النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 515]
السنة العشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة خمس عشرة وخمسمائة.
فيها كتب الخليفة المسترشد بالله العباسىّ والسلطان محمود بن محمد شاه السلجوقىّ إلى إيلغارى يأمرانه بإبعاد بيس بن صدقة، وفسخ الكتاب الذي عقده له على ابنته.

(5/221)


وفيها توفّى عبد الرزّاق بن عبد الله بن علىّ بن إسحاق الطوسىّ ابن أخى نظام الملك. كان فاضلا، تفقّه على أبى المعالى الجوينىّ، وأفتى وناظر، ووزر للسلطان سنجر شاه السلجوقىّ. ومات بنيسابور.
وفيها توفّى محمد بن محمد بن عبد العزيز أبو علىّ بن المهتدى الخطيب. كان فاضلا، شهد عند القاضى أبى عبد الله الدامغانىّ الحنفىّ، وكان ظريفا صالحا ديّنا.
ومات فى شوّال، ودفن بباب حرب من بغداد.
وفيها قتل الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش أبو القاسم بن أمير الجيوش بدر الجمالىّ الأرمنىّ وزير مصر ومدبّر ممالكها. ولى مملكة مصر بعد موت أبيه بدر الجمالىّ فى أيّام المستعلى إلى أن مات المستعلى؛ فأقام الأفضل هذه ولده مكانه فى الخلافة، ولقّبه بالآمر (أعنى صاحب الترجمة) ودبّر دولته وحجر عليه. وكان الخليفة المستنصر جدّ الآمر هذا وولده المستعلى والد الآمر كلاهما أيضا تحت حجر بدر الجمالى والد الأفضل هذا. فلمّا ملك الأفضل سار على سيرة أبيه مع الخلفاء من الحجر والتضييق عليهم. وزاد الأفضل هذا فى حقّ الآمر صاحب الترجمة حتّى إنّه منعه من شهواته، وأراد قتله بالسّم. فحمله ذلك على قتله، واتّفق الآمر مع جماعة، وكان الأفضل يسكن بمصر؛ فلمّا ركب فى غير موكب وثبوا عليه وقتلوه فى سلخ شهر رمضان بعد أمور وقعت. وخلّف الأفضل من الأموال والنقود والقماش والمواشى ما يستحيا من ذكره كثرة. وقد ذكرنا ذلك فى «كتاب الوزراء» وهو محلّ الإطناب فى الوزراء، وليس لذكره هنا محلّ. والمقصود فى هذا الكتاب تراجم ملوك مصر لا غير، وما عدا ذلك يكون على سبيل الاستطراد.
قال ابن الأثير: كانت ولايته (يعنى الأفضل) ثمانيا وعشرين سنة، وكان حسن السيرة عادلا. ثم أخذ فى تعداد أمواله.

(5/222)


وفيها توفّى الإمام الحافظ المحدّث أبو محمد الحسين بن مسعود البغوىّ المعروف بابن الفرّاء. كان إماما حافظا، رحل إلى البلاد وسمع الكثير وحدّث وألّف وصنّف. وكان يقال له محيى السنة. ومات فى شوّال.
وفيها توفّى الحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن عمر «1» السّمرقندىّ الإمام الحافظ المشهور. سمع الكثير وروى عنه غير واحد، وكان صدوقا ثقة دينّا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع، وقيل: خمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 516]
السنة الحادية والعشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ست عشرة وخمسمائة.
فيها كانت وقعة عظيمة بين الأمير إيلغازى بن أرتق صاحب ماردين وبين الكفّار على تفليس، فعاد مريضا فمات بعد أيّام.
ذكر وفاته- هو نجم الدين إيلغازى بن أرتق صاحب ماردين وديار بكر وحلب، وهو ثالث من ظهر أمره من ملوك بنى أرتق الأعيان. وكان ملكا شجاعا جوادا، له غزوات ومواقف مشهورة مع الفرنج. وكانت وفاته فى هذه السنة عند عوده من تفليس بميافارقين فى شهر رمضان. وذكر الذهبىّ وفاته فى الخالية؛ والأصحّ ما قلناه؛ فإنّه عاد إلى ميّافارقين مريضا، فنزل بظاهرها ومعه زوجته الخاتون بنت الأمير ظهير الدين طغتكين صاحب دمشق؛ فمات يوم الخميس سابع عشر شهر

(5/223)


رمضان فى قرية تعرف بالفحول؛ فحمل تابوته إلى ميّافارقين. وكان عنده ابنه شمس الدولة سليمان فاستولى على ميّافارقين؛ واستولى ابنه الآخر حسام الدولة تمرتاش «1» على ماردين.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان أبو محمد والد أبى اليسر شاكر التنوخىّ المعرّىّ. ولد بالمعرّة، وقرأ الأدب، وقال الشعر.
ومن شعره:
[الكامل]
يا من تنكّب قوسه وسهامه ... وله من اللّحظ السقيم سيوف
يغنيك عن حمل السلاح إلى العدا ... أجفانك المرضى وهنّ حتوف
وفيها توفّى عبد الله بن يحيى بن البهلول الأندلسىّ. كان أصله من مدينة سر قسطة من الغرب، وكان فاضلا أديبا شاعرا. ومن شعره قوله: [الطويل]
ولست بمن يبغى على الشعر رشوة ... أبّى ذاك لى جدّ كريم ووالد
وإنّى من قوم قديما ومحدثا ... تباع عليهم بالألوف القصائد
وفيها توفّى الحسين بن مسعود بن محمد الشيخ الإمام العلّامة أبو محمد البغوىّ الشافعىّ المعروف بابن الفرّاء، الفقيه المحدّث المفسر. وقد تقدّم ذكر وفاته فى الماضية. والصحيح أنّه مات فى هذه السنة. وهو مصنّف «شرح السنّة» و «معالم التنزيل» و «المصابيح» وكتاب «التهذيب فى الفقه» «والجمع بين الصحيحين» . وكان أبوه يعمل الفراء ويبيعها. ومات بمرو الرّوذ فى شوّال.

