النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 605]
السنة التاسعة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى
سنة خمس وستمائة.
فيها زلزلت نيسابور زلزلة عظيمة دامت عشرة أيام، فمات تحت الردم خلق
كثير.
وفيها اتّفق الفرنج من طرابلس وحصن «1» الأكراد على الإغارة على أعمال
حمص، فتوجّهوا إليها وحاصروها، فعجز صاحب حمص أسد الدين شيركوه عنهم،
ونجده ابن عمّه الملك الظاهر غازى صاحب حلب، فعاد الفرنج إلى طرابلس.
وبلغ السلطان الملك العادل صاحب الترجمة، فخرج إليهم من مصر بالجيوش
وقصد عكّا، فصالحه صاحبها، فسار حتّى نزل على بحيرة قدس «2» ، وأغار
على بلاد طرابلس وأخذ من أعمالها حصنا صغيرا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال وفيها توفّى قاضى القضاة
صدر الدين أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس بمصر عن تسع وثمانين
سنة.
والقاضى أبو الفتح محمد بن أحمد بن بختيار بواسط فى شعبان، وله ثمان
وثمانون سنة. وأبو الجود غياث بن فارس اللّخمىّ مقرئ ديار مصر. وأبو
بكر محمد بن المبارك [بن «3» محمد بن أحمد بن الحسين] بن مشّق محدّث
بغداد، وله اثنتان وسبعون سنة.
والحسين بن أبى نصر [بن «4» الحسين بن هبة الله بن أبى حنيفة] بن
القارص «5» الحريمىّ
(6/196)
الضرير آخر من روى شيئا عن المسند، توفّى
فى شعبان. وخطيب القدس علىّ بن محمد بن علىّ بن جميل المعافرى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 606]
السنة العاشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى
سنة ستّ وستمائة.
فيها توفّى الحسن بن أحمد [بن «1» محمد] بن جكينا من أهل الحرم
الطاهرىّ، كان فاضلا رئيسا شاعرا. ومن شعره:
قد بان لى عذر الكرام وصدّهم ... عن أكثر الشعراء ليس بعار
لم يسأموا بذل النوال وإنّما ... جمد النّدى لبرودة الأشعار
وفيها توفّى محمد بن عمر بن الحسين العلّامة أبو المعالى «2» فخر الدين
الرازىّ المتكلّم صاحب التصانيف فى علم الكلام والمنطق والتفسير. كان
إماما بارعا فى فنون من العلوم، صنّف «التفسير «3» » و «المحصّل «4» »
و «الأربعين «5» » و «نهاية «6» العقول» وغير ذلك. قال صاحب المرآة:
«واختصّ بكتب ابن سينا فى المنطق وشرحها، وكان
(6/197)
يعظ وينال من الكرّاميّة «1» وينالون منه،
ويكفّرهم ويكفّرونه، وقيل: إنّهم دسّوا عليه من سقاه السم فمات ففرحوا
بموته؛ وكانوا يرمونه بالكبائر، وكانت وفاته فى ذى الحجّة. ثم ذكر عنه
صاحب المرآة أشياء، الأليق الإضراب عنها والسّكات عن ذكرها.
وفيها توفّى المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم أبو السعادات مجد
الدين ابن الأثير الموصلىّ الجزرىّ الكاتب، ولد سنة أربعين «2»
وخمسمائة بجزيرة ابن عمر، ثم انتقل إلى الموصل وكتب لأمرائها، وكانوا
يحترمونه، وكان عندهم بمنزلة الوزير الناصح إلّا أنّه كان منقطعا إلى
العلم قليل الملازمة لهم. صنّف الكتب الحسان، منها: «جامع الأصول فى
أحاديث الرسول» ، جمع فيه «3» بين الصّحاح الستة. وكتاب «النهاية فى
غريب الحديث» فى خمسة مجلدات. وكتاب «الإنصاف فى الجمع بين الكشف «4»
والكشّاف» فى تفسير القرآن، أخذه من تفسير الثّعلبىّ «5» والزمخشرىّ
«6» ، وله كتاب «المصطفى والمختار فى الأدعية والأذكار» وله كتاب لطيف
فى صناعة الكتابة، وكتاب «البديع فى شرح الفصول فى النحو لابن الدّهان
«7» » وله «ديوان رسائل» ، وكتاب «الشافى فى شرح مسند الإمام الشافعىّ»
- رضى الله عنه-. ومن شعره
(6/198)
- رحمه الله- ما أنشده لصاحب الموصل، وقد
زلّت به بغلته وألقته إلى الأرض:
إن زلّت البغلة من تحته ... فإنّ فى زلّتها عذرا
حمّلها من علمه شاهقا ... أو من ندى راحته بحرا
وكانت وفاته بالموصل فى يوم الخميس سلخ ذى الحجّة، ودفن برباطه بدرب
درّاج «1» ، وهو أخو أبى الحسن «2» علىّ بن الجزرىّ الكاتب.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى القاضى وجيه
الدين أسعد بن المنجّا التّنوخىّ فى المحرّم، وله سبع وثمانون سنة.
وأبو مسلم المؤيّد [هشام «3» ] بن عبد الرحيم [بن «4» أحمد بن محمد] بن
الإخوة العدل بأصبهان فى جمادى الآخرة. وأبو عبد الله محمود بن أحمد
المضرىّ «5» الأصبهانىّ إمام جامع أصبهان عن تسع وثمانين سنة. وأبو
القاسم إدريس بن محمد العطّار بأصبهان، وله نحو مائة سنة.
وفخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرازىّ المصنّف ابن
خطيب الرىّ يوم عيد الفطر، وله اثنتان وستون سنة. ومجد الدين يحيى بن
الربيع الواسطىّ مدرس النظاميّة عن ثمان وسبعين «6» سنة. ومجد الدين
أبو السعادات المبارك بن الأثير الجزرىّ الكاتب صاحب «جامع الأصول» و
«النهاية» فى سلخ العام، وله ثلاث
(6/199)
وستون سنة. وأمّ هانىء عفيفة بنت أحمد
الفارفانيّة «1» مسندة أصبهان، ولها ستّ وتسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 607]
السنة الحادية عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر،
وهى سنة سبع وستمائة.
فيها حجّ بالناس من الشام سيف الدّين [علىّ «2» ] بن علم الدين سليمان
بن جندر.
وفيها توفّى أرسلان [شاه «3» ] بن عزّ الدين مسعود الأمير نور الدين
الأتابك صاحب الموصل، كان متكبّرا جبّارا بخيلا فاتكا سفّا كاللدماء،
حبس أخاه علاء «4» الدين سنين حتّى مات فى حبسه، وولّى الموصل لرجل
ظالم يقال له السراج فأهلك الحرث والنّسل، وكانت وفاة أرسلان هذا فى
صفر. وخلّف ولدين: القاهر «5» مسعودا وزنكى «6» ، وأوصى إلى بدر الدين
لؤلؤ «7» أن يكون مسعود السلطان ويكون زنكى فى شهرزور «8» .
(6/200)
وفيها توفّى عبد الوهّاب بن علىّ الشيخ أبو
محمد «1» الصّوفىّ ضياء الدين المعروف بابن سكينة سبط شيخ الشيوخ
إسماعيل بن أحمد النّيسابورىّ. وكان فاضلا محدّثا عابدا زاهدا، وكان
ينشد لمحمد الفارقىّ «2» - رحمه الله-:
تحمّل أخاك على خلقه ... فما فى استقامته مطمع
وأنّى له خلق واحد ... وفيه طبائعه الأربع
وفيها توفّى عمر بن محمد بن معمّر بن أحمد بن يحيى بن حسّان المسند
الكبير رحلة الآفاق أبو حفص بن أبى بكر البغدادىّ الدّارقزّىّ «3»
المؤدّب المعروف بآبن طبرزذ، والطّبرزذ: هو السّكر. ولد فى ذى الحجّة
سنة ست عشرة وخمسمائة، وسمع الكثير بإفادة أخيه المحدّث أبى البقاء
محمد ثم بنفسه، وحصّل الأصول وحفظها إلى وقت الحاجة إليه، فلمّا كبرت
سنّه حدّث بالكثير، وصار رحلة الزمان إلى أن مات فى تاسع شهر رجب
ببغداد؛ ودفن بباب حرب.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام الإمام القدوة
الزاهد أبو عمر المقدسىّ الجمّاعيلىّ. قال ابن أخته الحافظ ضياء الدين:
مولده فى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بجمّاعيل، وسمع الكثير بدمشق من
والده وخلق كثير سواه، وروى عنه أخوه الشيخ الموفّق «4» وولداه شرف
الدين عبد الله وشمس الدين عبد الرحمن وجماعة كثيرة، وكان إماما عالما
زاهدا ورعا متقنا متعبّدا: قال أبو المظفّر: وكان معتدل القامة حسن
الوجه، عليه أنوار العبادة لا يزال مبتسما،
(6/201)
نحيل الجسم من كثرة الصيام والقيام. ثم
قال- بعد كلام طويل وبعد أن أورد أشعارا كثيرة- وأنشدنى لغيره:
لى حيلة فيمن ينمّ ... وليس فى الكذّاب حيله
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتى فيه قليله
وفيها توفّى الوجيه بن النّورىّ المصرىّ الفقيه المقرئ الحنفىّ إمام
مقصورة الحنفية الغربية بجامع دمشق، كان صالحا ديّنا فقيرا قارئا
للقرآن بالسبع. قال أبو المظفّر وأنشد لغيره:
ومن عادة السادات أن يتفقّدوا ... أصاغرهم والمكرمات مصايد
سليمان ذو ملك تفقد هدهدا ... وإنّ أقلّ الطائرات الهداهد
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو محمد جعفر
بن محمد [بن «1» أبى محمد] بن آموسان «2» الأصبهانىّ بعد حجّه بالمدينة
فى المحرّم، وله خمس وسبعون سنة. وأبو محمد «3» عبد الوهّاب ابن الأمين
علىّ بن سكينة الصوفىّ مسند العراق وشيخها، وله ثمان وثمانون سنة. مات
فى شهر ربيع الآخر. والشيخ أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة
الزاهد شيخ المقادسة فى شهر ربيع الآخر، وله تسع وسبعون سنة. وعائشة
بنت معمّر بن الفاخر عن بضع وثمانين سنة. وأبو الفرج محمد بن هبة الله
بن كامل الوكيل ببغداد عن خمس وثمانين سنة. وأبو حفص عمر ابن محمد بن
معمّر بن طبرزذ عن إحدى وتسعين سنة، كلاهما فى رجب.
