النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 585]
السنة التاسعة عشرة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة خمس وثمانين وخمسمائة.
فيها ولّى السلطان صلاح الدين على عكّة حسام الدين بشارة، وولّى على عمارة سورها الخادم بهاء الدين قراقوش.
وفيها توفّى الأمير طمان بن عبد الله النّورىّ صاحب الرّقّة، كان شجاعا جوادا محبّا للخير كثير الصدقات يحبّ الفقهاء والعلماء، بنى مدرسة بحلب للحنفيّة. وكانت وفاته فى ليلة نصف شعبان؛ وحزن السلطان صلاح الدين عليه والمسلمون لحرصه على الجهاد ولمواقفة المشهودة.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن هبة الله بن المطهّر «1» بن علىّ أبو سعد بن أبى السّرىّ التّميمىّ الموصلىّ القاضى شرف الدين بن أبى عصرون. كان إماما فاضلا مصنّفا، وكان خصيصا بالملك العادل نور الدين، ثم اقتضى «2» به السلطان صلاح الدين، وولى القضاء بعدّة بلاد وضرّ قبل وفاته بعشر سنين. ومن شعره قوله:

(6/109)


كلّ جمع إلى الشتات يصير ... أىّ صفو ما شانه التكدير
أنت فى اللهو والأمانى مقيم ... والمنايا فى كلّ وقت تسير
وفيها توفّى الفقيه عيسى «1» الهكّارىّ ضياء الدين، حضر فتح مصر مع أسد الدين شيركوه، وهو الذي مشى بين الأمراء وبين السلطان صلاح الدين لمّا ولى وزارة العاضد بعد موت عمّه أسد الدين شيركوه، حسب ما تقدّم ذكره حتّى تمّ أمره.
ثمّ حضر مع السلطان صلاح الدين فتح القدس والغزوات، وكان صلاح الدين يميل إليه ويستشيره، وكأنّ الله قد أقامه لقضاء حوائج الناس والتفريج عن المكروبين مع الورع والعفّة والدين- رحمه الله-.
وفيها توفّى الأمير موسك بن جكو [ابن «2» ] خال صلاح الدين. كان حافظا للقرآن سامعا للحديث، وكان محسنا إلى الناس ملازما للسلطان فى غزواته، وكان ديّنا صالحا جوادا، مرض بمرج عكّا فأمره السلطان أن يمضى إلى دمشق ليتطبّب بها، فتوجّه إلى دمشق ومات بها- رحمه الله-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العبّاس التّرك أحمد بن أحمد بن محمد بن ينّال شيخ الصوفيّة بأصبهان ومسندها فى شعبان. وأبو الحسين «3» أحمد بن حمزة الموازينىّ فى المحرّم. وقاضى القضاة شرف الدين أبو سعد عبد الله ابن محمد بن أبى عصرون التّميمىّ الموصلىّ فى رمضان. وأبو الفضل عبد المجيد بن [الحصينىّ «4» بن يوسف بن الحسن بن أحمد بن] دليل الإسكندرانىّ المعدّل. وشيخ

(6/110)


الشافعيّة أبو طالب المبارك بن المبارك [بن المبارك «1» ] الكرخىّ «2» صاحب ابن الخلّ.
وأبو المعالى [وأبو «3» النجاح] منجب بن عبد الله المرشدىّ الخادم فى المحرّم. والحافظ يوسف بن أحمد الشّيرازىّ ثم البغدادىّ الصوفىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 586]
السنة العشرون من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة ستّ وثمانين وخمسمائة.
فيها ملك سيف الإسلام أخو السلطان صلاح الدين صنعاء من بلاد اليمن.
وفيها حجّ بالناس من العراق طاشتكين المذكور فى السنة الماضية.
وفيها توفّى مسعود [بن «4» علىّ] بن عبيد الله أبو الفضل بن النادر الصفّار الأديب الشاعر، كان بارعا فى الأدب، وكتب خطّا حسنا نحوا من مائة ربعة. ومن شعره قوله:
تولّوا فأولوا الجسم من بعدهم ضنا ... وحراّ شديدا فى الحشا يتزايد
وزاد بلائى بالذين أحبّهم ... وللناس فيما يذهبون مقاصد
وفيها توفّى يوسف بن علىّ بن بكتكين الأمير زين الدين صاحب إربل.
كان قدم إلى السلطان صلاح الدين نجدة فمرض ومات، وفرح بموته أخوه مظفّر

(6/111)


الدين، وتولّى إربل مكانه من قبل السلطان صلاح الدين. وكان زين الدين أميرا كبيرا شجاعا مقداما مدبرا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو المواهب الحسن «1» بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التّغلبىّ الدمشقىّ، وله تسع واربعون سنة.
وأبو الطيّب عبد المنعم بن يحيى [بن خلف «2» بن نفيس] بن الخلوف الغرناطىّ المقرئ.
وأبو عبد الله محمد بن سعيد [بن أحمد «3» بن عبد العزيز بن عبد البرّ بن مجاهد المعروف ب] ابن زرقون الإشبيلىّ المالكىّ المسند. وأبو بكر محمد بن عبد الله بن يحيى بن الفرح بن الجدّ الفهرىّ الحافظ بإشبيلية. وقاضى القضاة محيى «4» الدين أبو حامد محمد ابن قاضى القضاة كمال الدين بن الشّهرزورىّ، وله اثنتان وستون سنة. ولى حلب ثم الموصل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 587]
السنة الحادية والعشرون من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
فيها كان استيلاء الفرنج على عكّا، كما تقدّم فى ترجمة السلطان صلاح الدين من هذا الكتاب.

(6/112)


وفيها توفّى الموفّق أسعد بن [إلياس «1» بن جرجس] المطران الطبيب. كان نصرانيّا فأسلم على يد السلطان، وكان غزير المروءة حسن الأخلاق كريم العشرة. وكان يصحبه صبىّ حسن الصورة اسمه عمر. وكان الموفّق يحبّ أهل البيت ويبغض ابن عنين «2» الشاعر لخبث لسانه، وكان يحرّض السلطان صلاح الدين عليه ويقول له:
أليس هذا هو القائل:
سلطاننا أعرج وكاتبه ... أعمش والوزير منحدب
فهجاه ابن عنين بقوله:
قالوا الموفّق شيعىّ فقلت لهم ... هذا خلاف الذي للناس منه ظهر
فكيف يجعل دين الرّفض مذهبه ... وما دعاه إلى الإسلام غير عمر
وفيها توفّى سليمان بن جندر. كان من أكابر أمراء حلب، ومشايخ الدولتين:
النّوريّة والصلاحيّة، شهد مع السلطان صلاح الدين حروبه كلّها، وهو الذي أشار بخراب عسقلان مصلحة للمسلمين. ومات فى أواخر ذى الحجّة.
وفيها توفّى عمر بن شاهنشاه بن أيّوب الملك المظفّر تقىّ الدين. قد ذكرنا من أمره: أنّ عمّه السلطان صلاح الدين كان أعطاه حماة، وعدّة بلاد من حماة إلى دياربكر، فطمع فى ملكة الشرق فنفرت عنه وعن عمّه صلاح الدين القلوب لعظم طمعهما. ووقع لتقىّ الدين هذا مع بكتمر [بن عبد الله «3» مملوك شاه أرمن] صاحب خلاط وقائع وحروب، فمات تقىّ الدين بتلك البلاد، فكتم محمد ولده موته، وحمله

(6/113)


إلى ميّافارقين، فدفن بها. وكانت وفاته يوم الجمعة عاشر شهر رمضان، ثم بنيت له مدرسة بظاهر حماة، فنقل إليها. وكان السلطان صلاح الدين يكره ابنه محمدا فأخذ منه بلاد أبيه، وأبقى معه حماة لا غير. ولقّب محمد هذا بالملك المنصور. وهو أبو ملوك حماة من بنى أيّوب الآتى ذكرهم. وكان تقىّ الدين شجاعا مقداما شاعرا فاضلا، عاشر العلماء والأدباء وتخلّق بأخلاقهم، وله ديوان شعر. ومن شعره:
يا ناظريه ترفّقا ... ما فى الورى لكما مبارز
هبكم حجبتم أن أرا ... هـ فهل لقلب الصّب حاجز
وفيها توفّى يحيى «1» السّهروردىّ المقتول بحلب، كان يعانى علوم الأوائل والمنطق والسيمياء وأبواب النّيرنجيّات «2» ، فاستمال بذلك خلقا كثيرا وتبعوه، وله تصانيف فى هذه العلوم. واجتمع بالملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب، فأعجب الظاهر كلامه ومال إليه. فكتب أهل حلب إلى السلطان صلاح الدين:
أدرك ولدك وإلّا تتلف عقيدته؛ فكتب إليه أبوه صلاح الدين بإبعاده فلم يبعده، فكتب بمناظرته، فناظره العلماء فظهر عليهم بعبارته، فقالوا: إنّك قلت فى بعض تصانيفك: إنّ الله قادر على أن يخلق نبيّا، وهذا مستحيل. فقال: ما وجه استحالته؟
فإنّ الله القادر هو الذي لا يمتنع عليه شىء. فتعصّبوا عليه، فحبسه الظاهر وجرت بسببه خطوب وشناعات. وكان السّهروردىّ ردىء الهيئة، زرىّ الخلقة، دنس الثياب، وسخ البدن، لا يغسل له ثوبا ولا جسما، ولا يقصّ ظفرا ولا شعرا، فكان القمل يتناثر على وجهه، وكان من رآه يهرب منه لسوء منظره، وقبح زيّه.

