النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 545]
السنة الأولى من ولاية الظافر بأمر الله أبى منصور إسماعيل على مصر وهى سنة خمس وأربعين وخمسمائة.
فيها مطرت اليمن مطرا دما، وبقى أثره فى الأرض وفى ثياب الناس.
وفيها فى المحرّم نزل الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى صاحب الشام على دمشق وحاصرها؛ فراسله صاحبها مجير «1» الدين، وخرج إليه هو والرئيس «2» ابن الصوفىّ وبذلا له الطاعة وأن يخطب له مجير الدين بعد الخليفة والسلطان، وأن ينقش اسمه على الدينار والدرهم؛ فرضى نور الدين وخلع عليه ورحل عنه. وعاد وافتتح قلعة اعزاز.
وفيها اختلف وزير مصر ابن مصال المغربى والعادل ابن سلّار وجمعا العساكر واقتتلا، فقتل الوزير ابن مصال، واستقلّ ابن سلّار بالوزر والملك. وقد ذكرنا نحو ذلك فى ترجمة الظافر هذا.
وفيها توفّى أبو المفاخر الحسن بن ذى «3» النون الواعظ [بن أبى القاسم] . كان فاضلا صالحا إماما فقيها حنفىّ المذهب، كان يعيد الدرس خمسين مرّة. ومن شعره:
[البسيط]
مات الكرام ومرّوا وانقضوا ومضوا ... ومات بعدهم تلك الكرامات
وخلّفونى فى قوم ذوى سفه ... لو أبصروا طيف ضيف فى الكرى ماتوا

(5/298)


وفيها توفّى الأمير أبو الحسن علىّ بن دبيس صاحب الحلّة. كان شجاعا جوادا إلّا أنّه كان على عادة أهل الحلّة رافضيّا خبيثا.
وفيها توفّى قتيلا الوزير علىّ «1» بن سلّار وزير الظافر صاحب الترجمة بديار مصر.
كان يلقّب بالملك العادل. وتولّى الوزر بعده عبّاس أبو نصر الذي قتل الظافر، حسب ما ذكرنا ذلك كلّه مفصّلا.
وفيها ملكت الفرنج عسقلان «2» بالأمان بعد أن قتل من الفريقين خلق كثير، وكان قد تمادى القتال بينهم فى كلّ سنة إلى أن سلّموها. وأخذ الفرنج جميع ما كان فيها من الذخائر وغيرها.
وفيها توفّى أحمد بن منير بن أحمد «3» الأديب أبو الحسين الطرابلسىّ الشاعر المشهور المعروف بالرّفاء. ولد سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة بطرابلس. وكان بارعا فى اللغة والعربيّة والأدب إلّا أنّه خبيث اللّسان كثير الفحش. حبسه الملك تاج الملوك بورى صاحب دمشق، وعزم على قطع لسانه؛ فاستوهبه منه الحاجب يوسف بن فيروز فوهبه له فنفاه. وكان هجا خلائق كثيرة، وكان بينه وبين ابن القيسرانى مهاجاة، وكان رافضيّا. وكانت وفاته بحلب فى جمادى الآخرة.
ومن شعره:
[الطويل]
جنى وتجنّى والفؤاد يطيعه ... فلا ذاق من يجنى عليه كما يجنى
فإن لم يكن عندى كعينى ومسمعى ... فلا نظرت عينى ولا سمعت أذنى

(5/299)


وفيها توفّى الأمير تمرتاش «1» بن نجم الدين إيلغازى الأرتقىّ صاحب ماردين وديار بكر.
كان شجاعا جوادا عادلا محبّا للعلماء والفضلاء يبحث معهم فى فنون العلوم. وكان لا يرى القتل ولا الحبس. ومات فى ذى القعدة، وكانت مدّته نيّفا وثلاثين سنة.
وقام بعده ابنه.
وفيها توفّى حيدره «2» بن الصوفىّ الذي كان أقامه مجير الدين صاحب دمشق مقام أخيه، ثم وقع منه سعى بالفساد، فاستدعاه مجير الدين إلى القلعة على حين غفلة فضرب عنقه لسوء سيرته وقبح أفعاله.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو بكر محمد بن أبى حامد بن عبد العزيز بن على الدّينورىّ البيّع ببغداد. والمبارك بن أحمد ابن بركة الكندىّ الحبّار «3» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وأربع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 546]
السنة الثانية من ولاية الظافر على مصر وهى سنة ست وأربعين وخمسمائة.
فيها دخل السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقىّ إلى بغداد، وخرج الوزير ابن هبيرة «4» وأرباب الدولة إلى لقائه فأكرمهم.

(5/300)


وفيها عاد الملك العادل نور الدين محمود إلى حصار دمشق، ووقع له مع مجير الدين صاحب دمشق أمور حتّى استنجد مجير الدين بالفرنج، فرحل عنها نور الدين؛ ثم نازلها وتراسلا على يد الفقيه «1» برهان الدين البلخىّ وأسد الدين شيركوه «2» الكردىّ وأخيه نجم الدين أيوب، ثم تحالف نور الدين مع مجير الدين على أمر ورحل عنه.
وفيها توفّى الأمير علىّ بن مرشد [بن علىّ «3» ] بن المقلّد بن نصر بن منقذ عزّ الدين.
ولد بشيزر. وكان فاضلا أديبا حسن الخط، مات بعسقلان شهيدا. وكان أكبر إخوته وبعده أسامة. ومن شعره:
[الكامل]
قد قلت للمنثور إنّ الورد قد ... وافى على الأزهار وهو أمير
فافترّ ثغر الأقحوان مسرّة ... لقدومه وتلوّن المنثور
وفيها توفّى الفامىّ «4» الحافظ أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الجبّار الهروىّ العجمىّ.
كان إماما عالما فاضلا، رحل وسمع الحديث وتفقّه وبرع فى علوم شتّى. مات فى هذه السنة فى قول الذهبىّ.
وفيها توفّى الأمير نوشتكين «5» بن عبد الله الرّضوانىّ السلجوقىّ ببغداد. كان أميرا معظّما فى الدول وله مواقف ووقائع.

