النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 535]
السنة الحادية عشرة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.

(5/266)


فيها نقل الخليفة المقتفى لأمر الله العبّاسىّ المظفّر بن محمد بن جهير من الأستاداريّة «1» إلى الوزر. قلت: وهذا أوّل ما سمعنا بوظيفة الأستاداريّة فى الدّول.
وفيها توفّى محمد بن عبد الباقى الشيخ الإمام أبو بكر الأنصارىّ. هو من ولد كعب بن مالك أحد الثلاثة «2» الذين خلّفوا. كان إماما عالما. وكان إذا سئل عن مولده يقول: أقبلوا على شأنكم، لا ينبغى لأحد أن يخبر [عن] مولده، إن كان صغيرا يستحقرونه، وإن كان كبيرا يستهرمونه. وكان ينشد:
[الكامل]
لى مدّة لا بدّ أبلغها ... فإذا انقضت وتصرّمت متّ
لو عاندتنى الأسد ضارية ... ما ضرّ بى ما لم يجى الوقت
وفيها توفّى الشيخ الإمام حافظ عصره أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الطّلحىّ «3» الأصبهانى التيمىّ. ولد سنة تسع وخمسين وأربعمائة، وسافر البلاد وسمع الكثير وبرع فى فنون، وكان إماما فى التفسير والحديث والفقه واللغة، وهو أحد الحفّاظ المتقنين. ومات بأصبهان فى يوم عيد النحر.
وفيها توفّى الشيخ الإمام الفقيه المحدّث أبو الحسن رزين بن معاوية العبدرىّ «4» السّرقسطىّ، مات بمكّة فى المحرّم.

(5/267)


وفيها توفّى القدوة الصالح الواعظ أبو يعقوب يوسف بن أيّوب الهمذانىّ الواعظ المفسّر، كان إماما فاضلا، وله لسان حلو فى الوعظ، وللناس فيه محبّة وعليه القبول.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 536]
السنة الثانية عشرة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة ست وثلاثين وخمسمائة.
فيها توفّى شيخ الإسلام الحسام عمر بن عبد العزيز بن مازة «1» ، إمام الحنفيّة ببخارى وصدر الإسلام. كان علّامة عصره، وكانت له الحرمة العظيمة، والنعمة الجليلة، والتصانيف المشهورة؛ وكان الملوك يصدرون عن رأيه. ولمّا عزم سنجر شاه ابن ملكشاه على لقاء الخطا «2» ، أخرجه معه، وفى صحبته من الفقهاء والخطباء والوعّاظ والمطّوّعة ما يزيد على عشرة آلاف نفر، فقتلوا فى المصافّ عن آخرهم، وأسر الحسام هذا وأعيان الفقهاء. فلمّا فرغ المصافّ أحضرهم ملك الخطا وقال:
ما الذي دعاكم إلى قتال من لم يقاتلكم والإضرار بمن لم يضرّكم؟ وضرب أعناق الجميع. وانهزم سنجرشاه فى ستّ أنفس، وأسرت زوجته وأولاده وأمّه وهتك حريمه، وقتل عامّة أمرائه. قال صاحب مرآة الزمان: وقتل مع سنجرشاه اثنا عشر ألف

(5/268)


صاحب عمامة كلّهم رؤساء، وكان يوما عظيما لم ير مثله فى جاهليّة ولا إسلام، وكانت قتلة ابن مازة المذكور فى صفر.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو سعد «1» أحمد بن محمد بن الشيخ علىّ بن محمود الزّوزنىّ «2» الصّوفى. كان إماما عالما فاضلا رأسا فى علم التصوّف. مات ببغداد فى شعبان.
وفيها توفّى الشيخ العارف بالله أبو العبّاس أحمد [بن محمد «3» ] بن موسى الصّنهاجىّ الأندلسىّ المالكىّ العالم الصوفىّ. كان ممن جمع بين علمى الشريعة والحقيقة.
وفيها توفّى الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبى الأشعث السّمرقندىّ، مات ببغداد فى ذى القعدة. وكان حافظا مفتنّا، سمع الكثير وسافر البلاد وكتب وحصّل وحدّث، روى عنه غير واحد.
وفيها توفّى شرف الإسلام عبد الوهّاب ابن الشيخ أبى الفرج عبد الواحد بن محمد الشّيرازىّ الفقيه الحنبلىّ الواعظ. كان رأسا فى الوعظ مشاركا فى فنون كثيرة.
ومات بدمشق.
وفيها توفّى الحافظ أبو عبد الله محمد بن علىّ المازرىّ «4» المالكىّ الحافظ المحدّث المشهور، مات فى شهر ربيع الأوّل وله ثلاث وثمانون سنة. وكان إماما حافظا متقنا عارفا بعلوم الحديث، وسمع الكثير وسافر البلاد وكتب الكثير.

(5/269)


وفيها توفّى إمام جامع دمشق أبو محمد هبة الله بن أحمد بن عبد الله بن علىّ بن طاوس. كان رجلا فقيها صالحا ورعا حسن القراءة، أمّ سنين بجامع دمشق، ومات بها.
الذين ذكر الذهبىّ وقاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو سعد أحمد بن محمد ابن الشيخ على بن محمود الزّوزنى الصوفىّ ببغداد فى شعبان. وأبو العبّاس أحمد ابن محمد بن موسى [بن «1» عطاء الله] بن العزيف الصنهاجىّ الأندلسىّ العارف.
والحافظ أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبى الأشعث السّمرقندىّ ببغداد فى ذى القعدة. والفقيه أبو محمد عبد الجبّار بن محمد بن أحمد الخوارىّ «2» البيهقىّ فى شعبان. وأبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن أبى الرجال، وقد تغيّر.
وشرف الإسلام عبد الوهاب ابن الشيخ أبى الفرج عبد الواحد بن محمد الشّيرازىّ الحنبلىّ الواعظ بدمشق. وأبو حفص عمر بن العزيز بن مازة شيخ الحنفيّة بما وراء النهر، قتل صبرا فى صفر. وأبو عبد الله محمد بن علىّ المازرىّ المالكىّ الحافظ فى شهر ربيع الأوّل، وله ثلاث وثمانون سنة. وأبو الكرم نصر «3» الله بن محمد بن محمد بن مخلد بن الجلخت «4» بواسط فى ذى الحجّة. وإمام جامع دمشق أبو محمد هبة الله بن أحمد بن عبد الله بن علىّ بن طاوس. وأبو محمد يحيى بن علىّ بن الطرّاح المدينىّ فى رمضان.