(6/114)


وطال أمره إلى أن أمر السلطان بقتله فقتل فى يوم الجمعة منسلخ ذى الحجّة من هذه السنة، أخرج من الحبس ميّتا. وممّا ينسب إليه من الشعر القصيدة «1» التى أوّلها:
أبدا تحنّ إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى كمال جمالكم ترتاح
وقال السيف «2» الآمدىّ: اجتمعت بالسّهروردىّ بحلب، فقال لى: لا بدّ أن أملك الأرض. فقلت: من أين لك هذا؟ فقال رأيت فى المنام أنّى شربت ماء البحر؛ فقلت: لعلّ ذلك يكون اشتهار العلم فلم يرجع؛ فرأيته كثير العلم قليل العقل. ويقال: إنّه لمّا تحقّق القتل كان كثيرا ما ينشد:
أرى قدمى أراق دمى ... وهان دمى فهاندمى
والأوّل قول أبى الفتح «3» البستى وهو قوله:
إلى حتفى سعى قدمى ... أرى قدمى أراق دمى
فلا أنفك من ندم ... وليس بنافعى ندمى
وفيها توفّى الشيخ نجم الدين الخبوشانىّ «4» . قال صاحب المرآة: «قدم إلى الديار المصريّة وأظهر الناموس وتزهّد، وكان يركب الحمار فيقف على السلطان صلاح الدين وأهله. وأعطاه السلطان مالا فبنى به المدرسة «5» التى بجانب الشافعىّ- رحمة الله عليه-. وكان كثير الفتن- منذ دخل مصر إلى أن مات- ما زالت الفتنة قائمة

(6/115)


بينه وبين الحنابلة [و] ابن الصابونىّ وزين الدين بن نجيّة «1» ، يكفّرونه ويكفرهم؛ وكان طائشا متهوّرا، نبش على ابن الكيزانىّ «2» وأخرج عظامه من عند الشافعىّ، وقد تقدّم ذلك. وكان يصوم ويفطر على خبز الشعير، فلمّا مات وجد له ألوف الدنانير، وبلغ صلاح الدين فقال: يا خيبة المسعى! ومات فى صفر. وتولّى بعده- تدريس مدرسة الشافعىّ التى بناها- شيخ الشيوخ صدر الدين ابن حمّويه «3» » . انتهى كلام صاحب المرآة باختصار بعد أن ثلب الخبوشانىّ المذكور بمساوئ أضربت عن ذكرها- رحمه الله تعالى-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى الفقيه أبو محمد عبد الرحمن بن علىّ الحرقىّ اللّحمىّ فى ذى القعدة، وله ثمان وثمانون سنة. وأبو المعالى عبد المنعم بن عبد الله بن محمد الفراوىّ «4» فى شعبان. وصاحب حماة المظفّر عمر بن شاهنشاه بن أيّوب. ونجم الدين محمد بن الموفّق الخبوشانىّ الشافعى الزاهد. والشهاب السّهروردىّ الفيلسوف. ويعقوب بن يوسف الحربىّ «5» المقرئ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.

(6/116)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 588]
السنة الثانية والعشرون من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
فيها توفّى سنان بن سليمان «1» ، صاحب الدعوة «2» بقلاع الشام. كان أصله من البصرة من حصن ألموت «3» ، فرأى منه صاحب الأمر بتلك البلاد نجابة وشهامة وعقلا وتدبيرا، فسيّره إلى حصون الشام، فسار حتّى وصل إلى البلاد الشاميّة، وكان فيه معرفة وسياسة. وجدّ فى إقامة الدعوة واستجلاب القلوب، وكان مجيئه إلى الشام فى أيّام السلطان الملك العادل نور الدين الشهيد. فجرت له معه حروب وخطوب، واستولى سنان هذا على عدّة قلاع وأقام واليا ثلاثين سنة والبعوث ترد عليه فى كلّ قليل من قبل نور الدين. ثم إنّ السلطان نور الدين عزم على قصده فتوفّى. وأقام سنان على ذلك إلى أن توفّى ببلاد الشام فى هذه السنة.
وفيها توفّى علىّ بن أحمد الأمير سيف الدين بن المشطوب ملك الهكّاريّة «4» .
وكان أميرا شجاعا صابرا فى الحروب مطاعا فى قبيلته، دخل مع أسد الدين شيركوه إلى مصر فى مرّاته الثلاث، ثم عاد بعد سلطنة صلاح الدين إلى البلاد الشاميّة، فدام بها إلى أن مات فى آخر شوّال. وقال ابن شدّاد: مات بالقدس وصلّى عليه بالجامع الأقصى.
وفيها توفّى السلطان قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق، الملك عزّ الدين السلجوقىّ صاحب بلاد الروم.

(6/117)


طالت أيّامه واتّسعت ممالكه. ولمّا أسنّ أصابه الفالج فتعطّلت حركته، وتنافس أولاده فى الملك، وحكم عليه ولده قطب الدين ملكشاه، وقتل كثيرا من خواصّه فى حياة أبيه. وكان قطب الدين مقيما بسيواس «1» وأبوه بقونية «2» . ثم جاء إلى أبيه يقاتله فأخرج إليه العساكر، فالتقاهم قطب الدين وكسرهم وبدّد شمل أصحاب أبيه، ثم ظفر بأبيه فأخذه مكرها وحمله إلى قيساريّة «3» ، ووقع له معه أمور أخر. وآخر الأمر أنّه عهد إلى ولده غياث الدين بالملك ولم يعهد لقطب الدين. وكانت وفاته فى نصف شعبان.
وفيها توفّى نصر بن منصور أبو المرهف النّميرىّ الشاعر المشهور، منسوب إلى نمير بن عامر بن صعصعة «4» . ولد برقّة الشام، وأمّه بنت سالم بن مالك صاحب الرّحبة، وربّى بالشام وعاشر الأدباء وقال الشعر وهو ابن ثلاث عشرة سنة. وقلّ بصره بالجدرىّ وله أربع عشرة سنة. وقدم بغداد ليداوى عينيه فآيسه الأطبّاء، فحفظ القرآن وتفقّه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل- رضى الله عنه- وكان طاهر اللسان عفيفا ديّنا. وله مدائح فى صلاح الدين وغيره. ومن شعره- رحمه الله تعالى-:
ترى يتألّف الشمل الصديع ... وآمن من زمان ما يروع
وتأنس بعد وحشتنا بنجد ... منازلنا القديمة والرّبوع
ذكرت بأيمن العلمين عصرا ... مضى والشمل «5» ملتئم جميع

(6/118)


فلم أملك لدمعى ردّ غرب ... وعند الشوق تعصيك الدموع
ينازعنى إلى خنساء قلبى ... ودون لقائها بلد شسوع
وأخوف ما أخاف على فؤادى ... إذا ما أنجد البرق اللّموع
لقد حملّت من طول التنائى ... عن الأحباب ما لا أستطيع
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الفقيه أحمد ابن الحسين بن علىّ العراقىّ الحنبلىّ بدمشق. والمحدّث أبو الفضل إسماعيل بن علىّ الجنزوىّ «1» الشّروطىّ «2» بدمشق فى سلخ جمادى الأولى. وأبو ياسر عبد الوهاب [بن «3» هبة الله بن عبد الوهاب] بن أبى حبّة الدقاق بحرّان فى شهر ربيع الأول. وأبو جعفر عبيد الله بن أحمد [بن «4» علىّ بن علىّ] بن السّمين. والأمير الكبير سيف الدين علىّ بن أحمد الهكّارىّ المشطوب فى شوّال بالقدس. وصاحب الروم قليج أرسلان بن مسعود السلجوقىّ. والنّسابة أبو علىّ محمد بن أسعد الحسينىّ الجوّانىّ بمصر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.

(6/119)


ذكر ولاية الملك العزيز عثمان على مصر
هو الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان سلطان الديار المصريّة وابن سلطانها الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيّوب بن شادى ابن مروان الأيّوبىّ الكردىّ الأصل المصرىّ. ولى سلطنة مصر فى حياة والده صورة؛ ثم تسلطن بعد وفاته استقلالا باتّفاق الأمراء وأعيان الدولة بديار مصر، لأنه كان نائبا عن أبيه صلاح الدين بها لمّا كان أبوه مشتغلا بفتح السواحل بالبلاد الشاميّة وتمّ أمره. وكان مولده بالقاهرة فى ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة. وكان الملك العزيز هذا أصغر من أخيه الملك الظاهر غازى صاحب حلب، وأصغر من أخيه الأفضل صاحب دمشق. وكان الأفضل هو أكبر الإخوة، وهو المشار إليه فى أيّام أبيه صلاح الدين ومن بعده، وهو الذي جلس للعزاء بعد موت صلاح الدين، وصار هو السلطان الأكبر إلى أن ظهر منه أمور، منها: أنّه كان استوزر ضياء الدين «1» الجزرىّ، فأساء ضياء الدين السّيرة؛ وشغّف قلوب الجند إلى مصر، وساروا إليها فالتقاهم الملك العزيز وأكرمهم، وكانوا معظم الصلاحيّة. واشتغل الأفضل بلهوه. وكان القدس فى يده فعجز عنه وسلّمه إلى نوّاب الملك العزيز هذا؛ فبان للناس عجز الأفضل. ثم وقعت الوحشة بين العزيز هذا وبين أخيه الأفضل المذكور. وبلغ الفرنج ذلك، فطمعوا فى البلاد وحاصروا جبلة، وكان بها جماعة من الأكراد فباعوها للفرنج. وبرز الملك العزيز من مصر يريد قتال الفرنج فى الظاهر، وفى الباطن أخذ دمشق من أخيه الأفضل؛

(6/120)


