النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 565]
السنة العاشرة من ولاية العاضد على مصر، وقد وزر له الملك الناصر صلاح
الدّين يوسف بن أيّوب، ولم يكن له مع صلاح الدين إلّا مجرّد الاسم فقط،
وهى سنة خمس وستين وخمسمائة.
فيها نزل الفرنج على دمياط يوم الجمعة فى ثالث صفر، وجدّوا فى القتال،
وأقاموا عليها ثلاثة وخمسين يوما يحاصرونها ليلا ونهارا. ونذكر هذه
الواقعة بأوسع من هذا فى أوّل ترجمة صلاح الدّين إن شاء الله.
(5/382)
وفيها توفّى حمّاد بن منصور البزاعىّ «1»
الحلبىّ ويعرف بالخرّاط. كان أديبا شاعرا فصيحا. ومن شعره فى كريم:
[الخفيف]
ما «2» نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير وقت سخاء
فنوال الأمير بدرة مال ... ونوال الغمام قطرة ماء
قلت: ومن الغاية فى هذا المعنى قول الشيخ علاء الدين علىّ الوداعىّ «3»
.
[البسيط]
من زار بابك لم تبرح جوارحه ... تروى أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرّة والكفّ عن صلة ... والقلب عن جابر والسمع عن حسن
وفيها توفّى محمد بن إبراهيم بن هانىء أبو القاسم المغربىّ. كان من
شعراء الخلفاء الفاطميّين. ومن شعره من أوّل قصيدة مدح بها بعض خلفاء
مصر:
[الرمل]
امسحوا عن ناظرى كخل السّهاد ... وانفضوا عن مضجعى شوك القتاد
أو خذوا منّى الذي أبقيتم ... ما أحبّ الجسم مسلوب الفؤاد
وفيها توفّى مودود بن زنكى بن آق سنقر الملك قطب الدّين صاحب الموصل
وأخو السلطان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد. ولمّا احتضر مودود
هذا
(5/383)
أوصى بالملك لولده عماد الدين زنكى، وكان
أكبرهم «1» وأعزّهم عليه. وكان الحاكم على الموصل فخر الدين عبد
المسيح، وكان يكره عماد الدّين زنكى هذا؛ وكان عماد الدين قد أقام عند
عمّه نور الدين محمود بحلب مدّة وتزوّج بابنته، فلا زال فخر الدين
المذكور بقطب الدين مودود حتّى جعل العهد من بعده لولده سيف الدين غازى
وعزل عماد الدين زنكى؛ فعزّ ذلك على نور الدين وقصد الموصل وقال: أنا
أحقّ بتدبير ملك أولاد أخى.
الذين ذكرهم الذهبىّ فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر عبد الله
ابن محمد بن أحمد بن النّقور البزّاز فى شعبان عن إحدى وثمانين سنة.
وأبو المكارم عبد الواحد بن محمد بن المسلّم بن الحسن بن هلال الأزدىّ
العدل فى جمادى الآخرة.
وأبو القاسم محمود بن عبد الكريم الأصبهانىّ التاجر. وصاحب الموصل قطب
الدين مودود ابن أتابك زنكى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 566]
السنة الحادية عشرة من ولاية العاضد على مصر، وتحكّم وزيره الملك
الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب، وهى سنة ست وستين وخمسمائة.
فيها سار الملك العادل نور الدين محمود من دمشق إلى الموصل وسلّمها
لابن أخيه عماد الدين زنكى بعد أمور وقعت بينه وبين فخر الدين عبد
المسيح المقدّم ذكره فى الماضية.
(5/384)
وفيها بنى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن
أيّوب مدرسة للشافعيّة «1» ، وكان موضعها حبس المعونة، وبنى بها أيضا
مدرسة للمالكيّة تعرف بدار الغزل «2» . وولّى صدر الدّين عبد الملك بن
درباس «3» الكردىّ القضاء بالقاهرة.
وفيها فى جمادى الآخرة خرج صلاح الدّين يوسف بن أيّوب بعساكر العاضد
إلى الشام فأغار على غزّة وعسقلان والرملة ومضى إلى أيلة، وكان بها
قلعة فيها
(5/385)
جماعة من الفرنج، والتقاه الأسطول فى
البحر؛ فافتتحها وقتل من فيها وشحنها بالرجال والعدد؛ وكان على درب
الحجاز منها خطر عظيم. ثم عاد صلاح الدين إلى مضر فى جمادى الآخرة.
وفيها فى شعبان اشترى تقىّ الدين عمر بن شاهنشاه منازل «1» العزّ بمصر،
وعملها مدرسة للشافعيّة.
وفيها توفّى الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين أبو المظفر يوسف بن
المقتفى لأمر الله محمد بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدى بأمر الله
عبد الله الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ. استخلف يوم مات أبوه فى شهر
ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
ومولده فى سنة ثمانى عشرة وخمسمائة. وأمّه أمّ ولد تسمى «طاوس» كرجيّة،
أدركت خلافته. وكان المستنجد أسمر طويل اللّحية معتدل القامة شجاعا
مهيبا عادلا فى الرعيّة ذكيّا فصيحا فطنا، أزال المظالم والمكوس. وكانت
وفاته فى يوم السبت ثامن شهر ربيع الآخر، ودفن بداره. وكانت خلافته
إحدى عشرة سنة وشهرا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست
عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
(5/386)
ذكر ولاية أسد الدين
شيركوه على مصر
وقد اختلف المؤرّخون فى أمر ولايته على مصر، فمنهم من عدّه من الأمراء،
ومنهم من ذكره من الوزراء. ولهذا أخّرنا ترجمته إلى هذه السنة، ولم
نسلك فيها طريق أمراء مصر. وقد ذكرنا من تردّده إلى مصر وقتله لشاور
وتوليته الوزارة من قبل العاضد نبذة كبيرة فى ترجمة العاضد المذكور.
ونذكر ترجمته الآن على هيئة تراجم أمراء مصر؛ ففى مساق هذه الترجمة وفى
سياق تلك الترجمة جمع بين القولين، وللناظر فيهما الاختيار، فمن شاء
يجعله وزيرا، ومن شاء يجعله أميرا.
هو الملك المنصور أسد الدّين شيركوه بن شادى بن مروان عمّ السلطان صلاح
الدين يوسف بن أيّوب. يأتى بقيّة نسبه وما قيل فى أصله فى ترجمة ابن
أخيه صلاح الدين المذكور، من أقوال كثيرة. وقد تقدّم من حديثه نبذة
كبيرة. ونسوق ذلك كلّه هنا على سبيل الاختصار، فنقول:
كان شاور قد توجّه إلى الشام يستنجد نور الدين فى سنة تسع وخمسين
وخمسمائة؛ فنجده بأسد الدين شيركوه هذا بالعساكر، ووصلوا إلى مصر فى
الثانى من جمادى الآخرة من سنة تسع وخمسين، وغدر بهم شاور ولم يف بما
وعدهم به؛ فعادوا إلى دمشق وعرّفوا نور الدين بذلك. ثم إنّ شاور ألجأته
الضرورة لطلبهم ثانيا «1» خوفا من الفرنج؛ فعاد أسد الدين ثانيا إلى
مصر فى شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين؛ وسلك
(5/387)
طريق وادى الغزلان «1» وخرج عند وادى
إطفيح، فكانت بينه وبينهم وقعة هائلة.
وتوجّه صلاح الدين إلى الإسكندرية واحتمى بها وحاصره شاور؛ لأنّه كان
قد وقّع بينهم وبينه أيضا، واصطلح عليهم مع الفرنج. ثم رجع أسد الدين
من الصعيد نجدة لابن أخيه صلاح الدين، وأخذه وسار إلى بلبيس حتّى وقع
الصلح بينه وبين المصريّين؛ وعاد إلى الشام. فحنق نور الدين لذلك ولم
يمكنه الكلام لاشتغاله بفتح السواحل، ودام ذلك إلى أن وصل الفرنج إلى
مصر وملكوها فى سنة أربع وستين وقتلوا أهلها. أرسل العاضد يطلب النجدة
من نور الدين فنجدهم بأسد الدين شيركوه، وهى ثالث مرّة، فمضى إليهم أسد
الدين وطرد الفرنج عنهم، وملك مصر فى شهر ربيع الأوّل من سنة أربع
وستين وخمسمائة. وعزم شاور على قتل أسد الدين وقتل أصحابه أكابر أمراء
نور الدين معه؛ ففطن أسد الدين لذلك فاحترز على نفسه. وعلم ذلك صلاح
الدين يوسف بن أيوب أيضا، فاتّفق صلاح الدين يوسف مع الأمير جرديك
النّورىّ على مسك شاور وقتله؛ واتّفق ركوب أسد الدين إلى زيارة قبر
الإمام الشافعىّ- رضى الله عنه- وكان شاور يركب فى كلّ يوم إلى أسد
الدين؛ فلمّا توجّه إليه فى هذا اليوم المذكور قيل له: إنّه توجّه إلى
الزيارة.
فطلب العود؛ فلم يمكنه صلاح الدين وقال: انزل، الساعة يحضر عمّى.
فامتنع فجذبه هو وجرديك فأنزلوه عن فرسه وقبضوا عليه وقتلوه بعد حضور
أسد الدين. وقد تقدم ذكر ذلك كلّه مفصلا فى ترجمة العاضد.
وخلع العاضد على الأمير أسد الدين شيركوه المذكور بالوزارة، ولقّبه
بالملك المنصور. فلم تطل مدّته ومات بعد شهرين فجأة فى يوم السبت ثانى
عشر جمادى
(5/388)
الآخرة- وقيل: يوم الأحد ثالث عشرينه- سنة
أربع وستين وخمسمائة، ودفن بالقاهرة ثم نقل إلى المدينة. وقال ابن
شدّاد «1» : «كان أسد الدين شيركوه كثير الأكل، كثير المواظبة على أكل
اللحوم الغليظة، فتواتر عليه التّخم والخوانيق وهو ينجو منها بعد
مقاساة شدّة عظيمة، ثم اعترضه بعد ذلك مرض شديد واعتراه خانوق فقتله فى
التاريخ المقدّم ذكره» .
قلت: ولمّا مات تولّى ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيّوب الوزارة من
بعده. وكان أسد الدين أميرا عاقلا شجاعا مدبّرا عارفا فطنا وقورا. كان
هو وأخوه أيّوب من أكابر أمراء نور الدين محمود الشهيد، وهو الذي
أنشأهم حتى صار منهم ما صار. رحمهم الله تعالى.
*** انتهى الجزء الخامس من النجوم الزاهرة، ويليه الجزء السادس،
وأوّله:
ذكر ولاية السلطان الناصر صلاح الدين على مصر
(5/389)
[الجزء السادس]
[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 566]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته
والمسلمين الجزء السادس من النجوم
الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة
ذكر ولاية السلطان صلاح الدين على مصر
هو السلطان الملك الناصر أبو المظفّر صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم
الدين أيّوب بن شادى بن مروان، ويقال: إنّ مروان من أولاد خلفاء بنى
أميّة، وقال ابن القادسى «1» : كان شادى مملوك بهروز الخادم. قال صاحب
مرآة الزمان:
«وهذا من غلطات «2» ابن القادسى، ما كان شادى مملوكا قطّ، ولا جرى على
أحد من بنى أيّوب رقّ، وإنّما شادى خدم بهروز الخادم، فاستنابه بقلعة
تكريت» . انتهى.
قلت: كان بداية أمر بنى أيّوب أنّ نجم الدين أيّوب والد صلاح الدين
هذا، وأخاه أسد الدين شيركوه- ونجم الدين هو الأكبر- كان أصلهم من
(6/3)
دوين: بلدة صغيرة فى العجم، وقيل: هو من
الأكراد الرّواديّة، وهو الأصحّ.
فقدم نجم الدين أيّوب وأخوه أسد الدين شيركوه إلى العراق وخدما مجاهد
الدين بهروز الخادم شحنة بغداد، فرأى بهروز من نجم الدين رأيا وعقلا،
فولّاه دزدارا بتكريت «1» ، وكانت تكريت لبهروز، أعطاها له السلطان
مسعود بن غياث الدين محمد ابن ملكشاه- المقدّم ذكره- السّلجوقىّ.
وبهروز كان يلقّب مجاهد الدين.
وكان خادما روميّا أبيض، ولّاه السلطان مسعود شحنة العراق. وبهروز
(بكسر الباء الموحدة وسكون الهاء وضم الراء وسكون الواو وبعدها زاى) ،
وهو لفظ عجمىّ معناه: يوم جيّد. فأقام نجم الدين بتكريت ومعه أخوه أسد
الدين إلى أن انهزم الأتابك زنكى بن آق سنقر من الخليفة المسترشد فى
سنة ستّ وعشرين وخمسمائة، ووصل إلى تكريت وبه نجم الدين أيّوب، فأقام
له المعابر فعبر زنكى بن آق سنقر [دجلة «2» ] من هناك، وبالغ نجم الدين
فى إكرامه؛ فرأى له زنكى ذلك. وأقام نجم الدين بعد ذلك بتكريت إلى أن
خرج منها بغير إذن بهروز. وسببه أنّ نجم الدين كان يرمى يوما بالنشاب
فوقعت نشّابة فى مملوك بهروز فقتلته من غير قصد، فاستحى نجم الدين من
بهروز فخرج هو وأخوه إلى الموصل. وقيل غير ذلك: إنّ بهروز أخرجهما
لمعنى من المعانى، وقيل فى خروجهما غير ذلك أيضا.
ولمّا خرجا من تكريت قصدا الأتابك زنكى بن آق سنقر- المقدّم ذكره- وهو
والد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى المعروف بالشّهيد، فأحسن
إليهما زنكى وأقطعهما إقطاعات كثيرة، وصارا من جملة أجناده إلى أن فتح
زنكى مدينة
(6/4)
بعلبكّ «1» ، وولّى نجم الدين أيّوب دزدارا
بقلعتها، والدّزدار (بضمّ الدال المهملة وسكون الزاى وفتح الدال
المهملة وبعدها ألف وراء مهملة) ومعناها بالعجمى: ماسك القلعة. ودام
نجم الدين ببعلبكّ إلى أن قتل زنكى على قلعة «2» جعبر. وتوجّه صاحب
دمشق [يومئذ مجير الدين «3» ] وحصر نجم الدين المذكور فى بعلبكّ
وضايقه، فكتب نجم الدين إلى نور الدين الشهيد بن زنكى وسيف الدين غازى
يطلب منهما نجدة، فاشتغلا عنه بملك جديد «4» ؛ واشتدّ الحصار على
بعلبكّ، فخاف نجم الدين من فتحها عنوة وتسليم أهلها، فصالح مجير الدّين
صاحب دمشق على مال؛ وانتقل هو وأخوه أسد الدين شيركوه إلى دمشق وصارا
من كبار أمرائها. ولا زال بها أسد الدين شيركوه حتّى اتّصل بخدمة الملك
العادل نور الدين محمود بن زنكى [صاحب حلب «5» ] وصار من أكابر دولته.
فرأى منه محمود نجابة وشجاعة فأعطاه حمص والرّحبة، وجعله مقدّم عساكره.
فلمّا صرف نور الدين همّته لأخذ دمشق أمر أسد الدين أن يكاتب أخاه نجم
الدين أيّوب على المساعدة على فتحها، فكتب أسد الدين إلى أخيه، وقال
له: هذا يجب عليك؛ فإنّ مجير الدين قد أعطى الفرنج بانياس «6» وربما
سلّم إليهم دمشق بعد ذلك؛ فأجابه نجم الدين، وطلبا من نور الدين إقطاعا
وأملاكا فأعطاهما، وحلف لهما ووفّى بيمينه. وأمّا مجير الدين المذكور
صاحب دمشق، فكان
(6/5)
اسمه ابق بن محمد بن بورى بن الأتابك ظهير
الدين طغتكين. وطغتكين مولى تتش ابن ألب أرسلان أخى ملكشاه السّلجوقىّ.
ولمّا ملك نور الدين محمود دمشق وفّى لهما بما وعدهما، وصارا من أكابر
أمرائه خصوصا نجم الدين؛ فإنّ جميع الأمراء كانوا إذا دخلوا على نور
الدين لا يقعد أحد حتّى يأمره نور الدين بالقعود إلّا نجم الدين هذا،
فإنّه كان إذا دخل قعد من غير إذن. وداما عند نور الدين فى أعلى
المنازل إلى أن وقع من أمر شاور وزير مصر ما وقع- وقد حكيناه فى ترجمة
العاضد العبيدىّ- ودخول أسد الدين شيركوه إلى الديار المصريّة ثلاث
مرّات، ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف هذا، حتّى ملك أسد الدين الديار
المصريّة فى الثالثة، وقتل شاور؛ وولى أسد الدين وزارة مصر، ولقّب
بالمنصور، ومات بعد شهرين؛ فولّى العاضد الخليفة صلاح الدين هذا
الوزارة، ولقّبه الملك الناصر؛ وذلك فى العشر الأخير من جمادى الآخرة
سنة أربع وستين وخمسمائة. واستولى على الديار المصريّة ومهّد أمورها.
وصار يدعى للعاضد، ثمّ من بعده للملك العادل نور الدين محمود، ثمّ من
بعدهما لصلاح الدين هذا. ونذكر ولايته إن شاء الله بأوسع من هذا من
كلام ابن خلّكان، بعد أن نذكر نبذة من أموره.
واستمرّ صلاح الدين بمصر وأرسل يطلب أباه نجم الدين أيّوب من الملك
العادل نور الدين محمود الشهيد، فأرسله إليه معظّما مبجّلا؛ وكان وصوله
(أعنى نجم الدين) إلى القاهرة فى شهر رجب سنة خمس وستين وخمسمائة؛
فلمّا قرب نجم الدين إلى الديار المصريّة خرج ابنه السلطان صلاح الدين
بجميع أمراء مصر إلى ملاقاته، وترجّل صلاح الدين وجميع الأمراء ومشوا
فى ركابه؛ ثمّ قال له ابنه صلاح الدين: هذا الأمر لك (يعنى الوزارة)
وهى السلطنة الآن، وتدبير ملك مصر، ونحن بين يديك؛
(6/6)
فقال له نجم الدين: يا بنىّ، ما اختارك
الله لهذا الأمر إلّا وأنت أهل له، وأبى نجم الدين عن قبول السلطنة،
غير أنّه حكّمه ابنه صلاح الدين فى الخزائن، فكان يطلق منها ما يختار
من غير مراجعة صلاح الدين. وكانت الفرنج تولّت على دمياط فى ثالث صفر
من السنة المذكورة وجدّوا فى قتالها، وأقاموا عليها نحو الشهرين
يحاصرونها بالمجانيق ويزحفون عليها ليلا ونهارا، وصلاح الدين يوجّه
إليها العساكر مع خاله شهاب الدين وتقىّ الدين، وطلب من العاضد مالا
فبعث إليه شيئا كثيرا، حتّى قال صلاح الدين: ما رأيت أكرم من العاضد!
جهّز إلىّ فى حصار الفرنج لدمياط ألف ألف دينار سوى الثياب وغيرها.
ولمّا سمع نور الدين بما وقع لدمياط أخذ فى غزو الفرنج بالغارات عليهم.
ثم وقع فيهم الوباء والفناء فرحلوا عن دمياط بعد أن مات منهم خلق كثير.
كلّ ذلك فى حياة العاضد فى أوائل أمر صلاح الدين، ثمّ أخذ السلطان صلاح
الدين فى إصلاح أحوال مصر وعمارة البلاد وبينا هو فى ذلك ورد عليه كتاب
الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى من دمشق، فأمره فيه بقطع خطبة
العاضد وإقامتها لبنى العبّاس خلفاء بغداد، فخاف صلاح الدين من أهل مصر
ألّا يجيبوه إلى ذلك، وربّما وقعت فتنة؛ فعاد الجواب لنور الدين يخبره
بذلك، فلم يسمع له نور الدين؛ وأرسل إليه وخشّن له فى القول، وألزمه
بذلك إلزاما كلّيّا إلى أن وقع ذلك؛ وقطعت خطبة العاضد فى أوّل المحرّم
سنة سبع وستين وخمسمائة. وكان العاضد مريضا فأخفى عنه أهله ذلك حتّى
مات يوم عاشوراء، فندم صلاح الدين على قطع خطبته، وقال:
ليتنى صبرت حتّى مات. وقد ذكرنا ذلك كلّه مفصّلا فى ترجمة العاضد
السابقة لهذه الترجمة. ومن هنا نذكر- إن شاء الله تعالى- أقوال
المؤرّخين فى أحوال السلطان صلاح الدين هذا وغزواته وأموره، كلّ مؤرّخ
على حدته. ومن يوم مات العاضد
(6/7)
عظم أمر صلاح الدين واستولى على خزائن مصر
واستبدّ بأمورها من غير منازع.