(5/224)


وفيها توفّى عبد الرحمن بن أبى بكر عتيق بن خلف أبو القاسم الصّقلّىّ المقرئ المجوّد المعروف بابن الفحّام، مصنّف «التجريد «1» » فى القراءات السبع. كان من كبار شيوخ القرّاء، سكن الإسكندريّة، وقصده الناس من النواحى لعلوّ إسناده وإتقانه.
وفيها توفّى القاسم بن علىّ بن محمد بن عثمان الشيخ الإمام العلّامة الأديب اللغوىّ النحوىّ أبو محمد البصرىّ الحرامىّ الحريرىّ، مصنّف «المقامات» . كان يسكن بنى حرام «2» أحد محالّ البصرة مما يلى الشطّ. مولده ومرباه بقرية المشان «3» من أعمال البصرة فى حدود سنة ستّ وأربعين وأربعمائة، وكان أحد أئمة عصره فى الأدب والبلاغة والفصاحة، وله مصنّفات كثيرة، منها كتاب «المقامات» الذي لا نظير له فى معناه، وقد سلك فيه منوال بديع الزمان صاحب المقامات الذي عملها قبل الحريرىّ؛ وقد تقدّم ذكره فى هذا الكتاب فى محلّه. وفى مقامات الحريرى هذا يقول إمام الدنيا محمود الزمخشرىّ:
[السريع]
أقسم بالله وآياته ... ومعشر الحجّ وميقاته
إنّ الحريرى حرىّ بأن ... نكتب بالتّبر مقاماته
ومن شعر الحريرىّ:
[البسيط]
لا تخطونّ إلى خطء ولا خطأ ... من بعد ما الشيب فى فوديك قد وخطا
وأىّ عذر لمن شابت ذوائبه ... إذا سعى فى ميادين الصّبا وخطا
وقد أرّخ الذهبىّ وفاته فى السنة الماضية. والله أعلم

(5/225)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وست وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 517]
السنة الثانية والعشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة سبع عشرة وخمسمائة.
فيها قبض السلطان محمود السلجوقىّ على وزيره عثمان بن نظام الملك، وبعث الخليفة بعزل أخيه أحمد عن وزارته. فبلغ أحمد فانقطع عن الديوان.
وفيها سار الأمير نور الدولة بلك [بن بهرام «1» ] بن أرتق إلى غزو مدينة الرّهاء فى شهر رجب.
وفيها توفّى الأمير الحاجب فيروز شحنة دمشق. وكان أميرا صالحا ديّنا، وله آثار جميلة بدمشق وغيرها.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن علىّ أبو عبد الله بن الخيّاط التغلبىّ الدمشقىّ الكاتب الشاعر المجيد، طاف البلاد ومدح الأكابر والملوك؛ قيل: إنّه دخل حلب فى حداثة سنّه، فقصد دار أبى الفتيان بن حيّوس الشاعر وقد أسنّ، قال: فدخلت عليه؛ فقال: من أين أنت؟ فقلت: من دمشق. فقال: ما صناعتك؟ قلت: الشعر.
قال: فأنشدنى من شعرك. فأنشدته قولى:
[الكامل]
لم يبق عندى ما يباع بحبّة ... وكفاك شاهد منظرى عن مخبرى
إلّا صبابة ماء وجه صنتها ... من أن تباع وأين أين المشترى

(5/226)


قال: نعيت إلىّ نفسى. قلت: ولم؟ قال: لأنّ الشام لا تخلو من شاعر مجيد، ولا يجتمع فيها شاعران، وأنت موازنى فى هذه الصناعة. ثم أعطانى دنانير وكسوة. ومن شعره أيضا قوله فى جواب كتاب:
[البسيط]
وافى كتابك أسنى ما يعود به ... وفد المسّرة منّى إذ يوافينى
فظلت أطويه من شوق وأنشره ... والشوق ينشرنى فيه ويطوينى
وفيها قتل الوزير عثمان بن نظام الملك. كان استوزره السلطان محمود بن محمد شاه السلجوقىّ؛ فبعث عمّه سنجر شاه السلجوقىّ يطلبه. فقال أبو نصر المستوفى:
متى بعثت به حيّا إلى عمّك سنجر شاه لم تأمنه، اقتله وابعث إليه برأسه. فبعث عنبرا الخادم إليه ليقتله. فعرف عثمان وقال: أمهلنى حتّى أصلّى ركعتين؛ فقام وصلّى وقال لعنبر: أرنى «1» سيفك ما أراه إيّاه، سيفى أمضى منه، فلا تقتلنى إلّا به؛ وناوله إيّاه فقتله به. فلمّا كان بعد قليل بعث السلطان محمود إلى أبى نصر المستوفى من فعل به كذلك، وذبحه ذبح الشاة. قلت: الجزاء من جنس العمل.
وفيها توفّى عبد المنعم بن حفاظ «2» بن أحمد بن خلف المحدّث أبو البركات الأنصارىّ الدمشقىّ، ويعرف بابن البقلىّ. كان جوادا فاضلا، سمع الكثير؛ واستوزره خير خان «3» بن قراجا صاحب حمص؛ ثم بلغه أنه كاتب طغتكين صاحب دمشق، فقبض عليه وكحله، فرجع إلى دمشق أعمى، فأقام بها حتّى مات.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وعشر أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وعشر أصابع.

