النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 725]
السنة السادسة عشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على
مصر، وهى سنة خمس وعشرين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله المنصورىّ الدّوادار
صاحب التاريخ فى ليلة الخميس خامس عشرين شهر رمضان. كان أصله من مماليك
الملك المنصور قلاوون، أنشأه ورقّاه إلى أن ولّاه نيابة الكرك إلى أن
عزله الملك الأشرف خليل بالأمير آقوش الأشرفىّ نائب الكرك، ثم صار بعد
ذلك دوادارا وناظر الأحباس مدّة طويلة، ثم ولى نيابة السلطنة فى أيام
الملك الناصر محمد الثالثة فدام مدّة، ثم قبض عليه الملك الناصر وحبسه
إلى أن مات. وقيل أطلقه بعد حبسه بمدّة. وكان أميرا عاقلا فاضلا معظّما
فى الدول، وكان إذا دخل على الملك الناصر يقوم له إجلالا.
وكان له أوقاف على وجوه البرّ، وهو صاحب المدرسة «1» الدّوادارية بخط
سويقة «2» العزّى خارج القاهرة. وله تاريخ «زبدة «3» الفكرة فى تاريخ
الهجرة» فى أحد «4» عشر
(9/263)
مجلدا، أعانه على تأليفه كاتبه ابن كبر «1»
النصرانى. وكان يجلس عند السلطان رأس «2» الميمنة عوضه.
قلت: كانت قاعدة قديم، أنه من كان قديم هجرة من الأمراء يجلس فوق
الجميع، ولم يكن يوم ذاك أمير كبير أتابك العساكر كما هى عادة أيامنا
هذه، وإنما استجدّت هذه الوظيفة فى أيام السلطان حسن، وأوّل من وليها
بخلعة الأمير شيخون، وصارت من يومئذ وظيفة إلى يومنا هذا.
وتوفّى أمير المدينة النبوية الشريف منصور بن جمّاز بن شيحة الحسينىّ
فى حرب كان بينه وبين حديثة ابن «3» أخيه فقتله حديثة المذكور فى رابع
عشرين شهر رمضان، فكانت مدّة ولايته على المدينة ثلاثا وعشرين سنة
وأيّاما، واستقرّ عوضه فى إمرة المدينة ابنه كبيش بن منصور.
وتوفّى الإمام العلّامة البليغ الكاتب المنشئ الأديب شهاب الدين أبو
الثّناء محمود بن سليمان «4» بن فهد الحلبىّ ثم الدّمشقىّ الحنبلىّ
صاحب ديوان الإنشاء بدمشق فى ليلة السبت ثانى عشرين شعبان سنة خمس
وعشرين وسبعمائة. ومولده سنة أربع وأربعين وستمائة، ونشأ بدمشق وسمع
الحديث وكتب المنسوب، ونسخ الكثير وتفقّه على أبى المنجا وغيره، وتأدّب
بابن مالك ولازم مجد «5» الدين بن الظّهير وحذا حذوه وسلك طريقه فى
النظم والكتابة. وولى كتابة سرّ دمشق بعد موت
(9/264)
القاضى «1» شرف الدين عبد الوهاب بن فضل
الله العمرىّ إلى أن مات. وفيه يقول الأديب البليغ ألطنبغا «2»
الجاولى:
قال النّحاة بأنّ الاسم عندهم ... غير المسمّى وهذا القول مردود
الاسم عين المسمّى والدليل على ... ما قلت أنّ شهاب الدين محمود
ومن شعر شهاب الدين المذكور:
رأتنى وقد نال منى النّحول ... وفاضت دموعى على الخدّ فيضا
فقالت بعينى هذا السّقام ... فقلت صدقت وبالخصر أيضا
قلت: وقد مرّ من ذكر الشهاب محمود هذا وشعره قطعة كبيرة فى فتوحات
الملك المنصور قلاوون وغيره.
وتوفّى الخطيب جمال الدين محمد بن تقىّ الدين محمد بن الحسن بن علىّ بن
أحمد بن علىّ ابن محمد «3» القسطلانيّ فى ليلة السبت مستهلّ شهر ربيع
الأول. كان يخطب بجامع القلعة ويصلّى بالسلطان الجمعة، واستمرّ على ذلك
سنين. وبعض الناس يحسب أنّ العادة لا يخطب ويصلّى بالسلطان إلّا القاضى
الشافعىّ، وليس الأمر كذلك.
وما استجدّ هذا إلا الملك الظاهر برقوق فى سلطنته الثانية، وإنما كانت
العادة قبل ذلك من ندبه السلطان أن يخطب ويصلّى به فعل ذلك كائنا من
كان.
وتوفّى الشيخ شرف الدين يونس بن أحمد بن صلاح «4» القلقشندىّ «5»
الفقيه الشافعىّ فى خامس عشرين شهر ربيع الآخر. وكان عالما فاضلا.
(9/265)
وتوفّى الشيخ المقرئ تقىّ الدين محمد بن
أحمد ابن الصّفىّ [عبد الخالق «1» ] الشهير بالتّقىّ الصائغ فى صفر؛
كان فاضلا مقرئا مجوّدا.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان بن عبد الله التّتارىّ المنصورىّ فى ذى
القعدة.
وكان من أعيان مماليك المنصور قلاوون، وصار من أعيان أمراء الديار
المصريّة.
وتوفّيت الشّيخة حجّاب «2» شيخة رباط «3» البغداديّة فى المحرّم. وكانت
خيّرة ديّنة، ولها قدم فى الفقر والتصوّف.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان وستّ أصابع. مبلغ الزيادة
ست عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا. وكان الوفاء أوّل أيام النسىء.
والله تعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 726]
السنة السابعة عشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على
مصر، وهى سنة ستّ وعشرين وسبعمائة.
(9/266)
فيها توفّى شيخ الرافضة جمال الدين الحسين
«1» بن يوسف [بن «2» ] المطهّر الحلّى «3» المعتزلىّ شارح «مختصر ابن
الحاجب» فى المحرّم. كان عالما بالمعقولات، وكان رضىّ الخلق حليما، وله
وجاهة عند خربندا ملك التّتار. وله عدّة مصنّفات، غير أنّه كان رافضيّا
خبيثا على مذهب القوم، ولابن «4» تيميّة عليه ردّ فى أربعة «5»
مجلّدات، وكان يسمّيه ابن المنجّس يعنى عكس شهرته كونه كان يعرف بابن
المطهّر.
وتوفّى الشيخ شرف الدين أبو الفتح أحمد ابن عزّ الدين أبى البركات عيسى
ابن مظفّر بن محمد بن الياس المعروف بابن الشّيرجىّ الأنصارىّ
الدّمشقىّ محتسب دمشق. ومولده سنة سبع وأربعين وستمائة.
وتوفّى الشيخ الإمام سراج الدين عمر «6» بن أحمد بن خضر بن ظافر بن
طرّاد الخزرجىّ المصرىّ الأنصارىّ الشافعىّ خطيب المدينة النبويّة، كان
خطيبا فصيحا مفوّها ديّنا.
وتوفّى الأمير بدر الدين حسن ابن الملك الأفضل [علىّ بن محمود «7» ]
صاحب حماة. كان من أهل العلم، وكان أحد أمراء دمشق، وهو من بيت سلطنة
ورياسة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وعشر أصابع. مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
(9/267)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 727]
السنة الثامنة عشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على
مصر، وهى سنة سبع وعشرين وسبعمائة.
فيها توفّى السلطان أبو يحيى زكريّا بن أحمد بن محمد بن يحيى بن عبد
الواحد ابن أحمد بن محمد اللّحيانىّ «1» المغربىّ ملك تونس بالإسكندرية
بعد أن خرج من بلاده لأمر أوجب ذلك، وترك ملكه ونزل بالإسكندرية وسكنها
بعد أن قدم القاهرة، ثم عاد إلى الإسكندرية، فمات بها.
وتوفى الشيخ الإمام شمس الدين محمد ابن العلّامة الشهاب محمود المقدّم
ذكره فى عاشر شوّال. وكان شمس الدين أيضا كأبيه فاضلا كاتبا بارعا،
وتولّى كتابة سرّ دمشق وهو من بيت رياسة وفضل وكتابة.
وتوفّى قاضى القضاة صدر الدين أبو الحسن علىّ بن صفىّ الدين أبى القاسم
بن «2» محمد بن عثمان البصراوىّ الحنفىّ قاضى قضاة دمشق فى شعبان، بعد
ما حكم بدمشق عشرين سنة وحمدت سيرته، وكان إماما عالما ديّنا عفيفا
مشكور السّيرة.
وتوفى الطّواشى ناصر الدين نصر الشّمسىّ شيخ الخدّام بالحرم النبوىّ.