(5/301)


وفيها توفّى القاضى أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربىّ الأندلسىّ المالكىّ.
كان إمام وقته مفتنّا فى علوم كثيرة، وولى القضاء مدّة طويلة، وكان مشكور السّيرة عدلا فى حكمه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو نصر عبد الرحمن ابن عبد الجبّار الهروىّ الفامىّ الحافظ. والقاضى أبو بكر محمد بن عبد الله الأندلسىّ.
والأمير نوشتكين الرّضوانىّ ببغداد. وأبو الوليد يوسف بن عبد العزيز بن الدّبّاغ «1» اللّخمىّ الأندلسىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 547]
السنة الثالثة من ولاية الظافر أبى منصور على مصر وهى سنة سبع وأربعين وخمسمائة.
فيها توفّى محمد بن نصر أبو «2» عبد الله العكّاوىّ ويقال له ابن صغير القيسرانىّ الشاعر المشهور. ولد بعكّا ونشأ بقيساريّة الساحل، ثم انتقل إلى حلب وإلى دمشق. فبلغ تاج الملوك بورى بن طغتكين أنّه هجاه فتنكّر له، فهرب إلى حلب ومدح نور الدين محمود بن زنكى صاحبها. وله ديوان شعر مشهور، ومات بدمشق.
ومن شعره فى مغنّ وأجاد إلى الغاية:
[البسيط]
والله لو أنصف الفتيان أنفسهم ... أعطوك ما ادّخروا منها وما صانوا
ما أنت حين تغنّى فى مجالسهم ... إلا نسيم الصّبا والقوم أغصان

(5/302)


وفيها توفّى السلطان مسعود ابن السلطان محمد شاه ابن السلطان ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السلجوقىّ.
كان ملكا جليلا شجاعا طالت أيامه. قال أبو المظفّر: لم ير أحد ما رأى من الملوك والسلاطين حتّى مرض على همذان بأمراض حارّة، وعسرت مداواته. ومات فى سلخ جمادى الآخرة. وأقيم بعده فى الملك ابن أخيه ملكشاه بن محمود بن محمد شاه ابن ملكشاه، فأقام ملكشاه المذكور خمسة أشهر ثمّ وقع له أمور وخلع. قلت:
يكون ملكشاه هذا ثانى ملك من بنى سلجوق سمّى بملكشاه.
وفيها توفّى الشيخ الإمام الواعظ المظفّر بن أردشير أبو منصور العبّادىّ «1» الواعظ.
سمع الحديث الكثير، وقدم بغداد ووعظ بجامع القصر والنّظاميّة، وحصل له قبول زائد. وكان فصيحا بليغا. وترسّل بين الخليفة والملوك، وعظم أمره.
وفيها توفّى القاضى أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموىّ الشافعىّ.
كان إماما عالما فقيها مفتنّا فى عدّة فنون، وولى القضاء زمانا، وحمدت سيرته.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو عبد الله محمد ابن الحسن بن محمد بن سعيد الدّانىّ، المقرئ ابن غلام الفرس «2» . وأبو الفضل محمد ابن عمر بن يوسف الأرموىّ القاضى الشافعىّ. وأبو نصر محمد بن منصور ابن عبد الرحيم النّيسابورىّ الحرضىّ فى شوّال، وله تسعون سنة. والسلطان مسعود ابن محمد بن ملكشاه السلجوقىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.

(5/303)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 548]
السنة الرابعة من ولاية الظافر أبى منصور على مصر وهى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
فيها انحل أمر بنى سلجوق باستيلاء الترك على السلطان سنجرشاه السلجوقىّ.
وسببه أنّه لمّا التقى مع خاقان ملك الترك وخوارزم شاه قبل تاريخه، وانهزم منهم تلك الهزيمة القبيحة التى قتل فيها خلائق من العلماء والفقهاء وغيرهم، وعاد خاقان إلى بلاده، ثم صالح سنجرشاه خوارزم شاه، وبقى «1» فى قلب سنجر شاه ما جرى عليه.
فلمّا حسن أمره تجهّز للقاء الترك ثانيا بعد أمور صدرت بينهم، والتقى معهم فانكسر ثانيا؛ واستولوا عليه وجعلوه فى قفص خديد؛ فبقى فيه مدّة وهو يخدم نفسه وليس معه أحد. واقتصّ الله منه للخليفة المسترشد وابنه الراشد ما كان فعله معهما حسب ما تقدّم ذكره. وامتحن بأشياء إلى أن مات، على ما يأتى ذكره إن شاء الله.
وفيها توفّى القاضى محفوظ «2» بن أبى محمد الحسن بن صصرى أبو البركات، ويعرف بالقاضى الكبير. كان إماما عالما مشهورا بالخير والعفاف. ومات بدمشق فى ذى الحجّة وقد بلغ ثمانين سنة.
وفيها توفّى الشيخ الزاهد المسلّك أبو العبّاس أحمد بن أبى غالب بن الطّلاية الصوفىّ العارف فى شهر رمضان.

(5/304)


وفيها توفّى الحافظ أبو الفرج عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر اليوسفىّ.
كان إماما حافظا محدّثا، سمع الكثير ورحل وكتب وصنّف. ومات فى المحرّم وله أربع وثمانون سنة.
وفيها توفّى الأفضل أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشّهرستانىّ الإمام العالم المتكلّم. كان إمام عصره فى علم الكلام عالما بفنون كثيرة من العلوم، وبه تخرّج جماعة كثيرة من العلماء.
وفيها توفّى شيخ الصوفيّة فى زمانه أبو الفتح محمد بن عبد الرحمن بن محمد المروزىّ الكشميهنىّ. كان إماما مسلّكا عارفا بطريق القوم، إمام عصره فى علم التصوّف وغيره، وللناس فيه محبّة واعتقاد حسن.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو سعد محيىّ الدين محمد بن يحيى النّيسابورىّ الشافعىّ تلميذ أبى حامد الغزالىّ فى شهر رمضان حين استباحت الترك نيسابور. وكان فقيها إماما عالما مصنّفا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ أصابع.

(5/305)


ذكر ولاية الفائز بنصر الله على مصر
هو أبو القاسم عيسى ابن الخليفة الظافر بأمر الله أبى منصور إسماعيل ابن الخليفة الحافظ أبى الميمون عبد المجيد بن محمد- ومحمد هذا ليس بخليفة- ابن الخليفة المستنصر بالله معدّ ابن الخليفة الظاهر «1» لإعزاز دين الله على ابن الخليفة الحاكم بأمر الله منصور ابن الخليفة العزيز بالله نزار ابن الخليفة المعزّ لدين الله معدّ أول خلفاء مصر ابن الخليفة المنصور إسماعيل ابن الخليفة القائم بأمر الله محمد ابن الخليفة المهدىّ عبيد الله، العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ الأصل المصرىّ العاشر من خلفاء مصر من بنى عبيد والثالث عشر من أصلهم المهدىّ أحد خلفاء بنى عبيد بالمغرب.
وأمّ الفائز هذا أمّ ولد يقال لها زين الكمال.
قال أبو المظفّر بن قزأوغلى فى تاريخه مرآة الزمان: «مولده فى المحرّم سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وتوفّى وهو ابن إحدى عشرة سنة وشهور» . وزاد ابن خلّكان بأن قال: لتسع بقين من المحرّم «2» . قال: وكانت أيّامه ستّ سنين وستة أشهر وسبعة عشر يوما. وبين وفاته ووفاة المقتفى (يعنى خليفة بغداد العبّاسىّ) أربعة أشهر وأيّام. قلت: وقوله «وبين وفاته ووفاة المقتفى أربعة أشهر وأيام» لا يعرف بذلك من السابق منهما بالوفاة. وأنا أقول: أمّا السابق فهو الخليفة المقتفى الآتى ذكره، إن شاء الله؛ فإنّ وفاة المقتفى فى شهر ربيع الأوّل، ووفاة الفائز هذا صاحب الترجمة فى شهر رجب.

