النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 555]
السنة السابعة من ولاية الفائز بنصر الله على مصر وهى سنة خمس وخمسين
وخمسمائة على أنّ الفائز مات فيها فى شهر رجب، وحكم فى باقيها العاضد
بالله عبد الله.
فيها فى يوم الجمعة سلخ صفر أرجف ببغداد بموت الخليفة المقتفى بالله
العباسىّ، فلمّا كان ثانى شهر ربيع الأوّل تحقّق الناس موته، ودعى
الناس إلى بيعة ولىّ العهد المستنجد بالله أبى المظفر يوسف بن محمد
المقتفى، وتمّ ذلك وبويع بالخلافة.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن عبد الله بن أبى جرادة أبو علىّ ثقة
الملك الحلبىّ الحنفىّ. نشأ بحلب ثم سافر إلى مصر، فتقدّم عند وزيرها
الملك الصالح طلائع
(5/331)
ابن رزّيك، وكان طلائع المذكور يحترمه
لفضله وبيته. ومات بمصر فى هذه السنة- وقيل: فى سنة إحدى وخمسين
وخمسمائة- وكان إماما بارعا فصيحا شاعرا.
ومن شعره:
[البسيط]
يا صاحبىّ أطيلا فى مؤانستى ... وذكّرانى بخلّانى وعشّاقى
وحدّثانى حديث الخيف إنّ به ... روحا لروحى وتسهيلا لآماقى
وفيها توفّى حمزة بن أسد بن علىّ بن محمد أبو يعلى التميمىّ العميد
الدمشقىّ، ويعرف بآبن القلانسىّ. كان فاضلا أديبا مترسلا، جمع تاريخ
دمشق وسماه الذيل، وذكر فى أوّله طرفا من أخبار المصريّين وبعض حوادث
السنين. وقد نقلنا عنه نبذة فى هذا الكتاب. وكانت وفاته بدمشق فى يوم
الجمعة سابع شهر ربيع الأوّل، ودفن يوم السبت بقاسيون. ومن شعره:
[الكامل]
إياك تقنط عند كلّ شديدة ... فشدائد الأيّام سوف تهون
وانظر أوائل كلّ أمر حادث ... أبدا فما هو كائن سيكون
وفيها توفّى الأمير قايماز الأرجوانىّ أمير الحاج حجّ غير مرّة بالناس.
وكان شجاعا عادلا رفيقا بالحاجّ محسنا إليهم. دخل ميدان دار الخلافة
يلعب بالكرة فسقط من الفرس فمات، فحزن الخليفة عليه والناس، ثم أمر
الخليفة أمراء الدولة أن يمشوا فى جنازته. وكان حجّ بالناس مدّة سنين.
وفيها توفّى الخليفة المقتفى بالله أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد
ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد بن المقتدى بالله عبد الله ابن الأمير
محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أحمد ابن
الأمير إسحاق ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن المعتضد بالله أحمد
ابن الأمير الموفّق طلحة ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن
المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدى محمد بن أبى جعفر المنصور بن
محمد
(5/332)
ابن علىّ بن عبد الله بن عباس الهاشمىّ
العباسىّ البغدادىّ. بويع بالخلافة بعد قتل ابن أخيه الراشد بالله فى
شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. ومولده فى سنة تسع وثمانين
وأربعمائة. وأمّه أمّ ولد تدعى بغية النفوس- وقيل: نسيم- ومات فى يوم
الأحد ثانى شهر ربيع الأوّل ودفن بداره بعد أن صلّى عليه بالمسجد.
وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وواحدا وعشرين يوما. وولى
الخلافة من بعده ابنه المستنجد يوسف. وكان إماما عالما أديبا شجاعا
حليما دمث الأخلاق كامل السّودد، خليقا بالخلافة قليل المثل فى الأئمة.
رحمه الله تعالى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العميد أبو
يعلى حمزة ابن أسد التميمىّ ابن القلانسىّ رئيس دمشق فى عشر التسعين.
وأبو يعلى حمزة ابن علىّ بن هبة الله بن الحبوبىّ «1» الثعلبىّ «2»
البزّاز فى جمادى الأولى. وصاحب غزنة خسروشاه «3» بن مسعود
السّبكتكينىّ. والفائز عيسى بن الظافر بن الحافظ العبيدىّ، أقاموه فى
الخلافة بمصر وله خمس سنين أو دونها، وكان يصرع، فمات فى رجب وبايعوا
العاضد. وتوفّى المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين محمد بن المستظهر
بالله ابن المقتدى فى شهر ربيع الأوّل وله ستّ وستون سنة، وكانت دولته
خمسا وعشرين سنة، وأمه حبشيّة. وأبو المظفّر محمد بن أحمد بن التّريكىّ
«4» الهاشمىّ.
وأبو الفتوح محمد بن محمد بن علىّ الطائىّ الهمذانىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشر أصابع. مبلغ
الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وعشر أصابع.
(5/333)
ذكر ولاية العاضد
بالله على مصر
الخليفة أبو محمد عبد الله العاضد بالله ابن الأمير يوسف ابن الخليفة
الحافظ بالله عبد المجيد ابن الأمير محمد ابن الخليفة المستنصر بالله
معدّ بن الظاهر بالله علىّ بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله
نزار بن المعزّ لدين الله معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم بالله
محمد بن المهدىّ عبيد الله، الفاطمىّ العبيدىّ، المغربىّ الأصل
المصرىّ، الحادى عشر من خلفاء بنى عبيد بمصر، والرابع عشر بالثلاثة
الذين ولوا بالمغرب: المهدىّ والقائم والمنصور. ولد سنة أربع وأربعين
وخمسمائة، وقيل سنة أربعين.
وقال قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلّكان- رحمه الله-: «ولد يوم
الثلاثاء لعشر بقين من المحرّم سنة «1» سبع وأربعين وخمسمائة، وبويع فى
رجب بعد موت ابن عمّه الفائز بنصر الله سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وهو
ابن إحدى عشرة سنة وشهور. وكان أبوه يوسف أحد الأخوين اللذين قتلهما
عبّاس الوزير بعد قتل الظافر» . انتهى.
وقال أبو المظفّر بن قزأوغلى فى تاريخه: «وتوفّى (يعنى العاضد) يوم
عاشوراء وعمره ثلاث وعشرون سنة، فكانت أيّامه إحدى عشرة سنة. واختلفوا
فى سبب وفاته على أقوال. أحدها أنّه تفكّر فى أموره فرآها فى إدبار
فأصابه ذرب عظيم فمات منه. والثانى أنّه لمّا خطب لبنى العباس بلغه
فاغتمّ ومات؛ وقيل: إنّ أهله أخفوا عنه ذلك، وقالوا: إن سلم فهو يعلم،
وإن مات فلا ينبغى أن ننغّص عليه هذه الأيام التى بقيت من عمره.
والثالث أنّه لمّا أيقن بزوال دولته كان
(5/334)
فى يده خاتم، له فصّ مسموم فمصّه فمات منه.
وجلس صلاح الدين فى عزائه ومشى فى جنازته وتولّى غسله وتكفينه، ودفنه
عند أهله. واستولى السلطان صلاح الدين على ما فى القصر من الأموال
والذخائر والتّحف والجواهر والعبيد والخدم والخيل والمتاع وغيره. وكان
فى القصر من الجواهر النفيسة ما لم يكن عند خليفة ولا ملك، مما كان قد
جمع فى طول السنين. فمنه: القضيب الزّمرّد وطوله قبضة ونصف، والجبل «1»
الياقوت الأحمر، والدرّة اليتيمة مثل بيض الحمام، والياقوتة الحمراء
وتسمّى الحافر، وزنتها أربعة عشر مثقالا. ومن الكتب المنتخبة بالخطوط
النفيسة «2» مائة ألف مجلد. ووجد عمامة القائم وطيلسانه، كان
البساسيرىّ بعث بهما إلى المستنصر» (يعنى لمّا استولى البساسيرىّ على
بغداد، وأسر الخليفة القائم العباسىّ، وخطب ببغداد للمستنصر من بنى
عبيد، ثم بعث بعمامة القائم وطيلسانه، فأخذوهما خلفاء مصر فاحتفظوا
عليهما، نوعا من النكاية فى بنى العبّاس، فهذا شرح قول أبى المظفّر من
عمامة القائم والطيلسان) . قال: «ووجدوا أموالا لا تحدّ ولا تحصى.
وأفرد صلاح الدين أهل العاضد ناحية عن القصر، وأجرى عليهم جميع ما
يحتاجون إليه، وسلّمهم إلى الخادم قراقوش؛ فعزل الرجال عن النساء
واحتاط عليهم.
وممّا وجد فى خزانة العاضد طبل القولنج الذي صنع للظافر، وكان من ضربه
خرج منه ريح واستراح من القولنج- قلت: قد تقدّم الكلام قبل ذلك على هذا
الطبل فى محلّه-. قال: «فوقع الطبل إلى بعض الأكراد فلم يدر ما هو
فكسره، لأنّه ضرب عليه فخرج منه ريح فحنق وضربه وكسره.
(5/335)
قال: «وفرّق صلاح الدين الأموال التى أخذها
من القصر فى العساكر، وباع بعض الجوارى والعبيد، وأعطى للقاضى الفاضل
من الكتب ما أراد، وبعث إلى نور الدين بعمامة القائم وطيلسانه وهدايا
وتحف وطيب ومائة ألف دينار. وكان نور الدين بحلب فلمّا حضرت بين يديه
قال: والله ما كان لى حاجة إلى هذا، ما وصل إلينا عشر معشار ما أنفقناه
على العساكر التى جهّزناها إلى مصر، وما قصدنا بفتحها إلّا فتح الساحل،
[وقلع الكفّار منه «1» ] . وانقضت أيام الخلفاء المصرييّن بوفاة
العاضد، وعدّتهم أربعة عشر على عدد بنى أمية، إلّا أنّ أيّامهم طالت
فملكوا مائتين وثمانى سنين، وبنو أمية ملكوا نيّفا وتسعين سنة. قال:
وأوّل المصرييّن عبيد الله الملقّب بالمهدىّ» .
قلت: ليس هو كما قال: إنّ عبيد الله أوّل خلفاء المصرييّن، وإنما
أوّلهم المعزّ لدين الله معدّ. نعم إن كان قصد بأن يكون أوّلهم ممّن
دعى له على المنابر بالمغرب وأطلق عليه اسم الخليفة فيكون، وأمّا أنّه
ملك مصر فلا. ويأتى بيان ذلك.
وقد تقدّم أيضا فى ترجمة المعزّ وغيره.
قال أبو المظفّر: «قال ابن عبد البرّ: هو عبيد الله بن محمد بن ميمون
بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق- عليه السلام-. والثانى ابنه أبو
القاسم محمد ويلقّب بالقائم بأمر الله، والثالث ابنه إسماعيل ويلقّب
بالمنصور، والرابع ابنه معدّ ويلقّب بالمعزّ لدين الله» .
- قلت: وهذا المعز هو الذي تقدّم ذكره أنّه أوّل من ولى مصر من بنى
عبيد، وبنى له جوهر القائد القاهرة، وهو أوّل خليفة سكن مصر من بنى
عبيد؛ ولهذا
(5/336)
كنا نقول فى تراجمهم الأوّل من خلفاء مصر
والرابع ممّن ولى من آبائه بالمغرب، وعلى هذا سلكنا فى تراجمهم-.
قال: والخامس ابنه نزار ويلقّب بالعزيز بالله، والسادس ابنه منصور
ويلقب بالحاكم بأمر الله، والسابع ابنه علىّ ويلقّب بالظاهر لدين الله،
والثامن ابنه معدّ ويلقّب بالمستنصر بالله وقد ولى ستين سنة، والتاسع
أبو القاسم أحمد ويلقّب بالمستعلى، والعاشر ابنه منصور ويلقّب بالآمر
بأحكام الله، وانقطع نسله، وولى ابن عمّه أبو الميمون عبد المجيد بن
أبى القاسم بن المستنصر [ويلقّب «1» بالحافظ لدين الله] وهو الحادى
عشر، والثانى عشر ولده إسماعيل ويلقّب بالظافر، والثالث عشر أبو القاسم
عيسى ويلقّب بالفائز بنصر الله، والرابع عشر عبد الله بن يوسف بن
الحافظ ويلقّب بالعاضد» . انتهى كلام صاحب مرآة الزمان وغيره.