وعلم الأفضل بذلك فكتب إلى عمّه العادل أبى بكر بن أيّوب، وللمشارقة «1» بالنجدة، فأجابوه إلى ما يريد؛ وكان مع العادل عدّة بلاد بالشرق، وكان لمّا توفّى أخوه السلطان الملك الناصر صلاح الدين بالكرك قدم دمشق معزّيا للأفضل وأقام عنده أيّاما؛ ثم رحل إلى محلّ ولايته بالجزيرة والرّها «2» وسميساط «3» والرّقّة «4» وقلعة «5» جعبر وديار «6» بكر وميّافارقين «7» . وهى البلاد التى كان أعطاها له أخوه صلاح الدين فى حياته، وكان له أيضا مع ذلك بالبلاد الشاميّة الكرك والشّوبك.
والمقصود أنّ الملك العزيز هذا لمّا رحل من مصر إلى نحو دمشق، سار حتى نزل بظاهر دمشق، وقيل بعقبة الشّحورة «8» ؛ وجاء العادل بعساكر الشرق ونزل بمرج «9» عدواء. فأرسل إليه العزيز يقول: أريد الاجتماع بالعادل؛ فاجتمعا على ظهور خيلهما وتفاوضا؛ فقال له العادل: لا تخرّب البيت وتدخل عليه الآفة! والعدوّ وراءنا من كلّ جانب، وقد أخذوا جبلة؛ فارجع إلى مصر واحفظ عهد أبيك. وأيضا فلا تكسر حرمة دمشق، وتطمع فيها كل أحد! وعاد الملك العادل عنه إلى دمشق، واقام العزيز فى منزلته. وقدمت العساكر على الأفضل وبعث العادل إلى العزيز يقول له: ارحل إلى مرج الصّفّر؛ فرحل وهو مريض. وكان

(6/121)


قصد العادل أن يبعده عن البلد. فوصل الملك الظاهر غازى من حلب، والملك المنصور من حماة، وشيركوه بن محمد بن شيركوه من حمص، والأمجد من بعلبكّ، والجميع نجدة للأفضل. فقال لهم العادل: قد تقرّر أنّه يرحل إلى مصر. واشتدّ مرض العزيز فاحتاج إلى المصالحة، ولولا المرض ما صالح؛ فأرسل الملك العزيز كبراء دولته فخر الدين اياز جهاركس «1» وغيره يحلّف الملوك، وطلب مصاهرة عمّه العادل فزوّجه ابنته الخاتون. ورجع كلّ واحد إلى بلده، وذلك فى شعبان سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
وقال العماد الكاتب الأصفهانىّ: خرج الملوك لتوديع الملك العزيز إلى مرج الصّفّر واحدا بعد واحد. وأوّل من خرج إليه أخوه الملك الظاهر غازى صاحب حلب، فبات عنده ليلة وعاد، فخرج إليه أخوه الأفضل صاحب الواقعة، فقام إليه واعتنقا وبكيا، وأقام عنده أيضا يوما، وكان قد فارقه منذ تسع سنين، فلمّا عاد كتب إلى العزيز من إنشائه من عدّة أبيات:
نظرتك «2» نظرة من بعد تسع ... تقضّت بالتفرّق من سنين
ولمّا انفصل العساكر عن دمشق شرع الأفضل على عادته فى اللهو واللّعب، فاحتجب عن الرعيّة فسمّى «الملك النوّام» وفوّض الأمر إلى وزيره ضياء الدين الجزرىّ، وحاجبه الجمال محاسن بن العجمىّ، فأفسدا «3» عليه الأحوال، وكانا سببا لزوال دولته. واستمرّ الملك العزيز هذا بمصر وأمره ينمو ويزداد إلى سنة تسعين.
وفيها عاد الاختلاف ثانيا بين العزيز والأفضل؛ وسببه إغراء الجند والوسائط.
وكان أكبر المحرّضين للعزيز على أخيه الأفضل أسامة، حتّى قال له: إنّ الله يسألك عن

(6/122)


الرعيّة، هذا الرجل قد غرق فى اللهو وشربه، واستولى عليه الجزرىّ وابن العجمىّ.
ثم قال له القاضى ابن أبى عصرون: لا تسلم يوم القيامة. وبلغ الأفضل قول أسامة وابن أبى عصرون فأقلع عمّا كان عليه، وتاب وندم على تفريطه، وعاشر العلماء والصلحاء، وشرع يكتب مصحفا بخطّه، وكان خطّه فى النهاية، فلم يغن عنه ذلك. وتحرّك العزيز يقصده، فسار الأفضل إلى عمّه العادل يستنجد به، فالتقاه العادل على صفّين «1» ، فسار معه بعساكر الشرق إلى دمشق؛ وكان الأفضل لمّا اجتاز بحلب اتّفق مع أخيه الظاهر غازى وتحالفا، وجاء إلى حماة ففعل كذلك مع ابن عمّه المنصور.
وصار العادل يشير عليه بعزل الجزرىّ عن الوزارة، ويقول له: هذا يخرّب بيتك.
فصار لا يلتفت إليه فحنق منه. ثم إنّ العادل سأل الملك الظاهر غازى فى شىء فلم يجبه، فغضب لذلك العادل وانفرد عنهم، وكتب إلى العزيز يخبره أنّه معه، ويستحثّه على القدوم إلى دمشق؛ فخرج العزيز من مصر مسرعا، ثم علم العادل أنّه لا طاقة له بالعزيز ولا بالظاهر؛ فراسل الأسديّة الذين كانوا بمصر، وأوعدهم بالأموال والإقطاعات. وكان الملك العزيز قد قدّم عليهم الصلاحيّة مماليك أبيه. والأسديّة هم مماليك عمّه أسد الدين شيركوه وحواشيه الأكراد؛ ثم دسّ العادل للأسديّة الأموال، وكان مقدّم الأكراد الأسديّة أبو الهيجاء السّمين؛ وكان العزيز قد عزله عن ولاية القدس، وتقدّمت الأسديّة بسيف الدين جرديك؛ فركب أبو الهيجاء بجموعه، ومعه أزكش فى الليل، وقصدوا دمشق، فأصبح العزيز فلم يرفى الخيام من الأسديّة أحدا، فرجع إلى مصر. وشرع أزكش وأبو الهيجاء والأسديّة يحرّضون العادل على أخذ مصر؛ وكانت الأسديّة والأكراد يكرهون العادل، وإنّما دعتهم

(6/123)


الضرورة إليه. واتّفق العادل مع ابن أخيه الأفضل وسارا إلى جهة العزيز نحو مصر.
فلمّا وصلوا إلى القدس ولّوا أبا الهيجاء كما كان، وعزلوا جرديك عنها؛ ثم ساروا حتّى نزلوا بلبيس وبها جماعة من الصلاحيّة. فتوقّف العادل عن القتال ولم ير انتزاع مصر من يد العزيز، وظهرت منه قرائن تدلّ على أنّه لا يؤثر السلطنة للأفضل، ولا يرى بتقدمته على العزيز. فأرسل العادل إلى العزيز يطلب منه القاضى الفاضل، وكان الفاضل قد اعتزلهم وانقطع إلى داره، فأرسل إليه العزيز يسأله فامتنع، فتضرّع إليه وأقسم عليه، فخرج إلى العادل، فاحترمه العادل وأكرمه وتحدّث معه بما قرّره، وعاد الفاضل إلى العزيز وتحدّث معه، فأرسل العزيز ولديه الصغيرين مع خادم له برسالة ظاهرة، مضمونها: «لا تقاتلوا المسلمين ولا تسفكوا دماءهم، وقد أنفذت ولدىّ يكونان تحت كفالة عمّى العادل، وأنا أنزل لكم عن البلاد وأمضى إلى الغرب» .
وكان ذلك بمشهد من الأمراء، فرقّ العادل وبكى من حضر. فقال العادل:
معاذ الله! ما وصل الأمر إلى هذا الحدّ.
وكان العادل قد قرّر مع القاضى الفاضل ردّ خير الأسديّة وإقطاعاتهم وأملاكهم، وأن يبقى أبو الهيجاء على ولاية القدس. ثم قال العادل للأفضل:
المصلحة أن تمضى إلى أخيك وتصالحه، ما عذرنا عند الله وعند الناس إذا فعلنا بابن أخينا ما لا يليق!. وكان العزيز أرسل يقول للعادل مع الخادم المقدّم ذكره: «البلاد بلادك وأنت السلطان ونحن رعيّتك» . ففهم الأفضل أنّ العادل رجع عن يمينه، وأنّه اتّفق مع العزيز على أخذ البلاد منه، لكنّه لم يمكنه الكلام، ومضى إلى أخيه الملك العزيز واصطلحا، وعاد إلى دمشق. ودخل العزيز والعادل والأسديّة إلى القاهرة يوم الخميس رابع ذى الحجّة. وسلطن العادل العزيز ومشى بين يديه بالغاشية «1» .

(6/124)


ولو أراد العادل مصر فى هذه المرّة لأخذها؛ وإنّما كان قصده الإصلاح بين الإخوة.
ثم وقع بين العزيز هذا والأفضل ثالثا، وهو أنّه لمّا عاد الأفضل إلى دمشق ازداد وزيره الجزرىّ من الأفعال القبيحة، والأفضل يسمع منه ولا يخالفه، فكتب قيماز النّجمىّ وأعيان الدولة إلى العادل يشكونه، فأرسل العادل إلى الأفضل:
«ارفع يد هذا الأحمق السيّئ التدبير القليل التوفيق» ، فلم يلتفت. فاتّفق العادل مع ابن أخيه العزيز هذا على التوجّه إلى الشام فسارا. واستشار الأفضل أصحابه، فكلّ أشار عليه بأن يلتقى عمّه العادل وأخاه العزيز ولا يخالفهما إلّا الجزرىّ، فإنّه أشار بالعصيان، فاستعد الأفضل للقتال والحصار وحلّف الأمراء والمقدّمين، وفرّقهم فى الأبراج والأسوار، فراسلوا العزيز والعادل وأصلحوا أمرهم فى الباطن؛ واتّفق العادل مع عزّ الدين الحمصى على فتح الباب الشرقىّ؛ وكان مسلّما إليه، فلمّا كان يوم الأربعاء سادس عشرين شهر رجب ركب العادل والعزيز وجاءا إلى الباب الشرقىّ ففتحه ابن الحمصى فدخلا إلى البلد من غير قتال؛ فنزل العزيز دار عمّته ستّ الشام، ونزل العادل دار العقيقىّ، ونزل الأفضل إليهما وهما بدار العقيقى؛ فدخل عليهما وبكى بكاء شديدا، فأمره العزيز بالانتقال من دمشق إلى صرخد، فأخرج وزيره الجزرىّ فى الليل فى جملة الصناديق خوفا عليه من القتل، فأخذ أموالا عظيمة وهرب إلى بلاده.
وكان العزيز قد قرّر مع عمّه العادل أن يكون نائبه بمصر، ويقيم العزيز بدمشق.
ثم ندم فأرسل إلى أخيه الأفضل رسالة فيها صلاح حاله. ثم وقعت أمور إلى أن سلّم العزيز بصرى إلى العادل، وكان بها الظافر. وأقام العزيز بعد ذلك بدمشق مدّة، وصلّى الجمعة عند قبر والده بالكلّاسة وأمر ببناء القبّة والمدرسة إلى جانبها،