وأبو المجد زاهر «4» بن أحمد بن أبى غانم الثّقفىّ الأصبهانىّ وقد قارب
التسعين
(6/202)
فى ذى القعدة. وأسعد بن سعيد [بن محمود «1»
بن محمد بن أحمد بن جعفر] بن روح التاجر بأصبهان فى ذى الحجّة، وله
تسعون سنة، وختم به حديث الطّبرانىّ فى الدنيا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يوجد له قاع فى هذه السنة.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا «2» وأربع أصابع، بعد ما توقّف عن الزيادة
أيّاما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 608]
السنة الثانية عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر،
وهى سنة ثمان وستمائة.
فيها قدم بغداد رسول جلال الدين حسن صاحب ألموت «3» ، يخبر الخليفة
بأنّهم تبرّءوا من الباطنيّة، وبنوا الجوامع والمساجد، وأقيمت الجمعة
والجماعات عندهم، وصلّوا التراويح فى شهر رمضان؛ فسرّ الخليفة والناس
بذلك. وقدمت الخاتون أمّ جلال الدين حاجّة، واحتفل «4» بها الخليفة،
وجهّز لها ما يليق بها.
وفيها بعث الخليفة الناصر لدين الله خاتمه للأمير وجه السّبع بالشام،
وقد تقدّم ذكره فيما مضى، فتوجّه وجه السبع إلى الخليفة ومعه رسول
الملك العادل صاحب الترجمة، فأكرم الخليفة وجه السبع، وأعطاه الكوفة
إقطاعا.
وفيها توفّى عبد الواحد بن عبد الوهّاب بن علىّ بن سكينة ويلقّب
بالمعين.
ولد سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، وسافر إلى الشام فى أيام الأفضل، وبسط
(6/203)
لسانه فى الدولة، ثم عاد إلى بغداد بأمان
من الخليفة؛ وولى مشيخة الشيوخ.
ومات غريقا فى البحر، وكان سمع جدّه لأمّه شيخ الشيوخ عبد الرحيم «1»
وغيره.
وأنشد لجدّه المذكور قوله فى الخضاب:
ولم أخضب مشيبى وهو زين ... لإيثارى جهالات الشبّاب
ولكن كى يرانى من أعادى ... فأرهبه بوثبات التّصابى
وفيها توفّى مظفر «2» الماسكى البغدادىّ، كان ظريفا أديبا، وكان يقول
من الشعر «كان وكان «3» » وغيره. ومن شعره فى «كان وكان» قوله:
ذى زوجها ما شطها وكل من جا حفّها ... قصده يرى النقش عنده فى كفّها
ألوان
إن شندرت فلوجهه تصيب قبل كفوفها ... ما صحّ ذاك النشادر إلّا من
الدّخان
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو المعالى
«4» محمد ابن صالح آخر من حدّث عن الميورقىّ. ويحيى بن البنّاء، وله
تسعون سنة.
وأبو الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن [محمد «5» ] الفراوىّ
العدل بنيسابور، وله ستّ وثمانون سنة فى شعبان. والقاضى أبو القاسم هبة
الله بن جعفر بن سناء الملك بمصر. وأبو عبد الله محمد بن أيّوب بن محمد
بن [وهب بن محمد «6» بن وهب] بن نوح
(6/204)
الغافقىّ «1» ببلنسية، وله ثمان وسبعون
سنة. والخضر بن كامل [بن سالم «2» ] بن سبيع الدلّال بدمشق. وأبو
العبّاس أحمد بن الحسن بن أبى البقاء العاقولىّ»
فى ذى الحجّة ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست أصابع. مبلغ
الزيادة ست عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 609]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر.
وهى سنة تسع وستمائة.
فيها اجتمع الملك العادل المذكور وأولاده: الكامل والفائز والمعظّم على
دمياط لقتال الفرنج، وكان الأمير أسامة بالقاهرة، فاتّهم بمكاتبة الملك
الظاهر غازى صاحب حلب، ووجدوا كتبا إليه وأجوبة؛ فخرج أسامة المذكور من
القاهرة كأنّه يتصيّد وساق إلى الشام فى مماليكه يطلب قلعة كوكب
وعجلون. وكان ذلك فى يوم الاثنين سلخ جمادى الآخرة. فأرسل والى بلبيس
الحمام إلى دمياط بالخبر؛ فقال العادل: من ساق خلفه فله أمواله وقلاعه؛
فقال ولده الملك المعظم عيسى: أنا، وركب من دمياط يوم الثلاثاء غرّة
رجب. قال أبو المظفّر سبط ابن الجوزىّ:
«وكنت معه، فقال لى: أنا أريد أن أسوق فآبق أنت مع قماشى ودفع لى بغلة،
وساق ومعه نفر يسير وعلى يده حصان، فكان صباح يوم الجمعة بغزّة، [ساق
«4» مسيرة ثمانية أيام فى ثلاثة أيّام] فسبق أسامة. [وأمّا أسامة «5» ]
فتقطّع عنه مماليكه وبقى
(6/205)
وحده؛ وكان به مرض النّقرس (يعنى بأسامة) ،
فجاء إلى بلد الدّاروم «1» ؛ وكان المعظّم أمسك عليه من البحر إلى
الزّرقاء «2» ، فرآه بعض الصيّادين فى برّية الدّاروم فعرفه، فقال له:
انزل، فقال: هذه ألف دينار وأوصلنى إلى الشام، فأخذها الصيّاد وجاء إلى
رفاقه [فعرفوه «3» أيضا] ، فأخذوه على طريق الخليل «4» ليحملوه إلى
عجلون، فدخلوا به إلى القدس فى يوم الأحد فى سادس رجب بعد وصول المعظّم
بثلاثة أيام، فتسلّمه المعظّم وأنزله بصهيون، وبعث إليه بثياب وطعام
ولا طفه [وراسله «5» ] وقال له:
أنت شيخ كبير وبك نقرس وما تصلح لك قلعة، سلّم إلىّ كوكب وعجلون، وأنا
أحلف لك على مالك وجميع أسبابك، وتعيش بيننا مثل الوالد. فامتنع وشتم
المعظّم، فبعث به المعظّم إلى الكرك فاعتقله بها، واستولى على قلاعه
وأمواله وذخائره [وخيله «6» ] ، فكان قيمة ما أخذ منه ألف ألف دينار.
