النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 735]
السنة السادسة والعشرون من ولاية الملك الناصر الثالثة على مصر وهى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الخازن والى القاهرة وهو معزول فى يوم السبت ثامن جمادى الآخرة عن نحو تسعين سنة. وأصله من مماليك الملك المنصور قلاوون وترقّى حتى صار خازنا ثم شادّ الدواوين، ثم ولى الكشف بالبهنسا «3» بالوجه القبلى، ثمّ ولى القاهرة وشدّ الجهات وأقام عدّة سنين. وكان حسن السّيرة، وإليه ينسب حكر «4» الخازن خارج القاهرة

(9/305)


على بركة الفيل، وتربته «1» بالقرب من قبة الإمام الشافعىّ بالقرافة.
وتوفّى الأمير صلاح الدين طرخان «2» ابن الأمير بدر الدين بيسرى بسجنه بالإسكندرية فى جمادى الأولى بعد ما أقام بالسجن أربع عشرة سنة.
وتوفّى الشيخ الإمام الحافظ المؤرخ قطب الدين أبو علىّ عبد الكريم بن عبد النّور ابن منير الحلبىّ ثم المصرىّ الحنفىّ. ومولده فى سنة أربع وستين وستمائة. وكان بارعا فى فنون صاحب مصنفات، منها «شرحه لشطر صحيح البخارى» ، و «تاريخ مصر» فى عدّة مجلدات، بيّض أوائله ولم اقف عليه إلى الآن، وخرّج لنفسه أربعين تساعيّات. وهو ابن أخت الشيخ نصر «3» المنبجىّ، وبخاله كان يعرف وانتفع بصحبته.

(9/306)


وتوفّى الشيخ الإمام المجوّد العلّامة محمد بن بكتوت الظاهرىّ القلندرىّ «1» الحنفىّ بطرابلس فى خامس عشر ربيع الأوّل، وكان كاتبا مجوّدا. ذكر أنّه كتب على ابن الوحيد «2» . وكان يضع المحبرة على يده اليسرى والمجلّدة فى يده «3» من كتاب الكشّاف للزّمخشرىّ ويكتب منه ما شاء وهو يغنّى «4» فلا يغلط. وكان أوّلا خصيصا عند الملك المؤيّد صاحب حمّاة، وأقام عنده مدّة ثم طرده عنه.
وتوفّى الشيخ الواعظ شمس الدين الحسين «5» بن أسد بن المبارك بن الأثير بمصر فى جمادى «6» الآخرة. وكان فقيها يعظ الناس وعليه قابليّة.
وتوفى القاضى زين الدّين عبد الكافى ابن ضياء الدين علىّ بن تمّام الأنصارىّ الخزرجىّ السّبكىّ «7» بالمحلّة «8» وهو على قضائها. وكان فقيها بارعا.

(9/307)


وتوفّى الشّيخ بهاء الدين محمود ابن الخطيب محيى الدين محمد بن عبد الرحيم بن عبد الوهّاب بن علىّ بن أحمد بن عقيل السّلمىّ «1» شيخ الكتّاب فى زمانه، المعروف بابن خطيب بعلبكّ بدمشق فى شهر ربيع الأوّل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يحرر. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا. والله تعالى أعلم.

(9/308)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 736]
السنة السابعة والعشرون من ولاية الملك الناصر محمد الثالثة على مصر، وهى سنة ست وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى القان «1» بو سعيد «2» بن القان محمد خربندا بن القان أرغون بن القان أبغا بن القان الطاغية هولاكو ملك التّتار وصاحب العراق والجزيرة وأذربيجان «3» وخراسان والروم وأطراف ممالك ما وراء النهر فى شهر ربيع الآخر، وقد أناف على ثلاثين سنة. وكانت دولته عشرين سنة، لأنّ جلوسه على تخت الملك كان فى أوّل جمادى «4» الأولى سنة سبع عشرة وسبعمائة بمدينة السلطانية «5» ، وعمره إحدى عشرة سنة. وبو سعيد اسم غير كنية (بضم الباء ثانية الحروف وسكون الواو) .
وسعيد معروف لا حاجة لتعريفه، ومن الناس من يقول بو صعيد (بالصاد المهملة) .
وكان بو سعيد المذكور ملكا جليلا مهابا كريما عاقلا، ولديه فضيلة، ويكتب الخط المنسوب، ويجيد ضرب العود والموسيقى، وصنّف فى ذلك قطعا جيّدة فى أنغام غريبة من مذاهب النّغم. وكان مشكور السّيرة، أبطل فى سلطنته عدّة مكوس، وأراق الخمور من بلاده ومنع الناس من شربها، وهدم الكنائس، وورّث ذوى الأرحام؛ فإنه كان حنفيّا، وهو آخر ملوك التتار من بنى چنكزخان، ولم يقم للتتار بعد موته قائمة إلى يومنا هذا.

(9/309)


وتوفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله الأشرفىّ المعروف بنائب الكرك محبوسا بثغر الإسكندرية فى يوم الأحد سابع جمادى الأولى. وأصله من مماليك الملك المنصور قلاوون، وأضافه قلاوون إلى ولده الأشرف خليل وجعله أستاداره فعرف بالأشرفىّ، واستمر بخدمة الملك الأشرف إلى أن تسلطن، أمّره ثم ولّاه نيابة الكرك. وقيل: إنه ما ولّى نيابة الكرك إلا فى سلطنة الملك الناصر الثانية، وهو الأقوى. وقد مرّ من ذكر آقوش هذا أشياء كثيرة فى ترجمة المظفّر بيبرس، وعند قدوم الملك الناصر إلى الكرك لمّا خلع نفسه وغير ذلك. وكان آقوش أميرا جليلا معظّما، وكان يقوم له الملك الناصر لمّا يدخل عليه وهو جالس على تخت الملك أمام الخدم. وطالت أيامه فى السعادة، وله مآثر كثيرة. وهو صاحب الجامع «1» الذي بآخر الحسينيّة بالقرب من كوم «2» الرّيش، وهو إلى الآن عامر وما حوله خراب.
وتوفّى الأمير «3» أيتمش بن عبد الله المحمدىّ نائب صفد فى ليلة الجمعة سادس «4» عشرين ذى الحجة. وكان من مماليك الملك الناصر محمد ومن خواصه، وهو أحد من كان يندبه الناصر وهو بالكرك لمهماته؛ ولمّا تسلطن أمّره ثم ولّاه نيابة صفد وغيرها إلى أن مات. وكان أميرا عارفا كاتبا فاضلا عاقلا مدبّرا متواضعا كريما.
وتوفّى الأمير سيف الدين إيناق «5» بن عبد الله الناصرىّ أحد مقدّمى الألوف فى ثامن عشرين شعبان «6» ، وكان أيضا من خواصّ الملك الناصر محمد بن قلاوون ومن أكابر مماليكه.

(9/310)


وتوفّى شيخ الكتّاب عماد الدين محمد بن العفيف محمد بن الحسن «1» الأنصارىّ الشافعىّ المعروف بابن العفيف، صاحب الخط المنسوب. كتب عدّة مصاحف بخطه. وكان إماما فى معرفة الخط، وعنده فضائل، وله نظم ونثر وخطب، تصدّى للكتابة مدّة طويلة، وانتفع به عامة الناس. وكان صالحا ديّنا خيّرا فقيها حسن الأخلاق. مات بالقاهرة ودفن بالقرافة وله إحدى وثمانون سنة.
وتوفّى القاضى عماد الدين إسماعيل بن محمد بن الصاحب فتح الدين عبد الله ابن محمد القيسرانىّ كاتب حلب فى ذى القعدة.
وتوفّى الشيخ تقىّ الدين سليمان بن موسى بن بهرام السّمهودىّ «2» الفقيه الشافعىّ الفرضىّ العروضىّ الأديب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا. والوفاء يوم النوروز.

(9/311)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 737]
السنة الثامنة والعشرون من ولاية الملك الناصر محمد الثالثة على مصر، وهى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير عزّ الدين «1» أيدمر الخطيرىّ المنصورىّ أحد أمراء الألوف بالديار المصرية فى يوم الثلاثاء أوّل شهر رجب بالقاهرة. وأصله من مماليك الخطير الرومىّ والد أمير مسعود، ثم انتقل إلى ملك المنصور قلاوون، فرقّاه حتى صار من أجلّ الأمراء البرجيّة. ثم ترقّى فى الدولة الناصريّة وولى الأستادارية. ثم وقع له أمور، وقبض عليه السلطان الملك الناصر محمد فى سلطنته الثالثة، ثم أطلقه وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة [ألف «2» ] وزيادة إمرة عشرين فارسا، وصار معظّما عند الناصر، ويجلس رأس الميسرة، وبقى أكبر أمراء المشورة. وكان لا يلبس قباء مطرّزا ولا يدع عنده أحدا يلبس ذلك. وكان أحمر الوجه منوّر الشيبة كريما جدّا واسع النّفس على الطعام. حكى أن أستاداره قال له يوما: يا خوند، هذا السّكّر الذي يعمل فى الطعام ما يضرّ أن نعمله غير مكرر؟ فقال: لا، فإنه يبقى فى نفسى أنه غير مكرر فلا تطيب. ولمّا مات خلّف ولدين أميرين: أمير علىّ وأمير محمد. وهو من الأمراء المشهورين بالشجاعة والدين والكرم، وهو الذي عمر الجامع «3» برملة بولاق على شاطئ النيل والرّبع المشهور، وغرم عليه جملة مستكثرة، فلمّا تم أكله البحر ورماه، فأصلحه وأعاده فى حياته. وقد تقدّم ذكر بنائه لهذا الجامع فى أصل ترجمة الملك الناصر، وسبب مشتراه لموضع الجامع المذكور وتاريخ بنائه.

(9/312)


وتوفّى الأمير سيف الدين أزبك بن عبد الله الحموىّ فى يوم الأربعاء «1» خامس عشرين شعبان على مدينة آياس «2» ، وقد بلغ مائة سنة، فحمل إلى حماة ودفن بها. وكان مهابا كثير العطاء، طالت أيّامه فى الإمرة والسعادة. وهو ممن تأمّر فى دولة الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ. رحمه الله.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح محمد بن عبد الله «3» بن المجد إبراهيم المرشدىّ، صاحب الأحوال والكرامات والمكاشفات بناحية منية «4» مرشد فى ثامن شهر رمضان.
وكان للناس فيه اعتقاد حسن، ويقصد للزيارة.
وتوفّى الشيخ قطب الدين إبراهيم بن محمد بن علىّ بن مطهّر بن نوفل الثعلبىّ الأدفوىّ فى يوم عرفة بأدفو. وكان فقيها فاضلا بارعا ناظما ناثرا.
وتوفّى الشيخ المحدّث تقىّ الدين أبو عبد الله محمد بن علىّ بن محمد بن أحمد اليونينىّ البعلبكىّ الحنبلىّ. ومولده سنة سبع وستين وستمائة؛ ذكره الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ فى معجمه وأثنى عليه.
وتوفّى الشيخ ناصر الدين محمد ابن الشيخ المعتقد إبراهيم بن معضاد الجعبرىّ الواعظ بالقاهرة فى يوم الاثنين رابع «5» عشرين المحرّم. وكان يعظ الناس، وجلس مكان والده الشيخ إبراهيم الجعبرىّ، وكان لوعظه رونق، وهو من بيت صلاح ووعظ.

(9/313)


وتوفّى المسند المعمّر مسند الديار المصرية شرف الدين يحيى بن يوسف المقدسىّ المعروف بابن المصرىّ بالقاهرة عن نيّف وتسعين سنة «1» .
وتوفّى الشيخ كمال الدين «2» أبو الحسن علىّ [بن «3» الحسن بن علىّ] الحويزانىّ شيخ خانقاه سعيد السّعداء فى صفر بالقاهرة. وكانت لديه فضيلة، وعنده صلاح وخير.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا. والله تعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 738]
السنة التاسعة والعشرون من ولاية الملك الناصر الثالثة على مصر، وهى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى قاضى قضاة دمشق شهاب الدين محمد ابن المجد عبد الله بن الحسين ابن علىّ الإربلىّ الزرزارىّ «4» الشافعىّ، وقع عن بغلته فلزم الفراش أسبوعا ومات فى جمادى الأولى بدمشق. ومولده سنة اثنتين وستين وستمائة. وكان بارعا فى الفقه والفروع والشروط، وأفتى ودرّس وكتب الطباق وسمع الكثير، وولّى قضاء دمشق بعد القاضى جمال الدين بن»
جملة، وعزل بالقاضى جلال الدين القزوينىّ. ولمّا تولّى القاضى شهاب الدين ابن القيسرانىّ كتابة سرّ دمشق توجّه القاضى شهاب الدين هذا إليه لتهنئته، فنفرت به البغلة فى الطريق فوقع فشجّ دماغه، فحمل فى محفّة

(9/314)


إلى بيته ومات بعد أسبوع. ولمّا وقع عن بغلته قال فيه الشيخ شمس الدين محمد ابن الخيّاط الدمشقىّ رحمه الله:
بغلة قاضينا إذا زلزلت ... كانت له من فوقها الواقعه
تكاثر ألهاه من عجبه ... حتى غدا ملقّى على القارعه
فأظهرت زوجته عندها «1» ... تضايقا بالرحمة الواسعه
وتوفى الشيخ الإمام العلّامة النحوىّ ركن الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن ابن يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الجليل المعروف بابن القوبع «2» القرشىّ التونسىّ المالكىّ النحوىّ، صاحب الفنون الكثيرة بالقاهرة عن أربع وسبعين سنة.
وتوفّى شيخ الإسلام شرف الدين هبة الله ابن قاضى حماة نجم الدين عبد الرحيم ابن أبى الطاهر إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن حسّان بن محمد بن منصور بن أحمد الشافعىّ الجهنى المعروف بابن البارزىّ قاضى حماة فى نصف ذى القعدة. ومولده فى خامس «3» شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة. وكان إماما علّامة فى الفقه والأصول والنحو واللغة، وأفتى ودرّس سنين وانتفع الطلبة به وتخرّج به خلائق، وحكم بحماة دهرا، ثم ترك الحكم وذهب بصره. وصنّف كتبا كثيرة، وحجّ مرّات، وحدّث بأماكن. ولمّا مات غلّقت [أبواب «4» ] جماة لمشهده. ومن مصنّفاته:
تفسيران، و «كتاب بديع القرآن» ، و «وشرح الشاطبية» ، و «الشرعة «5» فى السبعة» و «كتاب الناسخ والمنسوخ» ، و «كتاب مختصر جامع الأصول» ، مجلدين و «الوفا

(9/315)


فى شرح [أحاديث «1» ] المصطفى» ، و «الأحكام على أبواب التنبيه» . و «غريب الحديث» ، و «شرح «2» الحاوى فى الفقه» أربع مجلدات، و «مختصر التنبيه فى الفقه» ، و «الزبدة فى الفقه» ، والمناسك. [وكتاب «3» فى] العروض، وغير ذلك.
وتوفى القاضى الرئيس محيى الدين يحيى بن فضل الله بن مجلّى العمرىّ القرشىّ كاتب السّر الشريف بالشام أوّلا ثم بمصر آخرا، وهو أخو القاضى شرف الدين عبد الوهاب «4» ، وأخو القاضى بدر الدين «5» محمد، ووالد القاضى العلّامة شهاب الدين أحمد «6» ، وبدر الدين محمد «7» ، وعلاء الدين «8» علىّ، وجدّ القاضى بدر الدين محمد «9» بن علىّ آخر من ولى من بنى فضل الله كتابة السرّ بديار مصر الآتى ذكره فى محله إن شاء الله تعالى.
قال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك: لم أر فى عمرى من كتب النسخ وخرّج التخاريج والحواشى أحلى وأظرف ولا ألطف منه، بل الشيخ فتح الدين بن سيد الناس معه والقاضى جمال الدين «10» إبراهيم ابن شيخنا شهاب الدين محمود؛ فإن هؤلاء الثلاثة غاية فى حسن الكتابة. لكن القاضى محيى الدين هذا رعشت يده وارتجّت كتابته أخيرا. قال: ولم أر عمرى من نال سعادته فى مثل أولاده وأملاكه ووظائفه وعمره. وكان السلطان قد بالغ أخيرا فى احترامه وتعظيمه، وكتب له فى أيام الأمير سيف الدين ألجاى الداودار توقيعا بالجناب العالى يقبّل الأرض، واستعفى من

(9/316)


ذلك وكشطها وقال: ما يصلح لمتعمم أن يعدّى به «المجلس العالى» . انتهى كلام الشيخ صلاح الدين.
وتوفّى قاضى القضاة جمال الدين يوسف بن إبراهيم بن جملة الدمشقىّ الشافعىّ قاضى قضاة دمشق بها. وكان فقيها بارعا، ولى قضاء دمشق إلى أن عزل بقاضى القضاة شهاب الدين بن المجد.
وتوفى الأمير سيف الدين طغجى بن عبد الله المنصورىّ فى الحبس. وكان من أعيان الأمراء البرجية معدودا من الشجعان.
وتوفّى الأمير سيف الدين صلديه «1» بن عبد الله كاشف الوجه القبلىّ، وكان من الظّلمة، مهّد البلاد فى ولايته.
وتوفّى الأمير سيف الدين آقول بن عبد الله المنصورىّ ثم الناصرىّ الحاجب بديار مصر. وكان من أعيان الأمراء.
وتوفّى الشيخ الأديب شهاب الدين أحمد بن يوسف بن هلال الصّفدىّ الطبيب، ومولده فى سنة إحدى وستين وستمائة. كان من جملة أطبّاء السلطان، وكان بارعا فى الطب، وله قدرة على وضع «2» المشجّرات، ويبرز أمداح الناس فى أشكال أطيار وعمائر وأشجار وعقد وأخياط وغير ذلك، وله نظم ونثر. ومن شعره ما يكتب على سيف:

(9/317)


أنا أبيض كم جئت يوما أسودا ... فأعدته بالنصر يوما أبيضا
ذكر إذا ما استلّ يوم كريهة ... جعل الذكور من الأعادى حيّضا
أختال ما بين المنايا والمنى ... وأجول فى وسط القضايا والقضا
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وعشرون إصبعا. وكان الوفاء يوم النوروز.
والله تعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 739]
السنة [المتمّة] الثلاثين من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة تسع وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى خطيب القدس زين الدين عبد الرحيم «1» ابن قاضى القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعىّ الحموىّ الأصل المعروف بابن جماعة
وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله المعزّىّ «2» الناصرىّ أحد أمراء الألوف بالديار المصرية فى ليلة الجمعة تاسع شعبان. وكان أميرا جليلا معظّما فى دولة أستاذه، بلغت تركته مائة ألف دينار، أخذها النّشو ناظر الخاصّ.
وتوفّى قاضى القضاة العلّامة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد ابن محمد بن عبد الكريم القزوينىّ الشافعىّ بدمشق فى خامس عشر جمادى الآخرة.
وكان ولى قضاء مصر والشام، وكان عالما بارعا مفتنّا فى علوم كثيرة، وله مصنّفات فى عدّة فنون. وكان مولده بالموصل فى سنة ست «3» وستين وستمائة.

(9/318)


وتوفّى الشيخ الإمام الحافظ المؤرخ علم الدين القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد [ابن يوسف «1» ] البرزالىّ الشافعى بخليص «2» ، وهو محرم فى رابع ذى الحجة عن أربع وسبعين سنة. وبرزالة: قبيلة قليلة جدّا. وكان أبوه شهاب الدين «3» محمد من كبار عدول دمشق. وأما جدّ أبيه محمد «4» بن يوسف فهو الإمام الحافظ زكىّ الدين الرحّال محدّث الشام أحد الحفّاظ المشهورين. وقد تقدّم ذكره. انتهى. وكان الحافظ علم الدين هذا محدّثا حافظا فاضلا، سمع الكثير ورحل إلى البلاد وحصّل ودأب وسمع خلائق كثيرة، تزيد عدّتهم على ألفى شيخ، وحدّث وخرّج وأفاد وأفتى وصنّف تاريخا على السنين.
وتوفّى الشيخ الأديب أبو المعالى زين الدين خضر بن إبراهيم بن عمر بن محمد ابن يحيى الرفّاء الخفاجىّ المصرىّ عن تسع وسبعين سنة. ومن شعره فى ساق:
لله ساق له ردف فتنت به ... لمّا تبدّى بساق منه برّاق
فلا تسل فيه عن وجدى وعن ولهى ... فأصل ما بى من ردف ومن ساق
قلت: وأحسن من هذا قول القيراطىّ: «5»
وأغيد يسقى الطّلا ... بديع حسن قد بهر
فى كفّه شمس فما ... له لرائيه قمر
وأحسن منهما قول القائل فى هذا المعنى:
قد زمزم الساقى الذي لم يزل ... يدير للأحباب كأس المدام
وقد فهمناه وهمنا به ... بأحسن ما زمزم وسط المقام

(9/319)


وتوفّى الشيخ جمال الدين أحمد بن هبة الله بن المكين الإسنانى «1» الفقيه الشافعىّ بإسنا، وقد جاوز السبعين سنة فى شوّال.
وتوفّى الأمير علاء الدين على ابن أمير حاجب والى مصر وأحد الأمراء العشرات وهو معزول، وكان عنده فضيلة، وعنى بجمع القصائد النبويّة، حتى كمل عنده منها خمسة وسبعون «2» مجلدا.
وتوفّى قاضى القضاة فخر الدين أبو عمرو عثمان «3» بن علىّ بن عثمان بن علىّ بن عثمان ابن إسماعيل بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب بن علىّ بن هبة الله بن ناجية الشافعىّ المعروف بابن خطيب جبرين «4» بالقاهرة بالمدرسة المنصورية ليلة السبت السابع والعشرين من المحرّم ودفن بمقابر الصوفيّة. ومولده فى العشر الأخير من شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وستين وستمائة بالحسنية ظاهر القاهرة. وكان بارعا فى الفقه والأصول والنحو والأدب والحديث والقراءات، وتولّى قضاء حلب سنة ست وثلاثين وسبعمائة فتكلّم فيه، فطلبه الملك الناصر وطلب ولده، فروّعهما الحضور قدّامه لكلام أغلظه لهما، فنزلا مرعوبين ومرضا بالبيمارستان المنصورىّ، فمات ولده قبله، وتوفّى هو بعده بيوم أو يومين. وكان عالما، وله عدّة مصنّفات، شرح الشامل

(9/320)


الصغير، وشرح التعجيز «1» ، و [شرح «2» ] مختصر ابن الحاجب و [شرح «3» ] البديع لابن الساعاتى. وقد استوعبنا ترجمته فى المنهل الصافى بأوسع من هذا.
وتوفّى الأمير الفقيه علاء الدين أبو الحسن علىّ بن بلبان بن عبد الله الفارسىّ الحنفىّ بمنزله على شاطئ النيل فى تاسع شوّال. ومولده فى سنة خمس وسبعين وستمائة.
كان إماما فقيها بارعا محدّثا، أفتى ودرّس وحصّل من الكتب جملة مستكثرة، وصنّف عدّة مصنّفات، ورتّب التقاسيم «4» والأنواع لابن حبّان «5» ، ورتّب الطبرانى ترتيبا جيّدا إلى الغاية، وألف سيرة لطيفة للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكتابا فى المناسك جامعا لفروع كثيرة فى المذهب.
وتوفّى القاضى فخر الدين محمد بن بهاء الدين عبد الله بن أحمد [بن علىّ «6» ] المعروف بابن الحلّى بالقدس الشريف. وكان رئيسا، ولى نظر جيش دمشق عدّة سنين.
وتوفّى علاء الدين علىّ بن هلال الدولة بقلعة شيزر «7» بعد ما ولى بالقاهرة عدّة وظائف.
وتوفّى الأمير سيف «8» الدين بيليك بن عبد الله المحسنىّ بطرابلس. وكان من جملة أمرائها «9» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وعشر أصابع. والله تعالى أعلم.

(9/321)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 740]
السنة الحادية والثلاثون من ولاية الملك الناصر الثالثة على مصر، وهى سنة أربعين وسبعمائة.
فيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المستكفى بالله أبو الربيع سليمان ابن الخليفة الحاكم بأمر الله أبى العبّاس أحمد بن الحسن بن أبى بكر الهاشمىّ العباسىّ بمدينة قوص فى خامس شعبان عن ست وخمسين سنة وستة أشهر وأحد عشر يوما. وكانت خلافته تسعا وثلاثين سنة وشهرين وثلاثة عشر يوما. وكان حشما كريما فاضلا.
كان أخرجه الملك الناصر إلى قوص لما كان فى نفسه منه لما كان منه فى القيام بنصرة الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير، وتولّى الخلافة من بعده ولده أبو العباس أحمد ولقّب بالحاكم على لقب جدّه بعهد منه إليه. وكان الناصر منع الحاكم من الخلافة وولّى غيره، حسب ما ذكرناه فى ترجمة الملك «1» الناصر، فلم يتم له ذلك وولّى الحاكم هذا.
وتوفّى الأمير شمس الدين آق سنقر بن عبد الله شادّ العمائر المنسوبة إليه قنطرة «2» سنقر على الخليج خارج القاهرة والجامع «3» بسويقة السبّاعين «4» على البركة «5» الناصرية فيما بين القاهرة ومصر. وكانت وفاته بدمشق.

(9/322)


وتوفّى الأمير علاء الدين علىّ بن حسن المروانىّ «1» والى القاهرة فى ثانى عشرين «2» رجب بعد ما قاسى أمراضا شنيعة مدّة سنة، وكان ظالما غشوما سفّاكا للدماء، اقترح فى أيام ولايته عقوبات مهولة، منها أنه كان ينعل الرجل فى رجليه بالحديد كما تنعل الخيل. ومنها تعليق الرجل بيديه وتعلّق مقايرات «3» العلاج فى رجليه فتنخلع أعضاؤه فيموت، وقتل خلقا كثيرا من الكتّاب وغيرهم فى أيام النّشو. ولمّا حملت جنازته وقف عالم كثير لرجمه، فركب الوالى وابن صابر المقدّم حتّى طردوهم ومنعوهم ودفنوه.
وتوفّى شرف الدين عبد الوهاب ابن التاج فضل الله المعروف بالنّشو ناظر الخاص الشريف تحت العقوبة فى يوم الأربعاء ثانى «4» شهر ربيع الآخر. وقد تقدم التعريف بأحواله وكيفية قتله والقبض عليه فى ترجمة «5» الملك الناصر هذه مفصّلا مستوفى. كان هو وأبوه وإخوته يخدمون الأمير بكتمر الحاجب، ثم خدم النّشو هذا عند الأمير أيدغمش أمير آخور. فلما جمع السلطان فى بعض الأيام كتّاب الأمراء رأى النّشو وهو واقف وراء الجماعة وهو شابّ نصرانىّ طويل حلو الوجه، فاستدعاه وقال له:
إيش اسمك؟ قال: النّشو. فقال السلطان: أنا أجعلك نشوى، ورتّبه، مستوفيا، وأقبلت سعادته، فأرضاه فيما ندبه إليه وملأ عينه، واستمر على ذلك حتى استسلمه الأمير بكتمر الساقى وسلّم إليه ديوان سيّدى آنوك ابن الملك الناصر إلى أن توفّى القاضى فخر الدين ناظر الجيش، نقل الملك الناصر شمس الدين موسى ناظر الخاصّ إلى نظر الجيش عوضه، وولّى النشو هذا نظر الخاصّ على ما بيده من ديوان ابن

(9/323)


السلطان. ووقع له ما حكيناه فى ترجمة الملك الناصر كل شىء فى محلّه. قال الصلاح الصّفدىّ: ولمّا كان فى الاستيفاء وهو نصرانىّ كانت أخلاقه حسنة وفيه بشر وطلاقة وجه وتسرّع لقضاء حوائج الناس، وكان الناس يحبّونه. فلمّا تولّى الخاصّ وكثر الطلب عليه وزاد السلطان فى الإنعامات والعمائر وبالغ فى أثمان المماليك وزوّج بناته واحتاج الى الكلف العظيمة، ساءت أخلاق النّشو وأنكر من يعرفه، وفتح أبواب المصادرات. انتهى كلام الصفدىّ باختصار.
وتوفّى الشيخ مجد الدين أبو بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز السّنكلونىّ «1» الشافعىّ فى شهر ربيع الأول، وكان فقيها فاضلا، شرح التنبيه فى الفقه، وتولّى مشيخة خانقاه الملك المظفّر بيبرس ودرّس وأفتى.
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله الأوحدىّ المنصورىّ والى قلعة الجبل فى شهر ربيع الأول.
وتوفّى الأمير سيف الدين «2» أيدمر بن عبد الله الدّوادار بدمشق. وكان أميرا جليلا خيّرا ديّنا.
وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله البدرىّ الناصرىّ نائب الكرك، بعد ما عزل عن الكرك ونفى إلى طرابلس فمات بها.
وتوفّى شيخ الشيوخ بخانقاه سرياقوس العلّامة مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد بن «3» محمود الأقصرائى الحنفىّ فى شهر ربيع «4» الآخر. وكان إماما فقيها بارعا مفتيا.