غير أنّه كان من تحت أوامر الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى
المعروف بالشهيد صاحب دمشق على ما سنّبينه فى هذا المحلّ. وكان يدعو له
الخطيب بمصر وأعمالها بعد نور الدين المذكور ويدعو لنور الدين بعد
الخليفة.
وكان مولد صلاح الدين بتكريت فى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، ونشأ فى
حجر أبيه نجم الدين أيّوب فى الدولة النّوريّة، وترقّى فيها؛ وكان
ولّاه نور الدين قبل خروجه مع عمّه أسد الدين شيركوه الثالثة إلى ديار
مصر، شحنجية «1» دمشق، فخرج عنها غضبا على ما سنذكره إن شاء الله.
قال العلّامة أبو المظفّر شمس الدين يوسف بن قزأوغلى فى تاريخه مرآة
الزمان:
«كان السلطان صلاح الدين شجاعا شهما مجاهدا فى سبيل الله، وكان مغرما
بالإنفاق فى سبيل الله، وحسب ما أطلقه ووهبه مدّة مقامه على عكّا
مرابطا للفرنج، من شهر رجب سنة خمس وثمانين، إلى يوم انفصاله عنها فى
شعبان سنة ثمان وثمانين، فكان اثنى عشر ألف رأس من الخيل العراب «2»
والأكاديش الجياد للحاضرين معه للجهاد، غير ما أطلقه من الأموال. قال
العماد الكاتب: لم يكن له فرس يركب إلّا وهو موهوب، ولا جاءه «3» قود
إلّا وهو مطلوب؛ وما كان يلبس إلّا ما يحلّ لبسه، كالكتّان والقطن
والصوف؛ وكانت مجالسه منزّهة عن الهزء والهزل؛ ومحافله حافلة بأهل
العلم والفضل؛ ويؤثر سماع الحديث وكان من جالسه لا يعلم
(6/8)
أنه جالس سلطانا لتواضعه. قال: ورأى معى
يوما دواة محلّاة بفضّة فأنكر علىّ وقال: ما هذا! فلم أكتب بها عنده
بعدها. وكان محافظا على الصلوات فى أوقاتها لا يصلّى إلّا فى جماعة،
وكان لا يلتفت إلى قول منجّم، وإذا عزم على أمر توكّل على الله. انتهى
كلام العماد باختصار.
وذكره القاضى ابن شدّاد فى السّيرة فقال: كان حسن العقيدة، كثير الذكر
لله تعالى؛ وإذا جاء وقت صلاة وهو راكب نزل فصلّى، وما قطعها إلّا فى
مرضه الذي مات فيه ثلاثة أيّام اختلط ذهنه فيها. وكان قد قرأ عقيدة
القطب «1» النّيسابورىّ.
وعلّمها أولاده الصغار لترسخ فى أذهانهم، وكان يأخذها عليهم. وأمّا
الزكاة فإنّه مات ولم تجب عليه قطّ. وأمّا صدقة النوافل فاستنفدت
أمواله كلّها فيها. وكان يحبّ سماع القرآن؛ واجتاز يوما على صبىّ صغير
بين يدى أبيه وهو يقرأ القرآن فاستحسن قراءته، فوقف عليه وعلى أبيه
مزرعة. وكان شديد الحياء خاشع الطّرف، رقيق القلب، سريع الدمعة، شديد
الرغبة فى سماع الحديث. وإذا بلغه عن شيخ رواية عالية وكان ممّن يحضر
عنده، استحضره «2» وسمع عليه وأسمع أولاده ومماليكه، ويأمرهم بالقعود
عند سماع الحديث إجلالا له، وإن لم يكن ممن يحضر عنده، ولا يطرق أبواب
الملوك سعى إليه. وكان مبغضا لكتب الفلاسفة وأرباب المنطق ومن يعاند
الشريعة. ولمّا بلغه عن السّهروردىّ «3» ما بلغه أمر ولده الملك
(6/9)
الظاهر بقتله. وكان محبّا للعدل يجلس فى
كلّ يوم اثنين وخميس [فى «1» ] مجلس عام يحضره القضاة والفقهاء، ويصل
إليه الكبير والصغير والشيخ والعجوز، وما استغاث إليه أحد إلّا أجابه
وكشف ظلامته؛ واستغاث اليه ابن زهير الدّمشقىّ على تقىّ الدين عمر [ابن
أخيه «2» ] وقال: ما يحضر معى مجلس الشرع، فأمر تقىّ الدين بالحضور
معه.
وادّعى رجل على السلطان صلاح الدين المذكور بأنّ سنقر الخلاطىّ مملوكه
ومات على ملكه. قال ابن شدّاد: فأخبرته فأحضر الرجل، وقد خرج عن
طرّاحته وساواه فى الجلوس، فادّعى الرجل؛ فرفع السلطان رأسه إلى جماعة
الأمراء والشيوخ الأخيار، وهم وقوف على رأسه، فقال: أتعرفون سنقر
الخلاطىّ؟ قالوا: نشهد أنّه مملوكك، وأنّه مات على ملكك. ولم يكن للرجل
المدّعىّ بيّنة، فأسقط فى يده.
فقلت: يا مولانا، رجل غريب، وقد جاء من خلاط فى طمع، ونفدت نفقته، وما
يحسن أن يرجع خائبا؛ فقال: يا قاضى، هذا إنّما يكون على غير هذا الوجه،
ووهب له نفقة وخلعة وبغلة وأحسن إليه.
قال: وفتح آمد، ووهبها لابن قرا أرسلان. واجتمع عنده وفود بالقدس ولم
يكن عنده مال، فباع ضيعة وفرّق ثمنها فيهم. قال ابن شدّاد: وسألت
باليان بن بارزان «3» يوم انعقاد الصلح عن عدّة الفرنج الذين كانوا على
عكّا، وهو جالس بين يدى السلطان، فقال للتّركمان: قل له كانوا من
خمسمائة ألف إلى ستّمائة ألف، قتل منهم أكثر من مائة ألف وغرق معظمهم.
قال: وكان يوم المضاف يدور على الأطلاب ويقول: وهل أنا إلا واحد منكم!
وكان
(6/10)
فى الشتاء يعطى العساكر دستورا وهو نازل
على برج عكّا، ويقيم طول الشتاء فى نفر يسير. وكان على الرّملة «1»
فجاءه كتاب بوفاة تقىّ الدين [ابن أخيه «2» ] ، فقال وقد خنقته العبرة:
مات تقىّ الدين! اكتموا خبره مخافة العدوّ. قال: ولقد واجهه الجناح «3»
على يافا بذلك الكلام القبيح «4» ، فما قال له كلمة، واستدعاه فأيقن
بالهلاك؛ وارتقب الناس أن يضرب رقبته فأطعمه فاكهة قدمت من دمشق وسقاه
ماء وثلجا. قال: وكان للمسلمين لصوص يدخلون خيام الفرنج بالليل
ويسرقونهم، فسرقوا ليلة صبيّا رضيعا فباتت أمّه تبكى طول الليل، فقال
لها الفرنج: إنّ سلطانهم رحيم القلب فاذهبى إليه، فجاءته وهو على تلّ
الخرّوبة «5» راكب، فعفرت وجهها وبكت، فسأل عنها فأخبر بقصّتها، فرقّ
لها ودمعت عيناه، وتقدّم إلى مقدّم اللصوص بإحضار الطفل، ولم يزل واقفا
حتّى أحضروه؛ فلمّا رأته بكت وشهقت وأخذته وأرضعته ساعة وضمّته إليها،
وأشارت إلى ناحية الفرنج؛ فأمر أن تحمل على فرس وتلحق بالفرنج ففعلوا.
قال ابن شدّاد: وكان حسن العشرة طيّب الخلق حافظا لأنساب العرب، عارفا
بخيولهم، طاهر اللسان والقلم، فما شتم أحدا قطّ ولا كتب بيده ما فيه
أذى مسلم. وما حضر بين يديه يتيم إلّا وترحّم على من خلّفه، وجبر قلبه
وأعطاه ما يكفيه؛ فإن كان له كافل [سلّمه إليه «6» ] وإلّا كفله. وسرق
«7» يوما من خزائنه ألفا دينار وجعل فى الكيس فلوس فما قال شيئا. انتهى
كلام ابن شدّاد باختصار.
(6/11)
قال أبو المظفّر: وحكى لى المبارز «1» سنقر
الحلبىّ- رحمه الله تعالى- قال: كان الحجّاب يزدحمون على طرّاحته فجاء
سنقر الخلاطىّ ومعه قصص فقدّم إليه قصّة، وكان السلطان مدّ يده اليمنى
على الأرض ليستريح، فداسها سنقر الخلاطىّ ولم يعلم؛ وقال له: علّم
عليها، فلم يجبه، فكرّر عليه القول؛ فقال له: يا طواشى، أعلّم بيدى أم
برجلى! فنظر سنقر فرأى يد السلطان تحت رجله فخجل، وتعجّب الحاضرون من
هذا الحلم؛ ثم قال السلطان: هات القصّة فعلّم عليها» .
وقال القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن خلّكان- رحمه الله- فى تاريخه:
«وصلاح الدين كان واسطة العقد، وشهرته أكبر من أن يحتاج إلى التنبيه
عليه.
اتّفق أهل التاريخ على أنّ أباه وأهله من دوين (بضم الدال المهملة وكسر
الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون) ، وهى بلدة فى آخر عمل
أذربيجان من جهة أرّان وبلاد الكرج، وأنّهم أكراد رواديّة (بفتح الراء
والواو وبعد الألف دال مهملة [مكسورة «2» ] ثم ياء مثنّاة من تحتها
مشدّدة ثم هاء) . والرّواديّة: بطن من الهذانيّة «3» (بفتح الهاء
والذال المعجمة وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مثنّاة مشدّدة من تحتها
وبعدها هاء) وهى قبيلة كبيرة من الأكراد. وقال لى رجل عارف بما يقول،
وهو من أهل دوين: إنّ على باب دوين قرية يقال لها:
أجدانقان (بفتح الهمزة وسكون الجيم وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون
مفتوحة ثم قاف وبعد الألف الثانية نون أخرى) وجميع أهلها أكراد
رواديّة؛ ومولد أيّوب والد صلاح الدين بها، وشادى أخذ ولديه، [منها «4»
] : أسد الدين شيركوه،
(6/12)
ونجم الدين أيّوب، وخرج بهما إلى بغداد؛
ومن هناك إلى تكريت. ومات شادى بها، وعلى قبره قبة داخل البلد. ولقد
تتبّعت نسبهم كثيرا فلم أجد أحدا [ذكر] «1» بعد شادى أبا آخر، حتّى إنى
وقفت على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه وأيّوب فلم أر فيها سوى
شيركوه بن شادى [وأيّوب «2» ] بن شادى لا غير. وقال لى بعض أعوانهم: هو
شادى بن مروان، وقد ذكرته فى ترجمة أيوب وشيركوه.
قال: ورأيت مدرجا رتّبه الحسن بن غريب «3» بن عمران الحرسى يتضمّن أن
أيّوب ابن شادى بن مروان بن [أبى «4» ] على بن عنترة «5» بن الحسن بن
علىّ بن أحمد ابن علىّ «6» بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحارث
بن سنان بن عمرو بن مرة بن عوف بن أسامة بن بيهس «7» بن الحارث صاحب
الحمالة ابن عوف بن أبى حارثة بن مرّة بن نشبة «8» بن غيظ بن مرّة بن
عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض ابن ريث بن غطفان [بن سعد «9» ] بن قيس بن
عيلان بن الياس بن مضر بن نزار ابن معدّ «10» بن عدنان، ثم رفع هذا
النسب إلى أن انتهى إلى آدم عليه السلام. ثم ذكر بعد ذلك أن علىّ بن
أحمد بن أبى علىّ فقال: هو ممدوح المتنبىّ، ويعرف بالخراسانىّ.
وفيه يقول من جملة قصيدة:
شرق الجوّ بالغبار إذا سا ... ر علىّ بن أحمد القمقام
(6/13)
وأمّا الحارث بن عوف بن أبى حارثة صاحب
الحمالة فهو الذي حمل الدماء بين عبس وذبيان، وشاركه فى الحمالة خارجة
بن سنان أخو هرم بن سنان.
وفيهما قال زهير بن أبى سلمى المزنىّ قصائد كثيرة، منها قوله:
وهل ينبت الخطّىّ إلّا وشيجه ... وتغرس إلّا فى منابتها النخل
هذا آخر ما ذكره فى المدرّج وكان قد قدّمه إلى الملك المعظّم شرف الدين
عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق، وسمعه عليه هو وولده الملك الناصر
صلاح الدين أبو المفاخر داود بن الملك المعظّم، وكتب لهما بسماعهما
عليه فى آخر رجب سنة تسع عشرة وستمائة. والله أعلم. انتهى ما ذكرته من
المدرّج. ثم قال:
«وأقول ذكر المؤرّخون أنّ أسد الدين شيركوه لمّا مات استقرّت الأمور
بعده لصلاح الدين يوسف بن أيّوب وتمهّدت القواعد، ومشى الحال على أحسن
الأوضاع، وبذل الأموال وملك قلوب الرجال، وشكر نعمة الله تعالى عليه،
فتاب عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمّص بقميص الجدّ والاجتهاد،
ولا زال على قدم الخير وما يقرّبه إلى الله تعالى إلى أن مات» . قال:
«وقال شيخنا ابن شدّاد- رحمه الله-: [سمعته «1» ] يقول قال صلاح الدين-
رحمه الله-: لمّا يسّر الله تعالى بملك الديار المصرية علمت أنّ الله
أراد فتح الساحل لأنه أوقع ذلك فى نفسى. قال:
ومن حين استقام له الأمر ما زال صلاح الدين يشنّ الغارات على الفرنج
إلى أن ملك الكرك «2» والشّوبك «3» وغيرهما من البلاد «4» ، وغشى الناس
من سحائب الإفضال والإنعام [ما لم «5» يؤرّخ غير تلك الأيام. و] هذا
كلّه وهو وزير متابع للقوم، ولكنّه يقول
(6/14)
بمذهب أهل السّنة؛ [مارس «1» فى البلاد أهل
الفقه والعلم والتصوّف والدين، والناس يهرعون إليه من كلّ صوب ويفدون
عليه من كل جانب وهو لا يخيّب قاصدا، ولا يعدم وافدا] إلى سنة خمس
وستين وخمسمائة. فلمّا عرف نور الدين استقرار «2» أمر صلاح الدين بمصر
أخذ حمص من نوّاب أسد الدين شيركوه، وذلك فى رجب سنة أربع وستين. ولمّا
علم الفرنج ما جرى من «3» المسلمين وعساكرهم، وما تمّ للسلطان من
استقامة الأمر له بالبلاد المصرية علموا أنه يملك بلادهم، ويخرّب
ديارهم، ويقطع آثارهم؛ فاجتمع الفرنج والروم جميعا وقصدوا الديار
المصريّة، ونزلوا دمياط ومعهم آلات الحصار وما يحتاج إليه» .
قلت: وهذه الواقعة التى ذكرناها فى أوّل هذه الترجمة. غير أنّنا نذكرها
أيضا من قول ابن خلّكان لزيادات تأتى فيها.
قال: «ولمّا سمع فرنج الشام ذلك اشتدّ أمرهم، فسرقوا حصن عكّا من
المسلمين وأسروا صاحبها، وكان مملوكا لنور الدين محمود، يقال له: «خطلخ
العلم دار» .
وذلك فى شهر ربيع الآخر سنة خمس وستّين. ولمّا رأى نور الدين ظهور
الفرنج ونزولهم على دمياط قصد شغل قلوبهم، فنزل على الكرك فحاصرها فى
شعبان من السنة المذكورة، فقصده فرنج الساحل فرحل عنها، وقصد لقاءهم
فلم يقووا له. ثم بلغه وفاة مجد الدين بن الدّاية، وكانت وفاته بحلب فى
[شهر «4» ] رمضان سنة خمس وستين، فاشتغل قلبه، فإنّه كان صاحب أمره.
وعاد يطلب الشام فبلغه أمر الزلازل بحلب التى أخربت البلاد، وكانت فى
ثانى عشر شوّال فسار يطلب حلب، فبلغه موت أخيه
(6/15)
قطب الدين مودود بالموصل، وبلغه خبر موته
وهو بتلّ باشر «1» ، فسار من ليلته طالبا لبلاد الموصل. ودام صلاح
الدين فى قتال الفرنج بدمياط إلى ان رحلوا عنها خائبين» .
قال ابن خلّكان: «والذي ذكره شيخنا عزّ الدين بن الأثير: [أمّا «2» ]
كيفيّة ولاية صلاح الدين فإنّ جماعة من الأمراء النّوريّة الذين كانوا
بمصر طلبوا التقدّم على العساكر و [ولاية «3» ] الوزارة (يعنى بعد موت
أسد الدين شيركوه) : منهم الأمير عين الدولة الياروقى؛ وقطب الدين خسرو
بن تليل «4» ، وهو ابن أخى أبى الهيجاء الهدبانىّ «5» الذي كان صاحب
إربل. قلت: [وهو «6» ] صاحب المدرسة «7» القطبيّة بالقاهرة؛ ومنهم سيف
الدين علىّ بن أحمد الهكّارىّ، وجدّه كان صاحب القلاع الهكاريّة «8» .
قلت: هو المعروف بالمشطوب- ولوالده أحمد ترجمة فى تاريخنا «المنهل
الصافى والمستوفى بعد الوافى» - ومنهم شهاب الدين محمود الحارمىّ، وهو
خال صلاح الدين؛ وكلّ واحد من هؤلاء قد خطبها «9» لنفسه؛ فأرسل العاضد
صاحب مصر إلى صلاح الدين يأمره بالحضور إلى قصره ليخلع عليه خلعة
الوزارة
(6/16)
ويولّيه الأمر بعد عمّه. وكان الذي حمل
العاضد على تولية صلاح الدين ضعف صلاح الدين، فإنّه ظنّ أنّه إذا ولّى
صلاح الدين، وليس له عسكر ولا رجال، كان فى ولايته مستضعفا، يحكم عليه
ولا يقدر على المخالفة، وأنّه يضع على العسكر الشامىّ من يستميلهم،
فإذا صار معه البعض أخرج الباقين، وتعود البلاد إليه؛ وعنده من العساكر
الكتاميّة «1» من يحميها من الفرنج ونور الدين. والقصّة مشهورة «أردت
عمرا وأراد الله خارجة» . فامتنع صلاح الدين وضعفت نفسه عن هذا «2»
المقام، فألزمه العاضد وأخذ كارها؛ إنّ الله ليعجب من قوم يقادون إلى
الجنّة بالسلاسل.
فلمّا حضر فى القصر خلع عليه خلعة الوزارة: الجبّة والعمامة وغيرهما،
ولقّب بالملك الناصر، وعاد إلى دار عمّه أسد الدين شيركوه وأقام بها،
ولم يلتفت إليه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا
خدموه. وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكّارىّ معه، فسعى مع سيف الدين
علىّ بن أحمد حتّى أماله إليه، وقال له:
إنّ هذا الأمر لا يصل إليك مع وجود عين الدولة والحارمىّ وابن تليل،
فمال إلى صلاح الدين. ثم قصد شهاب الدين الحارمىّ، وقال له: إنّ هذا
صلاح الدين هو ابن أختك وملكه «3» لك، وقد استقام له الأمر فلا تكن
أوّل من يسعى فى إخراجه عنه [ولا يصل إليك «4» ] ، ولم يزل به حتى
أحضره أيضا عنده وحلّفه له.
ثم عدل إلى قطب الدين وقال له: إنّ صلاح الدين قد أطاعه الناس ولم يبق
غيرك وغير الياروقىّ، وعلى كلّ حال فيجمع بينك وبين صلاح الدين أنّ
أصله من الأكراد، ووعده وزاد فى إقطاعه «5» فأطاع صلاح الدين. ثم عدل
إلى عين الدولة
(6/17)
الياروقىّ، وكان أكبر الجماعة وأكثرهم
جمعا، فاجتمع به فلم ينفع فيه رقاه ولا نفذ فيه سحره، وقال: أنا لا
أخدم يوسف أبدا! وعاد إلى نور الدين محمود ومعه غيره.
فأنكر عليهم نور الدين فراقه «1» ، وقد فات الأمر، ليقضى الله أمرا كان
مفعولا.