(5/227)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 518]
السنة الثالثة والعشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ثمانى عشرة وخمسمائة.
فيها عزم دبيس على قصد بغداد؛ وكان دبيس قد التجأ إلى طغرل بن محمد شاه السلجوقىّ. فتأهّب الخليفة المسترشد بالله للقائهما، وجمع الجيوش من كلّ جانب؛ ثم ترك دبيس المجىء فى هذه السنة لأمر ما.
وفيها كاتب أهل حلب آق سنقر صاحب الموصل؛ فسار إلى حلب فسلمها إليه أهلها، وهرب منها الأمير سكمان بن أرتق؛ فساق آق سنقر البرسقىّ خلفه، فلحقه بمنبج فقتله.
وفيها استولت الفرنج على صور بالأمان بعد أمور وحروب ذكرناها فى أوّل ترجمة الآمر هذا.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن علىّ بن محمد القاضى أبو جعفر الدّامغانىّ الحنفىّ، شهد عند أبيه، ثم ولى قضاء الكرخ من قبل أخيه، ثم ترك ذلك ورمى الطيلسان وولى حجبة باب النوبىّ للخليفة؛ وعظم ذلك على أخيه. وكان فاضلا كريم الأخلاق حسن العشرة خليقا بالرياسة.
وفيها توفّى محمد بن نصر بن منصور أبو سعد القاضى الهروىّ. كان فى بداءة أمره فقيرا حتّى اتّصل بالخليفة، وصار سفيرا بينه وبين الملوك. واستشهد هو وولده بهمذان، وكانت له اليد الباسطة فى النظم والنثر. ومن شعره:
[الوافر]
أودّعكم وأودعكم جنانى ... وأنثر دمعىّ نثر الجمان
وإنّى لا أريد لكم فراقا ... ولكن هكذا حكم الزمان

(5/228)


وفيها توفّى الفقيه أبو الفتح سلطان بن إبراهيم المقدسىّ الشافعىّ بمصر؛ قاله الذهبىّ. كان فقيها عالما بارعا فى فنون.
أمر النيل فى هذه- الماء القديم سبع أذرع وأربع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة تمانى عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 519]
السنة الرابعة والعشرون من ولاية الامر منصور على مصر وهى سنة تسع عشرة وخمسمائة.
فيها جسّر دبيس بن صدقة طغرل بن محمد شاه السلجوقىّ على قصد بغداد وأن يطلب السلطنة لنفسه، فسار؛ واستعدّ له الخليفة المسترشد، ووقع له معهما حروب آلت إلى أنّ دبيسا توجّه بعد هزيمته إلى سنجر شاه السلجوقىّ مستجيرا به، فأجاره ثم قبض عليه.
وفيها قبض الآمر صاحب الترجمة على وزيره المأمون أبى عبد الله بن البطائحىّ وعلى أخيه «1» أحمد المؤتمن، واستولى على أموالهما وذخائرهما ثم قتلهما، وكانا قد دبّرا فى القبض عليه. والمأمون هذا هو بانى جامع الأقمر بالقاهرة. وكان الآمر استوزره بعد قتل الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش.
وفيها توفى أحمد بن محمد بن الفضل أبو الفضل الكاتب الأديب الفاضل الشاعر المشهور، المعروف بابن الخازن، وقد تقدّم ذكر وفاته فيما مضى «2» . والله أعلم.

(5/229)


وفيها قتل الأمير آق سنقر البرسقىّ صاحب الموصل. كان أميرا شجاعا جوادا عادلا فى الرعيّة، وكان الخلفاء والملوك يحترمونه، وكان قد احترز من الباطنيّة بالرجال والسلاح والجانداريّة «1» . فدخل يوم الجمعة لجامع الموصل، فجاء إلى المقصورة وفيها جماعة من الصوفيّة لهم عادة يصلّون فيها، فاستراب بهم ودخل فى الصلاة وتأخّر عنه اصحابه؛ فوثب عليه ثلاثة فى زىّ الصوفيّة فضربوه بالسكاكين، فلم تعمل فى جسده للدرع الذي كان عليه؛ فصاحوا: رأسه وجهه، فضربوه حتّى قتلوه، وقتل الثلاثة. وحزن الناس عليه، وأقاموا ابنه مسعودا مقامه.
وفيها توفّى الأمير سليمان بن إيلغازى بن أرتق صاحب ميّافارقين. كان عادلا شجاعا جوادا، مات فى شهر رمضان ودفن عند أبيه. وجاء أخوه تمرتاش «2» من ماردين، فملك ميّافارقين وأحسن إلى أهلها.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم تسع أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 520]
السنة الخامسة والعشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة عشرين وخمسمائة.
فيها توفّى أحمد بن محمد بن محمد الشيخ أبو الفتوح «3» الغزالىّ الطوسىّ، أخو أبى حامد الغزالىّ المقدّم ذكره. كان متصوّفا متزهّدا فى أوّل عمره ثم وعظ، وكان مفوّها.

(5/230)