(9/324)


وتوفّى الشيخ جمال الدين عبد القاهر بن محمد بن عبد الواحد بن محمد بن إبراهيم التبريزى الحرّانىّ الشافعىّ. كان فقيها عالما أديبا شاعرا. ومن شعره [قوله دو بيت «1» ] :
وجدى وتصبّرى قليل وكثير ... والقلب ومدمعى طليق وأسير
والكون وحسنكم جليل وحقير ... والعبد وأنتم غنىّ وفقير
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس الرّكنىّ كاشف الوجه البحرى ونائب الإسكندرية.
وكان أصله من مماليك الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير. رحمه الله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 741]
سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وهى التى مات فيها الملك الناصر حسب ما تقدّم ذكره.
فيها (أعنى سنة إحدى وأربعين) توفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بدر الدين چنكلى بن البابا فى يوم الرابع والعشرين «2» من رجب. وكان من أعيان الأمراء، وكان فقيها أديبا شاعرا.
وتوفّى الوزير الصاحب أمين الدين أمين الملك أبو سعيد عبد الله بن تاج الرّياسة ابن الغنّام تحت العقوبة مخنوقا فى يوم الجمعة رابع جمادى الأولى، ووزر ثلاث مرّات بالديار المصريّة، وباشر نظر الدولة واستيفاء «3» الصحبة، وخدم

(9/325)


فى بيت السلطان من الأيام الأشرفيّة، وتنقّل فى عدّة خدم بمصر ودمشق وطرابلس نصرانيّا ومسلما. ولمّا أسلم حسن إسلامه وتجنّب النصارى، وكان رضىّ الخلق.
وتوفّى العلّامة افتخار الدين جابر بن محمد بن محمد الخوارزمىّ الحنفىّ شيخ الجاولية «1» بالكبش «2» خارج القاهرة فى يوم الخميس سادس عشر المحرم، وكان إماما عالما بارعا فى النحو واللغة شاعرا أديبا مفوّها.
وتوفّى القاضى عزّ الدين عبد الرحيم بن نور الدين علىّ بن الحسن «3» بن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن الفرات أحد نوّاب الحكم الحنفيّة فى ليلة الجمعة ثانى عشرين ذى الحجة، وكان فقيها محدثا.
وتوفّى الأمير الكبير شمس الدين قراسنقر «4» المنصورىّ ببلاد مراغة «5» ، وقد أقطعه إيّاها بو سعيد بن خربندا ملك التتار بمرض الإسهال. وقد أعيا الملك الناصر قتله، وبعث إليه كثيرا من الفداوية «6» بحيث قتل بسببه نحو مائة وأربعة وعشرين فداويّا ممن كان يتوجّه لقتله فيمسك ويقتل. فلما بلغ السلطان موته قال: والله ما كنت أشتهى موته إلّا من تحت سيفى، وأكون قد قدرت عليه.
قلت: وقد مرّ ذكر موت قراسنقر قبل هذا التاريخ «7» . ولكن الظاهر لى أن الأصحّ المذكور هنا الآن من قرائن ظهرت.

(9/326)


وتوفّى الأمير سيف الدين بن الحاج قطز بن عبد الله الظاهرىّ أحد أمراء الطّبلخاناه بالديار المصرية، وهو آخر من بقى من مماليك الظاهر بيبرس البندقدارىّ من الأمراء.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن يوسف المزّىّ «1» الشافعىّ أخو الحافظ «2» جمال الدين المزّى لأبيه فى يوم الثلاثاء ثالث شهر رمضان «3» .
وتوفّى الشيخ المعتقد عزّ الدين عبد المؤمن بن قطب الدين أبى طالب عبد الرحمن بن محمد بن الكمال أبى القاسم عمر بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن المعروف بابن العجمىّ الحلبىّ الشافعىّ بمصر. كان تزهّد بعد الرياسة، وحج ماشيا من دمشق وجاور بمكة، وكان لا يقبل لأحد شيئا، بل كان يقتات من وقف أبيه بحلب، وكان له مكارم وصدقات وشعر جيّد.
وتوفّى الأمير سيف الدين تنكز بن عبد الله الحسامىّ الناصرىّ نائب الشام.
كان أصله من مماليك الملك المنصور حسام الدين لاچين. فلمّا قتل لاچين صار من خاصّكيّة الناصر، وشهد معه وقعة وادى الخازندار ثم وقعة شقحب «4» ، ثم توجّه مع الناصر إلى الكرك. فلما تسلطن الملك الناصر ثالث مرة رقّاه حتى ولّاه نيابة الشام، فطالت مدّته إلى أن قبض عليه السلطان الملك الناصر فى هذه السنة، وقتله بثغر الإسكندرية. وقد مرّ من ذكر تنكز فى ترجمة الملك الناصر الثالثة ما فيه كفاية عن الإعادة هنا؛ لأنّ غالب ترجمة الملك الناصر وأفعاله كانت مختلطة مع أفعال تنكز لكثرة قدومه إلى القاهرة وخصوصيّته عند الناصر من أوّل ترجمته إلى آخرها إلى جين قبض عليه وحبسه. كل ذلك ذكرناه مفصّلا فى اليوم والشهر، وما وجد له

(9/327)


من الأموال والأملاك. كلّ ذلك فى أواخر ترجمة الملك الناصر. ولمّا ولى الأمير ألطنبغا الصالحىّ نيابة الشام بعد تنكز قال الشيخ صلاح الدين الصفدىّ فى تنكز المذكور أبياتا منها:
ألا هل لييلات تقضّت على الحمى ... تعود بوعد للسرور منجّز
ليال إذا رام المبالغ وصفها ... يشبّهها حسنا بأيام تنكز
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع إحدى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا. والله تعالى أعلم «1» .
*** انتهى الجزء التاسع من النجوم الزاهرة، ويليه الجزء العاشر، وأوّله: ذكر ولاية الملك المنصور أبى بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر

(9/328)


*** تنبيه: التعليقات الخاصة بالأماكن الأثرية والمدن والقرى القديمة وغيرها مع تحديد مواضعها من وضع حضرة الأستاذ العالم الجليل محمد رمزى بك المفتش السابق بوزارة المالية وعضو المجلس الأعلى لإدارة حفظ الآثار العربية. كالتعليقات السابقة فى الأجزاء الماضية. فنسدى إليه جزيل الشكر ونسأل الله جلّت قدرته أن يجزيه خير الجزاء عن خدمته للعلم وأهله.
*** ملاحظة: ورد فى ص 281 س 8 من الجزء الثامن من هذه الطبعة- قول ابن نباتة المصرى فى الملك المؤيد إسماعيل صاحب حماة-:
«
أفديه من ملك يكاتب عبده ...
الخ» بفتح الهمزة وسكون الفاء من كلمة «أفديه» . وبكسر اللام من كلمة «ملك» .
وهذا الضبط قد صرف البيت من بحر الطويل إلى بحر الكامل. وصوابه:
«أفدّيه من ملك يكاتب عبده» . ورواية ديوان ابن نباتة:
«فديتك من ملك يكاتب عبده»

(9/329)


استدراكات
لحضرة الأستاذ الجليل محمد رمزى بك، مع ملاحظة أن الاستدراكات الخاصة بالأجزاء الثالث والرابع والخامس الواردة فى آخر الجزء السادس فى صفحة 380 وما بعدها من وضع حضرته أيضا.
باب سعادة
سبق أن ذكرت فى تعليقاتى بصفحة 280 من الجزء السابع من هذه الطبعة ما يفيد أن باب سعادة أحد أبواب القاهرة القديمة من سورها الغربى كان واقعا فى مكان الباب الغربى للطرقة الفاصلة بين محكمة الاستئناف وبين محافظة مصر بميدان باب الخلق. والصحيح أن باب سعادة كان واقعا فى نفس الوجهة الغربية لمبنى محكمة الاستئناف على بعد عشرة أمتار من شمال الباب الغربى للمحكمة المذكورة.
وكانت الطريق التى توصل من هذا الباب إلى داخل المدينة تسير إلى الشرق فى القسم البحرى من مبنى محكمة الاستئناف حتى تتلاقى بمدخل شارع المنجلة، وهو امتداد الطريق التى لا تزال توصل إلى داخل مدينة القاهرة القديمة. وباقى الشرح الوارد بالجزء السابع صحيح.
حوض ابن هنس
ذكرت فى الحاشية رقم 4 ص 206 من هذا الجزء أن حوض ابن هنس كان واقعا بشارع الحلمية على رأس شارع الهامى باشا، بناء على ما ورد فى كتاب الخطط التوفيقية. وبعد طبع هذه الحاشية رأيت فى خطط المقريزى عند كلامه على حمام الأمير سيف الدين ألدود الجاشنكيرى (ص 85 ج 2) أن هذا الحمام فى الشارع

(9/330)


المسلوك خارج باب زويلة تجاه زقاق خان حلب بجوار حوض سعد الدين مسعود ابن هنس. ومن هذا يتضح أن هذا الحوض كان بجوار الحمام المذكور.
وبالبحث تبين لى: أوّلا- أن حمام الأمير سيف الدين ألدود لا يزال قائما ويعرف اليوم بحمام الدّود بشارع محمد على عند تقابله بشارع السروجية، وكان باب الحمام يفتح قديما على الشارع المسلوك خارج باب زويلة، وكان بجواره حوض ابن هنس يقع على نفس الشارع فيما بين مدخلى شارع السروجية وشارع الحلمية الآن. ثانيا- أنه لما اختطت الحكومة شارع محمد على وفتحته فى سنة 1873 دخل فى طريقه القسم الغربى من الحمام بما فيه الباب الأصلى، ودخلت فيه أيضا الأرض التى كان عليها الحوض، وبذلك زال أثره، ثم فتح للحمام باب جديد هو بابه الحالى الذي فى شارع محمد على.
ومن هذا يعلم أن حوض ابن هنس كان واقعا فى محور شارع محمد على غربى المنزل المجاور لحمام ألدود من الجهة البحرية وفى تجاه مدخل شارع على باشا إبراهيم بالقاهرة.
مسجد الأمير بكتوت الخازندار
ذكرت فى الحاشية رقم 5 ص 219 من هذا الجزء أن هذا المسجد هو الذي يعرف اليوم بجامع البلك ببولاق، اعتمادا على الرخامة التى أخرجتها إدارة حفظ الآثار العربية من بين أنقاض هذا الجامع الخرب، ونقش على تلك الرخامة إنشاء الأمير بكتوت لمسجده فى سنة 709 هـ. وبعد طبع هذه الحاشية تصادف أن اطلعت على كتاب وقف رضوان بك الفقارى المحرر فى 8 ربيع الأوّل سنة 1053 هـ فعلمت منه أن وقف البدرى بكتوت وهو الأمير بكتوت المذكور كان واقعا خارج باب زويلة بالخضريين على يسار السالك طالبا سوق سفل الربع الظاهرى.

(9/331)


وبما أن المؤلف ذكر أن المسجد الذي أنشأه بكتوت يقع خارج باب رويلة فلا بدّ أن يكون قريبا من وقف رضوان بك المذكور. وبالبحث عن هذا المسجد خارج باب زويلة تبين لى أنه قد زال وليس له أثر اليوم، بدليل أن اللوحة الرخام التى كانت على بابه نقلت من عهد قديم إلى جامع البلك ببولاق ثم إلى دار الآثار العربية بميدان باب الخلق بالقاهرة.
دار الأمير آقوش الموصلى
ذكر المؤلف فى صفحة 94 من هذا الجزء كما ذكر المقريزى فى (ص 307 ج 2) أن هذه الدار هدمت ودخلت فى جامع الأمير قوصون الناصرى. وقد كتبنا على تلك الحاشية رقم 3 من هذه الصفحة. وهذه الحاشية ملغاة ولا لزوم لها.
مدارس وجوامع أخرى
يلاحظ القارئ أن مؤلف هذا الكتاب قد خص الملك الناصر محمد بن قلاوون بذكر ما أنشئ فى عصره من العمارات والمنافع العامة على اختلاف أنواعها، سواء أكانت من إنشائه خاصة أم من إنشاء رجال دولته، ومع ذلك فإن المؤلف ترك بعض المساجد مما لا يقل شأنا عما ذكره. لهذا رأيت إتماما للفائدة من هذا الحصر أن أذكر طائفة مما تركه المؤلف من الجوامع والمدارس التى هى من منشآت عصر الملك الناصر فى القاهرة. وهى:
(1) المدرسة القراسنقرية. أنشأها الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب السلطنة سنة 700 هـ (المقريزى ص 388 ج 2) . ومكانها اليوم مدرسة الجمالية الابتدائية بشارع الجمالية بقسم الجمالية.

(9/332)


(2) المدرسة السعدية. أنشأها الأمير شمس الدين سنقر السعدى نقيب المماليك السلطانية فى سنة 715 هـ (المقريزى ص 397 ج 2) . ولا تزال قائمة إلى اليوم بشارع السيوفية، وكانت مستعملة أخيرا تكية للمولوية بقسم الخليفة.
(3) المدرسة المهمندارية. أنشأها الأمير شهاب الدين أحمد بن آقوش العزيزى المهمندار ونقيب الجيوش فى سنة 725 هـ (المقريزى ص 399 ج 2) .
ولا تزال قائمة إلى اليوم باسم جامع المهمندار بشارع التبانة بقسم الدرب الأحمر.
(4) المدرسة الملكية. أنشأها الأمير الحاج سيف الدين آل ملك الجوكندار الناصرى فى سنة 719 هـ، كما هو ثابت بالنقش على بابها، وذكرها المقريزى فى خططه (ص 392 ج 2) . ولا تزال قائمة إلى اليوم باسم جامع الجوكندار بشارع أم الغلام بقسم الجمالية بالقاهرة. وتسميه العامة زاوية حالومة، وهو رجل مغربى طالت خدمته لهذا المسجد فعرف به.
(5) جامع ابن غازى. أنشأه نجم الدين بن غازى دلال المماليك فى سنة 741 هـ (المقريزى ص 313 ج 2) . ومكانه اليوم الجامع المعروف بجامع الشيخ نصر بشارع درب نصر ببولاق.
(6) جامع ابن صارم. أنشأه محمد بن صارم شيخ بولاق. ذكره المقريزى (ص 325 ج 2) ، ولم يذكر تاريخ إنشائه، ولكن إبراهيم بن مغلطاى ذكره فى منشآت عصر الملك الناصر محمد بن قلاوون. ومكانه اليوم الجامع المعروف بجامع الشيخ عطية بدرب نصر ببولاق.

(9/333)


(7) جامع الشيخ مسعود. ذكره المقريزى فى خططه عند الكلام على سويقة العياطين (ص 107 ج 2) فقال: إن الذي أنشأه هو الشيخ مسعود بن محمد بن سالم العياط فى سنة 728 هـ. ولا يزال هذا المسجد قائما إلى اليوم باسم جامع الشيخ مسعود بعطفة الشيخ مسعود بدرب الأقماعية بقسم باب الشعرية.
(8) جامع فلك الدين فلك شاه. يستفاد مما هو منقوش فى لوح من الرخام مثبت بأعلى محراب هذا المسجد أن الذي أنشأه هو الأمير فلك الدين فلك شاه بن دادا البغدادى فى سنة 720 هـ. ومن هذا التاريخ يتبين أنه من منشآت عصر الملك الناصر محمد بن قلاوون. ولا يزال هذا الجامع موجودا، ويعرف بجامع الجنيد بشارع الدوب الجديد بقسم السيدة زينب، وينسب إلى الشيخ على الجنيد المدفون فيه.

(9/334)


[الجزء العاشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحابته والمسلمين الجزء العاشر من كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من الحوادث سنة 742]
ذكر ولاية الملك المنصور أبى بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر
هو السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو بكر ابن السلطان الملك الناصر أبى المعالى محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون. جلس على تخت الملك بالإيوان «1» من قلعة الجبل بعهد من أبيه إليه صبيحة توفّى والده، وهو يوم الخميس حادى عشرين ذى الحجّة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ولقّبه الأمراء الأكابر بالملك المنصور على لقب جدّه. والمنصور هذا هو الثالث عشر من ملوك الترك بديار مصر، والأوّل من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون، واتّفق الأمراء على إقامة الأمير سيف الدين طقزدمر الحموىّ، حمو الملك المنصور هذا فى نيابة السلطنة بديار مصر كونه من أكابر الأمراء، وأيضا صهر السلطان، ويكون الأمير قوصون الناصرىّ مدبّر المملكة، ورأس المشورة، ويشاركه فى الرأى الأمير بشتك الناصرىّ، وتمّ ذلك ورسم بتجهيز التشاريف والخلع إلى نوّاب البلاد الشاميّة على يد الأمير قطلوبغا الفخرىّ، ورسم له بتحليف الأمراء والنوّاب بالبلاد الشاميّة على

(10/3)


العادة. ونودى بالقاهرة ومصر أن يتعامل الناس بالفضّة والذهب بسعر الله تعالى، فسّر الناس بذلك، فإنهم كانوا قد امتنعوا من التعامل بالفضة وألّا تكون معاملتهم إلّا بالذهب. ثم أفرج عن بركة الحبش «1» ، وكان النشو قد أخذها من الأشراف، وصار ينفق فيهم من بيت المال. ثم كتب إلى ولاة الأعمال برفع المظالم وألّا يرمى على بلاد الأجناد شعير ولا تبن.
ثم فى يوم الخميس ثامن عشرين «2» ذى الحجّة أنعم الملك المنصور على عشرة أمراء بإمرة طبلخاناه. ثم جمع القضاة فى يوم السبت سلخه فى جامع «3» القلعة للنظر فى أمر الخليفة الحاكم بامر الله أحمد بن أبى الربيع سليمان وإعادته إلى الخلافة، وحضر معهم الأمير طاجار الدّوادار فاتّفقوا على إعادته لعهد أبيه إليه بالخلافة بمقتضى مكتوب ثابت على قاضى قوص «4» .
ثم فى يوم الاثنين ثانى المحرّم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة خلع السلطان على جميع الأمراء المقدّمين فى الموكب بدار العدل «5» ، وطلع القضاة وجلس الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد على الدرجة الثالثة من تخت السلطان، وعليه خلعة خضراء وفوق عمامته طرحة سوداء مرقومة بالذهب، ثم خرج السلطان من باب السرّ «6» على العادة إلى الإيوان فقام له الخليفة والقضاة ومن كان جالسا من الأمراء، وجلس على

(10/4)


الدرجة الأولى دون الخليفة، وقام الخليفة وافتتح الخطبة بقوله عزّ وجلّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ
. ثم أوصى الأمراء بالرفق بالرعية وإقامة الحق وتعظيم شعائر الإسلام ونصرة الدين، ثم قال: فوّضت إليك جميع أحكام المسلمين، وقلّدتك ما تقلّدته من أمور الدين.
ثم تلا قوله تعالى: [إِنَّ «1» الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
] (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
وجلس فجىء فى الحال بخلعة سوداء فألبسها الخليفة السلطان بيده، ثم قلّده سيفا عربيّا، وأخذ القاضى علاء الدين علىّ بن فضل الله كاتب السرّ فى قراءة عهد الخليفة للسلطان حتّى فرغ منه، ثم قدّمه إلى الخليفة فكتب عليه، ثم كتب بعده قضاة القضاة بالشهادة عليه، ثم قدّم السّماط فأكلوا وانقضت الخدمة.
ثم قدم الأمير بيغرا فى يوم الخميس خامس المحرّم من عند الأمير أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك وقد حلّفه بمدينة الكرك لأخيه السلطان الملك المنصور هذا، ففرح الناس بذلك.
ثم فى يوم الأحد ثامن المحرّم قبض على الأمير بشتك الناصرىّ، وذلك أنه طلب أن يستقرّ فى نيابة الشام، ودخل على الأمير قوصون وسأله فى ذلك وأعلمه أنّ السلطان كان قبل موته وعده بها وألحّ فى سؤاله، وقوصون يدافعه ويحتّج عليه بأنه قد كتب إلى الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب دمشق تقليدا باستمراره فى نيابة

(10/5)


دمشق على عادته ولا يليق عزله سريعا، فقام عنه بشتك وهو غير راض، فإنه كان قد توهّم من قوصون وخشى منه على نفسه وطلب الخروج من ديار مصر لما كان بينهما قديما من المنافرة، ولأنّ قوصون صار الآن متحكّما فى الدولة، فلمّا خرج بشتك من عند قوصون وهو غير راض سعى بخاصّكيّة السلطان وحمل إليهم مالا كثيرا فى السرّ، وبعث إلى الأمراء الكبار وطلب منهم المساعدة، فما زالوا بالسلطان حتى أنعم عليه بنيابة الشام وطلب الأمير قوصون وأعلمه بذلك فلم يوافقه، وقرّر مع السلطان أنه يحدّث الأمراء فى ذلك ويعدهم بأنه يولّى بشتك إذا قدم الأمير قطلوبغا الفخرىّ من تحليف نائب الشام وبنسخة اليمين، فلمّا دخل الأمراء عرّفهم السلطان طلب بشتك بنيابة الشام فأخذوا فى الثناء عليه والشكر منه، فاستدعاه وطيّب خاطره ووعده بها عند قدوم الفخرىّ، ورسم له بأن يتجهز للسفر، فظن بشتك أن ذلك صحيح، وقام مع الأمراء من الخدمة، وأخذ فى عرض خيوله وبعث لكل من أكابر الأمراء المقدّمين ما بين ثلاثة أرؤس إلى رأسين بالقماش المذهب الفاخر، وبعث معها أيضا الهجن، ثم بعث إلى الأمراء الخاصّكيّة مثل ملكتمر الحجازىّ وألطنبغا الماردانىّ شيئا كثيرا من الذهب والجوهر واللؤلؤ والتحف. وفرّق عدّة من الجوارى فى الأمراء بحيث إنه لم يبق أحد من الأمراء إلا وأرسل إليه. ثم فرّق على مماليكه وأجناده وأخرج ثمانين جارية بعد ما شوّرهنّ بالأقمشة والزراكش وزوجهنّ. وفرّق من شونته على الأمراء اثنى عشر ألف إردب غلة. وزاد بشتك فى العطاء حتى وقع الإنكار عليه واتّهمه السلطان والأمير قوصون بأنه يريد الوثوب على السلطان وعملوا هذا من فعله حجّة [للقبض «1» ] عليه، وكان ما خصّ الأمير قوصون من تفرقة بشتك فى هذه النّوبة حجرين من حجارة معاصير

(10/6)


القصب بما فيهما «1» من القنود «2» والسكر والأعسال والأبقار والغلال والآلات، وخمسمائة فدّان من القصب مزروعة فى أراض ملك له، وغير ذلك، فأدهش الأمراء كثرة عطائه، واستغنى منه جماعة من مماليكه وحواشيه. ولما كثرت القالة فيه بأنّه يريد إفساد الدولة خلا به بعض خواصّه وعرّفه ذلك وأشار عليه بإمساك يده عن العطاء، فقال: هم إذا قبضوا علىّ أخذوا مالى وأنا أحقّ بتفرقته منهم، وإذا سلمت فالمال كثير. هذا وقد قام قوصون فى أمر بشتك المذكور قياما حتّى وافقه السلطان على القبض عليه عند قدوم قطلوبغا الفخرىّ، فأشاع قوصون أنّ بشتك يريد القبض على الفخرىّ إذا حضر فبلغ ذلك بعض خواصّ قطلوبغا، فبعث إليه من تلقّاه وعرّفه بما وقع من تجهيز بشتك وأنّه على عزم من أن يلقاك فى طريقك ويقتلك، فكن على حذر، فأخذ قطلوبغا من الصالحيّة «3» يحترز على نفسه حتّى نزل سرياقوس «4» واتّفق من الأمر العجيب أنّ بشتك خرج إلى حوشه بالرّيدانيّة «5» خارج

(10/7)


القاهرة ليعرض هجنه وجماله فطار الخبر إلى قطلوبغا أنّ بشتك قد خرج إلى الرّيدانيّة فى انتظارك، فاستعدّ قطلوبغا ولبس السلاح من تحت ثيابه وسار حتّى تلقّاه عدّة كثيرة من مماليكه وحواشيه وهو على أهبة الخروج للحرب، وخرج عن الطريق وسلك من تحت الجبل لينجو من بشتك وقد قوى عنده صحّة ما بلغه، وكان عند بشتك علم من قدومه، فلمّا قرب من الموضع الذي فيه بشتك لاحت له غبرة خيل فحدس بشتك أنّه قطلوبغا الفخرى قد قدم، فبعث إليه أحد مماليكه يبلّغه سلامه وأنّه يقف حتّى يأتيه فيجتمع به، فلمّا بلغ الفخرىّ ذلك زاد خوفه من بشتك، فقال له: سلّم على الأمير وقل له: لا يمكن اجتماعه بى قبل أن أقف قدّام السلطان. ثم بعد ذلك اجتمع به وبغيره، فمضى مملوك بشتك وفى ظن قطلوبغا أنّه إذا بلّغه مملوكه الجواب ركب إليه، فأمر قطلوبغا مماليكه بأن يسيروا قليلا قليلا، وساق هو بمفرده مشوارا واحدا إلى القلعة، ودخل إلى السلطان وبلّغه طاعة النوّاب وفرحهم بأيّامه. ثم أخذ يعرّف السلطان والأمير قوصون وسائر الأمراء بما اتّفق له مع بشتك، وأنّه كان يريد معارضته فى طريقه وقتله فأعلمه السلطان وقوصون بما اتّفقا عليه من القبض على بشتك. فلما كان عصر اليوم المذكور، ودخل الأمراء إلى الخدمة على العادة بالقصر وفيهم الأمير بشتك، وأكلوا السّماط تقدّم الأمير قطلوبغا الفخرىّ والأمير طقزدمر إلى بشتك وأخذا سيفه وكتّفاه وقبض معه على أخيه «1» إيوان وعلى طولوتمر ومملوكين من المماليك السلطانيّة كانا يلوذان ببشتك، وقيّدوا جميعا وسفّروا إلى الإسكندريّة فى اللّيل صحبة الأمير أسندمر العمرىّ وقبض على جميع مماليكه ووقعت الحوطة على موجوده ودوره وتتبّعت غلمانه وحواشيه. وأنعم السلطان من إقطاع بشتك

(10/8)


على الأمير قوصون بخصوص «1» الشّرق زيادة على ما بيده، وأخذ السلطان المطريّة «2» ومنية ابن خصيب «3» وشبرا «4» ، وفرّق بقيّة الإقطاع على ملكتمر الحجازىّ وغيره من الأمراء.
فلمّا أصبحوا يوم الاثنين تاسع المحرّم حملت حواصل بشتك، وهى «5» من الذهب العين مائتا ألف دينار مصريّة. ومن اللؤلؤ والجواهر والحوائص الذهب والكلفتاه الزّركش شىء كثير جدّا، هذا بعد أن فرّق غالب موجوده حسب ما تقدّم ذكره على الأمراء والمماليك. ثم أخرج السلطان الأمير أحمد شادّ الشّر بخاناه منفيّا إلى طرابلس لميله مع بشتك.

(10/9)


وفى يوم الخميس أنعم السلطان على أخويه: شعبان ورمضان كلّ واحد بإمرة.
وفيه قبض السلطان على الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتمر الحاجب لشىء أوجب ذلك. وفى يوم الاثنين ثالث عشرين المحرّم خلع السلطان الملك المنصور أبو بكر على الأمير طقزدمر الحموىّ بنيابة السلطنة بالديار المصريّة، وكان رشّح لها قبل تاريخه، فلبس الخلعة وجلس فى دست النيابة وحكم وصرّف الأمور. وفى يوم الاثنين سلخه قبض السلطان على الأمير آقبغا عبد الواحد وعلى أولاده، وخلع على الأمير طقتمر «1» الأحمدىّ واستقرّ أستادارا عوضا عن آقبغا المذكور، ورسم للأمير طيبغا المجدىّ والى القاهرة بإيقاع الحوطة على موجود آقبغا، وسلّم ولده الكبير إلى المقدّم إبراهيم بن صابر. وأصبح يوم الثلاثاء أوّل صفر فتحدّث الأمراء أن ينزل فى ترسيم «2» المجدىّ ليتصرّف فى أمره، فنزل فى صحبة المجدىّ وأخذ فى بيع موجوده، وكان السلطان قد حلف قديما أنّه متى تسلطن قبض عليه وصادره وضربه بالمقارع لأمور صدرت منه فى حقّه أيام والده الملك الناصر. فكان ممّا أبيع لآقبغا عبد الواحد سراويل لزوجته بمائتى ألف درهم فضّة وقبقاب وخفّ وسرموجة «3» بخمسة وسبعين ألف درهم، وثار به جماعة كثيرة من الناس ممن كان ظلمهم فى أيام تحكّمه وطلبوا حقوقهم منه وشكوه، فأقسم السلطان لئن لم يرضهم ليسمرنّه على جمل ويشهّره بالقاهرة ففرّق فيهم مائتى ألف درهم حتى سكتوا، وكادت العامة تقتله لولا المجدىّ لسوء سيرته وكثرة ظلمه أيّام ولايته. وفى يوم الأربعاء تاسع صفر قبض السلطان

(10/10)


على المقدّم إبراهيم بن صابر وسلّمه لمحمد بن شمس [الدين «1» ] المقدّم وأحيط بأمواله، فوجد له نحو سبعين حجرة «2» فى الجشار «3» ومائة وعشرين بقرة فى الزرايب ومائتى كبش وجوقتين كلاب سلوقيّة «4» وعدّة طيور جوارح مع البازداريّة «5» . ووجد له من الغلال وغيرها شىء كثير.
ثم قدم الخبر على السلطان من الأمير طشتمر حمّص أخضر الساقى نائب حلب بخروج ابن دلغادر عن الطاعة وموافقته لأرتنا متملّك الروم على المسير لأخذ حلب، وأنّه قد جمع بأبلستين «6» جمعا كثيرا، وسأل طشتمر أن ينجده بعسكر من مصر، فتشوّش السلطان لذلك وعوّق الجواب. وفيه رسم السلطان بضرب آقبغا عبد الواحد بالمقارع فلم يمكّنه الأمير قوصون من ذلك فآشتدّ حنق السلطان وأطلق لسانه بحضرة خاصّكيّته فى حقّ قوصون وغيره، وفى ذلك اليوم عقد السلطان نكاحه على جاريتين من المولّدات اللّاتى فى بيت السلطان، وكتب القاضى علاء الدين بن فضل الله كاتب السرّ صداقهما، فخلع عليه السلطان وأعطاه عشرة آلاف درهم، ورسم السلطان لجمال الكفاة ناظر الخاصّ أن يجهّزهما بمائة ألف دينار، فشرع جمال الكفاة فى عمل الجهاز، وبينما هو فى ذلك ركب الأمير قوصون على السلطان بجماعة من الأمراء فى يوم السبت تاسع عشر صفر وخلعوه من الملك فى يوم الأحد عشرينه، وأخرج هو وإخوته إلى قوص «7» صحبة الأمير بهادر بن «8» جركتمر.