وفيها حجّ بالناس من العراق حسام الدين بن أبى «7» فراس نيابة عن محمد
بن ياقوت، وكان معه مال وخلع لقتادة «8» صاحب مكّة. وحجّ بالناس من
الشام شجاع الدين بن «9» محارب، من على أيلة «10» .
(6/206)
وفيها توفّى الملك الأوحد نجم الدين أيّوب
ابن السلطان الملك العادل أبى بكر صاحب الترجمة. كان صاحب خلاط وغيرها
فى أيام أبيه الملك العادل، وقد تقدّم ذكر أخذه خلاط وغيرها؛ وكان قد
ابتلى بأمراض مزمنة، وكان يتمنّى الموت وكان قد استزار أخاه الملك
الأشرف موسى من حرّان، فأقام عنده أياما، واشتدّ مرضه فطلب الأشرف
الرجوع إلى حرّان لئلا يتخيّل منه الأوحد، فقال له الأوحد: يا أخى، لم
تلحّ فى الرّواح! والله إنّى ميّت وأنت تأخذ البلاد من بعدى، فكان
كذلك. وملك الأشرف بعد موته خلاط وأحبّه أهلها. كلّ ذلك فى حياة أبيهما
الملك العادل هذا. فكانت مدّة تملّك الأوحد خلاط أقلّ من خمس سنين،
ووجد عليه الملك العادل كثيرا.
وفيها توفّى محمود بنعثمان بن مكارم أبو الثناء الحنبلىّ، كان شيخا
زاهدا عابدا صاحب رياضات ومجاهدات يصوم الدهر، وانتفع بصحبته خلق كثير،
وكان من الأبدال.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو جعفر
أحمد ابن علىّ الأنصارىّ الدّانىّ «1» الحصّار المقرئ ببلنسية، استشهد
فى وقعة «2» العقاب هو وخلق من المسلمين. وأبو الفرج محمد بن علىّ بن
حمزة بن القبّيطىّ، وله نيّف وثمانون سنة. والحافظ أبو نزار ربيعة بن
الحسن الحضرمىّ اليمنىّ بمصر عن اثنتين «3» وثمانين سنة. وأبو [شجاع
«4» ] زاهر بن رستم المقرئ بمكّة.
(6/207)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع
أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 610]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر،
وهى سنة عشر وستمائة.
فيها حجّ بالناس من العراق ابن أبى فراس نيابة عن ابن ياقوت. وحجّ
بالناس من الشام الغرز «1» صديق بن تمرداش التّركمانىّ من على عقبة
أيلة «2» بحجّاح الكرك والقدس.
وحجّ فى هذه السنة الملك الظافر «3» خضر ابن السلطان صلاح الدين يوسف
بن أيّوب من على تيماء «4» ، ومعه حجّ الشام بأذن عمّه السلطان الملك
العادل- فيما قيل-، فلمّا بلغ الملك الكامل محمّد بن العادل أنّه توجّه
إلى الحجاز خاف على بلاد اليمن منه، فوجّه إليه عسكرا من مصر فلحقوه،
وقالوا له: ارجع؛ فقال: قد بقى بينى وبين مكّة مسافة يسيرة، والله ما
قصدى اليمن، وإنّما قصدى الحجّ، فقيّدونى واحتاطوا بى حتّى أقضى
المناسك وأعود إلى الشام؛ فلم يلتفتوا لكلامه؛ فأراد أن يقاتلهم فلم
يكن له بهم طاقة، فرجع إلى الشام ولم يحجّ.
وفيها توفّى الأمير أيدغمش صاحب همذان، أرسله الخليفة إلى همذان فسار
وانتظر العسكر وطال عليه الأمر فرحل عن همذان. فالتقاه عسكر منكلى بغا
ملك
(6/208)
التتار، وقاتلوه «1» فقتلوه، وحملوا رأسه
إلى منكلى بغا المذكور. وكان أميرا صالحا كثير الصدقات ديّنا صائما
عادلا كثير المحاسن- رحمه الله-.
وفيها توفّى الوزير الرئيس سعيد بن علىّ بن أحمد أبو المعالى بن حديدة
من ولد قطبة «2» بن عامر بن حديدة الأنصارىّ الصحابىّ. وكان مولده بكرخ
سامرّا سنة ست وثلاثين وخمسمائة؛ وكان له مال كثير، واستوزره الخليفة
الناصر لدين الله، ووقع له بعد ذلك محن، فهرت واختفى إلى أن توفّى.