قلت-: فائدة جليلة- لم يل الخلافة أحد من الفاطميّين بعد أخيه، وهذا لم
يقع لغيرهم. وأمّا عدد خلفاء بنى أمية فهم كما قال: أربعة عشر، لكنه ما
عدّهم، فنقول: هم معاوية بن أبى سفيان، ثم ابنه يزيد بن معاوية، ثم
ابنه معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك بن مروان،
ثم ابنه الوليد ابن عبد الملك، ثم أخوه سليمان بن عبد الملك، ثم ابن
عمّه عمر بن عبد العزيز بن مروان، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم أخوه هشام
بن غبد الملك ثم الوليد الفاسق ابن يزيد بن عبد الملك، ثم ابن عمّه
يزيد بن الوليد بن عبد الملك، المعروف بالناقص، ثم أخوه إبراهيم، ثم
مروان بن محمد بن مروان بن الحكم المعروف بالحمار؛ وهو آخرهم، قتل بسيف
بنى العباس. وقد خرجنا عن المقصود ولنعد إلى ترجمة العاضد وما يتعلّق
به.
(5/337)
قلت: وكان وزير العاضد شاور. وشاور هذا هو
الذي وقع له مع الأمير أسد الدين شيركوه الآتى ذكره ما وقع. يأتى ذلك
كلّه فى ترجمة ابن أخيه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب مفصّلا؛ لكن
نذكر هنا من أحوال شاور المذكور نبذة كبيرة ليكون الناظر بعد ذلك فيما
يأتى على بصيرة بترجمة شاور المذكور.
وكان شاور قد وزر للعاضد بعد قتل رزّيك ابن الملك الصالح طلائع بن
رزّيك.
وكان دخوله إلى القاهرة من قوص فى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة لمّا ملكها
رزّيك، ودخل معه خلق كثير ونزل بدار سعيد السعداء، ودخل معه أولاده
طيىء وشجاع. فلما وزر زاد الأجناد على ما كان لهم عشر مرّات. وكان يجلس
والأبواب مغلّقة عليه خيفة من حواشى رزّيك. وكان رزّيك أنشأ أمراء يقال
لهم البرقية، ويقال لكبيرهم ضرغام. فولّى شاور ضرغاما المذكور الباب،
وكان فارسا شجاعا، جمع على شاور حتى أخرجه من القاهرة وقتل ولده الأكبر
المسمى بطيّئ، وبقى ابنه شجاع المنعوت بالكامل. فسار شاور إلى الشام،
واستنجد بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكى بن آق سنقر المعروف
بالشهيد؛ فأرسل معه الملك العادل أحد أمرائه وهو الأمير أسد الدين
شيركوه بن شادى. يأتى ذكر ذلك كلّه فى آخر هذه الترجمة، وأيضا فى ترجمة
السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب بأوسع من هذا، بعد أن نذكر أقوال
جماعة من المؤرّخين فى حقّ العاضد هذا وأحواله.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ فى تاريخ الإسلام- بعد ما ساق نسبته
إلى أن قال-: العبيدىّ الرافضىّ الذي زعم هو وبيته أنّهم فاطميّون، وهو
آخر خلفاء مصر.
ولد سنة ستّ وأربعين وخمسمائة فى أوّلها. فلمّا هلك الفائز ابن عمّه
واستولى الملك الصالح طلائع بن رزّيك الديار المصريّة، بايع العاضد
وأقامه صورة، وكان كالمحجور عليه لا يتصرّف فى كلّ ما يريد، ومع هذا
كان رافضيّا سبّابا خبيثا.
(5/338)
قال ابن خلّكان: كان إذا رأى سنّيّا استحلّ
دمه. وسار وزيره الملك الصالح طلائع بن رزّيك بسيرة مذمومة، واحتكر
الغلّات فغلت الأسعار، وقتل أمراء الدولة خيفة منهم، وأضعف أحوال
دولتهم، فقتل ذوى الرأى والبأس وصادر أولى الثروة. وفى أيام العاضد ورد
حسين بن نزار بن المستنصر العبيدىّ من المغرب وقد جمع وحشد؛ فلمّا قارب
مصر غدر به أصحابه وقبضوا عليه وأتوا به إلى العاضد فذبحه صبرا فى سنة
سبع وخمسين. ثم قتل العاضد طلائع بن رزّيك ووزر له شاور؛ فكان سبب خراب
دياره؛ ودخل أسد الدين إلى ديار مصر وقتل شاور، ومات أسد الدين شيركوه
وقام فى الأمر ابن أخيه صلاح الدين يوسف ابن أيوب، وتمكّن فى المملكة.
انتهى.
وقال القاضى «1» جمال الدين بن واصل: حكى لى الأمير حسام الدين بن أبى
علىّ قال: كان جدّى فى خدمة صلاح الدّين، فحكى أنّه لمّا وقعت هذه
الواقعة (يعنى وقعة السودان بالقاهرة) التى زالت دولتهم فيها، وزالت آل
عبيد من مصر (يأتى ذكر هذه الواقعة فى آخر ترجمة العاضد إن شاء الله
تعالى) قال: وشرع «2» صلاح الدين يطلب من العاضد أشياء من الخيل
والرقيق والأموال ليتقوّى بذلك. قال: فسيرّنى يوما إلى العاضد أطلب منه
فرسا ولم يبق عنده إلّا فرس واحد، فأتيته وهو راكب فى البستان «3»
المعروف بالكافورىّ الذي يلى القصر، فقلت: السلطان صلاح الدين يسلّم
عليك ويطلب منك فرسا؛ فقال: ما عندى إلّا الفرس الذي أنا راكبه، ونزل
عنه وشقّ خفّيه ورمى بهما وسلّم إلىّ الفرس، فأتيت به صلاح الدين، ولزم
العاضد بيته.
(5/339)
واشتغل صلاح الدين بالأمر وبقى العاضد معه
صورة إلى أن خلعه وخطب فى حياته لأمير المؤمنين المستضىء بأمر الله
العبّاسىّ، وأزال الله تلك الدولة المخذولة.
انتهى.
وقال الشيخ شهاب «1» الدين أبو شامة: اجتمعت بالأمير أبى الفتوح بن
العاضد وهو مسجون مقيد فى سنة ثمان وعشرين وستمائة، فحكى لى أن أباه فى
مرضه استدعى صلاح الدين فحضر، فأحضرونا (يعنى أولاده) ونحن صغار فأوصاه
بنا، فالتزم إكرامنا واحترامنا. ثم قال أبو شامة: وهم أربعة عشر خليفة
وعدّهم نحوا ممّا ذكرناه، إلى أن قال: ويدّعون الشرف، ونسبتهم إلى
مجوسىّ أو يهودىّ، حتّى اشتهر لهم ذلك بين العوامّ، فصاروا يقولون
الدولة الفاطميّة والدولة العلويّة، وإنما هى الدولة اليهودية
والمجوسية الملحدة الباطنيّة. قال: وقد ذكر ذلك جماعة من العلماء
الأكابر [و] أنهم لم يكونوا لذلك أهلا ولا نسبهم صحيحا بل المعروف أنهم
بنو عبيد، وكان والد عبيد هذا من نسل القدّاح الملحد المجوسىّ. قال:
وقيل إن والد عبيد هذا كان يهوديّا من أهل سلمية «2» وكان جوادا. وعبيد
كان اسمه سعيدا، فلمّا دخل المغرب تسمّى بعبيد الله وادّعى نسبا ليس
بصحيح؛ قال ذلك جماعة من علماء الأنساب. ثم ترقّت به الحال إلى أن ملك
المغرب وبنى المهديّة «3» وتلقّب بالمهدىّ، وكان زنديقا خبيثا عدوّا
للإسلام، من أوّل دولتهم إلى آخرها، وذلك من ذى الحجة سنة تسع وتسعين
ومائتين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة. وقد بيّن نسبهم جماعة مثل القاضى
أبى بكر الباقلانى، فإنّه كشف فى أوّل كتابه المسمّى
(5/340)
«كشف أسرار الباطنيّة» عن بطلانى نسب هؤلاء
إلى علىّ- رضى الله عنه-، وكذلك القاضى عبد «1» الجبار بن أحمد استقصى
الكلام فى أصولهم. انتهى.
قلت. وقد ذكرنا نوعا من ذلك فى عدّة تراجم من هذا الكتاب من بنى عبيد
المذكورين، وفى المحضر المكتتب من جهة الخليفة القائم بأمر الله
العبّاسىّ وغيره وقال بعضهم: كانت وفاة العاضد فى يوم عاشوراء بعد
إقامة الخطبة بيويمات قليلة فى أوّل جمعة من المحرّم لأمير المؤمنين
المستضىء بالله، والعاضد آخر خلفاء مصر؛ فلمّا كانت الجمعة الثانية خطب
بالقاهرة أيضا للمستضىء بسائر الجوامع، ورجعت الدعوة العبّاسيّة بعد أن
كانت قد قطعت بها (أعنى الديار المصريّة وأعمالها) أكثر من مائتى سنة.
وتسلّم السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب قصر الخلافة،
واستولى على ما كان به من الأموال والذخائر، وكانت عظيمة الوصف، وقبض
على أولاد العاضد وحبسهم فى مكان واحد بالقصر، وأجرى عليهم ما يموّنهم
وعفّى آثارهم، وقمع مواليهم وسائر نسائهم «2» . قال: وكانت هذه الفعلة
من أشرف أفعاله، فلنعم ما فعل؛ فإنّ هؤلاء كانوا باطنييّن زنادقة دعوا
إلى مذهب التناسخ واعتقاد حلول الجزء الإلهى فى أشباحهم. وقد قال
الحاكم لداعيه: كم فى جريدتك؟ قال ستة عشر ألفا يعتقدون أنّك الإله.
وقال قائلهم- وأظنّه فى الحاكم «3» بأمر الله-:
[الكامل]
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهّار
(5/341)
قال: فلعن الله المدّاح والممدوح؛ فليس هذا
فى القبح إلّا كقول فرعون: أنا ربّكم الأعلى. وقال الحافظ شمس الدين
الذهبىّ: وقال بعض شعرائهم فى المهدىّ- وهو غاية فى الكفر-:
[البسيط]
حلّ برقّادة المسيح ... حلّ بها آدم ونوح
حلّ بها الله فى «1» علاه ... وما سوى الله فهو ريح
قال: وهذا أعظم كفرا من النصارى؛ لأنّ النصارى يزعمون أن الجزء الإلهى
حلّ بناسوت «2» عيسى فقط، وهؤلاء يعتقدون «3» حلوله فى جسد آدم ونوح
والأنبياء وجميع الأمة. هذا اعتقادهم. لعنهم الله!.
وقال القاضى شمس الدين بن خلّكان- رحمه الله-: سمعت جماعة من المصريّين
يقولون: هؤلاء القوم فى أوائل دولتهم قالوا لبعض العلماء: اكتب لنا
ألقابا فى ورقة تصلح للخلفاء، حتى إذا تولّى واحد لقّبوه ببعض تلك
الألقاب.