(5/270)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس أصابع.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 537]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة سبع وثلاثين وخمسمائة.
فيها ملك الأمير زنكى بن آق سنقر التركى والد بنى زنكى قلعة الحديثة التى على الفرات، ونقل من كان بها من آل مهارش إلى الموصل، ورتّب فيها نوّابه.
وفيها توفّى الحسن بن محمد بن علىّ بن أبى الضوء الشريف أبو محمد الحسينى البغدادىّ، نقيب مشهد موسى بن جعفر ببغداد. كان إماما فاضلا فصيحا شاعرا إلّا أنّه كان على مذهب القوم، متغاليا فى التشيّع، فشان سودده بذلك. ومن شعره قوله فى المرثية التى عملها فى الشريف النقيب طاهر، وأظنّها من جملة أبيات،:
[الخفيف]
قرّبانى إن لم يكن لكما عق ... ر إلى جنب قبره فاعقرانى
وانضحا من دمى عليه فقد كا ... ن دمى من نداه لو تعلمان
قلت: لله درّه! لقد أحسن وأبدع فيما قال. وقد ساق ابن خلّكان هذه الأبيات فى ترجمة خالد «1» الكاتب، وساق له حكاية ظريفة، وذكر الأبيات فى صمنها فلتنظر هناك.
وفيها توفى السلطان داود ابن السلطان محمود شاه ابن السلطان محمد شاه ابن السلطان ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق

(5/271)


ابن دقماق السلجوقىّ، صاحب أذربيجان وغيرها، الذي كسره السلطان مسعود وجرى له معه وقائع وحروب- تقدّم ذكر بعضها- حتّى استولى على تلك النواحى. وكان سبب موته أنّه ركب يوما فى سوق تبريز، فوثب عليه قوم من الباطنيّة فقتلوه غيلة، وقتلوا معه جماعة من خواصّه، ودفن بتبريز. وكان ملكا شجاعا جوادا عادلا فى الرعيّة يباشرا الحروب بنفسه.
وفيها توفّى العلامة قاضى القضاة عبد المجيد بن إسماعيل بن محمد أبو سعيد الهروىّ الحنفىّ قاضى بلاد الروم. كان إماما فقيها متبحّرا مصنّفا، وله مصنّفات كثيرة فى الأصول والفروع، وخطب ورسائل، وأدّب وأفتى ودرّس سنين عديدة.
ومات بمدينة قيساريّة فى شهر رجب من السنة المذكورة. ومن شعره:
[الكامل]
وإذا متتّ إلى الكريم خديعة ... فرأيته فيما تروم يسارع «1»
فاعلم بأنّك لم تخادع جاهلا ... إنّ الكريم بفعله يتخادع
وفيها توفّى القان «2» ملك الخطا والترك الملك كوخان «3» وهو على كفره. وأظنّه هو الذي كسر سنجرشاه السلجوقىّ المقدّم ذكره، وقتل تلك الأمم. والله أعلم.
وفيها توفّى القاضى المنتخب أبو المعالى محمد بن يحيى بن علىّ القرشىّ قاضى قضاة دمشق وعالمها، مات بها فى شهر ربيع الأوّل وله تسع «4» وتسعون سنة.
وفيها توفّى صاحب المغرب أمير المسلمين أبو الحسن على بن يوسف بن تاشفين المعروف بالملثّم، قاله الذهبىّ فى تاريخ الإسلام.

(5/272)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو عبد الله الحسين «1» ابن علىّ سبط أبى منصور الخيّاط. وأبو الفتح عبد الله بن محمد بن محمد البيضاوىّ فى جمادى الأولى. وأبو طالب علىّ «2» بن عبد الرحمن بن أبى عقيل الصورىّ بدمشق.
وكوخان سلطان الخطا وهو على كفره. والخطيب أبو الفضل محمد «3» بن عبد الله بن المهتدى بالله. وأبو الفتح مفلح بن أحمد الرومىّ الورّاق ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وست عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 538]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.
فيها توفّى نقيب النقباء علىّ بن طرّاد بن محمد بن علىّ أبو القاسم الزينبىّ. كان معظّما فى الدول. ولّاه الخليفة المستظهر بالله نقابة النقباء، ولقّبوه بالرضى ذى الفخرين. وكان من بيت الرياسة والنقابة والفضل.
قلت: وكان ولى الوزارة؛ فنقم «4» عليه الخليفة المقتفى بالله وصادره بما فعله مع الخليفة الراشد من كتابة المحضر المقدّم ذكره فى سنة ثلاثين وخمسمائة. وكان

(5/273)


الزينبىّ هذا إماما فاضلا فقيها بارعا فى مذهب الإمام أبى حنيفة، وكان جوادا ممدّحا. مدحه الحيص «1» بيص بقصيدته التى أوّلها:
[الكامل]
ما أنصفت بغداد نائبها الذي ... كبرت نيابته على بغداد
وفيها توفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة فريد عصره ووحيد دهره وإمام وقته أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشرى الخوارزمىّ النحوىّ اللغوىّ الحنفىّ المتكلم المفسّر صاحب «الكشّاف» فى التفسير و «المفصّل» فى النحو. وكان يقال له جار الله؛ لأنّه جاور بمكّة المشرّفة زمانا، وقرأ بها على ابن وهّاس الذي يقول فيه:
[الطويل]
ولولا ابن وهّاس وسابق فضله ... رعيت هشيما واستقيت مصرّدا
وزمخشر: قرية من قرى خوارزم، ومولده بها فى رجب سنة سبع وستين وأربعمائة. وقدم بغداد وسمع الحديث وتفقّه وبرع فى فنون؛ وصار إمام عصره فى عدّة علوم. ومن شعره يرثى شيخه أبا مضر منصورا «2» :
[الطويل]
وقائلة ما هذه الدّرر الّتى ... تساقط «3» من عينيك سمطين سمطين
فقلت «4» لها الدّرّ الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذنى تساقط من عينى
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وتسع أصابع.