(5/306)


قال صاحب المرآة: «وقام بعده أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ.
ولم يكن أبوه خليفة، وأمّه (يعنى عبد الله) أمّ ولد تدعى ستّ المنى، ولقّب بالعاضد» .
انتهى كلام صاحب المرآة.
وقال صاحب كتاب المقلتين فى أخبار الدولتين: «ولمّا أصبح الوزير عبّاس (يعنى صبيحة قتل الخليفة الظافر بأمر الله) ركب إلى القصر ودخل إلى مقطع الوزارة من غير استدعاء، فأطال جلوسه ولم يجلس الخليفة له، فاستدعى عبّاس زمام القصر، وقال له: إن كان لمولانا ما يشغله عنّا فى هذا اليوم عدنا إليه فى الغد. فمضى الأستاذ وهو حائر فيما يعمل وقد فقد الخليفة. فدخل إلى أخوى الخليفة يوسف وجبريل، وهما رجلان أحدهما مكتهل، فأخبرهما بالقصّة؛ وما كان عندهما من خروج أخيهما البارحة إلى دار نصر بن عبّاس خبر ولا اطّلعا عليه إلّا فى تلك الساعة؛ فما شكّا فى قتل أخيهما الخليفة الظافر، وقالا للزّمام: إن اعتذرت اليوم هل يتمّ لك هذا مع الزمان؟ فقال الزّمام: ما تأمرانى به؟ قالا: تصدقه وتحقّقه. وكان للخليفة ولد عمره خمس سنين اسمه عيسى. فعاد الزّمام إلى عبّاس وقال له: ثمّ سرّ أقوله إليك بحضور الأمراء والأستاذين. فقال عبّاس: ما ثمّ إلّا الجهر. قال: إنّ الخليفة خرج البارحة لزيارة ولدك نصر فلم يعد بغير العادة. فقال عبّاس: تكذب يا عبد السوء! إنّما أنت مبايع أخويه يوسف وجبريل اللذين حسداه على الخلافة فاغتالاه، واتفقتم على هذا القول. فقال الزّمام: معاذ الله! قال عبّاس: فأين هما؟ فخرجا إليه ومعهما ابن أخ لهما اسمه صالح بن حسن الذي قتل والده الخليفة الحافظ بالسمّ.
وقد تقدّم ذكر قتله فى ترجمة أبيه الحافظ عبد المجيد.
قال: فلمّا حضروا قال لهم عبّاس الوزير: أين الخليفة؟ فقالوا: حيث يعلم ابنك ناصر الدين. قال لا. قالوا: بلى! وهذا بهتان منك، لأنّ بيعة أخينا

(5/307)


فى أعناقنا، وهؤلاء الأمراء الحاضرون يعلمون ذلك، وإنّا فى طاعته بوصيّة والدنا، وأقاما الحجّة عليه. فكذّبهما وأمر غلمانه بقتل الثلاثة فى دارهم. ثم قال للزّمام:
أين ابن مولانا؟ قال حاضر. فقال عبّاس: قدّامى إلى مكانه. فدخل الوزير عبّاس بنفسه إليه، وكان عند جدّته لأمّه، فحمله على كتفه وأخرجه للنّاس قبل رفع المقتولين، وبايع له بالخلافة، ولقّبه بالفائز بنصر الله. فرأى الصبىّ القتلى فتفزّع واضطرب ودام مدّة خلافته لا يطيب له عيش من تلك الرجفة. وتم أمر الفائز فى الخلافة، ووزر له عبّاس المذكور، إلى أن وقع له مع طلائع بن رزّيك ما سنذكره من أقوال جماعة من المؤرّخين. وقد ذكرنا منه أيضا نبذة جيّدة فيما مضى، ولكن اختلاف النقول فيها فوائد.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ فى تاريخ الإسلام- بعد أن ساق نسب الفائز هذا حتّى قال-: «بويع: بالقاهرة حين قتل والده الظافر وله خمس سنين، وقيل: بل سنتان، فحمله الوزير عبّاس على كتفه ووقف فى صحن الدار به مظهر الحزن والكآبة، وأمر أن يدخل الأمراء فدخلوا؛ فقال لهم: هذا ولد مولاكم، وقد قتل عمّاه مولاكم، وقد قتلتهما كما ترون به، وأشار إلى القتلى، والواجب إخلاص الطاعة لهذا الولد الطفل. فقالوا كلّهم: سمعنا وأطعنا، وضجّوا ضجّة واحدة بذلك. ففزع الطفل (يعنى الفائز) ، ومال على كتف عبّاس من الفزع. وسمّوه الفائز، ثم سيّروه إلى أمّه وقد اختلّ عقله من تلك الضجّة فيما قيل، فصار يتحرّك فى بعض الأوقات ويصرع- قلت: على كلّ قول كان الفائز قد اختلّ عقله-. قال:
«ولم يبق على يد عبّاس الوزير يد ودانت له الممالك. وأمّا أهل القصر فإنّهم اطّلعوا على باطن القصّة فأخذوا فى إعمال الحيلة فى قتل عبّاس وابنه، فكاتبوا طلائع بن

(5/308)


رزّيك الأرمنىّ والى منية «1» بنى خصيب. ثم ساق الذهبىّ قصّة طلائع مع الوزير عبّاس.
وقال ابن الأثير: «اتّفق أنّ أسامة «2» بن منقذ قدم مصر، فاتّصل بعبّاس الوزير وحسّن له قتل زوج أمّه العادل بن سلّار فقتله، وولّاه الظافر الوزارة من بعده؛ فاستبدّ بالأمر وتمّ له ذلك. وعلم الأمراء [والأجناد «3» ] أنّ ذلك من فعل ابن منقذ فعزموا على قتله. فخلا بعبّاس وقال له: كيف تصبر على ما أسمع من قبيح قول الناس إنّ الظافر يفعل بابنك نصر- وكان من أجمل الناس، وكان ملازما للظافر- فانزعج لذلك وقال: كيف الحيلة؟ قال: اقتله فيذهب عنك العار. فاتّفق مع ابنه على قتله.
وقيل: إنّ الظافر أقطع نصر بن عبّاس [قرية «4» ] قليوب «5» كلّها فدخل وقال: أقطعنى مولانا قليوب. فقال ابن منقذ: ما هى فى مهرك بكثير!» .