(6/125)


ثم أمر محيى الدين بن الزّكىّ بعمارة المدرسة العزيزيّة، ونقل السلطان صلاح الدين إلى الكلّاسة فى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. وكان الأفضل قد شرع فى بناء تربة عند مشهد «1» القدم بوصيّة من السلطان صلاح الدين. وكان الملك العزيز إذا جلس فى مجالس لهوه يجلس العادل على بابه، كأنّه برد [هـ «2» ] داره. فلمّا كان آخر ليلة من مقام العزيز بدمشق، وكانت ليلة الاثنين تاسع شعبان، قال العادل لولده المعظم عيسى:
ادخل إلى العزيز فقبّل يده واطلب منه دمشق، وكان المعظّم قد راهق الحلم، فدخل إلى ابن عمّه العزيز وقبّل يده وطلب منه دمشق، فدفعها إليه وأعطاه مستحقّه، وقيل: بل استناب العادل فيها، ثم أعطاها للمعظّم فى سنة أربع وتسعين. وكان خروج الملك العزيز من دمشق فى يوم تاسع شعبان المذكور. وسار إلى مصر ومضى الأفضل إلى صرخد، واجتاز العزيز بالقدس فعزل أبا الهيجاء السمين عن نيابتها، وولّاها لسنقر الكبير، ومضى أبو الهيجاء إلى بغداد.
واستمرّ الملك العزيز بمصر، واستقامت الأمور فى أيّامه، وعدل فى الرعيّة، وعفّ عن أموالها حتّى قيل: إنّ ابن البيسانىّ أخا القاضى الفاضل بذل على قضاء المحلّة «3» أربعين ألف دينار، فعجّل منها عشرين ألفا، وكان رسوله فى ذلك الملك العادل عمّ العزيز المقدّم ذكره، وبذل له عن ترسّله خمسة آلاف دينار، وللحاجب

(6/126)


أبى بكر ألف دينار، ولجهاركس ألف دينار. فاجتمعوا على العزيز جميعا وخاطبوه فى ذلك، وألحّ عليه الملك العادل. فقال له العزيز: والله يا عمّ، هذا الرجل بذل لنا هذا البذل [لا «1» ] عن محبّة لنا، والله إنّه ليأخذ من أموال الرعيّة أضعاف ذلك، لا ولّيته أبدا! فرجع العادل عن مساعدته، فلمّا آل الأمر إلى العادل صادر ابن البيسانىّ المذكور، وأخذ منه أموالا كثيرة. انتهى.
وقال القاضى شمس الدين بن خلّكان فى ترجمة الملك العزيز هذا بعد أن ذكر اسمه ولقبه قال: «وكان ملكا مباركا كثير الخير واسع الكرم محسنا إلى الناس معتقدا فى أرباب الخير والصلاح، وسمع بالإسكندرية الحديث من [الحافظ «2» ] السّلفىّ، والفقيه أبى طاهر بن عوف الزّهرىّ، وسمع [بمصر «3» ] من العلّامة أبى محمد بن برّىّ النحوىّ وغيرهم. ويقال: إنّ والده لمّا كان بالشام والقاضى الفاضل عبد الرحيم بالقاهرة عند العزيز ولد للعزيز المذكور ولد، فكتب القاضى الفاضل يهنّئ والده السلطان صلاح الدين بولد ولده، فقال: «المملوك يقبّل الأرض بين يدى مولانا الملك الناصر، دام «4» رشده وإرشاده، وزاد سعده وإسعاده، وكثر أولياؤه وعبيده وأحفاده، واشتدّ بأعضاده فيهم اعتضاده، وأنمى الله عدده حتّى يقال هذا آدم الملوك وهذه أولاده؛ وينهى أنّ الله تعالى- وله الحمد- رزق الملك العزيز- عزّ نصره- ولدا مباركا عليّا، ذكرا سريّا، [برّا «5» ] زكيّا، نقيّا تقيّا؛ من ورثة كريمة بعضها من بعض، وبيت شريف كادت ملوكه تكون ملائكة فى السماء، ومماليكه ملوكا فى الأرض» . انتهى ما كتبه القاضى الفاضل فى التهنئة.

(6/127)


قال ابن خلّكان- رحمه الله-: «وكانت ولادة العزيز بالقاهرة فى ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة. وكان قد توجّه إلى الفيّوم، فطرد فرسه وراء، صيد فتقنطر به فرسه، فأصابته الحمّى من ذلك، وحمل إلى القاهرة فتوفّى بها فى الساعة السابعة من ليلة الأربعاء «1» الحادى والعشرين من المحرّم سنة خمس وتسعين وخمسمائة- رحمه الله تعالى- قال: ولمّا مات كتب القاضى الفاضل إلى عمّه العادل رسالة يعزّيه، من جملتها:
«فنقول فى توديع النّعمة بالملك العزيز: لا حول ولا قوّة إلا بالله قول الصابرين، ونقول فى استقبالها بالملك العادل؛ الحمد لله ربّ العالمين قول الشاكرين؛ وقد [كان «2» ] من أمر هذه الحادثة «3» ما قطّع «4» كلّ قلب وجلب كلّ كرب ومثّل وقوع هذه الواقعة لكلّ أحد ولا سيما لأمثال المملوك، ومواعظ الموت بليغة، وأبلغها ما كان فى شباب الملوك؛ فرحم الله ذلك الوجه ونضّره، ثمّ السبيل إلى الجنة يسّره.
وإذا محاسن أوجه بليت ... فعفا الثرى عن وجهه الحسن
والمملوك فى حال تسطير هذه الخدمة جامع بين مرضى قلب وجسد، ووجع أطراف وعليل كبد؛ فقد فجع المملوك بهذا المولى، والعهد بوالده غير بعيد، والأسى فى كلّ يوم جديد؛ وما كان ليندمل ذلك القرح، حتّى أعقبه هذا الجرح؛ والله تعالى لا يعدم المسلمين بسلطانهم الملك العادل [السلوة «5» ، كما لم يعدمهم بنبيّهم صلّى الله عليه وسلم الأسوة]- وأخذ فى نعت الملك العادل إلى أن قال-: ودفن بالقرافة

(6/128)


الصغرى (يعنى العزيز) فى قبّة الإمام الشافعىّ- رضى الله عنه-. وقبره معروف هناك» انتهى كلام ابن خلّكان برمّته، ولم يتعوّض لشىء من أحواله، ولا إلى ما كان فى بداية أمره.
وقال أبو المظفّر سبط ابن الجوزىّ فى تاريخه: «وفيها (يعنى سنة خمس وتسعين) توفّى الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين صاحب مصر. كان صلاح الدين يحبّه، وكان جوادا شجاعا عادلا منصفا لطيفا كثير الخير رفيقا بالرعيّة حليما. حكى لى المبارز سنقر الحلبىّ- رحمه الله- قال: ضاق ما بيده بمصر (يعنى عن العزيز) ولم يبق فى الخزانة درهم ولا دينار، فجاء رجل من أهل الصعيد إلى أزكش سيف الدين، قال: عندى للسلطان عشرة آلاف دينار ولك ألف دينار، وتولينى قضاء الصعيد؛ فدخل أزكش إلى العزيز فأخبره؛ فقال: والله لا بعت دماء المسلمين وأموالهم «1» بملك الأرض! وكتب ورقة لأزكش بألف دينار. وقال: اخرج فاطرد هذا الدبر «2» ، ولولاك لأدّبته.
وقد ذكرنا أنّه وهب دمشق [للملك «3» ] المعظّم، وكان يطلق عشرة آلاف دينار وعشرين ألفا. وكان سبب وفاته أنّه خرج إلى الفيّوم يتصيّد، فلاح له ظبى فركض الفرس خلفه فكبا به الفرس، فدخل قربوس [السرج «4» ] فى فؤاده، فحمل إلى القاهرة فمات فى العشرين من المحرّم، ودفن عند الشافعى- رحمه الله- عن سبع وعشرين سنة وشهور؛ وقيل: عن ثمان وعشرين سنة. ولمّا مات نصّ على ولده ناصر الدين محمد، وهو أكبر أولاده، وكان له عشرة أولاد، ولم يذكر عمّه العادل فى الوصيّة.