وكان خيّرا ديّنا يحفظ القرآن ويكثر من التلاوة بصوت حسن.
وتوفّى الأمير سيف الدين كوجرى بن عبد الله أمير شكار بالقاهرة فى تاسع
«3» عشرين ذى الحجّة. وكان أصله من مماليك عزّ الدين «4» أيدمر نائب
الشام فى الأيام الظاهرية، وكان هو من أعيان الأمراء بمصر.
(9/268)
وتوفّى الأمير شمس الدين إبراهيم ابن
الأمير بدر الدين محمد بن عيسى بن التّركمانىّ فى ثالث جمادى الآخرة
بداره بجوار باب البحر، وكان فيه مكارم وله مروءة وعصبيّة مع حشمة
ورياسة، وهو ابن صاحب جامع «1» التّركمانىّ المقدّم ذكره الذي بالقرب
من باب البحر.
وتوفّى الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك السعيد فتح الدين عبد
الملك «2» ابن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الملك
العادل سيف الدين أبى بكر [محمد «3» بن نجم الدين أيّوب] بن شادى بدمشق
فى حادى عشرين جمادى الآخرة عن أربع وسبعين سنة، وكان من جملة أمراء
دمشق معظّما فى الدّول من بيت سلطنة ورياسة.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان بن عبد الله البدرىّ نائب حمص فى ليلة
عيد الفطر. كان من أكابر الأمراء، وفيه شجاعة وإقدام مع كرم وحشمة.
وتوفى لأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير الكبير أرغون بن عبد الله
الدّوادار الناصرىّ نائب «4» السلطنة بالديار المصرية، ثم نائب حلب فى
ثالث عشر شعبان.
وكان ناصر الدين هذا من جملة أمراء الديار المصرية معظّما فى الدولة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله المغربى «5» الحاجب
بالديار المصرية فى ثامن شهر رمضان «6» وكان مقرّبا عند الملك الناصر،
ومن أعيان أمرائه.
(9/269)
وتوفّى العلّامة قاضى القضاة ذو الفنون
جمال الإسلام كمال الدين أبو المعالى محمد بن علىّ بن عبد الواحد [بن
عبد الكريم «1» ] الزّملكانىّ «2» الأنصارىّ السّماكىّ «3» الدّمشقىّ
الشافعىّ قاضى قضاة دمشق بمدينة بلبيس «4» فى سادس «5» عشر رمضان.
ومولده سنة سبع «6» وستين وستمائة فى شوّال. وكان إماما علّامة بصيرا
بمذهبه وأصوله، قوىّ العربية صحيح الذهن فصيحا أديبا ناظما ناثرا، أفتى
وله نيّف وعشرون سنة، وصنّف وكتب؛ ومن مصنّفاته رسالة فى الردّ على
الشيخ تقي الدين فى مسألة الطلاق، ورسالة فى الردّ عليه فى مسألة
الزيارة، وشرح قطعة من المنهاج «7» ، ونظم ونثر وتولّى قضاء دمشق بعد
القاضى جلال الدين القزوينىّ لمّا نقل إلى قضاء الديار المصريّة،
فتوجّه إلى مصر فمات ببلبيس. ومن شعره قصيدته التى مدح بها النّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم التى أوّلها «8» :
أهواك يا ربّة الأستار أهواك ... وإن تباعد عن مغناى مغناك
وأعمل العيس والأشواق ترشدنى ... عسى يشاهد معناك معنّاك
تهوى بها البيد «9» لا تخشى الضلال وقد ... هدت ببرق الثنايا الغرّ
مضناك
تشوقها نسمات الصبح سارية ... تسوقها نحو رؤياك بريّاك
(9/270)
ومنها:
إنّى قصدتك لا ألوى على بشر ... ترمى النوى بى سراعا نحو مسراك
وقد حططت رحالى فى حماك عسى ... تحطّ أثقال أو زارى بلقياك
كما حططت بباب المصطفى أملى ... وقلت للنفس بالمأمول بشراك
محمد خير خلق الله كلّهم ... وفاتح الخير ماحى كلّ إشراك
قلت: وهى أطول من ذلك وكلها على هذا المنوال، وهو نظم فقيه لا بأس به.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 728]
السنة التاسعة عشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على
مصر، وهى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
فيها توفّى شيخ الإسلام تقىّ الدين أبو العبّاس أحمد بن عبد الحليم ابن
عبد السلام بن عبد الله بن أبى القاسم [الخضر «1» ] بن محمد بن تيميّة
الحرّانىّ الدّمشقىّ الحنبلىّ بدمشق فى ليلة الاثنين العشرين من ذى
القعدة فى سجنه بقلعة دمشق. ومولده فى يوم الاثنين عاشر ربيع الأوّل
سنة إحدى وستين وستمائة.
وكان سجن بقلعة دمشق لأمور «2» حكيناها فى غير هذا المكان. وكان إمام
عصره بلا
(9/271)
مدافعة فى الفقه والحديث والأصول والنحو
واللّغة وغير ذلك. وله عدّة مصنّفات «1» مفيدة يضيق هذا المحلّ عن ذكر
شىء منها. أثنى عليه جماعة من العلماء مثل الشيخ تقىّ «2» الدين بن
دقيق العيد والقاضى شهاب الدين الجوينى والقاضى شهاب الدّين ابن
النّحاس. وقال القاضى كمال الدين بن الزّملكانىّ المقدّم ذكره: اجتمعت
فيه شروط الاجتهاد على وجهها، ثمّ جرت له محن فى مسألة الطلاق الثلاث،
وشدّ الرّحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، وحبّب للناس القيام عليه.
وحبس مرات بالقاهرة والإسكندرية ودمشق، وعقد له مجالس بالقاهرة ودمشق
مع أنّه حصل له فى بعضها تعظيم من الملك الناصر محمد بن قلاوون، وأطلق
وتوجّه إلى دمشق وأقام بها إلى أن ورد مرسوم شريف فى سنة ستّ وعشرين
وسبعمائة بأن يجعل فى قلعة دمشق فى قاعة، فجعل فى قاعة حسنة وأقام بها
مشغولا بالتصنيف والكتابة.
ثم بعد مدّة منع من الكتابة والمطالعة وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم
يتركوا عنده دواة ولا قلما ولا ورقة، ثم ساق ابن الزّملكانى كلاما
طويلا الأليق الإضراب عنه.
وتوفّى الأمير سيف الدين جوبان بن تلك بن ندوان «3» نائب القان بو سعيد
ملك التّتار، وكان جوبان هذا قد ثقل على بو سعيد فأسرّ إلى خاله ايرنجى
«4» قتله
(9/272)
فلم يمكنه ذلك، فأخذ ابنه دمشق «1» خجا
وقتله «2» ، ففرّ جوبان إلى هراة فلم يسلم وقتل بها. وكان شجاعا عالى
الهمّة حسن الإسلام. أجرى العين إلى مكّة فى جمادى الأولى سنة ستّ
وعشرين وسبعمائة، وأنشأ مدرسة بالمدينة النبويّة، ولمّا مات حمل إلى
مكّة مع الرّكب العراقىّ وطيف به الكعبة ووقف به عرفة وهو ميّت، ثم مضى
به إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فدفن بالبقيع.
وتوفّى أمير المدينة النبويّة الشريف كبيش بن منصور بن جمّاز الحسينىّ
المدنىّ فى أوّل «3» شعبان قتيلا. وكانت ولايته على المدينة بعد قتل
أبيه منصور فى رابع «4» عشر رمضان سنة خمس وعشرين وسبعمائة، قتله أولاد
ودّى «5» ، وكان ودّى قد حبس بقلعة الجبل، فولى بعده إمرة المدينة أخوه
طفيل.
وتوفّى الأمير الكبير شمس الدين قراسنقر بن عبد الله المنصورىّ بمدينة
مراغة «6» من عمل أذربيجان «7» فى يوم السبت سابع عشرين شوّال، وكان من
كبار المماليك المنصوريّة وأجلّ أمرائهم، وقد ولى نيابة حلب والشام ثم
حلب، وهو أحد من كان سببا فى قتل الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وأحد من
كان السبب لعود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى ملكه فى هذه المرّة
الثالثة، وقد مرّ من ذكره فى ترجمة المظفّر بيبرس الجاشنكير، وفى أوّل
سلطنة الملك الناصر الثالثة، وحكينا
(9/273)
كيفية خروجه من البلاد الحلبية إلى التتار،
فلا حاجة إلى ذكر ذلك ثانيا، وما ذكرناه هنا إلّا بسبب وفاته والتعريف
به. انتهى.