(5/274)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 539]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة تسع وثلاثين وخمسمائة.
فيها افتتح زنكى بن آق سنقر الرّهاء من يد الفرنج مع أمور وحروب، وردم سورها، وكتب إلى النصارى أمانا وأحسن للرعيّة، وحفر بها أساسا عميقا. وأول صخرة ظهرت فى هذا الأساس وجدوا مكتوبا عليها سطرين بالسريانيّة؛ فجاء شيخ يهودىّ فحلّهما إلى العربيّة، وهما:
[السريع]
أصبحت خلوا من بنى الأصفر ... أختال بالأعلام والمنبر
فظهر الرّحب على أنّنى ... لولا ابن سنقر لم أظهر
وفيها توفّى هبة الله بن الحسن الشيخ أبو القاسم المعروف بالبديع الأسطرلابىّ «1» .
كان فريد وقته فى عمل الأسطرلابات وآلات الفلك والطّلّسمات، وكان مع ذلك أديبا فاضلا. ومن شعره وقد أرسل لبعض الرؤساء هديّة:
[الكامل]
أهدى لمجلسك الشريف وإنّما ... أهدى له ما حزت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وما له ... منّ عليه لأنّه من مائه
وفيها توفّى صاحب المغرب وأمير المسلمين تاشفين بن علىّ بن يوسف بن تاشفين المصمودىّ المغربىّ. وتمكن بعده عبد المؤمن بن علىّ بعد أمور وقعت له مع تاشفين هذا وبعده.

(5/275)


وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرّعبنىّ المالكىّ الفقيه خطيب إشبيلية. كان إماما عالما خطيبا أديبا شاعرا.
وفيها توفّى المسند المعمّر أبو الحسن علىّ بن هبة الله بن عبد السلام الكاتب الفقيه مسند الأندلس، سمع الكثير ورحل البلاد وتفرّد بأشياء عوال.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو البدر «1» إبراهيم بن محمد بن منصور الكرخىّ فى شهر ربيع الأوّل. وتاشفين بن علىّ بن يوسف بن تاشفين المصمودىّ أمير المسلمين، وتمكّن بعده عبد المؤمن. وأبو منصور سعيد بن محمد ابن الرزاز «2» شيخ الشافعيّة ببغداد. وأبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرّعبنىّ خطيب إشبيلية. ومسند الأندلس أبو الحسن علىّ بن هبة الله بن عبد السلام الكاتب. وأبو البركات عمر بن إبراهيم بن محمد الزّيدىّ العلوىّ النحوىّ الكوفىّ.
وفاطمة بنت محمد بن أبى سعد محمد «3» البغدادىّ بأصبهان، ولها أربع وتسعون سنة.
وأبو المعالى محمد بن إسماعيل الفارسىّ النيسابورىّ. وأبو منصور [محمد «4» بن] عبد الملك [بن الحسن بن إبراهيم «5» ] بن خيرون المقرئ فى رجب. وأبو المكارم المبارك ابن علىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.

(5/276)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 540]
السنة السادسة عشرة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة أربعين وخمسمائة.
فيها توفّى بهروز الخادم أبو الحسن مجاهد الدين خادم السلطان مسعود السّلجوقىّ. كان خادما أبيض، ويلقّب مجاهد الدين. ولى إمرة العراق نيّفا وثلاثين سنة، وله به مآثر. منها أخذ كنيسة وبناها رباطا على شاطىء دجلة وأوقف عليها أوقافا، وبها دفن. وبهروز (بكسر الباء الموحدة ثانية الحروف وهاء ساكنة وراء مهملة مضمومة وواو وزاى ساكنة) ومعناه باللغة العجميّة يوم جيّد على التقديم والتأخير على عادة اللغة العجمية والتركية.
وفيها توفّى موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقىّ الشيخ أبو منصور إمام المقتفى العبّاسىّ. سمع الحديث ببغداد وقرأ الأدب فأكثر، وانتهى إليه علم اللغة ودرّس النحو والعربيّة بالنظاميّة بعد أبى زكريا «1» التّبريزى. فلمّا ولى المقتفى الخلافة اختصه وجعله إمامه، فكان غزير العلم طويل الصمت متواضعا مليح الخطّ. مات فى المحرّم.
وفيها توفّى الشيخ أبو «2» بكر بن تقىّ (بتاء مثناة من فوق ثالثة الحروف) الأندلسى القرطبى الفقيه الشاعر، كان فاضلا شاعرا فصيحا. ومن شعره:
[الطويل]
ومشمولة فى الكأس تحسب أنّها ... سماء عقيق زيّنت بكواكب
بنت كعبة اللّذّات فى حرم الصّبا ... فحجّ إليها اللهو من كلّ جانب

(5/277)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو سعيد «1» أحمد بن محمد بن أبى سعد البغدادىّ ثم الأصبهانىّ فى شهر ربيع الأوّل. وأبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن النيسابورىّ فى جمادى الأولى. وأبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد الجواليقىّ النحوىّ اللغوىّ إمام المقتفى فى المحرّم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 541]
السنة السابعة عشرة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة.
فيها بنى حسام الدين بن أرتق جسر القرمان بأرض ميّافارقين.
وفيها توفّى الأمير جاولى صاحب أذربيجان. كان شجاعا شهما يخافه السلطان مسعود وغيره. وسبب موته أنه افتصد وركب للصيد، فعنّ له أرنب فرماه بسهم فانفجر فصاده فضعف، ولم يقدر الطبيب على حبس الدم فمات.
وفيها توفّى الملك أبو المظفّر «2» عماد الدين زنكى «3» ابن الأتابك آق سنقر. كان أبوه يكنى بقسيم الدولة. وكان (أعنى اق سنقر) من خواصّ السلطان ملكشاه السلجوقىّ

(5/278)