(6/129)


وأوصى للأمير أزكش، وكان مقدّم الأسديّة وكبيرهم، وعاش بعد العزيز مدّة طويلة» . انتهى كلام أبى المظفّر.
وقال ابن القادسىّ- خلاف ما نقل أبو المظفّر وابن خلّكان وغيرهما- قال:
«كان قد ركب وتبع غزالة فوقع فاندقّت عنقه، وبقى أربعة أيّام ومات. ونصّ على ولده الأكبر محمد إن أمضى العادل ذلك. وكانت الوصيّة إلى أمير كبير اسمه أزكش فوثبت الأسديّة عليه فقتلته» . انتهى.
وقال الشيخ شمس الدين يوسف بن قزأوغلى فى تاريخه: «ولمّا مات العزيز كان لابنه محمد عشر سنين، وكان مقدّم الصّلاحيّة فخر الدين جهاركس، وأسد الدين سرا سنقر، وزين الدّين قراجا؛ فاتّفقوا على ناصر الدين محمد (يعنى ابن العزيز) ، وحلّفوا له الأمراء. وكان سيف الدين أزكش مقدّم الأسدية غائبا بأسوان، فقدم فصوّب رأيهم وما فعلوه، إلّا أنّه قال: هو صغير السّن لا ينهض بأعباء الملك، ولا بدّ من تدبير كبير يحسم الموادّ ويقيم الأمور؛ والعادل مشغول فى الشرق بماردين «1» ، وما ثمّ أقرب من الأفضل نجعله أتابك العساكر. فلم يمكن الصّلاحيّة مخالفته.
وقالوا: افعل، فكتب أزكش إلى الأفضل يستدعيه وهو بصرخد «2» ، وكتبت الصلاحيّة إلى من بدمشق من أصحابهم يقولون: قد اتّفقت الأسديّة على الأفضل، وإن ملكوا حكموا علينا، فامنعوه من المجىء؛ فركب عسكر دمشق ليمنعوه ففاتهم؛ وكان الأفضل قد التقى نجّابا من جهاركس إلى من بدمشق بهذا المعنى، ومعه كتب فأخذها منه وقال: ارجع فرجع إلى مصر. ولمّا وصل الأفضل إلى مصر التقاه

(6/130)


الأسديّة- نحكى ذلك كلّه فى أوّل ترجمة الملك المنصور بن العزيز هذا، إن شاء الله-
وكان الملك العزيز قوّيّا ذا بطش وخفّة حركة، كريما محسنا «1» عفيفا لم يردّ سائلا؛ وبلغ من كرمه أنّه لم يبق له خزانة ولا خاصّ ولا ترك ولا فرش. وأمّا عفته فإنّه كان له غلام تركىّ اشتراه بألف دينار يقال له: أبو شامة، فوقف يوما على رأسه فى خلوة ليس معهما ثالث، فنظر العزيز إلى جماله، وأمره أن ينزع ثيابه، وقعد العزيز منه مكان الفاحشة؛ فأدركه التوفيق ونهض مسرعا إلى بعض سراريه فقضى وطره، وخرج إلى الغلام وأمره بالخروج عنه» . انتهى.
ويحكى عن عفّته عن الأموال: أنّ عرب المحلّة قتلوا بعض أمرائه، وكان والى المحلة ابن بهرام، فجباهم عشرة آلاف دينار، وجاء بها إلى القاهرة؛ فصادف فى الدّهليز غلاما خارجا من عند السلطان؛ فقال ابن بهرام: ارجع إلى السلطان واستأذنه لى؛ فقال الغلام: دعنى، أنا فى أمر مهمّ للسلطان، قد وهب لشيخ صيّاد دينارين، وقد سيّرنى إلى الجهات كلّها فلم أجد فيها شيئا، وقد تعذّر عليه هذا المبلغ اليسير؛ فقال: ارجع إليه، معى مال عظيم. فلمّا دخل ابن بهرام إلى العزيز فضّ المال بين يديه وقال: هذا دية فلان؛ فقال: أخذتها من القاتل؟ قال: لا، بل من القبيلة؛ فقال العزيز: لا أستجيز أخذه، ردّه على أربابه، فراجعه فاكفهرّ؛ فخرج ابن بهرام بالمال وهو يقول: ما يردّ هذا مع شدّة الحاجة إلّا مجنون!. فرحم الله هذه الشّيم.
انتهت ترجمة الملك العزيز من عدّة أقوال. رحمه الله تعالى وعفا عنه وعن جميع المسلمين والحمد لله رب العالمين.

(6/131)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 589]
السنة الأولى من ولاية السلطان العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف على مصر، وهى سنة تسع وثمانين وخمسمائة، على أنّ والده السلطان صلاح الدين يوسف حكم منها المحرّم وصفرا.
فيها كانت وفاة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمته.
وفيها توفّى الأمير بكتمر [بن عبد الله مملوك «1» ] شاه أرمن. وعزّ الدين صاحب الموصل كما سيأتى.
وفيها بنى الخليفة الناصر لدين الله العباسىّ دار الكتب بالمدرسة النظاميّة ببغداد، ونقل إليها عشرة آلاف مجلد، فيها الخطوط المنسوبة وغيرها.
وفيها توفّى أسعد بن نصر بن أسعد النحوىّ، كان إماما فاضلا أديبا شاعرا.
ومن شعره قوله:
يجمع المرء ثم يترك ما جمّ ... ع من كسبه لغير شكور
ليس يحظى إلّا بذكر جميل ... أو بعلم من بعده مأثور
وفيها توفّى الأمير بكتمر بن عبد الله مملوك شاه أرمن بن سكمان صاحب خلاط، مات شاه أرمن ولم يخلّف ولدا، فاتّفق خواصّه على بكتمر فولّى، وضبط الأمور وأحسن للرعيّة، وصاحب العلماء، وكان حسن السّيرة متصدّقا ديّنا صالحا؛ جاءه أربعة على زىّ الصوفيّة فتقدّم إليه واحد منهم فمنعه الجانداريّة «2» . فقال:

(6/132)


دعوه، فتقدّم وبيده قصّة فأخذها منه، فضربه بسكّين فى جوفه فمات فى ساعته.
فأخذوا الأربعة وقرّروا، فقالوا: نحن إسماعيليّة «1» ؛ فقتلوا وأحرقوا؛ وذلك فى جمادى الأولى.
وفيها توفّى السلطان مسعود بن مودود بن زنكى بن آق سنقر عزّ الدّين صاحب الموصل وابن أخى السلطان الملك العادل نور الدين الشهيد. كان خفيف العارضين أسمر مليح اللّون، عادلا عاقلا محسنا إلى الرعية شجاعا، صبر على حصار السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب له بالموصل ثلاث مرّات، وحفظ البلد وفرّق الأموال العظيمة. وكان ديّنا صالحا، خرج من الموصل لقتال الملك العادل أبى بكر ابن أيّوب، وكان العادل على حرّان «2» بعد موت صلاح الدين. فعاد مريضا ومات فى شهر رمضان، وكانت أيّامه ثلاث عشرة «3» سنة وستّة أشهر. وأوصى بالملك من بعده لولده الأكبر نور الدين أرسلان شاه، وكان أخوه شرف الدين مودود يروم السلطنة، فصرفت عنه لنور الدين هذا فعزّ ذلك عليه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الشيخ سنان «4» بن سليمان البصرىّ زعيم الإسماعيليّة. وأبو منصور عبد الله بن محمد [بن علىّ «5» بن هبة الله] ابن عبد السلام الكاتب. والقاضى أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحضرمىّ بالإسكندريّة. وصاحب الموصل عزّ الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكى.

(6/133)


والمكرم بن هبة الله بن المكرم الصّوفىّ. والسلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيّوب فى صفر بقلعة دمشق، وله سبع وخمسون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 590]
السنة الثانية من ولاية العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف على مصر، وهى سنة تسعين وخمسمائة.
فيها توفّى أحمد بن إسماعيل بن يوسف الشيخ الإمام أبو الخير القزوينىّ الشافعىّ.
كان إماما عالما بالتفسير والفقه، وكان متعبّدا يختم القرآن فى كلّ يوم وليلة.
ومولده بقزوين «1» فى سنة اثنتى عشرة وخمسمائة. وقدم بغداد ووعظ ومال إلى الأشعرىّ، فوقعت الفتن. وجلس يوم عاشوراء فى النظاميّة فقيل له: العن يزيد بن معاوية؛ فقال: ذاك إمام مجتهد «2» ، فجاءه الرّجم حتّى كاد يقتل، وسقط عن المنبر فأدخل إلى بيت فى النظاميّة، وأخذت فتاوى الفقهاء بتعزيره؛ فقال بعضهم يضرب عشرين سوطا: قيل له: من أين لك هذا. فقال: عن عمر ابن عبد العزيز، سمع قائلا يقول: أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فضربه عشرين سوطا. ثم خلّص القزوينىّ بعد ذلك وأخرج من بغداد إلى قزوين.
وفيها توفى السلطان طغرلبك شاه بن أرسلان شاه بن طغرل شاه بن محمد ابن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق السّلجوقىّ آخر ملوك

(6/134)


السّلجوقيّة بالعراق سوى «1» صاحب الروم. وكان مبدأ أمره- عند وفاة والده- سنة ثلاث «2» وسبعين وخمسمائة، وكان صغير السّنّ فكفله البهلوان «3» إلى أن مات فى سنة اثنتين وثمانين، فكفله بعده أخو «4» البهلوان لأبيه حتّى أنف من الحجر وخرج عن يده، وانضاف إليه جماعة من الأمراء، وكسر عسكر الخليفة وأسر ابن يونس «5» وهابته الملوك. وكان طغرلبك هذا سفّا كاللدماء، قتل وزيره رضىّ الدين الغزنوىّ «6» ، وفخر الدين العلوىّ رئيس همذان. ثم وقع له أمور ومحن وأخذ وحبس. وقد تقدّم أن طغرلبك هذا آخر ملوك السّلجوقيّة، وعدّتهم نيّف وعشرون ملكا، ومدّة ملكهم مائة وستون سنة. وأوّل من ملك منهم طغرلبك فى سنة اثنتين وثلاثين «7» وأربعمائة؛ ثم ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق «8» ، وهو ابن أخى طغرلبك؛ ثم بعده ولده ملكشاه؛ ثم ولده محمود؛ ثم أخوه بركياروق؛ ثم أخوه محمد شاه؛ ثم ولده محمود؛ ثم واحد بعد واحد. حسب ما ذكرناهم فى هذا الكتاب كلّ واحد فى محلّه. وطغر يلبك (بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وكسر «9» الراء

(6/135)


المهملة وبعدها ياء ولام ساكنتان) . وهو اسم باللغة التركيّة لطائر معروف عندهم.
وبك: هو الأمير، واضح لا يحتاج إلى تفسير.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العلّامة رضىّ الدّين أبو الخير أحمد بن إسماعيل الطّالقانىّ القزوينىّ الشافعىّ الواعظ فى المحرّم، وله ثمان وثمانون سنة. وطغرلبك شاه السلطان ابن «1» أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه السّلجوقىّ، قتله [فى] المصاف خوارزم شاه تكش. وأبو المظفّر عبد الخالق بن فيروز الجوهرىّ. والإمام أبو محمد القاسم بن فيّره «2» الرّعينىّ «3» الشّاطبىّ «4» المقرئ فى جمادى الآخرة، وله اثنتان وخمسون سنة. والحافظ محمد بن إبراهيم بن خلف المالقىّ «5» أبو عبد الله بن الفخّار بمرّاكش. والفخر محمد بن علىّ بن شعيب بن الدّهّان الأديب المؤرّخ فجأة بالحلّة «6» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وخمس أصابع.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 591]
السنة الثالثة من ولاية العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف على مصر، وهى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.