وتوفّى ببغداد مفتى العراق وعالمه الشيخ جمال «1» الدين عبد الله بن
محمد بن علىّ ابن حمّاد بن ثابت الواسطى مدرّس المستنصريّة «2» فى ذى
القعدة. ومولده فى سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
وتوفّى الأمير سيف الدين جوبان بن عبد الله المنصورىّ أحد أكابر أمراء
دمشق بها فى العشرين من صفر سنة ثمان وعشرين، وكان شجاعا مقداما.
وتوفّى الأمير سيف الدين بكتمر البوبكرىّ «3» فى سجنه بقلعة الجبل يوم
الخميس النصف من شعبان. وكان من أكابر الأمراء من أصحاب بيبرس
الجاشنكير وسلّار، فلمّا تسلطن الملك الناصر ثالث مرّة قبض عليه فى
جملة من قبض عليهم وحبسه بقلعة الجبل إلى أن مات.
وتوفّى الشيخ عفيف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المحسن الواعظ
الشهير بابن الخرّاط البغدادى الدّوالينىّ الحنبلىّ فى هذه السنة.
ومولده فى سنة بضع «4» وثلاثين وستمائة. وكان إماما واعظا بليغا،
ولوعظه موقع فى القلوب وعليه قابليّة.
(9/274)
وتوفّى الأمير جمال الدين خضر بن نوكاى «1»
التتارى أخو خوند أردوكين «2» الأشرفية المتوفية فى سنه أربع وعشرين.
وكان خضر هذا من أعيان أمراء الديار المصرية، وله حرمة وثروة وحشم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشر أصابع. مبلغ
الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 729]
سنة عشرين من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى
سنة تسع وعشرين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير غرس الدين خليل بن الإربلىّ أحد أمراء العشرات بديار
مصر فى سادس صفر، وأنعم السلطان بإمرته على إياجى الساقى. وكان خليل
المذكور شجاه اصلا وجيها فى الدولة.
وتوفى الأمير سعد الدين سعيد ابن الأمير الكبير حسام الدين حسين فى
ثامن عشر المحرم وأنعم بإمرته على تكا «3» الناصرىّ.
وتوفّى الشيخ الإمام الفقيه جمال الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن
أحمد «4» الواسطىّ الأشمومىّ «5» الشافعىّ المعروف بالوجيزى لكثرة
قراءته «كتاب الوجيز «6» »
(9/275)
فى الفقه فى ثامن «1» عشر المحرّم. وكان
فقيها عالما معدودا من فقهاء الشافعية، وتولّى قضاء قليوب والجيزة.
وتوفّى الأمير الكبير شرف الدين حسين بن أبى بكر بن أسعد «2» بن
جندرباك الرومىّ فى سادس «3» المحرّم. وكان قدم صحبة أبيه إلى الديار
المصرية فى سنة خمس وسبعين وستمائة فى أيام الملك الظاهر بيبرس
البندقدارىّ فى جملة من قدم من أهل الروم.
وكان أبوه أمير جاندار متملّك بلاد الروم معظّما فى بلاده. وكان أمير
حسين هذا رأس مدرج لحسام الدين لاچين لما كان نائب الشام، لأنه كان
رأسا فى الصيد ولعب الطين، فلمّا تسلطن لاچين أمّره عشرة بمصر، ثم وقع
له أمور وصار من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق، ونادم الأفرم نائب الشام
إلى أن فرّ [الأفرم «4» إلى بلاد التّتار] . توجّه الأمير حسين هذا إلى
الملك الناصر محمد إلى الكرك، ثم توجه معه إلى الديار المصرية وصار
مقرّبا عنده. وكان يجيد لعب الصيد والرّمى بالنّشّاب، فأنعم عليه الملك
الناصر بتقدمة ألف بالديار المصرية، وأفرد له زاوية من الطيور الخاص،
وجعله أمير شكار رفيقا للأمير الكوجرى، وصار له حرمة وافرة بالقاهرة.
ووقع له أمور ذكرناها فى ترجمته فى «المنهل الصافى» مستوفاة. وطالت
أيام الأمير حسين هذا فى السعادة. وعمر جامعه «5» قريبا من بستان
العدّة والقنطرة «6» التى على الخليج بحكر «7» جوهر النّوبىّ ولمّا فرغ
من عمارة الجامع المذكور أحضر إليه المشدّ والكاتب حساب المصروف فرمى
به إلى الخليج، وقال: أنا خرجت عن هذا لله تعالى، فإن
(9/276)
خنتما فعليكما، وإن وفّيتما فلكما. وكان
خفيف الرّوح دائم البشر لطيف العبارة، وكانت فى عبارته عجمة لكنة، كان
إذا قال الحكاية أو النادرة يظهر لكلامه حلاوة فى القلب والسمع.
وتوفّى الأمير سيف الدين بكتمر «1» بن عبد الله الحسامىّ الحاجب فى يوم
الأربعاء حادى عشرين شهر ربيع الآخر «2» بداره «3» خارج باب النصر.
وأنعم السلطان على ولده ناصر الدين محمد بإمرة عشرة وسنّه يومئذ ثلاث
عشرة سنة. وفرّق الملك الناصر إقطاعه على جماعة، فكمل للأمير طرغاى «4»
الجاشنكير تقدمة ألف، وأنعم على الأمير قوصون الناصرىّ بمنية «5» زفتة.
وكان أصل بكتمر هذا من جملة مماليك الأمير حسام الدين طرنطاى نائب
السلطنة للملك المنصور قلاوون، وكان أخذ من بلاد الروم سنة خمس وسبعين
«6» وستمائة فيما أخذ «7» من مماليك السلطان غياث الدين كيخسرو
(9/277)
متملّك بلاد الروم عندما دخل الملك الظاهر
بيبرس إلى مدينة قيسريّة «1» ، وقد تقدّم ذكر ذلك فى ترجمة «2» الظاهر.
فصار بكتمر هذا إلى طرنطاى، وطرنطاى يوم ذاك مملوك الأمير سيف الدين
قلاوون الألفىّ قبل سلطنته فربّاه وأعتقه. فلمّا قتل طرنطاى صار بكتمر
هذا للأشرف خليل، فرتّبه فى جملة الأوجاقيّة فى الإسطبل السلطانىّ.
ثم نقله [المنصور «3» لاچين] وجعله أمير آخور صغيرا، ثم أنعم عليه
بإمرة عشرة بعد وفاة الفاخرىّ «4» . وما زال يترقّى حتّى ولى الوزارة،
ثم الحجوبيّة بدمشق ثم نيابة غزّة ثم نيابة صفد ثم حجوبيّة الحجّاب
بديار مصر إلى أن مات. وهو صاحب المدرسة والدار «5» خارج باب النصر من
القاهرة. وخلّف أموالا كثيرة، وكان معروفا بالشّحّ وجمع المال.
قلت: وعلى هذا كان غالب أولاده وذريّته ممّن أدركنا. قال الشيخ صلاح
الدين الصّفدىّ فى تاريخه: «وكان له حرص عظيم على جمع المال إلى
الغاية، وكان له الأملاك الكثيرة فى كلّ مدينة، وكان له قدور يطبخ فيها
الحمّص والفول وغير ذلك من الأوانى تكرى، وكان بخيلا جدّا. حكى لى
الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس قال: كنت عنده يوما وبين يديه صغير من
أولاده وهو يبكى ويتعلّق فى رقبته ويبوس صدره، فلمّا طال ذلك من الصغير
قلت له: ياخوند، ماله؟
قال: شيطان يريد قصب مصّ. فقلت: يا خوند اقض شهوته. فقال: يا بخشى «6»
(9/278)
سيّر إلى السّوق أربع فلوس هات له عودّا.
فلمّا حضر العود القصب وجدوا الصغير قد نام ممّا تعنّى وتعب فى طلب
القصب. فقال الأمير بكتمر: هذا قد نام، ردّوا العود وهاتوا الفلوس!» .
انتهى كلام الصّفدىّ.
قلت: ولأجل هذا كانت له تلك الأملاك الكثيرة والأموال الجمّة. وإلّا من
هو بكتمر بالنسبة إلى غيره من الأتابكيّة ونوّاب البلاد الشاميّة
وغيرهم من عظماء الأمراء! ولكن هذا من ذاك. انتهى.
وتوفّى الشيخ الإمام جلال الدين أبو بكر عبد الله بن يوسف بن إسحاق بن
يوسف الأنصارىّ الدّلاصىّ «1» إمام الجامع الأزهر بالقاهرة عن بضع
وثمانين سنة.
وكان يعتقد فيه الخير، وله شهرة بالدّين والصلاح.
وتوفّى قاضى قضاة دمشق علاء الدين أبو الحسن علىّ بن إسماعيل بن يوسف
القونوىّ الشافعىّ فى يوم السبت رابع عشر ذى القعدة. وكان عالما مصنّفا
بارعا فى فنون من العلوم.