(5/309)


فجرى ما ذكرناه، وهربوا وقصدوا الشام على ناحية أيلة «1» فى شهر ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين. وملك الصالح طلائع بن رزّيك ديار مصر من غير قتال؛ وأتى إلى دار عبّاس المعروفة بدار الوزير المأمون بن البطائحىّ التى هى اليوم المدرسة «2» السّيوفيّة الحنفيّة؛ فاستحضر الخادم الصغير الذي كان مع الظافر لمّا نزل سرّا، وسأله عن الموضع الذي دفن فيه فعرّفه به. فقلع البلاطة التى كانت على الظافر ومن معه من المقتولين، وحملوا وقطّعت عليهم الشعور وناحوا عليهم بمصر، ومشى الأمراء قدّام الجنازة إلى تربة آبائه. فتكفّل الصالح طلائع بن رزّيك بالصغير (يعنى الفائز هذا) ودبّر أحواله.
وأمّا عبّاس ومن معه فإنّ أخت الظافر كاتبت الفرنج الذين بعسقلان الذين استولوا عليها من مديدة يسيرة، وشرطت لهم مالا جزيلا إذا خرجوا عليه وأخذوه، فخرجوا عليه فواقعهم فقتل عباس وأخذت الفرنج أمواله وهرب ابن منقذ فى طائفة إلى الشام؛ وأرسلت الفرنج نصر بن عبّاس إلى مصر فى قفص حديد.
فلما وصل سلّم رسولهم المال وذلك فى [شهر] ربيع الأوّل سنة خمسين وخمسمائة، ثم خلعت «3» أخت الظافريد نصر وضرب ضربا مهلكا، وقرض جسمه بالمقاريض، ثم صلب على باب زويلة حيّا ثم مات، وبقى مصلوبا إلى يوم عاشوراء سنة إحدى وخمسين، ثم أنزل وأحرقت عظامه. وقيل: إنّ الصالح طلائع بن رزّيك بعث إلى الفرنج بطلب نصر بن عبّاس وبذل إليهم أموالا. فلمّا وصل سلّمه الملك الصالح

(5/310)


إلى نساء الظافر فأقمن يضربنه بالقباقيب والزّرابيل «1» أياما، وقطّعن لحمه وأطعمنه إيّاه، إلى أن مات ثم صلب.
وتكفّل الصالح طلائع بن رزّيك أمر الصبىّ (أعنى الفائز) وساس الأمور وتلقّب بالملك الصالح، وسار فى الناس أحسن سيرة. وفخم أمره وكان طلائع أديبا كاتبا. ولمّا ولى الوزر وتلقّب بالملك الصالح خلع عليه مثل الأفضل ابن أمير الجيوش بدر الجمالىّ من الطيلسان المقوّر، وأنشئ له السّجلّ؛ فتناهى فيه كتّاب الإنشاء. فمما قيل فيه:
«واختصّك أمير المؤمنين بطيلسان غدا للسيف توءما، ليكون كلّ ما أسند إليك من أمور الدولة معلما. ولم يسمع بذلك إلّا ما أكرم به الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين أمير الجيوش أبا النجم بدرا وولده أبا القاسم شاهنشاه، وأنت أيّها السيد الأجلّ الملك الصالح. وأين سعيهما من سعيك، ورعيهما الذّمام من رعيك؛ لأنّك كشفت الغمّة، وانتصرت للأئمة، وبيّضت غياهب الظلمة، وشفيت قلوب الأمة» .
وأشياء غير ذلك. وعظم أمر الصالح طلائع إلى أن وقع له ما سنذكره. كلّ ذلك والفائز ليس له من الخلافة إلّا مجرّد الاسم فقط، وذلك لصغر سنّه.
ولمّا استفحل أمر الصالح طلائع أخذ فى جمع المال، فإنّه كان شرها حريصا على التحصيل. وكان مائلا إلى مذهب الإماميّة «2» (أعنى أنّه كان متغاليا فى الرّفض) فمال على المستخدمين فى الأموال، وأخذ يعمل على الأمراء المقدّمين فى الدولة، مثل ناصر «3» الدولة ياقوت، وكان صاحب الباب، وناب عن الحافظ فى مرضة مرضها

(5/311)


مدّة ثلاثة أشهر؛ وطلب أن يوزّره فأبى ياقوت المذكور. ومثل الأوحد بن تميم، فإنّه كان من أعيان الأمراء. ولمّا سمع بقصّة عبّاس من قتله الظافر، وكان واليا على دمياط «1» وتنّيس «2» ، تحرّك لطلب دم الظافر وقصد القاهرة، فسبقه طلائع بن رزيك بيوم واحد، فخاب قصده؛ فردّه طلائع بن رزّيك إلى ولايته، وأضاف إليه الدّقهليّة «3» والمرتاحيّة. وبقى تاج الملوك قايماز بالقاهرة، وهو من كبار الأمراء، وابن غالب لاحق به؛ فحمل الأجناد عليهما يطلبونهما، فخرجا فى جماعتهما، فتكاثر عليهما الأجناد فقتلا ونهبت دورهما بأطماع الصالح طلائع بن رزيك فى ذلك.

(5/312)


ثم إنّ طلائع ما اتّسع له قرب الأوحد بن تميم بدمياط، فقلّده أسيوط «1» وإخميم «2» .
وكان ناصر الدولة بقوص من وزارة عباس؛ وكان ابن رزّيك لمّا استدعى لأخذ الثأر وهو بالأشمونين لم يجسر على الحركة إلّا بعد مكاتبة ناصر الدولة بذلك، واستدعاه ابن رزّيك ليكون الأمر له. فكاتبه ناصر الدولة بإزهاده فى ذلك، وأنّه سئل به وتركه فى أيام الحافظ عن قدرة، واعتقد أنّه لا يفلح لأنّه لم يتحقق ما كان من عبّاس.
فعند ذلك خلت القاهرة لطلائع بن رزّيك من مماثل. وأظهر مذهب الإماميّة، وباع الولايات للأمراء، وجعل لها أسعارا، ومدّتها ستة أشهر؛ فتضرّر الناس من تردّد الولاة عليهم فى كلّ ستة أشهر. وصايق الفصر طمعا فى صغر سنّ الخليفة، فتعب الناس معه. وجعل له مجلسا فى أكثر الليالى يحضره أهل الأدب، ونظم هو شعرا ودوّنه، وصار الناس يهرعون إلى نقل شعره؛ وربّما أصلحه له شاعر كان يصحبه يقال له ابن الزّبير «3» . وممّا نسب إليه من الشعر.

(5/313)


قوله
[الكامل]
كم ذا يرينا الدهر من أحداثه ... عبرا وفينا الصّدّ والإعراض
ننسى الممات وليس نجرى ذكره ... فينا فتذكرنا به الأمراض
وله من قصيدة:
[الوافر]
مشيبك قد رمى «1» صبغ الشباب ... وحلّ الباز فى وكر الغراب
ومنها:
فكيف بقاء عمرك وهو كنز ... وقد أنفقت منه بلا حساب
فلمّا ثقلت وطأته على القصر، وكان الخليفة الفائز فى تدبير عمته، شرعت «2» فى قتل طلائع بن رزّيك المذكور، وفرّقت فى ذلك مالا يقرب من خمسين ألف دينار. فعلم ابن رزّيك بذلك، فأوقع بها وقتلها بالأستاذين والصقالبة سرّا، والخليفة فى واد آخر من الاضطراب. ثم نقل ابن رزّيك كفالة الفائز إلى عمّته الصغرى، وطيّب قلبها وراسلها. فما حماه ذلك منها بل رتّبت قتله. وسعى لها فى ذلك أصحاب أختها المقتولة؛ فرتّبت قوما من السودان الأقوياء فى باب السّرداب فى الدّهليز المظلم الذي يدخل منه إلى القاعة، وقوم أخر فى خزانة هناك وفيهم واحد من الأجناد يقال له ابن الراعى «3» . فدخل يوم خمسة من شهر رمضان سنة ستّ وخمسين وخمسمائة؛ فلمّا انفصل من السلام على الخليفة، وكان صاحب الباب فى ذلك اليوم أميرا يقال له ابن قوّام الدولة، وكان إماميّا، فيقال: إنّه أخلى الدّهليز من الناس حتّى لم يبق فيه أحد، وإنّه استوقفه أستاذ يقال له عنبر الربعىّ بحديث طويل.
وتقدّم طلائع بن رزّيك ومعه ولده رزّيك، فأرادت الجماعة المخبّأة أن تخرج،

