النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 575]
السنة التاسعة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى
سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
(6/84)
فيها ختن السلطان صلاح الدين ولده الملك
العزيز عثمان.
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المستضىء بأمر الله أبو محمد الحسن
بن يوسف المستنجد بن المقتفى محمد العباسىّ الهاشمىّ البغدادىّ. كان
أحسن الخلفاء سيرة، كان إماما عادلا شريف النفس حسن السيرة ليس للمال
عنده قدر، حليما شفيقا على الرعيّة، أسقط المكوس والضرائب فى أيّام
خلافته، وكانت وفاته ببغداد فى ثانى ذى القعدة عن ستّ «1» وثلاثين سنة،
وكانت خلافته تسع سنين. وهو الذي عادت الخطبة باسمه فى الديار المصريّة
والبلاد الشاميّة والثغور، واجتمعت الأمّة على خليفة واحد، وانقطع فى
أيّامه دولة بنى عبيد الفاطميّين الرافضة من مصر وأعمالها.
ولله الحمد. وأمّه أمّ ولد مولّدة.
وفيها توفّيت الزاهدة العابدة علم بنت عبد الله بن المبارك. كانت تضاهى
رابعة العدويّة فى زمانها، مرض ولدها أحمد بن الزّبيدىّ فاحتضر، وجاء
وقت الصلاة، فقالت: يا بنى، ادخل فى الصلاة، فدخل وكبر ومات، فخرجت إلى
النساء وقالت: هنّيننى! قلن ماذا؟ قالت: ولدى مات فى الصلاة. فتعجّب
الناس من ذلك. وكانت وفاتها ببغداد، وعمرها مائة سنة وستّ سنين، ولم
يتغيّر لها شىء من حواسّها.
وفيها توفّى منصور بن نصر بن الحسين الرئيس ظهير الدين صاحب المخزن
للخلفاء، ونائب الوزارة. نال من الوجاهة والرياسة ما لم ينله غيره من
أطباقه، إلى أن قبض عليه الخليفة الناصر لدين الله، وعلى أصحابه
وحواشيه، وصادره وأجرى عليه العقوبة إلى أن مات.
(6/85)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة
قال: وفيها توفّى أبو الفتح أحمد بن أبى الوفاء الحنبلىّ بحرّان.
والمستضىء بأمر الله أبو محمد الحسن بن المستنجد يوسف ابن المقتفى فى
شوّال. وأبو الحسين عبد الحقّ بن عبد الخالق اليوسفىّ فى جمادى الأولى.
وأبو الفضل عبد الحسن بن تريك «1» الأزجىّ. وأبو الحسن علىّ بن أحمد
الزّيدىّ المحدّث الزاهد. وأبو المعالى علىّ بن هبة الله [بن علىّ «2»
] بن خلدون. والقاضى أبو المحاسن عمر بن علىّ القرشى عمّ كريمة. وأبو
هاشم عيسى بن أحمد الهاشمىّ الدّوشابىّ «3» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وستّ أصابع. مبلغ
الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 576]
السنة العاشرة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى
سنة ستّ وسبعين وخمسمائة.
فيها قدمت امرأة إلى القاهرة عديمة اليدين، وكانت تكتب برجليها كتابة
حسنة، فحصل لها القبول التام، ونالها مال جزيل.
وفيها حجّ من العراق الأمير طاشتكين «4» ، ومن الشام الأمير سيف الدين
علىّ بن المشطوب.
(6/86)
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن أحمد الحافظ
أبو طاهر السّلفىّ «1» الأصبهانىّ، ولد سنة سبعين وأربعمائة، وكان طاف
الدنيا ولقى المشايخ، وكان يمشى حافيا لطلب العلم والحديث، وقدم دمشق
وغيرها، وسمع بعدّة بلاد، ثم دخل مصر وسمع بها، واستوطن الإسكندريّة
حتى مات بها فى يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر، ودفن داخل الإسكندرية
وقد جاوز المائة بخمس سنين. ومن شعره فى معنى كبر سنّه:
أنا إن بان شبابى ومضى ... فلربّى الحمد ذهنى حاضر
ولئن خفّت وجفّت أعظمى ... كبرا غصن علومى ناضر
وفيها توفّى الملك المعظّم فخر الدين شمس الدولة توران شاه بن أيّوب
أخو السلطان صلاح الدين صاحب الترجمة لأبيه. كان أكبر من صلاح الدين فى
السنّ، وكان يرى فى نفسه أنّه أحقّ بالملك من صلاح الدين يوسف المذكور،
وكان تبدو منه كلمات فى سكره فى حقّ صلاح الدين، ويبلغ صلاح الدين،
فأبعده وبعثه إلى اليمن، فسفك الدماء وقتل الأمائل وأخذ الأموال. ولم
يطب له اليمن فعاد إلى الشام على مضض من صلاح الدين، فأعطاه بعلبكّ
فبلغه عنه أشياء فأبعده إلى الإسكندريّة، فتوجّه إليها وأقام بها
معتكفا على اللهو، ولم يحضر حروب أخيه صلاح الدين ولا غزواته؛ ومات
بالإسكندريّة، فأرسلت أخته شقيقته ستّ الشام، فحملته فى تابوت إلى دمشق
فدفنته فى تربتها التى أنشأتها بدمشق. وكان توران شاه المذكور جوادا
ممدّحا حسن الأخلاق؛ إلّا أنّه كان أسوأ بنى أيّوب سيرة وأقبحهم طريقة.