فكتب لهم ألقابا كثيرة، وآخر ما كتب فى الورقة العاضد؛ فاتّفق أنّ آخر
من ولى منهم تلقّب بالعاضد. وهذا من عجيب الاتّفاق. وأخبرنى أحد علماء
المصريّين أيضا: أنّ العاضد المذكور فى آخر دولته رأى فى منامه أنّه
بمدينة مصر، وقد خرجت إليه عقرب من مسجد هو معروف بها، فلدغته. فلما
استيقظ ارتاع لذلك فطلب بعض معبّرى الرؤيا وقصّ عليه المنام؛ فقال:
ينالك مكروه من شخص هو مقيم بالمسجد. فطلب والى مصر وقال له: اكشف عمّن
هو مقيم بالمسجد الفلانىّ- وكان العاضد قد رأى ذلك المسجد- فإذا رأيت
به أحدا أحضره إلىّ. فمضى الوالى
(5/342)
إلى المسجد فوجد به رجلا صوفيّا، فأخذه
ودخل به إلى العاضد. فلمّا رآه سأله من أين هو، ومتى قدم البلاد، وفى
أىّ شىء قدم؟ [وهو يجاو «1» به عن كلّ سؤال] .
فلمّا ظهر منه ضعف الحال والصدق والعجز عن إيصال المكروه إليه أعطاه
شيئا وقال له: يا شيخ، ادع لنا وخلّى سبيله، وخرج من عنده وعاد إلى
المسجد. فلمّا استولى السلطان صلاح الدّين على الديار المصريّة وعزم
على قبض العاضد [وأشياعه «2» ] واستفتى الفقهاء [وأفتوه «3» ] بجواز
ذلك لما كان عليه من انحلال العقيدة وفساد الاعتقاد وكثرة الوقوع فى
الصحابة والاشتهار بذلك، فكان أكثرهم مبالغة فى الفتيا الصوفىّ المقيم
بالمسجد، وهو الشيخ نجم الدين الخبوشانىّ «4» . انتهى كلام ابن خلّكان.
ولمّا استولى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، كتب إلى
الوزير ببغداد على يد شمس الدين محمد بن المحسّن بن الحسين بن أبى
المضاء «5» البعلبكّىّ الذي خطب أوّل شىء بمصر لبنى العبّاس بإشارة
السلطان صلاح الدين، وكان الكتاب من إنشاء القاضى الفاضل عبد الرحيم
البيسانىّ، وكان ممّا فيه:
«وقد توالت الفتوح غربا «6» ويمنا وشاما، وصارت البلاد [بل «7» الدنيا]
والشهر بل الدهر حرما حراما، وأضحى الدّين واحدا بعد ما كان أديانا،
والخلافة إذا ذكّر بها أهل الخلاف لم يخرّوا عليها صمّا وعميانا؛
والبدعة خاشعة، والجمعة جامعة، والمذلّة فى شيع الضلال شائعة؛ وذلك
بأنّهم اتّخذوا عباد الله من دونه أولياء، وسمّوا
(5/343)
أعداء الله أصفياء؛ وتقطّعوا أمرهم [بينهم]
شيعا، وفرّقوا أمر الأمة وكان مجتمعا؛ وكذّبوا بالنار فعجّلت لهم نار
الجتوف، ونثرت أقلام الظّبا حروف رءوسهم نثر الأقلام للحروف؛ ومزّقوا
كلّ ممزّق، وأخذ منهم كلّ مخنّق، وقطع دابرهم، ووعظ آئبهم غابرهم،
ورغمت أنوفهم ومنابرهم؛ وحقّت عليهم الكلمة تشريدا وقتلا، وتمّت كلمات
ربّك صدقا وعدلا. وليس السيف عمّن سواهم من [كفّار «1» ] الفرنح بصائم،
ولا اللّيل عن السير إليهم بنائم. ولا خفاء عن المجلس الصاحبىّ أنّ من
شدّ عقد خلافة وحلّ [عقد «2» ] خلاف، وقام بدولة وقعد بأخرى قد عجز
عنها الأخلاف والأسلاف؛ فإنّه مفتقر إلى أن يشكر ما نصح، ويقلّد ما
فتح، ويبلّغ ما اقترح، ويقدّم حقّه ولا يطّرح، ويقرّب مكانه وإن نزح؛
وتأتيه التشريفات الشريفة.
- ثم قال بعد كلام آخر-: وقد أنهض لإيصال ملطّفاته، وتنجيز تشريفاته
«3» ؛ خطيب الخطباء بمصر، وهو الذي اختاره بمصر لصعود المنبر، وقام
بالأمر قيام من برّ.
واستفتح بلبس السواد الأعظم، الذي جمع الله عليه السواد الأعظم» .
ثم كتب السلطان صلاح الدّين إلى الملك العادل نور الدين يطلب منه أباه
وأقاربه. ويأتى ذلك كلّه فى ترجمة صلاح الدين مفصّلا، إن شاء الله
تعالى.
وقد ذكرنا أقوال جماعة من العلماء والمؤرّخين فى أحوال العاضد وتوليته
ووفاته ونسبه.
والآن نذكر الأسباب التى كانت سببا لذهاب ملك العاضد وزوال دولة
الفاطميّين بنى عبيد من ديار مصر، وابتداء ملك بنى أيّوب على سبيل
الاختصار مجملا.
وقد ذكرنا ذلك كلّه فى التراجم والحوادث على عادة سياق هذا الكتاب من
أوّله
(5/344)
إلى آخره؛ غير أنّ الذي نذكره هنا متعلّق
بالوزراء وكيفيّة انفصال الدولة الفاطمية واتّصال الدولة الأيّوبيّة.
فأوّل الأمر قتل العاضد وزيره الملك الصالح طلائع بن رزّيك، وكنيته أبو
الغارات الأرمنىّ الأصل. أقام وزيرا بمصر سبع سنين، وقد ذكرنا ابتداء
أمره فى آخر ترجمة الظافر وأوّل ترجمة الفائز، وكان الفائز معه
كالمحجور عليه. ولمّا مات الفائز أقام العاضد هذا فى الخلافة، وتولّى
تدبير ملكه على عادته، وولّى شاور بن مجير «1» السعدىّ الصعيد. ثم ثقل
طلائع هذا على العاضد فدبّر فى قتله. فلمّا كان عاشر شهر رجب سنة ستّ
وخمسين وخمسمائة حضر الصالح طلائع إلى قصر الخلافة، فوثب عليه باطنىّ
فضر به بسكّين فى رأسه، ثم فى ترقوته فحمل إلى داره، وقتل الباطنىّ.
ومات الملك الصالح طلائع بن رزّيك من الغد، فحزن الناس عليه لحسن
سيرته، وأقيم المأتم عليه بالقصر وبالقاهرة ومصر. وكان جوادا ممدّحا
فاضلا شاعرا كثير الصدقات حسن الآثار، بنى جامعا خارج بابى زويلة يعرف
بجامع «2» الصالح، وآخر بالقرافة «3» وتربة «4» إلى جانبه، وهو مدفون
بها. وقام بعده فى الوزر أبنه رزّيك بن طلائع
(5/345)
ابن رزيك، ولقّب بمجد الإسلام. وفرح العاضد
بقتل طلائع المذكور إلى الغاية، وكان فى ذلك عكسه؛ على ما يأتى: وهو أن
رزّيك لمّا وزر مكان والده طلائع سار على سيرة أبيه، فلم يحسن ذلك ببال
العاضد، فأحبّ ذهابه أيضا ليستبدّ بالأمور من غير وزير؛ فدسّ إلى شاور،
فتحرّك شاور بن مجير السعدىّ من بلاد الصعيد وجمع أوباش الصعيد من
العبيد والأوغاد، وقدم إلى القاهرة تحرابا لرزّيك.
فخرج إليه رزيك بن طلائع وقاتله والعاضد فى الباطن مع شاور، فانهزم
رزّيك.
ودخل شاور إلى القاهرة وملكها وأخرب دور الوزارة ودور بنى رزّيك؛
واختفى الوزير رزّيك المذكور إلى أن ظفر به شاور وقتله. يأتى بعض ذكر
ذلك فى الحوادث كلّ واحد على حدته.
وتولّى شاور الوزارة، فعلمل العاضد بأفعال قبيحة وأساء السّيرة فى
الرعيّة، وأخذ أمر مصر فى وزارته فى إدبار. ولمّا كثر ظلمه خرج عليه
أبو الأشبال ضرغام بن عامر «1» من الصعيد- وقيل من مصر- وحشد. فخرج
إليه شاور بدسته فهزمه ضرغام، وقتل ولده الأكبر طيىء؛ وخذل أهل القاهرة
شاور لبغضهم له.
فهرب شاور إلى الشام ودخل إلى السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن
زنكى المعروف بالشهيد؛ فالتقاه نور الدين وأكرمه. فطلب شاور منه النجدة
والعساكر وأطمعه فى الديار المصرية، وقال له: أكون نائبك بها، وأقنع
بما تعيّن لى من الضّياع والباقى لك. فأجّابه نور الدين لذلك وجهّز له
العساكر مع الأمير أسد الدين شيركوه بن شادى الكردىّ، أحد أمراء نور
الدين. وخرجوا من دمشق فى العشرين
(5/346)
من جمادى سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وكان مع
أسد الدين شيركوه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيّوب فى خدمته. فلمّا
وصلوا إلى القاهرة خرج إليهم أبو الأشبال ضرغام بن عامر بن سوار «1» ،
فحار بهم أيّاما ووقع بينهم حروب وأمور يطول شرحها، إلى أن التقوا على
باب القاهرة؛ فحمل ضرغام بنفسه فى أوائل الناس فطعن وقتل، واستقام أمر
شاور. فكانت وزارة ضرغام تسعة أشهر. واستولى شاور ثانيا على القاهرة.
وكان خبيثا سفّا كاللدماء. ولمّا ثبت أمره ظهر منه أمارات الغدر بأسد
الدّين شيركوه. فأشار صلاح الدين يوسف بن أيّوب على عمّه أسد الدين
شيركوه بالتأخّر إلى بلبيس «2» . وكان أسد الدين لا يقطع أمرا دون صلاح
الدين، ففعل ذلك وخرج إلى بلبيس، وبعث أسد الدين يطلب من شاور رزق
الجند (أعنى النفقة) فاعتذر وتعلّل عليه. فكتب أسد الدين إلى نور الدين
يخبره بما جرى، ودسّ شاور إلى الفرنج رسلا يدعوهم إلى مصر ويبذل لهم
الأموال، فاجتمع الفرنج من الساحل وساروا من الدّاروم «3» متّفقين مع
شاور على أسد الدين شيركوه. فتهيّأ أسد الدين لحربهم وحاربهم فقوى
الفرنج عليه وحاصروه بمدينة بلبيس نحو شهرين حتّى صالحهم أسد الدين على
مال. وكان حصارهم له من أوّل شهر رمضان إلى ذى القعدة. ووقع بينهم حروب
وأمور حتى بلغهم أنّ نور الدين
(5/347)
الشهيد قصد بلادهم من الشام؛ فعند ذلك رجعت
الفرنج وصالحوا أسد الدين شيركوه، فعاد أسد الدين إلى الشام وهو فى
غاية من القهر.
وأقام شاور بالقاهرة على عادته يظلم ويقتل ويصادر الناس، ولم يبق
للعاضد معه أمر ولا نهى. وأقام أسد الدين بدمشق فى خدمة نور الدين إلى
سنة اثنتين وستين، فعاد بعساكر الشام إلى مصر ثانيا. وسببه أنّ العاضد
لمّا غلب عليه شاور كتب إلى نور الدين يستنجده على شاور وأنّه قد
استبدّ بالأمر وظلم وسفك الدم. وكان فى قلب نور الدين من شاور حرازة
لكونه غدر بأسد الدين شيركوه واستنجد عليه بالفرنج. فخرج أسد الدين
بعساكر الشام من دمشق فى منتصف شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وستين
المذكورة، وسار أسد الدين ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيّوب حتّى
نزل برّ الجيزة «1» غربىّ مصر على بحر النيل. وكان شاور قد أعطى الفرنج
الأموال وأقطعهم الإقطاعات وأنزلهم دور القاهرة وبنى لهم أسواقا
تخصّهم. وكان مقدّم الفرنج الملك مرّى وابن نيرزان.