(5/314)


فوجدوا الباب مغلقا، وخافوا من خلعه التشغيب «1» ؛ فخرجت عليه الجماعة الأخرى فضربوا رزّيك بن الصالح طلائع ضربة أوقعت عضده الأيمن، وجرح أبوه الصالح طلائع بن رزّيك من ابن الراعى المذكور. وقيل: إنّ طلائع كان متخوما فاستفرغ بالدّم، فأكبّ على وجهه وأخذ «2» منديله من على رأسه؛ فعاد إليه رجل يقال له ابن «3» الزّبد، فألبسه المنديل، وخرج به محمولا على الدّابة لا يفيق. فقيل: إنّه كان يقول إذا أفاق: رحمك الله يا عبّاس (يعنى بذلك عبّاسا الوزير الذي قتل الخليفة الظافر) .
وكان الفائز قد مات، وتولّى الخلافة العاضد، وهو أيضا تحت حجر طلائع المذكور. فمات طلائع سحرا. وكان طلائع قد ولّى شاور «4» قوص «5» وندم على ولايته، فأراد استعادته من الطريق؛ فسبقه شاور حتّى حصل بها، وطلب منه كلّ شهر أربعمائة دينار، وقال: لا بدّ لقوص من وال، وأنا ذلك؛ والله لا أدخل القاهرة، ومتى صرفنى دخلت النّوبة. ولمّا مات الصالح طلائع بن رزّيك وطاب ولده رزّيك، طلبت عمّة الفائز رزّيك، وأحضرت له الذي ضربه فى عضده الأيمن، وأحضرت أيضا سيف الدين حسين ابن أخى طلائع، وحلفت لهما أنّها لم تدر بما جرى على أبيه الصالح، وأنّ فاعل ذلك أصحاب أختها المقتولة؛ وخلعت على رزّيك بالوزارة عوضا عن أبيه طلائع بن رزّيك، وفسحت له فى أخذ من ارتاب به فى قتل أبيه.
فأخذ ابن قوّام الدولة فقتله وولده، والأستاذ الذي شغله. وأقام رزّيك المذكور

(5/315)


فى الوزارة سنة وكسرا، فما رأى الناس أحسن من أيامه، وسامح الناس بما عليهم من الأموال البواقى الثابتة فى الدواوين، ولم يسبق إلى ذلك. ودام فى الوزارة حتى قيل: اصرف شاور من قوص يتمّ الأمر لك. فأشار عليه سيف الدين حسين بإبقائه؛ فقال رزّيك: مالى طمع فيما آخذه منه، ولكن أريده يطأ بساطى. فقيل له:
ما يدخل أبدا، فما قبل. وخلع على أمير يقال له ابن الرفعة بولاية قوص عوضا عن شاور؛ فخرج شاور من قوص فى جماعة قليلة إلى الواحات «1» .
وأما رزّيك الوزير فإنّه رأى مناما أخبر به ابن عمّه سيف «2» الدين حسين؛ فقال له حسين: إنّ بمصر رجلا يقال له ابن الإيتاخى حاذقا فى التعبير، فأحضره رزّيك وقال له: رأيت كأنّ القمر قد أحاط به حنش، وكأنّنى روّاس فى حانوت.
فغالطه المعبّر فى التفسير؛ وظهر ذلك لسيف الدين حسين، فأمسك إلى أن خرج المعبّر فقال له: ما أعجبنى كلامك، والله لا بدّ أن تصدقنى ولا بأس عليك. فقال:
يا مولاى، القمر عندنا هو الوزير، كما أنّ الشمس خليفة؛ والحنش المستدير عليه هو جيش مصحف؛ وكونه روّاسا اقلبها تجدها شاور مصحّفا أيضا. فقال له حسين: اكتم هذا عن الناس. واهتمّ حسين فى أمره، ووطّأ له التوجّه إلى مدينة النّبيّ عليه السّلام، وكان أحسن إلى المقيمين بها، وحمل إليها مالا وأودعه عند من يثق به. وصار أمر شاور يزداد ويقوى حتى قرب من القاهرة، وصاح

(5/316)


الصائح فى بنى رزيك وكانوا أكثر من ثلاثة آلاف فارس. فأوّل من نجا بنفسه حسين. فلمّا بلغ رزّيك توجّه حسين انقطع قلبه، وأخذ أمواله على البغال وخرج فى خاصّته إلى إطفيح «1» ، فأخذه مقدّم إطفيح بعد أمور وكلّ من معه، وأتى بهم إلى شاور فى الحديد؛ فاعتقله شاور وأخاه جلال الإسلام؛ فطلب رزّيك من بعض غلمان أبيه مبردا فبرد قيده؛ فعلم أخوه جلال الإسلام فأعلم شاور بذلك، فقتل شاور رزّيك وأبقى على أخيه جلال الإسلام لهذه النصيحة. واستمر شاور فى الوزر أشهرا حتى وقع له مع الضّرغام أحد أمراء بنى رزّيك ما وقع، واستنجد عليه بتوجّهه إلى دمشق إلى نور الدين محمود بن زنكى؛ فأرسل معه نور الدين أسد الدين شيركوه بن شادى «2» . وشاور هو صاحب القصّة مع أسد الدين شيركوه وابن أخيه السلطان صلاح الدين. يأتى ذكر ذلك فى ترجمة العاضد مفصّلا، إن شاء الله.
وكانت وفاة الفائز صاحب الترجمة فى شهر رجب سنة خمس وخمسين وهو ابن عشر سنين أو نحوها. وبايعوا العاضد لدين الله أبا محمد عبد الله بن يوسف

(5/317)


ابن الحافظ عبد المجيد بن محمد بن المستنصر ابن عم الفائز هذا. وأجلسه الملك الصالح طلائع بن رزّيك على سرير الخلافة. وأزوجه ابنته. ثم بعد ذلك استعمل طلائع شاور على بلاد الصعيد. وهو شاور البدرىّ الذي استولى على ديار مصر فى خلافة العاضد آخر خلفاء بنى عبيد، على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 549]
السنة التى حكم فى أوّلها الظافر وفى آخرها الفائز، وكلاهما ليس له فى الخلافة إلّا مجرّد الاسم فقط، وهى سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
فيها حنقت الترك على سنجرشاه السلجوقىّ وتركوه فى قيد من حديد فى خيمة، ووكّل به جماعة وأجروا عليه ما لا يجرى على الكفرة، وكاد يموت خوفا، وصار يبكى ليلا ونهارا على نفسه، ويتمّنى الموت.
وفيها ملك نور الدين محمود بن زنكى بن آق سنقر المعروف بالشهيد دمشق من الأمير مجير الدّين. وساعده فى ذلك بعض أهل دمشق على مجير «1» الدين المذكور لزيادة ظلمه ومصادراته الناس؛ فلمّا تحرك نور الدين لطلب دمشق وافقه أهلها لما فى نفوسهم من مجير الدين.
وفيها توفى المظفّر بن علىّ [بن «2» محمد بن محمد] بن جهير الوزير أبو نصر ابن الوزير فخر الدولة، وجدّه كان أيضا وزيرا. وهو من بيت وزارة وفضل، وزر للمقتفى سبع سنين، وعزل عن الوزارة فى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وكان الخليفة المقنفى نقله من الأستاداريّة إلى الوزر. وكانت وفاته فى ذى الحجة. وكان فاضلا نبيلا، سمع الحديث وحجّ وتصدّق.

