توفّى محمد بن سعيد بن إبراهيم بن نبهان أبو علىّ الكاتب سبط هلال ابن المحسّن الصابئ المقدّم ذكره، مات فى شوّال ودفن بداره بالكرخ. وكان فاضلا فصيحا شاعرا، إلّا أنّه كان شيعيّا رافضيّا. ومن شعره:
[السريع]
لى أجل قدّره خالقى ... نعم ورزق أتوفّاه
حتّى إذا استوفيت منه الذي ... قدّر لى لم أتعدّاه
وفيها توفّى السلطان محمد شاه ابن السلطان ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان ابن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق، أبو شجاع غياث الدين السّلجوقىّ. كان ملكا عادلا مهيبا شجاعا كريما. خرج فى السنة الماضية إلى أصبهان، فمرض بها مرضا طال به إلى أن مات فى حادى عشر ذى الحجّة، وعمره سبع وثلاثون سنة، ومدّة ملكه بعد وفاة أخيه بركياروق اثنتا عشرة سنة. وخلّف خمسة أولاد: مسعودا ومحمودا وطغرل وسليمان وسلجوق. وولى السلطنة من بعده ولده محمود.
وفيها توفّى يمن بن عبد الله الخادم أبو الخير الحبشى خادم المستظهر العباسىّ.
كان مهيبا جوادا حسن التدبير ذا رأى وفطنة، مات بأصبهان.
وفيها توفّى المحدّث الفاضل أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد بن عبد القادر [ابن محمد «1» ] بن يوسف راوى سنن الدّار قطنىّ. كان من كبار المحدّثين.
وفيها توفّى الشيخ الإمام الفقيه الواعظ الحافظ أبو زكرياء يحيى بن عبد الوهاب ابن مندة «2» بأصبهان. سمع الكثير ورحل البلاد وبرع فى فنون وحدّث، وروى عنه غير واحد.

(5/214)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 512]
السنة السابعة عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة اثنتى عشرة وخمسمائة.
فيها فى يوم الجمعة ثالث عشرين المحرّم خطب ببغداد لمحمود بن محمد شاه السلجوقىّ بعد موت أبيه على المنابر.
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المستظهر بالله أبو العبّاس أحمد ابن الخليفة المقتدى بالله أبى القاسم عبد الله ابن الأمير محمد الذخيرة ابن الخليفة القائم بأمر الله أبى جعفر عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أبى العباس أحمد ابن الأمير الموفّق طلحة ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدىّ بالله محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور بن محمد بن علىّ ابن عبد الله بن عبّاس العبّاسىّ الهاشمىّ البغدادىّ. وأمّه أمّ ولد تركيّة تسمّى الطن «1» .
بويع بالخلافة بعد موت أبيه المقتدى بالله فى ثامن عشر المحرّم سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وعمره سبع عشرة سنة وشهران. وكان ميمون الطّلعة حميد الأيّام. قال ابن الأثير: كان ليّن الجانب، كريم الأخلاق، يسارع فى أعمال البرّ، وكانت أيّامه أيّام سرور للرعيّة، فكأنّها من حسنها أعياد. وكان حسن الخطّ جيّد

(5/215)


التوقيعات لا يقار به فيها أحد، تدلّ على فضل غزير وعلم واسع. ومات بعلّة التّراقى وهى دمّل يطلع فى الحلق. ومن شعره:
[البسيط]
أذاب حرّ الهوى فى القلب ما جمدا ... يوم «1» مددت إلى رسم الوداع يدا
وكيف أسلك «2» نهج الاصطبار وقد ... أرى طرائق فى مهوى الهوى قددا
وكانت خلافته خمسا وعشرين سنة وأيّاما. ولم تصف له الخلافة، بل كانت أيّامه مضطربة كثيرة الحروب. وتولّى الخلافة من بعده ابنه المسترشد.
وفيها خرجت والدة السلطان محمود بن محمد شاه من أصبهان إلى السلطان سنجر شاه، فلقيها ببلخ فأكرمها. فقالت له: أدرك ابن أخيك وإلّا تلف، فإنّ الأموال قد تمزّقت، والبلاد قد أشرفت على الأخذ، وهو صبىّ وحوله من يلعب بالملك. فقال لها: سمعا وطاعة. وكان وزير محمود ومدبّر مملكته أبو القاسم، وكان سيئ التدبير ظالما، وكان يخاف من مجىء سنجر شاه المذكور إلى البلاد؛ فأنفق ما فى خزائن محمد شاه فى أربعة أشهر، وباع الجواهر [والأثاث] وأنفقه «3» فى العساكر فلم يفده ذلك، على ما سيأتى ذكره.
وفيها توفّى بكر بن محمد بن علىّ بن الفضل بن الحسن بن أحمد بن إبراهيم، الإمام الفقيه الحافظ المحدّث أبو الفضل الأنصارىّ الزّرنجرىّ- وزرنجر: قرية على خمسة فراسخ من بخارى- سمع الحديث الكثير من جماعة كثيرة، وتفرّد بالرواية عن جماعة منهم، لم يحدّث عنهم غيره. وكان بارعا فى الفقه يضرب به المثل، ويقولون: هو أبو حنيفة الصغير. وكان إذا طلب منه أحد من المتفقهة الدرس ألقى