(6/87)
وفيها توفّى الملك غازى بن مودود بن زنكى
بن آق سنقر التركىّ سيف الدين صاحب الموصل وابن أخى السلطان الملك
العادل نور الدين محمود الشهيد. كان غازى من أحسن الناس صورة، وكان
وقورا عاقلا غيورا، ما يدع خادما بالغا يدخل داره على حرمه، وكان طاهر
اللّسان عفيفا عن أموال الناس، قليل السفك للدماء، مع شحّ كان فيه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو
طاهر أحمد بن محمد السّلفىّ فى شهر ربيع الآخر، وقد جاوز المائة بيقين.
وشمس الدولة توران شاه بن أيّوب بن شادى صاحب اليمن بالإسكندرية فى
صفر. وأبو المعالى عبد الله بن عبد الرحمن [بن أحمد «1» بن علىّ] بن
صابر السلمىّ فى رجب. وأبو المفاخر سعيد بن الحسين المأمونىّ. وأبو
الفهم عبد الرحمن بن عبد العزيز بن محمد الأزدىّ ابن أبى العجائز فى
جمادى الآخرة. وأبو الحسن «2» علىّ بن عبد الرحيم بن العصّار السّلمىّ
البغدادىّ اللغوىّ فى المحرّم. وصاحب الموصل سيف الدين غازى بن مودود
ابن اتابك فى صفر، وله ثلاثون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشر أصابع. مبلغ
الزيادة ستّ عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 577]
السنة الحادية عشرة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على
مصر، وهى سنة سبع وسبعين وخمسمائة.
(6/88)
فيها عاد السلطان الملك الناصر صلاح الدين
يوسف بن أيّوب صاحب الترجمة من دمشق إلى القاهرة، واستناب على الشام
[ابن «1» ] أخيه عزّ الدين فرخشاه.
وفيها أمر السلطان صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين بالمسير إلى
اليمن، فأخذ يتجهّز للمسير.
وفيها بعث السلطان صلاح الدين الخادم بهاء الدين قراقوش إلى «2» اليمن،
فتوجّه وقبض على سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ، وطلب منه المال؛
وكان نائب أخيه توران شاه.
وفيها بنيت قلعة «3» الجبل بالقاهرة.
وفيها توفّى الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل نور الدين محمود بن
زنكى ابن آق سنقر صاحب حلب بمرض القولنج، وكان لمّا اشتدّ به مرض
القولنج وصف له الحكماء قليل خمر، فقال: لا أفعل حتّى أسأل الفقهاء.
فسأل الشافعيّة «4» فأفتوه بالجواز فلم يقبل، وقال: إن الله تعالى قرّب
أجلى، أيؤخّره شرب الخمر! قالوا: لا. قال: فو الله لا لقيت الله وقد
فعلت ما حرّم علىّ، فمات ولم يشر به.
ولمّا أشرف على الموت أحضر الأمراء واستحلفهم لابن عمّه عزّ الدين
[مسعود «5» ابن مودود] صاحب الموصل؛ فقيل له: لو أوصيت لابن عمك عماد
الدين صاحب سنجار! فإنّه صعلوك ليس له غير سنجار، وهو تربية أبيك وزوج
أختك،
(6/89)
وشجاع كريم، وعزّ الدين له من الفرات إلى
همذان؛ فقال: هذا لم يخف عنىّ، ولكن قد علمتم استيلاء صلاح الدين على
الشام، [سوى «1» ما بيدى] ، ومصر واليمن، وعماد الدين لا يثبت له إذا
أراد أخذ البلاد؛ وعزّ الدين له العساكر والأموال فهو أقدر على حفظ حلب
وأثبت من عماد الدين، ومتى ذهبت حلب ذهب الجميع؛ فاستحسنوا قوله.
قلت: ولم يخطر ببال أحد أخذ صلاح الدين بن أيّوب الشام من الملك الصالح
هذا قبل تاريخه، فإنّه كان غرس نعمة أبيه الملك العادل، فلم يلتفت صلاح
الدين للأيادى السالفة، وانتهز الفرصة حيث أمكنته، وقاتل الملك الصالح
هذا حتّى أخذ منه دمشق، فلهذا صار عند الصالح كمين من صلاح الدين.
وفيها توفّى عبد الرحمن «2» بن محمد [بن «3» عبيد الله] بن أبى سعيد
أبو البركات الأنبارىّ النحوىّ، مصنّف كتاب «الأسرار «4» فى علم
العربيّة» وكتاب «هداية الذاهب فى معرفة المذاهب» . كان إماما فى فنون
كثيرة مع الزهد والورع والعبادة، وكانت وفاته فى شعبان.