(6/136)


فيها اقطع الملك العزيز فارس الدين ميمون القصرىّ نابلس «1» فى سعمائة فارس من مقاتلة «2» الفرنج.
وفيها كانت وقعة الزّلّاقة «3» بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وبين ألفنش «4» الفرنجىّ ملك طليطلة «5» ، وكان قد استولى على جزيرة الأندلس وقهر ولاتها، ويعقوب المذكور مشغول بقتال الخارجين عليه، وبينه وبين الأندلس زقاق سبتة «6» ، وعرضه ثلاث فراسخ، فجمع يعقوب العساكر وعرض جنده، وكانوا مائتى ألف [مقاتل «7» : مائة ألف] يأكلون الأرزاق، ومائة ألف مطّوّعة، وعبر الزّفاق إلى مكان يقال له الزّلّاقة؛ والتقوا فجرى بينهم قتال لم يجر فى جاهلية ولا إسلام حتّى أنزل الله نصره على المسلمين. فولّى ألفنش هاربا فى نفر يسير إلى طليطلة، وغيم المسلمون ما كان فى عسكره. وكان عدّة من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفا، وعدّة الأسارى ثلاثين ألفا؛ ومن الخيام: مائة ألف خيمة وخمسين ألفا؛ ومن الخيل ثمانين ألفا؛ ومن البغال والأموال والجواهر والثياب ما لا يحدّ ولا يحصى.
ويبع الأسير من الفرنج بدرهم؛ والسيف بنصف درهم، والحضان بخمسة دراهم، والحمار بدرهم. وقسم الملك يعقوب هذه الغنائم بين المسلمين على مقتضى الشريعة،

(6/137)


فاستغنوا إلى الأبد. ووصل ألفنش إلى طليطلة على أقبح وجه، فحلق رأسه ولحيته، ونكّس صليبه وآلى أنّه لا ينام على فراش ولا يقرّب النساء ولا يركب فرسا حتّى يأخذ بالثأر.
وفيها اعتنى الخليفة الناصر لدين الله العباسىّ بحمام البطاقة اعتناء زائدا، حتى صار يكتب بأنساب الطير المحاضر أنّه من ولد الطير الفلانىّ؛ وقيل: إنّه باع طيرا بألف دينار.
وفيها حجّ بالناس من بغداد سنجر «1» الناصرىّ، ومن الشام سرا سنقر وأيبك فطيس الصلاحيّان، ومن مصر الشريف إسماعيل بن ثعلب الجعفرىّ «2» الطالبىّ.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال. وفيها توفّى أبو القاسم ذاكر بن كامل الخفّاف. والفقيه أبو محمد عبد الله الزاهد ابن محمد بن على الأندلسىّ فى المحرّم عن بضع وثمانين سنة. وأبو الحسن «3» نجبة بن يحيى [بن خلف «4» ] بن نجبة الإشبيلىّ المقرئ النحوىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 592]
السنة الرابعة من ولاية العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف على مصر، وهى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.

(6/138)


فيها بعد خروج الحاجّ من مكّة هبّت ريح سوداء عمّت الدنيا، ووقع على الناس رمل أحمر، ووقع من الركن اليمانىّ قطعة، وتحرّك البيت الحرام مرارا. وهذا شىء لم يعهد منذ بناه عبد الله بن الزّبير- رضى الله عنهما-.
وفيها أيضا كانت الوقعة الثانية بين السلطان يعقوب وبين ألفنش ملك الفرنج بعد أن حشد ألفنش جمعا كبيرا والتقوا، فكان بينهم قتلة عظيمة؛ ونصر الله المسلمين. وهزمه يعقوب وتبعه وحصره على الزّلّاقة وبطليطلة ونصب عليها المجانيق وضيّق عليها، ولم يبق إلّا أخذها. فخرجت «1» إليه والدة ألفنش وبناته ونساؤه وبكين بين يديه، وسألته إبقاء البلد عليهنّ، فرقّ لهنّ «2» ومنّ عليهنّ بها؛ ولو فتح طليطلة لفتح إلى مدينة النّحاس «3» . ثم عاد يعقوب إلى قرطبة فأقام بها شهرا يقسم الغنائم، وجاءته رسل ألفنش أيضا تسأل الصلح، فصالحه على مدّة معيّنة.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن أحمد «4» ، الوزير أبو الفضل مؤيّد الدّين بن القصّاب.
أصله من شيراز، وقدم بغداد واستخدم فى الديوان، ثم ترقّى إلى أن ولى الوزارة؛ وقرأ الأدب والنحو. وكان داهية ردىء الاعتقاد إلّا أنّه كان له خبرة بالأمور والحروب وفتح البلاد، وكان الخليفة الناصر لدين الله يثنى عليه ويقول: لو قبلوا من رأيه ما جرى ما جرى، ولقد أتعب الوزراء من بعده.
وفيها توفّى محمد «5» بن علىّ بن شعيب، الشيخ أبو شجاع الفرضىّ الحاسب البغدادىّ المعروف بابن الدّهان. كان فاضلا عالما وصنّف تاريخا من عشر وخمسمائة إلى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.

(6/139)


وفيها توفّى محمد بن علىّ بن فارس الشيخ أبو الغنائم [المعروف «1» ب] ابن المعلّم الهرثىّ الشاعر المشهور. وهرث: قرية تحت واسط. كان رقيق الشعر، لطيف المعانى، وله ديوان شعر. ومن شعره القصيدة التى أوّلها:
لو قضى من أهل نجد أربه ... لم يهج نشر الخزامى طربه
علّلوا الصبّ بأنفاس الصّبا ... إنّها تشفى النفوس الوصبه
فهى إن مرّت عليه نشرت ... ما انطوى عنه وجلّت كربه
كلفى فيكم قديم عهده ... ما صباباتى بكم مكتسبه
أين ورق الجزع من لى أن أرى ... عجمه إن لم أشاهد عربه
ومنها:
عن جفونى النوم من بعّده ... وإلى جسمى الضّنا من قرّبه
وصلوا الطّيف إذا لم تصلوا ... مستهاما قد قطعتم سببه
وإلى أن تحسنوا صنعابنا ... قد أساء الحبّ فينا أدبه
وهى أطول من هذا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المحدّث أبو الرّضا أحمد بن طارق الكركىّ «2» فى ذى الحجّة ببغداد. وعبد الخالق بن عبد الوهّاب بن محمد المالكىّ «3» الصابونىّ الخفّاف. وأبو الغنائم محمد بن علىّ بن فارس [المعروف ب] ابن المعلّم الواسطىّ شاعر العراق عن إحدى وتسعين سنة. والوزير مؤيّد الدّين محمد بن علىّ بن القصّاب. والعلّامة مجير الدين محمود بن المبارك البغدادىّ الشافعىّ عن خمس وسبعين سنة. ويوسف بن معالى الكتّانىّ المقرئ بدمشق.

(6/140)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وست وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 593]
السنة الخامسة من ولاية الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف على مصر، وهى سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
فيها قدم حسام الدّين أبو الهيجاء السّمين بغداد وخرج الموكب للقائه، ودخل أبو الهيجاء فى زىّ عظيم [و] رتّب الأطلاب على ترتيب أهل الشام، وكان فى خدمته عدّة من الأمراء؛ وأوّل «1» ما تقدّم من الأمراء طلب ابن أخيه المعروف بكور الغرس ثم أمير أمير؛ وجاء هو بعد الكلّ فى العدّة الكاملة والسلاح التامّ، وخرج أيضا أهل بغداد للقائه، وكان رأسه صغيرا وبطنه كبيرا جدّا، بحيث كان بطنه على رقبة البغلة؛ فرآه رجل كوّاز فعمل فى الساعة كوزا من طين على هيئته، وسبقه فعلّقه فى السوق؛ فلمّا اجتاز به ضحك. ثم عمل بعد ذلك أهل بغداد كيزانا سمّوها:
أبا الهيجاء. وأكرمه الخليفة وأقام له بالضّيافات.
قلت: أبو الهيجاء هذا هو الذي عزله الملك العزيز هذا عن نيابة القدس بجرديك فى أوائل أمره. حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمة العزيز.
وفيها توفّى الأمير طغتكين بن أيّوب أخو السلطان صلاح الدين بن أيوب، ولقبه سيف الإسلام. كان والى اليمن، ملكها من زبيد إلى حضر موت «2» ، وكان

(6/141)