وفيها توفّى الأمير سنجر [بن عبد «3» الله] الناصرىّ صهر طاشتكين، وكان
ذليلا بخيلا ساقط النفس مع كثرة المال. وتولّى مرّة إمرة الحاجّ [سنة
«4» تسع وثمانين وخمسمائة] فاعترض الحاجّ رجل «5» بدوىّ فى نفر يسير
جدّا، وكان مع سنجر هذا خمسمائة نفس، فذلّ وجبن عن ملاقاتة، وجبى له
مالا من الحجّ؛ فلمّا دخل بغداد رسم عليه الخليفة حتّى أخذ منه المال
وردّه إلى أصحابه، ثمّ عزله وأخذ إقطاعه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسن
مهذّب الدين علىّ بن أحمد بن علىّ [المعروف «6» بابن هبل] البغدادىّ
الطبيب بالموصل.
وأبو عبد الله الحسين «7» بن سعيد بن الحسين بن شنيف الدّارقزّىّ
الأمين ببغداد، كلاهما فى المحرّم. وأمّ النور عين الشمس بنت أحمد بن
أبى الفرج الثّقفيّة، ولها ستّ وثمانون سنة. وأبو مسعود عبد الجليل بن
أبى غالب [بن «8» أبى المعالى بن محمد بن الحسين]
(6/209)
ابن مندويه الصوفىّ بدمشق عن ثمان وثمانين
سنة، وإنّما سمع فى كبره. وتاج الأمناء أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة
الله بن عساكر الدمشقىّ. والفخر إسماعيل بن علىّ الحنبلىّ المتكلّم
غلام بن المنّى «1» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 611]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر،
وهى سنة إحدى عشرة وستمائة.
قلت: وفى مدّة هذه السنين كلّها [كان «2» ] صاحب مصر ولده الكامل محمد
بن العادل، والملك العادل يتنقّل فى البلاد، غير أنّه هو الأصل فى
السلطنة وعليه المعوّل؛ ولا تحسب سلطنة الكامل على مصر إلّا بعد موت
أبيه العادل هذا.
كما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
فيها ملك اليمن أضيس «3» بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبى بكر
صاحب الترجمة. ولقب أضيس المذكور بالملك المسعود، والعامّة يسمّونه
«أقسيس» وغلب عليه مقالة العامّة، والصواب ما قلناه لأنّ والده الملك
الكامل ما كان يعيش له ولد، فلمّا ولد له هذا أضسيس قال له بعض
الأتراك: فى بلادنا إذا كان «4» الإنسان
(6/210)
لا يعيش له ولد يسمّونه أضسيس. ومعناه
باللغة التركية: ماله اسم؛ فسمّاه والده الملك الكامل بذلك؛ فلمّا كبر
ثقل على العامّة لفظ أضسيس؛ فسمّوه «أقسيس» .
انتهى.
وكان أقسيس المذكور شابّا جبّارا فاتكا قتل باليمن نحو ثمانمائة شريف.
ودخل إلى مكّة إلى حاشية الطواف راكبا. وقيل إنه: كان يسكر وينام بدار
على المسعى، فتخرج أعوانه تمنع الناس من الصّياح والضّجيج فى المسعى،
ويقولون:
الأمير سكران نائم! لا ترفعوا أصواتكم بالذكر والتّلبية! وقتل أقسيس
هذا خلقا كثيرا من الأكابر والعظماء. ولو لم يحجّ عمّه الملك المعظّم
عيسى صاحب دمشق ما قدر أقتسيس هذا على أخذ اليمن. كلّ ذلك فى حياة جدّه
الملك العادل صاحب الترجمة.
وفيها أخذ الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل هذا قلعة صرخد من الأمير
[ابن «1» ] قراجا، وعوّضه مالا وإقطاعا.
وفيها حجّ بالناس من العراق ابن أبى فراس بن ورّام نائبا عن محمد بن
ياقوت.
وفيها حجّ الملك المعظّم عيسى المقدّم ذكره من دمشق، وحجّ معه عدّة
أمراء من أعيان دمشق، وحجّ على مذهب أبى حنيفة واستمرّ على المذهب،
وكلّمه والده الملك العادل صاحب الترجمة فى العود إلى مذهب الشافعىّ
فلم يقبل، وجاو به بكلام السّكات عنه أليق.
وفيها توفّى عبد العزيز بن محمود بن المبارك [بن «2» محمود بن الأخضر]
الشيخ أبو محمد البزاز، سمع الحديث وأكثر وصنّف وكتب، وكان فاضلا ديّنا
صالحا.
مات فى شوّال.
(6/211)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة،
قال: وفيها توفّى الحافظ شرف الدين أبو الحسن علىّ بن المفضّل بن [علىّ
«1» ] المقدسىّ الإسكندرانىّ المالكىّ، وله سبع وستون سنة. وفقيه بغداد
أبو بكر محمد بن معالى بن غنيمة بن الحلاوى الحنبلىّ، وكان من أبناء
السبعين «2» . والحافظ عبد العزيز بن محمود [بن المبارك «3» بن محمود]
بن الأخضر، وله سبع وثمانون سنة فى شوّال.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 612]
السنة السادسة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر،
وهى سنة اثنتى عشرة وستمائة.