وولّاه حلب والحمص؟؟؟ وغيرهما. ولمّا مات ملك بعده ابنه زنكى جميع هذه البلاد، وزاد مملكته حتّى ملك الشام من محمد بن بورى بن طغتكين بعد حروب. ثم استولى زنكى هذا على الشام جميعه، وأقام على ذلك سنين، إلى أن توجّه إلى قلعة جعبر «1» ، فقاتل صاحبها شهاب الدين سالم بن مالك العقيلىّ ونصب عليها المجانيق حتى لم يبق إلّا أخذها. فلمّا كان ليلة الثلاثاء سابع عشر شهر ربيع الآخر اتّفق ثلاثة من خدّامه على قتله فذبحوه على فراشه وهربوا إلى القلعة وعرّفوا من بها. وكان مع زنكى أولاده الثلاثة: سيف الدين غازى، ونور الدين محمود المعروف بالشهيد، وقطب الدين مودود. فملك بعده ابنه نور الدين محمود الشهيد، وسار غازى إلى الموصل.
قلت: وبنو زنكى هؤلاء هم أوسط الدول؛ فإن أوّل من ملك مع الخلفاء وتلقّب بالسلطان والألقاب العظيمة بنو بويه، ثم أنشأ بنو بويه بنى سلجوق.
وأنشأ بنو سلجوق بنى أرتق وآق سنقر جدّ بنى زنكى هؤلاء. ثم أنشأ بنو زنكى (أعنى الملك العادل نور الدين محمود الشهيد) بنى أيّوب سلاطين مصر وغيرها.
ثم أنشأ بنو أيوب المماليك ودولة الترك. وأوّل ملوكهم الملك المعزّ أيبك التركمانىّ.
فانظر إلى أمر الدنيا وكيف كلّ طائفة نعمة طائفة ونشؤها إلى يومنا هذا.
وفيها توفّى الأمير عبّاس شحنة مدينة الرّىّ. كان أميرا شجاعا مقداما جوادا يباشر الحروب بنفسه.
وفيها توفّى عبد الرحيم بن المحسّن بن عبد الباقى الشيخ أبو محمد التّنوخىّ. كان شاعرا فصيحا، مات بميّافارقين.

(5/279)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو البركات إسماعيل ابن أبى سعد أحمد بن محمد «1» بن دوست الصوفىّ شيخ الشيوخ فى جمادى الآخرة.
وأبو جعفر [حسن «2» ] بن علىّ البخارىّ الصوفىّ بهراة. وعماد الدين زنكى الأتابك ابن قسيم الدولة آق سنقر، قتله غلام له وهو محاصر قلعة جعبر. وأبو الفتح محمد ابن محمد بن عبد الرحمن بن علىّ النيسابورىّ الخشّاب «3» ، آخر من حدّث بأصبهان عن القشيرى «4» . وأبو عبد الله محمد بن محمد [بن أحمد «5» ] بن السّلال «6» الورّاق. وأبو بكر وجيه بن طاهر الشّحّامى «7» العدل فى جمادى الاخرة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 542]
السنة الثامنة عشرة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.
فيها افتتح نور الدين محمود المعروف بالشهيد صاحب الشام حصن «8» أرتاح وغيرها من يد الفرنج. قلت: وهذا أوّل أمر الفتوحات الزّنكيّة والأيّوبيّة الآتى ذكرها إن شاء الله تعالى.

(5/280)


وفيها استولى عبد المؤمن بن علىّ على مدينة مرّاكش من المغرب بالسيف وقتل من بها من المقاتلة، ولم يتعرّض للرعيّة، وأحضر اليهود والنصارى وقال:
إنّ الإمام المهدىّ أمرنى ألّا أقرّ الناس إلّا على ملّة واحدة وهى الإسلام، وأنتم تزعمون أن بعد الخمسمائة عام يظهر من يعضد شريعتكم، وقد انقضت المدّة؛ وأنا مخيّركم بين ثلاث: إمّا أن تسلموا، وإمّا أن تلحقوا بدار الحرب، وإمّا أن أضرب رقابكم. فأسلم منهم طائفة، ولحق بدار الحرب أخرى. وأخرب عبد المؤمن الكنائس والبيع وردّها مساجد، وأبطل الجزية، وفعل ذلك فى جميع ولاياته.
وفيها قتل الوزير رضوان بن ولخشى أمير الجيوش وزير الحافظ صاحب الترجمة ومدبّر ممالكه بديار مصر وغيرها. كان استوزره الحافظ صاحب مصر المذكور.
فلمّا ولى الوزر استولى على مصر، وحجر على الخليفة الحافظ، وسلك فى ذلك طريق الأفضل بن أمير الجيوش بدر الجمالى. وزاد أمره، حتى دسّ عليه الحافظ السودان فوثبوا عليه وقتلوه.
وفيها توفّى الأستاذ هبة الله بن على بن محمد بن حمزة أبو السعادات العلوىّ النحوىّ، ويعرف بابن الشّجرىّ. انتهى إليه فى زمانه علم النحو والعربيّة ببغداد، وسمع الحديث وطال عمره وأقرأ وحدّث.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثلاث أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 543]
السنة التاسعة عشرة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.

(5/281)


فيها أزال السلطان نور الدين محمود بن زنكى صاحب دمشق من حلب الأذان ب «حىّ على خير العمل» وسبّ الصحابة بها، وقال: من عاد إليه قتلته؛ فلم يعد أحد. رحمه الله تعالى.
وفيها ظهر بمصر رجل من ولد نزار ابن الخليفة المستنصر العبيدىّ يطلب الخلافة، فاجتمع عليه خلق، حتّى جهّز إليه الخليفة الحافظ صاحب الترجمة العساكر فالتقوا بالصعيد، وقتل من الفريقين جماعة. ثم انهزم النّزارىّ الذي خرج وقتل ولده.
وفيها أغار نور الدين محمود صاحب دمشق المعروف بالشهيد المقدّم ذكره على بلاد الفرنج وفتح عدّة حصون- تقبّل الله منه- وأسر وقتل وغنم.
وفيها حجّ بالناس من العراق الأمير قايماز.
وفيها توفّى قاضى القضاة أبو القاسم علىّ بن الحسين بن محمد بن علىّ الزينبى البغدادىّ الحنفىّ. ولد فى نصف شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث وتفقّه وبرع فى مذهبه. ولّاه الخليفة المسترشد قضاء القضاة، وطالت مدّته وحسنت سيرته، وناب فى الوزارة فى بعض الأحيان.
وفيها توفى الفقيه أبو الحجّاج يوسف «1» بن درناس الفندلاوىّ «2» شيخ المالكيّة بدمشق، استشهد بظاهر دمشق فى حرب الفرنج ومحاصرتهم لدمشق. وكان إماما عالما ديّنا بارعا فى فنون.