شجاعا مقداما شهما. وتوفّى بزبيد. وولى اليمن بعده ولده شمس الملوك إسماعيل وادّعى الخلافة.
وفيها توفّى عبد الله بن منصور بن عمران الشيخ أبو بكر الباقلانىّ. ومولده فى سنة خمسمائة. وانفرد بالرّواية فى القراءات العشر، وكان حسن التلاوة. وقدم بغداد ومات بواسط فى سلخ شهر ربيع الآخر.
وفيها توفّى عبيد الله «1» بن يونس بن أحمد الوزير جلال الدين أبو المظفّر الحنبلىّ، ولى حجابة الديوان ثم استوزره الخليفة؛ وكان إماما عالما فى الأصلين والحساب والهندسة والجبر والمقابلة، غير أنّه شان أمره بأمور فعلها، منها: أنّه أخرب بيت الشيخ عبد القادر [الجيلانىّ»
] وشتّت أولاده، ويقال: إنّه بعث فى الليل من نبش على الشيخ عبد القادر ورمى بعظامه فى اللّجّة، وقال: هذا وقف ما يحلّ أن يدفن فيه أحد.
قلت: وما فعله هو بعظام الشيخ أقبح من أن يدفن بعض المسلمين فى بعض أوقاف المسلمين، وما ذاك إلّا الحسد داخله من الشيخ عبد القادر وعظم شهرته حتّى وقع منه ما وقع؛ ولهذا كان موته على أقبح وجه، بعد أن قاسى خطوبا ومحنّا وحبس سنين، حتى أخرج من الحبس ميّتا؛ وهذا ما وقع له فى الدنيا، وأمّا الأخرى فأمره إلى الله تعالى. وبالجملة فإنّه كان من مساوىء الدهر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى سيف الإسلام طغتكين بن أيّوب بن شادى صاحب اليمن فى شوّال، وولى بعده ابنه إسماعيل.
ومقرئ العراق أبو بكر عبد الله بن منصور الرّبعىّ الباقلانىّ بواسط فى شهر ربيع

(6/142)


الأول عن ثلاث وتسعين سنة. والوزير جلال الدين عبيد الله بن يونس، مات فى المطمورة «1» . وعذراء بنت شاهنشاه بن أيّوب ودفنت بالعذراويّة «2» . وقاضى القضاة أبو طالب علىّ بن علىّ بن أبى البركات البخارىّ الشافعىّ ببغداد. وأبو المعمّر محمد ابن حيدرة بن عمر بن إبراهيم العلوىّ الزّيدىّ الرافضىّ. وأبو «3» الفتح الأصبهانىّ ناصر الدين بن محمد الوترح فى ذى الحجّة. وأبو القاسم يحيى بن أسعد بن [يحيى «4» ] بن بوش الخبّاز فى ذى القعدة، غصّ بلقمة، وعاش بضعا وثمانين سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 594]
السنة السادسة من ولاية العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف على مصر، وهى سنة أربع وتسعين وخمسمائة.
فيها توفّى الأمير جرديك بن عبد الله النّورىّ. كان من أكابر أمراء الملك العادل نور الدين محمود الشهيد؛ ثم خدم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فى جميع غزواته وحروبه من يوم قتل شاور بمصر وابن الخشّاب بحلب. وكان أميرا شجاعا مهيبا جوادا، ولّاه صلاح الدين نيابة القدس إلى أن أخذها منه الأفضل.

(6/143)


وفيها توفى زنكى بن مودود بن زنكى بن آق سنقر عماد الدين صاحب سنجار، وابن أخى نور الدين الشهيد. كان عاقلا جوادا لم يزل مع السلطان صلاح الدين؛ وكان السلطان صلاح الدين يحترمه مثل ما كان يحترم نور الدين، ويعطيه الأموال والهدايا، وكانت وفاته بسنجار. ولمّا احتضر أوصى إلى أكبر أولاده قطب الدين محمد، ولقّب بالملك المنصور.
وفيها توفّى قيماز بن عبد الله مجاهد الدين الخادم الرومىّ الحاكم على الموصل، وهو الذي بنى الجامع المجاهدىّ والمدرسة والرّباط والبيمارستان بظاهر الموصل على دجلة ووقف عليها الأوقاف. وكان عليه رواتب بحيث إنّه لم يدع [بالموصل «1» بيت] فقير إلّا أغنى أهله، وكان ديّنا صالحا عابدا عادلا كريما، يتصدّق كلّ يوم خارجا عن الرواتب بمائة دينار. ولمّا مات عزّ الدّين مسعود «2» وولى ابنه أرسلان «3» شاه حبس قيماز هذا وضيّق عليه وآذاه إلى أن مات فى حبسه.
وفيها توفّى يحيى بن سعيد بن هبة الله العلّامة أبو طالب قوام الدّين الشّيبانىّ المنشئ الكاتب الواسطىّ الأصل، البغدادىّ المولد والدار والوفاة. مولده فى سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة. واشتغل بالأدب وبرع فى الإنشاء وفنون من العلوم كالفقه وعلم الكلام والأصول والحساب والشعر، وجالس أبا منصور بن الجواليقىّ وقرأ عليه، وسمع أبا القاسم بن الصائغ وغيره؛ وولى للخليفة عدّة خدم: حجبة الباب، ثم الأستادارية، ثم كتابة الإنشاء آخر عمره ومات فى ذى الحجّة. ومن شعره- وأحسن فيما قال-:

(6/144)


باضطراب الزمان ترتفع الأن ... ذال فيه حتّى يعم البلاء
وكذا الماء ساكنا فإذا ... حرّك ثارت من قعره الأقذاء
قلت: وفى هذين البيتين شرح حال زماننا هذا لكثرة من ترقّى فيه من الأوباش إلى الرّتب السنيّة من كلّ طائفة، وقد أذكرنى ذلك واقعة جرت فى أوّل سلطنة الملك الأشرف إينال «1» ، وهى أنّ بعض أوباش الخاصكيّة ممّن ليس له ذات ولا أدوات وقف إلى السلطان وطلب منه إمرة عشرة، وقال له: يا مولانا السلطان، إمّا أن تنعم علىّ بإمرة عشرة وإلّا وسّطنى هنا؛ وقيل: إنّه تمدّد ونام بين يديه حتّى أخذ إمرة عشرة؛ وهو معروف لا يحتاج إلى تسميته. ومن هذه المقولة شىء كثير، ومع ذلك خرج الزمان وللدولة أعيان، فلا قوّة إلّا بالله.
وفيها توفّى أبو الهيجاء السّمين الأمير حسام الدين الكردىّ المقدّم ذكره فى عدّة أماكن، وذكرنا أيضا دخوله إلى بغداد، وأنّه صار من جملة أمراء الخليفة حتى سيّره إلى همذان، فلم يتمّ له أمر، واختلف أصحابه عليه فاستحيا أن يعود إلى بغداد، فسار إلى الشام ومرض بها ومات بعد أيّام. وكان أميرا شجاعا مقداما عارفا متجمّلا سيوسا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبعان.

(6/145)


ذكر ولاية الملك المنصور محمد على مصر
اختلف المؤرّخون فيمن ولى ملك مصر بعد موت الملك العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب. فمن الناس من قال: أخوه الأفضل نور الدين علىّ بن صلاح الدين يوسف بن أيّوب؛ ومنهم من قال: ولده الملك المنصور محمد هذا. والصواب المقالة الثانية، فإنّه كان ولّاه والده العزيز من بعده، وإليه أوصى العزيز بالملك، وأيضا ممّا يقوّى المقالة الثانية أنّ المنصور كان تحت كنف والده العزيز بمصر، وكان الأفضل بصرخد «1» ، ولم يحضر إلى مصر، حتّى تمّ أمر المنصور وتسلطن بعد موت أبيه. وبيان ذلك أيضا يأتى فيما نذكره الآن فى سياق ترجمة الملك المنصور، فيعرف بهذا السياق من كان فى هذه المدّة السلطان بمصر إلى حين ملك الملك العادل أبو بكر بن أيّوب؛ فنقول:
لمّا مات الملك العزيز عثمان بديار مصر فى العشرين من المحرّم أوصى بالملك لأكبر أولاده وهو ناصر الدين محمد المذكور، ونصّ عليه فى الوصيّة؛ وكان للعزيز عشرة أولاد، ولم يذكر فى الوصيّة عمّه العادل؛ وجعل وصيّه الأمير أزكش مقدّم الأسديّة.
قال أبو المظفّر سبط ابن الجوزىّ فى تاريخه: «كان لابنه محمد عشر سنين وكان مقدّم الصلاحيّة فخر الدين جهاركس، وأسد الدين سرا سنقر، وزين الدين قراجا؛ فاتّفقوا على ناصر الدين محمد وحلّفوا له الأمراء؛ وكان سيف الدين أزكش مقدّم الأسديّة غائبا بأسوان، فقدم وصوّب رأيهم وما فعلوه، إلّا أنّه قال: هو صغير السن لا ينهض بأعباء الملك، ولا بدّ من تدبير كبير يحسم الموادّ ويقيم الأمور، والعادل مشغول فى الشرق بماردين، وما ثمّ أقرب من الأفضل نجعله أتابك العساكر، فلم يمكن

(6/146)


الصلاحيّة مخالفة الأسديّة وقالوا: افعلوا ففعلوا. فكتب أزكش إلى الأفضل يستدعيه وهو بصرخد. وكتبت الصلاحيّة إلى من بدمشق من أصحابهم يقولون: قد اتّفقت الأسديّة على الأفضل، وإن ملك الأفضل الديار المصريّة حكموا علينا، فامنعوا الأفضل من المجىء؛ فركب عسكر دمشق ليمنعوه ففاتهم؛ وكان الأفضل قد التقى النّجّاب المتوجّه إلى دمشق ثانيا من قبل الصلاحيّة، وعلى يده الكتب التى تتضمّن ما ذكرناه من منع الأفضل من المجىء إلى الديار المصريّة، فأخذ الأفضل النّجّاب وعاد به إلى مصر، ولمّا وصل الأفضل إلى مصر التقاه الأسديّة والصلاحيّة، ورأى جهاركس النّجّاب الذي أرسله، فقال له: ما أسرع ما عدت! فأخبره الخبر، فساق هو وقراجا بمن معهما من وقتهما إلى القدس وتحصّنا به. فلمّا وقع ذلك أشارت الأسديّة على الأفضل بقصد دمشق، وأنّ العادل مشغول بماردين.
فكتب الأفضل إلى أخيه الملك الظاهر غازى صاحب حلب يستنجده، فأجابه وقال: اقدم حتّى أساعدك. فسار الأفضل بالعساكر المصريّة إلى الشام واستناب بمصر سيف الدين أزكش، ووصل الأفضل إلى دمشق فى شعبان من السنة فأحدق بها. وبلغ هذا الخبر الملك العادل وهو على ماردين، وقد أقام عليها عشرة أشهر، ولم يبق إلّا تسليمها وصعدت أعلامه على «1» القلعة؛ فلمّا سمعوا بوفاة العزيز توقّفوا عن تسليمها؛ فرحل الملك العادل أبو بكر عنها، وترك على حصارها ولده الكامل محمدا الآتى ذكره فى سلاطين مصر- إن شاء الله تعالى- وسار العادل إلى نحو الشام فوصلها ومعه جماعة من الأمراء؛ وكان الأفضل نازلا فى الميدان الأخضر فأشار عليه جماعة من الأمراء أن يتأخّر إلى مشهد «2» القدم [حتّى «3» يصل الظاهر وصاحب