قال ابن الجوزىّ: ولمّا وعظ قبّله العوامّ. وجلس فى دار السلطان محمود فأعطاه ألف دينار، فلمّا خرج رأى «1» فرس الوزير فى الدهليز بمركب ذهب وقلائد وطوق ذهب، فركبه ومضى. وبلغ الوزير فقال: لا يتبعه أحد ولا يعاذ الفرس.
وفيها توفّى عبد الله «2» بن القاسم بن المظفّر بن علىّ القاضى أبو محمد المرتضى الشّهرزورىّ والد قاضى القضاة كمال الدين. كان أحد الفضلاء الشّهرزوريّين والعلماء المذكورين، وكان له النظم والنثر. ومن شعره:
[الطويل]
وبانوا فكم دمع من الأسر أطلقوا ... نجيعا وكم قلب أعادوا إلى الأسر
فلا تنكروا خلعى عذارى تأسّفا ... عليهم فقد أوضحت عندكم عدرى
وفيها توفّى محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيّوب الشيخ الإمام الفقيه الصوفىّ المالكىّ أبو بكر الطّرطوشنىّ «3» الاندلسىّ العالم المشهور نزيل الإسكندرية- وطرطوشة آخر بلاد المسلمين من الأندلس، وقد عادت الآن للفرنج- وكان يعرف بابن أبى رندقة. حجّ ودخل العراق وسمع الكثير، وكان عالما زاهدا ورعا ديّنا متواضعا متقشّفا متقلّلا من الدنيا راضيا باليسير. وقال ابن خلّكان: إنّه دخل على الأفضل بن أمير الجيوش بمصر فبسط تحته مئزره، وكان إلى جانب الأفضل نصرانىّ، فوعظ الأفضل حتى أبكاه، ثم أنشد:
[السريع]
يا ذا الذي طاعته قربة ... وحقّه مفترض واجب
إنّ الذي شرّفت من أجله ... يزعم هذا أنّه كاذب

(5/231)


وأشار إلى النصرانىّ. فأقام الأفضل النصرانىّ من موضعه وأبعده. وقد صنّف الشيخ أبو بكر كتاب «سراج الملوك «1» » للمأمون الذي ولى وزارة مصر بعد الأفضل، وقد تقدّم ذكره فى الماضية، وله تصانيف أخرى، وفضله مشهور لا يحتاج إلى بيان.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وثلاث أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 521]
السنة السادسة والعشرون من ولاية الامر منصور على مصر وهى سنة إحدى وعشرين وخمسمائة.
فيها قتل الباطنيّة وزير «2» السلطان سنجر شاه السلجوقىّ. وكان قد أفنى منهم اثنى عشر ألفا. فبعثوا إليه سائسا يخدم فى إصطبله مدّة إلى أن وجد الفرصة؛ فدخل الوزير يوما يفتقد خيله، فوثب عليه المذكور فقتله، وقتل بعده.
وفيها قتل الأمير مسعود بن آق سنقر البرسقىّ بالرّحبة؛ وكان عزمه أخذ دمشق فعوجل. وكان ولى بعد موت أبيه آق سنقر فى الخالية، فلم تطل مدّته.
وفيها توفّى أحمد [بن أحمد «3» ] بن عبد الواحد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن المتوكّل على الله الإمام المحدّث أبو السعادات. سمع الحديث الكثير ورحل البلاد. مات متردّيا من سطحه فى شهر رمضان ببغداد. وكان صحيح السماع ثقة.
وفيها توفّى هبة الله بن علىّ بن إبراهيم أبو المعالى الشيرازىّ. كان من أعيان الفضلاء، وله شعر جيّد.

(5/232)


وفيها توفّى العبد الصالح الزاهد أبو الحسن علىّ بن المبارك بن الفاعوس زاهد بغداد. كان كبير القدر، أحد أعيان الصوفيّة، وله أحوال وكرامات. مات ببغداد وكان له مشهد عظيم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا، وأصابع لم تحرّر.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 522]
السنة السابعة والعشرون من ولاية الامر منصور على مصر وهى سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
فيها توفّى الحسن بن علىّ بن صدقة الوزير أبو علىّ جلال الدين وزير الخليفة المسترشد بالله العباسىّ. كان فاضلا ديّنا رئيسا عاقلا حسن السّيرة محمود الطريقة محبوبا للخاصّة والعامّة جوادا ممدّحا؛ مات ببغداد وحزن عليه الخليفة. وتطاول بعد موته للوزارة جماعة، منهم عزّ الدولة بن المطلّب، وابن الأنبارىّ «1» ، وأحمد ابن نظام الملك وغيرهم؛ فلم يستوزر الخليفة أحدا منهم، واستناب نقيب النقباء علىّ بن طرّاد الزينبىّ الحنفىّ.
وفيها توفى الحسين بن علىّ بن أبى القاسم الفقيه العلّامة أبو علىّ اللّامشىّ «2» السّمرقندىّ الحنفىّ. كان إماما مفتّنا يضرب به المثل فى النظر «3» ، وسمع الحديث ورواه، وكان صالحا دينا على طريق السلف مطّرحا للكلفة. ومات بسمرقند.

(5/233)


وفيها توفّى الأمير ظهير الدين أبو المنصور طغتكين بن عبد الله الأتابك صاحب الشأم مملوك تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان السلجوقىّ. كان طغتكين مقدّما عند أستاذه تتش المذكور، وزوّجه أم ابنه دقماق، ونصّ عليه فى أتابكية ابنه دقماق المذكور. فقام بتدبير ملكه أحسن قيام، وغزا الفرنج غير مرّة، وله فى الجهاد اليد البيضاء. وقد ذكرنا بعض وقائعه فى أوّل ترجمة الآمر هذا مع الفرنج على سبيل الاختصار، نعرّف من ذلك همّته وشجاعته. وكان عادلا فى الرعيّة. ولمّا احتضر أوصى بالملك إلى ولده تاج الملوك بورى؛ فسار فى الناس أيضا أحسن سيرة. ومات طغتكين فى صفر بعد أن حكم دمشق سنين كثيرة. رحمه الله تعالى.
وفيها توفى عبد الله بن طاهر بن محمد بن كاكو أبو محمد الواعظ. ولد بصور ونشأ بالشام. قال أنشدنى أبو إسحاق الشيرازىّ لنفسه:
[البسيط]
لمّا أتانى كتاب منك مبتسما ... عن كلّ معنى ولفظ غير محدود
حكت معانيه فى أثناء أسطره ... أفعالك البيض فى أحوالى السّود
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 523]
السنة الثامنة والعشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة.
فيها ضمن زنكى بن آق سنقر للسلطان مائة ألف دينار على ألّا يعزله عن الموصل؛ وضمن الخليفة للسلطان أيضا مثل ذلك، ولا يولّى دبيسا ولاية- وكان الخليفة يكره دبيسا- فقبل السلطان ذلك.