(5/282)


وفيها توفّى الأستاذ أبو الدرّ ياقوت الرومىّ الكاتب مولى أبى المعالى أحمد بن علىّ بن البخارىّ التاجر بدمشق. قلت: وتسمّى بهذا الاسم جماعة كثيرة لهم ذكر، فمنهم من يذكر هنا ومنهم من لا يذكر على حسب الاتفاق، وهم ياقوت هذا المذكور. وياقوت بن عبد الله الصّقلبى أبو الحسن المعروف بالجمالى مولى الخليفة المسترشد بالله الفضل العبّاسىّ، ووفاته سنة ثلاث وستين وخمسمائة. وياقوت بن عبد الله أبو سعيد مولى أبى عبد الله عيسى بن هبة الله بن النقّاش، ووفاته سنة أربع وسبعين وخمسمائة. وياقوت بن عبد الله الموصلىّ الكاتب أمين الدين المعروف بالملكىّ نسبته إلى أستاذه السلطان ملكشاه السّلجوقىّ، انتشر خطّه فى الآفاق، توفّى بالموصل سنة ثمانى عشرة وستمائة. وياقوت بن عبد الله الحموىّ الرومىّ شهاب الدين أبو الدرّ. كان من خدّام بعض التجار ببغداد يعرف بعسكر الحموىّ، وهو صاحب التصانيف؛ توفّى سنة ست وعشرين وستمائة. وياقوت بن عبد الله مهذّب الدين الرومىّ مولى أبى منصور الجيلىّ «1» التاجر، كان شاعرا ماهرا، وهو صاحب القصيدة التى أوّلها:
[البسيط]
إن غاض دمعك والأحباب قد بانوا ... فكلّ ما تدّعى زور وبهتان
توفّى سنة اثنتين وعشرين وستمائة. وياقوت بن عبد الله المستعصمىّ الرومىّ جمال الدين أبو المجد صاحب الخطّ البديع، مولى الخليفة المستعصم بالله العباسىّ، توفّى سنة ثمان وتسعين وستمائة. وياقوت الشّيخىّ افتخار الدين الحبشى مقدّم المماليك فى دولة الأشرف شعبان بن حسين، توفّى سنة سبع وسبعين وسبعمائة.
وياقوت بن عبد الله الحبشىّ المعزّىّ المسعودىّ المحدّث الفاضل، توفّى سنة أربع وخمسين وستمائة. وياقوت بن عبد الله الأرغون شاوى الحبشىّ مقدّم

(5/283)


المماليك للأشرف برسباى، توفّى سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة. قلت: وهؤلاء الأعيان. وأمّا غير الأعيان فكثير. وقد استطردنا ذكرهم هنا جملة لئلّا يلتبس أحد منهم على من ينظر فى ترجمة أحدهم فى محلّه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 544]
السنة العشرون من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر- مات فى جمادى الآخرة، حسب ما تقدّم ذكره- وهى سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
فيها واقع السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى بن آق سنقر المعروف بالشهيد صاحب دمشق الفرنج وكسرهم الكسرة المشهورة، وقتل منهم ألفا وخمسمائة، وأسر مثلهم؛ وعاد إلى حلب بالغنائم العظيمة والأسارى، وبعث بعضها إلى أخيه مودود. وفيها يقول ابن «1» القيسرانىّ الشاعر:
[السريع]
وكم «2» له من وقعة يومها ... عند ملوك الشّرك مشهود
حتّى إذا عادوا إلى مثلها ... قالت لهم هيبته عودوا

(5/284)


مناقب لم تك موجودة ... إلا ونور الدين موجود
وكيف لانثنى على عيشنا ال ... محمود والسلطان محمود
وفيها افتتح نور الدين محمود أيضا حصن فامية؛ وكان على حماة وحمص منه ضرر عظيم.
وفيها توفّى القاضى الإمام الأديب العلّامة ناصح الدين أبو بكر أحمد بن محمد ابن الحسين الأرّجانىّ قاضى تستر. قال ابن خلّكان: «والأرجانىّ: بفتح الهمزة وتشديد الراء والفتح والجيم وبعد الألف نون، هذه نسبة إلى أرّجان، وهى من كور الأهواز من بلاد خوزستان» . انتهى. وقال صاحب المرآة: «كان إمام عصره فقيها أديبا شاعرا صاحب النظم الرائق. وديوان شعره مشهور بأيدى الناس، سمع الحديث وتفقّه. وكان بليغا مفوّها. وهو القائل:
[الكامل]
أنا أشعر الفقهاء غير مدافع ... فى العصر وانا أفقه الشعراء
قلت: ومن شعره- والبيت الثانى يقرأ معكوسا:-
[الوافر]
أحبّ المرء ظاهره جميل ... لصاحبه وباطنه سليم
مودّته تدوم لكلّ هول ... وهل كلّ مودته تدوم
وفيها توفّى الحافظ الناقد الحجة عياض بن موسى بن عياض بن عمرو «1» بن موسى ابن عياض بن محمد بن موسى بن عياض اليحصىّ السّبتىّ أبو الفضل المعروف بالقاضى عياض أحد عظماء المالكيّة. ولد بسبتة فى منتصف شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة. وأصله من الأندلس ثم انتقل أخير أجداده إلى مدينة قاس، ثم من فاس إلى سبتة. كان إماما حافظا محدّثا فقيها متبحّرا، صنّف التصانيف المفيدة، وانتشر

(5/285)


اسمه فى الافاق وبعد صيته. ومن مصنّفاته كتاب «الشفا فى شرف المصطفى» .
وكتاب «ترتيب المدارك وتقريب المسالك فى ذكر فقهاء مذهب مالك» وكتاب «العقيدة» وكتاب «شرح حديث أمّ زرع» وكتاب « [جامع «1» ] التاريخ» وهو كتاب جليل، وشىء كثير غير ذلك. ومات بمرّاكش فى جمادى الآخرة. ومن شعره رحمه الله:
[السريع]
انظر إلى الزرع وخاماته «2» ... تحكى وقد هبّت «3» عليها الرياح
كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النّعمان فيها جراح
وفيها توفّى الملك غازى بن زنكى بن آق سنقر التركىّ، أخو السلطان نور الدين محمود الشهيد الأتابك، سيف الدين صاحب الموصل، وهو أكبر أولاد زنكى.
مات فى سلخ جمادى الآخرة وله أربع وخمسون سنة، وأقام فى الملك ثلاث سنين وشهورا. وكان شجاعا جوادا. وهو أوّل من حمل السّنجق «4» على رأسه فى الأتابكيّة، ولم يحمله أحد قبله لأجل «5» ملوك السلجوقيّة.
وفيها توفّى الأمير معين الدين أنر «6» مملوك الأتابك طغتكين. كان مدبّر دولة أولاد أستاذه الأتابك طغتكين، وكان جليل القدر عالى الهمّة.