وتوفّى الأمير عزّ الدين أيبك الخطيرىّ أمير آخور فى العشرين «2» من ذى
القعدة.
وتوفّى الأمير سيف الدين ساطلمش بن عبد الله الفاخرىّ فى ثالث ذى
الحجّة، وأنعم بإقطاعه على الأمير كوجبا الساقىّ. وكان قديم هجرة فى
الأمراء، وله وجاهة عند السلطان وغيره.
وتوفى الأمير ناصر الدين نصر الطّواشى شيخ الخدّام بالحرم النبوىّ،
ومقدّم المماليك السلطانية معا فى يوم الخميس عاشر شهر رجب. واستقرّ
عوضه فى مشيخة الخدّام وتقدمة المماليك السلطانية الطّواشىّ عنبر
السّحرتى. [ومات عزّ الدين «3» ] القيمرىّ.
(9/279)
وتوفّى الأمير علاء الدين علىّ بن الكافرى
والى قوص. كان ولى عدّة أعمال، وكان من الظّلمة.
وتوفّى الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الأيدمرىّ فى شهر ربيع
الأول.
وتوفّى الشيخ عزّ الدين أبو يعلى حمزة ابن المؤيّد أبى المعالى [أسعد
«1» ] بن المظفّر بن أسعد بن حمزة القلانسىّ الشافعىّ بدمشق.
وتوفّى الشيخ الإمام نجم «2» الدين أبو عبد الله محمد بن عقيل بن أبى
الحسن بن عقيل البالسىّ الشافعىّ بمصر. كان إماما فقيها مدرّسا مصنّفا،
شرح التنبيه فى الفقه.
وتوفّى القاضى معين الدين هبة الله ابن علم الدين مسعود بن عبد الله
«3» بن حشيش، صاحب ديوان الجيش بمصر، ثم ناظر جيش دمشق فى جمادى
الآخرة. كان إماما فاضلا أديبا نحويّا كاتبا، وله فضائل، وتنقّل فى
عدّة خدم.
وتوفّى الأمير حسام الدين لاچين بن عبد الله الصغير بقلعة البيرة «4» .
وتوفّى شرف الدين يعقوب بن عبد الكريم بن أبى المعالى الحلبىّ «5»
بحماة. كان فاضلا كاتبا تنقّل فى عدّة خدم بالبلاد الشاميّة وغيرها،
وتولّى كتابة السّرّ بحلب غير مرّة، وكان فيه رياسة وحشمة. «6» وفيه
يقول الشيخ جمال الدين بن نباته:
قالت العليا لمن حاولها ... سبق الصاحب واحتلّ ذارها
فدعوا كسب المعالى إنّها ... حاجة فى نفس يعقوب قضاها
(9/280)
وتوفّى الامير سيف الدين أغزلو «1» بن عبد
الله الرّكنى منفيّا بقوص فى ربيع الآخر، وكان من أعيان الأمراء أصحاب
بيبرس وسلّار.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأصابع. مبلغ الزيادة
ستّ عشرة ذراعا وخمس أصابع. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 730]
سنة إحدى وعشرين من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على
مصر، وهى سنة ثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى المسند المعمّر الرّحلة أحمد بن أبى طالب بن أبى النّعم بن
نعمة بن الحسن بن علىّ المعروف بابن الشّحنة وبالحجّار الصالحىّ
الدمشقىّ فى خامس عشرين صفر. ومولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة. ومات وهو
مسند الدنيا وتفرّد بالرواية عن ابن الزّبيدىّ «2» وابن اللّتّى «3»
مدّة سنين لا يشاركه فيها أحد، وسمع الناس عليه صحيح البخارىّ أكثر من
سبعين مرّة لعلوّ سنده. وقدم القاهرة مرتين، وحدّث بها ورحل إليه من
الأقطار.
وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر آص المنصورىّ أحد أمراء الألوف بدمشق فى
تاسع عشر صفر الخير، وأنعم بإقطاعه على الأمير سنجر البشمقدار «4» .
وكان بهادر شجاعا مقداما فى الحرب، وتولّى نيابة صفد. وكان له أربعة
أولاد منهم اثنان
(9/281)
أمراء، فكان يضرب على بابه ثلاث طبلخانات.
وقد تقدّم ذكره فى أواخر ترجمة «1» المظفّر بيبرس الجاشنكير لمّا قدم
مملوك الملك الناصر على الأفرم نائب الشام ونحوه.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان بن عبد الله الدّوادارى المهمندار بدمشق
فى نصف جمادى الأولى، وكان من جملة أكابر أمراء دمشق.
وتوفّى الأمير سيف الدين قلبرس «2» بن الأمير سيف الدين طيبرس الوزيرىّ
بدمشق فى ليلة الجمعة ثامن ذى القعدة. وكان من جملة أمراء دمشق، وكان
فيه مكارم وحشمة.
وتوفّى الأمير عزّ الدين ألدمر «3» بن عبد الله أمير جاندار مقتولا
بمكّة المشرّفة فى يوم الجمعة رابع عشر ذى الحجة. وسبب قتله أنه توجّه
إلى الحج فى هذه السنة، فقتله بعض عبيد أمير مكّة محمد «4» بن عقبة بن
إدريس بن قتادة الحسنىّ. وسببه أن بعض عبيد مكّة عبثوا على بعض حجّاج
العراق وتخطّفوا أموالهم، فاستصرخ الناس به، وكان قد تأخّر عن الحاج مع
أمير الركب لصلاة الجمعة بمكة، فنهض والخطيب على المنبر، فمنعهم من
الفساد ومعه ولده، فتقدّم الولد فضرب بعض عبيد مكّة فضربه العبد بحربة
فقتله. فلمّا رأى أبوه ذلك اشتدّ حنقه وحمل ليأخذ بثأر ابنه، فرمى
الآخر بحربة فمات. وتفرّق الناس وركب بعضهم بعضا ونهبت الأسواق، وقتل
خلق من الحجّاج وغيرهم. وصلّى بعض الناس والسيوف تعمل، وقتل مع ألدمر
(9/282)
مملوكه وأمير عشرة يعرف بابن التّاجى «1» .
وتراجع الأمراء المصريون إلى مكّة لطلب بعض الثأر فلم ينتج أمرهم
وعادوا فارّين. ثم أمر أمير المصريين بالرحيل، وعادوا إلى القاهرة
وأخبروا الملك الناصر محمد بن قلاوون، فجهّز إلى مكة عسكرا كثيفا وعليه
عدّة من الأمراء، فتوجّهوا وأخذوا بثأر ألدمر وابنه، وقتلوا جماعة
كثيرة من العبيد وغيرهم وأسرفوا فى ذلك وخرجوا عن الحدّ إلى الغاية،
وتشتّت أشراف مكة والعبيد عن أوطانهم وأخذت أموالهم، وحكمت الترك مكّة
من تلك السنة إلى يومنا هذا، وزال منها سطوة أشراف مكّة الرافضة
والعبيد إلى يومنا هذا. وانقمع أهلها وارتدعوا، وكرههم الملك الناصر
ومقتهم وأقصاهم «2» ، حتى إنه لمّا حجّ بعد ذلك كان إذا أتاه صاحب مكّة
لا يقوم له مع تواضع الملك الناصر للفقهاء والأشراف والصلحاء وغيرهم.
وكان ألدمر المذكور معظّما عند الناصر وجيها فى دولته، وله الأملاك
الكثيرة والأموال الجزيلة، وكان خيّرا ديّنا صالحا.
وتوفّى القاضى الرئيس علاء الدين أبو الحسن علىّ ابن القاضى تاج الدين
أحمد ابن سعيد بن محمد بن سعيد المعروف بابن الأثير كاتب سرّ مصر، فى
يوم الأربعاء خامس عشر المحرم بعد ما تعطّل وأصابه مرض الفالج مدّة
سنين. وكان ذا سعادات جليلة وحرمة وافرة وجاه عريض، يضرب به المثل فى
الحشمة والرياسة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قدادار بن عبد الله والى القاهرة وصاحب
القنطرة «3» على خليج «4» الناصرىّ خارج القاهرة فى سادس عشر صفر.
وأنعم بإمرته على الأمير ما جار القبجاقىّ. وأصل قدادار هذا من مماليك
الأمير برلغى «5» الأشرفىّ المقدّم ذكره،
(9/283)
وترقّى إلى أن ولى كشف الغربيّة وولاية
البحيرة من أعمال الديار المصريّة، ثم ولاية القاهرة وتمكّن منها
تمكّنا زائدا، وكان جريئا على الدنيا، ثم صرف عن ولاية القاهرة بناصر
الدين محمد [بن «1» ] المحسنى، وأقام فى داره إلى أن خرج للحجّ ثم عاد
وهو مريض، فلزم الفراش إلى أن مات فى التاريخ المذكور.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد [بن محمد «2» ] الرّومىّ شيخ خانقاه «3»
بكتمر الساقى فى يوم الأحد ثالث عشرين «4» ذى الحجة، وولّى عوضه الشيخ
زاده الدّوقاتى «5» . رحمه الله.