فأقام أسد الدين على الجيزة شهرين، وعدّى إلى برّ مصر والقاهرة فى خامس
عشرين جمادى الآخرة، وخرج إليه شاور والفرنج. ورتّب شاور عساكره، فجعل
الفرنج على الميمنة مع ابن نيرزان، وعسكر مصر فى الميسرة، وأقام الملك
مرّى الفرنجىّ فى القلب فى عسكره من الفرنج. ورتّب أسد الدين عساكره
فجعل
(5/348)
صلاح الدين فى الميمنة؛ وفى الميسرة
الأكراد، وأسد الدين فى القلب «1» ، فحمل الملك مرّى على القلب فتعتعه،
وكانت أثقال المسلمين خلفه فاشتغل الفرنج بالنهب؛ وحمل صلاح الدين على
شاور فكسره وفرّق جمعه. وعاد أسد الدين إلى ابن أخيه صلاح الدين وحملا
على الفرنج فانهزموا، فقتلا منهم ألوفا وأسرا مائة وسبعين فارسا.
وطلبوا القاهرة، فلو ساق أسد الدين خلفهم فى الحال ملك القاهرة، وإنّما
عدل إلى الإسكندرية فتلقّاه أهلها طائعين، فدخلها وولّى عليها صلاح
الدين.
فأقام صلاح الدين بها وسار أسد الدين إلى الصعيد فاستولى عليه، وأقام
يجمع أمواله. وخرج شاور والفرنج من القاهرة فحصروا الإسكندرية أربعة
أشهر، وأهلها يقاتلون مع صلاح الدين ويقوّونه بالمال. وبلغ أسد الدين
فجمع عرب البلاد وسار إلى الإسكندرية، فعاد شاور إلى القاهرة وراسل أسد
الدين حتّى تمّ الصلح بينهم، وأعطى شاور أسد الدين إقطاعا بمصر وعجّل
له مالا. فعاد أسد الدين إلى الشام ومعه صلاح الدين. واعتذر أسد الدين
إلى الملك العادل نور الدين محمود بكثرة الفرنج والمال. ورأى صلاح
الدين لأهل الإسكندرية ما فعلوا، فلمّا ملك مصر بعد ذلك أحسن إليهم.
ثم إنّ الفرنج طلبوا من شاور أن يكون لهم شحنة بالقاهرة ويكون أبوابها
بأيدى فرسانهم وتحمل إليهم فى كلّ سنة مائة ألف دينار، ومن سكن منهم
بالقاهرة يبقى على حاله ويعود بعض ملوكهم إلى الساحل؛ فأجابهم شاور إلى
ما طلبوا منه.
(5/349)
كل ذلك تقرّر بين شاور والفرنج والعاضد لا
يعلم بشىء منه. وسار بعض الفرنج إلى الساحل. وكان الملك العادل نور
الدين محمود يخاف على مصر من غلبة الفرنج عليها، فسار بعساكره من دمشق
وفتح المنيطرة «1» وقلاعا كثيرة؛ فخاف من كان بمصر من الفرنج. وبيناهم
فى ذلك عاد الفرنج من الساحل إلى نحو مصر فى سنة أربع وستين، وطمعوا فى
أخذها. وكان خروجهم من عسقلان والساحل إلى نحو مصر فى أوائل السنة،
وساروا حتّى نزلوا بلبيس، وأغاروا على الريف وأسروا وقتلوا.
هذا وقد تلاشى أمر الديار المصرية من الظلم ولم يبق للعاضد من الخلافة
سوى الاسم والخطبة لا غير.
فلمّا بلغ شاور فعل الفرنج بالأرياف، أخرج من كان بمصر من الفرنج بعد
أن أساء فى حقّهم قبل ذلك، وقتل منهم جماعة كبيرة وهرب الباقون. ثم أمر
شاور أهل مصر بأن ينتقلوا إلى القاهرة ففعلوا، وأحرق شاور مصر. وسار
الفرنج من بلبيس حتّى نزلوا على القاهرة فى سابع صفر، وضايقوها وضربوها
بالمجانيق. فلم يجد شاور بدّا أن كاتب الملك العادل نور الدين محمودا
بأمر العاضد. وكان الفرنج لمّا وصلوا إلى مصر فى المرّتين الأوليين
اطّلعوا على عوراتها وطمعوا فيها؛ وعلم نور الدين بذلك فأسرع بتجهيز
العساكر خوفا على مصر. ثم جاءته كتب شاور والعاضد؛ فقال نور الدين لأسد
الدين شيركوه: خذ العساكر وتوجّه إليها؛ وقال لصلاح الدين: اخرج مع
عمّك أسد الدين؛ فامتنع وقال: يا مولاى، يكفى ما لقينا من الشدائد فى
تلك المرّة.
فقال نور الدين: لا بدّ من خروجك؛ فما أمكنه مخالفة مخدومه نور الدين
المذكور؛ فخرج مع عمّه، وساروا إلى مصر. وبلغ الفرنج ذلك فرجعوا عن مصر
إلى الساحل.
وقيل: إن شاور أعطاهم مائة ألف دينار. وجاء أسد الدين بمن معه من
العساكر
(5/350)
ونزل على باب القاهرة. فاستدعاه العاضد إلى
القصر وخلع عليه فى الإيوان خلعة الوزارة ولقّبه بالمنصور، وسرّ أهل
مصر بذلك. وقيل: إنّه لم يستدعه، وإنّما بعث إليه بالخلع والأموال
والإقامات؛ وكذلك إلى الأمراء الذين كانوا معه. وأقام أسد الدين مكانه
وأرباب الدولة يتردّدون إلى خدمته فى كلّ يوم، ولم يقدر شاور على منعهم
لكثرة العساكر ولكون العاضد مائلا إلى أسد الدين المذكور. فكاتب شاور
أيضا الفرنج واستدعاهم وقال لهم: يكون مجيئكم إلى دمياط «1» فى البحر
والبرّ. فبلغ ذلك أعيان الدولة بمصر، فاجتمعوا عند الملك المنصور أسد
الدين شيركوه وقالوا له:
شاور فساد العباد والبلاد، وقد كاتب الفرنج، وهو يكون سبب هلاك
الإسلام. ثم إنّ شاور خاف لما تأخّر وصول الفرنج، فعمل فى عمل دعوة
لأسد الدين المذكور ولأمرائه ويقبض عليهم. فنهاه ابنه الكامل وقال له:
والله لئن لم تنته عن هذا الأمر لأعرّفنّ أسد الدين. فقال له أبوه
شاور: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلنّ كلّنا. فقال له ابنه الكامل: لأن
نقتل والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل والبلاد بيد الفرنج.
وكان شاور قد شرط لأسد الدين شيركوه ثلث أموال البلاد؛ فأرسل أسد الدين
يطلب منه المال؛ فجعل شاور يتعلّل ويماطل وينتظر وصول الفرنج؛ فابتدره
أسد الدين وقتله.
واختلفوا فى قتله على أقوال، أحدها أنّ الأمراء اتّفقوا على قتله لمّا
علموا مكاتبته للفرنج، وأنّ أسد الدين تمارض، وكان شاور يخرج إليه فى
كلّ يوم والطبل والبوق يضربان بين يديه على عادة وزراء مصر.- قلت: وعلى
هذا القول يكون قول من قال: إنّ الغاضد خلع على أسد الدين شيركوه
بالوزارة ولقّبه بالمنصور فى أوّل قدومه إلى مصر ليس بالقوىّ، ولعلّ
ذلك يكون بعد قتل شاور، على ما سيأتى
(5/351)
ذكره.- فجاء شاور ليعود أسد الدين فقبض
عليه وقتله. والثانى أنّ صلاح الدين وجرديك اتّفقا على قتله وأخبرا أسد
الدين فنهاهما، وقال: لا تفعلا، فنحن فى بلاده ومعه عسكر عظيم، فأمسكا
عن ذلك إلى أن اتّفق أنّ أسد الدين ركب إلى زيارة الإمام الشافعىّ- رضى
الله عنه- وأقام عنده، فجاء شاور على عادته إلى أسد الدين فالتقاه صلاح
الدين وجرديك وقالا: هو فى الزيارة انزل، فامتنع؛ فجذباه فوقع إلى
الأرض فقتلاه. والثالث أنّهما لمّا جذباه لم يمكنهما قتله بغير أمر أسد
الدين فسحبه الغلمان إلى الخيمة وانهزم أصحابه عنه إلى القاهرة
ليجيّشوا عليهم.
وعلم أسد الدين فعاد مسرعا، وجاء رسول من العاضد برقعة يطلب من أسد
الدين رأس شاور، وتتابعت الرّسل. وكان أسد الدين قد بعث إلى شاور مع
الفقيه عيسى «1» يقول: لك فى رقبتى أيمان، وأنا خائف عليك من الذي عندى
فلا تجىء. فلم يلتفت وجاء على العادة فوقع ما ذكرناه. ولما تكاثرت
الرسل من العاضد دخل جرديك إلى الخيمة وجزر رأسه، وبعث أسد الدين برأسه
إلى العاضد فسرّبه. ثم طلب العاضد ولد شاور الملك الكامل وقتله فى
الدّهليز وقتل أخاه، واستوزر أسد الدين شيركوه، وذلك فى شهر ربيع
الأوّل. وهذا الذي أشرنا إليه من أنّ ولاية أسد الدين للوزر كانت بعد
قتل شاور.
ولما قتل شاور وابنه الكامل، بعث العاضد منشورا بالوزارة لأسد الدين
بخطّ القاضى الفاضل وعليه خطّ العاضد بما صورته:
(5/352)
«هذا «1» عهد لم يعهد إلى وزير بمثله،
فتقلّد ما أراك الله أهلا بحمله؛ وخذ كتاب أمير المؤمنين بقوّة، واسحب
ذيل الافتخار بخدمتك بيت النبوّة؛ والزم حقّ الإمامة تجد إلى الفوز
سبيلا، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا» .
ثم أرسل العاضد نسخة الأيمان إلى أسد الدين، وحلف كلّ واحد منهما
لصاحبه على الوفاء والطاعة والصفاء. فتصرّف أسد الدين شهرين ومات.
ولمّا احتضر أوصى إلى ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيّوب، فولّى صلاح
الدين الوزارة ولقّب بالملك الناصر، على ما يأتى ذكر ذلك كلّه فى
ترجمتهما بأوضح من ذلك.
ولمّا وزر صلاح الدين اختلف عليه جماعة من الأمراء عقيب وفاة أسد
الدين.
وبلغ الملك العادل نور الدين اتّفاق الأمراء عليه بمصر؛ فقال له توران
«2» شاه بن أيّوب الذي لقّب بعد ذلك بالملك المعظّم، وكان أسنّ من صلاح
الدين: يا مولانا، أريد أن أسير إلى أخى (يعنى إلى صلاح الدين) فقال له
نور الدين: إن كنت تسير إلى مصر وترى يوسف أخاك بعين أنّه كان يقف فى
خدمتك وأنت قاعد فلا تسر، فإنّك تفسد العباد والبلاد فتحوجنى إلى
عقوبتك بما تستحقّه، وإن كنت تسير إليه وترى أنّه قائم مقامى وتخدمه
كما تخدمنى، وإلّا فلا «3» تذهب إليه. فقال:
(5/353)
يا مولانا، سوف يبلغك ما أفعل من الخدمة
والطاعة. وسار إلى مصر فتلقّاه صلاح الدين من بلبيس وخدمه وقدّم له
المال والخيل والتّحف، وأقام عنده على أحسن حال، وفعل ما ضمن لنور
الدين من خدمة أخيه صلاح الدين، وقوى أمر صلاح الدين به واستقام أمره.
كلّ ذلك والخطبة باسم العاضد فى هذه السنين إلى سنة سبع وستين
وخمسمائة، على ما يأتى ذكره فى ترجمة السلطان صلاح الدين.
ولمّا تمّ أمر صلاح الدين بمصر خاف العاضد عاقبة أمره. وكان للعاضد
خادم يقال له مؤتمن الخلافة، وكان مقدّم السودان والخدم والمشار إليه
بالقصر.