فيها خرج وجه السّبع من بغداد بالعساكر إلى همذان للقاء منكلى مملوك
السلطان أزبك «4» خان، وكان قد عصى على مولاه وعلى الخليفة وقطع
الطريق، فكتب الخليفة إلى ابن زين الدين «5» ، وإلى الملك الظاهر غازى
صاحب حلب، وإلى الملك العادل هذا يطلب العساكر، فجاءته العساكر من كلّ
مكان؛ وتوجّه ابن زين الدين مقدّم العساكر، وجاء أزبك وجلال الدين
مقدّم الإسماعيليّة. وجمع أيضا منكلى جموعا كثيرة والتقوا قريبا من
همذان، واقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الدائرة على منكلى، وقتل من أصحابه
ستة آلاف، ونهبوا أثقاله، فحال بينهم اللّيل فصعد
(6/212)
منكلى على جبل، وابن زين الدين والعساكر
أسفل، وأوقد منكلى نارا عظيمة وهرب فى اللّيل، فأصبح الناس وليس لمنكلى
أثر؛ ثم قتل منكلى بعد ذلك. وأزبك خان هذا هو غير أزبك خان النّترىّ
المتأخّر.
وفيها أخذ خوارزم شاه محمد [بن تكش «1» ] مدينة غزنة من يلدز تاج الدين
مملوك شهاب الدين [أحمد «2» ] الغورىّ بغير قتال.
وفيها أخذ ابن لاون الإفرنجىّ أنطاكية فى يوم الأحد رابع عشرين شوّال.
وفيها حجّ بالناس ابن أبى فراس من العراق نيابة عن محمد بن ياقوت.
وفيها توفّى علىّ ابن الخليفة الناصر لدين الله العباسىّ وكنيته أبو
الحسن. وكان لقّبه أبوه الخليفة بالملك المعظّم، وكان جليلا نبيلا. مات
فى ذى القعدة وأخرج تابوته وبين يديه أرباب الدولة. ومن الاتّفاق
الغريب أنّه يوم الجمعة دخل بغداد رأس منكلى على رمح، وزيّنت بغداد
وأظهر الخليفة السرور والفرح، ووافق تلك الساعة وفاة ابن الخليفة علىّ
هذا، ووقع صراخ عظيم فى دار الخلافة، فانقلب ذلك الفرح بحزن. وخرجت
المخدّرات من خدورهنّ ونشرن شعورهنّ.
قال أبو المظفّر: «ولطمن وقام النوائح فى كلّ ناحية، وعظم حزن الخليفة
بحيث إنه امتنع من الطعام والشراب، وغلّقت الأسواق، وعطّلت الحمّامات،
وبطل البيع والشّراء، وجرى ما لم يجر قبله. وكان الخليفة قد رشّحه
للخلافة، ففعل الله فى ملكه ما أراد. وخلّف ولدين: أبا عبد الله الحسين
ولقّبه جدّه «المؤيد» ويحيى ولقّبه ب «الموفّق» .
(6/213)
وفيها توفّى المبارك بن المبارك أبو بكر
الواسطىّ النحوىّ. ولد سنة أربع «1» وثلاثين وخمسمائة، وكان حنبليّا،
ثم صار حنفيّا، ثم صار شافعيّا لأسباب وقعت له، وكان قرأ الأدب على ابن
الخشّاب «2» وغيره، وكان أديبا فاضلا شاعرا.
ومن شعره- رحمه الله- قوله:
لا خير فى الخمر فمن شأنها ... إفقادها العقل وجلب الجنون
أو أن ترى الأقبح مستحسنا ... وتظهر السرّ الخفىّ المصون
قلت: ويعجبنى قول القائل، وهو قريب ممّا نحن فيه:
على قدر عقل المرء فى حال صحوه ... تؤثّر فيه الخمر فى حال سكره
فتأخذ من عقل كبير أقلّه ... وتأتى على العقل اليسير بأسره
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الفقيه
سليمان بن محمد بن علىّ الموصلىّ فى صفر، وله أربع وثمانون سنة. وأبو
العبّاس أحمد بن يحيى ابن بركة الدّبيقىّ «3» البزّاز فى شهر ربيع
الأول، وله أربع وثمانون سنة أيضا.
والحافظ عبد القادر [بن «4» عبد الله أبو محمد] الرّهاوى «5» بحرّان،
وله ست وسبعون سنة فى جمادى الأولى. وأبو الفرج [يحيى «6» ] بن ياقوت
الفرّاش «7» فى جمادى الاخرة. والقدوة
(6/214)
الزاهد أبو الحسن «1» علىّ بن الصّبّاغ بن
حميد الصّعيدىّ ببلدة قنا «2» . وأبو الفتوح «3» محمد بن علىّ
الجلاجلىّ التاجر بالقدس عن إحدى وسبعين سنة. ومحمد «4» بن أبى المعالى
[عبد الله «5» ] بن موهوب الصوفىّ ابن البنّاء فى ذى القعدة. وأبو محمد
عبد العزيز بن معالى [بن غنيمة «6» بن الحسن المعروف ب] ابن منينا
الاشنانىّ، وله سبع وثمانون سنة.
مات فى ذى الحجّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست
عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 613]
السنة السابعة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر،
وهى سنة ثلاث عشرة وستمائة.