وثبتت قدم صلاح الدين ورسخ ملكه، وهو نائب عن الملك العادل نور الدين،
والخطبة لنور الدين فى البلاد كلّها، ولا يتصرّفون إلّا عن أمره. وكان
نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الإسفهسالار «2» ، ويكتب علامته فى
الكتب تعظيما أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بمكاتبة، بل يكتب الأمير
الإسفهسالار صلاح الدين، وكافّة الأمراء بالديار المصريّة يفعلون كذا
وكذا. واستمال صلاح الدين قلوب الناس وبذل الأموال ممّا كان أسد الدين
قد جمعه، فمال الناس إليه وأحبّوه، وقويت نفسه على القيام بهذا الأمر
والثبات فيه؛ وضعف أمر العاضد، وكان العاضد كالباحث عن حتفه بظلقه» .
قال ابن الأثير فى تاريخه الكبير: قد اعتبرت التواريخ فرأيت كثيرا من
التواريخ الإسلاميّة، ورأيت كثيرا ممّن يبتدئ الملك تنتقل الدولة عن
صلبه إلى بعض أهله وأقاربه: منهم فى أوّل الإسلام معاوية بن أبى سفيان،
أوّل من ملك من أهل بيته، تنقّل الملك عن أعقابه إلى بنى مروان من بنى
عمّه. ثم من بعده السفّاح أوّل من ملك من ملوك بنى العبّاس، انتقل
الملك عن أعقابه إلى أخيه أبى جعفر المنصور. ثم السامانيّة أوّل من ملك
منهم نصر بن أحمد فانتقل الملك عنه إلى أخيه إسماعيل بن أحمد وأعقابه.
ثم يعقوب الصّفّار أوّل من ملك من أهل بيته فانتقل الملك عنه إلى أخيه
عمرو وأعقابه. ثم عماد الدولة بن بويه أوّل من ملك
(6/18)
من أهل بيته ثم انتقل الملك عنه إلى أخويه:
ركن الدولة ومعزّ الدولة. ثم السّلجوقيّة أوّل من ملك منهم طغرلبك. ثم
انتقل الملك إلى أولاد أخيه داود. ثم هذا شيركوه كما ذكرنا انتقل الملك
عنه إلى ولد أخيه نجم الدين أيّوب. ولولا خوف الإطالة لذكرنا أكثر من
هذا. والذي أظنّه السبب فى ذلك أن الذي يكوّن أوّل دولة يكثر القتل،
فيأخذ الملك وقلوب من كان فيه متعلّقة به؛ فلهذا يحرم الله تعالى
أعقابه ويفعل ذلك لأجلهم عقوبة [له «1» ] . انتهى.
قلت: وما ذكره ابن الأثير من انتقال الملك من عقب من يلى الملك أوّلا
إلى أقاربه، هو بعكس ما وقع لخلفاء مصر بنى عبيد، فإنّه لم يل الخلافة
منهم أحد بعد أخيه من أوّلهم المعزّ إلى آخرهم العاضد. قلت: ونادرة
أخرى وقعت لخليفة زماننا هذا، فإنّه خامس أخ ولى الخلافة بعد إخوته،
وهو أمير المؤمنين المستنجد «2» بالله يوسف، وهم خمسة إخوة من أولاد
المتوكّل، «3» كلّ منهم ولى الخلافة:
وأوّلهم المستعين «4» بالله العباسىّ، الذي تسلطن بعد خلع الملك الناصر
فرج بن برقوق، فى سنة خمس عشرة [وثمانمائة] ؛ ثم من بعده المعتضد «5»
داود؛ ثمّ من بعده المستكفى «6» سليمان؛ ثم من بعده القائم حمزة «7» ؛
ثم يوسف هذا خليفة زماننا.
(6/19)
وأكثر من ولى من بنى أميّة أربعة من أولاد
عبد الملك بن مروان: وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام؛ قيل: إنّ عبد
الملك رأى فى نومه أنّه بال فى محراب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
أربع بولات، فأوّله المعبّرون بأنّه يلى الخلافة من ولده لصلبه أربعة،
فكان كذلك. وأمّا ثلاثة الإخوة: فالأمين محمد والمأمون عبد الله
والمعتصم محمد أولاد الرشيد هارون. ثم وقع ذلك أيضا لبنى العبّاس فى
أولاد المتوكّل جعفر، ولى من أولاده ثلاثة: المنتصر والمعتزّ والمعتمد.
ثمّ وقع ذلك أيضا للمعتضد ولى من أولاده ثلاثة: وهم المكتفى «1» علىّ
والمقتدر جعفر والقاهر محمد. ثم وقع ذلك للمقتدر جعفر ولى من أولاده
ثلاثة: الراضى والمتّقى والمطيع. ونادرة أخرى، قيل: إنّ المستنجد بن
المقتفى رأى فى حياة والده فى منامه كأنّ ملكا نزل من السماء فكتب فى
كفه أربع خاءات معجمات، فعبّروه أنّه يلى الخلافة سنة خمس وخمسين
وخمسمائة فكان كذلك. وقد خرجنا عن المقصود، ونعود إلى ذكر صلاح الدين.
ثم ذكر ابن الأثير شيئا عن أحوال صلاح الدين إلى أن قال: وتوفّى العاضد
وجلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصره وجميع ما فيه؛ فكان قد رتّب
فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش، وهو خصىّ يحفظه، فحفظ ما فيه
حتّى تسلّمه صلاح الدين، ونقل صلاح الدين أهله إلى مكان منفرد، ووكّل
بهم من يحفظهم، وجعل أولاده وعمومته وأبناءه فى إيوان بالقصر، وأخرج من
كان فيه من العبيد والإماء، فأعتق البعض ووهب البعض وأخلى القصر من
سكّانه وأهله. فسبحان؟؟؟
من لا يزول ملكه! قال: ولمّا استولى صلاح الدين على القصر وأمواله
وذخائره اختار منه ما أراد، ووهب أهله وأمراءه، وباع منه كثيرا، وكان
فيه من
(6/20)
الجواهر النفيسة ما لم يكن عند ملك من
الملوك. قال ابن «1» الأثير: ولمّا وصل الخبر إلى الإمام المستضىء بأمر
الله أبى محمد الحسن بن الإمام المستنجد، وهو والد الإمام الناصر لدين
الله، بما تجدّد من أمر مصر، وعود الخطبة والسكّة بها باسمه بعد
انقطاعها بمصر هذه المدّة الطويلة عمل أبو الفتح محمد سبط [ابن «2» ]
التعاويذىّ قصيدة «3»
طنّانة مدح بها المستضىء، وذكر هذا الفتوح المتجدّد له، وفتوح بلاد
ايمن، وهلاك الخارجىّ «4» بها الذي سمّى نفسه المهدىّ. نذكر فى آخر
ترجمته أمر القصيدة التى نظمها ابن التّعاويذىّ من كلام ابن خلّكان
وغيرها إن شاء الله تعالى. وكان صلاح الدين قد أرسل له من ذخائر مصر
وأسلاب المصريّين شيئا كثيرا.
ثم ذكر ابن الأثير فصلا فى سنة سبع وستين وخمسمائة يتضمّن حصول الوحشة
بين نور الدين الشهيد وبين صلاح الدين باطنا؛ فقال: «فى هذه السنة جرت
أمور أوجبت تأثّر نور الدين من صلاح الدين، ولم يظهر ذلك. وكان سببه
أنّ صلاح الدين سار [عن مصر «5» ] فى صفر منها إلى بلاد الفرنج، ونازل
حصن الشّوبك، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره وضيّق على من به من الفرنج،
وأدام القتال؛ فطلبوا
(6/21)
الأمان واستمهلوه عشرة أيّام، فأجابهم إلى
ذلك. فلمّا سمع نور الدين ما فعله صلاح الدين سار من دمشق قاصدا بلاد
الفرنج ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين: إن دخل نور الدين
إلى بلاد الفرنج وهم على هذه الحال- أنت من جانب ونور الدين من جانب-
ملكها، ومتى زال ملك الفرنج عن الطريق لم يبق لك بديار مصر مقام مع نور
الدين؛ ومتى جاء نور الدين إليك وأنت هاهنا فلا بدّ لك من الاجتماع به؛
وحينئذ يكون هو المتحكّم فيك «1» ، إن شاء تركك وإن شاء عزلك، ولا تقدر
على الامتناع عليه؛ وحينئذ المصلحة الرجوع إلى مصر.
فرحل عن الشّوبك عائدا إلى مصر [ولم «2» يأخذه من الفرنج] . وكتب إلى
نور الدين يعتذر باختلال الديار المصريّة لأمور بلغته عن بعض شيعة
العلويّين، وأنّهم عازمون على الوثوب بها، وأنّه يخاف عليها من البعد
عنها أن يقوم أهلها على من تخلّف بها.
فلم يقبل نور الدين هذا الاعتذار منه وتغيّر عليه، وعزم على الدخول إلى
مصر وإخراجه عنها. وظهر ذلك لصلاح الدين فجمع أهله وفيهم أبوه نجم
الدين أيّوب، وخاله شهاب الدين الحارمىّ وسائر الأمراء، وأعلمهم بما
بلغه من عزم نور الدين وحركته إليه، فاستشارهم فلم يجبه أحد منهم
بكلمة؛ فقام تقىّ الدين عمر ابن أخيه وقال: إذا جاء قاتلناه ومنعناه عن
البلاد، ووافقه غيره من أهله؛ فشتمهم نجم الدين أيّوب وأنكر ذلك
واستعظمه، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك، ونحن أكثر
محبّة لك من جميع من ترى، والله لو رأيت أنا وخالك نور الدين لم يمكّنا
إلّا أن نقبّل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك لفعلنا، فإذا
كنّا نحن هكذا فما ظنّك بغيرنا! وكلّ من ترى من الأمراء لو رأى نور
الدين وحده لم يتجاسروا من الثبات على سروجهم. ثم قال: وهذه البلاد له،
ونحن مماليكه ونوّابه فيها،
(6/22)
فإن اراد غير ذلك سمعنا وأطعنا؛ والرأى أن
تكتب إليه وتقول: بلغنى أنّك تريد الحركة لأجل البلاد، فأىّ حاجة إلى
هذا! يرسل المولى نجّابا يضع فى رقبتى منديلا ويأخذنى إليك، فما هاهنا
من يمتنع عليك؛ وقام الأمراء وتفرّقوا. فلمّا خلا نجم الدين أيّوب
بابنه صلاح الدين قال له: يا بنىّ، بأىّ عقل قلت هذا! أمّا علمت أنّ
نور الدين متى سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهمّ الوجوه عنده؛
وحينئذ لا نقوى به؛ وإذا بلغه طاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا، والأقدار
تعمل عملها؛ والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السّكّر لقاتلته أنا
عليها حتى أمنعه أو أقتل.
ففعل صلاح الدين ما أشار به والده عليه؛ فترك نور الدين قصده واشتغل
بغيره؛ فكان الأمر كما ظنّه أيّوب. وتوفّى نور الدين ولم يقصده. وملك
صلاح الدين البلاد، وكان هذا من أصوب الآراء وأحسنها» . انتهى كلام ابن
الأثير باختصار.
قال ابن شدّاد: «ولم يزل صلاح الدين فى نشر الإحسان وإفاضة النعم على
الناس إلى سنة ثمان وستّين وخمسمائة، فعند ذلك خرج بالعسكر يريد بلاد
الكرك والشّوبك، وإنّما بدأ بها لأنّها كانت أقرب إليه، وكانت على
الطريق تمنع من يقصد الديار المصريّة، وكان لا يمكن أن تعبر قافلة حتّى
يخرج هو بنفسه يعبرها، فأراد توسيع الطريق وتسهيلها، فحاصرها فى هذه
السنة، وجرى بينه وبين الفرنج وقعات، وعاد إلى مصر ولم يظفر منها بشىء.
ولمّا عاد بلغه خبر وفاة والده نجم الدين قبل وصوله إليه. قال: ولمّا
كانت سنة تسع وستين رأى قوّة عسكره وكثرة عدده، وكان بلغه أنّ باليمن
إنسانا استولى عليها وملك حصونها، وكان يسمّى عبد النّبيّ «1» ابن
مهدىّ، فأرسل أخاه توران شاه فقتله وأخذ البلاد منه. ثم مات الملك
العادل نور الدين محمود صاحب دمشق فى سنة تسع وستين وخمسمائة. على
(6/23)
ما سيأتى ذكره فى الوفيات. ثم بلغ صلاح
الدين أنّ إنسانا جمع بأسوان خلقا كثيرا من السودان، وزعم أنّه يعيد
الدولة العبيديّة المصريّة. وكان أهل مصر يؤثرون عودهم وانضافوا إليه،
فسيّر صلاح الدين إليه جيشا كثيفا وجعل مقدّمه أخاه الملك العادل،
فساروا والتقوا به، وكسروه فى السابع من صفر سنة سبعين وخمسمائة.
ثم بعد ذلك استقرّت له قواعد الملك. وكان نور الدين محمود قد خلّف ولده
الملك الصالح إسماعيل، وكان بدمشق عند وفاة أبيه. وكان بحلب شمس الدين
علىّ بن الدّاية، وكان ابن الداية حدّث نفسه بأمور، فسار الملك الصالح
من دمشق إلى حلب، فوصل إلى ظاهرها فى المحرّم سنة سبعين ومعه سابق
الدّين «1» ، فخرج بدر الدين حسن «2» بن الدّاية فقبض على سابق الدين.
ولمّا دخل الملك الصالح قلعة حلب قبض على شمس الدين علىّ بن الداية،
وعلى أخيه بدر الدين حسن المذكور، وأودع الثلاثة السجن. وفى ذلك اليوم
قتل أبو الفضل بن الخشّاب «3» لفتنة جرت [بحلب «4» ] ، وقيل: بل قتل
قبل القبض على أولاد الدّاية.
ثم إنّ صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أنّ ولده الملك الصالح صبىّ
لا يستقلّ بالأمر، ولا ينهض بأعباء الملك، واختلفت الأحوال بالشام.
وكاتب شمس الدين [محمد «5» بن عبد الملك] بن المقدّم صلاح الدين،
فتجهّز صلاح الدين من مصر فى جيش كثيف، وترك بالقاهرة من يحفظها، وقصد
دمشق مظهرا أنّه يتولى مصالح الملك الصالح؛ فدخلها بالتسليم فى يوم
الثلاثاء سلخ شهر ربيع الآخر سنة سبعين وخمسمائة، وتسلّم قلعتها واجتمع
الناس إليه وفرحوا به، وأنفق فى ذلك اليوم مالا
(6/24)
جزيلا، وأظهر السرور بالدّمشقيّين وصعد
القلعة؛ ثم سار إلى حلب ونازل حمص وأخذ مدينتها فى أوّل جمادى الأولى،
ولم يشتغل بقلعتها وتوجّه إلى حلب، ونازلها فى يوم الجمعة سلخ جمادى
الأولى من السنة، وهى الوقعة الأولى.
ثم إنّ سيف الدين غازى بن قطب الدين مودود بن زنكى صاحب الموصل لمّا
أحسّ بما جرى علم أنّ الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه، فخاف إن غفل عنه
استحوذ على البلاد واستقرّت قدمه فى الملك وتعدّى الأمر إليه، فأرسل
عسكرا وافرا، وجيشا عظيما، وقدّم عليه أخاه عزّ الدين مسعود بن قطب
الدين مودود، وساروا يريدون لقاء صلاح الدين نجدة لابن عمّه الملك
الصالح ابن نور الدين، ليردّوا صلاح الدين عن البلاد. فلمّا علم صلاح
الدين ذلك رحل من حلب فى مستهلّ رجب من السنة عائدا إلى حماة، ثم رجع
إلى حمص وأخذ قلعتها. ووصل عزّ الدين مسعود إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن
عمّه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود، وهو صاحب حلب يومئذ،
وخرجوا فى جمع عظيم؛ وما علم صلاح الدين بخروجهم حتّى وافاهم على قرون
حماة، فراسلهم وراسلوه، واجتهد صلاح الدين على أن يصالحوه فلم يصالحوه؛
ورأى أن ضرب المصافّ معهم ربّما نالوا به غرضهم، والقضاء يجرى إلى
أموره وهم لا يشعرون، فتلاقوا فقضى الله تعالى أنهم انكسروا بين يديه،
وأسر جماعة منهم فمنّ عليهم وأطلقهم، وذلك فى تاسع غشر شهر رمضان من
السنة عند قرون حماة. ثم سار صلاح الدين عقيب انكسارهم «1» ونزل على
حلب، وهى الدفعة الثانية فصالحوه على المعرّة وكفر طاب وبارين «2» .
ولمّا جرت هذه الواقعة كان سيف الدين غازى محاصرا أخاه عماد الدين زنكى
صاحب سنجار، وعزم على أخذها
(6/25)
منه، لأنّه كان قد انتمى إلى صلاح الدين؛
وكان قد قارب أخذها، فلمّا بلغه خبر هذه الواقعة، وأنّ عسكره انكسر من
صلاح الدين على قرون حماة خاف أن يبلغ أخاه عماد الدين الخبر فيشتدّ
أمره ويقوى جأشه، فراسله وصالحه. ثم سار غازى من وقته إلى نصيبين
واهتمّ بجمع العساكر والإنفاق فيها، وسار إلى الفرات وعبر البيرة «1»
وخيّم على الجانب الشامىّ، وراسل ابن عمّه الملك الصالح ابن الملك
العادل نور الدين صاحب حلب حتّى تستقرّ له قاعدة يصل إليها. ثم إنّه
وصل إلى حلب وخرج ابن عمّه الملك الصالح صاحب حلب إلى لقائه، وأقام
غازى على حلب مدّة، وصعد قلعتها جريدة؛ ثم نزل وسار إلى تلّ السلطان،
وهى منزلة بين حلب وحماة ومعه جمع كبير. وأرسل صلاح الدين إلى مصر وطلب
عسكرها، فوصل إليه منها جمع كبير؛ فسار بهم صلاح الدين حتّى نزل قرون
حماة ثانيا، وتصافّوا بكرة يوم الخميس العاشر من شوّال سنة إحدى وسبعين
وخمسمائة، وجرى قتال عظيم، وانكسرت ميسرة صلاح الدين من مظفّر الدين بن
زين الدين صاحب إربل؛ فإنّه كان على ميمنة سيف الدين غازى، فحمل صلاح
الدين بنفسه على عسكر سيف الدين غازى حملة شديدة فانكسر القوم، وأسر
منهم جماعة من كبار الأمراء، فمنّ عليهم صلاح الدين وأطلقهم. وعاد سيف
الدّين غازى إلى حلب فأخذ منها خزائنه وسار حتّى عبر الفرات، وترك ابن
عمّه الملك الصالح صاحب حلب بها وعاد إلى بلاده. ومنع صلاح الدين من
تتبّع القوم، ونزل فى بقيّة اليوم فى خيامهم، فإنّهم تركوا أثقالهم
وانهزموا؛ وفرّق صلاح الدين الأطلاب ووهب الخزائن وأعطى خيمة سيف الدين
غازى لابن أخيه عزّ الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيّوب أخى تقىّ الدين
عمر صاحب
(6/26)
حماة، وكان فرخشاه صاحب بعلبكّ. ثم سار
صلاح الدين إلى منبج «1» فتسلّمها، ثم سار إلى قلعة عزاز «2» وحاصرها
فى رابع ذى القعدة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.
وبينما صلاح الدين بها وثب عليه جماعة من الإسماعيليّة (أعنى الفداوية)
فنجّاه الله منهم وظفر بهم. وأقام عليها حتّى أخذها فى رابع عشر ذى
الحجّة من السنة. ثم سار فنزل على حلب فى سادس عشر ذى الحجّة وأقام
عليها مدّة. ثم رحل عنها بعد أن أخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين محمود
فسألته عزاز فوهبها لها. ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقّد أحوالها،
وكان مسيره إليها فى شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة؛ وكان
أخوه شمس الدولة توران شاه بن أيّوب قد وصل إليه من اليمن فاستخلفه
بدمشق. ثم بعد ذلك تأهّب صلاح الدين للغزاة وخرج يطلب الساحل حتى وافى
الفرنج على الرّملة، وذلك فى أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين
وخمسمائة، وكانت الكسرة على المسلمين فى ذلك الوقت، ولمّا انهزموا لم
يكن لهم حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصريّة وضلّوا فى
الطريق وتبدّدوا، وأسر منهم جماعة: منهم الفقيه عيسى الهكّارىّ، وكان
ذلك وهنا عظيما، جبره الله تعالى بوقعة حطّين المشهورة.