(5/234)


وفيها توفّى طاهر بن سعد الصاحب الوزير أبو علىّ المزدقانىّ «1» . كان شجاعا جوادا، بنى المسجد على الشرف «2» شمالى دمشق، ويسمّى مسجد الوزير، وكان قد عاداه وجيه الدولة «3» بن الصوفىّ، فآنتمى إلى الإسماعيليّة خوفا منه، فقتل هناك.
وفيها توفّى هبة الله بن أحمد بن محمد الحافظ المحدّث أبو محمد الأنصارىّ المعروف يا بن الأكفانىّ. سمع الكثير ولقى الشيوخ، وسمع جدّه لأمّه أبا الحسن ابن صصرى وغيره.
وفيها توفّى الحافظ أبو الفضل جعفر بن عبد الواحد الثقفى الفقيه العالم المشهور؛ مات وله تسع وثمانون سنة.
وفيها توفّى أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن الإمام أبى بكر البيهقىّ ببغداد فى جمادى الأولى، وكان فاضلا فقيها، سمع الحديث.
وفيها توفّى الفقيه المحدّث أبو الحجّاج يوسف بن عبد العزيز الميورقىّ «4» الأصل ثمّ الإسكندرى، وبها توفّى. كان إماما فقيها عالما بارعا مفتنّا فى كثير من العلوم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وست وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وخمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 524]
السنة التاسعة والعشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وهى السنة التى قتل فيها الآمر صاحب الترجمة، حسب ما ذكرناه مفصّلا فى ترجمته أوّلا.

(5/235)


وفيها (أعنى سنة أربع وعشرين) استوزر بورى بن طغتكين صاحب دمشق المفرّج بن الصوفىّ.
وفيها وصل زنكى بن آق سنقر إلى حلب من الموصل، وقد أظهر أنّه على عزم الجهاد؛ وراسل بورى يلتمس منه المعونة على محاربة الفرنج. فأرسل إليه بورى من استحلفه الأيمان المغلّظة، واستوثق منه لنفسه ولصاحب حمص وحماة.
وفيها ظهرت بالعراق عقارب طيارة لها أجنحة، وهى ذات شوكتين؛ فقتلت من الأطفال خلقا كثيرا. قاله صاحب مرآة الزمان؛ والعهدة عليه فيما نقلناه عنه.
وفيها توفّى إبراهيم بن عثمان بن محمد أبو إسحاق العرّىّ الكلبىّ الشاعر. مولده بغزّة. كان أحد فضلاء الدهر، رحل إلى البلاد وامتدح جماعة من الرؤساء. ومن شعره وأجاد إلى الغاية:
[الكامل]
قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة ... باب البواعث والدّواعى مغلق
خلت البلاد فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق
ومن العجائب أنّه لا يشترى ... ويخان فيه مع الكساد ويسرق
وفيها توفّى الحسين بن محمد بن عبد الوهّاب الإمام البارع أبو عبد الله النحوى، وهو أخو أبى الكرم «1» بن فاخر النحوىّ لأمّه. قرأ بالروايات، وسمع الحديث الكثير، واشتغل باللغة والأدب، وقال الشعر الرائق.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.

(5/236)


ذكر ولاية «1» الحافظ لدين الله على مصر
الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبى القاسم محمد ابن الخليفة المستنصر بالله معدّ بن الظاهر بالله علىّ بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدىّ عبيد الله، العبيدىّ الفاطمىّ المصرىّ، الثامن من خلفاء مصر من بنى عبيد، والحادى عشر منهم ممن ولى من آبائه بالمغرب، وهم ثلاثة: المهدىّ والقائم والمنصور. وأوّل من ولى من آبائه بالقاهرة المعزّ لدين الله؛ فلهذا قلنا: هو الثامن من خلفاء مصر، والحادى عشر منهم ممن ولى بالمغرب.
وولى الحافظ الخلافة بمصر بعد قتل ابن عمه الامر أبى علىّ منصور، على ما يأتى بيانه من أقوال كثيرة. ولم يكن من خلفاء مصر من أبوه غير خليفة سواه والعاضد الآتى ذكره. ولقبوه الحافظ لدين الله، ووزر له أبو على أحمد بن الأفضل ولقّب أمير الجيوش، فأحسن إلى الناس وعاملهم بالخير وأعاد لهم مصادراتهم.
وكان قبل ولاية الحافظ هذا اضطرب أمر الديار المصرية؛ لأنّ الآمر قتل ولم يخلف ولدا ذكرا، وترك امرأة حاملا، فماج أهل مصر وقالوا: لا يموت أحد من أهل هذا البيت إلّا ويخلّف ولدا ذكرا منصوصا «2» عليه الإمامة. وكان الآمر قد نص على الحمل قبل موته؛ فوضعت الحامل بنتا، فعدلوا إلى الحافظ هذا، وانقضع

(5/237)