وتوفى الوزير شمس الدين أبو القاسم محمد بن محمد بن سهل بن أحمد «6» بن
سهل [الأزدىّ «7» ] الغرناطىّ الأندلسىّ بالقاهرة قافلا من الحجّ.
وتوفّى الأمير سيف «8» الدين كجكن بن عبد الله الساقى الناصرىّ فى سادس
صفر.
وكان من خواصّ الملك الناصر محمد وأكبر مماليكه.
وتوفّى الشيخ الإمام الأديب ناصر الدين شافع «9» بن علىّ بن عباس بن
إسماعيل بن عساكر الكنانىّ «10» العسقلانىّ ثم المصرىّ سبط الشيخ محيى
الدين بن عبد الظاهر.
(9/284)
ومولده فى سنة تسع وأربعين وستمائة. وكان
يباشر الإنشاء بمصر ودام على ذلك سنين إلى أن أصابه سهم فى نوبة «1»
حمص الكبرى سنة ثمانين وستمائة فى صدغه فعمى منه، وبقى ملازم بيته إلى
أن مات. وكان إماما أديبا فاضلا ناظما ناثرا جمّاعا للكتب، خلّف ثمانى
عشرة «2» خزانة كتب نفائس أدبيّة وغيرها. ومن شعره بعد عماه:
أضحى وجودى برغمى فى الورى عدما ... وليس لى فيهم ورد ولا صدر
عدمت عينى ومالى فيهم أثر ... فهل وجود ولا عين ولا أثر
وله أيضا:
قال لى من رأى صباح مشيبى ... عن شمالى ولمّتى ويمينى
أىّ شىء هذا فقلت مجيبا ... ليل شكّ محاه صبح يقين
وله فى شبّابة «3» :
سلبتنا شبّابة بهواها ... كلّ ما ينسب اللبيب إليه
كيف لا والمحسّن القول فيها ... آخذ أمرها بكلتا يديه
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة
سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 731]
سنة اثنتين وعشرين من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على
مصر، وهى سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة.
(9/285)
فيها توفّى الأمير شهاب الدين صمغار «1»
ابن الأمير شمس الدين «2» سنقر الأشقر فى ثالث عشر «3» المحرّم. وكان
من جملة أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، وأنعم الملك الناصر بإقطاعه
على بهادر [بن أوليا «4» ] بن قرمان. وكان صمغار المذكور بطلا شجاعا
يخافه الملك الناصر، وفرح بموته.
وتوفّى الأمير علاء الدين «5» علىّ ابن الأمير قطلوبك الفخرىّ أحد
أمراء العشرات فى سابع عشرين المحرّم، وأنعم بإقطاعه على الزّينى أمير
حاجّ ابن الأمير طقزدمر الحموىّ.
وتوفّى الأمير سيف الدين منكلى بغا السلاح دار فى يوم الأحد سادس «6»
صفر ودفن خارج باب النصر من القاهرة. وكان أحد أمراء الألوف بالديار
المصرية، وأنعم السلطان بإمرته على الأمير تمربغا السّعدىّ. وكان منكلى
بغا المذكور كثير الأكل كثير النكاح، وله فيهما حكايات عجيبة مضحكة.
وتوفّى قاضى القضاة بدمشق عزّ الدين أبو عبد الله محمد ابن تقىّ الدين
سليمان ابن حمزة بن أحمد بن عمر ابن الشيخ أبى عمر محمد بن أحمد بن
قدامة الحنبلىّ الدّمشقىّ بها فى يوم الأربعاء تاسع صفر. وكان ولى قضاء
الحنابلة بدمشق بعد القاضى شرف الدين أبى محمد «7» عبد الله بن الحسن
بن عبد الله بن عبد الغنىّ المقدسىّ إلى أن مات فى هذا التاريخ. وكان
عالما فاضلا مشكور السّيرة.
(9/286)
وتوفّى الأمير قجليس بن عبد الله أمير سلاح
فى يوم الثلاثاء خامس عشر صفر، وأنعم السلطان بإقطاعه وهو إمرة مائة
على الأمير ساطلمش الجلالى. وكان قجليس المذكور من أعيان أمراء الديار
المصرية وأماثلهم.
قلت: ولم يكن» أمير سلاح» تلك الأيام فى رتبة أيّامنا هذه. وإنّما كان
أمره أنه يحمل سلاح السلطان ويناوله إيّاه فى يوم الحرب وفى عيد
النّحر، وكان يجلس حيث كانت منزلته، واستمرّ ذلك إلى أوائل سلطنة الملك
الظاهر برقوق حسب ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى فى محلّه.
وتوفّى الأمير سيف الدين طرجى «1» بن عبد الله الساقى أمير مجلس فى يوم
الأربعاء سادس شهر ربيع الآخر. وكانت وظيفة أمير مجلس يوم ذاك أكبر من
وظيفة أمير سلاح، وكان هو الذي يحكم على الجرايحية والحكماء وغيرهم.
وتوفّى الشيخ المسند المعمّر بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن عمر بن
حسّان «2» ابن أبى بكر بن علىّ الحنفى فى يوم الثلاثاء خامس عشر صفر
بالقاهرة، وهو آخر من حدّث عن سبط «3» السّلفىّ، وكان صار رحلة الناس
فى ذلك.
وتوفّى الأمير سيف الدين بيغجار «4» بن عبد الله الساقى أحد أمراء
الطبلخاناه بديار مصر، وأنعم الملك الناصر بإقطاعه على الأمير عمر بن
أرغون النائب.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير حسام الدين طرنطاى المنصورىّ
فى يوم الأربعاء ثامن شهر رجب، وهو أحد أمراء الألوف بالديار المصرية.
وكان أميرا شجاعا كريما وجيها فى الدّول.
(9/287)
وتوفّى الأمير الكبير أرغون بن عبد الله
الناصرىّ نائب السلطنة الشريفة ثم نائب حلب، وبها مات فى ليلة السبت
ثامن عشر شهر ربيع الأوّل وقيل ربيع الآخر.
وأصله من مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الترجمة. اشتراه
وربّاه وأدّبه وتبنّى به وأمره بملازمة الاشتغال، فاشتغل ودأب وبرع
وكتب الخطّ المنسوب، وسمع صحيح البخارىّ بقراءة الشيخ أثير الدّين «1»
أبى حيّان، وكتب بخطّه صحيح البخارىّ، وبرع فى الفقه وأصوله، وأذن له
فى الإفتاء والتدريس. قال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ قال لى الشيخ فتح
الدين بن سيد الناس، كان أرغون يعرف مذهب أبى حنيفة ودقائقه ويقصر فهمه
فى الحساب إلى الغاية.
قلت: كان قصور فهمه فى الحساب إذ ليس هو بصدده، ولو صرف همّته إلى ذلك
لفهمه وعلمه على أحسن وجه. انتهى. ورقّاه أستاذه الملك الناصر لمّا رأى
فيه مخايل النّجابة، وجعله دوادارا بعد الأمير بيبرس الدّوادار، ثمّ
ولّاه نيابة السلطنة بديار مصر وجعل أمورها كلّها إليه. فدام فى نيابة
السلطنة نحو ست عشرة سنة، ثم أخرجه لنيابة حلب. وقد ذكرنا «2» سبب
إخراجه لحلب فى أصل هذه الترجمة. وتولى نيابة حلب بعد عزل الأمير
ألطنبغا الصالحىّ، فباشر نيابتها نحو أربع سنين. وهو الذي أمر بحفر نهر
الساجور، وأجراه إلى حلب فى سنة إحدى وثلاثين. وكان ليوم وصوله يوم
مشهود. وفى هذا المعنى يقول الرئيس شرف الدين أبو عبد الله الحسين [بن
سليمان «3» ] بن ريّان «4» رحمه الله:
(9/288)
لمّا أتى نهر الساجور قلت له ... ماذا
التأخّر من حين إلى حين
فقال أخّرنى ربّى ليجعلنى ... من بعض معروف سيف الدّين أرغون
وقال الشيخ بدر الدين الحسن [بن عمر بن «1» الحسن] بن حبيب فى المعنى
أيضا:
قد أصبحت الشّهباء تثنى على ... أرغون فى صبح وديجور
من نهر الساجور أجرى بها ... للناس بحرا غير مسجور
وقد استوعبنا أمر أرغون هذا فى المنهل الصانى أكثر من هذا، إذ هو محلّ
الإطناب فى التراجم.