(10/11)


وكان سبب خلع الملك المنصور هذا أنّ المنصور كان قرّب الأمير يلبغا اليحياوىّ وشغف به شغفا كثيرا، ونادم الأمير ملكتمر الحجازىّ واختصّ به وبالأمير طاجار الدّوادار وبالأمير قطليجا الحموى وجماعة من الخاصّكيّة، وعكف على اللهو وشرب الخمر وسماع الملاهى فشقّ ذلك على الأمير قوصون وغيره لأنّه لم يعهد من ملك قبله شرب خمر فيما روى، فحملوا الأمير طقزدمر النائب على محادثته فى ذلك وكفّه عنه فزاده لومه إغراء وأفحش فى التّجاهر باللهو، حتى تكلّم به كلّ أحد من الأمراء والأجناد والعامّة، فصار فى الليل يطلب الغلمان لإحضار المغانى، فغلب عليه السّكر فى بعض الليالى فصاح من الشّباك على الأمير أيدغمش أمير آخور:
هات لى قطقط «1» ، فقال أيدغمش: ياخوند، ما عندى فرس بهذا الاسم، فتكلّم بذلك السّلاخوريّة «2» والركابيّة «3» وتداولته الألسنة.
قلت: وأظن قطقط كانت امرأة مغنّية. والله أعلم.
فلمّا زاد أمره طلب الأمير قوصون طاجار الدّوادار والشّهابىّ شادّ العمائر، وعنّفهما ووبّخهما وقال لهما: سلطان مصر يليق به أن يعمل مقامات ويحضر إليه البغايا والمغانى! أهكذا كان يفعل والده؟ وعرّفهم أن الأمراء قد بلغهم ذلك وتشوّش خواطرهم، فدخلوا وعرّفوا السلطان كلامه، وزادوا فى القول، فأخذ جلساء الملك المنصور فى الوقيعة فى قوصون والتحدث فى القبض عليه وعلى الأمير

(10/12)


قطلوبغا الفخرىّ والأمير بيبرس الأحمدىّ والأمير طقزدمر النائب، فنمّ عليهم الأمير يلبغا اليحياوىّ لقوصون، وكان قد استماله قوصون بكثرة العطاء فيمن استمال من المماليك السلطانيّة. وعرّفه أن الاتّفاق قد تقرّر على القبض عليه فى يوم الجمعة وقت الصلاة، فانقطع قوصون عن الصلاة وأظهر أنّ برجله وجعا، وبعث فى ليلة السبت يعرّف بيبرس الأحمدىّ بالخبر ويحثّه على الركوب معه، وطلب المماليك السلطانيّة وواعدهم على الركوب وملأهم بكثرة المواعيد، ثمّ بعث إلى الأمير الحاج آل ملك والأمير چنكلى بن البابا وهؤلاء أكابر الأمراء فلم يطلع الفجر حتّى ركب الأمير قوصون من باب سرّ «1» القلعة بمماليكه ومماليك السلطان وسار نحو الصحراء «2» ، وبعث مماليكه فى طلب الأمراء فأتاه جركتمر وبهادر وبرسبغا وقطلوبغا الفخرىّ والأحمدىّ وأخذوا آقبغا عبد الواحد من ترسيم طيبغا المجدىّ، فسار معه المجدىّ أيضا، ووقفوا بأجمعهم عند قبّة «3» النصر ودقّت طبلخاناتهم، فلم يبق أحد من الأمراء حتّى أتى قوصون، هذا والسلطان وندماؤه وخاصّكيّته فى غفلة لهوهم وغيبة سكرهم إلى أن دخل عليهم أرباب الوظائف، وأيقظوهم من نومهم وعرّفوهم مادهوا به، فبعث السلطان طاجار الدوادار إلى الأمير طقزدمر النائب يسأله عن الخبر ويستدعيه، فوجد عنده چنكلى بن البابا والوزير وعدّة من الأمراء المقيمين بالقلعة، فامتنع طقزدمر من الدخول على السلطان، وقال: أنا مع الأمراء حتّى أنظر ما عاقبة هذا الأمر، ثم قال لطاجار: أنت وغيرك سبب هذا، حتى أفسدتم السلطان «4» بفسادكم ولعبكم، قل للسلطان يجمع مماليكه ومماليك أبيه حوله، فرجع طاجار وبلّغ السلطان ذلك، فخرج السلطان إلى الإيوان وطلب المماليك، فصارت

(10/13)


كلّ طائفة تخرج على أنّها تدخل إليه فتخرج إلى باب القلّة «1» حتى صاروا نحو الأربعمائة مملوك، وساروا يدا واحدة من باب القلّة إلى باب القلعة «2» ، فوجدوه مغلقا فرجعوا إلى النائب طقزدمر بعد ما أخرقوا بوالى باب القلعة وأنكروا عليه وعلى من عنده من الأمراء (أعنى عن الأمير طقزدمر) ، فقال لهم طقزدمر:
السلطان ابن أستاذكم جالس على كرسىّ الملك وأنتم تطلبون غيره. فقالوا: ما لنا ابن أستاذ، وما لنا أستاذ إلّا قوصون، ابن أستاذنا مشغول عنا لا يعرفنا ومضوا إلى باب القرافة «3» وهدموا منه جانبا وخرجوا فإذا خيول بعضهم واقفة فركب بعضهم وأردف عدّة منهم ومشى باقيهم إلى قبّة النصر ففرح بهم قوصون والأمراء وأركبوهم الخيول وأعطوهم الأسلحة وأوقفوهم بين أصحابهم، ثم أرسل قوصون الأمير مسعود [بن «4» خطير] الحاجب إلى السلطان يطلب منه ملكتمر الحجازىّ ويلبغا اليحياوىّ، وهما من أمراء الألوف الخاصّكيّة وطاجار الدّوادار وغيرهم، ويعرّفه أنه أستاذه وأستاذ جميع الأمراء وابن أستاذهم وأنهم على طاعته وإنما يريدون هؤلاء لما صدر منهم من الفساد ورمى الفتن، فطلع الأمير مسعود فوجد السلطان بالإيوان من القلعة، وهم حوله فى طائفة من المماليك فقبّل الأرض وبلّغه الرسالة، فقال السلطان: لا كيد ولا كرامة لهم. وما أسّير مماليكى ومماليك أبى لهم، وقد كذبوا فيما نقلوا عنهم ومهما قدروا عليه يفعلوه، فما هو إلّا أن خرج عنه الأمير مسعود حتى اقتضى رأيه بأن يركب بمن معه وينزل من القلعة ويطلب

(10/14)


النائب طقزدمر ومن عنده من الأمراء والمماليك ويدقّ كوساته، فتوجه إلى الشّباك وأمر أيدغمش أمير آخور أن يشدّ الخيل للحرب، فأخبره أنه لم يبق فى الإسطبل غلام ولا سايس ولا سلاخورىّ «1» يشدّ فرسا واحدا، فبعث إلى النائب يستدعيه فامتنع عليه، وبعث الأمير قوصون بلك الجمدار وبرسبغا إلى طقزدمر النائب يعلماه «2» بأنه متى لم يحضر الغرماء إليه وإلا زحف على القلعة وأخذهم غصبا، فبعث طقزدمر إلى السلطان يشير عليه بإرسالهم، فعلم السلطان أنّ النائب وأمير آخور قد خذلاه، فقام ودخل على أمّه فلم يجد الغرماء بدّا من الإذعان، وخرجوا إلى النائب، وهم الأمير ملكتمر الحجازىّ وألطنبغا الماردانىّ ويلبغا اليحياوىّ، وهؤلاء مقدمو الألوف، وأحد خواصّ الملك الناصر محمد بن قلاوون- رحمه الله- وطاجار الدّوادار والشهابىّ شادّ العمائر وبكلمش الماردينىّ وقطليجا الحموىّ، فبعثهم طقزدمر النائب إلى قوصون صحبة بلك الجمدار وبرسبغا، فلمّا رآهم قوصون صاح فى الحاجب أن يرجّلهم عن خيولهم من بعيد فأنزلوا إنزالا قبيحا وأخذوا حتى أوقفوا بين يدى قوصون، فعنّفهم ووبّخهم وأمر بهم فقيّدوا وعملت الزناجير «3» فى رقابهم، والخشب فى أيديهم ثم تركهم فى خيم ضربت لهم عند قبّة النصر. واستدعى طقزدمر النائب والأمير چنكلى بن البابا والوزير والأمراء المقيمين بالقلعة والأمير أيدغمش أمير آخور فنزلوا اليه واتّفقوا على خلع الملك المنصور وإخراجه، فتوجّه الأمير برسبغا فى جماعة إلى القلعة وأخرج الملك المنصور وإخوته وهم سبعة نفر، ومع كلّ منهم مملوك صغير وخادم وفرس وبقجة قماش، وأركبهم إلى شاطئ النيل وأنزلهم فى حرّاقة «4» وسار بهم إلى قوص،

(10/15)


ولم يترك بالقلعة من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاون إلّا كچك، ثم سلّم قوصون الأمراء المقيّدين إلى والى القاهرة، فمضى بهم إلى خزانة «1» شمائل وسجنهم بها إلا يلبغا اليحياوىّ، فإنّه أفرج عنه، وكان يوما عظيما بالديار المصريّة من إخراج أولاد السلطان الملك الناصر على هذه الصورة، وحبس هؤلاء الأمراء الملوك فى خزانة شمائل وتهتّك حرم السلطان على إخراج أولاد الناصر، وكثر البكاء والعويل بالقاهرة، فكان هذا اليوم من أشنع الأيام. وبات قوصون ومن معه ليلة الأحد بخيامهم فى قبّة النصر خارج القاهرة، وركبوا بكرة يوم الأحد العشرين من صفر إلى قلعة الجبل واتّفقوا على إقامة كچك ابن الملك الناصر محمد فى السلطنة، فاقيم وجلس على كرسىّ الملك حسب ما يأتى ذكره فى أوّل ترجمته. وخلع الملك المنصور فى يوم السبت تاسع عشر صفر من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، فكانت مدّة ملكه على مصر تسعة وخمسين يوما، ومن حين قلّده الخليفة [ثمانية «2» و] أربعين يوما، لأنّه لمّا تسلطن كان الخليفة [الحاكم «3» بأمر الله أحمد بن أبى الربيع سليمان] المستكفى لم يتمّ أمره فى الخلافة، ثم انتظم أمره بعد ذلك فبايع الملك المنصور حسب ما ذكرناه، وخلع الملك المنصور أبو بكر من السلطنة وسلم القلعة بغير قتال مع كثرة من كان معه من خواصّ أمراء أبيه ومماليكه، خذلان من الله تعالى!

(10/16)


وفى خلعه من السلطنة وإخراجه إلى قوص مع إخوته عبرة لمن اعتبر، فإن والده الملك الناصر محمد بن قلاوون كان أخرج الخليفة أبا الربيع سليمان المستكفى بأولاده وحواشيه إلى قوص منفيّا مرسّما عليه فقوصص الملك الناصر عن قريب فى ذرّيته بمثل ذلك، وأخرج أولاده أعزّ مماليكه وزوج ابنته، وهو قوصون الناصرىّ، فتوجّه الملك المنصور مع إخوته إلى قوص وصحبته بهادر «1» بن جركتمر مثل الترسيم عليه وعلى إخوته، وأقام بها نحو الشهرين، ودسّ عليه قوصون عبد المؤمن متولىّ قوص فقتله وحمل رأسه إلى قوصون سرّا فى أواخر شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وكتموا ذلك عن الناس. فلمّا أمسك قوصون تحقّق الناس ذلك، وجاء من حاقق بهادر أنّه غرّق طاجار الدوادار واستحسّ على قتل المنصور، فطلب عبد المؤمن وقرّر فاعترف فسمّره السلطان الملك الناصر أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقد تسلطن بعد أخيه كچك آخذا بدم أخيه الملك المنصور هذا.
وكان الملك المنصور سلطانا كريما شابا حمل اليه مال بشتك ومال آقبغا عبد الواحد ومال برسبغا فوهب ذلك جميعه إلى الخاصّكيّة الأمراء من مماليك والده مثل ملكتمر الحجازىّ وألطنبغا الماردانىّ ويلبغا اليحياوىّ وطاجار الدّوادار، وهؤلاء كانوا عظماء أمراء الألوف من الخاصّكيّة وأعيان مماليك الملك الناصر محمد ابن قلاوون وأصهاره وأحبّهم وأحبّوه، فالتهى بهم عن قوصون وقوى بهم بأسه، فخاف قوصون عاقبة أمره وتقرّب خشداشيته إليه فدبّر عليه وعليهم حتّى تمّ له ذلك، وكانت الناس تباشرت بيمن سلطنته، فإنه لمّا تسلص انفعلت الأمور على أحسن

(10/17)


ما يكون ولم يقع بين الناس خلاف ولا وقع سيف حتّى خالف قوصون، فرموه بأمور وقبائح ودواهى، وادّعوا أنّه كان ينزل هو والمذكورون من مماليك أبيه إلى بحر النيل ويركب معهم فى المراكب وأشياء من ذلك، الله أعلم بصحّتها. ولم يكن مسك بشتك بخاطره ولا عن أمره إلّا مراعاة لخاطر قوصون لما كان بينهما من أيام أستاذهما الملك الناصر محمد من المنافرة. وكان الملك المنصور شابّا حلو الوجه، فيه سمرة وهيف قوام، وكان تقدير عمره ما حول العشرين سنة، وكان أفحل الإخوة وأشجعهم. زوّجه أبوه بنت الأمير سيف الدين طقزدمر الحموىّ.
قال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ فى تاريخه: وعمل الناس عزاءه ودار جواره «1» فى الليل بالدّرارك «2» فى شوارع القاهرة أيّاما، وأبكين الناس وتأسّفوا عليه لأنّه خذل، وعمل عليه وأخذ بغتة، وقتل غضّا طريّا، ولو استمرّ لجاء منه ملك عظيم، كان فى عزمه ألّا يغيّر قاعدة من قواعد جدّه الملك المنصور قلاوون، ويبطل ما كان أحدثه أبوه من إقطاعات العربان وإنعاماتهم، وغير ذلك. انتهى كلام الصلاح الصّفدىّ باختصار.
وأمّا أمر بشتك وحبسه فإنه كان من أجلّ مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان ثقل عليه فى أواخر أمره، فإنه لمّا مات بكتمر الساقى ورثه فى جميع أمواله «3» ، فى داره وإسطبله. وتزوّج بامرأته أمّ أحمد بن بكتمر الساقى واشترى جاريته

(10/18)


خوبى «1» بستة آلاف دينار، وكان معها من القماش ما قيمته عشرة آلاف دينار، وأخذ ابن بكتمر عنده. وكانت الشرقية «2» تحمى لبكتمر الساقى فحماها هو بعده، فعظم ذلك على قوصون ولم يسعه إلّا السّكات لميل السلطان إليه. وكان مع هذه الرياسة الضخمة غير عفيف الذّيل عن المليح والقبيح، وبالغ فى ذلك وأفرط حتّى فى نساء الفلّاحين وغيرهم. وكان سبب قربه من أستاذه الملك الناصر أنّ الملك الناصر قال يوما فى مبدأ أمره لمجد»
الدين السّلّامىّ: أريد أن أشترى لى مملوكا يشبه بو سعيد ابن خربندا ملك التّتار، فقال مجد الدين: دع ذلك، فهذا بشتك يشبهه لا فرق بينهما فحظى عنده لذلك. ولمّا ندبه السلطان لمسك تنكز وتوجّه إلى الشام للحوطة على مال تنكز، ورأى أمر مشق طمع فى نيابتها ولم يجسر يفاتح السلطان فى ذلك، وبقى فى نفسه منها حزازة، فلمّا مرض السلطان وأشرف على الموت ألبس بشتك مماليكه، فإنّه كان بلغه عن قوصون أنّه ألبس مماليكه، ثم انتظم الأمر على أن السلطان جعل ابنه أبا بكر ولىّ عهده، وقد قدّمنا ذكر ذلك كلّه مفصّلا فى أواخر ترجمة الملك الناصر. فلمّا وقع ذلك قال بشتك: لا أوافق على سلطنة أبى بكر، ما أريد إلّا سيّدى أحمد الذي بالكرك. فلمّا مات السلطان وسجّى قام قوصون إلى الشّباك وطلب بشتك وقال له: يا أمير تعال، أنا ما يجيء منّى سلطان، لأنّى كنت أبيع

(10/19)


الطّسما «1» والكشاتوين «2» فى البلاد وأنت اشتريت منّى، وأهل البلاد يعرفون ذلك منّى، وأنت ما يجيء منك سلطان، لأنّك كنت تبيع البوزا «3» ، وأنا اشتريت ذلك منك، وأهل البلاد يعرفون ذلك كلّه، فما يكون سلطانا من عرف ببيع الطسما والبرغالى «4» ، ولا من عرف ببيع البوزا، وهذا أستاذنا هو الذي أوصى لمن هو أخبر به من أولاده، وهذا فى ذمّته وما يسعنا إلّا امتثال أمره حيّا وميّتا، وأنا ما أخالفك إن أردت أحمد أو غيره، ولو أردت أن تعمل كلّ يوم سلطانا ما خالفتك؛ فقال بشتك:
كلّ هذا صحيح، والأمر أمرك، وأحضرا المصحف وحلف كلّ للآخر وتعانقا، ثم قاما إلى رجلى السلطان فقبّلاهما وبكيا، ووضعا ابن السلطان على كرسىّ الملك. وقد تقدم ذكر ذلك كلّه، وتمّ الأمر بينهما على ذلك، حتى بدا لبشتك أن يلى نيابة الشام فعاكسه قوصون فثارت الكمائن والضغائن القديمة بينهما حتى وقع ما حكيناه، وأمسك بشتك واعتقل بالإسكندريّة إلى أن قتل فى محبسه بالإسكندرية بعد أيام فى سلطنة الملك الأشرف كچك ابن الملك النّاصر محمد بن قلاوون فى شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين المذكورة، حسب ما يأتى ذكره. وبشتك هذا أوّل من أمسك من أمراء الدولة الناصريّة. وكان كريما مهابا، كان يذبح فى سماطه فى كل يوم خمسين رأسا من الغنم وفرهما لا بدّ منه، خارجا عن الدجاج والإوز والحلوى. انتهى ترجمة الملك المنصور أبى بكر بن محمد بن قلاوون. رحمه الله تعالى.

(10/20)


ذكر ولاية الملك الأشرف علاء الدين كچك «1» على مصر
هو السلطان الملك الأشرف علاء الدين كچك ابن السلطان الملك الناصر، ناصر ناصر الدين أبى المعالى محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفىّ الصالحىّ النّجمىّ. جلس على تخت الملك باتّفاق الأمراء بعد خلع أخيه أبى بكر ابن الملك الناصر محمد فى يوم الاثنين حادى عشرين صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وركب بشعار السلطنة ولقّب بالملك الأشرف ولم يكمل له من العمر خمس سنين، وقيل كان عمره دون سبع سنين. وأمّه أمّ ولد تسمّى أردو تركيّة الجنس وهو السلطان الرابع عشر من ملوك الترك بديار مصر، والثانى من أولاد الملك الناصر محمد ابن قلاوون. ولمّا تمّ أمره فى السلطنة جلس الأمراء واشتوروا فيمن يقيموه «2» فى نيابة السلطنة فرشّح الأمير أيدغمش أمير آخور فامتنع أيدغمش من ذلك فوقع الاتفاق على الأمير قوصون الناصرىّ فأجاب وشرط على الأمراء أن يقيم على حاله فى الأشرفية «3» من القلعة ولا يخرج منها إلى دار النيابة «4» خارج باب القلّة من القلعة، فأجابوه الأمراء

(10/21)


إلى ذلك، فاستقرّ من يومه فى النيابة، وتصرّف فى أمور المملكة، والسلطان آلة فى السلطنة، فقال فى ذلك بعض شعراء العصر:
سلطاننا اليوم طفل والأكابر فى ... خلف وبينهم الشيطان قد نزغا
فكيف يطمع من تغشيه «1» مظلمة ... أن يبلغ السّؤل والسلطان ما بلغا
ثم اتّفقت الأمراء على إخراج الأمير ألطنبغا الماردانىّ من الحبس فأخرج من يومه. وفى ليلة الأربعاء ثالث عشرين صفر أخرج الأمير قطلوبغا الحموىّ وطاجار الدّوادار وملكتمر الحجازىّ والشّهابىّ شادّ العمائر من حبس خزانة شمائل بالقاهرة، وحملوا إلى ثغر الإسكندريّة فسجنوا بها. وتوجّه الأمير بلك الجمدار على البريد إلى حلب لتحليف النائب طشتمر الساقى المعروف بحمّص أخضر والأمراء، وتوجّه الأمير بيغر إلى دمشق بمثل ذلك إلى نائبها الأمير ألطنبغا الصالحىّ، وتوجّه الأمير جركتمر بن بهادر إلى طرابلس وحماة لتحليف نوّابها والأمراء، وكتب إلى الأعمال بإعفاء الجند عن المغارم. ثم ركب الأمير قوصون فى يوم الخميس رابع عشرينه فى دست النيابة، وترجّل له الأمراء ومشوا فى خدمته، وأخذ وأعطى وأنفق على

(10/22)


الأمراء لكلّ أمير مائة ومقدّم ألف: ألف دينار، ولكلّ أمير طبلخاناه خمسمائة دينار؛ ولكلّ أمير عشرة مائتى دينار، ولكلّ مقدّم حلقة خمسين دينارا، ولكلّ جندى خمسة عشر دينارا.
ثم فى يوم [السبت «1» ] سادس عشرينه سمّر قوصون ولىّ الدولة أبا الفرج ابن خطير صهر النّشو، وكان قد توصّل إلى الملك المنصور بسفارة أستاذه ملكتمر الحجازىّ، ووقع منه أمور حقدها عليه قوصون لوقتها، ولمّا سمّر أشهر على جمل بمصر والقاهرة وقد أشعلت الشموع بالحوانيت والشوارع ودقّت الطبول وفرح الناس بتشهيره فرحا زائدا لأنّه كان ممّن بقى من حواشى النّشو وأصهاره، وفيه يقول الأديب جمال الدين إبراهيم «2» المعمار:
قد أخلف النّشو صهر سوء ... قبيح فعل كما تروه
أراد للشرّ فتح باب ... فأغلقوه وسمّروه
ولمّا كان يوم الخميس مستهلّ شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة أنعم قوصون على أحد وعشرين مملوكا من المماليك السلطانية بإمريات: منهم ستة طبلخاناه والبقيّة عشرات. وفى رابع عشر شهر ربيع الأوّل توجّه الأمير طوغان لإحضار الشهابىّ أحمد ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك محتفظا به لينفى إلى أسوان «3» . وسبب ذلك أنّه ورد كتاب ملكتمر السّرجوانى نائب الكرك يتضمن أنّ أحمد المذكور خرج عن طوعه وكثر شغفه بشباب أهل الكرك وانهماكه فى معاقرة الخمر، وأنّه يخاف على نفسه منه أن يوافق الكركيين على قتله وطلب الإعفاء

(10/23)


من نيابة الكرك. ثمّ فى يوم السبت سابع «1» عشر شهر ربيع الأوّل المذكور خلع على الأمير طقزدمر الحموىّ نائب السلطنة بديار مصر بنيابة حماة عوضا عن الملك الأفضل ابن الملك المؤيّد الأيّوبى، وأنعم على الملك الأفضل بتقدمة ألف بدمشق، وأنعم على الأمير آقبغا عبد الواحد بإمرة بدمشق، ورسم لسفره [إليها «2» ] . وفى يوم الخميس ثانى عشرينه جلس السلطان الملك الأشرف كچك على تخت الملك وخلع على جميع الأمراء وأرباب الدولة بدار العدل. وقبّل الأمراء الأرض بين يديه ثم تقدّموا إليه على قدر مراتبهم وقبّلوا يده فكان عدّة الخلع فى هذا اليوم ألفا ومائتى خلعة.
ثم فى تاسع عشرينه ورد كتاب الشهابىّ أحمد ابن الملك الناصر محمد من الكرك بأنه لا يحضر إلى القاهرة حتى يأتيه أكابر الأمراء إلى الكرك ويحلّفهم، ثم يحضر إخوته من بلاد الصعيد إلى قلعة الكرك، ويحضر بعد ذلك، وينتصب سلطانا فأجيب بأنه لم يطلب إلّا لشكوى النائب منه، وجهّزت له هدّية سنّية، وأنّه يحضر حتى تعمل المصلحة، فلم يكن بعد أيّام إلّا وحضر الأمير ملكتمر السّرجوانىّ نائب الكرك إلى القاهرة فى يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر، وأخبر الأمير قوصون وغيره بامتناع الشهابىّ أحمد من الحضور، وأنّه أقام على الخلاف، فاجتمع الأمراء بالقصر فى يوم الجمعة خامس عشرة للمشورة فى أمر أحمد المذكور، حتّى تقرّر الأمر على تجريد العساكر لأخذه.
ثم فى يوم السبت سادس عشره ابتدأت الفتنة بين الأمير قوصون وبين المماليك السلطانية، وذلك أنّ قوصون أرسل يطلب من مقدّم المماليك مملوكا

(10/24)


من طبقة الزّمرّذيّة «1» جميل الصورة، فمنعه خشداشيته أن يخرج من عندهم، فتلطّف بهم المقدّم حتّى أخذه ومضى به إلى قوصون فبات عنده، ثم طلب من الغد نحو أربعة مماليك أخر أو خمسة، منهم شيخون «2» وصرغتمش وأيتمش عبد الغنى، فامتنع خشداشيتهم من ذلك، وقام منهم نحو المائة مملوك، وقالوا: نحن مماليك السلطان، ما نحن مماليك قوصون، وأخرجوا الطواشى المقدّم من عندهم على أقبح وجه، فمضى المقدّم إلى قوصون وعرّفه الحال، فأخرج إليهم قوصون الأمير برسبغا الحاجب وشاورشى دواداره فى عدّة من مماليكه ليأتوه بهم، فإذا بالمماليك قد تعصّبوا مع كبارهم وخرجوا على حميّة يريدون الأمير بيبرس الأحمدىّ، فإذا به راكب، فمضوا إلى بيت «3» الأمير چنكلى بن البابا فلقوه فى طريقهم؛ فقالوا له:
نحن مماليك السلطان مشترى ماله، فكيف نترك ابن أستاذنا ونخدم غيره، من هو مملوك مثلنا فينال غرضه منّا ويفضحنا بين الناس وجهروا له بالكلام الفاحش، فتلطّف بهم چنكلى فلم يرجعوا عما هم عليه فحنق منهم، وقال: أنتم الظالمون بالأمس ولمّا خرجتم قلت لكم: طقزدمر نائب السلطنة: ارجعوا إلى خدمة

(10/25)


[ابن «1» ] أستاذكم قلتم: ما لنا ابن أستاذ غير قوصون، والآن تشكوا منه! فاعتذروا له ومضوا به؛ وقد حضر الأحمدىّ فاجتمعوا به، وتوجّهوا إلى منكلى بغا الفخرىّ فإذا قد وافاه برسبغا من عند قوصون، فأرادوا أن يوقعوا به فكفّهم الفخرىّ عنه، هذا وقوصون قد بلغه خبرهم، فأراد أن يخرج ويجمع الأمراء فما زال به من عنده حتّى سكن إلى بكرة النهار، فكانت تلك الليلة ليلة مهولة.
ثمّ طلب الأمير قوصون چنكلى والأحمدىّ والفخرىّ وبقيّة الأمراء إليه، وأغراهم بالمماليك السلطانيّة وخوّفهم عاقبة أمرهم من استخفافهم بالأمراء، فبعثوا بالأمير مسعود الحاجب إليهم ليحضرهم فإذا جمعهم قد كثف وكثر، فلم يلتفتوا إليه فعاد فخرج إليهم ألطنبغا الماردانىّ وقطلوبغا الفخرىّ وهما أكبر الأمراء الخاصّكيّة من خشداشيتهم، وما زالا بهم حتّى أخذا من وقع عليه الطلب، ودخلوا بهم إلى قوصون، فقبّلوا يده فقام لهم وقبّل رأسهم وطيّب خواطرهم ووعدهم بكلّ خير وانصرفوا، وفى ذهن قوصون أنّه قد حصل الصلح، وذلك فى يوم السبت. فلمّا كان [ليلة «2» ] الاثنين وقت الغروب تحالف المماليك الناصريّة على قتل قوصون وبعثوا إلى من بالقاهرة منهم، فبات قوصون- وقد بلغه ذلك- على حذر، وركب يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الآخر الموكب مع الأمراء تحت القلعة، وطلب أيدغمش أمير آخور، وأخذ قوصون يلوم الأمراء فى إقامته فى نيابة السلطنة، وهم يترضّوه ويعدوه بالقيام معه، فأدركه الأمير بيبرس الأحمدىّ وأعلمه بأنّ المماليك السلطانيّة قد اتفقوا على قتله، فمضى بهم (أعنى الأمراء) إلى جهة قبّة النصر فآرتجّت القلعة وقفلت أبوابها، ولبست

(10/26)


المماليك السلطانيّة السلاح بالقلعة وكسرو الزّردخاناه «1» السلطانيّة، هذا وقد امتلأت الرّميلة «2» بالعامّة، وصاحوا يا ناصريّة! نحن معكم، فأجابوهم من القلعة، فأشاروا لهم بالتوجّه إلى بيت «3» قوصون فتوجّهوا نحوه وكسروا بابه وهجموا عليه، وكسروا من كان يرمى عليهم من أعلى البيت، وبلغ ذلك قوصون، فعاد بمن كان معه، وأوقعوا بالعامّة

(10/27)


حتّى وصلوا إلى سور القلعة فرماهم المماليك من أعلى القلعة بالنّشّاب وأحموا العامّة، فقتل فى المعركة الأمير محمود صهر الأمير چنكلى بن البابا بسهم نشّاب من القلعة، وقتل معه آخر، ووصلوا حاشية قوصون إلى إسطبل «1» قوصون، فقد بدأ النهب فيه، فقتلوا من العامّة جماعة كثيرة وقبضوا على جماعة، فلم تطق المماليك السلطانيّة مقاومة الأمراء فكفّوا عن القتال وفتحوا باب القلعة لهم، فطلع إليهم الأمير برسبغا الحاجب وأنزل ثمانية من أعيان المماليك السلطانيّة إلى قوصون. وقد وقف قوصون بجانب زاوية «2» تقىّ الدين رجب تحت القلعة، فوسط قوصون منهم واحدا اسمه صربغا، فإنّه الذي فتح خزائن السلاح وألبس المماليك، وأمر به قوصون فعلّق على باب زويلة، وأراد أن يوسّط البقيّة فشفع فيهم الأمراء، فحبسوا بخزانة شمائل مقيّدين. ثم رسم

(10/28)