وفيها توفّى عمر «5» بن حموّيه عماد الدين والد شيخ الشيوخ صدر الدين
وتاج الدين، وهو من ولد حموّيه بن علىّ الحاكم على خراسان إمام
السامانيّة.
(6/90)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة فى
كتاب الإشارة «1» ، قال: وفيها توفّى الملك الصالح إسماعيل ابن السلطان
نور الدين بحلب فى رجب، وله ثمانى عشرة سنة.
والكمال أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنبارىّ النحوىّ العبد
الصالح. وشيخ الشيوخ أبو الفتوح «2» عمر بن علىّ الجوينىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشر أصابع. مبلغ
الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وخمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 578]
السنة الثانية عشرة من ولاية الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب
على مصر، وهى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة.
فيها سار سيف الإسلام طغتكين أخو صلاح الدين من مصر إلى اليمن إلى أن
نزل زبيد، وبها حطّان [بن منقذ «3» الكنانىّ] ، فأمره أن يسير إلى
الشام، فجمع أمواله وذخائره ونزل بظاهر زبيد فقبض عليه سيف الإسلام،
وأخذ جميع ما كان معه، وقيمته ألف ألف دينار، ثم قتله بعد ذلك. وكان
عثمان الزنجبيلىّ بعدن، فلمّا بلغه ذلك سافر إلى الشام بعد أن أثّر
باليمن آثارا كبيرة ووقف الأوقاف؛ وله مدرسة أيضا بمكّة، ورباط
بالمدينة وغيرها.
وفيها فى خامس المحرّم خرج صلاح الدين من مصر فنزل البركة «4» قاصدا
الشام، وخرج أعيان الدولة لوداعه، وأنشده الشعراء أبياتا فى الوداع،
فسمع قائلا يقول فى ظاهر المخيّم:
(6/91)
تمتّع من شميم عرار نجد ... فما بعد
العشيّة من عرار
فطلب القائل فلم يجده. فوجم الناس وتطيّر الحاضرون، فكان كما قال.
قلت: وقول من قال، فكان كما قال، ليس بشىء، فإنّ صلاح الدين عاش بعد
ذلك نحو العشر سنين، غير أنّه ما دخل مصر بعدها فيما أظنّ، فإنّه اشتغل
بفتح الساحل وقتال الفرنج، كما تقدّم ذكره فى ترجمته.
وفهيا توفّى أحمد بن علىّ بن أحمد الشيخ أبو العبّاس المعروف بابن
الرّفاعىّ، إمام وقته فى الزهد والصلاح والعلم والعبادة. كان من
الأفراد الذين أجمع الناس على علمه وفضله وصلاحه. كان يسكن أمّ عبيدة
بالعراق، وكان شيخ البطائحة «1» ، وكان له كرامات ومقامات، وأصحابه
يركبون السّباع ويلعبون بالحيّات، ويتعلّق أحدهم فى أطول النخل ثم يلقى
نفسه إلى الأرض ولا يتألّم، وكان يجتمع عنده كلّ سنة فى المواسم خلق
عظيم. قال الشيخ شمس الدين يوسف فى تاريخه مرآة الزمان:
«حكى لى بعض أشياخنا قال: حضرت عنده ليلة نصف شعبان، وعنده نحو من مائة
ألف إنسان قال: فقلت له: هذا جمع عظيم، فقال لى: حشرت محشر هامان إن
خطر ببالى أنّى مقدّم هذا الجمع. قال: وكان متواضعا سليم الصدر مجرّدا
من الدنيا ما ادّخر شيئا قطّ» . انتهى.
قلت: وعلم الشيخ أحمد بن الرفاعىّ وفضله وورعه أشهر من أن يذكر، وهو
أكثر الفقراء أتباعا شرقا وغربا، والأعاجم يسمّونه: سيّدى أحمد الكبير،
وقيل:
(6/92)
إنّ سبب مرضه الذي مات منه، أنّ عبد الغنىّ
بن محمد بن نقطة الزاهد مضى إلى زيارته، فأنشد «1» أبياتا منها:
إذا جنّ ليلى هام قلبى ذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوّق
وفوقى سحاب يمطر الهمّ والأسى ... وتحتى بحار بالأسى تتدفّق
سلوا أمّ عمرو كيف بات أسيرها ... تفكّ الأسارى دونه وهو موثق
فلا هو مقتول ففى القتل راحة ... ولا هو ممنون عليه فيعتق «2»
وكانت وفاة الشيخ أحمد فى يوم الخميس ثانى عشر «3» جمادى الأولى، وقد
جاوز سبعين «4» سنة.
وفيها توفّى الأمير فرخشاه بن شاهنشاه بن أيّوب أبو سعد عزّ الدين. كان
من الأماثل الأفاضل، كان متواضعا سخيّا جوادا شجاعا مقداما، وكان عمّه
صلاح الدين قد استنابه بالشام، وكان فصيحا شاعرا. مات بدمشق فى جمادى
الأولى. ومن شعره- رحمه الله تعالى-:
أقرضونى زمنا قرّبهم ... واستعادوا بالنّوى ما أقرضوا
أنا راض بالذى يرضيهم ... ليت شعرى بالتلاقى هل رضوا؟
وفيها توفّى الأمير يوسف بن عبد المؤمن بن علىّ أبو يعقوب صاحب المغرب،
أمير الموحّدين. كان حسن السيرة عادلا ديّنا ملازما للصلوات الخمس، لا
بسا للصوف، مجاهدا فى سبيل الله تعالى.