فيها جهّز الخليفة الناصر لدين الله ولدى ولده المقدّم ذكرهما إلى
تستر، وضمّهما إلى بدر الدين محمد سبط «7» العقاب، وخرج أرباب الدولة
بين يديهما، وضرب لهما خيمة الأطلس بأطناب خضر إبريسم، وعلى رءوسهما
الشمسيّة والبنود والأعلام،
(6/215)
وخلفهما الكوسات، وسار معهما نجاح «1»
الشرّابىّ والمكين «2» القمّىّ بالعساكر فى سابع المحرّم، فأقاما بتستر
شهرين فلم تطب لهما، فعادا إلى بغداد عند جدّهما الخليفة فى شهر ربيع
الآخر.
وفيها توفّى الملك الظاهر غازى- على ما يأتى ذكره- فى هذه السنة.
وتوجّه الشيخ أبو العبّاس عبد السلام بن [أبى «3» ] عصرون رسولا من
الملك العزيز محمد بن الظاهر غازى المذكور إلى الخليفة الناصر لدين
الله يطلب تقريره بسلطنة حلب على ما كان أبوه عليها.
وفيها قصد الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق الاجتماع بأخيه الملك الأشرف
موسى، فاجتمعا بنواحى الرّقة، وفاوض المعظّم الأشرف فى أمر حلب.
وفيها حجّ بالناس من العراق ابن أبى فراس، ومن الشام الشيخ علم الدين
الجعبرىّ.
وفيها توفّى زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن [بن زيد «4» بن الحسن] بن
سعيد بن عصمة بن حمير «5» العلامة تاج الدين أبو اليمن الكندى
البغدادىّ المقرئ النحوىّ اللغوىّ. مولده فى شعبان سنة عشرين وخمسمائة،
وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وكمّل القراءات العشر وله عشر سنين.
(6/216)
قال الذهبىّ: «وكان أعلى أهل الأرض إسنادا
فى القراءات، فإنّى لا أعلم أحدا من الأئمة عاش بعد ما قرأ القراءات
[ثلاثا «1» و] ثمانين سنة غيره. هذا مع أنّه قرأ على أسنّ شيوخ العصر
بالعراق، ولم يبق أحد ممّن قرأ عليه مثل بقائه ولا قريبا منه، بل آخر
من قرأ عليه الكمال [بن «2» ] فارس، وعاش بعده نيّفا وستين سنة. ثم
إنّه سمع الحديث على الكبار، وبقى مسند الزمان فى القراءات والحديث» .
انتهى كلام الذهبىّ باختصار. وكان فاضلا أديبا ومات فى شوّال. ومن
شعره- رحمه الله تعالى-:
دع المنجّم يكبو فى ضلالته ... إن ادّعى علم ما يجرى به الفلك
تفرّد الله بالعلم القديم فلا ال ... إنسان يشركه فيه ولا الملك
وفيها توفّى سعيد بن حمزة بن أحمد أبو الغنائم بن شاروخ «3» الكاتب
العراقىّ.
كان فاضلا بارعا فى الأدب، وله رسائل ومكاتبات وشعر. ومن شعره القصيدة
التى أوّلها:
يا شائم البرق من نجدىّ «4» كاظمة ... يبدو مرارا وتخفيه الدياجير
وفيها توفّى السلطان الملك الظاهر أبو منصور غازى صاحب حلب ابن السلطان
الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيّوب. ولد
بالقاهرة فى سنة ثمان وستين وخمسمائة فى سلطنة والده. ونشأ تحت كنف
والده، وولّاه أبوه سلطنة حلب فى حياته. وكان ملكا مهيبا وله سياسة
وفطنة، ودولة معمورة بالعلماء والأمراء والفضلاء. وكان محسنا للرعيّة
والوافدين عليه. وحضر معظم غزوات والده
(6/217)
السلطان صلاح الدين، وكان فى دولة الظاهر
هذا من الأمراء: ميمون القصرىّ، والمبارز «1» ابن يوسف بن خطلخ، وسنقر
الحلبىّ، وسرا سنقر، وأيبك فطيس وغيرهم من الصلاحيّة. ومن أرباب
العمائم القاضى بهاء الدين بن شدّاد، والشريف الافتخارىّ الهاشمىّ،
والشريف النّسّابة، وبنو العجمىّ والقيسرانىّ، وبنو الخشّاب [وغيرهم
«2»
] .
وكان ملجأ للغرباء وكهفا للفقراء، يزور الصالحين ويتفقّدهم، ودام على
ذلك إلى أن توفّى ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة بعلّة الذّرب.
ودفن بقلعة حلب، ثم نقل بعد ذلك إلى مدرسته التى أنشأها. وقام بعده
ولده الملك العزيز محمد بوصيّته، وولّاه الخليفة حسب ما تقدّم ذكره.
وفيها توفّى الشيخ عزّ الدين محمد بن الحافظ عبد الغنى المقدسىّ، ولد
سنة ستّ وستين وخمسمائة، وسمع الحديث ورحل البلاد، وكان حافظا ديّنا
ورعا زاهدا.
ودفن بقاسيون «3» .
وفيها توفّى يحيى بن محمد بن محمد بن محمد [بن محمد «4» ] أبو جعفر
الشريف الحسينىّ.
ولى نقابة الطالبيّين بالبصرة بعد أبيه؛ وقرأ الأدب، وسمع الحديث، ومن
شعره- رحمه الله تعالى-:
هذا العقيق وهذا الجزع والبان ... فاحبس فلى فيه أوطار وأوطان
آليت والحرّ لا يلوى أليّته ... ألّا تلذّ بطيب النوم أجفان
حتّى تعود ليالينا التى سلفت ... بالأجرعين وجيرانى كما كانوا
(6/218)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة،
قال: وفيها توفّى العلّامة تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندىّ
فى شوّال، وله ثلاث وتسعون سنة وشهران.