قوصون بتسمير عدّة من العوامّ فسمّر منهم تسعة على باب زويلة، ثم أمر بالركوب على العامّة وقبضهم ففرّوا حتّى إنهم لم يقدروا منهم على حرفوش «1» واحد، ثم طلع قوصون إلى القلعة قريب العصر، ومدّ للأمراء سماطا فأكلوا وبقيت الأطلاب «2» والأجناد واقفة تحت القلعة إلى آخر النهار، فكان ذلك اليوم من الأيام المشهودة، وكان جملة من قتل فيه من الفئتين ثمانية وخمسين رجلا وانصرف الناس.
ثم فى ليلة الثلاثاء طلع الأمير برسبغا الحاجب إلى طباق «3» المماليك بالقلعة ومعه عدّة من المماليك وقبضوا على مائة مملوك منهم وعملوا فى الحديد وحبسوا بخزانة شمائل، فمنهم من قتل ومنهم من نفى من مصر. ثم فى يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الآخر سمّر قوصون تسعة من العوام. ثم فى يوم الأربعاء عشرينه سمّر قوصون أيضا ثلاثة من الطواشيّة فى عدّة من الحرافيش على باب زويلة، وسبب ذلك أنّ قوصون لما نزل من القلعة ومضى إلى قبّة النصر وقابلته المماليك السلطانيّة أخذت الطواشيّة فى الصياح على نسائه وأفحشوا فى سبّهنّ، واستمر الطواشيّة فى التسمير حتى مات أحدهم وشفع فى الاثنين. ثم عرض قوصون مماليك الأطباق، وأنعم على مائتين منهم بإقطاعات كبيرة، وعيّن جماعة منهم بإمريات. ثم أكثر قوصون من الإحسان إليهم وبينما قوصون فى ذلك قدم عليه كتب نائب الشام وأمراء الشام.
وفيها كتب أحمد ابن السلطان الملك الناصر لهم مختومة لم تفكّ ففتحها قوصون فإذا فيها لنائب الشام أنه كاتب لنائب حلب الأمير طشتمر الساقى حمص أخضر وغيره

(10/29)


وأنهم اتفقوا معه وأكثر من الشكوى من قوصون، فأوقف قوصون الأمراء عليها وما زال بهم حتى وافقوه على تجريد العسكر إلى الكرك.
وفى هذه الأيام ظهرت المماليك التى كانت الفتنة بسببهم عند خشداشيّتهم، فسلّم صرغتمش إلى الأمير ألطنبغا الماردانىّ، وسلّم أيتمش إلى الأمير أيدغمش أمير آخور، وسلّم شيخون إلى الأمير أرنبغا السّلاح دار، وهؤلاء الأمراء الثلاثة ناصريّة.
ثم أشيع بالقاهرة أنّ أحمد ابن الملك الناصر قد تحرّك من الكرك فى طلب المجىء إلى الديار المصريّة، فكثر الاضطراب ووقع الشروع فى تجهيز العساكر صحبة الأمير قطلوبغا الفخرىّ، واستحلفه قوصون، وبعث إليه بعشرة آلاف دينار، وعيّن معه أيضا الأمير قمارى أخا بكتمر الساقى ومعهما أربعة وعشرون أميرا، ما بين طبلخانات وعشرات، وأنفق على الجميع. ثم بعث قوصون إلى قطلوبغا الفخرىّ بخمسة آلاف دينار أخرى عند سفره وركب لوداعه صحبة الأمراء، حتى نزل بالرّيدانيّة «1» فى يوم الثلاثاء «2» خامس عشرين ربيع الآخر، وكلّ ذلك فى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
هذا والأمراء لم يكن منهم أحد راضيا بسفر هذه التجريدة، بل أشار الأمير الحاج آل ملك والأمير چنكلى بن البابا على قوصون بأنه لا يحرّك ساكنا فلم يقبل قوصون، وكانا أشارا عليه بأنّه يكتب إلى أحمد بن الناصر يعتبه على مكاتبته لنائب الشام وغيره، فكتب إليه بذلك فأجاب بأنّ طوغان أسمعه كلاما فاحشا وأغلظ عليه فى القول فحمله الحنق على مكاتبة نائب الشام، وأنّ قوصون والده بعد والده ونحو ذلك، فلم يقنع قوصون ذلك، وجهّز العساكر لأخذه، وبعد خروج العساكر ركب الأمير قوصون فى يوم الثلاثاء ثالث جمادى الأولى إلى سرياقوس وصحبته الأمراء على عادتهم [توجه

(10/30)


السلطان «1» ثم عاد] . وبعد مدّة يسيره ظهر للأمير قوصون مخالفة الأمير طشتمر الساقىّ نائب حلب المعروف بحمّص أخضر، وسبب مخالفته أنّه شقّ عليه إخراج أولاد استاذه الملك الناصر إلى الصعيد، وأيضا تجهيز العساكر لقتال أحمد ابن الملك الناصر بالكرك، وكان قد بعث إليه أيضا أحمد ابن الملك الناصر يشكو من قوصون، وأنه يريد القبض عليه ويطلب منه النّصرة عليه، فكتب طشتمر إلى أمراء الديار المصريّة وإلى قوصون بالعتب، فقبض على قاصده بقطيا «2» وسجن، وكتب قوصون إلى الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام بأن الأمير طشتمر حمّص أخضر نائب حلب شرع يتكلم فى إقامة الفتنة وأنه لا يصغى إلى قوله، وبعث إليه بأشياء كثيرة من الهدايا والتحف فأجاب ألطنبغا نائب الشام بالسمع والطاعة والشكر والثناء.
ولما تمّ لقوصون ذلك وقع بينه وبين الأمير أيدغمش أمير آخور، وكادت الفتنة تقوم بينهما وأغلظ أيدغمش لقوصون فى الكلام، وسببه أن بعض مماليك أمير على بن أيدغمش وشى إليه بأنّ قوصون قرر مع برسبغا الحاجب أن يبيت بالقاهرة ويركب فى عدّة من مماليك قوصون ويكبس على أيدغمش، فأخذ أيدغمش فى الاحتراز، وامتنع من طلوع القلعة أياما بحجة أنه متوعّك، وكان ذلك بعد أن تصالحا بعد تفاوضهما بمدّة يسيرة، وصار أيدغمش إذا سيّر قوصون النائب بالرّميلة «3»

(10/31)


فى أيام المواكب يغلق أيدغمش باب الإسطبل السلطانى، ويوقف طائفة من الأوجاقية عليه، فاشتهر الخبر بين الناس وكثرت الفالة، وبلغ قوصون تغير خاطر أيدغمش عليه، فخلف للأمراء أنه ما يعرف لتغيره سببا، فما زالت الأمراء بآيدغمش حتى طلع القلعة، وعرّف قوصون بحضرة الأمراء ما بلغه، فخلف قوصون على المصحف أن هذا لم يقع منه، ولا عنده منه خبر وتصالحا. وبعث إليه أيدغمش بعد نزوله إلى الإسطبل الناقل إليه فردّه قوصون إليه ولم يعاقبه.
ثم قدم الخبر بوفاة الأمير بشتك الناصرىّ المقدم ذكره بمحبسه بثغر الإسكندريّة، فاتّهم قوصون بقتله، وكان الأمير قوصون قد أنشأ قاعة لجلوسه مع الأمراء من داخل باب القلّة «1» ، وفتح فيها شبّاكا يطلّ على الدّركاه، وجلس فيه مع الأمراء، ومدّ سماطا بالقاعة المذكورة وزاد فى سماطه من الحلوى والدّجاج والإوزّ ونحو ذلك، وأكثر من الخلع والإنعامات، وصار يجلس مع الأمراء بالقاعة المذكورة، فلمّا قدم الخبر بموت بشتك تغيّر خاطر جماعة كثيرة من الأمراء وغيرهم لموته، فما زال بهم قوصون حتّى صالحهم وحلف لهم.
ثم قدم الخبر من عبد المؤمن والى قوص بأن الملك المنصور أبا بكر وجد فى نفسه تغيّرا، وفى جسده توعّكا لزم الفراش منه أياما ومات، واتّهم قوصون أيضا بأنّه أمر عبد المؤمن بقتله، فتغيّر لذلك خاطر الأمراء والمماليك الناصرية قاطبة وهم يوم ذاك عساكر الإسلام ومن سواهم فقليل.

(10/32)


ثم قدم الخبر على قوصون بنزول العسكر الذي صحبة الأمير قطلوبغا الفخرىّ على مدينة الكرك وقد امتنعت منه واستعدّ أهلها للقتال، وكان الوقت شتاء فأقام العسكر نحو عشرين يوما فى شدّة من البرد والأمطار والثلوج وموت الدواب، وتسلط أهل الكرك عليهم بالسب واللّعن والتّوبيخ وشنّوا الغارات عليهم وصاروا يقطعون قربهم ورواياهم؛ هذا وقوصون يمد الفخرىّ بالأموال ويحضّه على لزوم الحصار.
ثم قدم الخبر من دمشق بأن تمر الموسوىّ قدم من حلب واستمال جماعة من الأمراء إلى طشتمر الساقى حمّص أخضر نائب حلب، فكتب قوصون بالقبض عليه. ثم حمل قوصون تشريفا إلى نائب حلب المذكور فلم يرض نائب حلب بالتشريف وردّه، وكتب إلى قوصون يعتبه على إخراج أولاد أستاذه إلى الصعيد، فأجابه قوصون بأعذار غير مقبولة.
ثم قدم الخبر على قوصون أيضا من شطّى أمير العرب بأنّ قطلوبغا الفخرى قد خامر على قوصون، وحلف لأحمد بن الناصر هو ومن معه من الأمراء وأنّهم أقاموا أحمد سلطانا ولقّبوه بالملك الناصر؛ وذلك بمكاتبة الأمير طشتمر الساقى نائب حلب له يعتبه على موافقة قوصون وقد فعل بأولاد أستاذه ما فعل، ويعزم عليه أنّه يدخل فى طاعة أحمد، ويقوم بنصرته، فصادف ذلك من الفخرى ضجره من الإقامة على حصار الكرك وشدّة البرد وعظم الغلاء، فجمع من معه وكتب إلى أحمد يخاطبه بالسلطنة وقرّر الصلح معه، وكتب لنائب حلب بذلك فأعاد جوابه بالشكر، وأعلمه بأن الأمير طقزدمر نائب حماة وأمراء دمشق قد وافقوه على القيام بنصرة أحمد. وكان الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام قد أحسّ بشىء من هذا فاحترس على الطّرقات، حتّى ظفر بقاصد طشتمر نائب حلب على طريق بعلبك ومعه كتب فأخذها منه، وبعث بها إلى قوصون، فقدمت ثانى يوم ورود كتاب شطّى بمخابرة

(10/33)


الفخرى، فإذا فيها: «الملكى الناصرىّ» فاضطرب قوصون وجمع الأمراء وعرّفهم ما وقع وأوقفهم على الكتب، وذكر لهم أنّه وصل منه إلى قطلوبغا الفخرى فى هذه السّفرة مبلغ أربعين ألف دينار سوى الخيل والقماش والتّحف. ورسم بإيقاع الحوطة على دور الأمراء المجرّدين مع الفخرى إلى الكرك، فما زال به الأمراء حتى كفّ عن ذلك.
وألزم مباشريهم بحمل ما وصل إليهم وبجميع حواصلهم، وصار قوصون فى أمر مريج مما بلغه، وكتب إلى الأمير ألطنبغا الصالحى نائب الشام بخروجه لقتال طشتمر الساقى حمّص أخضر نائب حلب، ومعه نائب حمص ونائب صفد ونائب طرابلس، وكتب إليهم قوصون بالسمع والطاعة إلى طاعة نائب الشام، وحمل إليهم النفقات؛ فلما بلغ ألطنبغا الصالحى نائب الشام ذلك تجهّز وخرج من دمشق بعساكرها فى جمادى الآخرة فتلقّاه الأمير أرقطاى نائب طرابلس على حمص وصار من جملة عساكره، وأخبره بكتاب نائب حلب إليه يدعوه لموافقته وأنه ابى عليه. ثم بعث ألطنبغا نائب الشام إلى الأمير طقزدمر نائب جماة من استماله وحلّفه على طاعة الملك الأشرف كچك. ولما بلغ طشتمر حمص أخضر مجىء ألطنبغا نائب الشام إليه أرسل استدعى ابن دلغادر فقدم عليه فاتّفق معه على المسير إلى أبلستين، وسار به ومعه ما خفّ من أمواله وأخذ أولاده ومماليكه فأدركه عسكر حلب، وقد وصل إليهم كتاب نائب الشام بالاحتراس عليه ومنعه من الخروج من حلب، فقاتلوه عدّة وجوه فلم ينالوا منه غرضا، وقتل من الفريقين خمسة نفر وعادوا وأكثرهم جرحى. فلما وصل طشتمر إلى أبلستين كتب إلى أرتنا يستأذنه فى العبور إلى الروم فبعث إليه أرتنا بقاضيه وعدّة من ألزامه، وجهّز له الإقامات، فمضى طشتمر إلى قيصريّة «1» ، وقد توجّه أرتنا لمحاربة ابن دمرداش بعد أن رتب لطشتمر كلّ يوم ألفى درهم.

(10/34)


وأما ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام فإنّه قدم إلى حلب وكتب إلى قوصون يعلمه بتسحّب طشتمر نائب حلب إلى جهة الروم، وأنّه استولى على مدينة حلب، فقدم كتابه على قوصون فى يوم الأربعاء ثانى شهر رجب. ثم فى يوم الاثنين سابع رجب فرّق الأمير قوصون إقطاعات الأمراء المجرّدين مع قطلوبغا الفخرى الخارجين عن طاعة قوصون؛ وعدّتهم اثنان وثلاثون أميرا، منهم أمراء طبلخانات ستة عشر، وأمراء عشرات ستة عشر، وأميران مقدمان: الفخرى وقمارى.
ثم فى يوم الثلاثاء تاسع عشرين رجب قدم الأمير الشيخ على بن دلنجى القازانىّ أحد أمراء العشرات المجردين، وأخبر بمسير قطلوبغا الفخرىّ من الكرك إلى دمشق، وأنّه يريد مواقعته مع ألطنبغا الصالحى نائب الشام، وكان من خبره أنّ الأمير ألطنبغا لما دخل حلب أخذ موجود طشتمر حمص أخضر وباعه، وبينما هو فى ذلك بلغه دخول قطلوبغا الفخرى بمن معه إلى دمشق، وأنّه دعا للناصر أحمد، وقد وافقه آق سنقر السّلّارى نائب غزة وأصلم نائب صفد ومن تأخر من أمراء دمشق بها، مثل سنجر الجمقدار وتمر الساقى وأن آق سنقر نائب غزة وقف لحفظ الطرقات حتى لا يصل أحد من مصر إلى ألطنبغا الصالحى، وأن قطلوبغا أخذ فى تحصيل الأموال من دمشق للنفقة على الأمراء والجند، وأن الأمير طقزدمر نائب حماة قدم عليه فى غد دخوله، وركب الفخرى وتلقّاه وقوى بهم واستخدم جندا كثيرة ونادى بدمشق من أراد الإقطاع والنفقة فليحضر، وأخذ مالا كثيرا من التجّار، وأكره قاضى القضاة تقي الدين بن السبكى حتى أخذ مال الأيتام وأخذ أجر الأملاك والأوقاف لثلاث سنين فجمع مالا عظيما، وأتته جماعات من الأجناد والتّركمان، وكتب أوراقا من ديوان الجيش بأسماء الأجناد البطالين، وأنعم على البطّالين بالخيل والقماش والسلاح، وحلّف الجميع للسلطان الملك الناصر أحمد بن الناصر محمد بن

(10/35)


قلاوون، وعمل برسمه العصائب السلطانيّة والسناجق الخليفتية والكنابيش والسروج والغاشية والقبّة والطّير وسائر أبّهة السلطنة، وكتب إلى الملك الناصر أحمد يعرّفه بذلك فأجابه الناصر بالشكر والثناء، فلما سمع قوصون ذلك جمع الأمراء للمشورة فاتّفق الرأى على تجريد أمراء إلى غزة فتوجه برسبغا الحاجب وأمير محمود الحاجب وعلاء الدين علىّ بن طغريل فى جماعة.
ثم كتب قوصون إلى ألطنبغا نائب الشام على يد أطلمش الكريمىّ بأن يسير من حلب إلى قتال الفخرى بدمشق، فتوجّه أطلمش الكريمى من البريّة لانقطاع الطريق حتّى وصل إلى حلب، وعرّف ألطنبغا الخبر، فخرج ألطنبغا بمن معه من العساكر وسار حتى قدم حمص، وقد خرج الفخرى من دمشق ونزل على خان لاچين وأمسك المضيق، وأقام الجبليّة والعشير على الجبلين ووقف هو بالعسكر فى وسط الطريق.
وأما ألطنبغا فإنّه جلّف من معه من العساكر وسار من حمص يريد الفخرى حتى قرب منه. وعدد الجمعين نحو ثلاثة عشر ألف فارس، فتمهّل ألطنبغا كراهية لسفك الدماء، وأرسل إلى الفخرى رسلا، ودام على ذلك ثلاثة أيام فلم يتمّ بينهما أمر، وبعث قطلوبغا الفخرى إلى جماعة من أصحاب ألطنبغا يعدهم [ويستميلهم «1» ] حتى وافقوه. فلمّا تعبت الرسل بينهم ومات «2» العسكر من شدّة البرد بعث ألطنبغا فى الليل جماعة من أصحابه ليهجموا على الفحرى من ورائه، ويلقاهم هو من قدّامه، وركب من الغد، فمال كلّ أمير بمن معه من أصحابه إلى جهة الفخرى، وصاروا من جملته، فلم يبق معه سوى أرقطاى نائب طرابلس وأسنبغا بن [بكتمر «3» البوبكرى]

(10/36)


وأيدمر المرقبىّ من أمراء دمشق فانهزموا على طريق صفد إلى جهة غزة، والقوم فى أثرهم بعد أن كانت بينهم وقعة هائلة؛ انهزم فيها ألطنبغا نائب الشام.
ثم التفت الفخرى إلى جهة دمشق وترك السير حلف ألطنبغا حتّى دخل دمشق مؤيّدا منصورا، وكتب فى الحال مع البريد إلى الأمير طشتمر الساقى حمّص أخضر نائب حلب يعرّفه بنصرته ويدعوه إلى الحضور من بلاد الروم، وأنّه فى انتظاره بدمشق. ثم حلف الفخرى ومن معه للملك الناصر أحمد وأمر الخطباء فدعوا له على منابر دمشق وضرب السّكّة باسمه.
وأمّا ألطنبغا الصالحى نائب دمشق فإنّه وصل إلى غزّة بمن معه فتلقّاهم الأمير برسبغا الحاجب ورفقته، وكتب ألطنبغا إلى قوصون بما وقع فلمّا بلغ قوصون الخبر قامت قيامته وقبض «1» على أحمد شادّ الشرابخاناه وعلى قرطاى أستادار الفخرى.
ثم قدم على قوصون كتاب الفخرى يعتبه على إخراج أولاد أستاذه إلى قوص وقتل الملك المنصور أبى بكر، وأنّ الاتفاق وقع على سلطنة الملك الناصر أحمد، ويشير عليه بأن يختار بلدا يقيم بها حتى يسأل له السلطان الملك الناصر أحمد فى تقليده نيابتها، فقام قوصون وقعد لمّا سمع ذلك، وجمع الأمراء فوقع الاتفاق على تجهيز التّقادم للأمراء بغزة، فجهز قوصون لكل من ألطنبغا نائب الشام وأرقطاى نائب طرابلس ثلاثين بذلة قماش وثلاثين قباء مسنجبة بطرازات زركش ومائتى خف ومائتى كلفتاه وكسوة لجميع مماليكهما وغلمانهما وحواشيهما، وجهز لكل من الأمراء الذين معهما ثلاث بذلات وأقبية بسنجاب وكسوة لمماليكهم وحواشيهم، وأخذ قوصون فى الإنعام على المماليك السلطانيّة، وأخرج ثلثمائة ألف دينار من الذخيرة لتجهيز أمره، حتى

(10/37)


يخرّج بالعساكر إلى الشام، وأخرج أربعمائة قرقل «1» وعدة زرديّات وخوذ وغيرها.
وأنعم على جماعة من المماليك السلطانية بإمريات، وغير إقطاعات جماعة منهم.
ثم كتب قوصون إلى الأمراء بمسيرهم من غزّة إلى جهة القاهرة، وهيّأ لهم الإقامات والخيول، وبعث إليهم بالحلاوات والفواكه وسائر ما يليق بهم.
وبينما قوصون فى ذلك إذ ركب الأمراء عليه فى ليلة الثلاثاء تاسع عشرين رجب وقت العشاء الآخرة، وسبب ركوبهم عليه تنكّر قلوب الأكابر عليه لأمور بدت منه، منها: قتل الأمير بشتك الناصرىّ بغير ذنب، وهو أعزّ خشداشيته، ولم يكفه ذلك حتّى قتل الملك المنصور أبا بكر وهو ابن أستاذه، وكان يكفيه الخلع من الملك.
ومنها قوّة الوحشة بينه وبين الأمير أيدغمش الناصرىّ أمير آخور وهو أكبر خشداشيته، فأخذ أيدغمش يدبّر عليه. وغيّر خواطر جماعة كثيرة عليه، إلى أن كان من انتصار قطلوبغا الفخرى على ألطنبغا الصالحى نائب الشام، وكان قوصون قد احتفل لقدوم ألطنبغا نائب الشام ومن معه احتفالا زائدا، وفتح ذخيرة السلطان وأكثر من النفقات والإنعامات حتى بلغت إنعاماته على الأمراء والخاصّكيّة ستمائة ألف دينار، فشاع بأنه يريد يتسلطن فخاف أيدغمش وغيره من تحكّمه فى السلطنة، وحرّض الأمراء الخاصّكيّة حتى وافقه الأمير علاء الدين ألطنبغا الماردانىّ والأمير يلبغا اليحياوىّ فى عدّة من المماليك السلطانيّة، وجمع كثير من أكابر الأمراء، منهم: الأمير الحاجّ آل ملك والأمير بدر الدين چنكلى بن البابا واتفقوا الجميع أنهم يسيروا جميعا إلى الكرك عند قدوم ألطنبغا نائب الشام وخروجهم إلى لقائه.

(10/38)


فلما كان يوم الاثنين «1» ركب الأمير قوصون فى الموكب تحت القلعة على العادة وطلب الأمير تلجك «2» ابن أخته وأخرجه إلى لقاء الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام، وقد ورد الخبر بنزوله على بلبيس «3» ليأتى به سريعا، فوافاه ومن معه إلى بلبيس، فسأله فى القدوم إلى القاهرة بسرعة، فلم يوافقه على السرعة وقصد أن يكون حضوره فى يوم الخميس أوّل شعبان، وبات «4» ليلة الثلاثاء على بلبيس وركب من الغد ونزل سرياقوس، فبلغه ركوب الأمراء على قوصون، وأنه محصور بالقلعة، فركب بمن معه الى بركة «5» الحاج، وإذا بطلب قوصون وسنجقه قد وافوه فى نحو مائة مملوك، وأعلموه أنّ فى نصف الليل ركبت الأمراء واحتاطت بإسطبل قوصون، ثم حصروه فى قلعة الجبل، فخرجوا هم على حميّة حتى وصلوا إليهم؛ هذا ما كان من أمر ألطنبغا نائب الشام.
وأمّا أمر قوصون فإنّه لما بعث تلجك ليأتيه «6» بالأمير ألطنبغا نائب الشام سريعا تحقّق أيدغمش وأصحابه أنّ قوصون فهم عنهم ما دبّروه فتواعد الأمير أيدغمش مع من وافقه على أن يركبوا فى الليل إلى الكرك، فجهّز كلّ منهم حاله، حتى كان ثلث الليل فتح الأمراء باب السور من قلعة الجبل ونزلوا إلى الأمير أيدغمش بالإسطبل

(10/39)


السلطانىّ، ثم مضى كلّ واحد إلى إسطبله فلم ينتصف الليل إلا وعامة الأمراء بأطلابهم فى سوق الخيل تحت القلعة، وهم: الأمير ألطنبغا الماردانىّ ويلبغا اليحياوىّ وبهادر الدّمرداشى والحاج آل ملك والجاولى وقمارى الحسنىّ «1» أمير شكار وأرنبغا وآق سنقر السّلّارىّ، وبعثوا إلى إسطبلات الأمراء مثل چنكلى بن [محمد بن «2» ] البابا وبيبرس الأحمدى وطرغاى «3» وقياتمر «4» والوزير ولبست مماليكهم وأخرجت أطلابهم، ثم خرج إليهم الأمير أيدغمش بمماليكه ومن عنده من الأوجاقيّة، ووقفوا جميعا ينتظرون نزول قوصون إليهم فأحسّ قوصون بهم وقد انتبه فطلب الأمراء المقيمين بالقلعة فأتاه منهم اثنا عشر أميرا، منهم چنكلى بن البابا وقياتمر والوزير، ولبست مماليك قوصون التى كانت عنده بالقلعة وسألته أن ينزل ويدرك إسطبله ويجتمع بمن فيه من مماليكه، وكانوا سبعمائة مملوك، وكان قوصون يغترّ بهم ويقول: إيش أبالى بالأمراء وغيرهم، عندى سبعمائة مملوك ألقى بهم كلّ من فى الأرض، فلم يوافقهم قوصون على النزول لما سبق فى القدم. وأقام قوصون بالقلعة إلى أن طلع النهار، فلمّا لم يظهر له حركة طمع أيدغمش فيه، وأمر الأوجاقية أن تطلع إلى الطبلخاناه «5» السلطانية

(10/40)


وأخرج لهم الكوسات «1» ، فذقّوا حربيّا. ثم نادى أيدغمش. معاشر أجناد الحلقة ومماليك السلطان والأجناد [و] البطّالين يحضروا، ومن ليس له فرس وليس له سلاح يحضر ويأخذ له الفرس والسلاح ويركب معنا، ويقاتل قوصون، فأتاه جماعة كثيرة من أجناد الحلقة والمماليك ما بين لابس سلاح وراكب وبين ماش وعلى حمار. وأقبلت العامّة كالجراد المنتشر لما فى نفوسهم من قوصون، فنادى لهم أيدغمش يا كسابة «2» :
عليكم بإسطبل قوصون انهبوه فأحاطوا به ومماليك قوصون من أعلاه ترميهم بالنشاب حتى أتلفوا منهم عدّة كثيرة، فركب مماليك يلبغا اليحياوىّ من أعلى بيت «3» يلبغا.
والبيت المذكور هو الآن موضع مدرسة السلطان حسن. وكان بيت يلبغا يشرف على بيت قوصون، فلمّا طلعوا مماليك يلبغا اليحياوى تسلّطوا على مماليك قوصون

(10/41)


ورموا عليهم بالنّشّاب مساعدة للعوام، وخرجوا منهم جماعة كثيرة وحالوا بينهم وبين العامة، فهجمت العامّة عند ذلك إسطبل قوصون ونهبوا زردخاناته وحواصله وأمواله وكسروا باب قصره بالفئوس بعد مكابدة شديدة وطلعوا إلى القصر ونهبوا ما فيه، وقوصون ينظر ذلك من شباك القلعة ويقول: يا مسلمين! ما تحفظون هذا المال، إما أن يكون لى أو يكون للسلطان، فقال أيدغمش: هذا شكرانه للناس، والذي عندك فوق من الجوهر والتّحف يكفى السلطان. وصار قوصون كلّما همّ للركوب بمماليكه كسّروا عليه الخاصكيّة وقالوا له: ياخوند غدا نركب ونقتل هؤلاء، وصاروا يهوّنوا عليه أمر أيدغمش وأصحابه لباطن كان لهم مع أيدغمش، حتى كان من أمره ما كان.
ولمّا هجمت العامة بيت قوصون خرجوا مماليكه منه على حميّة وشقّوا القاهرة وتوجّهوا إلى عند الأمير ألطنبغا الصالحى نائب السام، فبعث أيدغمش فى أثرهم إلى ألطنبغا نائب الشام ومن معه بالسلام عليهم، وأن يمنعوا مماليك قوصون من الاختلاط بهم، فإنّ الأمير يلبغا اليحياوى والأمير آق سنقر قادمان فى جمع كبير لأخذ مماليك قوصون وحواشيه. فأمر ألطنبغا نائب الشام مماليك قوصون وتلجك وبرسبغا الحاجب أن يكونوا على حدة، ولبسوا الجميع وأخذ الأمير برسبغا مماليك قوصون وجماعته إلى جهة الجبل، فلقيهم الأمير يلبغا اليحياوى بمن معه على بعد، وكان ذلك بعد ما امسك قوصون، فسار خلفهم إلى قرب إطفيح «1» . وقيل فى أمر مماليك قوصون غير ذلك على ما سنذكره بعد القبض على قوصون.
وأمّا قوصون فإنه بقى واقفا بشبّاك القلعة والعامّة تنهب فى بيته فلم يمض إلا ساعات من النهار حتى نهب جميع ما فى إسطبله، وقوصون يضرب يدا على يد

(10/42)


ويقول: يا أمراء! هذا تصرف جيّد، ينهب هذا المال جميعه، وكان أيدغمش قصد بذلك أن يقطع قلب قوصون. ثم بعث قوصون إلى أيدغمش يقول. إنّ هذا المال عظيم وينفع المسلمين والسلطان، فكيف تفعل هذا وتنادى بنهبه؟ فردّ جوابه:
نحن قصدنا أنت ولو راح هذا المال وأضعافه، هذا كلّه والقلعة مغلّقة الأبواب، وجماعة قوصون يرمون من الأشرفيّة «1» بالنّشّاب إلى أن قرب العصر، والعامّة تجمع نشّابهم وتعطيه لمن هو من جهة أيدغمش. فلما رأى قوصون أمره فى إدبار سلّم نفسه، ودخل عليه الأمير بلك الجمدار وملكتمر السّرجوانى يأمراه «2» أن يقيم فى موضع حتى يحضر ابن أستاذه من الكرك فيتصرّف فيه كما يختار، فلم يجد بدّا من الإذعان، وأخذ يوصى الأمير چنكلى بن البابا وأمير مسعود حاجب الحجّاب على أولاده، فأخذ وقيّد ومضوا به إلى البرج «3» الذي كان بشتك فيه، ورسم عليه جماعة من الأمراء.
وكان الذي تولّى مسكه وحبسه چنكلى بن البابا وأمير مسعود الحاجب وأرنبغا أمير جاندار.
وأمّا الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام ومن معه فإن برسبغا وتلجك والقوصونيّة لمّا فارقوا ألطنبغا المذكور سار ألطنبغا وأرقطاى والأمراء يريدون

(10/43)