(5/318)


وفيها توفى محمد بن أحمد بن إبراهيم العلّامة أبو بكر البغدادىّ الحنفىّ. كان فقيها عالما نحويّا. مات فى ذى القعدة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الظافر بالله إسماعيل ابن الحافظ العبيدىّ، اغتاله عبّاس فى المحرّم وله اثنتان وعشرون سنة، وأجلس مكانه ولده الفائز طفلا. وأبو البركات عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوىّ، مات جوعا فى ذى القعدة فى كائنة الغزّ. وأبو منصور عبد الخالق بن زاهر بن طاهر الشّحّامىّ، هلك فى شوّال بنيسابور. وأبو سعد محمد بن جامع الصّيرفىّ خيّاط الصوف، توفّى فى [شهر] ربيع الآخر. وأبو العشائر محمد بن خليل بن فارس القيسىّ بدمشق فى ذى الحجّة. والحافظ أبو المعمّر المبارك بن أحمد الأنصارى الأزجىّ «1» فى رمضان. والوزير أبو نصر المظفّر بن علىّ ابن الوزير فخر الدولة بن جهير، وزر للمقتفى سبع سنين، ومات فى ذى الحجة. وأبو المحاسن نصر بن المظفّر البرمكىّ بهمذان.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 550]
السنة الثانية من ولاية الفائز بنصر الله على مصر وهى سنة خمسين وخمسمائة.
فيها دخلت الترك «2» نيسابور بعد أن كان بينهم وبين أهلها قتال عظيم ونهبوا وسبوا وقتلوا بها نحوا من ثلاثين ألف نسمة، منهم محمد بن يحيى شيخ الشافعيّة،

(5/319)


وكان الملك سنجر شاه السلجوقىّ معهم فى الأسر، وعليه اسم السلطنة وهو مقيّد معتقل على أقبح وجه يخدم نفسه ويجلس وحده فى أضيق مكان.
وفيها توفّى محمد بن ناصر بن محمد بن علىّ بن عمر السّلامىّ «1» الدار الفارسىّ الأصل. سمع الحديث ورحل إلى البلاد، وكان حافظا متقنا عالما بالأسانيد والمتون، ضابطا ثقة من أهل السنّة. ومات فى شعبان. وأنشد لغيره:
[البسيط]
دع المقادير تجرى فى أعنّتها ... واصبر فليس لها صبر على حال
ما بين رقدة عين وانتباهتها ... يقلّب الدهر من حال إلى حال
وفيها توفّى هبة الله بن علىّ أبو محمد بن عرام، كان فاضلا شاعرا. ومن شعره فى ذمّ إنسان:
[البسيط]
جميع أقواله دعاوى ... وكلّ أفعاله مساوى
ما زال فى وقته «2» غريبا ... ليس له فى الورى مساوى
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن محمد بن أحمد بن إبراهيم أبو بكر القيسىّ المغربىّ المالكىّ، مات بفاس فى ذى القعدة. وكان فقيها أديبا مترسّلا شاعرا.
ومن شعره:
[الخفيف]
أطيب الطّيبات قتل الأعادى ... واختيالى على متون الجياد
ورسول يأتى بوعد حبيب ... وحبيب يأتى بلا ميعاد
قلت: وقد تغالى الناس فى رسول الحبيب وقالوا فيه أحسن الأقوال.
فمن ذلك قول بهاء الدين زهير فى أول قصيدة «3» :
[الطويل]
رسول الرضا أهلا وسهلا ومرحبا ... حديثك ما أحلاه عندى وأطيبا

(5/320)


وأحسن ما سمعت فى هذا المعنى قول صفىّ الدين الحلّىّ:
[الكامل]
من كنت أنت رسوله ... كان الجواب قبوله
هو طلعة الشمس الذي ... جاء الصباح دليله
وفى المعنى للسّراج «1» الورّاق:
[الكامل]
إن كانت العشّاق من أشواقهم ... جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا
فأنا الذي أتلو لهم: يا ليتنى ... كنت اتّخذت مع الرسول سبيلا
ومما يقارب هذا المعنى ما أنشدنى الحافظ شهاب الدّين بن حجر لنفسه إجازة إن لم يكن سماعا:
[الطويل]
أتى من أحبّائى رسول فقال لى ... ترفّق وهن واخضع تفز؟؟؟ برضانا
فكم عاشق قاسى الهوان بحبّنا ... فصار عزيزا حين ذاق هوانا
وقد خرجنا عن المقصود.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العباس أحمد ابن معدّ التّجيبىّ الأقليشىّ «2» . وأبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن العصائدىّ «3» النّيسابورىّ. وأبو القاسم سعيد بن أحمد بن الحسن «4» [بن عبد الله «5» ] بن أحمد بن البنّاء فى ذى الحجّة. وأبو الفتح محمد بن علىّ بن هبة الله بن عبد السلام الكاتب. والحافظ

(5/321)


أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علىّ السّلامىّ فى شعبان، وله ثلاث وثمانون سنة.
وأبو الكرم المبارك بن الحسن الشهرزورىّ المقرئ فى ذى الحجّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 551]
السنة الثالثة من ولاية الفائز بنصر الله على مصر وهى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
فيها خلع الخليفة المقتفى بالله على سليمان شاه بن محمد شاه بن ملكشاه السلجوقىّ بعد عمّه سنجرشاه خلعة السلطنة: التاج والطوق والسّوار والمركب الذهب، واستحلفه الخليفة أن يكون العراق للخليفة ولا يكون لسليمان شاه المذكور إلّا ما يفتحه بسيفه من غير العراق، وخطب له على منابر العراق بالسلطنة، وتمّ أمره إلى ما سيأتى ذكره.
وفيها خلص السلطان سنجر شاه من أسر الترك «1» بحيلة، وهرب إلى قلعة ترمذ «2» بعد أن أقام عندهم أربع سنين فى الذلّ والهوان حتى ضرب بحاله عندهم الأمثال.
وفيها توفّى عبد القاهر بن عبد الله بن الحسين أبو الفرج المعروف بالواوا الشاعر المشهور. كان أصله من بزاعة ونشأ بحلب (وبزاعة بضم الباء الموحدة وفتح الزاى وبعد الألف عين مهملة مفتوحة وهاء، وهى قرية من أعمال حلب) وتأدّب

(5/322)