(6/93)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة،
قال: وفيها توفّى الشيخ الكبير أبو العبّاس أحمد بن علىّ بن أحمد
الرفاعىّ بالبطائح. وأبو طالب الخضر بن هبة الله بن أحمد بن طاوس فى
شوّال. والحافظ أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى ابن
بشكوال الأنصارىّ القرطبىّ فى شهر رمضان، وله أربع وثمانون سنة. وأبو
طالب أحمد بن المسلم بن رجاء اللّخمىّ التّنوخىّ فى شهر رمضان
بالإسكندريّة. وخطيب الموصل أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد
الطّوسىّ فى شهر رمضان عن اثنتين وتسعين سنة. وعزّ الدين فرخشاه بن
شاهنشاه بن أيّوب نائب دمشق فى جمادى الأولى. والقطب النّيسابورىّ أبو
المعالى مسعود بن محمد بن مسعود شيخ الشافعيّة فى آخر شهر رمضان. وأبو
محمد هبة الله بن محمد بن هبة الله الشّيرازىّ بدمشق فى شهر ربيع
الأوّل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإحدى وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 579]
السنة الثالثة عشرة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى
سنة تسع وسبعين وخمسمائة.
فيها فى يوم الأحد عاشر المحرّم تسلّم السلطان صلاح الدين آمد من ديار
بكر، ودخل إليها وجلس فى دار الإمارة، ثم سلّمها وأعمالها إلى نور
الدين محمد»
بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا، وكان قد وعده بها لمّا جاء إلى خدمته. ثم
عاد
(6/94)
إلى حلب وحاصرها حتى أخذها من عماد الدين
زنكى ابن أخى نور الدين الشهيد، وبذل له عوضها سنجار، وعمل الناس فى
ذلك أشعارا كثيرة، منها:
وبعت بسنجار خير القلاع ... ثكلتك من بائع مشترى
وكان فى أيّام حصار حلب أصاب تاج الملوك بورى بن أيّوب سهم فى عينه
فمات بعد أيّام، فحزن أخوه السلطان صلاح الدين عليه حزنا شديدا، وكان
يبكى ويقول:
ما وفت حلب بشعرة من أخى تاج الملوك بورى. وخرج عماد الدين من حلب وسار
إلى سنجار. ولمّا طلع صلاح الدين إلى قلعة حلب فى سلخ صفر [أنشدنا «1»
] القاضى [محيى الدين «2» بن] زكىّ الدين محمد بن علىّ القرشىّ قاضى
دمشق أبياتا منها:
وفتحه «3» حلبا بالسيف فى صفر ... مبشّر بفتوح القدس فى رجب
فكان كما قال، لكن بعد سنين؛ وهو الذي [خطب «4» ] بالقدس لمّا فتحه
صلاح الدين فى رجب.
وفيها توفّى محمد بن بختيار الأديب، أبو عبد الله المولّد «5» المعروف
بالأبله البغدادىّ الشاعر المشهور، كان شاعرا ماهرا جمع فى شعره بين
الصناعة والرقّة.
ومن شعره:
زار من أحيا بزورته ... والدّجى فى لون طرّته
قمر يثنى معاطفه ... بانة فى ثنى بردته
(6/95)
بتّ أستجلى المدام على ... غرّة الواشى
وغرّته
يا لها من زورة قصرت ... فأماتت طول جفوته
يا له فى الحسن من صنم ... كلّنا فى جاهليّته
وله قصيدة طنّانة أولها:
دعنى أكابد لوعتى وأعانى ... أين الطّليق من الأسير العانى
وفيها توفّى الملك تاج الملوك بورى بن أيّوب بن شادى أبو سعيد أخو
السلطان صلاح الدين من سهم أصابه فى حصار حلب كما تقدّم ذكره. كان مولد
تاج الملوك فى ذى الحجّة سنة ستّ وخمسين وخمسمائة، وكان قد جمع فيه
محاسن الأخلاق: من مكارم وشيم ولطف طباع، مع شجاعة «1» وفضل وفصاحة،
وكان شاعرا بليغا. ومن شعره:
رمضان بل مرضان إلّا أنّهم ... غلطوا إذا فى قولهم وأساءوا
مرضان فيه تخالفا ... فنهاره سلّ وأما ليله استسقاء
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى إسماعيل بن
قاسم الزّيات بمصر. وتقيّة بنت [غيث «2» بن] علىّ الأرمنازيّة «3»
الشاعرة. وأبو الفتح عبد الله بن أحمد الأصبهانىّ الخرقىّ فى رجب، وله
تسع وثمانون سنة. ومحمد بن بختيار البغدادىّ الشاعر المعروف بالأبله.