القاهرة، وأشار ألطنبغا نائب الشام على أرقطاى نائب طرابلس أن يرد برسبغا وتلجك والقوصونية ويقاتل بهم أيدغمش، فإنّه ينضم إليه جميع حواشى قوصون ويأخذوا أيدغمش ويحرجوا قوصون ويقيموه كبيرا لهم أو يخرجوه إلى حيث يختار، ويقيموا سلطانا أو ينتظروا أحمد فلم يوافقه أرقطاى على ذلك لعفّته عن سفك الدماء. فلمّا أعبا ألطنبغا أمره سارا «1» نحو القاهرة حتى وافيا أيدغمش وهو واقف تحت القلعة بأصحابه فأقبل أيدغمش عليهما وعانقهما وأمرهما أن يطلعا إلى القلعة فطلعا.
ثم أرسل أيدغمش الأمير قازان والأمير آق سنقر خلف برسبغا وتلجك ومن معهما.
وجلس أيدغمش مع ثقمانه من الأمراء وقرّر معهم تسفير قوصون فى الليل إلى الإسكندريّة، والقبض على ألطنبغا الصالحى نائب الشام وعلى أرقطاى نائب طرابلس ومن يلوذ بهما من الغد، فكان كذلك وقبض عليهم، وتسفير الأمير بيبرس الأحمدىّ والأمير چنكلى بن البابا لإحضار السلطان الملك الناصر أحمد من الكرك.
ثم أخرج بالأمير قوصون من سجنه بقلعة الجبل فى ليلة الخميس مع مائة فارس حتّى أوصلوه إلى النيل وركب البحر ومضى به إلى الإسكندرية فسجن بها على ما سيأتى ذكره.
وأمّا ما نهب لقوصون فى هذه الحركة فشىء كثير، فإنه كان فى حواصله من الذهب النّقد أربعمائة ألف دينار عين فى أكياس، ومن الحوائص الذهب والكلفتات الزركش والأوانى فشىء لا ينحصر، وثلاثة أكياس أطلس فيها فصوص وجواهر مثمّنة بما ينيف على مائة الف دينار، ومائة وثمانون زوج بسط، منها ما طوله أربعون ذراعا وثلاثون ذراعا، كلّها من عمل الروم وآمد وشيراز، وستة عشر زوجا

(10/44)


من عمل الشريف «1» بمصر. وأربعة أزواج بسط حرير لا يقوم عليها لحسنها، فانحطّ سعر الذهب من كثرة ما نهب لقوصون، حتّى صرف بأحد عشر درهما الدينار ممّا صار وكثر فى أيدى الناس بعد ما كان الدينار بعشرين درهما، ولأنّ أيدغمش نادى بعد ذلك بالقاهرة ومصر أنّ من أحضر من العامة ذهبا لتاجر أو صيرفى أو متعيّش يقبض عليه ويحضر به إلى أيدغمش، فكان من معه منهم ذهب «2» يأخذ فيه ما يدفع إليه من غير توقّف، فرخص سعر الذهب لذلك، وكثرت مرافعات الناس بعضهم لبعض فيما نهب، فجمع أيدغمش شيئا كثيرا من ذلك، فإن العامة يوم نهب إسطبل قوصون أخذوا من قصره حتّى سقوفه وأبوابه ورخامه وتركوه خرابا ثم مضوا إلى خانقاته «3» بباب القرافة فمنعهم صوفيتها من النهب فما زالت العامّة تقاتلهم حتّى فتحوها، ونهبوا جميع ما فيها حتى سلبوا الرجال والنساء ثيابهم، فلم يدعوا لأحد شيئا، وقطعوا بسطها وكسروا رخامها وأخربوا بركتها، وأخذوا الشبابيك وخشب السقوف والمصاحف وشعّثوا الجدر، ثم مضوا إلى بيوت مماليك قوصون وهم فى حشد «4» عظيم فنهبوها وخرّبوها وما حولها، وتتبعوا حواشى قوصون بالقاهرة والحكورة وبولاق والزّريبة «5» وبركة «6» قرموط وباعت العامة السقوف والأوانى بأخسّ

(10/45)


الأثمان وصارت العامة إذا أرادوا نهب أحد قالوا: هذا قوصونىّ!. فيذهب فى الحال جميع ماله، وزادت الأوباش فى ذلك حتى خرجوا عن الحدّ وشمل الخوف كلّ أحد، فقام الأمراء على أيدغمش وأنكروا عليه تمكين العامّة من النهب، فأمر لسبعة من الأمراء، فنزلوا إلى القاهرة، والعامّة مجتمعة على باب الصالحيّة «1» فى نهب بيت «2» القاضى الغورىّ الحنفىّ، فقبضوا على عدّة منهم وضربوهم بالمقارع وشهّروهم فآنكفّوا عن نهب الناس. انتهى.
وأمّا أصل قوصون واتصاله بالملك الناصر محمد بن قلاوون حتى صار ساقيه أعظم مماليكه هو وبكتمر الساقى، لأن قوصون كان ممن حضر إلى الديار المصريّة من بلاد التّرك صحبة [خوند «3» ] بنت أزبك خان التى تزوجها الملك الناصر محمد بن قلاوون وهو غير مملوك، فلمّا كان فى بعض الأيام طلع قوصون إلى القلعة فى خدمة بعض التّجار فرآه السلطان الملك الناصر فأعجبه، فقال للتاجر: لأىّ شىء ما تبيعنى هذا المملوك؟ فقال التاجر: هذا ما هو مملوك، فقال الملك الناصر: لا بدّ أن أشتريه، ووزن ثمنه مبلغ ثمانية آلاف درهم، وجهّز الثمن إلى أخيه صوصون إلى البلاد «4» .
ثم أنشأه الملك الناصر وجعله ساقيا، ثم رقّاه حتى جعله أمير مائة ومقدّم ألف، وعظم

(10/46)


عند الملك الناصر وحظى عنده وزوّجه بابنته وهى ثانية بنت زوّجها الملك الناصر لمماليكه فى سنة سبع «1» وعشرين وسبعماية، وكان له عرس حفل، احتفل به الملك الناصر، وحمل الأمراء التقادم إليه فكان جملة التقادم خمسين ألف دينار. ولما كان يقع بينه وبين بكتمر الساقى منافسة يقول قوصون: أنا ما تنقّلت من الإسطبلات إلى الطّباق، بل اشترانى السلطان وجعلنى خاصّكيّا مقرّبا عنده دفعة واحدة، فكان الملك الناصر يتنوّع فى الإنعام على قوصون حتى قيل إنه دفع إليه مرة مفتاح ذردخانات الأمير بكتمر الساقى بعد موته، وقيمتها ستمائة ألف دينار، قاله الشيخ صلاح الدين الصفدىّ فى «تاريخه» . ثم تزايد أمر قوصون حتى وقع له ما حكيناه. واستمرّ قوصون بسجن الإسكندرية هو وألطنبغا الصالحى نائب الشام وغيرهما حتى حضر الملك الناصر أحمد من الكرك وجلس على كرسى الملك بقلعة الجبل حسب ما يأتى ذكره، اتّفق آراء الأمراء على قتل قوصون فجهّزوا لقتله شهاب الدين أحمد بن صبح إلى الإسكندريّة فتوجّه إليها وخنق قوصون وألطنبغا نائب الشام وغيرهما فى شوّال سنة اثنتين وأربعين، وقيل فى ذى القعدة على ما يأتى بيان ذلك فى وقته.
وخلّف قوصون عدّة أولاد من بنت أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون.
وكان أميرا جليلا كريما خيّرا شجاعا، وكان يعطى العطايا الهائلة، وكان إذا ركب للصيد فى أيام أستاذه يركب فى خدمته ثلث عسكر مصر، وكان يركب قدّامه بالقاهرة مائة نقيب، وكان أخوه صوصون أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية، وقيل أمير طلبخاناه. وكان وقع بين قوصون وبين تنكز نائب الشام، فلمّا قبض على تنكز وحمل إلى القاهرة ما عامله قوصون إلا بكل خير. ولما أمسك قوصون وقتل قال فيه الصلاح الصفدى:

(10/47)


قوصون قد كانت له رتبة ... تسمو على بدر السما الزاهر
فحطّه فى القيد أيدغمش ... من شاهق عال على الطائر
ولم يجد من ذلّه حاجبا «1» ... فأين عين الملك الناصر
صار عجيبا أمره كلّه ... فى أوّل الأمر وفى الآخر
وقال فى قوصون وفى واقعته عدّة من الشعراء من الشعر والبلاليق «2» والأزجال، وعملت الحلوانيّة مثاله فى حلاوة العلاليق «3» ، فقال فى ذلك جمال الدين إبراهيم «4» الأديب المعمار:
شخص قوصون رأينا ... فى العلاليق مسمّر
فعجبنا منه لمّا ... جاء فى التسمير سكر
ولبعض عوامّ مصر قصيدة «كان وكان» أوّلها:
من الكرك جانا الناصر ... وجب معه أسد الغابه
ووقعتك يأمير قوصون ... ما كانت الّا كدّابه
وأشياء غير ذلك، وقد خرجنا عن المقصود ولنرجع إلى ذكر أيدغمش وما فعله بمصر.
وأما أيدغمش فإنه استمرّ مدبّر الديار المصريّة وقام بأمر السلطان الملك الناصر أحمد بن محمد بن قلاوون وجمع الأمراء وخلع الملك الأشرف علاء الدين كچك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون من الملك فى يوم الخميس أوّل شعبان من سنة

(10/48)


اثنتين وأربعين وسبعمائة، فكانت مدّة سلطنته على مصر خمسة أشهر وعشرة أيام، ولم يكن له فيها من السلطنة إلّا مجرّد الاسم، فقط وليس له من الأمر شىء، وذلك لصغر سنّه، وكان المتصرّف فى المملكة فى سلطنته الأمير قوصون. وكانت إذا حضرت العلامة أعطى قوصون الأشرف كچك فى يده قلما، وجاء الفقيه الذي يقرئه القرآن فيكتب العلامة والقلم فى يد الأشرف كچك، واستمر الأشرف كچك بعد خلعه من السلطنة فى الدور السلطانية تحت كنف والدته وهو ووالدته فى ذلّ وصغار وهوان مع من تسلطن من إخوته، لا سيّما مع أمّ الملك الصالح إسماعيل، فكانت فى كلّ قليل إذا توعّك ولدها الملك الصالح إسماعيل، وكان كثير الضعف تتّهم المذكورة أنها تتعمّد له بالسّحر وتأخذ جواريها وحواشيها وتعاقبهم، وأخذت منها جملة مستكثرة فدامت على هذا مدّة سلطنة الملك الصالح، حتى نزل مرّة إلى سرحة سرياقوس وبعث دسّ عليه أربعة خدّام طواشيّة فقتلوه على فراشه فى سنة ست وأربعين وسبعمائة، وله من العمر اثنتا عشرة سنة، وعظم مصابه على والدته، بل على الناس قاطبة. رحمه الله تعالى.

(10/49)


ذكر ولاية الملك الناصر أحمد على مصر
السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد ابن السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون. تسلطن بعد خلع أخيه الأشرف كچك، وكان بويع بالسلطنة قبل خلع كچك أيضا وهو بقلعة الكرك حسب ما ذكرناه فى واقعة قطلوبغا الفخرى مع ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام. وأمّ الملك الناصر هذا كان اسمها بياض، كانت تجيد الغناء وكانت من عتقاء الأمير بهادر آص رأس نوبة، وكانت تعرف بقومة «1» ، وكان للناس بها اجتماعات فى مجالس أنسهم، فلمّا بلغ السلطان الملك الناصر خبرها طلبها واختصّ بها وحظيت عنده فولدت أحمد هذا على فراشه. ثم تزوّجها بعد ذلك الأمير ملكتمر السّرجوانىّ فى حياة الملك الناصر محمد. انتهى.
قلت: والملك الناصر أحمد هذا هو الخامس عشر من ملوك الترك بالديار المصريّة والثالث من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون. والآن نذكر ما وقع بالديار المصريّة بعد خلع الأشرف كچك إلى حين دخول الملك الناصر هذا إليها من الكرك. ولمّا قبض أيدغمش على قوصون وخلع الملك الأشرف كچك من السلطنة حسب ما تقدّم ذكره بعث بالأمير چنكلى بن البابا والأمير بيبرس الأحمدىّ والأمير قمارى أمير شكار إلى الملك الناصر أحمد بالكرك وعلى يدهم كتب الأمراء يخبرونه بما وقع ويستدعونه إلى تخت ملكه. ثم جلس الأمير سيف الدين أيدغمش والأمير ألطنبغا الماردانى والأمير بهادر الدمرداشى والأمير يلبغا اليحياوىّ واستدعوا الأمراء فلما حضروا أمر أيدغمش بالقبض على ألطنبغا الصالحى الناصرى نائب الشام وعلى الأمير

(10/50)


أرقطاى نائب طرابلس وسجنا بقلعة الجبل وأمسكوا بعدهما سبعة «1» أمراء أخر من أمراء الطبلخاناه والأمير قياتمر أحد مقدمى الألوف وجركتمر بن بهادر أيضا من مقدّمى الألوف وعدّة أمراء أخر، حتى كانت عدّة من قبض عليه من الأمراء فى هذا اليوم خمسة وعشرين أميرا. ثم كتب الأمير أيدغمش إلى الأمير قطلوبغا الفخرى يعرفه بما وقع ويحرضه على الحضور صحبة السلطان الملك الناصر. ثم طلب أيدغمش جمال الدين يوسف والى الجيزة وخلع عليه بولاية القاهرة، فنزل إلى القاهرة فإذا بالعامّة فى نهب بيوت مماليك قوصون فقبض على عشرين منهم وضربهم بالمقارع وسجنهم بعد ما شهّرهم، فاجتمعت الغوغاء ووقفوا لأيدغمش وصاحوا عليه: ولّيت على الناس واحد قوصونى ما يخلّى منا واحدا! وعرفوه ما وقع فبعث الأوجاقية فى طلبه فوجدوه بالصّليبة «2» يريد القلعة فصاحت عليه الغوغاء: قوصونى! يا غيريّة «3» على الملك الناصر، ورجموه من كلّ جهة، فقامت الجبليّة والأوجاقية فى ردّهم فلم يطيقوا ذلك، وجرت بينهم الدماء، فهرب الوالى إلى إسطبل «4» ألطنبغا الماردانى، وحمته مماليك ألطنبغا من العامّة، فطلب أيدغمش الغوغاء وخيّرهم فيمن يلى فقالوا: نجم الدين الذي كان ولى قبل ابن المحسنى، فطلبه وخلع عليه فصاحوا بحياة الملك الصالح الناصر:

(10/51)


اعزل عنا ابن رخيمة المقدّم وحمامص رفيقه، فأذن لهم فى نهبهما فتسارع نحو الألف منهم إلى دار «1» ابن رخيمة بجانب بيت الأمير كوكاى فنهبوه ونهبوا بيت رفيقه ثم انكفّوا عن الناس.
وفى يوم الجمعة ثانى شعبان دعى على منابر مصر والقاهرة للسلطان الملك الناصر أحمد. وفى يوم الاثنين خامسه تجمّعت العامّة بسوق «2» الخيل ومعهم رايات صفر وتصايحوا بالأمير أيدغمش: زوّدنا لنروح إلى أستاذنا الملك الناصر ونجىء صحبته، فكتب لهم مرسوما بالإقامة والرواتب فى كلّ منزلة. وتوجهوا مسافرين من الغد.
وفى يوم الأربعاء سابع شعبان وصل الأمراء من سجن الإسكندريّة الذين كان سجنهم قوصون حتى أفرج عنهم أيدغمش، وهم الأمير ملكتمر الحجازىّ وقطليجا الحموىّ وأربعة وخمسون نفرا من المماليك الناصريّة. وكان قوصون لمّا دخل إلى الإسكندرية مقيّدا وافوه هؤلاء بعد أن أطلقوا فسلموا عليه سلام شامت فبكى قوصون واعتذر لهم بما صدر منه فى حقّهم. وعند ما قدموا إلى ساحل مصر ركب الأمراء إلى لقائهم، وخرجت الناس لرؤيتهم فكان لقدومهم يوم مشهود، حتى طلعوا إلى القلعة فتلقّت خوند الحجازية بنت السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون

(10/52)


زوّجها ملكتمر الحجازىّ بخدّامها وجواريها، ومغانيها تضرب بالدفوف والشّبّابات «1» فرحّابه، ومعها أختها زوجة بشتك تساعدها بالفرح وهى شامتة بقوصون لكونه قتل زوجها بشتك الناصرىّ قبل تاريخه هذا. وأختها بنت الملك الناصر الأخرى زوجة قوصون بجانبها فى عويل وبكاء وصياح ولطم على قوصون. وقد افترق جوارى الملك الناصر وأولاده فرقتين، فرقة مع الحجازية وفرقة مع القوصونيّة، والعجب أن هذا الفرح والعزاء كان قبل ذلك بالعكس، فكان العزاء إذ ذاك فى بيت الحجازىّ، والفرح فى بيت قوصون، والآن العزاء فى بيت قوصون والفرح فى بيت الحجازى وزوجة بشتك وإن كان فرط فى زوجها الفرط، فهى تساعد أختها الحجازيّة شماتة بقوصون، فحالها كقول من قال:
وما من حبّه أحنو عليه ... ولكن بغض قوم آخرين
فآنظر إلى هذا الدهر وتقلباته بأسرع وقت من حال إلى حال، فنعوذ بالله من زوال النّعم.
ثم قدم بعد ذلك كتب الأمراء المتوجّهين إلى الكرك لإحضار الملك الناصر، أنهم لمّا قربوا من الكرك بعث كلّ منهم مملوكه يعرّف السلطان الملك الناصر بحضورهم إلى الكرك فبعث إليهم الملك الناصر رجلا نصرانيّا من نصارى الكرك يقول: يا أمراء، السلطان يقول لكم: إن كان معكم كتب فهاتوها أو مشافهة فقولوها، فدفعت الكتب إلى النصرانىّ فمضى بها ثم عاد من آخر النهار بكتاب مختوم وقال عن السلطان: سلّم على الأمراء وعرّفهم أن يقيموا بغزّة حتّى يرد عليهم ما يعتمدوه. وحضر مملوك من قبله يأمر الأمير قمارى بالإقامة على ناحية

(10/53)


صافيثا «1» ، ثم بعث إلى الأمراء بخاتم وكتاب يتضمّن إقامتهم على غزّة والاعتذار عن لقائهم، فعاد چنكلى والأحمدى إلى غزّة وتوجّه قمارى إلى ناحية صافيثا، فلمّا وقف الأمير أيدغمش على ذلك كتب من فوره إلى الأمير قطلوبغا الفخرىّ يسأله أن يصحب السلطان الملك الناصر فى قدومه إلى مصر ليجلس على تخت ملكه. ثم كتب أيدغمش للامراء بغزّة بالإقامة بها فى انتظار السلطان، وعرّفهم بمكاتبة الفخرىّ وأخذ أيدغمش فى تجهيز أمور السلطنة، وأشاع قدوم السلطان خوفا من إشاعة ما عامل الناصر أحمد به الأمراء فيفسد عليه ما دبّره، فلما قدم البريد بكتاب أيدغمش إلى دمشق وافى قدوم كتاب السلطان أيضا من الكرك يتضمّن القبض على طرنطاى البچمقدار «2» والأمير طينال، وحمل مالهم إلى الكرك. وكان قطلوبغا الفخرى قد ولّى طينال نيابة طرابلس وطرنطاى نيابة حمص فاعتذر الفخرى بأنّ طينال فى شغل

(10/54)


بحركة الفرنج، وأشار عليه بألّا يحرّك ساكنا فى هذا الوقت، وسأله سرمة حضور السلطان ليسير بالعساكر فى ركابه إلى مصر، وأكثر الفخرى من مصادرة الناس بدمشق. ثم قدم الأمير طشتمر الساقى المعروف بحمّص أخضر نائب حلب كان من بلاد الروم إلى الشام فتلقاه الفخرى وأنزله فى مكان يليق به، وكان فى كتاب الناصر أنه لا يخرج من الكرك حتّى يحضر الأمير طشتمر من بلاد الروم، فكتب الفخرى بحضوره إلى الناصر وأنّه يسرع فى مجيئه إلى دمشق. وأخذ الفخرى أيضا فى تجهيز ما يحتاج السلطان إليه، وفى ظنه أنّ السلطان يسير إليه بدمشق فيركب فى خدمته بالعساكر إلى مصر، فلم يشعر الفخرى إلّا وكتاب السلطان قد ورد عليه مع بعض الكركيّين يتضمّن أنّه يركب من دمشق ليجتمع مع السلطان على غزّة فشقّ ذلك عليه وسار من دمشق بعساكرها وبمن استخدمه حتّى قدم غزة فى عدّة كبيرة فتلقّاه الأمير چنكلى والأحمدى وقمارى أمير شكار.
وأمّا أمر الديار المصريّة فإنّ الأميرين يلبغا اليحياوى وملكتمر الحجازىّ تفاوضا فى الكلام حتّى بلغا إلى المخاصمة، وصار لكل منهما طائفة ولبسوا آلة الحرب فتجمّعت الغوغاء تحت القلعة لنهب بيوت من عساه ينكسر من الأمراء، فلم يزل الأمير أيدغمش بالأمراء حتّى انكفوا عن القتال، وبعث إلى العامة عدّة من الأوجاقيّة فقبضوا على جماعة منهم وأودعهم بالسجن.
ثم فى يوم الخميس سابع شهر رمضان قدم أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون من قوص إلى القاهرة، وعدّتهم ستة فركب الأمراء إلى لقائهم وهرعت العامّة إليهم فخرجوا من الحرّاقة وركبوا الخيول إلى القرافة حتى جاءوا تربة «1» جركتمر صاحت

(10/55)


العامّة هذه تربة الذي قتل أستاذنا الملك المنصور وهجموها وأخذوا ما فيها وأخربوها حتى صارت كوم تراب، فلمّا وصل أولاد السلطان تحت القلعة وافاهم الأمير جمال الدين يوسف والى القاهرة كان، فنزل وقبّل ركبة رمضان ابن الملك الناصر فرفسه برجله وسبّه وقال له: أتنسى ونحن فى الحرّاقة عند توجّهنا إلى قوص وقد طلبنا مأكلا من الجيزة فقلت خذوهم وروحوا إلى لعنة الله ما عندنا شىء! فصاحت بهم العامّة: بالله مكّنا من نهبه، هذا قوصونىّ! فأشار بيده أن انهبوا بيته فتسارعوا فى الحال إلى بيته «1» المجاور لجامع الظاهر بالحسينيّة، حتّى صاروا منه إلى باب الفتوح، فقامت إخوته ومن يلوذ به فى دفع العامة بالسلاح، وبعث الأمير أيدغمش أيضا لجماعة ليردّوهم عن النهب، وخرج إليهم نجم الدين والى القاهرة، وقد تقاتل القوم حتّى كفّهم عن القتال فكان يوما، مهولا، قتل فيه من العامّة «2» عشرة رجال، وجرح خلق كثير ولم ينتهب شىء.
ثم قدم الخبر من غزّة بقدوم الفخرى وطقزدمر إلى غزّة واجتماعهم «3» مع چنكلى والأحمدى وقمارى، وهم فى انتظار السلطان، وأنّ الأمير أيدغمش يحلّف جميع أمراء مصر وعساكرها للملك الناصر على العادة، فجمعوا بالميدان «4» . فأخرجت نسخة اليمين المحضّرة، فإذا هى تتضمّن الحلف للسلطان ثم للأمير قطلوبغا الفخرى فتوقّف

(10/56)


الأمراء عن الحلف لقطلوبغا الفخرى، حتى ابتدأ الأمير أيدغمش فحلف فتبعه الجميع خوفا من وقوع الفتنة.
وأمّا أمر الفخرى والأمراء فإنّهم لما وصلوا إلى غزّة جمع لهم نائبها آق سنقر الإقامات من الشعير والغنم. ثم كتب الأمراء جميعا إلى الملك الناصر بقدومهم إلى غزّة وعرّفوه بذلك واستحثوه على سرعة الحضور صحبة مماليكهم والأمير قمارى أمير شكار، فساروا إلى الكرك، وكان قد سبقهم إلى الكرك الأمير يحيى بن طايربغا صهر الأمير أيدغمش يستحثّ الملك الناصر أيضا على المسير الى مصر، فأقاموا جميعا ثلاثة أيام لم يؤذن لهم فى دخول المدينة. ثم أتاهم كاتب نصرانىّ وبازدار يقال له أبو بكر ويوسف بن النصّال وهؤلاء الثلاثة هم خاصّة الملك الناصر أحمد من أهل الكرك، فسلّموا عليهم وطلبوا ما معهم من الكتب، فشقّ ذلك على الأمير قمارى وقال لهم: معنا مشافهات من الأمراء للسلطان، لا بدّ من الاجتماع به، فقالوا:
لا يمكن الاجتماع به، وقد رسم إن كان معكم كتاب أو مشافهة فأعلمونا بها، فلم يجدوا بدّا من دفع الكتب إليهم، وأقاموا إلى غد فجاءتهم كتب مختومة وقيل للأمير يحيى بن طايربغا: اذهب إلى عند الأمراء بغزّة فساروا عائدين إلى غزة، فإذا فى الكتب الثناء على الأمراء وأن يتوجهوا إلى مصر، فإن السلطان يقصد مصر بمفرده، فتغيّرت خواطر الأمراء وقالوا وطالوا، وخرج الفخرىّ عن الحدّ وأفرط به الغضب، وعزم على الخلاف، فركب إليه طشتمر حمّص أخضر والأمير چنكلى ابن البابا والأمير بيبرس الأحمدى، وما زالوا به حتّى كفّ عمّا عزم عليه، ووافق على المسير، وكتبوا بما كان من ذلك إلى الأمير أيدغمش، وتوجّهوا جميعا من غزّة يريدون مصر. وكان أيدغمش قد بعث ابنه بالخيل الخاصّ إلى السلطان، فلمّا وصل إلى الكرك أرسل السلطان من أخذ منه الخيل، ورسم بعوده إلى أبيه،

(10/57)


وأخرج رجلا من الكرك يعرف بأبى بكر البازدار ومعه رجلان ليبشّروا بقدومه، فوصلوا إلى الأمير أيدغمش فى يوم الاثنين خامس عشرينه «1» ، وبلّغوه سلام السلطان وعرّفوه أنّه كان قد ركب الهجن وسار على البريّة صحبة العرب، وأنه يصابح أو يماسى، فخلع عليهم وبعث بهم إلى الأمراء، فأعطاهم كلّ أمير من الأمراء المقدّمين خمسة آلاف درهم، وأعطاهم بقيّة الأمراء على قدر حالهم، وخرج العامّة إلى لقائه.
فلمّا كان يوم الأربعاء سابع عشرين شهر رمضان قدم قاصد السلطان إلى الأمير أيدغمش بأنّ السلطان يأتى ليلا من باب القرافة، وأمر أن يفتح له باب السرّ حتى يعبر منه، ففتحه وجلس أيدغمش وألطنبغا الماردانىّ حتى مضى جانب من ليلة الخميس ثامن عشرينه أقبل السلطان فى الليل فى نحو العشرة رجال من أهل الكرك، وقد تلثّم وعليه ثياب مفرّجة فتلقوه وسلّموا عليه، فلم يقف معهم، وأخذ جماعته ودخل بهم، ورجع الأمراء وهم يعجبون من أمره، وأصبحوا وقد دقّت البشائر بالقلعة وزيّنت القاهرة ومصر، واستدعى السلطان أيدغمش فى بكرة يوم الجمعة، فدخل عليه وقبّل له الأرض فاستدناه وطيّب خاطره، وقال له: أنا ما كنت أتطلع إلى الملك وكنت قانعا بذلك المكان، فلمّا سيّرتم فى طلبى ما أمكننى إلا أن أحضر كما رسمتم، فقام أيدغمش وقبّل الأرض ثانيا، ثم كتب عن السلطان إلى الأمراء الشاميّين يعرّفهم بقدومه إلى مصر وأنه فى انتظارهم، وكتب علامته بين الأسطر: «المملوك أحمد بن محمد» . وكتب إليهم أيدغمش كتابا، وخرج مملوكه بذلك على البريد فلقيهم على الورّادة»
فلم يعجبهم هيئة عبور السلطان إلى مصر، وكتبوا

(10/58)


إلى أيدغمش أن يخرج إليهم هو والأمراء إلى سرياقوس ليتفقوا على ما يفعلوه.
فلمّا كان يوم عيد الفطر منع السلطان الأمراء من طلوع القلعة، ورسم لكلّ أمير أن يعمل سماطه فى داره، ولم ينزل السلطان لصلاة العيد، وأمر الطواشى عنبر السّحرتى مقدّم المماليك ونائبه الطواشى الإسماعيلى أن يجلسا على باب القلعة ويمنعا من يدخل عليه، وخلا بنفسه مع الكركيين. وكان الحاج علىّ «إخوان «1» سلّار» إذا أتى بطعام للسلطان على عادته خرج إليه يوسف وأبو بكر البازدار وأطعماه ششنى الطعام وتسلّما السّماط منه وعبرا به إلى السلطان، ويقف الحاجّ على «إخوان سلّار» بمن معه حتى يخرج إليهم الماعون.
وحكى الرئيس جمال الدين بن المغربى رئيس الأطباء أنّ السلطان استدعاه وقد عرض له وجع فى رأسه فوجده جالسا وبجانبه شابّ من أهل الكرك جالس، وبقية الكركيّين قيام فوصف له ما يلائمه وتردّد إليه يومين وهو على هذه الهيئة. انتهى.
ثم فى يوم الأحد تاسع شوّال قدم الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخرى والأمير طشتمر الساقى حمّص أخضر وجميع أمراء الشام وقضاتها والوزراء ونوّاب القلاع فى عالم كبير حتى سدّوا الأفق ونزل كثير منهم تحت القلعة فى الخيم، وكان خرج إلى لقائهم الأمير أيدغمش والحاجّ آل ملك والجاولى وألطنبغا الماردانى وغيرهم، وأخذ

(10/59)