فأمره العاضد بقتال الترك والغزّ. واتّفق العسكر المصرىّ مع الخادم
وثاروا على الترك فقتلوا منهم جماعة. فركب صلاح الدين وشمس الدولة
ودخلا إلى باب القصر، وتقاتلا مع مؤتمن الخلافة، وأبلى شمس الدولة بلاء
حسنا، وقتل الخادم مؤتمن الخلافة وجماعة كبيرة من السودان بعد حروب
وقتال عظيم. فأرسل العاضد إلى صلاح الدين يتعتّب عليه ويقول له: فأين
أيماناتكم! هذا الخادم جاهل فعل ما فعل بغير أمرنا فقال صلاح الدين:
نحن على الأيمان والعهود ما نتغيّر، وما قتلنا إلّا من قصد قتلنا. وقول
العاضد: أين الأيمان والعهود يعنى بذلك أنّه لمّا مات أسد الدين شيركوه
وأوصى لابن أخيه صلاح الدين المذكور اختلف جماعة من أمراء نور الدين
الذين كانوا قدموا مع أسد الدين على صلاح الدين، ورام كلّ واحد منهم
الأمر لنفسه استصغارا بصلاح الدين، وهم: عين «1» الدين الياروقى رأس
الأتراك، وسيف «2» الدين المشطوب ملك الأكراد، وشهاب الدين محمود صاحب
(5/354)
حارم «1» وهو خال صلاح الدين، وجماعة أخر؛
فبادر العاضد واستدعى صلاح الدين وخلع عليه فى الإيوان خلعة الوزارة
وكتب عهده ولقّبه الملك الناصر. وقيل:
الذي لقّبه بالملك الناصر إنّما هو الخليفة المستضىء العباسىّ بعد ذلك.
ولمّا ولى الوزارة شرع الفقيه عيسى فى تفريق البعض عن بعض، وأصلح
الأمور لصلاح الدين، على ما يأتى فى ترجمة صلاح الدين بعد ذلك. وبذل
صلاح الدين الأموال وأحسن لجميع العسكر الشامىّ والمصرىّ فأحبّوه
وأطاعوه، وأقام نائبا عن نور الدين، يدعى لنور الدين على منابر مصر بعد
الخليفة العاضد، ولصلاح الدين بعدهما. واستمرّ صلاح الدين على ذلك
والخطبة للعاضد، وقد ضعف أمره وقوى أمر صلاح الدين، حتّى كانت أوّل سنة
سبع وستين وخمسمائة، فكتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره
بقطع الخطبة لبنى عبيد، وأن يخطب بمصر لبنى العبّاس. فخاف صلاح الدين
من أهل مصر ألّا يجيبوه ولم يسعه مخالفة أمر نور الدين، وقال: ربّما
وقعت فتنة لا تتدارك؛ فكتب الجواب إلى نور الدين يخبره بذلك، فلم يسمع
منه نور الدين وخشّن عليه فى القول، وألزمه إلزاما لا محيد عنه.
ومرض العاضد، فجمع صلاح الدين الأمراء والأعيان واستشارهم فى أمر نور
الدين بقطع الخطبة للعاضد والدعاء لبنى العبّاس، فمنهم من أجاب ومنهم
من امتنع؛ وقالوا: هذا باب فتنة وما يفوت ذلك، والجميع أمراء نور
الدين، فعاودوا نور الدين فلم يلتفت وأرسل إلى صلاح الدين يستحثّه فى
ذلك؛ فأقامها والعاضد مريض. واختلفوا فى الخطيب فقيل: إنّه رجل من
الأعاجم يسمّى الأمير العالم، وقيل: هو رجل من أهل بعلبكّ يقال له محمد
بن المحسّن بن أبى المضاء «2» البعلبكّىّ
(5/355)
المقدّم ذكره الذي توجّه فى الرسلية من قبل
صلاح الدين إلى بغداد، وقيل: إنّه كان رجلا شريفا عجميا، ورد من العراق
أيام الوزير الملك الصالح طلائع بن رزّيك.
قلت: فأشبه أمر الفاطميّين فى هذا الأمر أمر العباسيين لمّا انتقلت
الدعوة منهم إلى الفاطميّين بنى عبيد؛ فإنّه أوّل من خطب للمعزّ معدّ
أوّل خلفاء مصر من بنى عبيد الخطيب عمر بن عبد السميع العبّاسىّ الخطيب
بجامع عمرو وجامع أحمد ابن طولون، وهذا من باب المكافأة والمجازاة
(أعنى أنّ الذي خطب لبنى عبيد كان عبّاسيا والذي خطب لبنى العبّاس الآن
علوىّ) . انتهى أمر الفاطميّين. وأقيمت الخطبة لبنى العبّاس فى أوّل
المحرّم، والعاضد مريض، فأخفى عنه أهله ذلك؛ وقيل:
بلغه، فأرسل إلى صلاح الدين يستدعيه ليوصيه، فخاف أن يكون خديعة فلم
يتوجّه إليه.
ومات العاضد فى يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة، وانقضت دولة
الفاطميّين من مصر بموته. وندم صلاح الدين على قطع خطبته، وقال: ليتنى
صبرت حتّى يموت. ثمّ كتب صلاح الدين يخبر الملك العادل نور الدين
بإقامة الدعوة العبّاسيّة بمصر. فكتب نور الدين كتابا إلى بغداد من
إنشاء العماد الكاتب الأصبهانىّ، وفيه:
[الخفيف]
قد خطبنا للمستضىء بمصر ... نائب المصطفى إمام العصر
ولدينا تضاعفت نعم اللّ ... هـ وجلّت عن كلّ عدّ وحصر
واستنارت عزائم الملك العا ... دل نور الدين الهمام الأغرّ
هو فتح بكر ودون البرايا ... خصّنا الله بافتراع «1» البكر
(5/356)
وهى أطول من ذلك. وصفا الوقت لصلاح الدين
وسمى السلطان، وصار يخطب باسمه على منابر مصر بعد الخليفة العبّاسىّ
والملك العادل نور الدين محمود.
وكان ابتداء مرض العاضد من أواخر ذى الحجة سنة ست وستين وخمسمائة.
فلمّا كان رابع المحرّم سنة سبع وستين جلس العاضد فى قصره بعد الإرجاف
بأنّه أثخن فى مرضه، فشوهد وهو على ما حقّق الإرجاف من ضعف القوى
وتخاذل الأعضاء وظهور الحمّى. وقيل: إنّ الحمّى فشت بأعضائه، وأمسك
طبيبه المعروف بابن السديد «1» عن الحضور إليه، وامتنع من مداواته
وخدله، مساعدة عليه للزمان وميلا مع الأيام. ثم خطب فى سابع المحرّم
باسم الخليفة المستضىء بالله العبّاسىّ وصرّح باسمه ولقبه وكنيته بمصر،
حسب ما تقدم ذكره. فمات العاضد بعد ذلك بثلاثة أيام فى يوم الاثنين يوم
عاشوراء. وكان لموته بمصر يوم عظيم إلى الغاية، وعظم مصابه على
المصريّين إلى الغاية، ووجدوا عليه وجدا عظيما لا سيّما الرافضة؛ فإنّ
نفوسهم كادت تزهق حزنا لانقضاء دولة الرافضة من ديار مصر وأعمالها. وقد
تقدّم التعريف بأحوال العاضد فى أوّل ترجمته من عدة أقوال، فلا حاجة
لتكرار ذلك فى هذا المحل.
(5/357)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 556]
السنة الأولى من ولاية العاضد على مصر وهى سنة ستّ وخمسين وخمسمائة.
فيها توفى محمود بن نعمة الشيخ أبو الثناء الشّيرازىّ الشاعر المشهور.
كان أديبا فاضلا بارعا. ومن شعره يعارض قول ابن سكّرة فى قوله:
[البسيط]
جاء الشتاء وعندى من حوائجه ... سبع إذا القطر «1» عن حاجاتنا حبسا
كيس وكنّ وكانون وكأس طلا ... مع الكباب وكسّ ناعم وكسا
فقال الشّيرازىّ:
[الطويل]
يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وما هى إلّا فرد كاف بلا مرا
إذا صحّ كاف الكيس فالكلّ حاصل ... لديك «2» وكلّ الصيد يوجد فى الفرا
ولغيره فى المعنى:
[الوافر]
وكافات الشتاء تعدّ سبعا ... وما لى طاقة بلقاء سبع
إذا ظفرت بكاف الكيس كفى ... ظفرت بمفرد يأتى بجمع
وأمّا ما يشبه قول ابن سكّرة فكثير. من ذلك ما قاله ابن قزل:
[البسيط]
عجّل إلىّ فعندى سبعة كملت ... وليس فيها من اللّذات إعواز
طار وطبل وطنبور وطاس طلا ... وطفلة وطباهيج «3» وطنّاز «4»
(5/358)
قلت: لم يحك وفاته «1» الشنب. وأكثر
الصّفدىّ فى المعنى فقال:
[البسيط]
إن قدّر الله لى بالعمر واجتمعت ... سبع فما أنا فى اللّذات مغبون
قصر وقدر وقوّاد وقحبته ... وقهوة وقناديل وقانون
وله أيضا:
[الطويل]
ثمانية إن يسمح الدهر لى بها ... فمالى عليه بعد ذلك مطلوب
مقام ومشروب ومزج ومأكل ... وملهى ومشموم ومال ومحبوب
وللّسراج «2» الورّاق فى هذا المعنى أيضا- وهو عندى أقربهم لقول ابن
سكّرة-:
[البسيط]
عندى فديتك لذّات ثمانية ... أنفى بها الحزن إن وافى وإن وردا
راح وروح وريحان وريق رشا ... ورفرف ورياض ناعم وردا
ولغيره فى المعنى:
[البسيط]
إذا بلغت من الدّنيا ولذّتها ... سبعا فإنّى فى اللذات سلطان
خمر وخود وخاتون وخاتمها ... وخضرة وخلاعات وخلّان
وقد خرجنا عن المقصود فى الاستطراد فى معنى هذين البيتين. ولنعد لما
نحن بصدده.
وفيها كانت مقتلة وزير العاضد الملك الصالح طلائع بن رزّيك الأرمنىّ
أبى الغارات، أقام وزيرا سبع سنين. وقد تقدّم ذكر طلائع هذا فى ترجمة
جماعة من خلفاء مصر: الحافظ والفائز والعاضد، وكيف كان قدومه إلى مصر
وكيف قتل.
(5/359)
وكان ملكا جوادا ممدّحا شاعرا بليغا. ومن
شعره من جملة أبيات، وكان قد خرج من الحمّام فقال:
[الخفيف]
نحن فى غفلة ونوّم وللمو ... ت عيون يقظانة لا تنام
قد «1» دخلنا الحمّام عاما ودهرا ... ليت شعرى متى يكون الحمام
فقتل بعد قوله بثلاثة أيام. ومن شعره أيضا إلى صديق له بالشام:
[البسيط]
أحباب قلبى إن شطّ المزار بكم ... فأنتم فى صميم القلب سكّان
وإن رجعتم إلى الأوطان إنّ لكم ... صدورنا عوض الأوطان أوطان
جاورتم غيرنا لمّا نأت بكم ... دار وأنتم لنا بالودّ جيران
فكيف ننساكم يوما لبعدكم ... عنا وأشخصكم للعين إنسان
وفيها توفّى القاضى الأعزّ أبو البركات بن أبى جرادة، أخو القاضى ثقة
الملك الحسن بن علىّ بن أبى جرادة. كان أبو البركات هذا أمينا على
خزانة الملك العادل نور الدين الشهيد، وكان فاضلا بليغا. كتب إلى أخيه
بمصر قصيدة منها:
[الطويل]
أحباب قلبى والذين أودّهم ... وأشتاقهم فى كلّ صبح وغيهب
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى الإشارة «2» ، قال: وفيها توفّى أبو حكيم
إبراهيم بن دينار النّهروانىّ الحنبلىّ الزاهد. والملك الصالح طلائع بن
رزّيك الأرمنىّ الرافضىّ.