ووصل صلاح الدين إلى مصر ولمّ شعثه وشعث أصحابه من أثر «3» كسرة
الرّملة ثم بلغه تخبّط الشام فعاد إليه واهتم بالغزاة، فوصله رسول صاحب
الروم يلتمس الصلح ويتضرّر من الأرمن، يقصد بلاد «4» ابن لاون (يعنى
بلادسيس الفاصلة بين حلب والروم من جهة الساحل) ؛ فتوجّه صلاح الدين
إليه، واستدعى عسكر
(6/27)
حلب، لأنّه كان فى الصلح متى استدعاه حضر
إليه؛ (يعنى صلح صلاح الدين مع الملك الصالح صاحب حلب) . ثم دخل صلاح
الدين بلاد ابن لاون وأخذ فى طريقه حصنا وأخربه، ورغبوا إليه فى الصلح
فصالحهم ورجع عنهم. ثم سأله قليج أرسلان [صاحب «1» الروم] فى صلح
الشرقيّين أسرهم (يعنى سيف الدين غازى وإخوته) فأجاب ذلك صلاح الدين
وحلف فى عاشر جمادى الأولى سنة ستّ وسبعين وخمسمائة، ودخل فى الصلح
قليج أرسلان والمواصلة. ثم عاد صلاح الدين بعد تمام الصلح إلى دمشق؛ ثم
منها إلى مصر. فورد عليه الخبر بموت الملك الصالح ابن الملك العادل نور
الدين محمود الشهيد بعد أن استحلف أمراء حلب وأجنادها قبل موته لابن
عمّه عز الدين مسعود صاحب الموصل، وهو ابن عم قطب الدين مودود. ولمّا
بلغ عزّ الدين مسعودا خبر موت ابن عمّه الملك الصالح المذكور، وأنّه
أوصى له بحلب بادر إلى التوجّه إليها خوفا أن يسبقه صلاح الدين إليها
فأخذها. وكان أوّل قادم إليها مظفّر الدين بن زين الدين صاحب إربل،
وكان إذ ذاك صاحب حرّان، وهو مضاف إلى الموصل، ووصلها مظفّر الدين
المذكور فى ثالث شعبان من سنة سبع وسبعين.
وفى العشرين منه وصلها عزّ الدين مسعود وطلع إلى القلعة واستولى على ما
فيها من الحواصل، وتزوّج بأم الملك الصالح فى الخامس من شوّال من
السنة. قال:
وحاصل الأمر أنّ عزّ الدين مسعودا قايض عماد الدين زنكى صاحب سنجار عن
حلب بسنجار، وخرج عزّ الدين من حلب ودخلها عماد الدين زنكى، فلمّا بلغ
صلاح الدين ذلك توجّه إليه وحاصره فلم يقدر عماد الدين على حفظ حلب،
وكان نزول صلاح الدين على حلب فى السادس والعشرين من المحرّم سنة سبع
وسبعين وخمسمائة. فتحدّث عماد الدين زنكى مع الأمير حسام الدين طمان بن
غازى فى السرّ
(6/28)
بما يفعله، فأشار عليه أن يطلب من صلاح
الدين بلادا وينزل له عن حلب، بشرط أن يكون له جميع ما فى القلعة من
الأموال؛ فقال له عماد الدين: وهذا كان فى نفسى.
ثم اجتمع حسام الدين طمان بن غازى مع صلاح الدين فى السرّ على تقرير
القاعدة لذلك، فأجابه صلاح الدين إلى ما طلب ووقّع له بسنجار وخابور
ونصيبين وسروج، ووقّع لطمان المذكور بالرّقّة لسفارته بينهما، وحلف
صلاح الدين على ذلك فى سابع «1» صفر من السنة؛ وكان صلاح الدين قد نزل
قبل تاريخه على سنجار وأخذها فى ثانى «2» شهر رمضان من سنة ثمان وسبعين
وأعطاها لابن أخيه تقىّ الدين عمر؛ فلمّا جرى الصلح على هذا أخذها من
عمر وأعطاها لعماد الدين المذكور. وتسلّم صلاح الدين قلعة حلب وصعد
إليها فى يوم الاثنين السابع والعشرين من صفر [سنة «3» تسع وسبعين
وخمسمائة] ، وأقام بها حتّى رتّب أمورها ثم رحل عنها فى الثانى
والعشرين من شهر ربيع الآخر من السنة، وجعل فيها ولده الملك الظاهر
وكان صبيّا، وولّى القلعة لسيف الدين يازكوج «4» الأسدىّ وجعله يرتّب
مصالح ولده.
ثم سار صلاح الدين إلى دمشق وتوجّه من دمشق لقصد محاصرة الكرك فى
الثالث من رجب من السنة، وسيّر إلى أخيه الملك العادل وهو بمصر،
يستدعيه ليجتمع به على الكرك، فسار إليه الملك العادل أبو بكر بجمع
عظيم وجيش كبير، واجتمع به على الكرك فى رابع شعبان. فلمّا بلغ الفرنج
نزوله على الكرك حشدوا خلقا عظيما وجاءوا إلى الكرك ليكونوا من خارج
قبالة عسكر المسلمين، فخاف صلاح الدين على الديار المصريّة، فسيرّ
اليها ابن أخيه تقىّ الدين عمر، ثم تزحزح «5»
(6/29)
صلاح الدين عن الكرك فى سادس عشر شعبان من
السنة (واستصحب أخاه الملك العادل معه ودخل دمشق فى الرابع والعشرين من
شعبان من السنة، وأعطى أخاه العادل حلب، فتوجّه إليها العادل ودخلها
يوم الجمعة الثانى والعشرين من شهر رمضان من السنة. وخرج الملك الظاهر
ويازكوج من حلب ودخلا دمشق يوم الاثنين الثامن والعشرين من شوّال من
السنة. وكان الملك الظاهر أحب أولاد أبيه إليه لما فيه من الخلال
الحميدة، ولم يأخذ منه حلب إلّا لمصلحة رآها أبوه صلاح الدين فى ذلك
الوقت. وقيل: إنّ الملك العادل أعطاه على أخذ حلب ثلثمائة ألف دينار
يستعين بها على الجهاد. ثم إنّ صلاح الدين رأى أنّ عود الملك العادل
إلى مصر، وعود الملك الظاهر إلى حلب أصلح. قيل: إنّ علم الدين سليمان
بن جندر «1» كان هو السبب لذلك، فإنّه قال لصلاح الدين، وكانت بينهما
مؤانسة قبل أن يتملّك البلاد، وقد سايره يوما، وكان من أمراء حلب،
والملك العادل لا ينصفه، وقدّم عليه غيره؛ وكان صلاح الدين قد مرض على
حصار الموصل! وعمل الى حرّان وأشفى على الهلاك، ولمّا عوفى ورجع إلى
الشام واجتمعا فى المسير، قال له: وكان صلاح الدين قد أوصى لكلّ واحد
من أولاده بشىء من البلاد-: بأىّ رأى كنت تظنّ أنّ وصيّتك تنفذ! كأنّك
كنت خارجا إلى الصيد ثم تعود فلا يخالفونك! أما تستحى [أن «2» ] يكون
الطائر أهدى منك إلى المصلحة! قال صلاح الدين: وكيف ذلك؟ وهو يضحك؛
قال: إذا أراد الطائر أن يعمل عشّا لفراخه قصد أعالى الشجر ليحمى
فراخه، وأنت سلّمت الحصون إلى أهلك وجعلت أولادك على الأرض؛ هذه حلب-
وهى أمّ البلاد- بيد أخيك،
(6/30)
وحماة بيد ابن أخيك «1» ، وحمص بيد ابن عمك
أسد الدين؛ وابنك الأفضل مع تقىّ الدين بمصر يخرجه متى شاء، وابنك
الآخر مع أخيك فى خيمة يفعل به ما أراد؛ فقال له صلاح الدين: صدقت،
فاكتم هذا الأمر؛ ثم أخذ حلب من أخيه العادل وأعادها إلى ابنه الملك
الظاهر، وأعطى العادل بعد ذلك حرّان والرّها وميّافارقين ليخرجه من
الشام. وفرق الشام على أولاده، فكان ما كان. وزوّج السلطان صلاح الدين
ولده الملك الظاهر بغازية خاتون ابنة أخيه الملك العادل المذكور.
ثم كانت وقعة حطّين المباركة على المسلمين، وكانت فى يوم السبت رابع
عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة فى وسط نهار الجمعة.
وكان صلاح الدين كثيرا ما يقصد لقاء العدوّ فى يوم الجمعة عند الصلاة
تبرّكا بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر، فسار فى ذلك الوقت واجتمع
له من العساكر الإسلاميّة عدد يفوت الحصر، وكان قد بلغه أنّ العدوّ
اجتمع فى عدّة كثيرة بمرج «2» صفّورية بأرض عكّا عند ما بلغهم اجتماع
العساكر الإسلامية، فسار صلاح الدين ونزل على طبريّة «3» على سطح الجبل
ينظر قصد الفرنج، فلمّا بلغهم نزوله فى الموضع المذكور لم يتحرّكوا ولا
خرجوا من منزلتهم، وكان نزولهم فى الموضع المذكور يوم الأربعاء الحادى
والعشرين من شهر ربيع الآخر؛ فلمّا رآهم لا يتحرّكون ترك جريدة على
طبريّة، وترك الأطلاب على حالها قبالة العدوّ، ونزل طبريّة وهجمها
وأخذها فى ساعة واحدة، وانتهب الناس ما فيها، وأخذوا فى القتل والسّبى
والحريق؛ وبقيت القلعة ممتنعة
(6/31)
بمن فيها. ولمّا بلغ العدوّ ما جرى فى
طبريّة قلقوا لذلك ورحلوا نحوها، فبلغ السلطان صلاح الدين ذلك فترك على
طبريّة من يحاصرها ولحق بالعسكر، والتقى بالعدوّ على سطح جبل طبريّة
الغربىّ منها، وذلك فى يوم الخمس الثانى والعشرين من شهر ربيع الآخر،
فحال الليل بين العسكرين «1» ، فناما على المصافّ إلى بكرة يوم الجمعة
الثالث والعشرين منه، فركب العسكران وتصادما والتحم القتال واشتدّ
الأمر؛ ودام القتال حتّى لم يبق إلّا الظّفر، فحال الليل بينهم، وناما
على المصافّ، وتحقّق المسلمون أنّ من ورائهم الأردنّ، ومن بين أيديهم
بلاد العدوّ، وأنّهم لا ينجيهم إلّا القتال والجهاد، وأصبحوا من الغد
فحملت أطلاب المسلمين من جميع الجوانب، وحمل القلب وصاحوا صيحة رجل
واحد: [الله أكبر «2» ] وألقى الله الرّعب فى قلوب الكافرين، وكان حقّا
عليه نصر المؤمنين.
ولما أحسّ الملك القومص بالخذلان هرب فى أوائل الأمر، فتبعه جماعة من
المسلمين، فنجا منهم، وأحاط المسلمون بالكافرين من كلّ جانب، وأطلقوا
عليهم السهام، وحملوا عليهم بالسيوف، وسقوهم كأس الحمام، وانهزمت طائفة
منهم فتبعهم المسلمون يقتلونهم؛ واعتصمت طائفة منهم بتلّ يقال [له «3»
] : تلّ حطّين، وهى قرية عندها قبر النّبيّ شعيب عليه السلام، فضايقهم
المسلمون وأشعلوا حولهم النيران، واشتدّ بهم العطش فاستسلموا [للأسر
«4» خوفا من] القتل، فأسر مقدّمتهم، وقتل الباقون، وكان ممّن أسر من
مقدميهم الملك جفرى وأخوه الملك، [والبرنس «5» أرناط] صاحب الكرك
والشوبك، وابن الهنفرى وابن صاحب طبريّة.
(6/32)
قال ابن شدّاد: لقد حكى لى من أثق به أنّه
رأى بحوران «1» شخصا واحدا ومعه نيّف وثلاثون أسيرا ربطهم بطنب خيمة،
لما وقع عليهم من الخذلان؛ ثم إنّ الملك القومص الذي هرب فى أوّل
الوقعة وصل إلى طرابلس، وأصابه ذات الجنب فهلك. وأمّا مقدّم الأسبتار
«2» والدّيويّة «3» فإنّه قتلهما السلطان صلاح الدين، وقتل من بقى من
أصحابهما حيّا، وأمّا البرنس أرناط فإنّ السلطان كان نذر أنّه إن ظفر
به قتله، وذلك أنّه كان عبر إليه بالشّوبك قوم من الديار المصريّة فى
حال الصلح فغدر بهم وقتلهم، فناشدوه الصلح الذي بينه وبين السلطان،
فقال: ما يتضمّن الاستخفاف بالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم؛ وبلغ ذلك
السلطان، فحملته حميّة دينه على أن أهدر دمه.
ولمّا فتح الله عليه بالنصر جلس بالدّهليز (يعنى الخيمة) فإنّها لم تكن
نصبت بعد لشغل السلطان بالجهاد، وعرضت عليه الأسارى، وصار الناس
يتقرّبون إليه بما فى أيديهم منهم، وهو فرح بما فتح الله عليه؛ واستحضر
«4» الملك جفرى وأخاه، والبرنس أرناط، وناول السلطان الملك جفرى شربة
من جلّاب وثلج فشرب منها، وكان على أشدّ حال من العطش ثم ناولها
للبرنس، ثم قال السلطان للتّرجمان:
قل للملك أنت الذي سقيته وإلّا أنا فما سقيته، فإنّه كان من جميل عادة
العرب
(6/33)
وكريم أخلاقهم أنّ الأسير إذا أكل أو شرب
من مال من أسره أمن؛ فلذا قال السلطان للتّرجمان: أنت الذي سقيته. ثمّ
أمر السلطان بمسيرهم إلى موضع عيّنه لهم فأكلوا شيئا، ثم عادوا بهم ولم
يبق عند السلطان سوى بعض الخدم؛ فآستحضرهم وأقعد الملك فى دهليز
الخيمة، فطلب البرنس أرناط وأوقفه بين يديه، وقال [له «1» ] : هأنا
أنتصر لمخمد منك، ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل، فسلّ النّيمجاه «2»
فضربه بها فحلّ كتفه، وتمّم قتله من حضر، وأخرجت جثّته ورميت على باب
الخيمة؛ فلما رآها الملك جفرى لم يشكّ أنه يلحقه به، فاستحضره السلطان
وطيّب قلبه، وقال له: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك إلّا أنّ
هذا تجاوز الحدّ وتجرّأ على الأنبياء صلوات الله عليهم، ثم أمره
بالانصراف. وبات الناس تلك الليلة على أتمّ سرور. وفى هذه الواقعة يقول
العماد الكاتب قصيدة طنّانة منها:
حططت «3» على حطّين قدر ملوكهم ... ولم تبق من أجناس كفرهم جنسا
بطون ذئاب الأرض صارت قبورهم ... ولم ترض أرض أن تكون لهم رمسا
وقد طاب ريّانا على طبريّة ... فياطيبها ريّا ويا حسنها مرسى
وقال ابن «4» السّاعاتىّ قصيدة أخرى عظيمة فى هذا الفتح، أوّلها:
جلت «5» عزماتك الفتح المبينا ... فقد قرّت عيون المؤمنينا
(6/34)
ثمّ رحل السلطان بعد أن تسلم طبريّة ونزل
على عكّا فى يوم الأربعاء سلخ شهر ربيع الآخر، وقاتلها بكرة يوم الخميس
مستهلّ جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة؛ وأخذها واستنقذ من كان
فيها من أسارى المسلمين، وكانوا أكثر من أربعة آلاف أسير، واستولى على
ما كان فيها من الأموال والذخائر والبضائع، لأنّها كانت مظنّة التجّار؛
وتفرّقت العساكر فى بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع.
ثم سار السلطان من عكّا ونزل على تبنين «1» يوم الأحد حادى عشر جمادى
الأولى، وهى قلعة منيعة، فحاصرها حتّى أخذها فى يوم الأحد ثامن عشر
جمادى الأولى، المذكور عنوة. ثمّ رحل عنها إلى صيدا فنزل عليها
وتسلّمها فى غد يوم نزوله عليها.
ثم رحل عنها وأتى بيروت فنازلها يوم الخميس الثانى والعشرين من جمادى
الأولى، حتى أخذها فى يوم الخميس تاسع عشرين جمادى الأولى. ولمّا فرغ
باله من هذا رأى قصد عسقلان، ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها؛
ثم رأى أنّ العسكر قد تفرّق فى الساحل وكانوا قد ضرسوا من القتال؛ وكان
قد اجتمع بصور من بقى من الفرنج فرأى أنّ قصده عسقلان أولى، لأنّها
أيسر من صور؛ فأتى عسقلان ونزل عليها يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة.
وأقام عليها إلى أن تسلّم أصحابه مدينة غزّة وبيت «2» جبريل والماطرون
«3» من غير قتال، وكان بين فتح عسقلان وأخذ الفرنج لها ثانيا من
المسلمين خمس وثلاثون سنة؛ فإنّ أخذها كان فى سنة ثمان وأربعين
وخمسمائة. ولمّا تسلّم السلطان عسقلان والبلاد المحيطة
(6/35)
بالقدس شمّر عن ساق الجدّ والاجتهاد فى قصد
القدس المبارك، واجتمع عليه العساكر التى كانت متفرّقة فى الساحل، فسار
بهم نحو القدس معتمدا على الله تعالى مفوّضا أمره إليه منتهزا الفرصة
فى فتح باب الخير الذي حثّ على انتهازه بقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«من فتح له باب خير فلينتهزه فإنّه لا يعلم متى يغلق دونه» .
وكان نزول السلطان على القدس فى يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب سنة
ثلاث وثمانين المذكورة، ونزل بالجانب الغربىّ، وكان مشحونا بالمقاتلة
من الخيّالة والرّجّالة حتّى إنّه حزر أهل الخبرة، ممّن كان مع
السلطان، من كان «1» فيه من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين ألفا
خارجا عن النساء والصّبيان؛ ثم انتقل السلطان لمصلحة رآها إلى الجانب
الشمالى فى يوم الجمعة العشرين من رجب ونصب عليها المجانيق وضايق البلد
بالزّحف والقتال حتّى أخذ النّقب فى السور ممّا يلى وادى جهنّم «2» ؛
ولمّا رأى العدوّ ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع لهم عنه، وظهرت لهم
أمارات فتح المدينة وظهور المسلمين عليهم، وكان قد اشتدّ روعهم لما جرى
على أبطالهم ما جرى «3» ، فاستكانوا إلى طلب الأمان، وسلّموا المدينة
فى يوم الجمعة السابع والعشرين «4» من رجب، وليلته كانت ليلة المعراج
المنصوص عليها فى القرآن الكريم. فآنظر إلى هذا الاتفاق العظيم، كيف
يسر الله تعالى عوده إلى المسلمين فى مثل زمان الإسراء بنبيّهم صلّى
الله عليه وسلّم.
(6/36)
قال: وكان فتحا عظيما شهده من العلماء خلق،
ومن أرباب الحرب «1» والزّهد عالم كثير، وارتفعت الأصوات بالضّجيج
بالدعاء والتهليل والتكبير، وصلّيت فيه الجمعة يوم فتحه، ونكّس الصليب
الذي كان على قبّة الصخرة، وكان الصليب شكلا عظيما، ونصر الله الإسلام.
وكان الفرنج قد استولوا على القدس- بعد فتحه الأوّل فى زمن عمر- فى يوم
الجمعة الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة؛ وقيل:
فى ثانى شعبان وقيل يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر رمضان من السنة
(أعنى سنة اثنتين وتسعين) ، وذلك كان فى خلافة المستعلى أبى القاسم أحد
خلفاء مصر من بنى عبيد، وكان فى وزراة بدر الجمالى بديار مصر.
وقد حكينا طرفا من ذلك فى ترجمة المستعلى فى هذا الكتاب. قلت: وعلى هذا
الحساب يكون القدس أقام بيد الفرنج نيّفا وتسعين سنة من يوم أخذوه فى
خلافة المستعلي إلى أن فتحه السلطان صلاح الدين فى هذه المرّة ثانيا.
ولله الحمد. قال ابن شدّاد: «وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم
عن كلّ رجل عشرين «2» دينارا، وعن كلّ امرأة خمسة دنانير صوريّة، وعن
كلّ صغير ذكر أو أنثى دينارا واحدا، فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلّا
أخذ أسيرا، وأفرج عمّن كان بالقدس من أسارى المسلمين، وكانوا خلقا
عظيما؛ وأقام السلطان بالقدس يجمع الأموال ويفرّقها على الأمراء
والرجال، ثم رسم «3» بإيصال من قام بقطيعته من الفرنج إلى مأمنه، وهى
مدينة صور، فلم يرحل السلطان من القدس ومعه من المال الذي جى شىء، وكان
يقارب مائتى ألف دينار [وعشرين «4» ألف دينار] .