(6/147)


حمص والأمراء] . ودخل العادل ومن معه إلى دمشق، وجاء الظاهر بعسكر حلب، وجاء عسكر حماة وحمص، وبشارة من بانياس، وعسكر الحصون، وسعد الدين مسعود صاحب صفد «1» ، وضايقوا دمشق وبها العادل، وكسروا باب «2» السلامة؛ وجاء آخرون إلى باب الفراديس «3» وكان العادل فى القلعة وقد استأمن إليه جماعة من المصريين مثل ابن كهدان «4» ومثقال الخادم وغيرهما. فلمّا بلغه أنّ ابن الحنبلىّ وأخاه شهاب الدين وأصحابهما قد كسروا باب الفراديس ركب من وقته وخرج إليهم وجاء إلى جيرون «5» والمجد أخو الفقيه عيسى قائم «6» على فرسه يشرب الفقّاع، ثم صاح العادل: يا فعلة يا صنعة إلى هاهنا! فلمّا سمعوا كلامه انهزموا وخرجوا؛ فأغلق العادل باب السلامة، وجاء إلى باب الفراديس فوجدهم قد كسروا الأقفال بالمرزبّات؛ فقال من فعل هذا؟ قالوا: الحنابلة؛ فسكت ولم يقل شيئا. وقال أبو المظفّر:
وحكى لى المعظّم عيسى- رحمه الله- قال: [لمّا «7» ] رجعنا من باب الفراديس [و «8» ] وصلنا إلى باب مدرسة الحنابلة رمى على رأس أبى (يعنى العادل) حبّ «9» الزّيت فأخطأه، فوقع فى رقبة الفرس فوقع ميتا، فنزل أبى وركب غيره ولم ينطق بكلمة،

(6/148)


وجاء جهاركس وقراجا فى اللّيل من جبل سنير «1» فدخلا دمشق. وأمّا المواصلة فساقوا على الكامل محمد فرحّلوه عن ماردين، فجاء أيضا يقصد دمشق، وجمع النّركمان «2» وغيرهم.
وأمّا أمر دمشق فإنّه لمّا اشتدّ الحصار عليها، وقطعوا أشجارها ومياهها الداخلة إليها، انقطعت عن أهلها الميرة وضجّوا، فبعث العادل إلى ابن أخيه الظاهر غازى صاحب حلب يقول له: أنا أسلّم إليك دمشق على أن تكون أنت السلطان، وتكون دمشق لك لا للأفضل، فطمع الظاهر وأرسل إلى الأفضل يقول: أنت صاحب مصر فآثرنى بدمشق، فقال الأفضل: دمشق لى من أبى، وإنّما أخذت منّى غصبا.
فلا أعطيها لأحد، فوقع الخلف بينهما ووقع التقاعد، وخرجت السّنة على هذا.
ثمّ دخلت السنة السادسة والتسعون، والحصار على دمشق. وكان أتابك أرسلان شاه صاحب الموصل قد رحّل الكامل من ماردين كما تقدّم ذكره. فقدم الكامل دمشق ومعه خلق كثير من التّركمان وعسكر حرّان «3» والرّها «4» ، فتأخّر الأفضل بالعساكر إلى عقبة «5» الشّحورة فى سابع عشر صفر. ووصل الكامل فى تاسع عشره فنزل بجوسق «6» أبيه على الشرف «7» ، ثم رحل الأفضل إلى مرج الصّفّر «8» ، ورحل الظاهر إلى حلب، وأحرقوا ما عجزوا عن حمله. وسار الأفضل إلى مصر. وأحضر العادل

(6/149)


بنى الحنبلىّ: الناصح وأخاه شهاب الدين وغيرهما، وكان الأفضل قد وعد الناصح بقضاء دمشق، والشهاب بالحسبة، فقال لهم العادل: ما الذي دعاكم إلى كسر باب الفراديس، ومظاهرة أعدائى علىّ، وسفك دمى؟ فقال له الناصح: أخطأنا وما ثمّ إلّا عفو السلطان.
- ثم ساق أبو المظفّر كلاما طويلا محصوله العفو عن الحنابلة، إلى أن قال-:
وأمّا الأفضل فإنّه سار إلى مصر، فأرسل العادل وراءه «1» [أبا محمد] نجيب الدين إليه بالزّبدانىّ «2» يقول [له] : ترفّق، فأنا لك مثل الوالد، وعندى كلّ ما تريد. فقال الأفضل: قل له: إن صحّت مقالتك فأبعد عنك أعدائى الصّلاحيّة. وبلغ ذلك الصلاحيّة، فقالوا للعادل: إيش قعودنا هنا؟ قم بنا، وساروا خلف الأفضل مرحلة مرحلة؛ فنزل الأفضل بلبيس ونزل العادل السائح «3» ؛ فرجع الأفضل وضرب معهم المصافّ، وتقاتلوا فانكسر الأفضل وتفرّق عنه أصحابه؛ ورحل إلى القاهرة وأغلق أبوابها. وجاء العادل فنزل البركة «4» ، ودخل سيف الدين أزكش بين العادل والأفضل، واتّفقوا أن يعطيه العادل ميّافارقين وجبل «5» جور وديار بكر، ويأخذ منه مصر؛ فاتّفق الأمر على ذلك.
ورحل الأفضل من مصر فى شهر ربيع الآخر، ودخل العادل إلى القاهرة، وأحسن إلى أزكش، وقال للأفضل: جميع من كان معك كاتبنى إلّا سيف الدين أزكش. ثمّ قدّم العادل أزكش المذكور وحكّمه فى البلاد، وردّ القضاء

(6/150)


إلى صدر الدين عبد الملك بن درباس الكردىّ، وولىّ شيخ الشيوخ ابن حمّويه «1» التدريس بالشافعىّ ومشهد الحسين والنّظر فى خانقاه «2» الصّوفيّة، وجلس الوزير صفىّ الدين عبد الله بن علىّ بن شكر فى دار السلطنة فى حجرة القاضى الفاضل، ونظر فى الدواوين. وسار الأفضل إلى ميّافارقين. واستدعى العادل ولده الكامل إلى مصر فخرج من دمشق فى ثالث «3» عشرين شعبان وودّعه أخوه الملك المعظّم عيسى إلى رأس الماء «4» . قال العماد الكاتب: وسرت معه إلى مصر وأنشدته:
دعتك مصر إلى سلطانها فأجب ... دعاءها فهو حقّ غير مكذوب
قد كان يهضمنى «5» دهرى فأدركنى ... محمد بن أبى بكر بن أيّوب
ووصل الكامل إلى مصر فى عاشر شهر رمضان، والتقاه أبوه العادل من العبّاسة «6» ، وأنزله فى دار الوزارة. وكان قد زوّجه بنت أخيه صلاح الدين فدخل بها.
ولم يقطع العادل الخطبة لولد العزيز.
قلت: وهذا ممّا يدلّ أيضا على أنّ الأفضل كان عند الملك المنصور محمد ابن العزيز عثمان بمنزلة الأتابك. والظاهر أنّه كان ظنّ الأفضل إذا تمّ أمره مع عمّه العادل هذا استقلّ بالملك، فلم يقع له ذلك؛ ولهذا لم نذكره فى ملوك مصر، وما «7» ذكرناه هنا إلّا فى ضمن ترجمة المنصور صاحب الترجمة.

(6/151)


قال: ثم إنّه جمع الفقهاء (يعنى الملك العادل) وقال لهم: هل يجوز ولاية الصغير على الكبير؟ فقالوا: الصغير «1» مولّى عليه. قال: فهل يجوز للكبير أن ينوب عن الصغير؟ قالوا: لا، لأنّ الولاية من الأصل إذا كانت غير صحيحة فكيف تصحّ النيابة! فعند ذلك قطع خطبة ابن العزيز (يعنى عن المنصور صاحب الترجمة) وخطب لنفسه ولولده الكامل من بعده. ونقص النيل فى هذه السنة ولم يبلغ ثلاث عشرة ذراعا. ووقع الغلاء بديار مصر» .
قلت: وعلى هذا يكون أوّل سلطنة العادل على مصر فى يوم خطب له بمصر؛ وهو يوم الجمعة الحادى والعشرين من شوّال سنة ست وتسعين وخمسمائة.
قال ابن المستوفى «2» فى تاريخ إربل «3» : فتكون أوّل سلطنة الملك العادل من هذا اليوم، ولا عبرة باستيلائه على مصر قبل ذلك. وعلى هذا أيضا تكون مدّة الملك المنصور محمد صاحب الترجمة على سلطنة مصر سنة واحدة وتسعة أشهر سواء، فإنّ والده العزيز عثمان مات فى عشرين المحرّم من سنة خمس وتسعين وخمسمائة فتسلطن من يوم موت أبيه، وخلع فى العشرين من شوّال سنة ست وتسعين وخمسمائة.
انتهى. ولم أقف على وفاته الآن.

(6/152)