(5/360)
وأبو الفتح عبد الوهاب بن محمد بن الحسين
بن الصابونىّ الخفّاف. وأبو محمد محمد ابن أحمد بن عبد الكريم التميمىّ
بن المادح «1» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 557]
السنة الثانية من ولاية العاضد على مصر وهى سنة سبع وخمسين وخمسمائة.
فيها توفّى الحسين بن علىّ بن القاسم بن المظفّر قاضى القضاة أبو علىّ
الشّهرزورىّ قاضى الموصل. كان عظيم الشأن عالما فاضلا عفيفا، رحمه
الله.
وفيها توفّى الشيخ الصالح الزاهد عدىّ بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن
مروان ابن الحسن بن مروان بن الحكم بن مروان، القدوة شرف الدين أبو
الفضائل الأموىّ الهكّارىّ، استوطن ليلش «2» من جبل الهكّاريّة «3» إلى
أن مات بها فى سنة ثمان «4» ، وقيل سنة سبع وخمسين وخمسمائة، ودفن
بزاويته؛ وقبره بها ظاهر يزار. وكان فقيها عالما عابدا فصيحا متواضعا
حسن الأخلاق مع كثرة الهيبة والوقار، وهو أحد كبار
(5/361)
مشايخ الطريقة، وأحد العلماء الأعلام فيها.
سلك فى المجاهدة طريقا صعبا بعيدا.
وكان القطب محيى الدين عبد القادر ينوّه بذكره ويثنى عليه كثيرا، وشهد
له بالسلطنة (يعنى على الأولياء) ، وقال: لو كانت النبوّة تنال
بالمجاهدة لنا لها الشيخ عدىّ ابن مسافر. وكان فى أوّل أمره فى الجبال
والصحارى مجرّدا يأخذ نفسه بأنواع المجاهدات مدّة سنين، وكانت الحيّات
والسباع تألفه، ثم عاد وسكن بزاويته.
وتلمذ له خلق كثير من الأولياء، وتخرّج بصحبته غير واحد من ذوى
الأحوال.
وكان له كلام على لسان أهل الطريقة فى توحيد البارئ عظيم. ومناقبه
كثيرة يضيق هذا المحلّ عن استيعابها، رحمه الله.
الذي ذكرهم الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو يعلى
حمزة بن أحمد [بن فارس «1» ] بن كروّس السلمىّ الدمشقىّ. والشيخ عدىّ
بن مسافر الهكّارىّ الزاهد العارف، يوم عاشوراء. وأبو المظفّر هبة الله
بن أحمد الشّبلىّ القصّار فى سلخ العام.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 558]
السنة الثالثة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
فيها سار الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى المعروف بالشهيد إلى
قتال قليج «2» أرسلان ابن السلطان مسعود صاحب بلاد الروم، ووقع له معه
أمور وحروب.
(5/362)
وفيها ظهر شاور بن مجير السعدىّ وجمع جمعا
كثيرا وقتل وزير العاضد صاحب الترجمة رزّيك بن طلائع بن رزّيك، وتولّى
الوزارة عوضه.
وفيها توفّى عبد المؤمن بن علىّ أبو محمد القيسىّ الكومىّ الذي قام
بأمره محمد بن تومرت المعروف بالمهدىّ. قال ابن خلّكان: رأيت فى بعض
تواريخ الغرب أن ابن تومرت كان قد ظفر بكتاب يقال له الجفر، وفيه ما
يكون على يده. فأقام ابن تومرت مدّه يتطلّبه حتى وجده وصحبه وهو إذ ذاك
غلام، وكان يتفرّس فيه النجابة، وينشد إذا أبصره:
[البسيط]
تكاملت فيك أوصاف خصصت بها ... فكلّنا بك مسرور ومغتبط
السنّ ضاحكة والكفّ مانحة ... والنفس واسعة والوجه منبسط
وكان يقول ابن تومرت لأصحابه: صاحبكم هذا غلّاب الدّول. ولم يصح عنه
أنّه استخلفه، بل راعى أصحابه فى تقديمه [إشارته «1» ] ، فتمّ له
الأمر. وأوّل ما أخذ من البلاد وهران ثم تلمسان ثم فاس ثم مرّاكش بعد
أن حاصرها أحد عشر شهرا، وذلك فى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، واستوثق
له الأمر وامتدّ ملكه إلى الغرب الأقصى والأدنى وبلاد إفريقيّة، وتسمّى
أمير المؤمنين. وقصدته الشعراء وامتدحته.
ذكر العماد الكاتب الأصبهانىّ فى «كتاب الخريدة» أنّ الفقيه أبا عبد
الله محمد بن أبى العبّاس لمّا أنشده:
[البسيط]
ما هزّ عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن على
أشار إليه بأن يقتصر على هذا البيت، وأمر له بألف دينار. وكانت وفاة
عبد المؤمن المذكور فى العشر الأخير من جمادى الآخرة، وكانت مدّة
ولايته ثلاثا وثلاثين سنة
(5/363)
وأشهرا. والكومىّ المنسوب إليها هى كومية
«1» قبيلة صغيرة نازلة بساحل البحر من أعمال تلمسان.
وفيها توفّى محمد بن عبد الكريم أبو عبد الله سديد الدولة بن الأنبارى
كاتب الإنشاء بديوان الخليفة. أقام كاتبا به نيّفا وخمسين سنة، وناب فى
الوزارة. وكان بينه وبين الحريرىّ صاحب المقامات مكاتبات ومراسلات.
وفيها توفّى يحيى بن سعيد النصرانىّ البغدادىّ أوحد زمانه فى الطّبّ
والأدب، له ستون مقامة ضاهى بها مقامات الحريرىّ، وله شعر جيّد. من ذلك
فى الشيب:
[الخفيف]
نفرت هند من طلائع شيبى ... واعترتها سآمة من وجوم
هكذا عادة الشياطين ينفر ... ن إذا ما بدت رجوم النجوم
الذين ذكرهم الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة؛ قال: وفيها توفّى الزاهد أبو
العبّاس أحمد بن محمد بن قدامة. وأبو منصور شهردار بن شيرويه الديلمىّ
بهمذان. وصاحب الغرب عبد المؤمن بن علىّ بن علوىّ القيسىّ التلمسانىّ
فى جمادى الآخرة بمدينة سلا «2» .
والصاحب جمال الدين محمد بن علىّ الأصبهانىّ الملقّب بالجواد وزير
الموصل.
أمر النيل فى هذه السنة الماء القديم خمس أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
(5/364)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 559]
السنة الرابعة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
فيها توفّى الحسن بن محمد بن الحسن الشيخ أبو المعالى الوزكانىّ الفقيه
الشافعىّ- ووركان: بلد بنواحى قاشان- كان إماما فى فنون العلوم، عاش
نيّفا وثمانين سنة.
وفيها توفّى محمد «1» بن علىّ بن [أبى «2» ] المنصور الوزير أبو جعفر
جمال الدين الأصبهانىّ وزير الأتابك زنكى وسيف الدين غازى وقطب الدين
مودود، وكان هو الحاكم على الدولة. وكان بينه وبين زين الدين كوجك
مصافاة وعهود ومواثيق.
وكانت الموصل فى أيامه ملجأ لكلّ ملهوف. ولم يكن فى زمانه من يضاهيه
ولا يقاربه فى الجود والنّوال؛ وكان كثير الصّلات والصدقات، بنى مسجد
الخيف بمنى وغرم عليه أموالا عظيمة، وجدّد الحجر إلى جانب الكعبة،
وزخرف البيت بالذهب، وبنى أبواب الحرم وشيّدها ورفع أعتابها صيانة
للحرم؛ وبنى المسجد الذي على عرفة والدرج الذي فيها، وأجرى الماء إلى
عرفات، وعمل البرك والمصانع؛ وبنى على مدينة النّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم سورا، وكانت الأعراب تنهبها، وكان الخطيب يقول على المنبر:
اللهمّ «3» صن من صان حرم حريم نبيّك محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت
صدقاته تسير إلى المشرق والمغرب، رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علىّ بن عيسى الموصلىّ
المعروف بابن الدهّان وبالحمصىّ أيضا، الفقيه الشافعى المنعوت بالمهذّب
الشاعر المشهور.
(5/365)
كان فصيحا فقيها فاضلا أديبا شاعرا، غلب
عليه الشعر واشتهر به، وله ديوان صغير وكلّه جيّد، ورحل البلاد ومدح
بمصر الوزير الصالح طلائع بن رزّيك وغيره. ومن شعره فى غلام لسبته نحلة
فى شفته:
[الرمل]
بأبى من لسبته نحلة ... آلمت أكرم شىء وأجلّ
أثّرت لسبتها فى شفة ... ما براها الله إلّا للقبل
حسبت أنّ بفيه بيتها ... إذ رأت ريقته مثل العسل
ومن شعره أيضا:
[الكامل]
قالوا سلا، صدقوا، عن السّ ... لّوان ليس عن الحبيب
قالوا فلم ترك الزيا ... رة قلت من خوف الرقيب
قالوا فكيف يعيش مع ... هذا فقلت من العجيب
الذين ذكرهم الذهبىّ [وفاتهم] فى هذه السنة، قال: فيها توفّى أبو سعد
«1» عبد الوهاب بن الحسن الكرمانىّ آخر من روى عن ابن خلف وغيره.
والسيد أبو الحسن علىّ بن حمزة العلوىّ الموسوىّ بهراة، وكان مسندها
وله إحدى وتسعون سنة. وأبو الخير محمد بن أحمد بن محمد الباغبان «2» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وثمانى أصابع. مبلغ
الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وعشر أصابع. وزاد بعد طلوع السّماك «3» بعدّة
أيام.
(5/366)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 560]
السنة الخامسة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة ستين وخمسمائة.
فيها فتح الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى الشهيد بانياس عنوة،
وكان معه أخوه نصرة «1» الدين، فأصابه سهم فأذهب إحدى عينيه؛ فقال له
أخوه نور الدين:
لو كشف عما أعدّ لك من الأجر لتمنّيت ذهاب الأخرى، فحمد الله على ذلك.
وفيها فوّض الملك العادل شحنجية «2» دمشق إلى صلاح الدين يوسف بن أيوب،
فأظهر صلاح الدين السياسة وهذّب الأمور، وذلك فى حياة والده وعمّه أسد
الدين شيركوه.
وفيها توفّى أمير أميران نصرة الدين بن زنكى بن آق سنقر التركىّ أخو
الملك العادل نور الدين المقدّم ذكره فى ذهاب عينه فى فتح بانياس. وكان
أميرا شجاعا مقداما عزيزا على أخيه نور الدين محمود، وعظم مصابه عليه؛
رحمه الله.
وفيها توفّى حسّان بن تميم بن نصر الشيخ أبو الندى الدمشقىّ المحدّث،
سمع الحديث وحجّ ومات فى شهر رجب، ودفن بمقبرة باب الفراديس.
وفيها توفّى الشيخ المعتقد محمد بن إبراهيم الكيزانىّ «3» أبو عبد الله
الواعظ المصرىّ.
قيل إنه كان يقول: إنّ أفعال العباد قديمة. ولمّا مات دفن عند قبر
الإمام الشافعىّ بالقرافة الصغرى، واستمرّ هناك إلى أن نبشه الشيخ نجم
الدين الخبوشانىّ فى أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وأخرجه،
فدفن بمكان آخر فى القرافة.