(6/37)
ولمّا فتح القدس حسن عنده فتح صور، وعلم
أنّه متى أخّره عسر عليه فتحه، فسار نحوها حتى أتى عكّا فنزل عليها
ونظر فى أمورها؛ ثم رحل عنها متوجّها إلى صور فى يوم الجمعة خامس شهر
رمضان من سنة ثلاث وثمانين المذكورة، فنزل قريبا منها، وأرسل لإحضار
آلات القتال حتّى تكاملت عنده، نزل عليها فى ثانى «1» عشر الشهر
المذكور، وقاتل أهلها قتالا شديدا وضايقها، واستدعى أسطول مصر، وكان
السلطان يضايقها فى البرّ والبحر؛ وخرج أسطول صور فى الليل فكبس أسطول
المسلمين فى البحر، وأخذوا المقدّم والرئيس وخمس قطع للمسلمين، وقتلوا
خلقا كثيرا من الرجال، وذلك فى السابع والعشرين من شهر «2» شوّال؛ وعظم
ذلك على السلطان وضاق صدره؛ وكان الشتاء قد هجم وتراكمت الأمطار وامتنع
الناس من القتال لكثرة الأمطار، فجمع السلطان الأمراء واستشارهم فيما
يفعل، فأشاروا عليه بالرحيل لنستريح الرجال، فرحل عنها فى يوم الأحد
ثانى ذى القعدة وتفرّقت العساكر، وأعطى كلّ طائفة منها دستورا؛ فسار
كلّ قوم إلى بلادهم، وأقام هو فى جماعة من خواصّه بمدينة عكّا إلى أن
دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة. فرحل ونزل على كوكب «3» فى أوّل
المحرّم، ولم يبق معه من العسكر إلّا القليل؛ وكان كوكب حصنا حصينا فيه
الرجال [والأقوات «4» ] ، فعلم السلطان أنّه لا يؤخذ إلّا بقتال شديد.
فرحل إلى دمشق فدخلها فى سادس «5» عشرين شهر ربيع الأوّل من السنة؛
وأقام بدمشق خمسة أيّام.
وبلغه أنّ الفرنج قصدوا جبلة «6» واغتالوها، فخرج مسرعا وقد سيّر
يستدعى العساكر
(6/38)
من جميع البلاد، وسار يطلب جبلة؛ فلمّا علم
الفرنج بخروجه كفّوا عن ذلك.
وكان السلطان بلغه وصول عماد الدين صاحب سنجار ومظفّر الدين [بن] زين
الدين صاحب إربل وعسكر الموصل إلى حلب قاصدين خدمته والغزاة معه؛ فسار
السلطان نحو حصن «1» الأكراد حتى اجتمع بالمذكورين [و] تقوّى بهم
للغاية» . انتهى كلام ابن شدّاد.
وقال القاضى شمس الدين بن خلّكان: «وفى يوم الجمعة رابع جمادى الأولى
دخل السلطان (يعنى صلاح الدين) بلاد العدوّ على تعبئة حسنة ورتّب
الأطلاب، وسارت الميمنة أوّلا ومقدّمها عماد الدين زنكى، والقلب فى
الوسط، والميسرة فى الأخير ومقدّم الميسرة مظفّر الدين بن زين الدين
صاحب إربل، فوصل إلى أنطرطوس «2» يوم الأحد سادس جمادى الأولى، فوقف
قبالتها ينظر إليها فإنّ قصده مجبلة، فاستهان أمرها وعزم على قنالها
فسيّر من ردّ الميمنة، وأمرها بالنزول إلى جانب البحر، والميسرة على
الجانب الآخر، ونزل هو موضعه والعساكر محدقة بها من البحر إلى البحر،
وهى مدينة راكبة على البحر ولها برجان، فركبوا وقاربوا البلد وزحفوا
عليها، واشتدّ القتال فما استتمّ نصب الخيام حتّى صعد المسلمون سورها
وأخذوها بالسيف، وغنم المسلمون جميع ما فيها، وأحرق البلد وأقام عليها
إلى رابع عشر جمادى الأولى، وسلّم أحد البرجين إلى مظفّر الدين، فما
زال يحار به حتىّ أخربه. وحضر إلى السلطان ولده الملك الظاهر بعساكر
حلب، لإنّه كان طلبه فجاء بعساكر عظيمة. ثم سار السلطان يريد جبلة
فوصلها فى ثانى عشر جمادى الأولى،
(6/39)
وما استتمّ نزول العسكر عليها حتّى أخذت
البلد؛ وكان فيه مسلمون مقيمون وقاض يحكم بينهم، وقوتلت القلعة قتالا
شديدا ثم سلّمت بالأمان. ثم سار السلطان عنها إلى اللّاذقيّة فنزل
عليها يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الأولى، ولها قلعتان (يعنى
اللّاذقيّة) متّصلتان على تلّ مشرف على البلد، واشتدّ القتال إلى آخر
النهار، فأخذ البلد دون القلعتين، وغنم المسلمون منه غنيمة عظيمة لأنّه
كان بلد التجّار؛ ثم جدّوا فى أمر القلعتين بالنّقوب حتّى بلغ طول
النّقب ستين ذراعا وعرضه أربع أذرع. فلمّا رأى أهل القلعتين الغلبة
لاذوا بطلب الأمان، وذلك فى عشيّة يوم الجمعة الخامس والعشرين من
الشهر، والتمسوا الصلح على سلامة أنفسهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم ما
خلا الغلال والذخائر والسلاح وآلات الحرب، فأجاب السلطان إلى ذلك، ورفع
العلم الإسلامىّ عليها فى يوم السبت وأقام عليها إلى يوم الأحد السابع
والعشرين من الشهر. ثم رحل عنها ونزل صهيون «1» وقاتلهم أشدّ قتال حتّى
أخذ البلد يوم الجمعة ثانى عشر جمادى الآخرة؛ ثم تقدّموا إلى القلعة
وصدقوا القتال، فلمّا عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأجابهم إليه بحيث
يؤخذ من الرجل عشرة دنانير، ومن المرأة خمسة دنانير، ومن كل صغير
ديناران، الذكر والأنثى سواء.
وأقام السلطان صلاح الدين بهذه الجهات حتّى أخذ عدّة قلاع منها بلاطنس
«2» وغيرها من الحصون المتعلّقة بصهيون. ثم رحل عنها وأتى بكاس، وهى
قلعة حصينة على العاصى «3» ولها نهر يخرج من تحتها، وكان النزول عليها
فى يوم الثلاثاء
(6/40)
سادس «1» جمادى الاخرة، وقاتلوها قتالا
شديدا إلى يوم الجمعة تاسع الشهر ففتحها عنوة، فقتل أكثر من بها وأسر
الباقون، وغنم المسلمون جميع ما كان فيها، ولها قلعة تسمّى الشّغر «2»
، وهى فى غاية المنعة يعبر إليها بجسر وليس عليها طريق، فسلّطت
المجانيق عليها من جميع الجوانب، فرأوا أن لا ناصر لهم فطلبوا الأمان
فى يوم الثلاثاء ثالث عشر الشهر. ثم سار السلطان الى برزيه «3» ، وهى
أيضا من الحصون المنيعة فى غاية القوّة يضرب بها المثل، ويحيط بها
أودية من جميع جوانبها، وعلوّها خمسمائة ونيّف وسبعون ذراعا، وكان
نزوله عليها يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر، فقاتلوها حتّى أخذوها
عنوة فى يوم الثلاثاء السابع والعشرين منه. ثم سار السلطان إلى دربساك
«4» فنزل عليها يوم الجمعة ثامن رجب، وهى قلعة منيعة فقاتلها قتالا
شديدا حتى أخذها وترقّى العلم الإسلامىّ عليها يوم الجمعة الثانى
والعشرين من رجب، وأعطاها للأمير علم الدين سليمان بن جندر، وسار عنها
بكرة يوم السبت الثالث والعشرين من رجب ونزل على بغراس، وهى قلعة حصينة
بالقرب من أنطاكية، وقاتلها قتالا شديدا حتّى صعد العلم الإسلامى عليها
فى ثانى شعبان؛ وراسله أهل أنطاكية فى طلب الصلح فصالحهم لشدّة ضجر
العسكر؛ فكان الصلح بينهم على أن يطلقوا كلّ أسير عندهم لا غير، والصلح
إلى سبعة أشهر؛ فإن جاءهم من ينصرهم وإلّا سلّموا البلد.
(6/41)
ثم رحل السلطان فسأله ولده الملك الظاهر
صاحب حلب أن يجتاز به فأجابه إلى ذلك، فوصل إلى حلب فى حادى عشر شعبان،
وأقام بالقلعة ثلاثة أيام، وولده يقوم بالضّيافة حقّ القيام. ثم سار من
حلب فاعترضه تقىّ الدين عمر ابن أخيه، وأصعده إلى قلعة حماة، وصنع له
طعاما وأحضر له سماعا من جنس ما يعمل الصّوفيّة، وبات فيها ليلة واحدة،
وأعطاه السلطان جبلة واللّاذقيّة. ثم سار السلطان على طريق بعلبكّ،
ودخل دمشق قبل شهر رمضان بأيّام يسيرة. ثم سار فى أوائل شهر رمضان يريد
صفد «1» ، فنزل عليها ولم يزل القتال عمّالا فى كلّ يوم حتّى تسلّمها
بالأمان فى رابع عشر شوّال؛ وفى شهر رمضان المذكور سلّمت الكرك، سلّمها
نوّاب صاحبها وخلّصوا صاحبها بذلك، فإنّه كان فى الأسر من نوبة حطّين.
ثم نزل السلطان بالغور «2» ، وأقام بقيّة الشهر، فأعطى الجماعة دستورا.
وسار السلطان مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه العادل
المذكور، لأنّ العادل المذكور كان متوجّها إلى مصر، فدخل السلطان القدس
فى ثامن ذى الحجّة وصلّى به العيد. وتوجّه فى حادى عشر ذى الحجّة إلى
عسقلان لينظر فى أمورها، فتوجّه إليها وأخذها من أخيه، وعوّضه عنها
الكرك. ثم مرّ على بلاد الساحل يتفقّد أحوالها. ثم سار فدخل عكّا وأقام
بها معظم المحرّم من سنة خمس وثمانين وخمسمائة يصلح أحوالها، ورتّب
فيها الأمير بهاء الدين قراقوش، وأمره بعمارتها وعمارة سورها.
ودخل السلطان دمشق فى مستهل صفر من السنة، وأقام بها إلى شهر ربيع
الأوّل من السنة. ثم خرج إلى شقيف «3» أرنون، وهو موضع حصين، فخيّم فى
مرج عيون
(6/42)
بالقرب من الشّقيف فى سابع عشر «1» شهر
ربيع الأوّل فأقام أيّاما على قتاله، والعسكر تتواصل إليه؛ فلمّا تحقّق
صاحب الشّقيف أنّه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه، فلم يشعر به إلّا وهو
قائم على باب خيمته، فأذن له فى الدخول وأكرمه السلطان واحترمه، وكان
من أكبر الفرنج قدرا، وكان يعرف بالعربية، وعنده اطّلاع على بعض
التواريخ والأحاديث، وكان حسن التأتّى؛ لمّا خضر بين يدى السلطان وأكل
معه الطعام، ثم خلا به وذكر أنّه مملوكه وتحت طاعته، وأنّه يسلّم إليه
المكان من غير تعب، واشترط عليه أن يعطى موضعا يسكنه بدمشق، فإنّه بعد
ذلك لا يقدر على مساكنة الفرنج، وإقطاعا بدمشق يقوم به وبأهله، وشروطا
غير ذلك، فأجابه إلى ذلك. وفى أثناء شهر ربيع الأوّل وصل إلى السلطان
[الخبر «2» ] بتسليم الشّوبك، وكان قد أقام عليه جمعا يحاصرونه مدّة
سنة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيه فسلّموه بالأمان. ثم ظهر للسلطان
بعد ذلك أنّ جميع ما قاله صاحب شقيف كان خديعة، فرسم عليه. ثم بلغه أنّ
الفرنج قصدوا عكّا ونزلوا عليها فى ثالث عشر شهر رجب من سنة خمس
وثمانين المذكورة. وفى ذلك اليوم سيّر السلطان صاحب الشّقيف إلى دمشق
بعد الإهانة الشديدة. ثم سار السلطان وأتى عكّا ودخلها بغتة ليقوّى
قلوب من بها، واستدعى العساكر من كلّ ناحية؛ وكان العدوّ مقدار ألفى
فارس وثلاثين ألف راجل، وتكاثر الفرنج واستفحل أمرهم، وأحاطوا بعكّا
ومنعوا من يدخل إليها ويخرج، وذلك فى يوم الخميس سلخ رجب، فضاق صدر
السلطان لذلك، ثم اجتهد فى فتح الطريق إليها لتستمرّ السابلة بالميرة
والنّجدة، وشاور الأمراء فاتّفقوا على مضايقة العدوّ لفتح الطريق،
(6/43)
ففعلوا ذلك وانفتح الطريق وسلكه المسلمون؛
ودخل السلطان عكّا فأشرف على أمورها؛ ثم جرى بين الفريقين مناوشات فى
عدّة أيام، وتأخّر الناس إلى تلّ العياضيّة وهو مشرف على عكّا. وفى هذه
المنزلة توفّى الأمير حسام الدين طمان المقدّم ذكره، وذلك فى نصف شعبان
من سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وكان من الشّجعان» .
قال ابن خلّكان: «قال شيخنا ابن شدّاد: وسمعت السلطان ينشد- وقد قيل
له: إنّ الوخم قد عظم بعكّا، وإنّ الموت قد فشا بين الطائفتين-:
اقتلانى «1» ومالكّا ... واقتلا مالكّا معى
- قلت: وهذا الشعر له سبب ذكرناه فى ترجمة الأشتر النّخعىّ، اسمه مالك،
فى أوائل هذا الكتاب فإنّه ملك مصر، وكان الأشتر من أصحاب علىّ بن أبى
طالب- رضى الله عنه- والحكاية مطوّلة تنظر فى ترجمة مالك (أعنى الأشتر
النّخعىّ من هذا الكتاب-.
قال ابن شدّاد: ثم إنّ الفرنج جاءهم الإمداد من البحر، واستظهروا على
الجماعة الإسلاميّة بعكّا، وكان فيهم الأمير سيف الدين علىّ بن أحمد
الهكّارىّ المعروف بالمشطوب، والأمير بهاء الدين قراقوش الخادم
الصّلاحىّ، وضايقوهم أشدّ مضايقة إلى أن غلبوا عن حفظ البلد. فلمّا كان
يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة [سنة «2» سبع وثمانين وخمسمائة] خرج
من عكّا رجل عوّام فى البحر، ومعه كتب إلى السلطان من المسلمين يذكرون
حالهم وما هم فيه، وأنّهم تيقّنوا
(6/44)
الهلاك، ومتى أخذوا البلد عنوة ضربت
رقابهم، وأنّهم صالحوا على أن يسلّموا البلد وجميع ما فيه من الآلات
والأسلحة والمراكب، ومائتى ألف دينار وخمسمائة «1» أسير مجاهيل ومائة
أسير معيّنين من جماعتهم، وصليب الصلبوت، على أن يخرجوا بأنفسهم
سالمين، وما معهم من الأموال والأقمشة المختصّة بهم وذراريهم ونسائهم،
وصمنوا «2» للمركيس- لأنه كان الواسطة فى هذا الأمر- أربعة آلاف دينار.
فلمّا وقف السلطان على الكتب المشار إليها أنكر ذلك إنكارا عظيما، وعظم
عليه هذا الأمر، وجمع «3» أهل الرأى من أكابر دولته، وشاورهم فيما
يصنع، واضطربت آراؤه، وتقسّم فكره وتشوّش حاله، وعزم أن تكتب فى تلك
الليلة كتب مع الرجل العوّام الذي قدم عليه بهذا الخبر ينكر المصالحة
على هذا الوجه، وبينما هو يتردّد فى هذا فلم يشعر إلّا وقد ارتفعت
أعلام العدوّ وصلبانه «4» وناره على سور البلد؛ وذلك فى يوم الجمعة
سابع عشر جمادى الآخرة؛ وصاح الفرنج صيحة واحدة، وعظمت المصيبة على
المسلمين، واشتدّ حزنهم، ووقع من الصباح والعويل والبكاء ما لا بذكر.
ثم خرجت الفرنج بعد أن ملكوا عكّا قاصدين عسقلان ليأخذوها أيضا من
المسلمين، وساروا على الساحل والسلطان وعساكره قبالتهم إلى أن وصلوا
إلى أرسوف «5» ، فكان بينهما قتال عظيم، ونال المسلمين وهن شديد. ثم
ساروا على تلك الهيئة تتمّة عشر منازل من سيرهم من عكّا، فأتى السلطان
الرّملة، فأتاه من أخبر بأنّ القوم على عزم عمارة يافا وتقويتها
بالرجال والعدد والآلات، فأحضر السلطان أرباب
(6/45)
مشورته، وشاورهم فى أمر عسقلان، وهل الصواب
خرابها أو بقاؤها؟ فاتّفقت آراؤهم أن يبقى الملك العادل فى قبالة
العدوّ، ويتوجّه السلطان بنفسه ويخربها خوفا من أن يصل العدوّ إليها
ويستولى عليها وهى عامرة ويأخذ بها القدس، وينقطع بها طريق مصر، وامتنع
العسكر من الدخول «1» وخافوا ممّا جرى على المسلمين بعكّا. فلا قوّة
إلّا بالله. ورأوا أنّ حفظ القدس أولى، فتعيّن خرابها من عدّة جهات؛
وكان هذا الاجتماع يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان من سنة سبع وثمانين
وخمسمائة، فسار إليها السلطان فى سحر يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان
المذكور. قال ابن شدّاد: وتحدّث معى فى معنى خرابها (يعنى عسقلان) بعد
أن تحدّث مع ولده الملك الأفضل أيضا فى أمرها، ثم قال السلطان: لأن
أفقد ولدى جميعهم أحبّ إلىّ من أهدم منها حجرا واحدا، ولكن إذا قضى
الله تعالى ذلك، وكان فيه مصلحة للمسلمين، فما الحيلة فى ذلك! فلمّا
اتّفق الرأى على خرابها أوقع الله ذلك فى نفسه، وأنّ المصلحة فيه لعجز
المسلمين عن حفظها. وشرع فى إخرابها فى سحر يوم الخميس التاسع عشر من
شعبان من السنة المذكورة، وقسّم السور على الناس وجعل لكلّ أمير وطائفة
من العسكر بدنه معلومة وبرجا معلوما يخربه، ودخل الناس البلد ووقع فيهم
الضّجيج والبكاء لفرقة بلدهم وأوطانهم، وكان بلدا خفيفا على القلب محكم
الأسوار عظيم البناء مرغوبا فى سكنه، فلحق الناس على خرابه حزن عظيم.
وشرع أهل البلد فى بيع ما لا يقدرون على حمله، فباعوا ما يساوى عشرة
دراهم بدرهم واحد، حتّى باعوا اثنى عشر طير دجاج بدرهم، واختبط أهل
البلد وخرجوا بأولادهم وأهليهم إلى الخيم وتشتّتوا، فذهب منهم قوم إلى
مصر وقوم إلى الشام، وجرت عليهم أمور عظيمة، واجتهد السلطان وأولاده فى
خراب البلد كى لا يسمع العدوّ فيسرع إليها؛
(6/46)
فلا يمكن إخرابه، وكانت الناس على أصعب
حال، واشتد تعب الناس مما قاسوه فى خرابها.
وفى تلك الليلة وصل للملك العادل من حلب من أخبره أنّ الفرنج تحدّثوا
معه فى الصلح، وطلبوا جميع البلاد الساحليّة، فرأى السلطان أنّ ذلك
مصلحة لما علم من نفوس الناس والعساكر من الضّجر من القتال وكثرة ما
عليه من الديون؛ فكتب السلطان إلى أخيه الملك العادل يأذن له فى ذلك،
وفوّض الأمر إلى رأيه، وأصبح السلطان يوم الجمعة وهو مصرّ على الخراب،
ويستعجل الناس عليه ويحثّهم على العجلة فيه؛ وأباحهم ما فى الهرى «1»
الذي كان مدخرا للميرة خوفا من أن يهجم العدوّ والعجز عن نقله. ثمّ أمر
السلطان بإحراق البلد فأضرمت النيران فى بيوته، ولم يزل الخراب يعمل فى
البلد الى سلخ شعبان المذكور؛ ثم أصبح السلطان يوم الاثنين مستهلّ شهر
رمضان، أمر ولده الملك الأفضل أن يباشر خراب البلد بنفسه وخواصّه.
قال ابن شدّاد، ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه (يعنى الملك الأفضل) .
وفى يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان أتى السلطان الرّملة وأشرف عليها،
وأمر أيضا بإحراقها وإخراب قلعتها (يعنى الرملة) فأحرقت وأخربت قلعتها
خوفا أيضا من الفرنج.