وأبو العلاء محمد بن جعفر بن عقيل، وله ثلاث وتسعون سنة. وأبو طالب
محمد بن علىّ الكتّانىّ المحتسب. والعلّامة رضىّ الدين يونس بن محمد بن
منعة فقيه الموصل.
(6/96)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ
أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون
إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 580]
السنة الرابعة عشرة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى
سنة ثمانين وخمسمائة.
فيها حجّ بالناس من العراق طاشتكين.
وفيها توفّى إيلغازى بن ألبى بن تمرتاش بن إيلغازى بن أرتق قطب الدين
صاحب ماردين، كانت وفاته فى جمادى الآخرة. وخلّف ولدين صغيرين. وكان
ملكا شجاعا عادلا منصفا عاقلا.
وفيها توفّى عبد الرحيم «1» بن إسماعيل بن أبى «2» سعد شيخ الشيوخ صدر
الدين وابن شيخ الشيوخ النّيسابورىّ. ولد سنة ثمان وخمسمائة، وكان
فاضلا رسولا «3» بين الخليفة وصلاح الدين، وكان يلبس الثياب الفاخرة،
ويتخصّص بالأطعمة الطّيبة، فكان أهل بغداد يعيبون عليه حيث لم يسلك
طريق المشايخ فى التعفّف عن الدنيا، ولمّا مات رثاه ابن «4» المنجّم
المصرىّ:
يا أخلّائى وحقّكم ... ما بقى من بعدكم فرح
أىّ صدر فى الزمان لنا ... بعد صدر الدين ينشرح
(6/97)
وتولّى مشيخة الرّباط بعده الشيخ صفىّ
الدين إسماعيل.
وفيها توفّى محمد بن قرا أرسلان نور الدين صاحب حصن كيفا؛ الذي كان
أعطاه السلطان صلاح الدين آمد. وترك ابنه ظهير الدين سكمان صغيرا، عمره
عشر سنين.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى صدر الدين
عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبى سعد شيخ الشيوخ فى رجب بالرّحبة راجعا فى
الرسليّة «1» .
وأبو عبد الله محمد بن حمزة بن أبى الصّقر القرشىّ. وأبو الوفا محمود
بن أبى القاسم [عمر «2» ] الأصبهانىّ فى شهر ربيع الآخر، وله إحدى
وسبعون سنة. أجاز له طرّاد [الزّينبى «3» النّقيب] وسمع من أبى الفتح
[أحمد «4» بن محمد] البيود رحانىّ «5» . وصاحب المغرب أبو يعقوب يوسف
بن عبد المؤمن «6» شهيدا على حصار شنترين «7» بالأندلس فى رجب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 581]
السنة الخامسة عشرة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على
مصر، وهى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
(6/98)
فيها قطع السلطان صلاح الدين الفرات ونزل
على الموصل وافتتح عدّة بلاد.
وفيها توفّى عبد السلام بن يوسف بن محمد الأديب أبو الفتوح «1»
الجماهرىّ «2» .
كان فاضلا شاعرا. ومن شعره من قصيدة:
على ساكنى بطن العقيق سلام ... وإن أسهرونى بالفراق وناموا
حرمتم «3» علىّ النوم وهو محلّل ... وحلّلتم التعذيب وهو حرام
ألا يا حمامات الأراك إليكم ... فمالى فى تغريدكّنّ مرام
فوجدى وشوقى مسعد ومؤانس ... ونوحى ودمعى مطرب ومدام
وفيها توفّيت عصمة الدين خاتون بنت معين الدين أنر زوجة السلطان صلاح
الدين صاحب الترجمة، تزوّجها بعد زوجها الملك العادل نور الدين الشهيد.
كانت من أعفّ الناس وأكرمهنّ، كان لها صدقات كثيرة وبرّ عظيم؛ بنت
بدمشق مدرسة للحنفيّة فى حجر «4» الذهب، ورباطا للصوفيّة، وبنت تربة
بقاسيون على نهر «5» بردى، وبها دفنت؛ وأوقفت على هذه الأماكن أوقافا
كثيرة. وماتت فى رجب، فبلغ صلاح الدين موتها وهو مريض بحرّان فتزايد
مرضه لموتها ولحزنه عليها. ثم مات بعدها أخوها سعد الدين مسعود بن أنر
في هذه السنة، وكان من أكابر الأمراء، زوّجه صلاح الدين أخته ربيعة
خاتون. فلمّا توفّى تزوّجها بعده الأمير مظفّر الدين بن زين الدين.
وفيها توفّى محمد ابن الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادى الأمير
ناصر الدين ابن عمّ السلطان صلاح الدين. كان السلطان صلاح الدين يخافه
لأنّه
(6/99)
كان يدّعى أنّه أحقّ بالملك منه. وكان
السلطان صلاح الدين يبلغه عنه هذا، وكان زوج أخت السلطان صلاح الدين
ستّ الشام بنت أيّوب. ومات بحمص فى يوم عرفة، وتناثر لحمه حتّى قيل
إنّه سمّ، وقيل: مات فجأة، فنقلته زوجته ستّ الشام إلى تربتها، ودفنته
عند أخيها الملك المعظّم توران شاه بن أيّوب المقدّم ذكره. ولمّا بلغ
صلاح الدين موته أبقى على ولده أسد الدين شيركوه بن محمد المذكور ما
كان بيد والده: حمص وتدمر والرّحبة وسلمية، وخلع عليه وكتب منشورا
بذلك.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن فتح الدين البغدادىّ الحنفىّ، كان فقيها
شاعرا أديبا.