(5/216)


عليه من أىّ موضع أراد من غير مطالعة ولا نظر فى كتاب، وكان إذا أشكل على الفقهاء شىء رجعوا إلى قوله ونقله.
وفيها توفّى الحسين بن محمد بن علىّ بن الحسن الإمام العلّامة أبو طالب الزينبىّ الحنفىّ فريد عصره. ولد سنة عشرين وأربعمائة، وقرأ القرآن وسمع الحديث وبرع فى الفقه وأفتى ودرّس. انتهت إليه رياسة السادة الحنفيّة فى زمانه ببغداد، ولقّب بنور الهدى. وترسّل إلى ملوك الأطراف من قبل الخليفة، وولى نقابة الطالبيّين والعباسيّين. وكان شريف النفس والحسب، كثير العلم جليل القدر.
ومات يوم الاثنين حادى عشر صفر، وصلّى عليه ابنه القاسم، وحمل إلى قبّة أبى حنيفة فدفن داخل القبّة، وله اثنتان وتسعون سنة. وكان سمع من غيلان وغيره، وانفرد ببغداد بروايته صحيح البخارىّ عن كريمة بنت «1» أحمد.
وفيها توفّى محمد بن عتيق بن محمد التميمىّ القيروانىّ. قدم الشام مجتازا إلى العراق. وكان يقرئ علم الكلام بالنّظاميّة، وكان يحفظ كتاب سيبويه. وسمع يوما قائلا ينشد أبيات أبى العلاء المعرّى:
[الطويل]
ضحكنا وكان الضّحك منّا سفاهة ... وحقّ لسكّان البسيطة أن يبكوا
وتحطمنا الأيّام حتّى كأنّنا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
فقال مجيبا:
كذبت وبيت الله حلفة صادق ... سيسبكنا بعد النّوى من له الملك
ونرجع أجساما صحاحا سليمة ... تعارف فى الفردوس ما عندنا شكّ

(5/217)


وفيها توفّى أبو الفضل «1» بن الخازن الشاعر المشهور. كان ديّنا فاضلا شاعرا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 513]
السنة الثامنة عشرة من ولاية الامر منصور على مصر وهى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.
فيها قدم السلطان سنجر شاه السلجوقىّ الرىّ وملكها؛ واصطلح مع ابن أخيه محمود بن محمد شاه بعد حروب، وزوّجه ابنته، وأقرّه على ملكه.
وفيها وقعت المباينة بين الآمر خليفة مصر (أعنى صاحب الترجمة) وبين مدبّر مملكته الأفضل بن أمير الجيوش؛ واحتجب الآمر عنه وتعلّل بمرض.
واجتهد الأفضل أن يغتاله بالسمّ فلم يقدر، ودسّ إليه السمّ مرارا فلم يصل إليه.
وكان للآمر قهرمانة كاتبة فاضلة تعرف أنواع العلوم: الطب والنجوم والموسيقى، حتّى كانت تعمل التحويلات وتحكم على الحوادث، فاحترزت على الآمر؛ ولم تزل تدبّر على الأفضل بن أمير الجيوش حتى قتل، حسب ما يأتى ذكره.
قال ابن القلانسىّ: وفيها ظهرت صور الأنبياء عليهم السلام: الخليل وولديه إسحاق ويعقوب «2» - صلوات الله عليهم- وهم مجتمعون فى مغارة بأرض بيت المقدس، وكأنّهم أحياء لم يبل لهم جسد ولا رمّ لهم عظم، وعليهم قناديل من ذهب وفضّة معلّقة، فسدّوا باب المغارة وأبقوا على حالهم.