النسل من الآمر وأولاده. وهذا مذهب طائفة من الشّيعة المصريّين؛ فإنّ الإمامة عندهم من المستنصر إلى نزار الذي قتل بعد واقعة الإسكندريّة.
وقال صاحب مرآة الزمان: ولمّا استمر الحافظ فى خلافة مصر، ضعف أمره مع وزيره أبى علىّ أحمد بن الأفضل أمير الجيوش وقوى شوكة الوزير المذكور، وخطب للمنتظر «1» المهدىّ، وأسقط من الأذان «حىّ على خير العمل» ودعا الوزير المذكور لنفسه على المنابر بناصر إمام الحق، هادى العصاة «2» إلى اتباع الحق؛ مولى الأمم؛ ومالك فضيلتى السيف والقلم. فلم يزل كذلك حتى قتل الوزير المذكور، على ما يأتى ذكره.
وقال ابن خلّكان: «وهذا الحافظ كان كثير المرض بعلة القولنج، فعمل له شيرماه «3» الديلمىّ طبل القولنج الذي كان فى خزائنهم. ولمّا ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب مصر كسر فى أيّامه، وقصته مشهورة. [و «4» ] أخبرنى حفيد شيرماه المذكور أن جدّه ركّب هذا الطبل من المعادن السبعة، والكواكب السبعة فى أشرافها، وكل واحد منها فى وقته. وكان من خاصّته إذا ضربه أحد خرج الريح من مخرجه. ولهذه الخاصيّة كان ينفع من القولنج» . انتهى كلام ابن خلكان.
قلت: ونذكر سبب كسر هذا الطبل فى ترجمة السلطان صلاح الدين عند استقلاله بمملكة مصر.
ولما عظم أمر الحافظ بعد قتل الوزير المقدّم ذكره، جدد له ألقاب لم يسبق إليها، وخطب له بها على المنابر؛ وكان الخطيب يقول: «أصلح من شيّدت به الدّين

(5/238)


بعد دثوره، وأعززت به الإسلام بأن جعلته سببا لظهوره؛ مولانا وسيّدنا إمام العصر والزمان، أبا الميمون عبد المجيد الحافظ لدين الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آبائه الطاهرين، حجج الله على العالمين» . ولمّا قتل الوزير أبو علىّ أحمد المذكور- على ما يأتى ذكره- وزر للحافظ جماعة، فأساءوا التدبير، منهم أبو الفتح يانس أمير الجيوش ومات، فوزر له ابنه الحسن، ثم وزر له بهرام، ثم تولّى الحافظ الأمر بنفسه إلى أن مات.
وكان أمره مع الوزير أبى علىّ أحمد بن الأفضل أنّه لمّا قتل الخليفة الآمر كان الحافظ هذا محبوسا، فأخرجوه وأشغلوا الوقت به إلى أن يولد حمل الآمر، فإن كان صبيّا يلى الخلافة ويحلع الحافظ. وتولّى أحمد المذكور الوزارة وجعلوا الأمور إليه، وليس للحافظ إلّا مجرّد الاسم فى الخلافة. وكان الوزير المذكور شهما شجاعا عالى الهمة كابيه الأفضل وجدّه بدر الجمالى السابق ذكرهما، فاستولى على الديار المصريّة. وولدت الحامل بنتا، فاستمرّ الحافظ فى الخلافة تحت الحجر، وصار الأمر كلّه للوزير؛ فضيّق على الحافظ وحجر عليه ومنعه من الظهور وأودعه فى خزانة لا يدخل إليه أحد إلّا بأمر الأكمل (أعنى الوزير المذكور) فإنّه كان لقّب بالأكمل فى أيام وزارته. وطلع الوزير إلى القصر وأخذ جميع ما فيه، وقال: هذا كله مال أبى وجدّى؛ ثم أهمل خلفاء بنى عبيد والدعاء لهم، فإنّه كان سنيّا كأبيه، وأظهر التمسّك بالإمام المنتظر فى آخر الزمان، فجعل الدعاء فى الخطبة له، وغيّر قواعد الرافضة.
فأبغضه الأمراء والدعاة؛ لأنّ غالبهم كان رافضيّا بل الجميع. ثم أمر الوزير الخطباء بأن يدعو له بألقاب اختصّها لنفسه. فلمّا كرهه الشيعة المصريّون صمّموا على قتله.
فخرج فى العشرين من المحرّم إلى لعب الكرة، فكمن له جماعة وحمل عليه مملوك إفرنجى

(5/239)


للحافظ فطعنه وقتله وقطعوا رأسه، وأخرجوا الحافظ وبايعوه ثانيا، ونهبت دار الوزير المذكور.
وركب الحافظ إلى دار الخلافة واستولى على الخزائن، واستوزر مملوكه أبا الفتح يانس الحافظىّ. ولقّب أمير الجيوش أيضا وهو صاحب حارة اليانسية «1» ، فظهر هو أيضا شيطانا ما كرا بعيد الغور حتى خاف منه أستاذه الحافظ، فتحيّل عليه بكل ممكن وعجز حتى واطأه فرّاشه بأن جعل له فى الطهارة ماء مسموما، فاستنجى به فعمّل عليه سفله ودوّد؛ فكان يعالج بأن يلصق عليه اللحم الطرىّ فيتعلق به الدود إلى أن مات.
وقال صاحب كتاب «المقلتين فى أخبار الدولتين» : «كان الآمر قد اصطفى مملوكين، يقال لأحدهما هزبر الملوك، واسمه جوامزد «2» ؛ والآخر برغش، وينعت بالعادل. وهو صاحب المسجد «3» قبالة الروضة من بر مصر. وكان الآمر يؤثر هذا الأصغر لرشاقته. فلما قتل الآمر، وما ثم من يدبر الأمر، اعتمدا على الأمير أبى الميمون عبد المجيد، وكان أكبر الجماعة سنّا، فتحيّلا بأن قالا: إنّ الخليفة المنتقل (يعنون الآمر) كان قبل وفاته بأسبوع أشار إلى شىء من ذلك، وإنّه كان يقول عن نفسه: المسكين المقتول بالسكين، وإنّه قال: إنّ الجهة الفلانيّة حامل

(5/240)