وتوفّى تاج الدين إسحاق [بن عبد الكريم «2» ] ، وكان أوّلا يدعى عبد
الوهاب، ناظر الخاصّ الشريف فى يوم الاثنين مستهلّ جمادى الآخرة. وكان
أصله من أقباط مصر يخدم فى الدواوين، ثم صار ناظر الدولة، ثم باشر نظر
الخاصّ بعد كريم الدين الكبير، فباشر بسكون وحشمة وانجماع «3» عن الناس
مع حسن سياسة إلى أن مات. وتولّى الخاصّ بعده ابنه شمس الدين موسى الذي
وقع له مع النّشو ما وقع من العقوبات والمصادرات، ومدّ الله فى عمره
إلى أن رأى نكبة النّشو وقتله، على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى فى
محله من هذا الكتاب على سبيل الاختصار. وقد استوعبنا أمر موسى المذكور
فى المنهل الصافى بما فيه عجائب وغرائب، فلينظر هناك.
وتوفّى التاجر تاج الدين أبو بكر بن معين الدين محمد بن الدّمامينىّ
رئيس تجار الكارم «4» فى ثالث عشرين جمادى الآخرة، وقد قارب ثمانين
سنة، وترك مائة ألف دينار عينا.
(9/289)
قلت: ولعله يكون والد الدمامينيّة الشاعر
والقاضى وغيرهما الآتى ذكرهما.
وتوفّى ملك الغرب صاحب فاس [ومرّاكش «1» ] أبو سعيد عثمان بن يعقوب ابن
عبد الحق فى ذى الحجة «2» ، وقام من بعده ابنه السلطان أبو الحسن علىّ.
وكانت مدّة عثمان هذا على فاس وغيرها من بلاد الغرب إحدى «3» وعشرين
سنة.
وتوفّى الشيخ المسند شرف الدين أبو الحسين أحمد بن فخر الدين عبد
المحسن ابن الرّفعة بن أبى المجد العدوىّ. وأبوه عبد المحسن إليه ينسب
جامع «4» ابن الرّفعة بين مصر والقاهرة.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة فخر الدين أبو عمرو عثمان بن إبراهيم بن
مصطفى بن سليمان الماردينىّ الحنفى الشهير بالتّركمانىّ فى ليلة السبت
حادى عشر رجب. وكان إماما عالما بارعا مفتنّا، تصدّر للإفتاء والتدريس
سنين عديدة. وكان معظّما عند الملوك، درّس بالمنصورية «5» من القاهرة،
وشرح «6» الجامع الكبير، وسمع الكثير، وكان مقدّما على أقرانه فصيح
العبارة عالما باللغة والعربية، والمعانى والبيان، شيخ
(9/290)
السادة الحنفية فى زمانه. وهو والد قاضى
القضاة علاء الدين «1» ، والعلّامة تاج الدين «2» أحمد، وجدّ جمال
الدين «3» عبد الله بن علىّ، وعبد العزيز «4» بن علىّ. وتخرّج عليه
حلائق كثيرة وانتفع به الناس.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأصابع. مبلغ الزيادة
ست عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 732]
السنة الثالثة والعشرون من ولاية الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على
مصر، وهى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير «5» الوزير علاء الدين مغلطاى بن عبد الله الجمالىّ.
كان يلقّب بخرز «6» ، عند نزوله من العقبة «7» عائدا إلى الديار
المصرية فى يوم الأحد سابع عشر المحرّم، فحمل ميّتا إلى القاهرة؛ ودفن
بخانقاته «8» فى يوم الخميس حادى عشرين المحرّم.
وكان أصله من مماليك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الترجمة، وكان من
خواصه وخاصّكيّته، ثم أنعم عليه بإمرة، ثم نقله على إمرة بهادر
الإبراهيمى دفعة واحدة وندبه لمهمّاته، ثم ولّاه أستادارا فعظم أمره،
ثم نقله إلى الوزارة وحكّمه فى جميع
(9/291)
المملكة، فحسنت سيرته وساس الناس وأبطل
مظالم. وكان جوادا عاقلا عارفا حشما يميل لفعل الخير، انتفع به جماعة
كثيرة فى ولايته؛ لأنه كان يأخذ على ولاية المباشرات المال على أيديهم،
فقصدهم الناس لذلك. وكان شأنه إذا ولّى أحدا وجاء من يزيد عليه عزله
وولّى من زاد بعد أن يعلم أن المعزول قد استوفى ما قام به، ومن لم
يستوف ذلك لم يعزله. ولم يصادر أحدا فى مدّة ولايته، وهذا من العجب!
ولا ظلم أحدا، بل كانت أيامه مشكورة. وكان المستولى عليه مجد الدين «1»
إبراهيم بن لفيتة «2» . وخلّف الأمير مغلطاى المذكور عدّة أولاد من
زوجته بنت الأمير أسندمر كرجى نائب طرابلس. وإليه تنسب المدرسة
الجماليّة «3» بالقرب من درب ملوخيّا داخل القاهرة بالقرب من داره «4»
.
وتوفى الملك المؤيّد عماد الدين أبو الفداء إسماعيل صاحب حماة ابن
الملك الأفضل علىّ ابن الملك المظفّر «5» محمود ابن الملك المنصور محمد
ابن الملك المنصور عمر ابن شاهنشاه بن أيّوب الأيّوبى فى ثالث «6»
عشرين المحرّم. وتولّى حماة بعده ابنه الملك الأفضل، وقد تقدّم «7» ذكر
قدومه على الملك الناصر وولايته لحماة بعد وفاة أبيه المؤيّد هذا.
انتهى. وكان مولد الملك المؤيّد فى جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين
وستمائة، وحفظ القرآن العزيز وعدّة كتب، وبرع فى الفقه والأصول
والعربية
(9/292)
والتاريخ والأدب والطّبّ والتفسير والميقات
والمنطق والفلسفة مع الاعتقاد الصحيح.
وكان جامعا للفضائل، وصار من جملة أمراء دمشق، إلى أن خدم الملك الناصر
محمدا عند خروجه من الكرك فى سلطنته الثالثة. فلما تمّ أمره أنعم عليه
بسلطنة حماة بعد الأمير أسندمر كرجى- وقد تقدّم ذلك كله فى صدر ترجمة
الملك الناصر- وجعله صاحب حماة وسلطانها. وقدم على الناصر القاهرة غير
مرّة وحجّ معه وحظى عنده إلى الغاية، حتى إنّ الملك الناصر رسم إلى
نوّاب البلاد الشامية بأن يكتبوا له:» يقبّل الأرض» . فصار تنكز مع
جلالة قدره يكتب له:» يقبّل الأرض» ، و» بالمقام الشريف العالى
المولوىّ السلطانىّ العمادىّ الملكىّ المؤيّدىّ» . وفى العنوان:» صاحب
حماة» .
ويكتب السلطان الملك الناصر له:» أخوه محمد بن قلاوون، أعزّ الله أنصار
المقام الشريف العالى السلطانىّ الملكىّ المؤيّدىّ العمادىّ» بلا
مولوىّ. وكان الملك المؤيّد مع هذه الفضائل عاقلا متواضعا جوادا. وكان
للشعراء به سوق نافق، وهو ممدوح الشيخ جمال الدين «1» بن نباتة، مدحه
بغرر القصائد ثم رثاه بعد موته. ومن جملة مدائحه له:
أقسمت «2» ما الملك المؤيّد فى الورى ... إلّا الحقيقة والكرام مجاز
هو كعبة «3» للفضل ما بين النّدى ... منها وبين الطالبين حجاز
ولما مات رثاه بالقصيدة المشهورة التى أوّلها:
ما للنّدى ما يلبّى صوت داعيه ... أظنّ أنّ ابن شاد قام ناعيه
ما للرّجاء قد اشتدّت مذاهبه ... ما للزمان قد اسودّت نواحيه
(9/293)
مالى أرى الملك قد فضّت مواقفه ... مالى
أرى الوفد قد فاضت مآقيه
نعى المؤيّد ناعيه فوا أسفا ... للغيث كيف غدت عنّا غواديه
وا روعتا لصباح من رزيّته «1» ... أظنّ أنّ صباح الحشر ثانيه
وا حسرتاه لنظمى فى مدائحه ... كيف استحال «2» لنظمى فى مراثيه
أبكيه بالدّرّ من دمعى «3» ومن كلمى ... والبحر أحسن ما بالدّرّ أبكيه
أروى بدمعى ثرى ملك له شيم ... قد كان يذكرها الصّادى فترويه
أذيل ماء جفونى بعده أسفا ... لماء وجهى الذي قد كان يحميه
جار من الدّمع لا ينفكّ يطلقه ... من كان يطلق بالإنعام جاديه «4»
ومهجة كلّما فاهت بلوعتها ... قالت رزيّة مولاها لها إيه
ليت المؤيد لا زادت «5» عوارفه ... فزاد قلبى المعنّى من تلظّيه
[ليت الحمام «6» حبا الأيام موهبة ... فكان يفنى بنى الدنيا ويبقيه] .