ومن شعره فى مليح عليه قباء كمّه مطرّز:
ضممت معذّبى لمّا أتانى ... ورقم طرازه قد راق عينى
فياطرزيه هل يدنى زمانى ... ليالى وصلنا بالرّقمتين
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الطاهر
إسماعيل ابن مكّىّ [بن «1» إسماعيل بن عيسى] بن عوف الزّهرىّ شيخ
المالكيّة بالثغر فى شعبان.
وصاحب أذربيجان البهلوان [محمد «2» ] بن إيلدكز. والشيخ حياة بن قيس
الحرّانىّ العابد فى جمادى الأولى. وأبو اليسر شاكر بن عبد الله بن
محمد التّنوخىّ كاتب نور الدين. والمهذّب عبد الله بن أسعد [بن علىّ
«3» ] بن الدهّان الموصلىّ الشافعىّ النحوىّ الشاعر فى شعبان بحمص.
والحافظ أبو محمد عبد الحقّ بن عبد الرحمن الأزدىّ الإشبيلىّ فى شهر
ربيع الآخر بيجاية «4» ، وله سبعون سنة. والحافظ أبو زيد «5» عبد
الرحمن
(6/100)
ابن عبد الله السّهيلىّ المالقىّ «1»
الأديب فى شعبان. وعبد الرازق بن نصر بن المسلم النجّار الدمشقىّ. وأبو
الفتح [عبيد الله»
بن] عبد الله [بن محمد «3» بن نجا] بن شاتيل «4» الدبّاس فى رجب، وله
تسعون سنة. وأبو الجيوش عساكر بن علىّ المقرئ بمصر. وأبو حفص عمر بن
عبد المجيد الميانشىّ «5» بمكّة. وأبو المجد الفضل بن الحسين
البانياسىّ فى شوّال.
وصاحب حمص ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه. والحافظ أبو سعد «6»
محمد بن عبد الواحد الصائغ بأصبهان فى ذى القعدة. والحافظ العلّامة أبو
موسى محمد بن أبى بكر عمر بن أبى عيسى المدينىّ فى جمادى الأولى، وله
ثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 582]
السنة السادسة عشرة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى
سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
فيها حكم المنجّمون فى الآفاق بخراب العالم فى جمادى الآخرة، وقالوا:
تقترن الكواكب السيّارة: الشمس والقمر وزحل والمرّيخ [والزّهرة «7» ]
وعطارد والمشترى فى برج الميزان أو السّرطان، فتؤثّر تأثيرا يضمحلّ به
العالم، وتهبّ سموم محرقة تحمل
(6/101)
وملا أحمر، فاستعدّ الناس وحفروا السراديب
وجمعوا فيها الزاد. وانقضت المدّة المعيّنة، وظهر كذب المنجّمين. فقال
[أبو الغنائم «1» محمد] بن المعلّم فى أبى الفضل «2» المنجّم قصيدة
طنّانة:
قل لأبى الفضل قول معترف ... مضى جمادى وجاءنا رجب
وما جرت «3» زعزع كما حكموا ... ولا بدا كوكب له ذنب
ومنها:
مدبّر الأمر واحد ليس للسب ... عة فى كلّ حادث سبب
لا المشترى سالم ولا زحل ... باق ولا زهرة ولا قطب
ومنها:
فليبطل المدّعون ما وضعوا ... فى كتبهم ولتحرق الكتب
قلت: وهذا الكذب متداول بين القوم إلى زماننا هذا، حتّى إنّه لا يمضى
شهر إلّا وقد أوعدوا الناس بشىء لا حقيقة له. والعجب أنّ الشخص من
العامّة إذا كذب مرّة على رجل يستحى ولا يعود إلى مثلها، وهؤلاء القوم
لا عرض لهم ولا دين ولا مروءة. ولله درّ القائل ولم أدر لمن هو:
دع النجوم لصوفىّ يعيش بها ... وبالعزائم فانهض أيّها الملك
إنّ النّبيّ وأصحاب النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا
(6/102)
وفيها عاد السلطان صلاح الدين إلى الشام
وتلقّاه شيركوه بن محمد بن شيركوه وأخته سفرى خاتون أولاد ابن عمّه
محمد بن أسد الدين شيركوه وزوجته ستّ الشام، وهى أخت السلطان صلاح
الدين؛ فقال السلطان لأخيه العادل أبى بكر بن أيّوب: اقسم التركة بينهم
على فرائض الله تعالى. وكان محمد قد خلّف أموالا عظيمة، فكان مبلغ
التركة ألف ألف دينار.