منه، وإنّه رأى رؤيا تدلّ على أنّها ستلد ولدا ذكرا، وهو الخليفة من بعده؛ وإنّ كفالته للأمير عبد المجيد أبى الميمون. فجلس عبد المجيد المذكور كفيلا، ونعت بالحافظ لدين الله، وأن يكون هزبر الملوك وزيرا، وأن يكون الأمير الأجل السعيد يانس متولّى الباب وإسفهسالار. وكان أصله من غلمان الأفضل بن أمير الجيوش (يعنى من مماليكه) ؛ وكان من أعيان الأمراء بمصر، وقرئ بهذا التقرير سجلّ بالإيوان، والحافظ فى الشبّاك جالس، قرأه قاضى القضاة على منبر نصب له أمام الشبّاك بحضور أرباب الدولة. واستمرّ الحافظ، وانفشّ ورم الحبلى، ووزر له هذا المذكور وأميران بعده، وهما: بهرام الأرمنىّ، ورضوان بن ولخشى.
قلت: ولم يذكر هذا المؤرّخ أمر أحمد الوزير، ولا ما وقع له مع الحافظ، وهو أجدر بأخبار الفاطميّين من غيره. ولعلّه حذف ذلك لكونه كان فى أوّل الأمر. والله أعلم.
قال: استمرّ الحافظ خليفة من سنة أربع وعشرين وخمسمائة إلى جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وكان له من الأولاد عدّة: سليمان وهو أكبرهم وأحبّهم إليه، وحسن وكان عاقّا له، ويوسف وجبريل، هؤلاء قبل خلافته.
وولد له فى خلافته أبو منصور إسماعيل، وخلّف بعد موته. ولما ولّى العهد لسليمان أكبر أولاده فى حياته جعله يسدّ مكان الوزير، ويستريح من مقاساة الوزراء الذين يحيفون عليه ويضايقونه فى أمره ونهيه. فمات سليمان بعد ولايته العهد بشهرين، فحزن عليه شهورا. وترشّح حسن ثانيه فى العمر لولاية العهد، فلم يستصلحه أبوه الحافظ لذلك ولا أجابه إليه. فعظم ذلك على حسن المذكور، ودعا لنفسه وكاتب الأمراء وعوّل على اعتقال أبيه ليستبدّ هو بالأمر، وأطمع الناس فيما يواصلهم به إذا تمّ له الأمر؛ فامتدّت إليه الأعناق، وكاتب الأمراء وكاتبوه.

(5/241)


ثم عاودتهم عقولهم بأنّ هذا لا يتمّ مع وجود الخليفة. وكاتبوا أباه بخلاف ذلك.
فسيّر أبوه تلك الكتب إليه؛ قال: لا تعتقد أن معك أحدا. فأوقع بعدّة من الأمراء، وأخذ ما فى آدرهم. وقصد أبوه الحافظ إضعافه وصرفه عن جرأته بغير فتك، ففسد أمره وافتقر إلى أبيه. وكان حسن المذكور سيّر بهرام الأرمنى المقدّم ذكره حاشدا له ليصل إليه بالأرمن، وكان هذا (بهرام) أميرهم وكبيرهم.
فلمّا لجأ حسن إلى أبيه الحافظ احتفظ به أبوه وحرص عليه. فلما علم من بقى من الأمراء، وهم على تخوّف منه، اجتمعوا على طلبه من أبيه ليقتلوه ويأمنوا أمره؛ فوقفوا ببين القصرين فى عشرة آلاف. فراسلهم الخليفة الحافظ بلين الكلام وتقبيح مرادهم من قتل ولده، وأنّه قد أزال عنهم أمره، وأنّ ضمانه عليه فى ألّا يتصرّف أبدا؛ ووعدهم بالزيادة فى الأرزاق والإقطاعات. فلم يقبلوا شيئا من ذلك بوجه؛ وقالوا: إمّا نحن وإمّا هو؛ وإن لم نتحقّق الراحة الأبديّة منه وإلّا فلا حاجة لنا بك أيضا ونخلع طاعتك. وأحضروا الأحطاب والنيران لتحريق القصر، وبالغوا فى الإقدام عليه. فلم يجد الخليفة من ينصره عليهم؛ لأنّهم أنصاره وجنده الذين يستطيل بهم على غيرهم. فألجأته الضرورة أنّه استصبرهم ثلاثة أيّام ليتروّى فيما يعمل فى حق ولده؛ فرأى أنّه لا ينفكّ من هذه المنازلة العظيمة التى لم ير مثلها إلّا أن يقتله مستورا ويحسم مادّته ويأمن مباينة عسكره، وأنّه لا يأمن هو على نفسه، وأنّه لا بدّ من التصرف بهم وفيهم، وأنّهم لا ينفكّون من المقام ببين القصرين على هذا الأمر إلّا بعد إنجازه. وكان لخاصته طبيبان يهوديّان يقال لأحدهما أبو منصور، وللآخر ابن قرقة «1» . وكان ابن قرقة خبيرا بالاستعمالات ذكيّا. فحضر إليه أبو منصور قبل ابن قرقة، ففاوضه الخليفة فى عمل السقية القاتلة لولده؛ فتحرّج من ذلك وأنكر معرفته،

(5/242)