الفخرى يتحدّث مع أيدغمش فيما عمله «1» السلطان من قدومه فى زىّ العربان واختصاصه بالكركيّين، وإقامة أبى بكر البازدار حاجبه، وأنكر عليه ذلك غاية الإنكار، وطلب من الأمراء موافقته على خلعه وردّه إلى مكانه، فلم يمكّنه طشتمر حمص أخضر من ذلك، وساعده الأمراء أيضا، وما زالوا به حتى أعرض عمّا همّ به، ووافق الأمراء على طاعته. فلما كان يوم الاثنين عاشره لبس السلطان شعار السلطنة وجلس على تخت الملك، وحضر الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد وقضاة مصر الأربعة وقضاة دمشق الأربعة، وجميع الأمراء والمقدمين وبايعه الخليفة بالسلطنة وقبّلوا الأرض بين يديه على العادة. ثم قام السلطان على قدميه فتقدّم الأمراء وباسوا يده واحدا بعد واحد على قدر مراتبهم، وجاء الخليفة بعدهم وقضاة القضاة ما عدا القاضى حسام الدين الغورىّ الحنفىّ، فإنه لمّا طلع مع القضاة وجلسوا بجامع القلعة حتّى يؤذن لهم على العادة جمع عليه [طبّاخ المطبخ «2» السلطانىّ] بعض صبيان المطبخ جمعا من الأوباش لحقد كان فى نفسه منه عند ما تحاكم هو وزوجته عنده قبل ذلك، فأهانه القاضى المذكور، فلمّا وجد الطباخ الفرصة هجم عليه بأوباشه ومدّ يده إلى الغورىّ من بين القضاة وأقاموه وحرقوا عمامته فى حلقه وقطعوا ثيابه وهم يصيحون: يا قوصونىّ! ثم ضربوه بالنعال ضربا مبرّحا، وقالوا له: يا كافر يا فاسق! فارتجّت القلعة، وأقبل علم «3» دار حتى خلّصه منهم وهو يستغيث يا مسلمين! كيف يجرى هذا على قاض من قضاة المسلمين؟ فأخذ المماليك جماعة من تلك الأوباش وجروهم إلى الأمير أيدغمش فضربهم وبعث طائفة من

(10/60)


الأوجاقية، ساروا بالغورى إلى منزله ولم يحضر الموكب وثارت العامّة على بيته بالمدرسة الصالحية «1» ونهبوه، فكان يوما شنيعا.
ثم فى يوم الخميس ثالث عشره عمل السلطان موكبا آخر وخلع على سائر الأمراء قاطبة، وأنعم على الأمير طشتمر حمّص أخضر بعشرة آلاف دينار وعلى الأمير قطلوبغا الفخرى بما «2» حضر معه من البلاد الشامية وهو أربعة آلاف دينار ومائة ألف درهم فضّة، ونزل فى موكب عظيم بمن حضر صحبته من أمراء البلاد الشامية وهم الأمير سنجر الجمقدار «3» وتمر الساقى وطرنطاى البچمقدار «4» وآقبغا عبد الواحد وتمر الموسوى وابن قراسنقر وأسنبغا بن البوبكرى وبكنمر العلائى وأصلم نائب صفد. ثم طلب السلطان الوزير نجم الدين، ورسم له أن يكون يوسف البازدار ورفيقه مقدمى البازداريّة، ومقدمى الدولة، وخلع السلطان عليهما كلفتاه زركش وأقبية طردوحش بحوائص ذهب، فحكما مصر فى الدولة وتكبّرا على الناس وسارا بحمق زائد.
ثم فى يوم السبت خامس عشره خلع على الأمير طشتمر الساقى حمّص أخضر باستقراره فى نيابة السلطنة بالديار المصريّة فتوّجه بخلعته وباشر النيابة، وجلس والحجاب قيام بين يديه والأمراء فى خدمته. وفى يوم الاثنين سابع عشره أخرج

(10/61)


السلطان عبد المؤمن بن عبد الوهاب السّلامى والى قوص من السجن، ورسم بتسميره فسمّر على باب البيمارستان «1» المنصورىّ بمسامير جافية شنيعة، وطيف به مدّة ستة أيام وهو يحادث الناس فى الليل بأخباره، ومما حدّثهم به أنه هو الذي كان وثب على النشو ناظر الخاصّ وضربه بالسيف، حسب ما ذكرناه فى ترجمة الملك الناصر محمد بن قلاوون من أمر النشو، وأنّه لما سقطت عمامته عن رأسه ظنّها رأسه.
وكان إذا قيل له: اصبر يا عبد المؤمن، فيقول: أسأل الله الصبر، وينشد كثيرا قوله
يبكى علينا ولا نبكى على أحد ... لنحن أغلظ أكبادا من الإبل
وكان السبب لقتله ومثلته هذه أنه قتل الملك المنصور أبا بكر بن الناصر محمد بقوص بأمر قوصون، ثم شنق بعد ذلك فى يوم السبت ثانى عشرين شوّال على قنطرة «2» السدّ وأكلته الكلاب. ثم قبض السلطان على أحد وعشرين أميرا وأخرجهم إلى الإسكندريّة صحبة الأمير طشتمر طلليه «3» .
ثم فى يوم الخميس سابع عشرينه خلع على الأمير الحاجّ آل ملك بنيابة حماة عوضا عن طقزدمر الحموىّ وعلى بيبرس الأحمدى واستقرّ فى نيابة صفد عوضا عن أصلم الناصرى وعلى آق سنقر، واستقر نائب غزّة على عادته. وفى مستهلّ ذى القعدة خلع على الأمير قطلوبغا الفخرى بنيابة دمشق وعلى الأمير أيدغمش أمير آخور بنيابة حلب. ثم فى يوم الثلاثاء ثانيه استقرّ قمارى أمير شكار أمير آخور عوضا عن أيدغمش؛ واستقرّ أحمد شادّ الشّربخاناه أمير شكار، واستقرّ آقبغا عبد الواحد فى نيابة حمص. ثم أنعم السلطان على الأمير زين الدين قراجا بن دلغادر بإنعامات

(10/62)


كثيرة وكتب له بالإمرة على التّركمان ونيابة أبلستين. وفى يوم الأحد سابع ذى القعدة خرج الأمير أيدغمش متوجّها إلى نيابة حلب. وفى يوم الاثنين خامس عشره خرج الأمير قطلوبغا الفخرى متوجّها إلى نيابة دمشق ومعه من تأخّر من عساكر الشام، وخرج الأمير نائب السلطنة بالقاهرة لوداعه وجميع الأمراء ومدّ له سماطا عظيما.
ولما توجّه الفخرى وأيدغمش وغيرهما من الديار المصرية وبقى الأمير طشتمر الساقى حمص أخضر نائب السلطنة بالقاهرة قبض عليه السلطان بعد خروج الفخرى بخمسة أيام، وذلك فى يوم السبت العشرين من ذى القعدة.
وسبب القبض على طشتمر أنه بقى يعارض السلطان بحيث إنه كان يردّ مراسيمه ويتعاظم على الأمراء والأجناد تعاظما زائدا، وكان إذا شفع عنده أحد من الأمراء فى شفاعة لا يقبلها، وكان لا يقف لأمير إذا دخل عليه، وإذا أتته قصّة عليها علامة السلطان بإقطاع أو غيره أخذ ذلك منه وطرد من هى باسمه، وأخرق «1» به، وقرّر مع السلطان أنه لا يمضى من المراسيم إلّا ما يختاره، ورسم للحاجب بألّا يقدّم أحد قصّة للسلطان إلّا أن يكون حاضرا، فلم يتجاسر أحد أن يقدّم قصّة للسلطان فى غيبته. وأخذ إقطاع الأمير بيبرس الأحمدى وتقدمته لولده، فكرهته الناس، وصارت أرباب الدولة وأصحاب الأشغال كلّها فى بابه، وتقرّبوا إليه بالهدايا والتّحف، وانفرد بتدبير الملك، وحطّ على الكركيّين ومنعهم من الدخول على السلطان، فلم يتهيّأ له ذلك. وكان ناصر الدين المعروف بفار السّقوف قد توصّل إلى الكركيين حتى استقرّ إمام السلطان يصلّى به الخمس وناظر المشهد النّفيسىّ عوضا عن تقىّ الدّين على بن القسطلانيّ خطيب جامع عمرو وجامع القلعة، وخلع عليه

(10/63)


السلطان بغير علم طشتمر النائب، فبعث إليه طشتمر عدّة نقباء ونزع الخلعة من عليه وسلّمه إلى المقدّم إبراهيم بن صابر، وأمر بضربه وإلزامه بحمل مائة ألف درهم، فضربه ابن صابر ضربا مبرّحا واستخرج منه أربعين ألف درهم. ثم أفرج عنه بشفاعة أيدغمش والفخرى فيه بعد ما أشهد عليه أنه لا يطلع القلعة. ثم أخذ قصير معين «1» من مباشرى قوصون وأحاط بما فيه من القنود والأعسال والسكّر وغير ذلك، فعظم ما فعله على السلطان وعلى الأمراء، فإنه خرج عن الحدّ، إلى أن قرر السلطان مع مقدّم المماليك عنبر السّحرتى والأمير آق سنقر السّلّارى فى القبض على طشتمر وعلى قطلوبغا الفخرى، وأن ستدعى مماليك بشتك وقوصون وينزلهم بالأطباق من القلعة ويعطيهم إقطاعات بالحلقة ليصيروا من جملة مماليك السلطان خوفا من حركة طشتمر النائب.
ثم رتّب السلطان عنده مماليك بداخل القصر للقبض على طشتمر أيضا. وكان مما جدّد طشتمر فى نيابته أن منع الأمراء أن تدخل مماليكها إلى القصر، وبسط من باب القصر بساطا إلى داخله كما كان فى الأيام الناصريّة فصار الأمير لا يدخل إلى القصر إلّا بمفرده، فكان ما دبّره عليه. ثم دخل هو أيضا بمفرده ومعه ولداه إلى القصر، وجلس على السّماط على العادة، فعند ما رفع السماط قبض كشلى «2» السلاح دار أحد المماليك السلطانية وكان معروفا بالقوّة على كتفيه من خلف ظهره قبضا عنيفا.
ثم بدر إليه جماعة من المماليك وأخذوا سيفه وقيّدوه وقيدوا ولديه، ونزل أمير مسعود الحاجب فى عدّة من المماليك السلطانية فأوقع الحوطة على بيته «3» وأخذ

(10/64)


مماليكه فسجنهم. ثم خرج فى الحال ساعة القبض على طشتمر الأمير ألطنبغا الماردانى والأمير أرنبغا أمير سلاح ومعهما من أمراء الطبلخاناه والعشرات نحو خمسة عشر أميرا ومعهم أيضا من المماليك السلطانية وغيرهم ألف فارس، وتوجّهوا ليقبضوا على الأمير قطلوبغا الفخرى، وكتب للأمير آق سنقر الناصرى نائب غزّة بالركوب معهم بعسكره وجميع من عنده ومن هو فى معاملته، وكان الفخرى قد ركب من الصالحية «1» ، فبلغه مسك طشتمر ومسير العسكر إليه من هجّان بعث به إليه بعض ثقاته، فساق إلى قطّبا «2» وأكل بها شيئا، ثم رحل مسرعا حتى دخل العريش «3» فإذا آق سنقر بعسكره فى انتظاره على الزعقة «4» ، وكان ذلك وقت الغروب فوقف كلّ منهما تجاه صاحبه. حتى أظلم الليل سار الفخرى بمن معه وهم ستون فارسا على البريّة، فلمّا أصبح آق سنقر علم أن الفخرى فاته، ومال أصحابه على أثقال الفخرى فنهبوها وعادوا إلى غزّة. واستمرّ الفخرى سائرا ليلته، ومن الغد حتّى انتصف النهار وهو سائق فلم يتأخّر معه إلا سبعة فرسان، ومبلغ أربعة آلاف وخمسمائة دينار، وقد وصل يبنى «5» وعليها الأمير أيدغمش وهو نازل فترامى عليه، وعرّفه بما جرى وأنه قطع خمسة عشر بريدا فى مسير يوم واحد، فطيّب أيدغمش خاطره وأنزله فى خيمة وقام له بما يليق به، فلمّا جنّه الليل أمر به فقيّد وهو نائم وكتب بذلك إلى السلطان مع بكا الخضرى، وكان السلطان لمّا بلغه هروب الفخرى تنكّر على الأمراء

(10/65)


واتّهمهم بالمخامرة عليه، وهمّ فى يوم الاثنين أن يمسكهم، فتأخّر عن الخدمة الجاولى فى يوم الاثنين المذكور، وهو تاسع عشرين ذى القعدة وتأخّر معه جماعة كبيرة. فلمّا كان وقت الظهر بعث لكل أمير طائر إوزّ مشوىّ وسأل عنهم؛ ثم بعث إليهم آخر النهار أن يطلعوا من الغد. فجاء بكا الخضرى عشيّة يوم الثلاثاء مستهلّ ذى الحجّة، ومعه البشارة بالقبض على سيف الدين قطلوبغا الفخرى، فسرّ السلطان بذلك، وكتب بحمله إلى الكرك. فلمّا طلع الأمراء إلى الخدمة فى يوم الثلاثاء ترضّاهم السلطان وبشّرهم بمسك الفخرى، ثم أخبرهم أنه عزم على التوجّه إلى الكرك، وتجهّز وأخذ الأموال صحبته، وأخرج الأمير طشتمر حمّص أخضر مقيّدا فى محارة «1» فى ليلة الأربعاء ومعه جماعة من المماليك السلطانيّة موكّلون به.
ثم تقدّم السلطان إلى الخليفة بعد ما ولّاه نظر المشهد النّفيسىّ عوضا عن ابن القسطلانيّ أن يسافر معه إلى الكرك، ورسم لجمال الكفاة ناظر الجيش والخاصّ، وللقاضى علاء الدين علىّ بن فضل الله كاتب السّر أن يتوجّها معه إلى الكرك. ثم ركب السلطان ومعه الأمراء من قلعة الجبل فى يوم الأربعاء ثانيه بعد ما أمّر ثمانية من المماليك السلطانية وخلع عليهم على باب الخزانة، وخلع على الأمير شمس الدين آق سنقر السّلّارى وقرّره نائب الغيبة، وخلع على شمس الدين محمد بن عدلان باستقراره قاضى العسكر، وخلع على زين الدين عمر بن كمال الدين عبد الرحمن ابن أبى بكر البسطامىّ واستقرّ به قاضى قضاة الحنفيّة بالديار المصرية عوضا عن حسام الدين الغورى. فلمّا سار السلطان حتى قرب قبّة النصر «2» خارج القاهرة وقف حتى قبل الأمراء يده على مراتبهم ورجعوا عنه، فنزل فى الحال عن فرسه، ولبس

(10/66)


ثياب العربان وهى كامليّة مفرّجة وعمامة بلثامين، وسائر الكركيّين فى طريقه، وترك الأمراء الذين معه وهم قمارى وملكتمر الحجازى وأبو بكر وعمر ابنا أرغون النائب مع المماليك السلطانية والطّلب، وتوجّه على البريّة إلى الكرك [وليس «1» معه إلّا الكركيون ومملوكان] وهم فى أثره فقاسوا مشقّة عظيمة من العطش وغيره حتى وصلوا ظاهر الكرك وقد سبقهم السلطان إليها، وقدمها فى يوم الثلاثاء ثامن ذى الحجّة، وكتب للأمراء بالديار المصرية يعرّفهم بذلك ويسلّم عليهم، فقدم كتابه القاهرة فى يوم الخميس سابع عشر ذى الحجّة.
ولمّا دخل الملك الناصر أحمد إلى الكرك لم يمكنّ أحدا من العسكر أن يدخل المدينة سوى كاتب السرّ وجمال الكفاة ناظر الجيش والخاصّ فقط. ورسم أن يسير الأمير المقدّم عنبر السّحرتى بالمماليك السلطانية إلى قرية «2» الخليل عليه السلام، وأن يسير قمارى وعمر ابن النائب أرغون والخليفة إلى القدس الشريف «3» . ثم رسم

(10/67)


السلطان لمقدّم المماليك عنبر السّحرتى أن ينتقل بالمماليك السلطانية من الخليل إلى غزّة لغلاء الأسعار بالخليل، وفى أثناء ذلك وصل أمير علىّ بن أيدغمش بالفخرى مقيّدا إلى غزة وبها العساكر، فبعث السلطان إليه من تسلّم منه الفخرى وأعاد ابن أيدغمش إلى أبيه ولم يجتمع به، فسجن السلطان قطلوبغا الفخرى وطشتمر حمص أخضر بقلعة الكرك بعد ما نكّل بالفخرى وأهين من العامّة إهانة «1» زائدة.
ثم كتب السلطان لآق سنقر السّلّارى نائب الغيبة «2» بإرسال حريم الفخرى إلى الكرك، وكانوا قد ساروا من القاهرة بعد مسير الفخرى بيوم، فجهزهنّ إليه، فأخذ أهل الكرك جميع ما معهنّ حتى ثيابهنّ، وبالغوا فى الفحش بهنّ والإساءة. ثم كتب السلطان لآق سنقر السلارى نائب الغيبة بالديار المصرية أن يوقع الحوطة على موجود طشتمر حمص أخضر وقطلوبغا الفخرى، ويحمل ذلك إليه بالكرك. وكان شأن الملك الناصر أحمد أنه إذا رسم بشىء جاء كاتب كركىّ لكاتب السرّ وعرّفه عن السلطان بما يريد، فيكتب كاتب السرّ ذلك ويناوله للكاتب الكركى حتى يأخذ عليه علامة السلطان، ويبعثه حيث يرسم به، هذا ما كان من أمر الملك الناصر.
أما العسكر المتوجّه من القاهرة إلى غزة فإن ابن أيدغمش لمّا قدم عليهم بمدينة غزة ومعه الفخرى أراد الأمير علاء الدين ألطنبغا الماردانىّ أن يؤخّره عنده بغزة حتّى يراجع فيه السلطان فلم يوافقه ابن أيدغمش، وتوجّه به إلى الكرك، فرحل ألطنبغا الماردانى وبقيّة العساكر عند ذلك إلى جهة الديار المصريّة فقدموها يوم السبت سادس عشرين ذى الحجّة وانعكف السلطان على اللهو واحتجب عن الناس

(10/68)


إلّا الكركيّين. ثم بلغه تغيّر خواطر الأمراء فأخذ فى تحصين قلعة الكرك ومدينتها وأشحنها بالغلال والأقوات والأسلحة.
وأمّا أمر الديار المصرية فإنه شقّ عليهم غيبة السلطان منها، واضطربت أحوال القاهرة وصارت غوغاء، وصار عند أكابر الأمراء تشويش كثير لمّا بلغهم من مصاب حريم الأمير قطلوبغا الفخرى. وبقى الأمير آق سنقر السّلّارى فى تخوّف عظيم فإنه بلغه بأن جماعة من المماليك الذين قبض «1» على أستاذهم قد باطنوا بعض الأمراء على الركوب عليه، فترك آق سنقر الركوب فى أيام المواكب أياما حتى اجتمع الأمراء عنده وحلفوا له. ثم اتّفق رأى الأمراء على أن كتبوا للسلطان الملك الناصر أحمد كتابا فى خامس محرم سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة بأنّ الأمور واقفة لغيبة السلطان، وقد نافق غالب عربان الصعيد وغيره وطمع أرباب الفساد، وخيفت السّبل وفسدت الأحوال، وسألوا حضوره إلى الديار المصرية وأرسلوا الكتاب على يد الأمير طقتمر «2» الصلاحىّ فتوجّه طقتمر إليه، ثم عاد إلى الديار المصرية بجوابه فى حادى عشره: بأننى قاعد فى موضع أشتهى، وأىّ وقت أردت حضرت إليكم؛ وذكر طقتمر أنّ السلطان لم يمكّنه الاجتماع به، وأنه بعث من أخذ منه الكتاب، ثم أرسل إليه الجواب.
وقدم الخبر بأنه قتل الأمير طشتمر الساقى حمّص أخضر، والأمير قطلوبغا الفحرى، وكان قصد قتلهما بالجوع، فأقاما يومين بلياليهما لا يطعمان طعاما، فكسبرا قيدهما- وكان السلطان قد ركب للصيد- وخلعا باب السجن ليلا وخرجا إلى

(10/69)


الحارس فأخذا سيفه وهو نائم فأحسّ بهما، وقام يصيح حتى لحقه أصحابه فأخذوهما وبعثوا إلى السلطان بخبرهما، فقدم فى زىّ العربان ووقف على الخندق وأحضرهما وقد كثرت بهما الجراحات، فأمر يوسف ورفيقه بضرب أعناقهما، وأخذ يسبّهما فردّا عليه السبّ ردّا قبيحا، وضربت رقابهما، فلمّا بلغ الأمراء ذلك اشتدّ قلقهم.
ثم قدم كتاب السلطان للأمراء يطيّب خواطرهم ويعرّفهم أن مصر والشام والكرك له، وأنه حيثما شاء أقام، ورسم أن تجهّز له الأغنام من بلاد الصعيد، فتنكرت قلوب الأمراء «1» ، ونفرت خواطرهم وتكلّموا فيما بينهم فى خلعه، حتى اتّفق الأمراء على خلعه من السلطنة، وإقامة أخيه إسماعيل ابن الملك الناصر محمد، فخلع فى يوم الأربعاء حادى عشرين المحرّم من سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، فكانت مدة ولايته ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوما، منها مدّة إقامته بمدينة الكرك، ومراسيمه نافذة بمصر أحد وخمسين يوما. وإقامته بمصر شهران «2» إلا أياما.
وكان لمّا خرج من الديار المصرية متوجّها إلى الكرك جمع الأغنام التى كانت لأبيه وأغنام قوصون، وعدّتها أربعة آلاف رأس وأربعمائة رأس من البقر التى كان استحسنها أبوه، وأخذ الطيور التى كانت بالأحواش على اختلاف أنواعها، وحملها على رءوس الحمّالين إلى الكرك، وساق الأغنام والأبقار إليها، ومعهم عدّة سقّايين، وعرض الخيول والهجن، وأخذ ما اختاره منها ومن البخاتى وحمر الوحش والزراريف والسّباع، وسيّرها إلى الكرك. ثم فتح الذخيرة وأخذ منها جميع ما فيها من الذهب والفضة وهو ستمائة ألف دينار وصندوق فيه الجواهر التى جمعها أبوه

(10/70)


فى مدة سلطنته. وتتبّع جوارى أبيه حتى عرف المتموّلات منهنّ، فصار يبعث إلى الواحدة منهنّ يعرّفها أنه يدخل عليها الليلة فإذا تجمّلت بحليها وجواهرها أرسل من يحضرها إليه، فإذا خرجت من موضعها ندب من يأخذ جميع ما عندها، ثم يأخذ جميع ما عليها، حتى سلب أكثرهنّ. ثم عرض الرّكبخاناه، وأخذ ما فيها من السروج واللّجم والسلاسل الذهب والفضة. وأخذ الطائر الذهب الذي كان على القبّة، وأخذ الغاشية الذهب وطلعات السناجق؛ وما ترك بالقلعة مالا إلّا أخذه، واستمرّ بالكرك.
فلمّا تسلطن أخوه الملك الصالح إسماعيل حسب ما يأتى ذكره أرسل إلى الكرك يطلب من أخيه الناصر أحمد هذا شعائر الملك، وما كان أخذه من الخزائن وغيرها، فلم يلتفت الناصر إلى كلامه، فندب السلطان الملك الصالح تجريدة لحصاره بالكرك، واستمرّ يبعث إليه تجريدة بعد أخرى سبع تجاريد، حتى إنّه لم يبق بمصر والشام أمير إلا تجرّد إلى الكرك مرّة ومرّتين إلى أن ظفروا به حسب ما يأتى ذكر ذلك كلّه مفصّلا فى ترجمة الملك الصالح إسماعيل. ولمّا ظفروا بالملك الناصر أحمد قيدوه وحبسوه بالكرك بعد أن حاصروه بها مدّة سنتين وشهر وثلاثة أيام، ختى قبض عليه، اتلف فيها أموالا كثيرة فى النفقات على المقاتلة، وأخذ أمره يتلاشى وهلك من عنده بالجوع. وضرب الذهب وخلط به الفضّة والنحاس ونفق ذلك فى الناس، فكان الدينار الذي ضربه يساوى خمسة دراهم.
وكان القبض على الملك الناصر من الكرك فى يوم الاثنين الظهر ثانى عشرين صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وكتب بذلك إلى السلطان، فأرسل السلطان الملك الصالح الأمير منجك اليوسفىّ الناصرىّ السلاح دار الى الكرك فقتله وحزّ رأسه وتوجه بها إلى القاهرة

(10/71)


وكان الملك الناصر أحمد هذا قد أخرجه أبوه الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية إلى الكرك وهو صغير، لعلّه لم يبلغ العشر سنين، فربّى بالكرك وأحبّ أهلها وصارت له وطنا، وكان نائب الكرك إذ ذاك ملكتمر السّرجوانىّ زوج أمّه.
ثم أرسل إليه أبوه أخويه: إبراهيم وأبا بكر المنصور فأقاموا الجميع بالكرك إلى أن طلبهم والدهم، وأعاد الناصر هذا إلى الكرك ثم طلبه ثانيا وزوّجه ببنت الأمير طايربغا من أقارب الملك الناصر، ثم أعاده إلى الكرك.
وكان الناصر هذا احسن إخوته وجها وشكلا، وكان صاحب لحية كبيرة وشعر غزير، وكان ضخما شجاعا صاحب بأس وقوّة مفرطة، وعنده شهامة مع ظلم وجبروت، وهو أسوأ أولاد الملك الناصر سيرة مع خفّة وطيش.
*** السنة التى حكم فى أوّلها المنصور أبو بكر إلى حادى عشرين صفر على أنه حكم من السنة الماضية تسعة ايام. ثم حكم فيها من صفر إلى يوم الخميس أوّل شعبان الملك الأشرف كچك. ثم حكم فيما بقى منها الملك الناصر أحمد هذا، والثلاثة أولا الناصر محمد بن قلاوون حسب ما تقدّم ذكره، والسنة المذكورة سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
فيها وقعت حادثة غريبة وهى»
أن رجلا بوارديا «2» يقال له محمد بن خلف بخطّ السّيوفيّين «3» من القاهرة قبض عليه فى يوم السبت سادس عشر رمضان، واحضر

(10/72)


إلى محتسب القاهرة فوجد بمخزنه من فراخ الحمام والزرازير المملوحة عدّة أربعة وثلاثين ألف ومائة وستة وتسعين، من ذلك أفراخ حمام ألف ومائة وستة وتسعون، فرخا. وزرازير عدّة ثلاثة وثلاثين ألف زرزور، وجميعها قد نتنت وتغيّرت أحوالها، فأدّب وشهّر.
وفيها توفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا الصالحىّ الناصرىّ نائب الشام مقتولا بسجن الإسكندرية. كان أصله من صغار مماليك المنصور قلاوون، وربّى عند الملك الناصر محمد بن قلاوون، وتوجه معه إلى الكرك، فلما عاد الملك الناصر إلى ملكه أنعم عليه بإمره عشرة وجعله جاشنكيره، ثم ولّاه حاجبا. ثم نقله من الحجوبيّة إلى نيابة حلب بعد موت أرغون النائب، فسار فيها سيرة مشكورة وغزا بلاد سيس، حتّى أخذها بالأمان؛ وقال فى ذلك العلّامة زين الدين عمر بن الوردى قصيدة طنّانة أوّلها:
جهادك مقبول وعامك قابل ... ألا فى سبيل المجد ما أنت فاعل
وعمّر الأمير ألطنبغا المذكور فى نيابته بحلب جامعا «1» فى شرقيّها، ولم يكن إذ ذاك داخل سور حلب جامع تقام فيه الخطبة سوى الجامع الكبير الأموىّ، وأقام بحلب حتى وقع بينه وبين تنكز نائب الشام، فشكاه تنكز إلى الملك الناصر فعزله عن نيابة حلب، وولّاه نيابة غزّة إلى أن غضب السلطان على تنكز ولّاه عوضه نيابة الشام الى أن مات الملك الناصر وتسلطن أولاده انضمّ ألطنبغا هذا إلى قوصون، فكان

(10/73)


ذلك سببا لهلاكه؛ وقد تقدم ذكر ذلك كلّه مفصلا. وكان أميرا جليلا شجاعا مشكور السيرة ومات وقد جاوز الخمسين سنة من العمر.
وفيها توفّى ملك التتار أزبك خان بن طغرلجا بن منكوتمر بن طغان بن باطو «1» ابن دوشى خان بن چنكز خان. ومات أزبك خان بعد أن ملك نحوا من ثلاثين سنة، وكان أسلم وحسن إسلامه وحرّض رعيته على الإسلام فأسلم بعضهم، ولم يلبس أزبك خان بعد أن أسلم السّراقوجات «2» ، وكان يلبس حياصة من فولاذ ويقول: لبس الذهب حرام على الرجال، وكان يميل إلى دين وخبر، ويتردّد إلى الفقراء، وكان عنده عدل فى رعيته، وتزوّج الملك الناصر محمد بابنته. وكان أزبك شجاعا كريما مليح الصورة ذا هيبة وحرمة. ومملكته متسعة، وهى من بحر قسطنطينيّة «3» إلى نهر أرتش «4» مسيرة ثمانمائة فرسخ، لكن أكثر ذلك قرى ومراع.
وولى الملك بعده جانى «5» بك خان.
وتوفّى الأمير سيف الدين بشتك بن عبد الله الناصرى مقتولا بسجن الإسكندرية فى شهر ربيع الآخر. وكان إقطاعه يعمل بمائتى ألف دينار فى كلّ سنة، وأنعم عليه أستاذه الملك الناصر محمد فى يوم واحد بألف ألف درهم. وكان راتبه لسماطه فى كلّ يوم خمسين رأسا من الغنم وفرسا، لابدّ من ذلك. وكان كثير التّيه لا يحدّث

(10/74)


مباشريه إلا بترجمان. وهو صاحب القصر بين «1» القصرين والحمام «2» بالقرب من سويقة «3» العزّى والجامع «4» عند قنطرة طقزدمر «5» خارج القاهرة. قال الشيخ صلاح الدين الصفدى: «وكان بشتك أهيف القامة، حلو الوجه. قربه السلطان وادناه، وكان يسمّيه فى غيبته بالأمير، وكان إقطاعه سبعة عشرة [إمرة «6» ] طبلخاناه أكبر من إقطاع قوصون، وما يعلم قوصون بذلك» .
وتوفّى الأمير سيف الدين طاجار بن عبد الله الناصرى الدّوادار قتيلا بثغر الإسكندرية. وكان من خواصّ الملك الناصر محمد بن قلاوون ومن أكابر مماليكه، ورقّاه حتى ولّاه الدّواداريّة، وكان ممّن انضم إلى الملك المنصور أبى بكر فقبض عليه عند خلعه وقتل.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين جركتمر بن عبد الله الناصرىّ قتيلا.
وتوفّى الأمير قوصون بن عبد الله الناصرىّ الساقى قتيلا بثغر الإسكندرية فى شوّال، وقد مرّ من ذكره ما فيه كفاية عن تكراره ثانيا.
وتوفّى الملك الأفضل علاء الدين على ابن الملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل [ابن «7» الملك الأفضل على] ابن الملك المظفّر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفّر تقىّ الدين عمر بن شاهنشاه ابن الأمير نجم الدين أيّوب بن شادى بن مروان

(10/75)


الأيّوبى صاحب حماة وابن صاحبها. مات بدمشق، وهو من جملة أمرائها بعد ما باشر سلطنة حماة عشرين سنة إلى أن نقله قوصون إلى إمرة الشام، وولى نيابة حماة بعده الأمير طقزدمر الحموى. وكانت وفاته فى ليلة الثلاثاء حادى عشر ربيع الآخر عن ثلاثين سنة.
وتوفّى الأمير شرف الدين، وقيل مظفّر الدين موسى بن مهنّا بن عيسى بن مهنا ابن مانع «1» بن حديثة بن عصيّة «2» بن فضل بن ربيعة أمير آل فضل بمدينة تدمر «3» .
وكان من أجلّ ملوك العرب، مات فجأة فى العشر الأخير من جمادى الأولى.
وتوفّى الحافظ الحجّة جمال الدين أبو الحجّاج يوسف بن الزّكى عبد الرحمن بن يوسف بن علىّ بن عبد الملك بن أبى الزّهر القضاعىّ الكلبى المزّى الحلبى المولد، ولد بظاهر حلب فى عاشر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وستمائة، ومات بدمشق فى ثانى «4» عشر صفر، وكان إمام عصره أحد الحفّاظ المشهورين. سمع الكثير ورحل وكتب وصنّف. وقد ذكرنا عدّة كبيرة من مشايخه وسماعاته فى ترجمته

(10/76)


فى «المنهل الصافى» ونبذة كبيرة من أخباره. ومن مصنفاته «كتاب «1» تهذيب الكمال» وهو فى غاية الحسن فى معناه.
وتوفّى الأمير سيف الدين تمر بن عبد الله الساقىّ الناصرىّ أحد أمراء الألوف فى يوم الأحد ثامن «2» عشرين ذى الحجة. وكان من أكابر الأمراء ومن أعيان خاصكيّة الملك الناصر محمد بن قلاوون ومماليكه.
وتوفّى القاضى برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن فخر الدين خليل بن إبراهيم الرسعنى «3» الشافعى قاضى حلب بها. وكان فقيها فاضلا، ولى القضاء بحلب وغيرها وأفتى ودرّس.
وتوفى الأمير علاء الدين على ابن الأمير الكبير سيف الدين سلّار فى شهر ربيع الآخر. وكان من أعيان الأمراء بالديار المضرية.
وتوفّى خطيب جامع دمشق الأموىّ الشيخ بدر الدين محمد ابن قاضى القضاة جلال الدين محمد القزوينى الشافعىّ. وكان فاضلا خطيبا فصيحا.
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله الناصرىّ السلاح دار نائب الفتوحات بآياس «4» وغيرها. وكان من أجلّ الأمراء الناصريّة. كان شجاعا كريما، وله المواقف المشهودة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وتسع أصابع. والله تعالى أعلم.