بحلب وبرع فى الأدب وقول الشعر، وشرح ديوان المتنّبىّ. ومما ينسب إليه من الخمريات- وقيل هما لغيره- قوله:
[الوافر]
مجرّة جدول وسماء آس ... وأنجم نرجس وشموس ورد
ورعد مثلّث وسحاب كأس ... وبرق مدامة وضباب ندّ
قلت: ويعجبنى فى هذا المعنى قول يزيد بن معاوية:
[الكامل]
ومدامة حمراء فى قارورة ... زرقاء تحملها يد بيضاء
فالراح شمس والحباب كواكب ... والكفّ قطب والإناء سماء
وما أظرف قول ديك الجنّ عبد السلام بن رغبان:
[الوافر]
شربنا فى غروب الشمس شمسا ... لها وصف يجلّ عن الصفات
عجبت لعاصريها كيف ماتوا ... وقد صنعوا لنا ماء الحياة
ومما قيل فى هذا المعنى- دو بيت-:
يا ساقى خصّنى بما تهواه ... لا تمزج اقداحى رعاك الله
دعها صرفا فإنّنى أمزجها ... إذ أشربها بذكر من أهواه
وفيها توفّى علىّ بن الحسين الشيخ الإمام الواعظ أبو الحسن «1» الغزنوىّ الملقّب بالبرهان. قدم بغداد وسمع الحديث ووعظ، وكان فصيحا مفوّها. كان السلطان مسعود السّلجوقىّ يزوره. ولمّا أقام ببغداد أمرت الخاتون زوجة الخليفة المستظهر أن يبنى له رباط ووقفت عليه قرية اشترتها من الخليفة المسترشد. وانتفع الناس بجاهه وماله. وكان له أدب ونظم. فمن شعره قوله:
[السريع]
كم حسرة لى فى الحشا ... من ولد إذا نشا «2»
وكم أردت رشده ... فما نشا كما نشا

(5/323)


وله فى غير هذا المعنى وأجاد:
[السريع]
يحسدنى قومى على صنعتى ... لأنّنى فى صنعتى فارس
سهرت فى ليلى واستنعسوا ... هل يستوى الساهر والناعس
وفيها توفّى السلطان مسعود بن محمد ملك الروم «1» . وتولّى ممالك الروم بعده ابنه قليج «2» أرسلان بن مسعود.
وفيها توفّى الشيخ أبو العزّ بن أبى الدنيا القرشىّ الصوفىّ البصرىّ. كان أبوه محتسب البصرة، وكان شاعرا مجيدا (أعنى أباه «3» ) . ومن شعره:
[الرجز]
ما بال قلبى زائدا غرامه ... ودمع عينى هاطلا غمامه
وذلك الجمر الذي خلفتم ... على الحشا لا ينطفى ضرامه
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو القاسم إسماعيل ابن علىّ النيسابورىّ ثم الأصبهانىّ الحمّامىّ الصوفى فى صفر وقد شارف المائة.
وأبو القاسم الحسين بن الحسن بن البنّ الأسدىّ بدمشق فى ربيع الآخر. وأبو الحسن علىّ بن أحمد [بن الحسين بن أحمد «4» بن الحسين] بن محمويه اليزدىّ «5» الشافعىّ المصرىّ.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله «6» بن سلامة الكرخىّ فى شوّال. والشيخ أبو البيان [نبا «7» ] ابن محمد بن محفوظ القرشىّ بن الحورانىّ الدمشقىّ اللغوىّ الشافعىّ الزاهد القدوة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.

(5/324)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 552]
السنة الرابعة من ولاية الفائز بنصر الله على مصر وهى سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
فيها جمع الملك محمد شاه بن محمود شاه بن محمد شاه بن ملك شاه السّلجوقىّ التركمان والأكراد وسار حتّى قارب بغداد، وبعث إلى الخليفة المقتفى يطلب منه الخطبة والسلطنة، فقيل له: السلطان هو سنجر شاه بن ملكشاه عمّ أبيك، وأنتم مختلفون.
فلم يلتفت محمد شاه حتّى قدم بغداد وحصرها، ووقع له بها أمور؛ وطال الأمر بينهم إلى أن رحل منها إلى جهة همذان.
وفيها كانت زلازل عظيمة بالشأم وحلب وحماة وشيزر وغالب بلاد الشام والشرق، وهلك خلق كثير، حتّى حكى أن معلّما كان بحماة فى كتّاب، فقام من المكتب يقضى حاجة ثم عاد وقد وقع المكتب على الصبيان فماتوا بأسرهم. والعجب أنه لم يأت أحد يسأل عن صبىّ منهم بل جميع آبائهم ماتوا أيضا تحت الهدم فى دورهم. ووقعت أبراج قلعة حلب وغيرها، وهلك جميع من كان فى شيزر إلا امرأة واحدة وخادما. وساخت قلعة فامية، وانشقّ تلّ حرّان نصفين، وظهر فيه بيوت وعمائر قديمة. وانشقّ فى اللّاذقيّة موضع ظهر فيه صنم قائم فى الماء، وخربت صيداء وبيروت وطرابلس وعكّا وصور وجميع قلاع الفرنج. وعمل شعراء ذلك العصر فى هذه الزلزلة أشعارا كثيرة.
وفيها ملك الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى بن آق سنقر المعروف بالشهيد حصن شيزر، وزال ملك بنى منقذ عنها بعد أن ملكوها سنين كثيرة.

(5/325)


وفيها توفّى أحمد بن عمر «1» الشيخ الإمام العلّامة أبو اللّيث السّمرقندىّ الحنفىّ.
كان إماما فقيها حسن الهيئة كثير الصّمت غزير العلم واسع الحفظ. حجّ وعاد إلى بغداد، وصنّف التصانيف المفيدة النافعة، وتفقّه به جماعة كبيرة. ولمّا خرج من بغداد خرج الناس لوداعه، فلمّا ودّعهم أنشد:
[البسيط]
يا عالم الغيب والشّهادة ... إنّ «2» بتوحيدك الشهاده
أسأل فى غربتى وكربى ... منك وفاة على الشهاده
وخرج فى قافلة؛ فلما ساروا قطع قوم الطريق على القافلة المذكورة وقتلوا منهم جماعة كبيرة من العلماء، فيهم صاحب الترجمة، فقتل الجميع شهداء.
وفيها توفّى أحمد بن المبارك بن محمد بن عبد الله. ولد سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة. كان أديبا شاعرا فاضلا. ومن شعره:
[دو بيت]
ساروا وأقام فى فؤادى الكمد ... لم يلق كما لقيت منهم أحد
شوق وجوى ونار وجد تقد ... مالى جلد ضعفت مالى جلد
وفيها توفّى السلطان سنجر شاه ابن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق، السلطان أبو الحارث- وقيل:
اسمه أحمد. وسمّى بسنجر لأنّه ولد بسنجار فى شهر رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة حين توجّه أبوه إلى غزو الروم- ونشأ ببلاد الخوز «3» ، وسكن خراسان واستوطن مدينة مرو. وكان دخل بغداد مع أخيه محمد شاه على الخليفة المستظهر.
قال سنجر شاه: فلمّا وقفنا بين يدى الخليفة المذكور ظنّ أنى أنا السلطان، فافتتح

(5/326)