وفهيا دخل سيف الإسلام أخو صلاح الدين إلى مكّة، ومنع من الأذان فى
الحرم ب «حىّ على خير العمل» .
وفيها قسّم السلطان صلاح الدين يوسف البلاد بين أهله وولده برأى القاضى
الفاضل، فأعطى مصر لولده العزيز عثمان؛ والشام لولده الأفضل؛ وحلب
لولده الظاهر؛ وأعطى أخاه العادل أبا بكر إقطاعات كثيرة بمصر، وجعله
أتابك العزيز؛ وأعطى لابن أخيه تقىّ الدين حماة والمعرّة ومنبج وأضاف
إليه ميّافارقين.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن بركة أبو محمد المقرئ النحوىّ، كان إماما
فاضلا انتفع بعلمه خلائق كثيرة، وكان أديبا بارعا ومات فى شوّال. ومن
شعره:
وما شنآن الشّيب من أجل لونه ... ولكنّه حاد «1» إلى الموت مسرع
إذا ما بدت منه الطّليعة آذنت ... بأنّ المنايا بعدها تتطلّع
وفيها توفّى عبد الله [بن برّىّ «2» ] بن عبد الجبّار المعروف بآبن
برّىّ النحوىّ بمصر، كان إماما أديبا فاضلا بارعا فى علم النحو
والعربيّة، وانتفع به خلق كثير، ومات بمصر فى شوّال. وكان حجّة ثقة.
ومن شعره- رحمه الله-:
(6/103)
خدّ وثغر فجلّ ربّ ... بمبدع الحسن قد
تفرّد
فذا عن الواقدىّ يروى ... وذاك يروى عن المبرّد
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو محمد عبد
الله ابن برّى النحوىّ بمصر فى شوّال، وله ثلاث وثمانون سنة. وأبو محمد
عبد الله بن محمد بن جرير القرشىّ الناسخ ببغداد. وأبو محمد الحسن بن
علىّ [بن بركة «1» ] بن عبيدة الكوفىّ النحوىّ المقرئ فى شوّال.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 583]
السنة السابعة عشرة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على
مصر، وهى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.
فيها فتح السلطان صلاح الدين بيت المقدس وعكّا وحصونا كثيرة بالساحل،
بعد أمور وحروب ذكرناها فى ترجمته.
وفيها توفّى علىّ بن أحمد بن علىّ بن محمد قاضى القضاة أبو الحسن بن
الدامغانىّ الحنفىّ قاضى قضاة بغداد. قال أبو المظفّر: قاضى ابن قاضى
ابن قاضى ابن قاضى ابن قاضى ابن قاضى. ولد سنة ثلاث عشرة «2» وخمسمائة،
وولّاه الخليفة المقتفى القضاء بمدينة السلام وسائر البلاد مشرقا
ومغربا، وأقرّه المستنجد ثم عزله؛ ثم أعاده
(6/104)
المستضىء سنة سبعين وخمسمائة؛ ثم أقرّه
الناصر لدين الله تعالى إلى أن توفّى ببغداد فى ذى القعدة ودفن
بالشّونيزيّة عند جدّه لأمّه أبى الفتح الشاوى «1» . وكان إماما فقيها
عالما نزها عفيفا معدودا من كبار فقهاء السادة الحنفية- رحمه الله
تعالى-.
وفيها توفّى محمد بن عبد الملك «2» بن المقدّم الأمير شمس الدين، كان
من أكابر أمراء الملك العادل نور الدين، ثم صلاح الدين يوسف بن أيّوب.
وله المواقف المشهودة، وحضر جميع فتوحات السلطان صلاح الدين، ثم إنّه
استأذن صلاح الدين فى الحجّ فأذن له على كره من مفارقته؛ فلمّا وصل إلى
عرفات أراد أن يرفع علم صلاح الدين ويضرب الطّبل، فمنعه طاشتكين وقال:
لا يرفع هنا سوى علم الخليفة.
فقال ابن المقدّم هذا: والسلطان مملوك الخليفة. فمنعه طاشتكين، فأمر
ابن المقدّم غلمانه فرفع العلم فنكّسوه، فركب ابن المقدّم ومن معه،
وركب طاشتكين له، واقتتلوا فقتل من الفريقين، ورمى مملوك طاشتكين ابن
المقدّم بسهم فوقع فى عينه فخرّ صريعا، وجاء طاشتكين وحمله إلى خيمته
فتوفّى فى يوم الخميس يوم النحر ودفن بالمعلى. ثم أرسل الخليفة يعتذر
لصلاح الدين أنّ ابن المقدّم كان الباغى، فلم يقبل صلاح الدين، وقال:
أنا الجواب عن الكتاب. ولولا اشتغاله بالجهاد لكان له وللخليفة شأن.
وفيها توفّى محمد بن عبيد الله الأديب أبو الفتح البغدادىّ، المعروف
بسبط [ابن] التّعاويذىّ. الشاعر المشهور. وله ديوان شعر كبير، الموجود
غالبه فى المديح.