(10/77)


[ما وقع من الحوادث سنة 743]
ذكر ولاية الملك الصالح إسماعيل على مصر
السلطان الملك الصالح عماد الدين أبو الفداء إسماعيل ابن السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون وهو السلطان السادس عشر من ملوك الترك بالديار المصرية والرابع من بنى محمد بن قلاوون. جلس على تحت الملك فى يوم الخميس «1» ثانى عشرين المحرم سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة بعد خلع أخيه الملك الناصر أحمد باتّفاق الأمراء على ذلك لما بلغهم عن حسن سيرته، فإنّه قيل للأمراء لمّا أخرج قوصون أولاد الملك الناصر إلى قوص كان إسماعيل هذا يصوم يومى الاثنين والخميس، ويشغل أوقاته بالصلاة وقراءة القرآن مع العفّة والصّيانة عمّا يرمى به الشّباب من اللهو واللّعب، فلمّا بلغهم ذلك اتّفقوا على إقامته فى الملك وسلطنوه وحلّفوا له الأمراء والعساكر وحلف لهم أيضا السلطان الملك الصالح إسماعيل المذكور ألّا يؤذى أحدا وألا يقبض على أمير بغير ذنب، فتمّ أمره، ولقّب بالملك الصالح، ودقّت البشائر، ونودى بزينة القاهرة ومصر، ورسم بالإفراج عن المسجونين بثغر الإسكندرية، وكتب بالإفراج أيضا إلى الوجه القبلى «2» والبحرى وألّا يترك بالسجون إلّا من استحقّ عليه القتل. واستقرّ الأمير

(10/78)


أرغون العلائى زوج أمّ الملك الصالح رأس «1» نوبة، ويكون رأس المشورة ومدبر السلطنة وكافل السلطان. واستقرّ الأمير آق سنقر السّلّارى نائب السلطنة بالديار المصرية. وكتب للأمراء ببلاد الشام والنوّاب باستمرارهم وأرسل إليهم الخلع على يد الأمير طقتمر الصلاحىّ، وكتب بتقليد الأمير أيدغمش نائب حلب بنيابة الشام، واستقرّ عوضه فى نيابة حلب الأمير طقزدمر الحموى نائب حماة.
واستقرّ فى نيابة حماة عوضا عن طقزدمر الأمير علم الدين سنجر الجاولى.
ثم كتب السلطان الملك الصالح إسماعيل إلى أخيه الملك الناصر أحمد بالسلام وإعلامه أنّ الأمراء أقاموه فى السلطنة لمّا علموا أنه ليس له رغبة فى ملك مصر، وأنّه يحب بلاد الكرك والشّوبك وهى تحكّمك وملكك، وسأله أن يرسل القبّة والطّير والغاشية والنّمجاة وتوجّه بالكتاب الأمير قبلاى، وخرج الأمير بيغرا ومعه عدّة من الأوجاقية لجرّ الخيول السلطانية من الكرك الذي كان الملك الناصر أخذهم من الإسطبل السلطانى، وتوجّه الجميع إلى جهة الكرك. ثم فى يوم الأربعاء ثامن عشرين المحرم قدم الأمراء المسجونون بثغر الإسكندرية إلى القاهرة، وعدّتهم ستة وعشرون أميرا، منهم الأمير قياتمر وطيبغا المجدىّ وابن طوغان چق وأسنبغا ابن البوبكرى وابن سوسون وناصر الدين محمد بن المحسنى والحاجّ أرقطاى نائب طرابلس فى آخرين، وطلعوا إلى القلعة وقبّلوا الأرض بين يدى السلطان. ثم رسم السلطان أن يجلس أرقطاى مكان الأمير علم الدين سنجر الجاولى المنتقل إلى نيابة حماة، وأن يتوجّه البقية على إمريات ببلاد الشام.

(10/79)


وفى يوم السبت أوّل صفر قدم من غزّة الأمير قمارى أمير شكار والأمير أبو بكر بن أرغون النائب والأمير ملكتمر الحجازىّ وصحبتهم الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد، ومقدّم المماليك الطّواشى عنبر السّحرتى والمماليك السلطانية مفارقين الملك الناصر أحمد. وفيه خرج الأمير طقردمر الحموى من القاهرة لنيابة حلب.
وفى يوم الاثنين ثالثه خلع على الأمير سنجر الجاولى نائب حماة خلعة السفر، وخلع فيه أيضا على الأمير مسعود بن خطير الحاجب خلعة السفر لنيابة غزّة، وخلع على القاضى بدر الدين محمد بن محيى الدين يحيى بن فضل الله، واستقرّ فى كتابة السرّ بدمشق عوضا عن أخيه شهاب الدين أحمد. ورسم بسفر مماليك قوصون والأمير بشتك إلى البلاد الشامية متفرّقين، وكتب إلى النوّاب بذلك. وفيه استقرّ الأمير چنكلى بن البابا فى نظر البيمارستان المنصورىّ بين القصرين عوضا عن سنجر الجاولى. وجلس الأمير آق سقر السّلّارى بدار النيابة «1» بعد ما عمّرها وفتح شباكا.
ورسم له أن يعطى الأجناد «2» الإقطاعات من ثلثمائة دينار إلى أربعمائة دينار ويشاور فيما فوق ذلك. واستقرّ المكين «3» إبراهيم بن قروينة فى نظر الجيش. وعيّن ابن التاج إسحاق لنظر الخاصّ كلاهما عوضا عن جمال الكفاة بحكم غيبته بالكرك عند الملك الناصر أحمد. وفيه أنعم السلطان على أخيه شعبان بإمرة طبلخاناه.
وفى يوم الاثنين رابع عشرين صفر خلع السلطان على جميع الأمراء كبيرهم وصغيرهم الخلع السنيّة. وفى يوم الثلاثاء خامس عشرينه قدم القاضى علاء الدين على بن فضل الله كاتب السرّ وجمال الكفاة ناظر الجيش والخاصّ من الكرك إلى

(10/80)


الديار المصرية مفارقين الملك الناصر بحيلة دبرها جمال الكفاة، وقد بلغه عن الناصر أنه يريد قتلهم «1» خوفا من حضورهم الى مصر ونقلهم لما هو عليه من سوء السيرة.
فبذل جمال الكفاة ليوسف البازدار مالا جزيلا حتى مكّنهم من الخروج، فأقبل عليهم الأمراء والسلطان، وخلع عليهم باستمرارهم على وظائفهم.
ثم فى يوم الثلاثاء ثالث عشرين ربيع الأوّل رسم السلطان للأمير ألطنبغا الماردانىّ الناصرىّ بنيابة حماة عوضا عن الأمير سنجر الجاولى وكتب بحضور سنجر الجاولى الى نيابة غزّة عوضا عن أمير مسعود ونقل أمير مسعود الى إمرة طبلخاناه بدمشق.
وقدم الخبر من شطّى أمير العرب بأن الملك الناصر أحمد قرّر مع بعض الكركيّين أنه يدخل الى مصر ويقتل السلطان فتشوّش الأمراء لذلك فوقع الاتفاق على تجريد العساكر لقتال الملك الناصر وأخذه من الكرك. وفى يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر توجّهت التجريدة الى الكرك صحبة الأمير بيغرا، وهذه أوّل التجاريد الى الكرك لقتال الملك الناصر أحمد، وفى عقيب ذلك حدث للسلطان رعاف مستمرّ فاتهمت أمّه أمّ السلطان الأشرف كچك خوند أردو بأنّها سحرته، وهجمت عليها وأوقعت الحوطة على موجودها وضربت عدّة من جواريها ليعترفن «2» عليها، فلم يكن غير قليل حتّى عوفى السلطان، ورسم بزينة القاهرة، وحملت أمّ السلطان الى المشهد النفيسىّ «3» قنديل ذهب، زنته رطلان وسبع أواق ونصف أوقية.

(10/81)


ثم قدم الخبر على يد إياز الساقى بموت الأمير أيدغمش نائب الشام فجأة، فوقع الاختيار على استقرار الأمير طقزدمر الحموىّ نائب حلب مكانه فى نيابة الشام واستقرّ الأمير ألطنبغا الماردانىّ عوضا عن طقزدمر فى نيابة حلب، واستقرّ الأمير يلبغا اليحياوىّ فى نيابة حماة عوضا عن الماردانى.
ثم أنعم السلطان على أرغون العلائىّ بإقطاع الأمير قمارى بعد موته، وكتب السلطان لنائب صفد وغزّة بالنّجدة للأمير بيغرا لحصار الملك الناصر بالكرك.
ثم قدم الخبر من شطّى أنه ركب مع العسكر على مدينة الكرك وقاتلوا أهل الكرك وهزموهم إلى القلعة، وأنّ الملك الناصر أذعن وسأل أن يمهل حتّى يكتب إلى السلطان ليرسل من يتسلّم منه قلعة الكرك، فرجعوا عنه فلم يكن غير قليل حتى استعدّ الملك الناصر وقاتلهم.
وفى يوم الأربعاء رابع شهر رجب كانت فتنة الأمير رمضان أخى السلطان، وسبب ذلك أنّ السلطان كان أنعم عليه بتقدمة ألف، فلمّا خرج السلطان إلى سرياقوس «1» تأخّر رمضان عنه بالقلعة وتحدّث مع طائفة من المماليك فى إقامته سلطانا واتّفقوا على ذلك، فلمّا مرض السلطان الملك الصالح هذا واسترخى قوى أمره، وشاع ذلك بين الناس وراسل تكا الخضرىّ ومن خرج معه من الأمراء، وواعد من وافقه على الركوب بقبّة «2» النصر، فبلغ ذلك السلطان ومدبّر دولته الأمير أرغون العلائى، فلم يعبأ بالخبر إلى أن أهلّ شهر رجب، جهّز الأمير رمضان خيوله وهجنه بناحية بركة «3» الحبش، وواعد أصحابه على يوم الأربعاء، فبلغ الأمير آق سنقر أمير

(10/82)


آخور عند الغروب بما هو فيه من الحركة، فندب عدّة من العربان ليأتوه بخبر القوم، فلمّا أتاه خبرهم سار إليهم وأخذ جميع الخيل والهجن عن آخرهم من خلف القلعة وساقهم إلى الإسطبل «1» السلطانى وعرّف السلطان والعلائى أرغون من باب السرّ بما فعله فطلباه إليهما فصعد بما ظفر به من أسلحة القوم، فاتّفقوا على طلب إخوة السلطان إلى عنده والاحتفاظ بهم، فلمّا طلع الفجر خرج أرغون العلائى من بين يدى السلطان وطلب إخوة السلطان ووكّل بهم ووكّل ببيت رمضان جماعة حتى طلعت الشمس، وصعد الأمراء الأكابر إلى القلعة فاستدعى السلطان لهم وأعلموه بما وقع، فطلبوا سيدى رمضان إليهم فآمتنع من الحضور وهم يلحّون فى طلبه إلى أن خرجت أمّه وصاحت عليهم، فعادوا عنه إلى أرغون العلائى، فبعث أرغون بعدة من المماليك والخدّام لإحضاره فخرج فى عشرين مملوكا إلى باب «2» القلّة وسأل عن النائب، فقيل له عند السلطان مع الأمراء فمضى إلى باب القلعة وسيوف أصحابه مصلتة، وركب على خيول الأمراء، ومرّ بمن معه إلى سوق «3» الخيل تحت القلعة فلم يجد أحدا من الأمراء، فتوجّه إلى جهة قبّة النصر خارج القاهرة ووقف هناك ومعه الأمير تكا الخضرى وقد اجتمع الناس عليهم، وبلغ السلطان والأمراء خبره فأخرج السلطان محمولا بين أربعة لما به من الاسترخاء، وركب النائب وآق سنقر أمير آخور وقمارى أخو بكتمر الساقى وجماعة أخر، وأقام أكابر الأمراء عند السلطان وصفّت أطلابهم تحت القلعة، وضربت الكوسات حربيا، ونزلت النقباء

(10/83)


فى طلب الأجناد، وتوجّه النائب إلى قبة النصر، ووقف بمن معه تجاه رمضان، وقد كثر جمع رمضان من أجناد الحسينيّة ومن مماليك تكا والعامّة، وبعث النائب يخبر السلطان بذلك، فمن شدّة ما انزعج نهضت قوّته، وقام قائما على قدميه بعد ما كان يئس من نفسه من عظم استرخاء أعضائه، وأراد الركوب فقام الأمراء وهنّوه بالعافية وقبّلوا له الأرض وهوّنوا عليه أمر أخيه رمضان، ولا زالوا به حتّى جلس مكانه، فأقام إلى بعد الظهر والنائب يراسل رمضان ويعده بالجميل ويخوّفه العاقبة، وهو لا يلتفت إلى قوله، فعزم النائب على الحملة عليه هو ومن معه ودقّ طبله فلم يثبت العامّة المجتمعة على رمضان وانفلّوا عنه وانهزم هو وتكا الخضرى فى عدّة من المماليك إلى البريّة، والأمراء فى طلبه فعاد النائب إلى السلطان، فلمّا كان بعد العشاء الآخرة من ليلة الخميس أحضر رمضان وتكا الخضرى وقد أدركوهما بعد المغرب، ورموا تكا بالنّشاب، حتى ألقوه عن فرسه وقد وقف فرس رمضان من شدّة السّوق فوكّل برمضان من يحفظه، وأذن للأمراء بنزولهم إلى بيوتهم، وطلعوا من بكرة يوم الخميس إلى الخدمة على العادة، وجلس السلطان وطلب مماليك رمضان، فأحضروا فأمر بحبسهم فحبسوا أياما، ثم فرّقهم السلطان على الأمراء، ثم خلع السلطان على الأمراء وفرّق عليهم الأموال.
وفى يوم الاثنين سادس عشره وصل قاصد الأمير بيغرا المتوجّه إلى الكرك بمن معه من العساكر بعد ما حاربوا الملك الناصر أحمد بالكرك وقاتلوه قتالا شديدا، وجرح منهم جماعة وقلّت أزوادهم، فكتب السلطان بإحضارهم إلى الديار المصريّة. وفيه خلع السلطان على طرنطاى البشمقدار بنيابة غزّة عوضا عن الأمير علم الدين سنجر الجاولى، وكتب بقدوم الجاولى إلى مصر. وفى يوم الثلاثاء

(10/84)


رابع عشرينه «1» وسّط السلطان تكا الخضرى بسوق الخيل تحت القلعة ووسّط معه مملوكين من المماليك السلطانية. وفى هذا الشهر وقف السلطان الملك الصالح صاحب الترجمة ثلثى ناحية سندبيس «2» من القليوبيّة على ستة عشر خادما لخدمة الضريح الشريف النبوىّ عليه الصلاة والسلام، فتمّت عدّة خدّام الضريح الشريف النبوى بذلك أربعين خادما.
قلت لله دره فيما فعل! وعلى هذا تحسد الملوك لا على غيره.
ثم اتّفق الأمراء مع السلطان على إخراج تجريدة ثانية لقتال الملك الناصر بالكرك، فلمّا كان عاشر شعبان خرج الأمير بيبرس الأحمدى والأمير كوكاى فى ألفى فارس تجريدة للكرك، وكتب السلطان أيضا بخروج تجريدة من الشام مضافا إلى من خرج من الأمراء والعساكر من الديار المصريّة، وتوجّه الجميع ونصبت المناجيق على الكرك وجدّوا فى حصارها.
وأما الملك الصالح فإنّه بعد خروج التجريدة خلع على جمال الكفاة بعد ما عزل وصودر باستقراره مشير الدولة بسؤال وزير بغداد فى ذلك بعد أن أعيد إلى الوزارة ونزلا معا [بتشاريفهما «3» ] .

(10/85)


وفى ذى القعدة رتّب السلطان دروسا للمذاهب «1» الأربعة بالقبة «2» المنصوريّة ووقف عليهم وعلى قرّاء وخدّام وغير ذلك ناحية دهمشا «3» بالشرقيّة فاستمرّ ذلك وعرف بوقف الصالح.
ثم فى يوم الأربعاء عاشر المحرّم سنة أربع وأربعين وسبعمائة قبض السلطان على أربعة أمراء، وهم الأمير آق سنقر السّلّارى نائب السلطنة والأمير بيغرا أمير جاندار صهر آق سنقر المذكور والأمير قراجا الحاجب وأخيه أولاجا، وقيّدوا ورسم بحبسهم فى الإسكندرية، وخرج الأمير بلك على البريد إلى المجرّدين إلى الكرك فأدركهم على السّعيدية «4» ، وطيّب خواطرهم وأعلمهم بالقبض على الأمراء وعاد سريعا، فقدّم قلعة الجبل طلوع الشمس من يوم الخميس حادى عشره، وبعد وصوله قبض السلطان على طيبغا الدّوادار الصغير، وكان سبب قبض السلطان على هؤلاء الأمراء أن الأمير آق سنقر كان فى نيابته لا يردّ قاصدا ولا قصّة ترفع إليه، فقصده الناس من الأقطار وسألوه الرّزق والأراضى التى أنهوا أنّها لم تكن بيد أحد، وكذلك نيابة القلاع والأعمال والرواتب وإقطاعات الحلقة، فلم يردّ أحدا سأله شيئا من ذلك سواء أكان ما أنهاه صحيحا أم باطلا، فإذا قيل له: هذا الذي سأله يحتاج أن يكشف عنه تغيّر وجهه وقال: ليش تقطع رزق الناس؛ وكان إذا كتب الإقطاع لأحد فيحضر صاحبه من سفره أو تعافى من مرضه وسأله فى إعادة إقطاعه

(10/86)


قال له: هذا أخذ إقطاعك ونحن نعوّضك، ففسدت الأحوال لا سيمّا البلاد الشاميّة، فكتب النوّاب بذلك للسلطان، فكلّمه السلطان فلم يرجع وقال: كلّ من طلب منى شيئا أعطيته، وما أردّ قلمى عن أحد، بحيث إنه كان تقدّم إليه القصّة وهو يأكل فيترك أكله، ويكتب عليها من غير أن يعلم ما فيها، فأغلظ له بسبب ذلك الأمير شمس الدين آق سنقر الناصرىّ أمير آخور؛ واتّفق مع ذلك أنّه وشى به أنّه مباطن مع الملك الناصر أحمد، وأنّ كتبه تصل إليه فقرّر أرغون العلائىّ مسكه مع السلطان، فأمسك هو وحاشيته، هذا ما كان من أمره.
وفى يوم الجمعة ثانى عشر المحرم من سنة أربع وأربعين المذكورة خلع السلطان على الأمير الحاجّ آل ملك، واستقر فى نيابة السلطنة عوضا عن آق سنقر السّلّارى المذكور. ثم فى ثانى عشر صفر قدم الخبر بوفاة الأمير ألطنبغا الماردانىّ الناصرىّ نائب حلب، فرسم السلطان للأمير يلبغا اليحياوىّ نائب حماة باستقراره فى نيابة حلب عوضه، واستقر فى نيابة حماة الأمير طقتمر الأحمدى نائب صفد واستقر بلك الجمدار فى نيابة صفد. وتوجه الأمير أرغون شاه بتقليد يلبغا اليحياوى وتوجه الأمير ألطنبغا البرناق بتقليد نائب حماة.
وفى يوم السبت خامس عشرين صفر قدم الأمير بيبرس الأحمدى والأمير كوكاى بمن معهما من المجرّدين إلى الكرك، فركب الأمراء إلى لقائهم، واستمرّ الأمير أصلم على حصار الكرك وهى التجريدة الثانية للكرك، وعرّفوا الأمراء السلطان أنّه لا بدّ من خروج تجريدة ثالثة سريعا تقوية لأصلم لئلّا يتنفس الناصر ويدوم الحصار عليه، فعيّن السلطان جماعة من أعيان الأمراء وتجهّزوا وخرجوا فى يوم الاثنين رابع شهر ربيع الآخر «1» ، وهم الأمير چنكلى بن البابا والأمير آق سنقر الناصرى

(10/87)


الأمير آخور والأمير ملكتمر السّرجوانىّ والأمير عمر بن أرغون النائب فى أربعة آلاف فارس تقوية لأصلم، وهذه التجريدة الثالثة «1» إلى الكرك، وتوجّه صحبتهم عدّة حجّارين ونجّارين ونقّابين ونفطيّة، وخرج السلطان أيضا فى يوم سفرهم إلى سرياقوس على العادة كالمودّع لهم.
وفى هذه الأيام اشتدّ نائب السلطنة الحاجّ آل ملك على والى القاهرة ومصر فى بيع الخمور وغيره من المحرّمات، وعاقب جماعة كثيرة على ذلك وكان هذا دأب النائب من يوم أخرب خزانة «2» البنود فى العام الماضى وأراق خمورها وبناها مسجدا، وحكّرها للناس فعمروها دورا. وكان الذي يفعل فى خزانة البنود من المعاصى والفسق يستحى من ذكره فعفّ الناس فى أيام نيابة آل ملك المذكور عن كثير من المعاصى خوفا منه، واستمرّ على ما هو عليه من تتبّع الفواحش والخواطئ وغير ذلك حتّى إنه نادى: من أحضر سكرانا واحدا معه جرّة خمر خلع عليه فقعد العامّة لشربة الخمر بكلّ طريق، وأتوه مرّة بجندىّ قد سكر فضربه وقطع خبزه وخلع على من قبض عليه، ووقع له أمور مع بيعة الخمر يطول الشرح فى ذكرها.
وكان يجلس فى شبّاك النيابة طول النهار لا يملّ من الحكم ولا يسأم، وتروح أصحاب الوظائف ولا يبقى عنده إلّا النقباء البطالة حتى لا يفوته أحد، وصار له مهابة

(10/88)


عظيمة وحرمة كفّت الناس عن أشياء كثيرة حتى أعيان الأمراء، حتى قال فيه بعض شعراء عصره:
ال ملك الحجّ غدا سعده ... يملأ ظهر الأرض مهما سلك
فالأمرا من دونه سوقة ... والملك الظاهر هوّ الملك
وفى يوم الثلاثاء «1» سابع عشر جمادى الأولى قدم الأمير أصلم و [أبو بكر «2» ] بن أرغون النائب وأرنبغا من تجريدة الكرك بغير إذن واعتذروا بضعف أبدانهم وكثرة الجراحات فى أصحابهم وقلّة الزاد عندهم، فقبل السلطان عذرهم، ورسم بسفر طقتمر الصلاحىّ وتمر الموساوىّ فى عشرين مقدّما من الحلقة وألفى فارس نجدة لمن بقى من الأمراء على حصار الكرك فساروا فى سلخه، وهذه التجريدة الرابعة بل الخامسة؛ فإنّه تكرر رواح الأمراء فى تلك التجريدة مرّتين.
ثم بعد مدّة رسم السلطان بتجهيز الأمير علم الدين سنجر الحاولىّ والأمير أرقطاى والأمير قمارى الأستادار وعشرين أمير طبلخاناه وثلاثين مقدّم حلقة فساروا يوم الثلاثاء خامس عشر شوال فى ألفى فارس إلى الكرك وهى التجريدة السادسة وتوجّه معهم أيضا عدّة حجّارين ونقّابين ونفطبة وغير ذلك.
وفى مستهلّ شهر رمضان «3» فرغت عمارة السلطان الملك الصالح إسماعيل صاحب الترجمة من القاعة التى أنشأها المعروفة الآن بالدهيشة «4» الملاصقة للدور السلطانية المطلّة على الحوش وفرشت بأنواع البسط والمقاعد الزّركش.