وحلف برأس الخليفة وبالتوراة أنّه لا يعرف شيئا من هذا فتركه. ثم حضر ابن قرقة ففاوضه فى السقية فقال: الساعة، ولا يتقطّع الجسد بل تفيض النفس لا غير، فأحضرها فى يومه؛ وألزم الخليفة ولده حسنا على شربها فشر بها ومات، وقيل للقوم سرّا: قد كان ما أردتم، فامضوا إلى دوركم. فلم يثقوا بذلك بل قالوا:
يشاهد منّا من نثق به. فأحضروا أميرا معروفا بالجرأة يقال له المعظّم جلال الدين محمد جلب راغب «1» ؛ فدخل المذكور إلى المكان الذي فيه القتيل، فوجده مسجّى وعليه ملاءة، فكشف عن وجهه وأخرج من وسطه بارشينا «2» ، فغرزه بها فى مواضع خطرة من جسده حتى تحقّق موته، وعاد إلى القوم فأخبرهم فوثقوا منه وتفرّقوا. ولما نسّاهم الحافظ أمر ابنه قبض على ابن قرقة صاحب السقية فرماه فى خزانة البنود، وأمر بارتجاع جميع أملاكه وموجوده إلى الديوان. وكانت داره «3» بالزقاق الذي كان يسكنه فرّوخ شاه بن أيّوب، تطلّ على الخليج قبالة الغزالة «4» وما فيه من الدور والحمّام؛ وهذا الدرب يعرف بدرب ابن قرقة

(5/243)


قريب باب الخوخة. ثم أنعم الخليفة على رفيقه أبى منصور وجعله رئيس اليهود، وحصلت له نعمة ضخمة.
قال: وكان الحافظ فى كلّ ستة أشهر يجرّد عسكرا إلى عسقلان بما يتحقّقه من عزمات الفرنج فى القلّة والكثرة مع من هو فيها مقيم من المركزية»
والكنانيّة وغيرهم؛ فكان القلّة من الفرسان من ثلثمائة إلى أربعمائة (يعنى الذين يسيّرهم فى التجريدة) ، والكثرة من أربعمائة إلى ستمائة؛ ويقدّم على كلّ مائة فارس أميرا، ويسلّم للأمير الخريطة؛ وهذا اسم «2» لحمل أوراق العرض من الديوان ليتّفق مع والى عسقلان على عرضهم. ثم يسلّم إليه مبلغا من المال ينفقه فيمن فاتته النفقة.
وكانت النفقة للأمراء مائة دينار، وللأجناد ثلاثين دينارا. فاتّفق أنّ والى عسقلان أرسل كتابا يعرّف الخليفة أنّ عند الفرنج حركة؛ فجرّد الخليفة فى تلك المرة العدّة الكبيرة، وفيهم جلال الدين جلب راغب «3» الأمير الذي كشف صحة موت حسن ابن الخليفة بسقية السمّ؛ فسيّر إليه الخليفة مائة دينار، وهى علامة التجريد والاهتمام؛ فتجهّز المذكور للسفر فى جملة الناس، وفى نفسه تلك الجناية التى قدّمها عند الخليفة فى ولده حتى قتله. فلمّا كان السفر جلس الخليفة ليخدموه بالوداع ويدعو لهم بالنصر والسلامة؛ فدخلوا إليه ومثلوا بين يديه لذلك وانصرفوا إلّا جلال الدين جلب راغب المذكور. فقال الخليفة: قولوا للأمير: ما وقوفك دون أصحابك! ألك حاجة؟
فقال: يأمرنى مولانا بالكلام. فقال له: قل. قال: يا مولانا ليس على وجه الأرض خليفة ابن بنت رسول الله غيرك. وقد كان الشيطان استزلّنى فأذنبت ذنبا

(5/244)


عظيما، عفو مولانا أوسع منه. فقال له: قل ما تريد غير هذا، فإنّا غير مؤاخذيك به.
فقال: يا مولانا، قد توهّمت بل تحقّقت أنّى ماض فى حالة السخط منك، وقد آليت على نفسى أن أبذلها فى الجهاد، فلعلّى أموت شهيدا فيضيع ذلك سخط مولانا علىّ.
فقال له الخليفة: أنت غنىّ عن هذا الكلام، وقد قلنا لك: إنّا ما آخذناك «1» ، فأىّ شىء تقصد؟ قال: لا يسيّرنى مولانا تبغا لغيرى، فقد سرت مرارا كثيرة مقدّما، وأخشى أن يظنّ هذا التأخير للذنب الذي أنا معترف به. قال: لا، بل مقدّما وصاحب الخريطة. وأمر بنقل الحال عن المقدّم الذي كان تقرّر للتقدّمة والخريطة.
فسّر جلال الدين جلب راغب بذلك. ثم أعطاه الخليفة أيضا مائتى دينار، وقال له: اتّسع بهذه.
قال: وكان الأغلب على أخلاق الحافظ الحلم. ومرض الخليفة مرضته التى توفّى فيها، فحمل إلى اللؤلؤة «2» خارج القصر فأثخن فى المرض فمات بها. وظهر من وصيّته أنّ ولده أبا منصور إسماعيل، وهو أصغر أولاده، هو الخليفة من بعده، مع وجود ولدين كاملين، هما أبو الحجّاج يوسف وهو أبو الخليفة العاضد الآتى ذكره، وأبو الأمانة جبريل. فعقدت عليه الخلافة من بعده، ونعت بالظافر بأمر الله، وأن يستوزر له الأمير نجم «3» الدين بن مصال» . انتهى كلام صاحب المقلتين.
وقال ابن القلانسىّ: «وفى سنة أربع وأربعين وخمسمائة ورد الخبر من مصر بوفاة الحافظ بأمر الله، وولى الوزارة أمير الجيوش أبو الفتح بن مصال المغربىّ؛ فأحسن السيرة وأجمل السياسة، فاستقامت الأحوال. ثم حدث بعد ذلك من

(5/245)


اضطراب الأمور والخلف بين السودان والعساكر بحيث قتل بين الفريقين العدد الكثير وسكنت الفتنة» . انتهى كلام ابن القلانسىّ.
وكانت ولاية الحافظ على مصر تسع عشرة «1» سنة وسبعة أشهر، وتولّى الخلافة بعده أصغر أولاده، حسب ما ذكرناه عن كلام صاحب المقلتين.