وفى يوم السبت ثالث عشر رمضان تأخّر السلطان والعسكر إلى جهة الجبل
ليتمكّن الناس من تسيير دوابّهم لإحضار ما يحتاجون إليه. ثم شرع
السلطان أيضا فى خراب قلعة الماطرون «2» ، وكانت قلعة منيعة فشرع الناس
فى ذلك. ثم ذكر ابن شدّاد فصلا طويلا يتضمّن الصلح بين الأنكلتير «3»
ملك الفرنج وبين السلطان صلاح الدين المذكور إلى أن قال: وحاصل الأمر
أنه تمّ الصلح بينهم، وكانت الأيمان يوم
(6/47)
الأربعاء الثانى والعشرين من شعبان سنة
ثمان وثمانين وخمسمائة؛ ونادى المنادى بانتظام الصلح، وأنّ البلاد
الإسلامية والنّصرانية واحدة فى الأمن والمسالمة «1» ، فمن شاء «2» من
كلّ طائفة أن يتردّد إلى بلاد الطائفة الأخرى من غير خوف ولا محذور.
وكان يوما مشهودا نال الطائفتين فيه من السرور ما لا يعلمه إلّا الله
تعالى؛ وقد علم الله تعالى أنّ الصلح لم يكن عن مرضاة السلطان، لكنّه
رأى المصلحة فى الصلح لسآمة العسكر من القتال، ومظاهرتهم للمخالة. وكان
مصلحة فى علم الله تعالى، فإنّه اتّفقت وفاته بعد الصلح، فلو اتّفق ذلك
فى أثناء وقعاته كان الإسلام على خطر ثم إنّ السلطان أعطى العساكر
الوافدة عليه من البلاد البعيدة برسم الغزاة والنّجدة دستورا، فساروا
عنه «3» . وعزم السلطان على الحجّ لمّا فرغ باله من هذه الجهة، وأمن
الناس وتردّد المسلمون إلى بلاد الفرنج، وجاءوا هم أيضا إلى بلاد
المسلمين، وحملت البضائع والمتاجر إلى البلاد؛ وتوجّه السلطان إلى
القدس ليتفقّد أحواله، وتوجّه أخوه الملك العادل إلى الكرك، وابنه
الملك الظاهر إلى حلب، وابنه الملك الأفضل إلى دمشق. ثم تأهّب السلطان
إلى المسير إلى الديار المصريّة، ولم يزل كذلك إلى أن صحّ عنده سير
مركب الأنكلتير ملك الفرنج إلى بلاده فى مستهلّ شوّال، فعند ذلك قوى
عزمه على أن يدخل الساحل جريدة يتفقّد أحواله وأحوال القلاع البحريّة
إلى بانياس. ثم يدخل دمشق فيقيم بها قليلا، ثم يعود إلى القدس ومنه إلى
الديار المصريّة.
(6/48)
قال ابن شدّاد: وأمرنى بالمقام بالقدس إلى
حين عوده إليه لعمارة بيمارستان أنشأه به، وتكميل المدرسة التى أنشأها
به، وسار ضحوة «1» نهار الخميس السادس من شوّال سنة ثمان وثمانين
وخمسمائة. فلمّا فرغ السلطان من افتقاد أحوال القلاع وإزاحة خللها دخل
دمشق بكرة يوم الأربعاء سادس «2» عشرين شوّال، وفيها أولاده:
الملك الأفضل، والملك الظاهر، والملك الظافر مظفّر الدّين الخضر
المعروف بالمشمّر «3» وأولاده الصغار؛ وكان السلطان يحبّ البلد (يعنى
دمشق) ويؤثر الإقامة به على سائر البلاد، وجلس للناس فى بكرة يوم
الخميس السابع والعشرين منه، وحضروا عنده وبلّوا أشواقهم منه، وأنشده
الشعراء، ولم يتخلّف عنه أحد من الخاصّ والعامّ، وأقام ينشر جناح عدله
بدمشق إلى أن كان يوم الاثنين «4» مستهلّ ذى القعدة، عمل الملك الأفضل
دعوة للملك الظاهر أخيه لأنّه لمّا وصل إلى دمشق وبلغه حركة السلطان
أقام بها [حتّى «5» يتملّى بالنظر إليه ثانيا] ، ولمّا عمل الأفضل
الدعوة أظهر فيها من الهمم العالية ما يليق بهمّته، وكان أراد بذلك
مجازاته لما خدمه [به «6» ] حين وصوله إلى بلده، وحضر الدعوة المذكورة
أرباب الدنيا والآخرة، وسأل الأفضل والده السلطان فى الحضور فحضر، وكان
يوما مشهودا على ما بلغنى. قال: ولمّا أصلح الملك العادل الكرك سار
قاصدا الديار الفراتيّة «7» ، وأحبّ أن يدخل دمشق،
(6/49)
فوصل إليها وخرج السلطان إلى لقائه، وأقام
يتصيّد «1» حول غباغب إلى الكسوة حتّى لقى أخاه الملك العادل وسارا
جميعا «2» يتصيّدان، ثم عادا إلى دمشق؛ فكان دخولهما دمشق آخر نهار يوم
الأحد حادى عشرين «3» ذى القعدة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
وأقام السلطان بدمشق يتصيّد هو وأخوه الملك العادل وأولاده ويتفرّجون
فى أراضى دمشق، وكأنه وجد راحة ممّا كان فيه من ملازمة التعب والنّصب
وسهر الليل، فكان ذلك كالوداع لأولاده، ونسى عزمه إلى مصر، وعرضت له
أمور أخر وعزمات غير ما تقدّم.
قال ابن شدّاد: ووصلنى كتابه إلى القدس يستدعينى لخدمته، فخرجت من
القدس فى يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرّم سنة تسع وثمانين
وخمسمائة، وكان الوصول إلى دمشق يوم الثلاثاء ثانى عشر صفر من السنة.
وركب السلطان ليتلقى الحاج فى يوم الجمعة خامس عشر صفر، وكان ذلك آخر
ركوبه. ولمّا كانت ليلة السبت وجد كسلا عظيما وما انتصف الليل حتّى
غشيته حمّى صفراوية، وكانت فى باطنه أكثر ممّا فى ظاهره، وأصبح يوم
السبت متكسّلا، عليه أثر الحمّى، ولم يظهر ذلك للناس، لكن حضرت عنده
أنا والقاضى الفاضل، فدخل ولده الملك الأفضل وطال جلوسنا عنده وأخذ
يشكو قلقه بالليل، وطاب له الحديث إلى وقت الظهر، ثم انصرفنا وقلوبنا
عنده، فتقدّم إلينا بالحضور على الطعام فى خدمة
(6/50)
ولده الأفضل، ولم يكن للقاضى الفاضل فى ذلك
عادة فآنصرف، ودخلت إلى الإيوان القبلىّ وقد مدّ السّماط، وابنه الملك
الأفضل قد جلس موضعه، فانصرفت وما كانت لى قوّة للجلوس استيحاشا له،
وبكى فى ذلك اليوم جماعة تفاؤلا بجلوس ولده الأفضل موضعه. ثمّ أخذ
المرض يترايد به من حينئذ، ونحن نلازم التردّد له طرفى النهار، وكان
مرضه فى رأسه. وكان من أمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذي كان قد عرف
مزاجه سفرا وحضرا، ورأى الأطباء فصده ففصدوه فى الرابع، فاشتدّ مرضه
وحلّت «1» رطوبات بدنه، وكان يغلب على مزاجه اليبس، فلم يزل المرض
يتزايد به حتّى انتهى إلى غاية الضعف، واشتدّ مرضه فى السادس والسابع
والثامن، ولم يزل يتزايد ويغيب ذهنه؛ ولمّا كان التاسع حدثت له غشية
وامتنع من تناول المشروب، واشتدّ الخوف فى البلد؛ وخاف الناس ونقلوا
أقمشتهم من الأسواق، وعلا الناس من الكآبة والحزن ما لا يمكن حكايته.
ولمّا كان اليوم العاشر من مرضه أيس منه الأطبّاء. ثم شرع ولده الملك
الأفضل فى تحليف الناس له. ثم إنّه توفّى- إلى رحمة الله تعالى- بعد
صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين
وخمسمائة. وكان يوم موته يوما لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد فقد
الخلفاء الراشدين- رضى الله عنهم- وغشى القلعة والملك والدنيا وحشة لا
يعلمها إلّا الله تعالى. وبالله لقد كنت أسمع من الناس أنّهم يتمنّون
فداء من يعزّ عليهم بنفوسهم، وكنت أتوهّم أنّ هذا على ضرب من التجوّز
والترخّص إلى ذلك اليوم، فإنّى علمت من نفسى ومن غيرى أنّه لو قبل
الفداء لفدى
(6/51)
بالأنفس. تم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء
وغسّله أبو القاسم ضياء الدّين عبد الملك بن زيد الدّولعىّ «1» خطيب
دمشق، وأخرج تابوت السلطان- رحمه الله تعالى- بعد صلاة الظهر مسجّى
بثوب فوط، فارتفعت الأصوات عند مشاهدته، وعظم الضّجيج وأخذ الناس فى
البكاء والعويل، وصلّوا عليه أرسالا، ثم أعيد إلى داره التى فى
البستان، وهى التى كان متمرضا بها، ودفن فى الضّفّة الغربيّة منها.
وكان نزوله فى حفرته قريبا من صلاة العصر. ثم أطال ابن شدّاد القول فى
هذا المعنى إلى أن أنشد فى آخر السيرة بيت أبى تمّام الطائىّ، وهو
قوله:
ثمّ انقضت تلك السّنون وأهلها ... فكأنّها وكأنّهم أحلام
ولقد كان- رحمه الله تعالى-. من محاسن الدنيا وغرائبها.
ثم ذكر ابن شدّاد أنّه مات ولم يخلّف فى خزائنه من الذهب والفضّة إلا
سبعة وأربعين درهما ناصريّة ودينارا «2» واحدا ذهبا صوريّا، ولم يخلّف
ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة. وفى ساعة موته
كتب القاضى الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها:
«لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة. إنّ زلزلة الساعة شىء عظيم.
كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر، أحسن الله عزاءه وجبر مصابه؛
وجعل
(6/52)
فيه الخلف لمماليك المرحوم «1» وأصحابه،
وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا؛ [وقد حفرت «2» الدموع المحاجر، وبلغت
القلوب الحناجر؛ وقد ودّعت أباك ومخدومى وداعا لا تلافىّ بعده] ؛ وقد
قبلّت وجهه عنّى وعنك، وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة، ضعيف
القوّة، راضيا عن الله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله؛ وبالباب من
الجنود المجنّدة، والأسلحة المغمدة؛ ما لا يدفع البلاء، ولا يردّ
القضاء «3» ؛ وتدمع العين ويخشع القلب، ولا نقول إلّا ما يرضى الربّ؛
وإنّا عليك يا يوسف لمحزونون.
وأمّا الوصايا فما يحتاج إليها، والآراء فقد شغلنى المصاب عنها؛ وأمّا
لائح الأمر فإنّه إن وقع اتّفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان
غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته، وهو الهول العظيم والسلام» .
انتهى كلام القاضى الفاضل بما كتبه للملك الظاهر.
قال ابن خلّكان: «واستمرّ السلطان صلاح الدين مدفونا بقلعة دمشق إلى أن
بنيت له قبّة شمالىّ الكلّاسة «4» التى هى شمالىّ جامع دمشق، ولها
بابان، أحدهما إلى الكلّاسة والآخر زقاق غير نافذ؛ وهو مجاور المدرسة
العزيزيّة. ثم نقل من مدفنه بالقلعة إلى هذه القبّة فى يوم عاشوراء فى
يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. ثم إنّ ولده الملك العزيز
عثمان لمّا ملك دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب هذه القبّة
المدرسة العزيزيّة» . قلت: فى أيّامه بنى الخصىّ
(6/53)
بهاء الدين قراقوش قلعة الجبل «1» ثم قلعة
«2» المقس ثم سور القاهرة، وذرع السور المذكور سبعة «3» وعشرون ألف
ذراع وثلثمائة ذراع.
قال ابن خلّكان: «وكان السلطان صلاح لمّا ملك الديار المصرية لم يكن
بها شىء من المدارس، فإنّ الدولة المصريّة كان مذهبها مذهب الإماميّة
«4» ، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فعمّر السلطان صلاح الدين
بالقرافة الصغرى المدرسة «5»
(6/54)
المجاورة للإمام الشافعىّ- رضى الله عنه-
وبنى مدرسة «1» مجاورة للمشهد المنسوب للحسين ابن علىّ- رضى الله
عنهما- بالقاهرة. وجعل دار سعيد السعداء خادم الخلفاء المصريّين خانقاه
«2» ، ووقف عليها وقفا هائلا؛ وكذلك وقف على كلّ مدرسة عمّرها وقفا
جيّدا، وجعل دار عبّاس الوزير العبيدى مدرسة «3» للحنفيّة، وأوقف عليها
وقفا جيّدا أيضا وهى بالقاهرة، وبنى المدرسة التى بمصر المعروفة [بابن
«4» ] زين التجّار للشافعيّة، ووقف عليها وقفا جيّدا، وبنى بالقصر داخل
القاهرة بيمارستانا «5» ، وأوقف له وقفا جيدا؛ وله بالقدس مدرسة
وخانقاه.
قال ابن خلّكان: «ولقد فكّرت فى نفسى فى أمور هذا الرجل، وقلت: إنه
سعيد فى الدنيا والآخرة، فإنّه فعل فى الدنيا هذه الأفعال المشهورة من
الفتوحات الكثيرة وغيرها، ورتّب هذه الأوقاف العظيمة، وليس شىء منسوبا
إليه فى الظاهر،
(6/55)
فإنّ المدرسة التى بالقرافة ما يسمّونها
الناس إلّا بالشافعىّ، والمجاورة للمشهد لا يقولون إلّا المشهد،
والخانقاه لا يقولون إلّا سعيد السعداء، والمدرسة الحنفيّة لا يقولون
إلا السيوفيّة، والتى بمصر لا يقولون إلّا مدرسة زين التّجّار، والتى
بمصر أيضا مدرسة المالكيّة، وهذه صدقة السّرّ على الحقيقة. والعجب أنّ
له بدمشق فى جانب البيمارستان النّورىّ مدرسة أيضا، ويقال لها:
الصلاحيّة، وهى منسوبة إليه وليس لها وقف.
قال: وكان مع هذه المملكة المتّسعة والسلطنة العظيمة كثير التواضع
واللّطف قريبا من الناس رحيم القلب كثير الاحتمال والمداراة، وكان يحبّ
العلماء وأهل الخير ويقرّبهم ويحسن إليهم؛ وكان يميل إلى الفضائل،
ويستحسن الأشعار الجيّدة ويردّدها فى مجالسه، حتّى قيل: إنّه كان كثيرا
ما ينشد قول أبى المنصور محمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن إسحاق
الحميرىّ، وهو قوله:
وزارنى طيف من أهوى على حذر ... من الوشاة وداعى الصبح قد هتفا
فكدت أوقظ من حولى به فرحا ... وكاد يهتك سترا لحبّ بى شفغا
ثم انتبهت وآمالى تخيّل لى ... نيل المنى فاستحالت غبطتى أسفا
وقيل: إنّه كان يعجبه قول نشو الملك أبى الحسن علىّ بن مفرّج المعروف
بابن المنجّم المغربىّ «1» الأصل المصرىّ الدار والوفاة، وهو فى خضاب
الشّيب وأجاد:
وما خضب الناس البياض لفبحه ... وأقبح منه حين يظهر ناصله
ولكنّه مات الشباب فسوّدت ... على الرسم من حزن عليه منازله
قالوا: فكان [إذا قال «2» : مات الشباب] يمسك كريمته وينظر إليها
ويقول:
إى والله مات الشباب!. وذكر العماد الكاتب الأصبهانىّ فى كتابه الخريدة
أنّ السلطان صلاح الدين فى أوّل ملكه كتب إلى بعض أصحابه بدمشق:
(6/56)
أيّها الغائبون عنّا وإن كن ... تم لقلبى
بذكركم جيرانا
إنّنى مذ فقدتكم لأراكم ... بعيون الضمير عندى عيانا
قال ابن خلّكان: وأمّا القصيدتان اللتان ذكرت أنّ سبط بن التّعاويذىّ
أنفذهما إليه من بغداد، وأنّ إحداهما وازن بها قصيدة صرّدرّ «1»
الشاعر، وقد ذكرت منها أبياتا فى ترجمة الكندرىّ «2» وأوّلها:
أكذا يجازى ودّ كلّ قرين ... أم هذه شيم الظّباء العين
ثم ذكر قصيدة سبط [بن] التّعاويذىّ. وهى على هذا الوزن أضربت عن ذكرها
لطولها. ثم قال ابن خلّكان: وأمّا القصيدة الثانية (يعنى التى كتبها
إليه الخليفة فى أوائل أمر صلاح الدين) قال: فمنها قوله:
حتّام أرضى فى هواك وتغضب ... وإلى متى تجنى علىّ وتعتب
ما كان لى لولا ملالك زلّة ... لمّا مللت زعمت أنّى مذنب
خذ فى أفانين الصدود فإنّ لى ... قلبا على العلّات لا يتقلّب
أتظنّنى أضمرت بعدك سلوة ... هيهات عطفك من سلوّى أقرب
لى فيك نار جوانح ما تنطفى ... حزنا وماء مدامع ما ينضب
أنسيت أيّاما لنا ولياليا ... للهو فيها والبطالة ملعب
أيام لا الواشى يعدّ ضلالة ... ولهى عليك ولا العذول يؤنّب
قد كنت تنصفنى المودّة راكبا ... فى الحبّ من أخطاره ما أركب
(6/57)
واليوم أفنع أن يمرّ بمضجعى ... فى النوم
طيف خيالك المتأوّب
ما خلت «1» أنّ جديد أيّام الصّبا ... يبلى ولا ثوب الشّبيبة يسلب
حتّى انجلى ليل الغواية واهتدى ... سارى الدجى وانجاب «2» ذاك الغيهب
وتنافر البيض الحسان فأعرضت ... عنّى سعاد وأنكرتنى زينب
قالت وريعت من بياض مفارقى ... ونحول جسمى بان منك الأطيب
إن تنكرى سقمى فخصرك ناحل ... أو تنكرى شيبى فثغرك أشنب
يا طالبا بعد المشيب غضارة ... من عيشه ذهب الزمان المذهب
أتروم بعد الأربعين تعدّها ... وصل الدّمى هيهات عزّ المطلب
والقصيدة طويلة ذكرها ابن خلّكان، وقد نقلتها من خط عسر. ثم قال ابن
خلّكان: وقد مدحه جميع شعراء عصره، فمنهم العلم الشّاتانىّ «3» واسمه
الحسن- رحمه الله- مدحه بقصيدة أوّلها:
أرى النصر مقرونا برايتك الصّفرا ... فسرو املك الدنيا فأنت بها أحرى
ومدحه المهذّب أبو حفص عمر بن محمد بن علىّ بن أبى نصر المعروف بابن
الشّحنة الموصلىّ الشاعر المشهور بقصيدته التى أوّلها:
سلام مشوق قد براه التشوّق ... على جيرة الحىّ الذين تفرّقوا
وعدد أبياتها مائة وثلاثة عشر بيتا، وفيها البيتان السائران أحدهما:
وإنّى امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق
(6/58)
وقد أخذ هذا المعنى من قول بشّار بن برد،
وهو:
يا قوم أذنى لبعض الحى عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
والبيت الثانى من قول ابن الشّحنة المذكور.
وقالت لى الآمال إن كنت لا حقا ... بأبناء أيّوب فأنت الموفّق
قال: ومدحه ابن قلاقس «1» وابن الذّروىّ «2» وابن «3» المنجّم وابن
سناء «4» الملك وابن الساعاتى «5» والإربلىّ «6» ومحمد بن إسماعيل بن
حمدان. انتهى ما أوردته من كلام ابن خلّكان ومن كلام ابن شدّاد وابن
الأثير وابن الجوزىّ وغيرهم باختصار.