(5/286)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى القاضى أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسين الأرّجانى الشاعر بتستر. ومعين الدين أنر الطّغتكىّ مدبّر دولة أولاد أستاذه. والحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد [بن] المستنصر العبيدىّ.
والقاضى عياض بن موسى بن عياض أبو الفضل اليحصبىّ السّبتىّ بمرّاكش فى جمادى الآخرة. وصاحب الموصل سيف الدين غازى ابن الأتابك.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وأربع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.

(5/287)


ذكر ولاية الظافر على مصر
الظافر بالله أبو منصور إسماعيل بن الحافظ لدين الله أبى الميمون عبد المجيد ابن الأمير محمد ابن الخليفة المستنصر معدّ بن الظاهر علىّ بن الحاكم منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ، التاسع من خلفاء مصر من بنى عبيد، والثانى عشر منهم ممّن ولى من أجداده خلفاء المغرب.
بويع بالخلافة بعد موت أبيه الحافظ فى جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وهو ابن سبع عشرة سنة وأشهر؛ لأنّ مولده فى يوم الأحد منتصف شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وخمسمائة. وأمّه أم ولد تدعى ستّ الوفاء، وقيل: ست المنى.
قال العلّامة شمس الدين أبو المظفّر يوسف بن قزأوغلى سبط ابن الجوزىّ فى تاريخه مرآة الزمان-، بعد أن سمّاه يوسف، والصواب ما قلناه أنّه إسماعيل- قال: «وكانت أيّامه مضطربة لحداثة سنّه واشتغاله باللهو، وكان عبّاس «1» الصّنهاجىّ لمّا قتل ابن سلّار «2» وزر له واستولى عليه. وكان له ولد اسمه نصر، فأطمع نفسه فى الأمر وأراد قتل أبيه، ودسّ إليه سمّا ليقتله. فعلم أبوه واحترز وأراد أن يقبض عليه فما قدر؛ ومنعه مؤيّد «3» الدولة أسامة بن منقذ وقبّح عليه ذلك، وقال:
إن فعلت هذا لم يبق لك أحد ويفرّ الناس عنك. فشرع أبوه يلاطفه (يعنى

(5/288)


الوزير عباس يلاطف ابنه نصرا) وقال له: عوض ما تقتلنى اقتل الظافر. وكان نصر ينادم الظافر ويعاشره، وكان الظافر يثق به وينزل فى الليل إلى داره متخفّيا.
فنزل ليلة إلى داره وكانت بالسوفيّين «1» داخل القاهرة ومعه خادم «2» له، فشربا ونام الظافر؛ فقام نصر فقتله ورمى به فى بئر. فلمّا أصبح عبّاس (يعنى الوزير أبا نصر المذكور) جاء إلى باب القصر يطلب الظافر؛ فقال له خادم القصر: ابنك يعرف أين هو [ومن «3» ] قتله. فقال عبّاس: ما لا بنى فيه علم. وأحضر أخوى الظافر وابن أخيه فقتلهم صبرا بين يديه؛ وأحضر أعيان الدولة وقال: إنّ الظافر ركب البارحة فى مركب فانقلبت به فغرق «4» . ثمّ أخرج عيسى ولد الظافر. فتفرّقوا عن عبّاس وابنه، وثار الجند والعبيد وأهل القاهرة وطلبوا بثأر الظافر من عبّاس وابنه نصر.
فأخذ عبّاس وابنه نصر ما قدرا عليه من المال والجواهر وهربا إلى الشام. فبلغ الفرنج فخرجوا إليهما، وقتلوا عبّاسا وأسروا ابنه نصرا؛ وقتل نصر فى السنة الآتية» .
انتهى.
وقال القاضى شمس الدّين أحمد بن خلّكان: «بويع يوم مات أبوه بوصية أبيه، وكان أصغر أولاد أبيه سنّا. كان كثير اللهو واللّعب، والتفرّد بالجوارى، واستماع المغانى. وكان يأنس بنصر بن عبّاس. فاستدعاه إلى دار أبيه ليلا سرّا

(5/289)


بحيث لا يعلم به أحد، وتلك الدار فى المدرسة الحنفيّة السيوفيّة «1» الآن، فقتله بها وأخفى أمره. قال: وقصّته مشهورة، وذلك فى نصف المحرّم سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وكان من أحسن الناس صورة. والجامع «2» الظّافرىّ الذي بالقاهرة داخل بآب زويلة منسوب إليه، وهو الذي عمّره وأوقف عليه شيئا كثيرا» .
انتهى كلام ابن خلّكان. قلت: والجامع الظافرىّ هو المعروف الآن بجامع الفاكهانيّين على الشارع «3» الأعظم بالقرب من حارة الدّيلم «4» .

(5/290)


وقال ابن القلانسىّ: «إنّ الظافر إنّما قتله أخواه يوسف وجبريل وابن عمهما صالح بن الحسن. قلت: وهذا القول يؤيّده قول ما نقله أبو المظفر من أنّ عبّاسا قتل أخوى الظافر وابن عمه صبرا (أعنى لمّا بلغه قتلهم للظافر قتلهم به) ؛ غير أنّ جمهور المؤرخين اتّفقوا على أنّ قاتل الظافر نصر بن عبّاس المقدّم ذكره.
قال: وكان الظافر قد ركن إليهم (يعنى أخويه وابن عمه) وأنس بهم فى وقت مسرّاته؛ فاتّفقوا عليه واغتالوه، وذلك فى يوم الخميس سلخ صفر. وحضر العادل عبّاس الوزير وابنه ناصر الدين نصر وجماعة [من «1» ] الأمراء والمقدّمين [للسلام «2» ] على الرسم. فقيل لهم: إن أمير المؤمنين ملتاث الجسم. فطلبوا الدخول إليه فمنعوا؛ فألحّوا فى الدخول بسبب العيادة فلم يمكّنوا. فهجموا ودخلوا القصر وانكشف أمره، فقتلوا الثلاثة وأقاموا ولده عيسى وهو ابن ثلاث سنين، ولقّبوه بالفائز بنصر الله وبايعوه؛ وعبّاس الوزير إليه تدبير الأمور. ثم ورد الخبر بأن طلائع بن رزّيك فارس المسلمين قد امتعض من ذلك وجمع وحشد وقصد القاهرة، وكان من أكابّر الأمراء. وعلم عبّاس أنّه لا طاقة له به، فجمع أمراءه وأسبابه وأهله وخرج من القاهرة. فلمّا قرب من عسقلان وغزّة خرج عليه جماعة من خيّالة الفرنج، فاغترّ بكثرة من معه؛ فلمّا حمل عليهم قتل أكثر أصحابه وانهزموا، فانهزم هو وابنه الصغير وأسر ابنه الكبير الذي قتل ابن سلّار مع ولده وحرمه وماله وكراعه «3» ، وصار الجميع للفرنج، ومن هرب مات من الجوع والعطش.
ووصل طلائع بن رزّيك إلى القاهرة، فوضع السيف فيمن بقى من أصحاب عبّاس، وجلس فى منصب الوزارة» . انتهى كلام ابن القلانسىّ. وما نقله غالبه مخالف لغيره من المؤرّخين. والله أعلم.