(5/218)


وفيها توفّى علىّ بن محمد بن علىّ بن محمد بن الحسن بن عبد الملك بن حمّويه قاضى القضاة أبو الحسن الدامغانىّ الحنفىّ. ولد فى رجب سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وقلّد القضاء وهو ابن ستّ عشرة سنة بعد موت أبيه؛ وولى القضاء لأربعة خلفاء. وهذا لم يقع لغيره إلّا للقاضى شريح. وأمّا القاضى أبو طاهر محمد ابن أحمد الكوفىّ فذاك ولى لخمسة خلفاء.
قلت: الشيء بالشيء يذكر؛ وهذا قاضى قضاة زماننا، جلال الدين عبد الرحمن بن عمر البلقينىّ، ولى القضاء لستة سلاطين: الناصر فرج، والمنصور عبد العزيز ابنى الظاهر برقوق، والخليفة المستعين بالله العباسى، والمؤيّد شيخ، وابنه المظفّر أحمد، والظاهر ططر. ووقع مثل هذا كثير فى آخر الزمان؛ والمقصود غير ذلك. وكان الدامغانىّ إماما عالما عفيفا ديّنا معظّما عند الخلفاء والملوك. وناب عن الوزارة، وانفرد بأخذ البيعة للخليفة المسترشد. وكان ذا مروءة وصدقات وإحسان، ومعرفة بصناعتى القضاء والشروط. ومات ليلة رابع عشر المحرّم، ودفن فى مشهد أبى حنيفة- رضى الله عنه- وعاش ثلاثا وستين سنة وأشهرا.
ولى القضاء منها تسعا وعشرين سنة وخمسة أيّام. وسمع الحديث من القاضى أبى يعلى الفرّاء والخطيب وغيرهما، وكان صدوقا ثقة.
وفيها توفّى الإمام العلّامة أبو الوفاء علىّ بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادىّ الحنبلىّ شيخ الحنابلة فى عصره. كان إماما عالما صالحا مفتنّا؛ ومات ببغداد وله اثنتان وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع واثنتان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع أصابع.

(5/219)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 514]
السنة التاسعة عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة أربع عشرة وخمسمائة.
فيها خطب ببغداد لسنجر شاه السلجوقىّ ولابن أخيه محمود بن محمد شاه جميعا فى المحرّم، ولقب سنجر شاه بالسلطان عضد الدولة، ومحمود بجلال الدولة.
وفيها توفّى الحسين «1» بن علىّ بن محمد الإمام العلّامة مؤيّد الدين الطّغرائىّ الكاتب وزير السلطان محمود بن محمد شاه السلجوقىّ، المقدّم ذكره، والطغرائى هذا جدّ محمد بن الحسين وزير الظاهر غازى ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. وكان السلطان محمود نسب خروج أخيه مسعود عليه إلى الطّغرائىّ فقتله.
وقال الذهبىّ: وزير السلطان مسعود قتل فى المصافّ بين مسعود وأخيه محمود.
وكان أفصح الفصحاء، وأفضل الفضلاء، وأمثل العلماء؛ وهو صاحب «لاميّة العجم» ، وديوانه مشهور بأيدى الناس. ومن شعره يمدح الوزير نظام الملك على قافيتين «2» :
[الكامل]
يا أيّها المولى الذي اص ... طنع الورى، شرقا وغربا
والقصيدة كلها على هذا المنوال.

(5/220)


ومن شعره أيضا:
[السريع]
قوموا إلى لذّاتكم يا نيام ... ونبّهوا العود وصفّوا المدام
هذا هلال الفطر قد جاءنا ... بمنجل يحصد شهر الصيام
وفيها توفى الحافظ أبو منصور محمود بن إسماعيل الأشقر الأصبهانىّ عالم أصبهان ومحدّثها، مات فى ذى القعدة.
وفيها توفّى الشيخ الإمام المقرئ أبو الحسن عبد العزيز بن عبد الملك بن شفيع الأندلسىّ المرىّ «1» المقرئ المجوّد. كان رأسا فى علوم القرآن، وأفاد وأقرأسنين.
وفيها توفّى الشيخ أبو الحسن علىّ بن الحسن بن الموازينىّ العالم المحدّث المشهور.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم تسع أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.