ليت الأصاغر يفدى الأكبرون بها ... فكانت الشّهب فى الآفاق تفديه
والقصيدة أطول من هذا، تزيد على خمسين بيتا. وله فيه غير ذلك. وقد «7»
تقدّم من ذكره فى المنهل الصافى أشياء أخر لم نذكرها هنا، فلتنظر هناك.
ومن شعر الملك المؤيّد فى مليح اسمه حمزة:
اسم الذي أنا أهواه وأعشقه ... ومن أعوّذ قلبى من تجنّيه
تصحيفه فى فؤادى لم يزل أبدا ... وفوق وجنته أيضا وفى فيه
(9/294)
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد ياقوت بن عبد
الله الحبشىّ الشاذلىّ تلميذ الشيخ العارف بالله تعالى أبى العباس «1»
المرسى فى ليلة الثامن عشر من جمادى الآخرة بثغر الإسكندرية وبها دفن.
وكان شيخا صالحا مباركا ذا هيبة ووقار وسمت وصلاح، وله أحوال وكرامات.
وقبره «2» بالإسكندرية يقصد للزيارة.
وتوفّى الشيخ الصالح عبد العال خليفة الشيخ أحمد البدوىّ وخادمه بقرية
طنتتا «3» بالغربية من أعمال القاهرة فى ذى الحجة. فكان له شهرة
بالصلاح، ويقصد للزيارة والتبرك به؛ ودفن بالقرب من الشيخ «4» أحمد
البدوىّ، الجميع فى موضع واحد، غير أن كلّ مدفن فى محلّ واحد على حدته.
وخلفاء مقام الشيخ أحمد البدوىّ من ذريّة أخيه، لم يبلغنا من كراماته
شىء.
وتوفّى القاضى الرئيس فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيوش المنصورة
بالديار المصرية فى يوم الأحد سادس عشر شهر رجب. قال الشيخ صلاح الدين:
كان متأهّلا عمره لما كان نصرانيّا، لما أسلم حكى الشيخ فتح الدين بن
سيد الناس عن خاله القاضى شرف الدين بن زنبور قال: [هذا «5» ] ابن
أختى، عمره متعبّدا، لأننا لما كنا نجتمع على الشّراب فى ذلك الدّين
يتركنا وينصرف، فنتفقّده
(9/295)
إذا طالت غيبته فنجده واقفا يصلّى. ولما
ألزموه بالإسلام همّ بقتل نفسه بالسيف وتغيّب أيّاما. ثم أسلم وحسن
إسلامه إلى الغاية، ولم يقرب نصرانيّا بعد ذلك ولا آواه ولا اجتمع به،
وحجّ غير مرّة، وزار القدس غير مرّة. وقيل إنه فى آخر عمره كان يتصدّق
فى كلّ شهر بثلاثة آلاف درهم. وبنى مساجد كثيرة بالقاهرة، وعمر أحواضا
كثيرة فى الطّرقات، وبنى بنابلس مدرسة وبالرملة بيمارستانا. قال:
وأخبرنى القاضى شهاب الدين بن فضل الله أنه كان حنفىّ المذهب، ثم قال:
وكان فيه عصبيّة شديدة لأصحابه، وانتفع به خلق كثير فى الدولة الناصرية
لوجاهته عند أستاذه وإقدامه عليه. قال الصلاح: أمّا أنا فسمعت السلطان
الملك الناصر محمد بن قلاوون يقول يوما فى خانقاة سرياقوس لجندى واقف
بين يديه يطلب إقطاعا:
لا تطوّل، والله لو أنك ابن قلاوون ما أعطاك القاضى فخر الدين خبزا
يعمل أكثر من ثلاثة آلاف درهم. وقد ذكرنا من أحواله أكثر من هذا فى
المنهل الصافى.
وتوفّى الأمير سيف الدين سوتاى «1» صاحب ديار بكر بالموصل فى هذه
السنه.
وكان ملكا جليلا ذا رياسة ووقار، وعمّر طويلا، وكان من أجلّ ملوك ديار
بكر.
وتوفّى شيخ القرّاء فى زمانه برهان الدين إبراهيم بن عمر بن إبراهيم
الربعى الجعبرىّ فى شهر رمضان. وكان من أعيان القرّاء فى زمانه.
وتوفى شيخ القراءات أيضا صدر الدين أحمد بن محمد بن عبد الله الدندرىّ
«2» الشافعىّ فى جمادى الآخرة.
(9/296)
وتوفّى الأمير سيف الدين ألجاى بن عبد الله
النّاصرى الدّوادار. كان من مماليك الملك الناصر محمد وجعله دوادارا
صغيرا جنديّا مع الأمير أرسلان «1» الدّوادار، فلما توفّى أرسلان
استقلّ ألجاى المذكور بالدّواداريّة الكبرى عوضه على إمرة عشرة مدّة
سنين، ثم أعطاه إمرة طبلخاناه. قال الإمام خليل بن أيبك فى تاريخه:
وأمّا اسمه فى العلامة فما كتب «2» أحد أحسن منه. وكان خبيرا عارفا
عفيفا خيّرا طويل الروح. وكان يحبّ الفضلاء ويميل إليهم ويقضى حوائجهم
وينامون عنده ويبحثون ويسمع كلامهم، ويتعاطى معرفة علوم كثيرة. ومع هذا
كان لا بدّ فى خطّه أن يؤنّث المذكّر. وعمر له دارا «3» على الشارع
خارج بابى زويلة، غرم على بوّابها مائة ألف درهم، فلم تستكمل حتّى مرض
ونزل إليها من القلعة مريضا، فأقام بها إلى أن مات. وولى الدّواداريّة
من بعده الأمير صلاح الدين يوسف.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وست أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا. والله أعلم.
(9/297)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 733]
سنة اربع وعشرين من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على
مصر، وهى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفى القاضى قطب الدين موسى بن أحمد بن الحسين ناظر جيش دمشق
ورئيسها، المعروف بابن شيخ السّلّاميّة «1» عن اثنتين وسبعين «2» سنة،
وكان نبيلا فاضلا وفور الحرمة.
وتوفّى القاضى القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة
الحموىّ الشافعى فى حادى «3» عشر جمادى الأولى وهو معزول بعد ما عمى.
مولده بحماة فى سنة تسع وثلاثين وستمائة، وهو والد قاضى قضاة الديار
المصريّة عزّ الدين عبد العزيز بن جماعة. وكان إماما عالما مصنّفا، أخذ
النحو عن ابن مالك «4» ، وأفتى قديما، وعرضت فتواه على الشيخ محيى «5»
الدين النّووىّ فاستحسن ما أجاب به.
وتولّى قضاء القدس والخطابة بها. ثم نقل إلى مصر فولّى قضاءها بعد عزل
تقىّ الدين ابن بنت «6» الأعزّ فى أوائل سنة تسعين وستمائة. ثم وقع له
أمور حكيناها فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى» . ومن شعره:
ارض من الله ما يقدّره ... أراد منك المقام أو نقلك
وحيثما كنت ذا رفاهية ... فاسكن فخير البلاد ما حملك
(9/298)
وتمّم هذه الأبيات الحافظ شهاب الدين أحمد
بن حجر، فقال رحمه الله:
وحسّن الخلق واستقم فمتى ... أسأت أحسن ولا تطل أملك
من يتّق الله يؤته فرجا ... ومن عصاه ولا يتوب هلك
قلت: والبيت الثانى من قول ابن جماعة مأخوذ من قول المتنبّى، ولكن فاته
الشّنب، وهو:
وكلّ امرئ يبدى «1» الجميل محبّب ... وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب
وتوفّى الشيخ الإمام المؤرّخ الفقيه شهاب الدين أبو العبّاس «2» أحمد
بن عبد الوهّاب ابن أحمد بن عبد الوهاب بن عبادة البكرىّ النّويرىّ «3»
الشافعىّ، صاحب التاريخ المعروف «بتاريخ النّويرى» فى يوم الحادى
والعشرين من شهر رمضان. كان فقيها فاضلا مؤرّخا بارعا، وله مشاركة
جيّدة فى علوم كثيرة وكتب الخطّ المنسوب. قيل إنه كتب صحيح البخارى
ثمانى مرّات، وكان يبيع كلّ نسخة من البخارى بخطّه بألف درهم، وكان
يكتب فى كل يوم ثلاث كراريس، وتاريخه سمّاه: «منتهى «4» الأرب، فى علم
الأدب» فى ثلاثين مجلدا. رأيته وانتقيته ونقلت منه بعض شىء فى هذا
التاريخ وغيره. ومات وهو من أبناء الخمسين. رحمه الله.