(5/291)


وقيل غير ذلك: إنّ خدّام القصر كتبوا إلى طلائع بن رزّيك وهو والى قوص «1» وأسوان «2» والصعيد يخبرونه بقتل الظافر ويستنجدونه على عبّاس وابنه نصر. وكتب إليه فيمن كتب القاضى الجليس أبو المعالى عبد العزيز بن الحبّاب «3» قصيدته الدالية التى أوّلها:
[الطويل]
دمعى عن نظم القريض غوادى «4» ... وشفّ فؤادى شجوه المتمادى
وأرّق عينى والعيون هواجع ... هموم أقضّت مضجعى ووسادى
بمصرع أبناء الوصىّ وعترة الن ... بىّ وآل الذاريات وصاد
فأين بنو رزّيك عنهم ونصرهم ... ومالهم من منعة وذياد
أولئك أنصار الهدى وبنو الردّى ... وسمّ العدا من حاضرين وباد
لقد هدّ ركن الدّين ليلة قتله ... بخير دليل للنّجاة وهاد
تدارك من الإيمان قبل دثوره ... حشاشة نفس آذنت بنفاد

(5/292)


وقد كاد «1» أن يطفى تألّق نوره ... على الحقّ عاد من بقية عاد
فلو عاينت عيناك بالقصر يومهم ... ومصرعهم لم تكتحل برقاد
وهى طويلة كلّها على هذا المنوال فى معنى النجدة. وقد نقلتها من خطّ عقد لا يقرأ إلّا بجهد. فلمّا بلغ ذلك طلائع بن رزّيك جمع ودخل القاهرة فى تاسع شهر ربيع الأوّل، وجلس فى دست الوزارة، وتلقّب بالملك الصالح؛ وهو صاحب الجامع «2» خارج بابى زويلة، وأخرج جسد الظافر من البئر التى كان رمى فيها بعد قتله وجعله فى تابوت ومشى بين يديه حافيا مكشوف الرأس، وفعل الناس كذلك، وكثر الضجيج والبكاء والعويل فى ذلك اليوم.
وقال بعضهم وأوضح الأمر، وقوله: إنّ الظافر كان قد أحبّ نصر بن عبّاس حبّا شديدا، وبقى لا يفارقه ليلا ولا نهارا. فقدم مؤيّد الدولة أسامة بن منقذ من الشام، فقال لعبّاس الوزير يوما: كيف تصبر على ما أسمع من قبيح القول! قال عبّاس: وما يقولون؟ قال يقولون: إن الظافر بنى «3» على ابنك نصر. فغضب عبّاس من ذلك، وأمر ابنه نصرا، فدعا الظافر لبيته فوثب عليه وقتله. وساق نحوا مما سقناه من قول أبى المظفّر وابن خلّكان. وانتهى كلامه.
وقال صاحب كتاب المقلتين فى أخبار الدولتين: «ولمّا تمّ أمر الظافر ركب بزىّ الخلافة وعاد إلى القصر؛ ولم يقدّم شيئا على انتقامه من ابنى الأنصارى لما كان يبلغه عنهما فى أيام والده الحافظ.

(5/293)


وخبر ابنى الأنصارىّ أنّهما كانا من جملة الكتّاب، وتوصّلا إلى الحافظ، فاستخدمهما فى ديوان الجيش قصدا لتمييزهما؛ وهما غير قانعين بذلك، لما يعلمانه من إقبال الحافظ عليهما؛ فوثبا على السادة من رؤساء الدولة مثل الأجلّ الموفّق أبى «1» الحجّاج يوسف كاتب دست الخليفة ومشورته، ومن يليه مثل القاضى المرتضى «2» المحنّك، والخطيرى البوّاب؛ فتجرّأا على المذكورين وغيرهم من الأمراء مع قلّة دربة.
فتتبّع القوم عوراتهم، والخليفة الحافظ لا يزداد فيهما إلّا رغبة. ووقع لهما أمور قبيحة، والقوم يبلّغون الخليفة خبرهم شيئا بعد شىء، وهو لا يلتفت إلى قولهم.
ولا زال ابنا الأنصارىّ حتى صار الأكبر شريك الأجلّ الموفّق فى ديوان المكاتبات، ولكن خصّص الموفّق بالإنشاء جميعه. ولمّا تولّى ابن الأنصارىّ نصف الديوان نعت بالقاضى الأجلّ سناء الملك، بعد أن وصّاه الخليفة الحافظ أن يقنع مع الموفق بالرتبة ويدع المباشرة، ويخدم الموفّق. وصبر الأجلّ الموفّق على ذلك مراعاة لخاطر الخليفة. وأمّا ابن الأنصارى الصغير فإنّه تجنّد فتأمّر فى يوم، وخلع عليه بالطّوق وما يلزم الأمريّة، وصار أمير طوائف الأجناد. فقال الناس: هو الأمير الطارى ابن الأنصارى!. وبينما هم فى ذلك مرض الخليفة الحافظ ومات، وآلت الخلافة لولده الظافر هذا. فنرجع لما كنّا عليه من أمر الظافر مع ولدى «3» الأنصارىّ المذكورين. فركب الخليفة الظافر بعد العشاء الآخرة فى الشمع بالقصر، ووقف على باب الملك بالإيوان المجاور للشباك، وأحضر ابنى الأنصارىّ واستدعى متولّى؟؟؟

(5/294)