ومن شعره- رحمه الله- فى غير المديح، فى الزهد:
(6/105)
اجعل همومك واحدا ... وتخلّ عن كلّ الهموم
فعساك أن تحظى بما ... يغنيك عن كلّ الهموم
وله:
فكم ليلة قد بتّ أرشف ريقه ... وجرت على ذاك الشّنيب المنضّد
وبات كما شاء الغرام معانقى ... وبتّ وإيّاه كحرف مشدّد
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى شيخ الفتوى
عبد الجبّار بن يوسف ببغداد. والمحدّث أبو العزّ «1» عبد المغيث بن
زهير الحربىّ.
وقاضى القضاة أبو الحسن علىّ بن أحمد ابن قاضى القضاة علىّ بن محمد بن
الدامغانىّ الحنفىّ. وأبو الفتح محمد بن يحيى بن محمد بن مواهب
البردانىّ «2» . والأمير الكبير شمس الدين محمد [بن عبد «3» الملك] بن
المقدّم النّورىّ، قتل بعرفات. وأبو السعادات نصر الله بن عبد الرحمن
بن محمد [يعرف «4» ] بابن زريق القزّاز فى شهر ربيع الآخر، وله اثنتان
وتسعون سنة. وشيخ الحنابلة ناصح «5» الدين أبو الفتح نصر بن فتيان [بن
«6» مطرّف المعروف با] بن المنّى فى رمضان عن إحدى وثمانين سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 584]
السنة الثامنة عشرة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على
مصر، وهى سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
(6/106)
فيها توفّى الأمير أسامة بن مرشد بن علىّ
بن المقلّد بن نصر بن منقذ الأمير أبو الحارث «1» مؤيّد الدولة مجد
الدين الكنانىّ. مولده بشيزر فى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وكانت له
اليد الطّولى فى الأدب والكتابة والشعر، وكان فارسا شجاعا عاقلا
مدبّرا، كان يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب الجاهليّة، وطاف البلاد
ثم استوطن حماة فتوفّى فيها «2» فى شهر رمضان، وقد بلغ ستا وتسعين سنة.
وله ديوان شعر مشهور، وكان السلطان صلاح الدين مغرى بشعره. ومن شعره فى
قلع الضّرس:
وصاحب لا «3» أملّ الدهر صحبته ... يشقى لنفعى ويسعى سعى مجتهد
لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ «4» وقعت ... عينى عليه افترقنا فرقة الأبد
وقال فى أيّام الملك العادل نور الدين الشهيد:
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا ... له فكلّ على الخيرات منكمش
أيّامه مثل شهر الصّوم طاهرة ... من المعاصى وفيها الجوع والعطش
وفيها توفّى مجاهد الدين خالص بن عبد الله الناصرىّ خادم الخليفة
الناصر لدين الله، كان قريبا من الخليفة سلّم إليه مماليكه الخواص؛
وكان سليم الباطن ديّنا، صلى به إمامه صلاة الفجر فقرأ الإمام فيها:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ
فلمّا سمع خالص ذلك رفع صوته وهو فى الصلاة وقال: صلّى الله عليك يا
رسول الله.
(6/107)
فضحك القوم وقطعوا الصلاة. فقال لهم خالص
المذكور: مجانين أنتم! يقول الله:
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
وأسكت أنا!
وفيها توفّى محمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن المظفّر بن علىّ؛
أبو حامد محيى الدين «1» الشّهرزورىّ الإمام الفقيه؛ ولى القضاء
بالموصل، وقدم بغداد رسولا من صاحب الموصل، فأكرمه الخليفة وخلع عليه.
ثم عاد فمات فى جمادى الأولى.
ومن شعره:
ولمّا شاب رأس الدهر غيظا ... لما قاساه من فقد الكرام
أقام «2» يميط عنه الشيب عمدا ... وينشر ما أماط على الأنام
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الأمير مؤيّد
الدولة أبو المظفر أسامة بن مرشد بن علىّ بن مقلّد بن نصر بن منقذ
الكنانىّ فى شهر رمضان عن سبع «3» وتسعين سنة. وظاعن بن محمد الزّبيرىّ
الخيّاط. وأبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله «4» [بن يوسف بن
أبى عيسى «5» القاضى] بن حبيش الأنصارىّ بمرسية «6» ، وكان خطيبها
وقاضيها ومحدّثها ومسندها، توفّى فى صفر. وأبو»
القبائل ابن علىّ عن مائة سنة وزيادة. والعلّامة شمس الأئمّة عماد
الدين عمر بن شمس الأئمّة بكر بن محمد الزّرنجرىّ «8» البخارىّ شيخ
الحنفيّة فى شوّال، وله خمس وستون سنة.
(6/108)
وأبو عبد الله محمد بن علىّ بن محمد بن الحسن بن صدقة الحرّانىّ
التاجر، وله سبع وتسعون سنة. والحافظ أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان
الحازمىّ الهمذانىّ فى جمادى الأولى شابّا، وله خمس وثلاثون سنة. وأبو
الفرج يحيى بن محمود الثّقفىّ الصّوفىّ فى نواحى همذان غريبا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا. |