(9/299)
وتوفّى الأمير سيف الدين بكتمر «1» بن عبد
الله الرّكنىّ الساقى الناصرىّ بعد ابنه أحمد بثلاثة أيام فى عاشر «2»
المحرّم وحمل «3» إلى نخل «4» فدفن بها، واتّهم الملك الناصر أنّه
اغتالهما بالسمّ. وقد تقدّم ذكر ذلك كله مفصلا فى ترجمة «5» الملك
الناصر، غير أنّنا نذكره هنا تنبيها على ما تقدّم ذكره. كان أصل بكتمر
من مماليك الملك المظفر بيبرس الجاشنكير، ثم انتقل إلى الملك الناصر
محمد بن قلاوون، لعلّه بالخدم، فإنّ أستاذه المظفر بيبرس كان أمّره
عشرة فى أواخر دولته، ولولا [أنه] أعتقه ما أمّره، فعلى هذا يكون عتيق
المظفّر. والله أعلم. ويقوّى ما قلته ما سنذكره، وهو أن بكتمر هذا حظى
عند الملك الناصر لجمال صورته وجعله ساقيا. وكان غريبا فى بيت السلطان:
لأنه لم يكن له خشدش، فكان هو وحده، وسائر لخاصكيّة حربا عليه.
وعظمت مكانته عند السلطان حتى تجاوزت الحدّ. قال الصلاح الصّفدىّ: كان
يقال: إنّ السلطان وبكتمر لا يفترقان، إما أن يكون بكتمر عند السلطان،
وإما أن يكون السلطان عند بكتمر. انتهى كلام الصّفدىّ باختصار.
(9/300)
قلت: ووقع لبكتمر هذا من العظمة والقرب من
السلطان ما لم يقع لغيره من أبناء جنسه. وقد استوعبنا أمره فى «المنهل
الصافى» مستوفى، حيث هو كتاب تراجم الأعيان، وليس لذكره هنا إلا
الاختصار؛ إذ هذا الكتاب موضوع للإطناب فى تراجم ملوك مصر لا غير،
ومهما كان غير ذلك يكون على سبيل الاستطراد والضميمة لحوادث الملك
المذكور لا غير، فيكون الاختصار فيما عدا ملوك مصر أرشق، وإلا يطل
الشرح فى ذلك حتى تزيد عدّة هذا الكتاب على مائة مجلّد وأكثر. وقد سقنا
أيضا من ذكر بكتمر فى أصل ترجمة الملك الناصر قطعة جيّدة فيها كفاية فى
هذا الكتاب، فلتنظر هناك.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 734]
سنة خمس وعشرين من ولاية الملك الناصر الثالثة على مصر، وهى سنة أربع
وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير سيف الدين ألماس «1» بن عبد الله الناصرىّ حاجب
الحجّاب بالديار المصريّة فى محبسه خنقا فى ليلة ثانى عشر صفر، وحمل من
الغد حتّى دفن بجامعه»
بالشارع خارج بابى زويلة. وكان من مماليك الناصر محمد، اشتراه ورقّاه
وأمّره وجعله جاشنكيره، ثم ولّاه الحجوبيّة، فصار فى محلّ النيابة
لشغور منصب النيابة فى أيامه، فكان أكابر الأمراء يركبون فى خدمته
ويجلس فى باب القلعة
(9/301)
وتقف الحجّاب فى خدمته، ولا زال مقرّبا عند
السلطان حتّى قبض عليه لأمور بلغته عنه: منها، أنه كان اتّفق مع بكتمر
الساقى على قتل السلطان، ومنها محبّته لصبىّ من أولاد الحسينيّة
وتهتّكه بسببه، وغير ذلك. ولمّا حبسه السلطان منعه الطعام والشراب
ثلاثة أيام ثم خنقه. وقد تقدّم من ذكره فى أصل ترجمة الملك الناصر بعد
عوده من الحجاز نبذة أخرى يعرف منها أحواله. وكان ألماس غتميّا لا يعرف
بالعربيّة شيئا. وكان كريما ويتباخل خوفا من الملك الناصر.
ولمّا مات وجد له أشياء كثيرة.
وتوفّى الأمير علم الدين «1» سليمان بن مهنّا بن عيسى ملك العرب وأمير
آل فضل فى خامس عشرين ربيع الأوّل، وتولّى الإمرة بعده سيف بن فضل [بن
عيسى ابن مهنا «2» ] .
وتوفّى السلطان الملك الظاهر أسد الدّين عبد الله ابن الملك المنصور
نجم الدين أيّوب ابن الملك المظفّر يوسف بن عمر [بن علىّ «3» ] بن رسول
متملّك اليمن، بعد ما قبض عليه الملك المجاهد «4» بقلعة دملوه «5» ،
وصار الظاهر هذا يركب فى خدمة المجاهد، ثم سجنه المجاهد مدّة شهرين
وخنقه بقلعة تعزّ «6» .
وتوفّى قاضى حماة نجم الدين عمر بن محمد بن عمر بن أحمد بن هبة الله بن
محمد ابن هبة الله بن أحمد المعروف بابن العديم الحلبى الأصل الحنفىّ
عن خمس وأربعين سنة، وهو من بيت علم ورياسة وفضل.
(9/302)
وتوفّى الأمير طغاى تمر بن عبد الله
[العمرىّ «1» ] الناصرىّ أحد مماليك الملك الناصر وزوج ابنته فى ليلة
الثلاثاء ثامن عشرين شهر ربيع الأوّل. وكان من أجلّ مماليك الناصر
وأمرائه وأحد خواصه.
وتوفّى الأمير سوسون «2» بن عبد الله الناصرىّ أحد مقدّمى الألوف بديار
مصر وأخو الأمير قوصون فى ليلة الجمعة رابع عشر جمادى الأولى.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم الحافظ ذو الفنون فتح الدين أبو الفتح محمد
بن محمد ابن محمد [بن أحمد «3» ] بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد
الناس اليعمرىّ الإشبيلىّ فى شعبان. كان إماما حافظا مصنّفا، صنّف
السّيرة النبويّة وسمّاه «كتاب عيون الأثر «4» ، فى فنون المغازى
والشمائل والسّير» ، ومختصر ذلك سمّاه «نور العيون» «5» ، وكتاب «تحصيل
الإصابة، فى تفضيل الصحابة» و «النّفح «6» الشّذى، فى شرح جامع
التّرمذى» وكتاب «بشرى اللّبيب، بذكرى الحبيب» . وكان له نظم ونثر
علامة فيهما حافظا متقنا. ومن شعره قصيدته التى أوّلها:
عهدى به والبين ليس يروعه ... صبّا براه نحوله ودموعه
لا تطلبوا فى الحبّ ثأر متيّم ... فالموت من شرع الغرام شروعه
عن ساكن الوادى- سقته مدامعى- ... حدّث حديثا طاب لى مسموعه
(9/303)
أفدى الذي عنت البدور لوجهه ... إذ حلّ
معنى الحسن فيه جميعه
البدر من كلف به كلف «1» به ... والغصن من عطف عليه خضوعه
لله «2» حلوىّ المراشف واللّمى ... حلو الحديث ظريفه مطبوعه
دارت رحيق لحاظه «3» فلنا بها ... سكر يحلّ عن المدام صنيعه
يجنى فأضمر عتبه فإذا بدا ... فجماله ممّا جناه شفيعه
وتوفّى الأمير قرطاى «4» بن عبد الله الأشرفىّ نائب طرابلس، وقد جاوز
ستين سنة فى ثامن عشرين صفر، وكان مطّبا عند الملك، أمّره وولّاه نيابة
طرابلس إلى أن مات بها.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان بن عبد الله المعروف بطرنا «5» نائب صفد
فى حادى عشرين ربيع الأوّل. وكان أميرا شجاعا مقداما.
وتوفّى قاضى القضاة جمال الدين أبو الربيع سليمان ابن الخطيب مجد الدين
عمر ابن عثمان الأذرعى الشافعى المعروف بالزّرعىّ، فى سادس صفر
بالقاهرة وهو قاضى العسكر بها. وكان فقيها عالما.
وتوفّى الأمير سيف الدين خاص «6» ترك بن عبد الله الناصرىّ أحد مقدّمى
الألوف بالديار المصريّة فى شهر رجب بدمشق، وكان من خواصّ مماليك الملك
الناصر محمد بن قلاوون.
(9/304)
وتوفّى الشيخ مجد الدين حرمى بن قاسم «1» بن يوسف العامرىّ الفاقوسىّ
«2» الفقيه الشافعىّ فى ذى الحجّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانى أصابع. مبلغ
الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا. |