السّتر، وهو صاحب العذاب، وأحضرت آلات العقوبة، فضرب الأكبر بحضوره بالسّياط إلى أن قارب الهلاك، وثنىّ بأخيه كذلك؛ وامر بإخراجهما وقطع أيديهما وسلّ ألسنتهما من قفيّهما، وصلبا على بابى زويلة الأوّل والثانى زمانا.
وأقام الظافر ابن مصال «1» المغربىّ وزيرا مدة شهرين. فخرج عليه ابن سلّار، وكان واليا على البحيرة والإسكندرية، ولم يرض بوزارة ابن مصال المذكور، وتابعه عباس وكان واليا على الغربية، وهو ولد زوجته. فلمّا بلغ الوزير ابن مصال ذلك، خرج إلى الصعيد لكونه لم يطق لقاء ابن سلّار ومن معه على غير موافقة من الخليفة الظافر. ودخل ابن سلّار إلى القاهرة وزيرا؛ فما طابت به نفس الخليفة الظافر بالله، فباشر الأمور مباشرة بجدّ. وأقام الظافر خليفة إلى أوائل سنة تسع وأربعين وخمسمائة، ولم يصف بين الخليفة والوزير عيش قطّ، وجرت بينهما أمور؛ وثبت عند ابن سلّار كراهة الخليفة فيه، فاحترز على نفسه منه، وأقام كذلك أربع سنين وبعض الخامسة، حتّى قتله نصر بن عبّاس اغتيالا فى داره. وذكر أنّ ذلك بموافقة الخليفة الظافر على ذلك؛ لأنّ هذا نصرا كان قد اختلط بالخليفة اختلاطا دائما أدّى إلى حسد أكثر أهل الدولة له على ذلك. وخشى عبّاس على نفسه من ولده نصر المذكور لما تمّ منه فى حقّ ابن سلّار؛ فرمى بينه وبين الخليفة بموهمات قبيحة، حتّى قتل نصر الخليفة أيضا. ودفنه فى داره التى بالسيوفيّين «2» ، وقتل أستاذين معه.
ولمّا عدم الخليفة استخلف ولده بعده، وهو أبو القاسم عيسى، ونعت بالفائز بنصر الله، وكان عمره يومئذ خمس سنين. أخرجه الوزير عبّاس من عند جدّته أمّ

(5/295)


أبيه الخليفة يوم قتل عمّيه يوسف وجبريل ابنى الحافظ- وهما مظلومان- بتهمة أنّهما قتلا أخاهما الخليفة الظافر حسدا على الرتبة لينالاها بعده. وليس الأمر كذلك، بل عبّاس الوزير وولده نصر قتلاه. فرآهما الخليفة هذا الصغير مقتولين، فتفزّع واضطرب وغشى عليه، ولازمه ذلك وكثر به.
قلت: وقول هذا عندى فى قتل الخليفة الظافر أثبت الأقاويل. وبكلامه أيضا يعرف جميع ما ذكرناه فى أمره من أقوال المؤرّخين؛ فانّه ساق أمره على جليّته من غير إدخال شىء معه.
وأمّا تفصيل أمر عبّاس الوزير وابنه نصر فإنّ عبّاسا كان رجلا من بنى تميم ملوك الغرب، ودخل عبّاس القاهرة فاجتمع بالخليفة، فأكرمه وأنعم عليه بأشياء ثم خلع عليه بالوزارة على العادة ولقبه؛ فباشر عبّاس الوزارة وخدم الأمور وأكرم الأمراء وأحسن إلى الأجناد لينسيهم العادل ابن سلّار. واستمرّ ابنه نصر على مخالطة الخليفة الظافر؛ حتّى اشتغل الظافر عن كلّ أحد بآبن عبّاس المذكور، وأبوه عبّاس يكره خلطته بالخليفة. وانتهى الخليفة معه إلى أن يخرج من قصره لزيارة ابن عبّاس بداره التى بالسيوفيين، بحيث لا يعلم عبّاس بذلك. فلمّا علم استوحش من الخليفة لجرأة ابنه، وتوهّم أنّه ربما يحمله الخليفة على قتله. فقال عباس لابنه سرّا: قد أكثرت من ملازمة الخليفة حتى تحدّث الناس فى حقّك معه بما أزعج باطنى، وربّما يتناقل الناس ذلك ويصل إلى أعدائنا منه ما لا يزول، ففهم ابنه نصر عنه وأخذته حدّة الشباب؛ فقال نصر لأبيه: أيرضيك قتله؟ فقال أزل التهمة عنك كيف شئت. فخرج الخليفة ليلة إلى نصر بن عبّاس على عادته، فقتله بالجماعة الذين قتل بهم الوزير ابن سلّار، وقتل أيضا أستاذين كانا مع الخليفة

(5/296)


الظافر، وطمرهم فى بئر هناك. وأصبح عبّاس فبايع عيسى بن الظافر، ولقّبه الفائز، على ما يأتى ذكره فى أوّل ترجمة الفائز.
ولما تمّ لعبّاس ما قصده من قتل الخليفة وتولية ولده الخلافة، كثرت الأقاويل ووقع الناس على الخبر الصحيح بالحدس، فاستوحش الناس قتل هؤلاء الأئمة.
وكان طلائع بن رزّيك واليا على الأشمونين «1» والبهنسا «2» ؛ فتحرّك حاشدا على عبّاس، ولبس السواد وحمل شعور النساء حرم الخليفة على الرماح. فتخلخل أمر عبّاس وتفرّق الناس عنه، وصار الناس تسمبه المكروه فى الطّرقات من كلّ فجّ، حتى إنّه رمى من طاق ببعض الشوارع وهو جائز بهاون نحاس، وفى يوم آخر بقدر مملوءة ماء حارّا؛ فقال عبّاس: ما بقى بعد هذا شىء. فصار يدبّر كيف يخرج وأين يسلك. فأشار عليه بعض أصحابه بتحريق القاهرة قبل خروجه منها فلم يفعل، وقال: يكفى ما جرى. فلمّا قرب طلائع بن رزيك إلى القاهرة خرج عبّاس وابنه ومعهما كلّ ما يملكانه طالبّا للشرق. فحال الفرنج بينه وبين طريقه، فقاتل حتّى قتل وأسر ولده نصر، وفاز الفرنج بما كان معه، وذلك فى شهر ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وأمّا ولده نصر فنذكر أمره وقتله فى أوّل ترجمة الفائز بأوسع من هذا إن شاء الله تعالى.
وكانت قتلة الخليفة الظافر هذا فى سلخ المحرّم سنة تسع «3» وأربعين وخمسمائة على قول من رحّج ذلك، وله اثنتان وعشرون سنة؛ وكانت خلافته أربع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام. وتولّى الخلافة بعده ولده الفائز عيسى.
ونذكر إن شاء الله أمر قتله أيضا فى ترجمة الفائز بأوسع من هذا هناك.

(5/297)