وقال العلّامة أبو المظفّر فى تاريخه مرآة الزمان: «ولمّا كان فى سادس
عشر صفر وجد السلطان كسلا وحمّ حمّى صفراويّة، ثم ذكر نحوا ممّا ذكره
ابن شدّاد إلى أن قال: وأحضر الأفضل (يعنى ولده) الأمراء: سعد الدين
مسعودا أخا بدر الدين مودود شحنة دمشق، وناصر الدّين صاحب صهيون، وسابق
الدين عثمان صاحب شيزر ابن الداية، وميمونا «7» القصرىّ، والبكى
الفارسى، وأيبك فطيس، وحسام الدين
(6/59)
بشارة، وأسامة الحلبىّ»
وغيرهم، فاستحلفهم لنفسه. وكان عند السلطان أبو جعفر إمام الكلّاسة
يقرأ القرآن، فلمّا انتهى إلى قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
، وكان قد غاب ذهنه فتح عينيه، وقال: صحيح. ثم قال أبو المظفّر: وغسّله
ابن الدّولعىّ، وصلّى عليه القاضى محيى الدّين بن الزّكىّ. وبعث القاضى
الفاضل له الأكفان والحنوط من أجلّ الجهات. ثم قال: «وقال العماد
الكاتب: دخلنا عليه ليلة الأحد للعيادة، ومرضه فى زيادة؛ وفى كلّ يوم
تضعف القلوب، وتتضاعف الكروب؛ ثم انتقل من دار الفناء، إلى دار البقاء،
سحر يوم الأربعاء؛ ومات بموته رجاء الرجال، وأظلم «2» بغروب شمسه فضاء
الإفضال. ورثاه الشعراء؛ فمن ذلك قول بعضهم «3» :
شمل «4» الهدى والملك عمّ شتاته ... والدهر ساء وأقلعت حسناته
بالله أين الناصر الملك الذي ... لله خالصة صفت نيّاته
أين الذي [مذ «5» ] لم يزل مخشيّة ... مرجوّة رهباته وهباته
أين الذي كانت له طاعاتنا ... مبذولة ولربّه طاعاته
أين الذي ما زال سلطانا لنا ... يرجى نداه وتتّقى سطواته
أين الذي شرف الزمان بفضله ... وسمت على الفضلاء تشريفاته
(6/60)
لا تحسبوه مات شخصا واحدا ... قد عمّ «1»
كلّ العالمين مماته
ملك عن الإسلام كان محاميّا ... أبدا لماذا أسلمته حماته
قد أظلمت مذ غاب عنّا دوره ... لمّا خلت من بدره داراته
دفن السماح فليس تنشر بعدما ... أودى إلى يوم النشور رفاته
الدين بعد أبى المظفّر يوسف ... أقوت «2» قراه وأقفرت ساحاته
بحر خلا من وارديه ولم تزل ... محفوفة بوروده حافاته
من لليتامى والأرامل راحم ... متعطّف مفضوضة صدقاته
لو كان فى عصر النّبيّ لأنزلت ... فى ذكره من ذكره آياته
بكت الصوارم والصواهل إذ خلت ... من سلّها «3» وركوبها عزماته
يا وحشة الإسلام حين تمكّنت ... من كلّ قلب مؤمن روعاته
يا راعيا للدين حين تمكنت ... منه الذئاب وأسلمته رعاته
ما كان ضرّك لو أقمت مراعيا ... دينا تولّى مذ رحلت ولاته
فارقت ملكا غير باق متعبا ... ووصلت ملكا باقيا راحاته
فعلى صلاح الدين يوسف دائما ... رضوان ربّ العرش بل صلواته «4»
(6/61)
ذكر أولا السلطان صلاح الدين يوسف بن
أيّوب- رحمه الله- كانوا ستة «1» عشر ذكرا وابنة واحدة، أكبرهم الأفضل
علىّ، ولد بمصر سنة خمس وستين يوم عيد الفطر. وأخوه لأبيه وأمّه الملك
الظافر خضر، ولد بمصر سنة ثمان وستين. وأخوهما أيضا لأبيهما وأمّهما
قطب الدين موسى، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين. فهؤلاء الثلاثة أشقّاء. ثم
الملك العزيز عثمان الذي ملك مصر بعد أبيه، ولد بها سنة سبع «2» وستين.
وأخوه لأبيه وأمّه الأعز يعقوب، ولد بمصر سنة اثنتين وسبعين. والملك
الظاهر غازى صاحب حلب، ولد بمصر سنة ثمان وستين. وأخوه لأبيه وأمّه
الملك الزاهر داود، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين. والملك المعز إسحاق، ولد
سنة سبعين. والملك المؤيّد مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين. والملك
الأشرف محمد، ولد بالشام سنة خمس وسبعين. وأخوه أيضا لأبيه وأمّه الملك
المحسن أحمد، ولد بمصر سنة سبع وسبعين. وأخوه أيضا لأبيه وأمّه الملك
الغالب ملكشاه، ولد بالشام سنة ثمان وسبعين. وأخوهم أيضا لأبيهم وأمّهم
أبو بكر النصر «3» ، ولد بحرّان بعد وفاة أبيه سنة تسع وثمانين. والبنت
مؤنسة خاتون تزوّجها ابن عمّها الملك الكامل- الآتى ذكره- ابن الملك
العادل وماتت عنده.
وملك بعد السلطان صلاح الدين مصر ابنه الملك العزيز عثمان الآتى ذكره
إن شاء الله تعالى وملك دمشق بعده ابنه الملك الأفضل علىّ، وملك حلب
ابنه
(6/62)
الظاهر غازى كما كانوا أيام أبيهم. ثم وقع
بين الملك العزيز والأفضل أمور نذكرها فيما يأتى إن شاء الله تعالى.
انتهت ترجمة السلطان صلاح الدين- رحمه الله-. ونذكر الآن ما وقع فى
أيامه من الحوادث، ومن توفّى من الأعيان فى زمانه على سبيل الاختصار
على عادة هذا الكتاب. وبالله المستعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 567]
السنة الأولى من ولاية الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر،
وهى سنة سبع وستين وخمسمائة. (أعنى سلطنته بعد موت العاضد العبيدىّ آخر
خلفاء الفاطميّين بمصر) . وأمّا وزارته فكانت قبل ذلك بمدّة من يوم مات
عمّه الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن أيّوب فى يوم السبت ثانى عشر
جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة. وقد ذكرنا حوادث وزارته فيما
مضى، ونذكر الآن من يوم سلطنته بعد الخليفة العاضد (أعنى حوادث سنة سبع
وستين وخمسمائة) .
فيها خطب لبنى العباس بمصر وأبطل الخطبة لبنى عبيد حسب ما تقدّم ذكره
فى ترجمة العاضد، وفى ترجمة صلاح الدين أيضا؛ ولمّا وقع ذلك كتب العماد
الكاتب عن السلطان صلاح الدين لنور الدين الشهيد يخبره بذلك:
قد خطبنا للمستضىء بمصر ... نائب المصطفى إمام العصر
ولدينا تضاعفت نعم اللّ ... هـ وجلّت عن كلّ عدّ وحصر
واستنارت عزائم الملك العا ... دل نور الدين الهمام الأغرّ
وفيها بعث الملك العادل نور الدين محمود المذكور بالبشارة للخليفة
المستضىء على يد الشيخ شهاب الدين المطهّر بن شرف الدين بن أبى عصرون،
فلمّا وصل
(6/63)
شهاب الدين المذكور للخليفة قال فى المعنى
ابن الحرستانىّ «1» الشاعر المشهور قصيدة أوّلها:
جاء البشير فسرّ الناس وابتهجوا ... فما على ذى سرور بعدها حرج
وخلع الخليفة على شهاب الدين المذكور. ثم بعث جواب الملك العادل على يد
الخادم صندل «2» وعلى يديه الخلع والتقاليد له، وفى الخلعة الطّوق وفيه
ألف دينار والفرجيّة والعمامة، ثم أرسل مع الخادم المذكور لصلاح الدين
صاحب الترجمة خلعا دون خلع نور الدين. وبعث أيضا لنور الدين سيفا قلّده
للشام «3» ، ثم سيفا آخر قلّده بمصر، ويكون صلاح الدين نائبه بمصر.
وزيّنت بغداد وضربت القباب لذلك.
وفيها وقعت الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين. هذا لأمر ذكرناه فى
أوائل ترجمة صلاح الدين، ثم سكن ذلك.
وفيها توفّى حسّان بن نمير الكلبىّ أبو النّدى الشاعر المشهور المعروف
بعرقلة الدمشقىّ، ويقال له عرقلة من حاضرة دمشق، كان شيخا خليعا أعور
مطبوعا لطيفا ظريفا، كان اختصّ بالسلطان صلاح الدين وله فيه مدائح، وله
شعر رائق كثير. من ذلك قصيدته المشهورة:
كتم الهوى فوشت عليه دموعه ... من حرّ نار تحتويه ضلوعه
صبّ تشاغل بالربيع وزهره ... زمنا «4» وفى وجه الحبيب ربيعه
(6/64)
يا لائمى فيمن تمتّع وصله ... عن صبّه «1»
أحلى الهوى ممنوعه
كيف التخلّص إن تجنّى أو جنى ... والحسن شىء ما يردّ شفيعه
شمس ولكن فى فؤادى حرّها ... بدر ولكن فى القباء «2» طلوعه
قال العواذل ما الذي استحسنته ... منه وما يسبيك قلت جميعه
وفيها توفّى عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد العلّامة أبو محمد
المعروف بابن الخشّاب النحوىّ اللغوىّ حجّة العرب، برع فى فنون العلوم
وانفرد بعلم النحو والعربيّة حتّى فاق أهل عصره.
وفيها توفّى عبد الله بن أحمد بن الحسين [بن أحمد «3» بن الحسين] بن
إسحاق أبو محمد الحميرىّ «4» ويعرف بابن النّقّار «5» الكاتب. ولد
بطرابلس سنة تسع وسبعين وأربعمائة. ولمّا استولى الفرنج على طرابلس
انتقل منها إلى دمشق؛ وكان شاعرا ماهرا. ومن شعره- رحمه الله- القصيدة
المشهورة التى أوّلها:
بادر إلى اللّذات فى أزمانها ... واركض خيول اللهو فى ميدانها
واستقبل الدنيا بصدر واسع ... ما أوسعت لك من رحيب مكانها
وله:
الله يعلم أنّنى ما خلته ... يصبو إلى الهجران حين وصلته
من منصفى من ظالم متعنّت «6» ... يزداد ظلما كلّما حكّمته
(6/65)
ملّكته روحى ليحفظ ملكه ... فأضاعنى وأضاع
ما ملّكته
لا ذنب لى إلّا هواه لأنّه «1» ... لمّا دعانى للسّقام أجبته
وفيها توفّى العاضد خليفة مصر، حسب ما ذكرناه فى ترجمته.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو علىّ
أحمد بن محمد ابن علىّ الرّحبىّ الحرمىّ «2» فى صفر. وأبو محمد عبد
الله بن منصور بن الموصلىّ.
وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد [بن أحمد «3» ] بن الخشّاب
النحوىّ. والعاضد عبد الله بن يوسف بن الحافظ العبيدىّ فى المحرّم،
وانقضت دولة الرّفض عن مصر.
وأبو الحسن علىّ بن عبد الله بن خلف بن النّعمة الأندلسىّ بسبتة «4» فى
رمضان.
وأبو المطهّر القاسم بن الفضل بن عبد الواحد الصّيدلانىّ بأصبهان فى
جمادى الأولى، وقد نيّف على التسعين. وأبو المظفّر محمد بن أسعد [بن
محمد بن نصر «5» ] بن حكيم العراقىّ الواعظ شيخ الحنفيّة بدمشق. وأبو
المكارم المبارك بن محمد بن المعمّر البادرايىّ «6» .
وأبو العلاء وجيه بن عبد الله السّقطىّ. وأبو بكر يحيى بن سعدون
القرطبىّ الأزدىّ «7» ونزيل الموصل يوم الفطر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع أصابع. مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
(6/66)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 568]
السنة الثانية من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى
سنة ثمان وستين وخمسمائة.
فيها سار الملك العادل نور الدين محمود صاحب دمشق إلى الموصل، وصلّى
بالجامع الذي بناه وسط الموصل وتصدّق بمال عظيم. ولمّا علم صلاح الدين
صاحب الترجمة بتوجّهه إلى الموصل خرج بعساكره من مصر إلى الشام، وحصر
الكرك والشّوبك ونهب أعمالهما؛ ثم عاد لمّا بلغه عود نور الدين إلى
الشام. وهذه أوّل غزوات صلاح الدين.
وفيها توفّى الأمير نجم الدين أيّوب بن شادى بن مروان والد صلاح الدين
المذكور. كان أميرا عاقلا حازما شجاعا جوادا عاطفا على الفقراء
والمساكين محبّا للصالحين، قليل الكلام جدّا لا يتكلّم إلّا لضرورة.
ولمّا قدم مصر سأله ولده السلطان صلاح الدين صاحب الترجمة أن يكون هو
السلطان، فقال: أنت أولى. وكان سبب موته أنّه ركب يوما وخرج من باب
النّصر يريد الميدان «1» ، فشبّ به فرسه فوقع على رأسه، فأقام ثمانية
أيام ومات فى ليلة الثلاثاء السابع والعشرين من ذى الحجّة، ودفن إلى
جانب أخيه أسد الدين شيركوه بن أيوب فى الدار
(6/67)
السلطانية «1» ثم نقلا بعد سنتين «2» إلى
مدينة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم. وكان ابنه السلطان، صلاح الدين قد
عاد من الكرك فبلغه خبر موته فى الطريق، فوجد عليه وتأسّف حيث لم
يحضره. وخلّف من الذكور ستة: السلطان صلاح الدين يوسف، وأبا بكر العادل
الآتى ذكره فى ملوك مصر، وشمس الدولة توران شاه وهو أكبر الجميع،
وشاهنشاه، وسيف الإسلام طغتكين، وتاج الملوك بورى وهو الأصغر.
وفيها توفّى الحسن بن أبى الحسن صافى ملك النحاة مولى الحسين بن
الأرموىّ التاجر البغدادىّ، قرأ النحو وأصول الدين والفقه والخلاف
والحديث وبرع فى النحو وفاق أهل زمانه، وسافر البلاد وصنّف الكتب فى
فنون العلوم، من ذلك «المقامات» التى من جنس «مقامات الحريرىّ» ؛ وكان
يقول: مقاماتى جدّ وصدق، ومقامات الحريرىّ هزل وكذب. قلت: ولكن بين ذلك
أهوال.
ومن مصنّفاته كتاب أربعمائة كراسة، سمّاها «التذكرة السفريّة «3» » .
وفيها توفى سعد الدين بن علىّ بن القاسم بن علىّ أبو المعالى الكتبىّ
الحظيرىّ الحنفىّ، كان شاعرا فاضلا. والحظيرة: قرية فوق بغداد وهى
(بفتح الحاء المهملة وكسر الظاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها
وبعدها راء) وإلى هذه القرية ينسب كثير من العلماء. ومن شعر الحظيرىّ-
رحمه الله تعالى وعفا عنه-:
صبح مشيبى بدا وفارقنى ... ليل شبابى فصحت وا قلقى
وصرت أبكى دما عليه ولا ... بدّ لصبح المشيب من شفق
(6/68)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة،
قال: وفيها توفّى نجم الدين أيّوب بن شادى والد الملوك. وملك النحاة
أبو نزار الحسن بن صافى البغدادىّ بدمشق.
وأبو جعفر محمد بن الحسن الصّيدلانىّ بأصبهان، وله خمس وتسعون سنة.
وصالح ابن إسماعيل أبو طالب ابن بنت معافى المالكىّ مفتى الإسكندريّة-
رحمه الله-.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 569]
السنة الثالثة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى
سنة تسع وستّين وخمسمائة.
فيها كتب صلاح الدين صاحب الترجمة لنور الدين يستأذنه فى إنفاذ جيش إلى
اليمن فأذن له، فبعث صلاح الدين أخاه شمس الدولة توران شاه بن أيّوب،
فسار إليها، وكان فيها عبد النّبيّ بن مهدىّ من أصحاب المصريّين «1» ،
وكان ظالما فاتكا، فحصره شمس الدولة توران شاه فى قصره بزبيد «2» مدّة،
حتّى طلب الأمان فأمّنه؛ فلمّا نزل إليه قيّده ووكّل به، وفتح صنعاء
وحصون اليمن والمدائن، يقال:
إنّه فتح ثمانين حصنا ومدينة واستولى على أموالها وذخائرها، وقتل عبد
النّبيّ المذكور. وولّى على زبيد سيف الدولة مبارك بن منقذ «3» ، وعزّ
الدّين عثمان بن الزّنجيلىّ «4» على باقى «5» البلاد.
(6/69)
وفيها قبض صلاح الدين على جماعة من أعيان
الدولة العبيديّة: مثل داعى الدّعاة «1» ، وعمارة اليمنىّ وغيرهما،
بلغه أنّهم يجتمعون على إثارة الفتن، واتّفقوا مع السّودان وكاتبوا
الفرنج، فقتل داعى الدعاة، وصلب عمارة اليمنىّ. قال القاضى شمس الدين
ابن خلّكان: هو أبو محمد عمارة بن أبى الحسن على بن زيدان «2» ابن أحمد
بن محمد الحكمىّ اليمنىّ، الملقّب نجم الدين الشاعر؛ وهو من جبال «3»
اليمن من مدينة مرطان «4» ، بينها وبين مكّة من جهة الجنوب أحد عشر
يوما. وكان فقيها فصيحا، أقام بزبيد مدّة يقرأ عليه مذهب الشافعىّ، وله
فى الفرائض مصنّف مشهور باليمن، ومدح خلفاء مصر، فقرّبوه وأعطوه
الأموال، فكان عندهم بمنزلة الوزير، وكان أيضا معظّما قبل ذلك فى
اليمن؛ ثم ظهرت أمور اقتضت خروجه منها، فقدم إلى مصر فى سنة خمسين
وخمسمائة. وقيل: إنّ سبب قتله أنّه مدح توران شاه، وحرّضه على أخذ
اليمن بقصيدة أوّلها:
العلم مذ كان محتاج إلى العلم ... وشفرة السيف تستغنى عن القلم
إلى أن قال:
هذا ابن تومرت قد كانت بدايته ... كما يقول الورى لحما على وضم
وكان أوّل هذا الدّين من رجل ... سعى إلى أن دعوه سيّد الأمم
قال العماد الكاتب: اتّفقت لعمارة اتّفاقات: منها أنّه نسب إليه قول
هذا البيت فكان أحد أسباب قتله؛ وأفتى قضاة مصر بقتله، وقيل: إنّه لمّا
أمر صلاح الدين
(6/70)
بصلبه، مرّوا به على دار القاضى الفاضل،
فرمى بنفسه على بابه وطلب الدخول إليه ليستجير به فلم يؤذن له، فقال:
عبد الرحيم قد احتجب ... إنّ الخلاص من العجب
فصلب وهو صائم فى شهر رمضان.
وفيها توفّى السلطان الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن زنكى
بن آق سنقر صاحب الشام ومصر المعروف بنور الدين الشهيد. قال ابن عساكر:
«ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وكان معتدل القامة أسمر اللّون واسع
الجبهة حسن الصورة، لحيته شعرات خفيفة فى حنكه، ونشأ على الخير
والصلاح. وكان زنكى يقدّمه على أولاده، ويرى فيه مخايل النّجابة. وفتح
فى أيام سلطنته نيّفا وخمسين حصنا» .
قلت: ومصر أيضا من جملة فتوحاته، وأيضا ما فتحه صلاح الدين من البلاد
والحصون هو شريكه فى الأجر والثواب، ولولاه إيش كان صلاح الدين! حتّى
ملك مصر من أيدى تلك الرافضة من بنى عبيد خلفاء مصر وقوّة بأسهم!. قلت:
وترجمة الملك العادل طويلة، يضيق هذا المحلّ عن ذكرها، وأحواله أشهر من
أن تذكر. غير أنّنا نذكر مرض موته ووفاته. وكان ابتداء مرضه أنّه ختن
ولده الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر، فهنّىء بالعيد والطهور، فقال
العماد الكاتب- رحمه الله-:
عيدان فطر وطهر ... فتح قريب ونصر
كلاهما لك فيه ... حقّا هناء وأجر
فمرض بعد عوده من صلاة العيد بالخوانيق، وما كان يرى الطبّ؛ على قاعدة
الأتراك، فأشير عليه بالفصد فى أوّل مرضه فامتنع؛ وكان مهيبا فما روجع؛
فمات يوم الأربعاء حادى عشر شوّال، ودفن بالقلعة، ثم نقل إلى مدرسته
التى أنشأها مجاورة
(6/71)
الخوّاصين بدمشق. وعاش ثمانيا وخمسين سنة.