(10/89)


قلت: هى الآن مجاز لأوباش الرعيّة لمن له حاجة عند السلطان من التّركمان والأعراب والأوغاد والأتباع. ولله درّ القائل:
وإذا تأمّلت البقاع وجدتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
وجلس السلطان الملك الصالح فيها، وبين يديه جواريه وخدمه وحرمه، وأكثر السلطان فى ذلك اليوم من الخلع والعطاء، وكان السلطان قد اختصّ ببيبغا الصالحىّ وأمّره وخوّله فى النّعم وزوّجه بابنة الأمير أرغون العلائىّ مدبّر مملكة السلطان وزوج أمّه، والبنت المذكورة أخت السلطان لأمّه. وكثر فى هذه الأيام استيلاء الجوارى والخدّام على الدولة وعارضوا النائب فى أمور كثيرة حتّى صار النائب يقول لمن يسأله شيئا: روح إلى الطواشى فلان فينقضى شغلك. واستمرّ السلطان يكثر من الجلوس فى الدهيشة بأبّهة عظيمة إلى الغاية.
ثم رسم السلطان بإحضار المجرّدين إلى الكرك وعيّن عوصهم تجريدة أخرى إلى الكرك وهى التجريدة السابعة، فيها الأمير بيبرس الأحمدىّ والأمير كوكاى وعشرون أمير طبلخاناه وستة عشر أمير عشرة، وكتب بخروج عسكر أيضا من دمشق ومعهم المنجنيق والزحّافات، وحمل إلى الأحمدى مبلغ ألفى دينار، وكذلك «1»

(10/90)


لكوكاى، ولكلّ أمير طبلخاناه خمسمائه «1» دينار، ولكل أمير عشرة مائتى دينار، وأرسل أيضا مع الأحمدى أربعة آلاف دينار لمن عساه ينزل إليه من قلعة الكرك طائعا، وجهّز معه تشاريف كثيرة، وعيّنت لهم الإقامات، وكان الوقت شتاء فقاسوا من الأمطار مشقّات كثيرة، وأقاموا نحو شهرين وخرّج معهم ستة آلاف رأس من البقر ومائتى رأس جاموس ونحو ألفى راجل فاستعدّ لهم الملك الناصر، وجمع الرجال وأنفق فيهم مالا كثيرا، وفرّق فيهم الأسلحة المرصدة بقلعة الكرك.
وركّب المنجنيق الذي بها، ووقع بينهم القتال والحصار إلى ما سيأتى ذكره.
ثم رسم السلطان بالقبض على الأمير آقبغا عبد الواحد فقبض عليه بدمشق فى عدّة من أمرائها وسجنوا بها لميلهم للملك الناصر أحمد، واشتدّ الحصار على الملك الناصر بالكرك وضاقت عليه هو ومن معه لقلّة القوت، وتخلّى عنه أهل الكرك، وضجروا من طول الحصار، ووعدوا الأمراء بالمساعدة عليه، فحملت إليهم الخلع ومبلغ ثمانين ألف درهم. هذا وقد استهمّ السلطان فى أوّل سنة خمس وأربعين وسبعمائة بتجريدة ثامنة إلى الكرك، وعيّن فيها الأمير منكلى بغا الفخرىّ والأمير قمارى والأمير طشتمر طلليه، ولم يجد السلطان فى بيت المال ما ينفقه عليهم فأخذ مالا من تجّار العجم ومن بنت الأمير بكتمر الساقى على سبيل القرض وأنفق فيهم، وخرج المجرّدون فى يوم الثلاثاء حادى عشر المحرم سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وهؤلاء نجدة لمن توجّه قبلهم خوفا أن يملّ من كان توجّه من القتال، فيجد الناصر فرجا بعودهم عنه، وقطعت الميرة عن الملك الناصر، ونفدت أمواله من كثرة نفقاته فوقع الطمع فيه وأخذ بالغ، وكان أجلّ ثقاته فى العمل عليه وكاتب الأمراء ووعدهم بأنّه يسلّم إليهم الكرك وسأل الأمان فكتب اليه من السلطان أمان وقدم إلى القاهرة

(10/91)


ومعه مسعود «1» وابن أبى الليث وهما أعيان مشايخ الكرك فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم، وكتب لهم مناشير بجميع ما طلبوه من الإقطاعات والأراضى، وكان من جملة ما طلبه بالغ وحده [نحو «2» ] أربعمائة وخمسين ألف درهم فى السنة، وكذلك أصحابه.
ثم ركب العسكر للحرب وخرج الكركيّون فلم يكن غير ساعة حتّى انهزموا منهم إلى داخل المدينة، فدخل العسكر أفواجا واستوطنوها، وجدّوا فى قتال أهل القلعة عدّة أيام، والناس تنزل اليهم منها شيئا بعد شىء حتّى لم يبق عند الملك الناصر أحمد بقلعة الكرك سوى عشرة أنفس فأقام يرمى بهم على العسكر وهو يجدّ فى القتال ويرمى بنفسه وكان قوىّ الرّمى شجاعا إلى أن جرح فى ثلاثة مواضع وتمكّنت النقابة من البرج وعلقوه وأضرموا النار تحته، حتّى وقع. وكان الأمير سنجر الجاولى قد بالغ أشدّ مبالغة فى الحصار وبذل فيه مالا كثيرا.
ثم هجم العسكر على القلعة فى يوم الاثنين ثانى عشرين صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة فوجدوا الناصر قد خرج من موضع وعليه زردية وقد تنكّب قوسه وشهر سيفه فوقفوا، وسلّموا عليه فردّ عليهم وهو متجهّم «3» وفى وجهه جرح، وكتفه أيضا يسيل دما، فتقدّم إليه الأمير أرقطاى والأمير قمارى فى آخرين، وأخذوه ومضوا به إلى دهليز الموضع الذي كان به وأجلسوه، وطيّبوا قلبه وهو ساكت لا يحييهم، فقيّدوه ووكّلوا به جماعة، ورتّبوا له طعاما، فأقام يومه وليلته، ومن باكر الغد يقدّم إليه الطعام فلا يتناول منه شيئا إلى أن سألوه أن يأكل فأبى أن يأكل، حتّى يأتوه بشابّ يقال له: عثمان، كان يهواه فأتوه به فأكل

(10/92)


عند ذلك، وخرج الأمير ابن بيبغا حارس طير بالبشارة إلى السلطان الملك الصالح وعلى يده كتب الأمراء فقدم قلعة الجبل فى يوم السبت سابع «1» من عشرين صفر، فدقّت البشائر سبعة أيام. وأخرج السلطان منجك اليوسفىّ الناصرىّ السلاح دار ليلا من القاهرة على البخت لقتل الملك الناصر أحمد من غير مشاورة الأمراء فى ذلك، فوصل إلى الكرك وأدخل عليه من أخرج الشاب من عنده، ثم خنفه فى ليلة رابع شهر ربيع الأول، وقطع رأسه وسار من ليلته ولم يعلم الأمراء ولا العسكر بشىء من ذلك، حتى أصبحوا وقد قطع منجك مسافة بعيدة، وقدم بعد ثلاثة أيام قلعة الجبل ليلا، وقدّم الرأس بين يدى السلطان، وكان ضخما مهولا، له شعر طويل، فاقشعر السلطان عند رؤيته وبات مرجوفا، وطلب الأمير قبلاى الحاجب، ورسم له أن يتوجّه لحفظ الكرك إلى أن يأتيه نائب لها، وكتب السلطان بعود الأمراء والعساكر المجرّدين إلى الكرك، فكانت مدّة حصار الملك الناصر بالكرك سنتين وشهرا وثلاثة «2» أيام. ثم قدم الأمراء المجردون إلى الكرك فخلع السلطان على الجميع وشكرهم وأكثر من الثناء عليهم. ثم خلع على الأمير ملكتمر السّرجوانىّ باستقراره فى نيابة الكرك على ما كان عليه قديما، وجهّز معه عدّة صناع لعمارة ما تهدّم من قلعة الكرك وإعادة البرج على ما كان عليه، ورسم بأن يخرج مائة مملوك معه من مماليك قوصون وبشتك الذين كان الملك الناصر قد أسكنهم بالقلعة، ورتّب لهم الرواتب ويخرج منهم مائتان إلى دمشق وحماة وحمص وطرابلس وصفد وحلب فأخرجوا جميعا فى يوم واحد، ونساؤهم وأولادهم فى بكاء وعويل، وسخّروا لهم خيول الطواحين ليركبوا عليها.

(10/93)


ثم وقعت الوحشة بين الأمير أرغون العلائى والأمير ملكتمر الحجازىّ وبين الحاج آل ملك نائب السلطنة وصار الحجازى والعلائى معا على آل ملك النائب، ووقع بين آل ملك والحجازى أمور يطول شرحها، وكان الحجازى مولعا بالخمر وآل الملك ينهى عن شربها، فكان كلّما ظفر بأحد من حواشى الحجازى مثّل به فتقوم قيامة الحجازىّ لذلك، وتفاوضا غير مرّة بسبب هذا فى مجلس السلطان، وأرغون العلائى يميل مع الحجازى لما فى نفسه من آل ملك وداما على ذلك مدّة.
وأما السلطان فإنه بعد مدّة نزل إلى سرياقوس بتجمّل زائد على العادة فى كل سنة. ثم عاد إلى القلعة بعد أيام، فورد عليه قصّاد صاحب الروم وقصّاد صاحب الغرب. ثم بدا للسلطان الحجّ فتهيّأ لذلك وأرسل يطلب العربان وأعطاهم الأموال بسبب كراء الجمال، فتغيّر مزاجه فى مستهلّ شهر ربيع الأول ولزم الفراش ولم يخرج إلى الخدمة أياما، وكثرت القالة بسبب ضعفه، وتحسّنت الأسعار. ثم أرجف بموت السلطان فى بعض الأيام، فأغلقت الأسواق حتّى ركب الوالى والمحتسب وضربوا جماعة وشهّروهم، ثم اجتمعوا الأمراء ودخلوا على السلطان وتلطّفوا به حتّى أبطل حركة الحجّ، وكتب بعود طقتمر من الشام، واستعادة الأموال من العربان، وما زال السلطان يتعلّل إلى أن تحرك أخوه شعبان واتفق مع عدّة مماليك وقد انقطع خبر السلطان عن الأمراء، وكتب السلطان بالإفراج عن المسجونين من الأمراء وغيرهم بالأعمال، وفرّقت صدقات كثيرة، ورتّبت جماعة لقراءة «صحيح البخارى» فقوى أمر شعبان، وعزم أن يقبض على النائب فاحترز النائب منه، وأخذ أكابر الأمراء فى توزيع أموالهم وحرمهم فى الأماكن، ودخلوا على السلطان وسألوه أن يعهد لأحد من إخوته، فطلب النائب وبقيّة الأمراء فلم يحضر إليه أحد منهم، وقد اتّفق الأمير أرغون العلائى مع جماعة على إقامة شعبان فى الملك، وفرّق فيهم

(10/94)


مالا كبيرا، فإنه كان أيضا ابن زوجته شقيق الملك الصالح إسماعيل لأبيه وأمه، وأقام مع أرغون غرلو وتمر الموساوى وامتنع النائب من إقامته وصاروا حزبين، فقام النائب آل ملك فى الإنكار على سلطنة شعبان، وقد اجتمع مع الأمراء بباب القلّة وقبض على غرلو وسجنه وتحالف هو وأرغون العلائى وبقيّة الأمراء على عمل مصالح المسلمين.
ومات السلطان الملك الصالح إسماعيل فى ليلة الخميس «1» رابع شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، وقد بلغ من العمر نحو عشرين سنة، فكتم موته، وقام شعبان إلى أمّه ومنع من إشاعة موت أخيه، وخرج إلى أصحابه وقرّر معهم أمره، فخرج طشتمر ورسلان بصل إلى منكلى بغا ليستعطفوا الأمير أرقطاى والأمير أصلم، وكان النائب والأمراء علموا من العصر أن السلطان فى النزع واتّفقوا على النزول من القلعة إلى بيوتهم بالقاهرة، فدخل الجماعة على أرقطاى ليستميلوه لشعبان فوعدهم بذلك، ثم دخلوا على أصلم فأجابهم وعادوا إلى شعبان، وقد ظنوا أنّ أمرهم تمّ، فلمّا أصبحوا نهار الخميس خرج الأمير أرغون العلائى والأمير ملكتمر الحجازى وتمر الموساوى وطشتمر طلليه ومنكلى بغا الفخرى وأسندمر وجلسوا بباب القلّة فأتاهم الأمير أرقطاى والأمير أصلم والوزير نجم الدين محمود والأمير قمارى الأستادار وطلبوا النائب فلم يحضر إليهم، فمضوا كلّهم إلى عنده واستدعوا الأمير چنكلى بن البابا واشتوروا فيمن يولوه السلطنة فأشار چنكلى أن يرسل إلى المماليك السلطانية ويسألهم من يحتاروه فإنّ من اختاروه رضيناه سلطانا، فعاد جوابهم مع الحاجب أنهم رضوا بشعبان سلطانا، فقاموا جميعا ومعهم النائب إلى داخل باب القلّة. وكان

(10/95)


شعبان تخيّل من دخولهم عليه وجمع المماليك وقال. من دخل علىّ وجلس على الكرسىّ قتلته بسيفى هذا! وأنا أجلس على الكرسى حتى أبصر من يقيمنى عنه.
فسيّر أرغون العلائى [إليه «1» ] وبشّره وطيّب خاطره، ودخل الأمراء إليه وسلطنوه ولقّب بالملك الكامل سيف الدين شعبان حسب ما يأتى ذكره فى أوّل ترجمته.
ولنرجع إلى بقية ترجمة الملك الصالح إسماعيل.
وكان الملك الصالح سلطانا ساكنا عاقلا قليل الشّرّ كثير الخير، هيّنا ليّنا بشوشا، وكان شكلا حسنا حلو الوجه أبيض بصفرة وعلى خدّه شامة. ولم يكن فى أولاد الملك الناصر خيرا منه. رتّب دروسا بمدرسة جدّه المنصور قلاوون. وجدّد جماعة من الخدّام بالحرم النّبوىّ، حسب ما ذكرناه فى وقته. وله مآثر كثيرة بمكّة واسمه مكتوب على رباط «2» السّدرة بحرم مكّة، ولم يزل مثابرا على فعل الخير حتّى توفّى.
ولما مات رثاه الشيخ صلاح الدين الصفدىّ بقوله
مضى الصالح المرجوّ للبأس والنّدى ... ومن لم يزل يلقى المنى بالمنائح»
فيا ملك مصر كيف حالك بعده ... إذا نحن أثينا عليك بصالح
وكان الملك الصالح محبّبا للرعية على مشقّة كانت فى أيامه من كثرة التجاريد إلى قتال أخيه الملك الناصر أحمد بالكرك وكانت السّبل مخيفة. وشغف مع ذلك بالجوارى السّود، وأفرط فى محبة اتّفاق «4» العوّادة وفى العطاء لها، وقرّب أرباب الملاهى، وأعرض

(10/96)


عن تدبير الملك بإقباله على النساء والمطربين، حتّى كان إذا ركب إلى سرحة سرياقوس أو سرحة الأهرام «1» ركبت أمّه فى مائتى امرأة الأكاديش بثياب الأطلس الملوّن وعلى رءوسهن الطراطير الجلد البرغالى «2» المرصّعة بالجوهر واللآلئ وبين أيديهنّ الخدّام الطواشية من القلعة إلى السّرحة. ثم تركب حظاياه الخيول العربية ويتسابقن ويركبن تارة بالكامليّات الحرير ويلعبن بالكرة، وكانت لهنّ فى المواسم والأعياد وأوقات النّزهة أمور من هذا النّموذج. واستولى الخدّام والطواشيّة فى أيامه على أحوال الدولة، وعظم أمرهم بتحكّم كبيرهم عنبر السّحرتى لالاة «3» السلطان، واقتنى عنبر السحرتى البزاة والسناقر، وصار يركب إلى المطعم «4» ويتصيّد بثياب الحرير المزركشة، واتّخذ له كفّا للصيد مرصّعا بالجوهر. وعمل له خاصكيّة وخدّاما ومماليك تركب فى خدمته، حتى ثقل أمره على أكابر أمراء الدولة، فإنه أكثر من شراء الأملاك والتجارة فى البضائع، كلّ ذلك لكونه لالا السلطان. وأفرد له ميدانا «5» يلعب فيه بالكرة، وتصدّى لقضاء الأشغال وقصده الناس فصارت الإقطاعات والرّزق والوظائف لا تقضى إلا بالخدّام والنساء.
وكان متحصّل الدولة فى أيام الملك الصالح قليلا ومصروف العمارة كثيرا.
وكان مغرما بالجلوس بقاعة الدهيشة، لا سيما لمّا ولدت منه اتّفاق العوّادة ولدا ذكرا، عمل لها فيه مهمّا بلغ الغاية التى لا توصف، ومع هذا كانت حياته منغّصة وعيشته منكّدة لم يتمّ سروره بالدهيشة سوى ساعة واحدة.

(10/97)


ثم قدم عليه منجك السلاح دار برأس أخيه الملك الناصر أحمد من الكرك، فلمّا قدم بين يديه ورآه بعد غسله اهتزّ وتغيّر لونه وذعر، حتّى إنه بات تلك الليلة يراه فى نومه ويفزع فزعا شديدا، وتعلّل من رؤيته، وما برح يعتريه الأرق ورؤية الأحلام المزعجة، وتمادى مرضه وكثر إرجافه، حتى اعتراه القولنج، وقوى عليه حتّى مات منه فى يوم الخميس «1» المذكور، ودفن عند أبيه وجدّه الملك المنصور قلاوون بالقبّة المنصورية «2» فى ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر، فكانت مدّة ملكه بالديار المصرية ثلاث سنين وشهرين وأحد عشر يوما. وقال الصفدى:
ثلاث سنين وشهرا وثمانية عشر يوما. وتسلطن من بعده أخوه شقيقه شعبان ولقّب بالكامل. وعمل للملك الصالح العزاء بالديار المصرية أياما كثيرة، ودارت الجوارى بالملاهى يضربن بالدفوف، والمخدّرات حواسر يبكين ويلطمن، وكثر حزن الناس عليه ووجدوا عليه وجدا عظيما.
*** السنة الأولى من سلطنة الملك الصالح إسماعيل على مصر، وهى سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ «3» الإمام برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد السّفاقسىّ المالكىّ فى ذى الحجّة. وكان إماما فقيها بارعا أفتى ودرّس سنين، وله مصنّفات مفيدة، منها: «إعراب «4» القرآن» «وشرح ابن الحاجب فى الفقه» وغير ذلك.
وكان معدودا من علماء المالكية.

(10/98)


وتوفّى الأمير سيف الدين أرنبغا «1» بن عبد الله الناصرى ناظر طرابلس بها.
وكان من أجلّ أمراء الدولة ومن أعيان مماليك الناصر محمد وخاصكيّته وتنقّل فى عدّة ولايات. وكان معدودا من الشّجعان.
وتوفّى الأمير الكبير علاء الدين أيدغمش بن عبد الله الناصرىّ الأمير آخور، ثم نائب حلب ثم نائب الشام فجأة فى بكرة يوم الأربعاء «2» رابع جمادى الآخرة، ودفن فى آخر ميدان الحصى فى تربة عمّرت له هناك. وكانت مدّة نيابته بحلب والشام نصف سنة، وكانت موتته غريبة وهو أنه ركب فى بكرة ثالث جمادى الآخرة وخرج ظاهر دمشق وأطعم طيور الصيد وعاد إلى دار «3» السعادة وقرئت عليه قصص يسيرة، ثم أكل السّماط. ثم عرض طلبه والمضافين إليه، وقدّم جماعة وأخّر جماعة ثم دخل إليه ديوانه وقرأ عليه مخازيم «4» وحساب ومصروف ديوانه. ثم قال أيدغمش: هؤلاء الذين تزوّجوا من مماليكى اقطعوا مرتّبهم. ثم أكل الطّارى «5» ، وقعد هو وابن جمّاز يتحدّثان فسمع حسّ جماعة من جواريه يتخاصمن، فقام وأخذ عصاه ودخل إليهن وضرب واحدة منهن ضربتين وسقط ميتا لم يتنفّس، فتحيّر الناس فى أمره فأمهلوه إلى بكرة يوم الأربعاء فلم يتحرك، فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه.

(10/99)


وكان أصل أيدغمش هذا من مماليك الأمير بلبان الطّباخى، ثم اتّصل إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون فجعله من جملة خاصكيّته. ثم رقّاه حتى جعله أمير آخور كبير بعد بيبرس الحاجب فدام فى وظيفة الأمير آخورية نحو عشرين سنة. وقد استوعبنا من حاله مع قوصون وغيره قطعة جيدة فى ترجمة الملك الناصر أحمد وغيره.
وكان أميرا جليلا عاقلا مهابا شجاعا مدبّرا مقداما كريما «1» ، قلّ من دخل إليه للسلام إلا وأعطاه شيئا. وكان مكينا عند أستاذه الملك الناصر، على أنه أنعم على أولاده الثلاثة بإمرة، وهم أمير حاج ملك وأمير أحمد وأمير على. وكان أيدغمش يميل إلى فعل الخير، وله مآثر حميدة. وهو صاحب الحمّام «2» والخوخة خارج بابى زويلة. رحمه الله.
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله الناصرىّ الحاجب بدمشق فى شهر رجب وهو أيضا من المماليك الناصرية، رقّاه أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون حتى صار أمير مائة ومقدّم ألف. ثم ولّاه أمير آخور مدّة سنين. ثم عزله بالأمير أيدغمش المقدّم ذكره، وولّاه الحجوبيّة ثم جرّده إلى اليمن فبلغه عنه أنه أخذ برطيل «3»

(10/100)


صاحب اليمن وتراخى فى أمر السلطان، فلمّا عاد قبض عليه وحبسه تسع سنين وثمانية أشهر إلى أن أفرج عنه فى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وأخرجه إلى حلب أميرا بها. ثم نقل إلى إمرة بدمشق، فما زال بها حتّى مات فى التاريخ المذكور.
وكان له ثروة كبيرة وأملاك كثيرة وله دار «1» عند باب الزّهومة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قمارى بن عبد الله الناصرىّ أمير شكار فى يوم الأحد خامس جمادى الأولى «2» . وكان خصيصا عند أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهو أحد من زوّجه الملك الناصر بإحدى بناته، بعد ما أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية وجعله أمير شكار.
وتوفّى سيف الدين طشتمر بن عبد الله الساقىّ الناصرىّ المعروف بحمص أخضر مقتولا بسيف الملك الناصر أحمد بالكرك، وكان أيضا أحد مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون وخواصّه، رقّاه وأمّره وولّاه نيابة صفد وهو الذي توجّه من

(10/101)


صفد وقبض على تنكز نائب الشام حسب ما تقدّم ذكره. ثم نقله إلى نيابة حلب عوضا عن طوغان الناصرى فى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، فدام بحلب حتى خرج منها إلى الروم، وقد مرّ ذكر ذلك كلّه إلى أن قدم الديار المصرية صحبة الأمراء الشاميّين، وولّاه الملك الناصر أحمد نيابة السلطنة. ثم قبض عليه بعد أن باشر النيابة خمسة وثلاثين يوما وأخرجه معه إلى الكرك، فقتله هناك وقتل الأمير قطلوبغا الفخرى الآتى ذكره. ولمّا قتل طشتمر قال فيه الصلاح الصفدى:
طوى الرّدى طشتمرا بعد ما ... بالغ فى دفع الأذى واحترس
عهدى به كان شديد القوى ... أشجع من يركب ظهر الفرس
ألم يقولوا حمّصا أخضرا ... فاعجب له يا صاح كيف اندرس
قلت: وهو صاحب الدار «1» العظيمة والربع الذي بجانبها بحدرة البقر خارج القاهرة «2» والجامع بالصحراء والمئذنة الحلزون والجامعين بالزريبه «3» والربع الذي بالحريريّين «4» داخل القاهرة. وكان شجاعا كريما كثير الإنعام والصدقات

(10/102)


وتوفّى الأمير «1» سليمان بن مهنّا بن عيسى بن مهنا ملك العرب وأمير آل فضل بظاهر سلمية «2» ، وكان من أجلّ ملوك العرب.
وتوفّى الأمير سيف الدين طينال بن عبد الله الناصرىّ نائب غزة ونائب صفد ثم نائب طرابلس، ومات وهو على نيابة صفد فى يوم الجمعة رابع شهر ربيع الأول.
وكان من أعيان الأمراء الناصريّة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الفخرىّ الساقى الناصرىّ نائب الشام، مقتولا بسيف الملك الناصر أحمد بالكرك، وكان من أكابر مماليك الناصر محمد بن قلاوون من طبقة أرغون الدّوادار. قال الصفدى: لم يكن لأحد من الخاصكيّة ولا غيرهم إدلاله على الملك الناصر محمد ولا من يكلّمه بكلامه، وكان يفحش فى كلامه له ويردّ عليه الأجوبة الحادّة المرّة وهو يحتمله، ولم يزل عند السلطان أثيرا إلى أن أمسكه فى نوبة إخراج أرغون إلى حلب نائبا، فلمّا دخل تنكز عقيب ذلك إلى القاهرة أخرجه السلطان معه إلى الشام. انتهى
قلت: وقد سقنا من ذكره فى ترجمة الملك الناصر أحمد وغيره ما فيه كفاية عن ذكره هنا ثانيا.
ولمّا أمسك وقتل قال الأديب البارع خليل بن أيبك الصفدىّ شعرا:
سمت همّة الفخرىّ حتّى ترفّعت ... على هامة الجوزاء والنّسر بالنّصر
وكان به للملك فخر فخانه الزّمان فأضحى ملك مصر بلا فخر

(10/103)


وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله الجوبانىّ رأس نوبة.
وتوفّى الأمير سيف الدين بكا الخضرىّ «1» الناصرى موسّطا بسوق الخيل فى رابع «2» شهر رجب، وقد مرّ من ذكره نبذة فى ترجمة الملك الصالح إسماعيل.
وتوفّى الشيخ الإمام تاج الدين أبو المحاسن عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانىّ المخزومىّ الشافعى الأديب الكاتب بالقدس الشريف فى هذه السنة عن ثلاث وستين سنة.
وتوفّى الشيخ الإمام الخطيب محيى الدين محمد بن عبد الرحيم بن عبد الوهّاب ابن على بن أحمد أبو المعالى السّلمى الشافعى خطيب بعلبك فى ليلة الأربعاء تاسع شهر رمضان. ومولده فى شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة. وكان فاضلا عالما خطيبا فصيحا، وكتب الخطّ المنسوب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء. والله تعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 744]
السنة الثانية من ولاية الملك الصالح إسماعيل على مصر، وهى سنة أربع وأربعين وسبعمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علىّ بن أحمد بن علىّ ابن عبد الحقّ قاضى القضاة الحنفيّة بالديار المصريّة وهو مقيم بدمشق. وكان إماما عالما بارعا أفتى ودرّس سنين وناب فى الحكم، ثم استقلّ بقضاء القضاة بالديار المصرية وحسنت سيرته.

(10/104)


وتوفّى الأمير سيف الدين وقيل شمس الدين آق سنقر بن عبد الله السّلّارى نائب السلطنة بالديار المصريّة قتيلا بثغر الإسكندرية فى السجن. وكان أصله من مماليك الأمير سلّار واتّصل بعده بخدمة الملك الناصر محمد بن قلاوون فرقّاه إلى أن ولّاه نيابة غزّة ثم صفد. ثم ولى بعد موت الملك الناصر نيابة السلطنة بالديار المصرية. وقد تقدّم ذكره فى ترجمة الملك الصالح هذا والتعريف بأحواله وكرمه إلى أن قبض عليه وسجن، ثم قتل. وكان من الكرماء الشّجعان.
وتوفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله الماردانى الناصرىّ الساقىّ نائب حلب بها. وكان ألطنبغا أحد مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون وخاصّكيّته وأحد من شغف بمحبته ورقّاه فى مدّة يسيرة، حتّى جعله أمير مائة ومقدّم ألف، وزوّجه بابنته. ثم وقع له أمور بعد موته ذكرناها فى تراجم: المنصور والأشرف والناصر والصالح أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أن ولى نيابة حماة، ثم حلب بعد الأمير طقزدمر فباشر نيابة حلب نصف سنة، وتوفّى ولم يبلغ من العمر خمسا وعشرين سنة. وكان أميرا شابّا لطيف الذات، حسن «1» الشكل، كريم الأخلاق مشهورا بالشجاعة والكرم. وهو صاحب الجامع «2» المعروف به خارج باب زويلة.
وقد تقدّم ذكر بنائه فى ترجمة أستاذه الملك الناصر محمد.
وتوفّى الأمير الأديب الشاعر علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله الجاولى. أصله من مماليك بن باخل «3» . ثم صار إلى الأمير علم الدين سنجر الجاولى فجعله دواداره لمّا كان نائب غزّة فعرف به، ثم تنقّلت به الأحوال حتى صار من جملة أمراء دمشق إلى أن مات بها فى شهر ربيع الأول.

(10/105)


قلت: وهو أحد فحول الشعراء من الأتراك لا أعلم أحدا من أبناء جنسه فى رتبته فى نظم القريض، اللهم إلا إن كان أيدمر المحيوى فيمكن. ومن شعر ألطنبغا المذكور:
ردفه زاد فى الثّقالة حتّى ... أقعد الخصر والقوام سويّا
نهض الخصر والقوام وقاما ... وضعيفان يغلبان قويّا
وله:
وبارد الثغر حلو ... بمرشف فيه حوّه
وخصره فى انتحال ... يبدى من الضعف قوّه
وله:
وصالك والثريّا فى قران ... وهجرك والجفا فرسا رهان
فديتك ما حفظت لشؤم بختى «1» ... من القرآن إلّا لن ترانى
وله:
يقول لى العاذل فى لومه ... وقوله زور وبهتان
ما وجه من أحببته قبلة ... قلت ولا قولك قرآن
وقد سقنا من شعره قطعة جيّدة فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» .
وتوفّى القاضى شرف الدين أبو بكر بن محمد ابن الشهاب محمود كاتب سرّ مصر ثم دمشق فى شهر ربيع الأوّل. وكان فاضلا بارعا فى صناعته، وهو من بيت علم وفضل ورياسة وإنشاء. وكان فاضلا مترسّلا رئيسا نبيلا، وله نظم رائق ونثر فائق. ومن شعره.

(10/106)


بعثت رسولا للحبيب لعلّه ... يبرهن عن وجدى له ويترجم
فلمّا رآه حار من فرط حسنه ... وما عاد إلّا وهو فيه متيّم
وتوفّى الأمير سيف الدين طرغاى «1» الجاشنكير الناصرىّ نائب حلب وطرابلس فى شهر رمضان. وكان من أعيان مماليك الملك الناصر وأمرائه. وكان شجاعا مقداما سيوسا. ولى الولايات والأعمال الجليلة.
وتوفّى الأمير علاء الدين آقبغا عبد الواحد الناصرىّ بحبسه بثغر الإسكندرية، وقد تكرّر ذكره فى ترجمة أستاذه الملك الناصر فى مواطن كثيرة، وفى أوّل ترجمة الملك المنصور أبى بكر أيضا، وكيف كان القبض عليه، وما وقع له من المصادرة وغير ذلك إلى أن ولى نيابة حمص ثم عزل وقبض عليه وحبس إلى أن مات.
وكان أصله من مماليك الناصر محمد وأخا زوجته خوند طغاى، وتولّى فى أيام أستاذه عدّة وظائف وولايات، منها أنه كان من جملة مقدّمى الألوف ثم أستادار.
ثم مقدّم المماليك السلطانية، وشادّ العمائر وكان يندبه لكلّ أمر مهمّ فيه العجلة لمعرفته بشدّة بأسه وقساوة قلبه، وكثرة ظلمه. وكان من أقبح المماليك الناصرية سيرة.
وهو صاحب المدرسة «2» على يسار الداخل إلى الجامع الأزهر والدار بالقرب من الجامع المذكور.
وتوفّى الشيخ حسن بن تمرتاش بن جوبان متملّك تبريز والعراق فى شهر رجب.
وكان من أعظم الملوك، وكان داهية صاحب حيل ومكر وخديعة. وكان كثير العساكر من التّرك وغيرها.

(10/107)


وتوفّى القاضى زين الدين إبراهيم بن عرفات بن صالح بن أبى المنى القنائىّ الشافعى قاضى قنا. كان فقيها رئيسا كثير الأموال. كان يتصدّق فى كلّ سنة بألف دينار فى يوم واحد مع مكارم وإنعام.
وتوفّى الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن على بن أيبك السّروجىّ. مولده بمصر فى ذى الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة، ومات بحلب فى الثامن من شهر ربيع الأوّل.
وتوفّى المحدّث شهاب الدين أحمد بن أبى الفرج الحلبى بمصر بعد أن حدث عن النّجيب «1» والأبرقوهىّ «2» والرّشيد «3» بن علّان وغيرهم «4» . ومولده فى شهر رمضان سنة خمسين وستمائة.
وتوفّى القاضى علم الدين سليمان بن إبراهيم بن سليمان المعروف بابن المستوفى المصرى ناظر الخاصّ بدمشق فى جمادى الآخرة. وله فضيلة وشعر جيّد، وكان يعرف بكاتب قراسنقر، فإنه كان بخدمته. وباشر عدّة وظائف بدمشق: نظر البيوت ثم نظر الخاصّ ثم صحابة الديوان. وكان بارعا فى صناعة الحساب ويكتب الخط المليح. وله يد فى النظم وقدرة على الارتجال، وكان يتكلّم فصيحا باللغة التركية.
ومن شعره:
غرامى فيك قد أضحى غريمى ... وهجرك والتّجنّى مستطاب
وبلواى ملالك لا لذنب ... وقولك ساعة التسليم طابوا

(10/108)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا. والله تعالى أعلم.