والملك الظاهر أبو منصور غازى ابن السلطان صلاح الدين بحلب فى جمادى
الآخرة.
والمحدّث عزّ الدين محمد ابن الحافظ عبد الغنى المقدسىّ فى شوّال.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع أصابع. مبلغ
الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 614]
السنة الثامنة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر،
وهى سنة أربع عشرة وستمائة.
فيها قدم الملك خوارزم شاه واسمه محمد [بن تكش «1» ] إلى همذان بقصد
«2» بغداد فى أربعمائة ألف مقاتل، وقيل فى ستمائة ألف، فأستعدّ له
الخليفة الناصر لدين الله، وفرّق المال والسلاح، وأرسل إليه الشيخ شهاب
الدّين السّهروردىّ «3» فى رسالة فأهانه واستدعاه وأوقفه إلى جانب
تخته، ولم يأذن له بالقعود.
قال أبو المظفّر:- «حكى الشهاب قال- استدعانى فأتيت إلى خيمة عظيمة لها
دهليز لم أر فى الدنيا مثله، والدّهليز والشقة أطلس والأطناب حرير، وفى
الدّهليز ملوك العجم على اختلاف طبقاتهم: صاحب همذان وأصبهان والرّى
وغيرهم، فدخلنا إلى خيمة أخرى إبريسم؛ وفى دهليزها ملوك خراسان: مرو
ونيسابور وبلخ وغيرهم؛ ثم دخلنا خيمة أخرى، وملوك ما وراء النهر فى
دهليزها، كذلك ثلاث خيام.
(6/219)
ثم دخلنا عليه وهو فى خركاة عظيمة من ذهب؛
وعليها سجاف مرصّع بالجواهر.
وهو صبىّ له شعرات قاعد على تخت ساذج وعليه قباء بخارىّ يساوى خمسة
دراهم، وعلى رأسه قطعة من جلد تساوى درهما، فسلّمت عليه فلم يردّ، ولا
أمرنى بالجلوس؛ فشرعت فخطبت خطبة بليغة، ذكرت فيها فضل بنى العبّاس
ووصفت الخليفة بالزّهد والورع والتّقى والدين؛ والتّرجمان يعيد عليه
قولى. [فلمّا فرغت «1» ] قال للترجمان: قل له هذا الذي وصفته ما هو فى
بغداد؟.: قلت: نعم. قال [أنا «2» ] أجىء وأقيم خليفة يكون بهذه
الأوصاف. ثم ردّنا بغير جواب. فنزل الثّلج عليهم فهلكت دوابّهم وركب
خوارزم شاه يوما فعثر به فرسه فتطيّر، ووقع الفساد فى عسكره وقلّت
الميرة. وكان معه سبعون ألفا من الخطا فردّه الله ونكب تلك النكبة
العظيمة» . وسنذكرها- إن شاء الله تعالى- فى محلّها.
وفيها توفّى إبراهيم [بن «3» عبد الواحد] بن علىّ بن سرور الشيخ العماد
المقدسىّ الزاهد القدوة الحنبلىّ أخو الحافظ عبد الغنى، ولد بجمّاعيل
فى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، فهو أصغر من الحافظ عبد الغنى «4»
بسنتين وسمع الكثير، وكان إماما حافظا عالما محدّثا زاهدا عابدا فقيها.
مات فجأة فى ليلة الأربعاء سادس عشر ذى القعدة.
وفيها توفّى عبد الصمد بن محمد بن أبى الفضل بن علىّ بن عبد الواحد أبو
القاسم القاضى جمال الدين الحرستانىّ «5» الأنصارىّ شيخ القضاة. ولد
بدمشق فى سنة عشرين وخمسمائة، ورحل وسمع الحديث وتفقّه، وكان إماما
عفيفا خطيبا ديّنا صالحا. له حكايات مع الملك المعظّم عيسى فى أحكامه-
رحمه الله تعالى-.
(6/220)
وفيها توفّى محمد بن أبى القاسم بن محمد أبو عبد الله الهكّارىّ الأمير
بدر الدين، استشهد على الطور «1» ، وأبلى بلاء حسنا ذلك اليوم وكان من
المجاهدين، له المواقف المشهودة فى قتال الفرنج، وكان من أكابر أمراء
الملك المعظّم، كان يستشيره ويصدر عن رأيه ويثق به لصلاحه ودينه وكان
سمحا جوادا.
الذين ذكر الذهبى وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المحدّث أبو
الخطّاب أحمد بن محمد البلنسىّ بمرّاكش. وأبو الحسن علىّ بن محمد بن
علىّ الموصلىّ أخو سليمان «2» . وأبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير
الكنانىّ البلنسىّ الأديب الإسكندرانىّ بها، وله أربع وسبعون سنة.
وقاضى القضاة أبو القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستانىّ فى ذى الحجّة،
وله أربع وتسعون سنة وأشهر. والإمام عماد الدين إبراهيم ابن عبد الواحد
المقدسىّ فجأة فى ذى القعدة، وله سبعون سنة. والمحدّث أبو محمد عبد
الله «3» بن عبد الجبّار العثمانىّ الإسكندرانىّ الكارمىّ بمكّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا. |