(5/367)
وقبره معروف يقصد للزيارة. قيل إنّ
الخبوشانىّ لمّا أراد نبشه قال: لا يتّفق مجاورة زنديق إلى صدّيق. ثم
نبشه قال صاحب المرآة وغيره: كان (يعنى الكيزانىّ) زاهدا عابدا قنوعا
من الدنيا باليسير. وله شعر جيّد، وديوانه مشهور. ومن شعره:
[الرمل]
اصرفوا عنّى طبيبى ... ودعونى وحبيبى
عللّوا قلبى بذكرا ... هـ فقد زاد لهيبى
طاب هتكى فى هواه ... بين واش ورقيب
ما أبالى بفوات النّ ... فس ما دام نصيبى
ليس من لام وإن أط ... نب فيه بمصيب (1)
جسدى راض بسقمى ... وجفونى بنحيبى
ومن شعره أيضا قوله من أبيات:
[الكامل]
يا من يتيه على الزمان بحسنه ... اعطف على الصّبّ المشوق التائه
أضحى يخاف على احتراق فؤاده ... أسفا لأنّك منه فى سودائه
قلت: وللكيزانىّ كلام فى علم الطريق ولسان حلو فى الوعظ، وكان للناس
فيه محبّة ولكلامه تأثير فى القلوب؛ ولا يلتفت لقول الخبوشانىّ فيه؛
لأنّهما أهل عصر واحد، وتهوّر الخبوشانىّ معروف، كما سيأتى ذكره فى
وفاته إن شاء الله تعالى.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن عبّاس الشيخ أبو عبد الله الحرّانىّ.
كان شهد عند القاضى أبى الحسن الدامغانىّ الحنفىّ، وعاش حتّى لم يبق من
شهوده غيره. وسمع الحديث، وصنّف كتابا سمّاه «روض الأدباء» . قال
الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن
(5/368)
ابن الجوزىّ فى تاريخه: زرته يوما وأطلت
الجلوس عنده؛ فقلت له: ثقّلت عليك. فأنشدتى- رحمه الله-:
[الوافر]
لئن سمّيت «1» إبراما وثقلا ... زيارات رفعت بهنّ قدرى
فما أبرمت إلّا حبل ودّى ... ولا ثقّلت إلّا ظهر شكرى
وكانت وفاته فى جمادى الاخرة.
وفيها توفّى يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد «2» بن حسن الشيبانىّ- قد
رفع نسبه صاحب مرآة الزمان إلى عدنان- هو الوزير عون الدين أبو المظفّر
بن هبيرة.
ولد سنة تسع وتسعين وأربعمائة بقرية الدّور «3» من أعمال العراق، وقرأ
بالروايات وسمع الحديث الكثير، وقرأ النحو واللغة والعروض، وتفقّه على
مذهب الإمام أحمد ابن حنبل رضى الله عنه، وصنّف الكتب الحسان. وكان قبل
وزارته فقيرا؛ فلما أضرّ الفقر بحاله تعرّض للخدمة، فجعله الخليفة
المقتفى مشرفا فى المخزن، ثم صار صاحب الديوان ثم استوزره، فسار فى
الوزارة أجمل سيرة. وكان دينّا جوادا كريما. دخل عليه الحيص بيص الشاعر
مرّة؛ فقال له ابن هبيرة: قد نظمت بيتين، تقدر أن تعزّزهما بثالث؟ قال:
وما هما؟ قال:
[البسيط]
زار الخيال بخيلا مثل مرسله ... ما شاقنى منه إلّا الضّمّ والقبل
ما زارنى قطّ إلّا كى يوافقنى ... على الرّقاد فينفيه ويرتحل
فقال الحيص بيص من غير رويّة:
وما درى أنّ نومى حيلة نصبت ... لوصله حين أعيا اليقظة الحيل
(5/369)
فأعجبه وأجازه. وكانت وفاة ابن هبيرة فى
جمادى الأولى فجأة، وله إحدى وستون سنة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العبّاس
أحمد ابن عبد الله [بن أحمد «1» بن هشام] بن الحطيئة الفاسىّ الناسخ
المقرئ بمصر.
وأبو النّدى حسّان بن تميم الزيّات. والوزير أبو المظفّر سعيد بن سهل
الفلكىّ فى شوّال. وأبو الحسن «2» علىّ بن أحمد اللّبّاد بأصبهان.
وعلىّ بن أحمد بن مقاتل السّوسىّ الشّاغورىّ «3» . وأبو القاسم عمر بن
محمد بن البزرىّ الشافعىّ فقيه الجزيرة.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن العبّاس الحرّانىّ العدل ببغداد.
والقاضى أبو يعلى الصغير شيخ الحنابلة محمد بن أبى خازم ابن القاضى أبى
يعلى بن الفرّاء. والشريف أبو طالب «4» محمد بن محمد بن أبى زيد
العلوىّ البصرىّ النقيب. والوزير عون الدّين يحيى بن محمد بن هبيرة
الشيبانىّ فى جمادى الأولى فجأة وله إحدى وستون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 561]
السنة السادسة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة إحدى وستين وخمسمائة.
(5/370)
فيها هرب عزّ الدين محمد بن الوزير عون
الدّين بن هبيرة من دار الخلافة، وكان صودر بعد موت والده.
وفيها توفّى عبد العزيز بن الحسين بن الحبّاب أبو المعالى القاضى
الجليس السعدىّ، كان يجالس خلفاء مصر من بنى عبيد فسمّى الجليس. وكان
أديبا مترسّلا شاعرا. ومن شعره وأبدع:
[الطويل]
ومن عجيب أنّ الصوارم فى الوغى ... تحيض بأيدى القوم وهى ذكور
وأعجب من ذا أنّها فى أكفّهم ... تأجّج نارا والأكفّ بحور
وفيها توفّى شيخ الإسلام تاج العارفين محيى الدين أبو محمد عبد القادر
بن أبى صالح موسى بن عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى
بن عبد الله ابن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن أبى محمد
المثنّى بن الحسن بن علىّ ابن أبى طالب الهاشمىّ القرشىّ العلوىّ
الجيلىّ الحنبلىّ السيد الشريف الصالح المشهور المعروف بسبط أبى عبد
الله الصّومعىّ الزاهد. وكان يعرف بجيلان «1» . وأمّه أمّ الخير أمة
الجبّار فاطمة بنت أبى عبد الله الصّومعىّ. مولده بجيلان فى سنة إحدى
وسبعين وأربعمائة. كان شيخ العراق صاحب حال ومقال، عالما عاملا قطب
الوجود، إمام أهل الطريقة، قدوة المشايخ فى زمانه بلا مدافعة. ومناقبه
وشهرته أشهر من أن تذكر. كان ممّن جمع بين العلم والعمل، أفتى ودرّس
ووعظ سنين، ونظم ونثر؛ وكان محقّقا، صاحب لسان فى التحقيق، وبيان فى
الطريق. وهو أحد المشايخ الذين طنّ ذكرهم فى الشرق والغرب. أعاد الله
علينا من بركاته وبركات أسلافه الطاهرين.
(5/371)
وفيها توفّى محمد بن حيدر بن عبد الله
الشيخ أبو طاهر البغدادىّ الأديب الشاعر المعروف بابن شعبان. ومن شعره
من أوّل قصيدة:
[الطويل]
خليلىّ هذا آخر العهد منكما ... ومنّى فهل من موعذ نستجدّه
وفيها توفّى محمد بن يحيى بن محمد بن هبيرة أبو عبد الله عزّ الدّين
ابن الوزير عون الدين. كان فاضلا كبير الشأن عظيم القدر. ناب عن أبيه
فى الوزارة مدّة، ثم قبض عليه بعد موت أبيه وصودر وحبس، ثم هرب من
محبسه خوفا على نفسه فلم يستتر أمره؛ وأخذ وقتل خنقا. وكان من بيت علم
وفضل ورياسة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو طاهر
إبراهيم ابن الحسن بن الحصين الشافعىّ بدمشق. وأبو عبد الله الحسن بن
العبّاس الرّستمىّ الشافعىّ فى صفر وله ثلاث وتسعون سنة. وأبو محمد عبد
الله بن رفاعة بن غدير السّعدىّ الفرضىّ فى ذى القعدة وله أربع وتسعون
سنة. والحافظ أبو محمد عبد الله ابن محمد الأشيرىّ- وأشير «1» : بين
حمص وبعلبكّ- وأبو طالب عبد الرحمن بن الحسن بن العجمىّ بحلب. والقدوة
الشيخ عبد القادر الجيلى شيخ العراق وله تسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وإحدى عشرة إصبعا. مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
(5/372)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 562]
السنة السابعة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة اثنتين وستين وخمسمائة.
فيها تزوّج الخليفة المستنجد بالله بابنة عمّه أبى نصر بن المستظهر،
ودخل بها فى شهر رجب ليلة الدعوة التى كان يعملها فى كلّ سنة للصوفيّة
وغيرهم؛ وغنّى المغنّى:
[الطويل]
يقول رجال الحىّ تطمع أن ترى ... محاسن ليلى مت بداء المطامع
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهّرتها بالمدامع
وتلتذّ منها بالحديث وقد جرى ... حديث سواها فى خروق المسامع
وكان مع الصوفية رجل من أهل أصبهان، فقام قائما وجعل يقول للمغنّى:
«أى خواجا كفت «1» » وهو يكرّر ذلك، والمغنّى يعيد الأبيات حتى وقع
الرجل ميتا؛ فصار ذلك الفرح مأتما؛ وبكى الخليفة والصوفيّة ولا زالوا
يتراقصون حوله إلى الصباح، فحملوه إلى الشّونيزيّة فدفنوه بها، وكان له
مشهد عظيم.
وفيها عاد الأمير أسد الدين شيركوه بعساكر دمشق إلى مصر، وهى المرّة
الثانية. وقد تقدّم ذلك كلّه فى ترجمة العاضد.
وفيها احترقت اللّبّادون «2» وباب الساعات بدمشق حريقا عظيما صار
تاريخا.
وسببه أنّ بعض الطبّاخين أو قد نارا عظيمة تحت قدر هريسة ونام، فاحترقت
دكّانه ولعبت النار فى اللّبّادين وغيرها إلى أن عظم الأمر.
وفيها توفّى أحمد بن علىّ بن الزّبير القاضى الرشيد. كان أصله من أسوان
وسكن مصر، وكان من شعراء شاور بن مجير السّعدىّ، وله فيه مدائح، إلّا
أنّه لم ينج من شرّ
(5/373)
شاور، اتّهمه بمكاتبة أسد الدين شيركوه
فقتله. وكان فاضلا شاعرا، وله التصانيف المفيدة، من ذلك كتاب «جنّات
«1» الحنان ورياض الأذهان» ذيّل به على اليتيمة.
ومن شعره:
[الطويل]
تواطا على ظلمى الأنام بأسرهم ... وأظلم من لاقيت أهلى وجيرانى
لكل امرئ شيطان جنّ يكيده ... بسوء ولى دون الورى ألف شيطان
وفيها توفّى يحيى بن عبد الله بن القاسم القاضى تاج الدين الشّهرز
ورىّ. كان إماما فاضلا شاعرا فصيحا، مات بالموصل. ومن شعره يوازن «2»
قصيدة مهيار التى يقول فيها:
[المتقارب]
وعطّل «3» كئوسك إلّا الكبار ... تجد للصغار أناسا صغارا
وفيها توفّى محمد بن الحسن [بن محمد «4» ] بن على العلّامة أبو المعالى
بن حمدون الكاتب، الملقّب كافى الكفاة، بهاء الدين البغدادىّ. كان
فاضلا ذا معرفة تامّة بالأدب والكتابة من بيت مشهور بالرياسة والفضل هو
وأبوه وأخواه أبو نصر وأبو المظفّر. وأبو المعالى هذا هو مصنّف كتاب
«التذكرة «5» » وهو من أحسن التصانيف، يشتمل على التاريخ
(5/374)
والأدب والأشعار، وقفت عليه وهو فى غاية
الحسن. وكان ابن حمدون المذكور صاحب ديوان الخليفة المستنجد العباسىّ،
وروى عن المستنجد قول أبى حفص «1» الشّطرنجىّ فى جارية حولاء، وهو:
[الطويل]
حمدت إلهى إذ بليت بحبّها ... وبى «2» حول يغنى عن النظر الشّزر
نظرت إليها والرقيب يخالنى ... نظرت إليه فاسترحت من العذر
وقال ابن خلّكان: إنّه توفّى ببغداد فى يوم الأربعاء من شهر رجب سنة
خمس «3» وسبعين وخمسمائة، بخلاف ما ذكرناه من قول أبى المظفّر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: فيها توفّى أبو البركات
الخضر ابن شبل بن الحسين «4» بن عبد الواحد خطيب دمشق. والحافظ أبو سعد
«5» عبد الكريم [بن محمد «6» ] بن منصور التميمىّ السّمعانىّ تاج»
الإسلام محدّث خراسان فى شهر ربيع الأوّل وله ست وخمسون سنة. وأبو
عروبة عبد الهادى بن محمد بن عبد الله بن عمر بن مأمون السجستانىّ
الزاهد. وجمال الأئمة بن الماسح أبو القاسم علىّ بن الحسن الكلابىّ
الدمشقىّ فى ذى الحجّة. وأبو الحسن علىّ بن مهدىّ بن
(5/375)
الهلال الطبيب. والعلّامة أبو شجاع عمر بن
محمد البسطامىّ ثم البلخىّ. وأبو عاصم قيس بن محمد السّويقىّ المؤذّن.
وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن ثابت المصرىّ الكيزانىّ «1» الواعظ
فى المحرّم. وأبو المعالى محمد بن محمد بن محمد فى شهر ربيع الآخر.
والمبارك بن المبارك بن صدقة السمسار. وأبو طالب المبارك بن خضير
الصيرفىّ.
وأبو الفرج مسعود بن الحسن الثقفىّ فى رجب وله مائة سنة. وأبو القاسم
هبة الله ابن الحسن الدقّاق «2» فى المحرّم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 563]
السنة الثامنة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة ثلاث وستين وخمسمائة.
فيها أبيع الورد ببغداد مائة رطل بقيراط وحبّة.
وفيها زاد ظلم أبى جعفر بن البلدىّ وزير الخليفة، واستغاث أهل بغداد
منه.
وفيها توفّى ظافر بن القاسم الأديب أبو منصور الجذامىّ الإسكندرىّ
المعروف بالحدّاد الشاعر المشهور. كان فصيحا فاضلا بليغا. وشعره فى
غاية الحسن. وهو صاحب القصيدة الذالية التى أوّلها:
[الكامل]
لو كان بالصبر الجميل ملاذه ... ما سحّ وابل دمعه ورذاذه
ما زال جيش الحبّ يغزو قلبه ... حتّى وهى وتقطّعت أفلاذه
لم يبق فيه من الغرام بقيّة ... إلّا رسيس يحتويه جذاذه
(5/376)
من كان يرغب فى السلامة فليكن ... أبدا من
الحدق المراض عياذه
لا تخدعنّك بالفتور فإنّه ... نظر يضرّ بقلبك استلذاذه
يأيّها الرّشأ الذي من طرفه ... سهم إلى حبّ القلوب نفاذه
درّ يلوح بفيك من نظّامه ... خمر يجول عليه من نبّاذه
وقناة ذاك القدّ كيف تقوّمت ... وسنان ذاك اللّحظ ما فولاذه
رفقا بجسمك لا يذوب فإنّنى ... أخشى بأن يجفو عليه لاذه «1»
هاروت يعجز عن مواقع سحره ... وهو الإمام فمن ترى أستاذه
تالله ما علقت محاسنك امرأ ... إلّا وعزّ على الورى استنقاذه
أغربت حبّك بالقلوب فأذعنت ... طوعا وقد أودى بها استحواذه
مالى أتيت الحبّ «2» من أبوابه ... جهدى فدام نفاره ولواذه
إيّاك من طمع المنى فعزيزه ... كذليله وغنّيه شحّاذه
ومنها:
دالّية ابن دربد استهوى بها ... قوما غداة نبت به بغداذه
دانوا لزخرف قوله فتفرّقت ... طمعا بهم صرعاه أو جذاذه
ويحكى أنّ ابن ظفر أمير الإسكندريّة أحضره مرّة ليبرد له خاتما قد ضاق
فى خنصره؛ فقال ظافر المذكور:
[السريع]
قصّر عن أوصافك العالم ... فاعترف «3» الناثر والناظم
من يكن البحر له راحة ... يضيق عن خنصره الخاتم
(5/377)
وكانت وفاته فى هذه السنة. وقال ابن
خلّكان: فى سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
وفيها توفّى عبد الكريم «1» بن محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبّار
الإمام الحافظ أبو سعيد بن السّمعانىّ «2» التميمىّ، مولده بمرو. وكان
إماما فاضلا محدّثا فقيها. ذيّل على تاريخ أبى بكر الخطيب، ورحل إلى
دمشق. قال ابن عساكر: ثمّ عاد من دمشق إلى بغداد فسمّع تاريخ الخطيب
وذيّله، وعاد إلى خراسان وعبر النهر «3» ، وحدّث ببلخ وهراة. وصنّف
كتابا سماه «فرط الغرام إلى ساكنى الشام» وأرسل به إلى دمشق وهو بخطّه
فى ثمانية أجزاء تشتمل على أخبار وحكايات. ومات بمرو فى شهر ربيع
الأوّل.
وفيها توفّى الأمير زين الدّين علىّ بن بكتكين بن مظفّر الدّين كوكبورى
«4» ، المعروف كوجك «5» ، التركىّ. كان حاكما على الموصل وغيرها، وكان
حسن السّيرة عادلا فى الرعيّة.
وكان أوّلا بخيلا مسيكا، ثمّ إنّه جاد فى آخر عمره، وبنى المدارس
والقناطر والجسور.
وحكى أنّ بعض الجند جاءه بذنب فرس وقال له: مات فرسى، فأغطاه عوضه؛
وأخذ ذلك الذنب آخر وجاءه به وقال له: مات فرسى، فأعطاه عوضه؛ ولا زال
يتداول الذنب اثنا عشر رجلا، وهو يعلم أنّه الأوّل ويعطيهم الخيل.
فلمّا أعجزوه أنشد:
[الكامل]
ليس الغبىّ بسيّد فى قومه ... لكنّ سيّد قومه المتغابى
فعلموا أنّه علم فتركوه. ولما كبر سنّه سلّم البلاد إلى قطب الدين
مودود، وقال له:.
إنّك لا تنتفع بى، فقد كبرت وضعفت قوّتى وخاننى سمعى وبصرى. وكان
الأتابك
(5/378)
زنكى قد أعطاه إربل «1» ، فمضى إليها وأقام
بها حتّى مات فى ذى الحجّة. وكانت أيّامه على الموصل إحدى وعشرين سنة
ونصفا. وملك بعده ابنه زين الدّين يوسف ابن علىّ بن مظفّر الدّين
كوكبورى.
وفيها توفّى محمد بن عبد «2» الحميد أبو الفتح علاء الدّين الرازىّ «3»
السّمرقندىّ صاحب «التعليقة» و «المعترض والمختلف» على مذهب الإمام
الأعظم أبى حنيفة، رضى الله عنه. وكان إماما بارعا مفتنّا، كان من
فرسان الكلام؛ قدم بغداد وناظر وبرع وفاق أهلها. وكان شحيحا بكلامه؛
فكانوا يوردون عليه أسئلة وهو عالم بأخوبتها، فيكاد ينقطع ولا يذكرها
لشحّه ولئلّا تستفاد منه؛ وعلم ذلك منه علماء عصره. وقيل: إنّه تنسّك
وترك المناظرة مع شهادة أهل عصره من العلماء له بالسّبق والفضيلة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو المعالى
أحمد ابن عبد الغنى الباجسرائىّ «4» . والقاضى الرشيد أبو الحسين «5»
[أحمد بن] علىّ بن الزّبير الأسوانى الكاتب بمصر. وأبو المظفّر أحمد بن
محمد بن علىّ الكاغدىّ فى رجب ببغداد. وأبو بكر أحمد بن المقرّب
الكرخىّ فى ذى الحجّة. وأبو المناقب حيدرة بن عمر بن إبراهيم العلوىّ
الزّيدىّ فى ذى الحجّة بالكوفة. وأبو طاهر الخضر بن الفضل
(5/379)
الصّفّار، ويعرف بزحل، فى جمادى الأولى،
وله إجازة عالية. وأبو الفضل شاكر ابن علىّ الأسوارىّ «1» . وأبو محمد
عبد الله بن علىّ الطّامذىّ «2» المقرئ بأصبهان فى شعبان. والشيخ
العلّامة أبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله السهروردىّ «3» عن ثلاث
وسبعين سنة. وأبو الحسن علىّ بن عبد الرحمن الطّوسىّ بن تاج القرّاء.
وعمرو بن سمّان البغدادىّ. وأبو الحسن محمد بن إسحاق بن محمد بن
الصابئ.
والشريف الخطيب أبو الفتوح ناصر بن الحسن «4» الحسينىّ المقرئ بمصر.
وأبو بكر محمد ابن علىّ [بن عبد الله «5» ] بن ياسر الجيّانىّ «6»
الأندلسىّ. ونفيسة بنت محمد بن علىّ البزّازة «7» .
والصائن هبة الله بن الحسن بن هبة الله بن عساكر فى شعبان وله خمس
وسبعون سنة. وأبو المظفّر هبة الله بن عبد الله بن أحمد بن
السّمرقندىّ. وأبو الغنائم هبة الله بن محفوظ بن صصرى. ومدرّس
النّظاميّة أبو الحسن يوسف بن عبد الله ابن بندار الدمشقىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
(5/380)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 564]
السنة التاسعة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة أربع وستين وخمسمائة.
فيها ملك السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى الشّهيد قلعة
جعبر «1» من صاحبها «2» ابن مالك العقيلىّ.
وفيها قدم أسد الدين شيركوه إلى الديار المصريّة ومعه ابن أخيه صلاح
الدين يوسف بن أيّوب لقتال الفرنج. وهذه قدمته إلى مصر الثالثة التى
ملك فيها مصر، حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمة العاضد: من قتله لشاور،
وتوليته الوزر للعاضد، ووفاته بديار مصر، وتولية صلاح الدين يوسف بعده.
وفيها توفّى حميد بن مالك بن مغيث بن نصر بن منقذ الأمير أبو الغنائم
الكنانىّ.
مولده بشيزر «3» ، ثمّ انتقل منها وسكن دمشق، ثم رحل إلى حلب ومات بها
فى شعبان.
وكان أديبا فاضلا شاعرا.
وفيها توفّى عبد الخالق بن أسد بن ثابت الإمام أبو محمد الدّمشقىّ
الحنفىّ. كان فقيها مفتنّا عارفا بالحديث وفنون العلوم، ودرس
بالصادريّة «4» بدمشق ومات بها.
ومن شعره:
[الكامل]
قال العواذل ما اسم من ... أضنى فؤادك قلت أحمد
قالوا أتحمده وقد ... أضنى فؤادك قلت أحمد
الذي ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الأمير مجير
الدّين [آبق «5» بن محمد] بن بورى بن طغتكين الذي أخذ منه نور الدين
دمشق، ثم صار
(5/381)
أميرا ببغداد. والملك أبو شجاع شاور بن مجير بن نزار السعدىّ، وزير
العاضد، قتله جرديك النّورىّ. والملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادى
فجأة بعد شاور بشهرين. وأبو محمد عبد الخالق بن أسد الحنفىّ الحافظ فى
المحرّم. وأبو الحسن علىّ ابن محمد بن علىّ البلنسىّ «1» المقرئ فى رجب
وله أربع وتسعون سنة. وقاضى القضاة زكىّ الدّين علىّ بن المنتخب [محمد
بن «2» ] يحيى القرشىّ الدمشقىّ فى شوّال غريبا ببغداد وله سبع وخمسون
سنة. وأبو الفتح محمد بن عبد الباقى بن البطّىّ الحاجب مسند العراق فى
جمادى الأولى وله سبع وثمانون سنة. والحافظ أبو أحمد معمر ابن عبد
الواحد القرشىّ بن الفاخر الأصبهانىّ فى ذى القعدة بطريق الحجاز وله
سبعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثمانى أصابع. مبلغ
الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا. |