كلامه معى؛ فخدمت وقلت: يا مولانا أمير المؤمنين، السلطان هو أخى، وأشرت إلى أخى محمد شاه؛ ففوّض إليه السلطنة وجعلنى ولىّ عهده.
قلت: ولمّا مات محمد شاه خوطب سنجر شاه هذا بالسلطنة، وكان قبلها فى ملك ضخم نحوا من عشرين سنة، وخطب له على عامّة منابر الإسلام؛ وأسره الترك أربع سنين، حسب ما ذكرناه فى وقته. ثم خلص وكاد ملكه أن يرجع إليه، فأدركته المنيّة فمات فى يوم الاثنين رابع عشر شهر ربيع الأوّل. ودفن بمرو فى قبّة بناها بها. وكان روى الحديث وعنده فضيلة. وأصابه صمم فى آخر عمره. واستقرّ الملك بعده لابن أخيه «1» أبى القاسم محمود بن محمد شاه بن ملكشاه السّلجوقىّ.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى السلطان معزّ الدين أبو الحارث سنجر بن ملكشاه السّلجوقىّ فى [شهر] ربيع الأوّل، وبقى فى الملك نحوا من خمسين سنة. وأبو صابر عبد الصّبور بن عبد السلام الهروىّ. وأبو عمرو عثمان ابن علىّ البيكندىّ «2» الزاهد ببخارى. وأبو حفص عمر بن عبد الله الحربىّ المقرئ.
وأبو بكر محمد بن عبيد «3» الله بن نصر بن الزّاغونىّ «4» . وشيخ الشافعيّة أبو الحسن محمد بن المبارك بن الخلّ. وأبو القاسم نصر بن نصر العكبرىّ الواعظ فى ذى الحجّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.

(5/327)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 553]
السنة الخامسة من ولاية الفائز بنصر الله على مصر وهى سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة.
فيها اتّفق السلطان محمد شاه السّلجوقىّ مع أخيه ملكشاه وأمدّه بعساكر، فسار إلى خوزستان وفتحها.
وفيها توفّى عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب بن إبراهيم أبو الوقت الهروىّ المنشأ السّجزىّ «1» الأصل. ومولده فى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. وحمله أبوه من هراة إلى بوشنج على عنقه، فسمع صحيح البخارى، وقدم بغداد وطال عمره وحدّث وسمع منه خلائق وألحق الصّغار بالكبار. وكان كثير التعبّد والتهجّد. ومات ببغداد ودفن بالشّونيزيّة عن نيّف وتسعين سنة.
وفيها توفّى يحيى بن سلامة بن الحسين بن محمد الشيخ أبو الفضل الحصكفىّ «2» ولد بطنزة (مدينة صغيرة بديار بكر) ونشأ بحصن كيفا وانتقل إلى ميّافارقين.
وكان إماما فى كلّ فنّ، وله أدب وترسّل وشعر. ومن شعره:
[البسيط]
والله ولو كانت الدّنيا بأجمعها ... تبقى علينا ويأتى رزقها رغدا
ما كان من حقّ حرّ أن يذلّ لها ... فكيف وهى متاع يضمحلّ غدا

(5/328)


قلت: وهذا الشعر تكلّم [به] الحصكفىّ المذكور عن خاطرى. وكثيرا ما كنت ألهج بهذا المعنى نثرا قبل أن أقف على هذين البيتين، فطابقا ما كان يخطر ببالى، فلله درّه!. ومن شعره أيضا قوله:
[البسيط]
على ذوى الحبّ آيات مترجمة ... تبين من أجله عن كلّ مشتبه
عرف يلوح وآثار تلوح وأس ... رار تبوح وأحشاء تنوح به
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى السّجزىّ الصوفىّ فى ذى القعدة، وله ستّ وتسعون سنة.
وأبو مسعود عبد الجليل بن محمد كوتاه الحافظ بأصبهان فى شعبان. وعلىّ بن عساكر ابن سرور المقدسىّ الكيّال «1» بدمشق فى شوّال عن ست وتسعين سنة. والعلّامة أبو حفص عمر بن أحمد بن منصور النّيسابورىّ الصّفّار يوم النحر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 554]
السنة السادسة من ولاية الفائز بنصر الله على مصر وهى سنة أربع وخمسين وخمسمائة.
فيها غرقت بغداد وصارت تلالا لا يعرف أحد موضع داره.
وفيها توفّى عبد الواحد بن حميد «2» بن مفرّج الدمشقىّ. كان أديبا شاعرا فصيحا.

(5/329)


ومن شعره قوله من أوّل قصيدة:
[الرمل]
ظالمى فى الحبّ أضحى حكمى ... كيف لا يأثم فى سفك دمى
كم كتمت الحبّ عن عاذلتى ... حذر البين فلم ينكتم
وكانت وفاته بدمشق فى ذى القعدة.
وفيها توفّى السلطان محمد شاه بن محمود شاه [بن محمد شاه «1» ] بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن دقماق بن سلجوق، أبو نصر السلجوقىّ. قد تقدّم نبذة كبيرة من ذكره فى الحوادث. ولمّا حاصر بغداد كان مريضا، وبلغه موت عمّه سنجر شاه فزاد به المرض إلى أن مات على باب همذان فى ذى الحجّة.
واختلف الأمراء بعد موته؛ فمنهم من مال إلى أخيه ملكشاه، ومنهم من مال إلى سليمان شاه، ومنهم من مال إلى أرسلان شاه؛ ثم اتّفقوا على سليمان شاه.
وكان محبوسا بالموصل؛ فجهّزه زين «2» الدين صاحب الموصل بإشارة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى المعروف بالشهيد؛ فأجلسوه على سرير الملك بهمذان.
وكان قصدهم أن يأكلوا به البلاد، لأنّه كان مشغولا باللهو إلّا أنّه كان فاضلا جوادا مشفقا أمينا. وأما محمد شاه صاحب الترجمة فإنه كان شابّا وعنده شجاعة وإقدام وكرم.
وفيها توفّى محمد بن أبى عقامة أبو عبد الله قاضى زبيد «3» . كان حاكما على اليمن، ولمّا تغلّب ابن مهدى «4» على اليمن قتله وقتل ولده، وكانا فاضلين.

(5/330)


ومن شعر محمد هذا من أوّل قصيدة قوله:
[البسيط]
للوجد عنكم روايات وأخبار ... وللعلا نحوكم حاج وأوطار
وحيث كنتم فثغر الرّوض مبتسم ... وأين سرتم فدمع العين مدرار
لله قوم إذا حلّوا بمنزلة ... حلّ النّدى ويسير الجود إن ساروا
تشتاقكم كلّ أرض تنزلون بها ... كأنّكم لبقاع الأرض أمطار
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو القاسم أحمد بن المبارك بن عبد الباقى الذهبىّ القطّان. وأبو جعفر أحمد بن محمد بن عبد العزيز العبّاسىّ المكىّ النقيب فى شعبان. وأبو زيد جعفر بن زيد بن جامع الحموىّ صاحب «الرسالة «1» » . وأبو علىّ الحسن بن جعفر [بن عبد الصمد «2» ] بن المتوكّل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وإصبع واحدة.