وكانت سلطنته ثمانيا وعشرين سنة وستة أشهر. ورثاه العماد الكاتب بعدّة
مراث؛ من ذلك قوله:
يا ملكا أيّامه لم تزل ... لفضله فاضلة فاخره
ملكت دنياك وخلّفتها ... وسرت حتّى تملك الآخره
قال أبو اليسر «1» شاكر بن عبد الله [التّنوخىّ «2» المعرّىّ] : تعدّى
بعض أمراء صلاح الدين بن أيّوب [على رجل «3» ] وأخذ ماله، فجاء إلى
صلاح الدين فلم يأخذ له بيد؛ فجاء إلى قبر نور الدين وشقّ ثيابه، وحثا
التراب على رأسه، وجعل يستغيث:
يا نور الدين أين أيّامك! ويبكى. فبلغ صلاح الدين فاستدعاه وأعطاه
ماله، فازداد بكاؤه؛ فقال له صلاح الدين: ما يبكيك وقد أنصفناك؟ فقال:
إنّما أبكى على ملك أنصفت ببركاته وبعد موته، كيف يأكله التراب ويفقده
المسلمون!.
وتسلطن بعده ولده الملك الصالح إسماعيل ولم يبلغ الحلم. وقد مرّ من
أخباره نبذة كبيرة فى ترجمة صلاح الدين.
الذي ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى النقيب أبو
عبد الله أحمد [بن علىّ «4» ] بن المعمّر العلوىّ ببغداد فى جمادى
الأولى. والحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمذانىّ العطّار المقرئ فى
جمادى الأولى، وله إحدى وثمانون سنة.
ودهبل بن علىّ [بن «5» منصور بن إبراهيم بن عبد الله المعروف با] بن
كارة الحنبلىّ.
وناصح الدين سعيد بن المبارك بن الدهّان النحوىّ ببغداد، وله خمس
وسبعون سنة.
وأبو تميم سلمان بن علىّ الرّحبىّ الخبّاز بدمشق. وعبد النبي بن
المهدىّ صاحب اليمن،
(6/72)
وكان باطنيّا استأصله أخو صلاح الدين. وأبو
الحسن علىّ بن أحمد الكنانىّ القرطبىّ بفاس، وله ثلاث وتسعون سنة.
والفقيه عمارة بن علىّ بن زيدان اليمنىّ الشاعر؛ شنق فى جماعة سعوا فى
إعادة الدولة العبيديّة. والسلطان نور الدين محمود بن زنكى الأتابكىّ
بن آق سنقر التركىّ الملكشاهىّ فى شوّال، وله ثمان وخمسون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 570]
السنة الرابعة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى
سنة سبعين وخمسمائة.
فيها ملك السلطان صلاح الدين دمشق من الملك الصالح ابن الملك العادل
نور الدين محمود، حسب ما ذكرناه فى ترجمته. وكان أخذه لدمشق بمكاتبة
القاضى كمال الدين الشّهرزورىّ و [صدّيق «1» ] بن الجاولىّ والأعيان،
وكان بالقلعة ريحان الخادم، فعزم على قتاله، فجهّز إليه عسكر دمشق،
وركب صلاح الدين من الجسور، فالتقاه أهل دمشق بأسرهم وأحدقوا به، فنثر
عليهم الدراهم والدنانير، ودخل دمشق فلم يغلق فى وجهه باب ولا منعه
مانع، فملكها عناية لا عنوة.
وفيها استخدم صلاح الدين العماد الكاتب الأصبهانىّ، وسببه أنه التقى
بالقاضى الفاضل ومدحه بأبيات منها:
عاينت طود سكينة ورأيت شم ... س فضيلة ووردت بحر فواضل «2»
ورأيت سحبان البلاغة ساحبا ... ببيانه ذيل الفخار لوائل
(6/73)
حلف [الحصافة «1» ] والفصاحة والسما ... حة
والحماسة والتّقى والنّائل
بحر من الفضل «2» الغزير خضمّه ... طامى العباب وماله من ساحل
فى كفّه قلم يعجّل جريه ... ما كان من أجل ورزق آجل
أبصرت قسّا فى الفصاحة معجزا ... فعرفت أنّى فى فهاهة باقل
فدخل القاضى الفاضل على السلطان صلاح الدين وقال: غدا تأتيك تراجم
الأعاجم، وما يحلّها مثل العماد الكاتب. فقال: [مالى «3» ] عنك مندوحة،
أنت كاتبى ووزيرى، وقد رأيت على وجهك البركة، فإذا استكبت غيرك تحدّث
الناس؛ فقال الفاضل: هذا يحلّ التراجم، وربّما أغيب «4» أنا ولا أقدر
على ملازمتك، فإذا غبت قام العماد الكاتب مقامى، وقد عرفت فضل العماد،
وخدمته للدولة النورية، فاستكنبه.
وفيها توفّى السلطان أرسلان «5» شاه بن طغرل [بن محمد «6» ] بن ملكشاه
بن ألب أرسلان ابن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السّلجوقىّ. وقام
بعده فى الملك ابنه طغرل شاه، وكان صغير السّن، فتولّى تدبير ملكه محمد
بن إيلدكز الأتابك وكان يلقّب بالبهلوان.
وفهيا توفّى يحيى بن جعفر أبو الفضل زعيم الدّين، صاحب مخزن الخلفاء:
المقتفى والمستنجد والمستضىء، وناب فى الوزارة، وتقلّب فى الأعمال
نيّفا
(6/74)
وعشرين سنة، وكان حافظا للقرآن فاضلا عارفا
منصفا، محبّا للعلماء والصالحين؛ ومات فى شهر ربيع الأوّل، وكانت
جنازته مشهودة. قال العماد الكاتب: جلس يوما فى ديوان الوزارة فقام
شهاب «1» الدين بن الصّيفىّ فأنشده:
لكلّ زمان من أمائل أهله ... برامكة يمتارهم كلّ معسر «2»
أبو الفضل يحيى مثل يحيى بن خالد ... يدا «3» وأبوه جعفر مثل جعفر
ثم قام ثابت «4» الواعظ- رحمه الله- فأنشد بديها:
وفى الجانب الشرقىّ يحيى بن جعفر ... وفى الجانب الغربىّ موسى بن جعفر
فذاك «5» إلى الله الكريم شفيعنا ... وهذا إلى المولى الإمام المطهّر
(يعنى ساكن الجانب الشرقىّ صاحب الترجمة، وبالجانب الغربىّ موسى بن
جعفر الصادق) .
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى قاضى القضاة
أبو طالب روح بن أحمد الحديثىّ «6» ، وله ثمان وستّون سنة. وفخر النساء
خديجة بنت أحمد النّهروانيّة فى شهر رمضان. وعبد الله [بن عبد الصمد
«7» ] بن عبد الرّزاق السّلمىّ العطّار. وأبو بكر محمد بن علىّ بن محمد
الطّوسىّ. وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن خليل القيسىّ مسند
المغرب.
(6/75)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع
أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة
إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 571]
السنة الخامسة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة
إحدى وسبعين وخمسمائة.
فيها عزل الخليفة المستضىء بالله الحسن صندل الخادم «1» عن
الأسناداريّة، وضيّق على ولده الأمير أبى العبّاس أحمد، لأمر بلغه
عنهما، وولّى [ابن «2» ] الصاحب الأستادارية عوضا عن صندل المذكور.
وفيها وثبت الإسماعيليّة على السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب وهو على
اعزاز، جاءه ثلاثة فى زىّ الأجناد، فضربه واحد بسكّين فى رأسه فلم
يجرحه وخدشت السكّين خدّه وقتل الثلاثة، فرحل صلاح الدين إلى حلب،
فلمّا نزل عليها بعث إليه الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل نور
الدين محمود أخته خاتون بنت نور الدين فى اللّيل، فدخلت عليه فقام
قائما وقبّل الأرض لها وبكى على نور الدين؛ فسألته أن يردّ عليهم
اعزاز، فأعطاها إيّاها، وقدّم لها من الجواهر والتّحف شيئا كثيرا؛
واتّفق مع الملك الصالح أنّ من حماة وما فتحه إلى مصر له، وباقى البلاد
الحلبيّة للصالح.
وفيها قدم شمس الدولة توران شاه بن أيّوب أخو صلاح الدين من اليمن إلى
دمشق فى سلخ ذى الحجّة.
وفيها فوّض سيف الدولة غازى أمر الموصل إلى مجاهد الدين قيماز الخادم.
(6/76)
وفيها توفّى علىّ بن الحسن بن هبة الله بن
عبد الله بن الحسين الحافظ أبو القاسم الدمشقى المعروف بابن عساكر،
مولده فى أوّل المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة. كان أحد أئمة الحديث
المشهورين، والعلماء المذكورين، سمع الكثير وسافر، وصنّف تاريخا لدمشق،
وصنّف كتبا كثيرة، وكان إماما فى الفنون، فقيها محدّثا حافظا مؤرّخا.
قال العماد الكاتب: أنشدنى لنفسه بالمزّة «1» :
أيا نفس ويحك جاء المشيب ... فماذا التّصابى وماذا الغزل
تولّى شبابى كأن لم يكن ... وجاء مشيبى كأن لم يزل
[كأنّى «2» بنفسى على غرة ... وخطب المنون بها قد نزل]
فياليت شعرى ممّن أكون ... وما قدّر الله لى فى الأزل
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ ثقة
الدّين أبو القاسم علىّ بن الحسن بن هبة الله بن عساكر فى رجب، وله
ثلاث وسبعون سنة إلا شهرا. ومجد الدين أبو منصور محمد بن أسعد بن [محمد
«3» المعروف ب] حفدة الطّوسىّ العطّارىّ الشافعىّ الواعظ. وأبو حنيفة
محمد بن عبيد «4» الله الأصبهانىّ الخطيبىّ فى صفر. وأبو جعفر هبة الله
بن يحيى بن البوقىّ «5» الشافعىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشر أصابع.
(6/77)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 572]
السنة السادسة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى
سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
فيها تزوّج السلطان صلاح الدين يوسف بالخاتون عصمة الدّين بنت الأمير
معين الدين أنر «1» زوجة الملك العادل نور الدين محمود، وكانت بقلعة
دمشق.
وفيها كانت فتنة مقدّم السّودان من صعيد مصر، سار من الصعيد إلى مصر فى
مائة ألف أسود، ليعيد الدولة المصريّة الفاطميّة، فخرج إليه أخو صلاح
الدين الملك العادل أبو بكر، وأبو الهيجاء الهكّارىّ، وعزّ الدين موسك
بمن معهم من عساكر مصر؛ والتقوا مع السّودان، فكانت بينهم وقعة هائلة،
قتل كبير السودان المذكور ومن معه. قال الشيخ شمس الدين يوسف فى مرآة
الزمان: «يقال إنهم قتلوا منهم ثمانين ألفا وعادوا إلى القاهرة» .
وفيها خرج السلطان صلاح من دمشق إلى مصر، واستناب أخاه شمس الدولة
توران شاه على الشام. وجاءت الفرنج إلى داريّا «2» ، فأحرقوا ونهبوا
وعادوا.
وفيها أمر السلطان صلاح الدين قراقوش الخادم بعمارة سور القاهرة ومصر،
وضيّع فيه أموالا كثيرة ولم ينتفع به أحد.
وفيها أبطل صلاح الدين المكوس التى كانت تؤخذ من الحاج بجدّة، ممّا
يحمل فى البحر؛ وعوّض صاحب مكّة عنها فى كلّ سنة ثمانية آلاف اردبّ
قمحا تحمل إليه فى البحر، [ويحمل «3» مثلها] فتفرّق فى أهل الحرمين.
(6/78)
وفيها عمّر صلاح الدين مدرسة الشافعىّ «1»
بالقرافة، وتولّى الشيخ نجم الدين الخبوشانىّ عمارتها. وعمّر
البيمارستان «2» فى القصر، ووقف عليه الأوقاف.
وفيها حجّ بالناس من الشام قيماز النّجمىّ.
وفيها توفّى علىّ بن منصور أبو الحسن السّروجىّ الأديب، مؤدّب أولاد
الأتابك زنكى بن آق سنقر، كان يأخذ الماء بفيه ويكتب به على الحائط
كتابة حسنة كأنّها كتبت بقلم الطومار، وينقط ما يكتب ويشكله. ومن شعره
فى فصل الربيع وفضل دمشق، ومدح نور الدين قصيدة طنّانة أوّلها:
فصل الربيع زمان نوره نور ... أنفاس «3» أشجاره مسك وكافور
وفيها توفّى محمد بن مسعود أبو المعالى، خرج إلى الحجّ فى هذه السنة
فتوفّى يفند «4» ، كان أديبا فاضلا. ومن شعره هجو فى قاض ولى القضاء:
ولمّا [أن «5» ] تولّيت القضايا ... وفاض الجور من كفّيك فيضا
ذبحت بغير سكّين وإنّى ... لأرجو الذبح بالسّكّين أيضا
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن القاسم أبو الفضل كمال الدين
الشهرزورىّ قاضى دمشق. مولده فى سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، كان
إماما فاضلا فقيها مفتنّا، كان إليه فى أيّام نور الدين الشهيد مع
القضاء أمر المساجد والمدارس والأوقاف والحسبة، والأمور الدينيّة
والشرعيّة. وكان صاحب القلم والسيف، وكانت شحنجية دمشق إليه، ولّى فيها
بعض غلمانه؛ ثم ولّاها نور الدين بعد ذلك
(6/79)
لصلاح الدين يوسف بن أيّوب قبل قدومه إلى
مصر. وكان مع فضله ودينه له الشعر الجيّد، وكان بينه وبين صلاح الدين
يوسف بن أيّوب، صاحب الترجمة فى أيام نور الدين مضاغنة. ومن شعره:
وجاءوا عشاء يهرعون وقد بدا ... بجسمى من داء الصبابة ألوان
فقالوا وكلّ معظم بعض ما رأى ... أصابتك عين قلت عين وأجفان
قلت: وهذا شبه قول القائل ولم أدر من السابق:
ولمّا رأونى العاذلون متيّما ... كئيبا بمن أهوى وعقلى ذاهب
رثوا لى وقالوا كنت بالأمس عاقلا ... أصابتك عين قلت عين وحاجب
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو [محمد
«1» ] صالح ابن المبارك بن الرّخلة القزّاز. والمحدّث أبو [محمد «2» ]
عبد الله بن عبد الرحمن الأموىّ الدّيباجىّ الأصبهانىّ العثمانىّ
الإسكندرانىّ. وأبو الحسن «3» علىّ بن عساكر. وأبو بكر محمد بن أحمد بن
ماه «4» شاده الأصبهانىّ المقرئ، آخر من روى عن سليمان الحافظ.
وقاضى الشام كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم بن
المظفّر الشّهرزورىّ فى المحرّم. والقاضى أبو الفتح نصر بن سيّار بن
صاعد الكتّانىّ الهروىّ الحنفىّ مسند خراسان يوم عاشوراء، وله سبع
وتسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإحدى وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
(6/80)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 573]
السنة السابعة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة
ثلاث وسبعين وخمسمائة.
فيها توفّى صدقة بن الحسين بن الحسن أبو الفرج «1» الناسخ الحنبلىّ،
كان يعرف بابن الحدّد، كان فقيها مفتنّا مناظرا. قال أبو المظفّر:
لكنّه قرأ «الشفاء» «2» وكتب الفلاسفة، فتغيّر اعتقاده، وكان يبدو من
فلتات لسانه ما يدلّ على ذلك. ومن شعره- رحمه الله تعالى-:
لا توطّنها فليست بمقام ... واجتنبها فهى دار الانتقام
أتراها صنعة من صانع ... أم تراها رمية من غير رام
وفيها توفّى كمشتكين خادم السلطان نور الدين الشهيد. كان من أكابر
خدّامه (أعنى مماليكه) ، وكان ولّاه الموصل نيابة عنه. فلمّا مات نور
الدين هرب إلى حلب، وخدم شمس الدين ابن الداية، ثم جاء إلى الملك
الصالح ابن نور الدين الشهيد فأعطاه حارم، ثم غضب عليه لأمر وطلب منه
قلعة حارم بعد أن قبض عليه، فامتنعوا أصحابه من تسليمها، فعلّقه الملك
الصالح منكّسا، ودخّن تحت أنفه حتّى مات.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفّر، الوزير أبو
الفرج ابن رئيس الرؤساء، ولقبه عضد الدولة. وكان أبوه أستادار المقتفى
وأقرّه المستنجد. فلمّا ولى المستضىء استوزره، فشرع ظهير الدين [بن
العطّار «3» ] أبو بكر صاحب المخزن فى عداوته،
(6/81)
حتّى غيّر قلب الخليفة عليه، فطلب الحجّ
فأذن له، فتجهّز جهازا عظيما واشترى ستّمائة جمل لحمل المنقطعين
وزادهم، وحمل معه جماعة من العلماء والزهّاد، وأخذ معه بيمارستانا فيه
جميع ما يحتاج إليه، وسافر بتجمّل زائد. فلمّا وصل إلى باب قطفتا «1»
خرج إليه رجل صوفىّ بيده قصّة، فقال: مظلوم! فقال الغلمان: هات قصّتك.
فقال: ما أسلّمها إلّا للوزير. فلمّا دنا منه ضربه بسكّين فى خاصرته،
فصاح: قتلتنى، وسقط من دابّته، وبقى على قارعة الطريق ملقى، وتفرّق من
كان معه إلّا حاجب الباب، فإنّه رمى بنفسه عليه، فضربه الباطنىّ بسكّين
فجرحه، وظهر للباطنىّ رفيقان فقتلوا وأحرقوا. ثم حمل الوزير إلى داره
فمات بها. وكان مشكور السّيرة محببّا إلى الرعيّة، غير أنّ القاضى
الفاضل لمّا بلغه خبر قتله، أنشد:
وأحسن من نيل الوزارة للفتى ... حياة تريه مصرع الوزراء
وما ربّك بظلّام للعبيد. كان- عفا الله عنه- قد قتل ولدى الوزير ابن
هبيرة وخلقا كثيرا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الوزير أبو
الفرج محمد بن عبد الله ابن رئيس الرؤساء، وثبت عليه الإسماعليّة فى ذى
القعدة. وهارون ابن العبّاس أبو محمد بن المأمونىّ صاحب التاريخ. وأبو
شاكر يحيى بن يوسف السّقلاطونىّ «2» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثلاث أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
(6/82)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 574]
السنة الثامنة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة
أربع وسبعين وخمسمائة.
فيها جرى بحث فى مجلس ظهير الدين بن العطّار [صاحب المخزن «1» ] ، فى
قتال «2» عائشة لعلىّ. فقال ابن البغدادىّ الحنفىّ: كانت عائشة باغية
على علىّ، فصاح عليه ابن العطّار وأقامه من مكانه وأخبر الخليفة، فجمع
الفقهاء وسأل: ما يجب عليه؟ فقالوا: يعزّر. فقال ابن الجوزىّ: لا يجب
عليه التعزير، لأنّه رجل ليس له علم بالنّقل، وقد سمع أنّه جرى قتال
ولم يعلم أنّ السفهاء أثاروه بغير رضا الفريقين، وتأديبه «3» العفو
عنه، فأطلق.
وفيها توفّى سعد بن محمد بن سعد أبو الفوارس شهاب الدين [بن «4» ]
الصّيفىّ التّميمىّ، المعروف بالحيص بيص، كان شاعرا فاضلا، مدح الخلفاء
والوزراء والأكابر، وله ديوان شعر، وكانت وفاته ببغداد فى شعبان. وسبب
تسميته بالحيص بيص أنّه رأى الناس فى يوم حركة فقال: ما للناس فى حيص
بيص! فغلب عليه هذا اللّقب. ومعنى هاتين الكلمتين: الشدّة والاختلاط.
تقول العرب: وقع الناس فى حيص بيص [أى «5» فى شدّة واختلاط] . ومن شعر
الحيص بيص- رحمه الله وعفا عنه-:
لم ألق مستكبرا إلّا تحوّل لى ... عند اللقاء له الكبر الذي فيه
ولا حلا لى من الدنيا ولذّتها ... إلّا مقابلتى للتّيه بالتّيه
(6/83)
وكان الحيص بيص يلبس زىّ العرب، ويتقلّد سيفا، فعمل فيه أبو القاسم «1»
ابن الفضل:
كم تنادى «2» وكم تطوّل طرطو ... رك ما فيك شعرة من تميم
فكل الضّبّ واقرض الحنظل [اليا «3» ... بس] واشرب ما شئت بول الظليم
ليس ذا وجه من يضيف ولا ... يقرى ولا يدفع الأذى عن حريم
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو أحمد
أسعد بن بلدرك «4» الجبريلىّ البوّاب. والحيص بيص الشاعر شهاب الدين
أبو الفوارس سعد ابن محمد بن سعد بن صيفىّ التّميمىّ فى شوّال. وفخر
النساء شهدة بنت أحمد ابن الفرج الإبرىّ فى المحرّم، وقد جاوزت
التسعين. وأبو رشيد عبد الله بن عمر الأصبهانىّ فى شهر ربيع الآخر.
وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق اليوسفىّ.
وأبو الخطّاب عمر بن محمد التاجر بدمشق. وأبو عبد الله محمد بن نسيم
العيشونىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا. |