النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 745]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الصالح إسماعيل على مصر، وهى سنة خمس وأربعين وسبعمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة العلّامة جلال الدين [أحمد «1» ] ابن القاضى حسام الدين أبى الفضائل حسن بن أحمد بن الحسن بن أنوشروان «2» الأنكورىّ الحنفى قاضى قضاة دمشق وعالمها فى يوم الجمعة تاسع عشر رجب، ومولده بمدينة أنكورية «3» ببلاد الروم فى سنة إحدى وخمسين وستمائة. وكان إماما عالما ديّنا عارفا بالمذهب وأصوله، محقّقا إماما فى العلوم العقليّة، وأفتى ودرّس وتصدّر للإقراء فى حياة والده. وولى قضاء خرتبرت «4» وعمره سبع عشرة سنة، وحمدت سيرته. ثم انتقل إلى البلاد الشامية حتى كان من أمره ما كان.
وتوفّى الأمير علم الدين سنجر الجاولى، أحد أعيان أمراء بالديار المصرية فى يوم الخميس «5» ثامن شهر رمضان، ودفن بمدرسته «6» فوق جبل الكبش. وكان أصله من

(10/109)


مماليك جاول أحد أمراء الملك الظاهر بيبرس. ثم اتّصل بعده إلى بيت السلطان، وأخرج أيام الأشرف خليل بن قلاوون إلى الكرك، واستقرّ فى جملة بحريّتها. ثم قدم فى أيام العادل كتبغا إلى مصر بحال زرىّ، فقدّمه الأمير سلّار ونوّه بذكره إلى أن ولى نيابة غزّة، ثم عدة ولايات بعد ذلك بمصر والبلاد الشامية، وطالت أيامه فى السعادة وعمّر. وقد مرّ من ذكره أشياء فيما تقدّم. وهو صاحب الجامع «1» ، بغزّة والخليل «2» عليه السلام وخان بيسان «3» وخان قاقون «4» . وكان فاضلا فقيها، وله مصنّفات فى الفقه وغيره.

(10/110)


وتوفّى الأمير سيف الدين طقصبا بن عبد الله الظاهرىّ، وقد أناف على مائة [وعشرين «1» ] سنة. وكان أصله من مماليك الظاهر بيبرس البندقدارىّ.
وتوفّى [إبراهيم «2» القاضى] جمال الكفاة الرئيس جمال الدين ناظر الخاصّ ثم الجيش ثم المشدّ تحت العقوبة فى ليلة الأحد سادس شهر ربيع «3» الأول. وكان ابن خالة النّشو ناظر الخاصّ، وهو الذي استسلمه واستخدمه مستوفيا فى الدولة، ثم عند بشتك ثم وقع بينهما المعاداة الصعبة على سوء ظنّ من النّشو، ولم يزالا على ذلك حتّى مات النشو تحت العقوبة، وولى جمال الكفاة هذا مكانه، وطالت أيامه ونالته السعادة. قال الصفدى: وكان شكلا حسنا ظريفا مليحا يكتب خطّا قويّا جيدا، ويتحدث بالتّركى، وفيه ذوق للمعانى الأدبية ومحبة للفضلاء ولطف عشرة وكرم أخلاق ومروءة. وكان أوّلا عند الأمير طيبغا القاسمىّ. ومدّة مباشرته الخاصّ ست سنين تقريبا. انتهى كلام الصفدىّ باختصار. وقال غيره: وكان أوّلا يباشر فى بعض البساتين على بيع ثمرته، وتنقّل فى خدمة ابن هلال الدولة، ثم خدم بيدمر البدرىّ وهو خاصّكىّ خبزه بمحلّة «4» منوف، فكتب على بابه إلى أن تأمّر.
ثم انتقل بعد ذلك حتّى كان من أمره ما ذكرناه. ولمّا صودر أخذ منه أموال كثيرة.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة فريد عصره أثير الدّين أبو حيّان محمد بن يوسف ابن علىّ [بن يوسف «5» ] بن حيّان الغرناطىّ المغربىّ المالكىّ ثم الشافعىّ. مولده

(10/111)


بغرناطة «1» فى أخريات شوّال سنة أربع وخمسين وستمائة، وقرأ القرآن بالروايات، واشتغل وسمع الحديث بالأندلس وإفريقية وإسكندرية والقاهرة والحجاز، وحصّل الإجازات من الشام والعراق، واجتهد فى طلب العلم، حتى برع فى النحو والتصريف وصار فيهما إمام عصره، وشارك فى علوم كثيرة. وكان له اليد الطّولى فى التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وتواريخهم خصوصا المغاربة، وهو الذي جسّر الناس على مصنّفات ابن مالك، ورغّبهم فى قراءتها، وشرح لهم غوامضها، وقد سقنا من أخباره وسماعاته ومشايخه ومصنّفاته وشعره فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى» ما يطول الشرح فى ذكره هنا؛ ومن أراد ذلك فلينظره هناك. ولنذكر هنا من شعره نبذة يسيرة بسندنا إليه: أنشدنا القاضى عبد الرحيم بن الفرات إجازة، أنشدنا الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدىّ إجازة، قال: أنشدنى العلّامة أثير الدين أبو حيّان من لفظه لنفسه:
سبق الدمع بالمسير المطايا ... إذ نوى من أحبّ عنّى نقله
وأجاد السّطور «2» فى صفحة الخد ... ولم لا يجيد وهو ابن مقله
وله بالسند:
راض حبيبى عارض قد بدا ... يا حسنه من عارض رائض
فظنّ قوم أنّ قلبى سلا ... والأصل لا يعتدّ بالعارض
وله موشّحة، أوّلها:
إن كان ليل داج، وخاننا الإصباح «3» ، فنورها الوهّاج، يغنى عن المصباح «4»

(10/112)


سلافة تبدو ... كالكوكب الأزهر
مزاجها شهد ... وعرفها عنبر
يا حبّذا الورد ... منها وإن أسكر
قلبى بها قد هاج، فما ترانى صاح، عن ذلك المنهاج، وعن هوى يا صاح
وبى رشا أهيف ... قد لجّ فى بعدى
بدر فلا يخسف ... منه سنا الخدّ
بلحظه المرهف ... يسطو على الأسد
كسطوة الحجّاج، فى الناس والسّفّاح، فما ترى من ناج، من لحظه السّفّاح
علّل بالمسك ... قلبى «1» رشا أحور
منعم المسك ... ذو «2» مبسم أعطر
ريّاه كالمسك ... وريقه كوثر
غصن على رجراج، طاعت له الأرواح، فحبّذا الآراج، إن هبّت الأرواح
مهلا أبا القاسم ... على أبى حيّان
ما إن له عاصم ... من لحظك الفتّان
وهجرك الدائم ... قد طال بالهيمان
قدمعه أمواج، وسرّه قد باح «3» ، لكنّه ما عاج، ولا أطاع اللّاح

(10/113)


يا ربّ ذى بهتان ... يعذلنى» فى الرّاح
وفى هوى الغزلان ... دافعت «2» بالرّاح
وقلت لا سلوان ... عن ذاك يالاحى
سبع «3» الوجوه والتّاج، هى منية الأرواح «4» ، فآختر لى يا زجّاج، قمصال «5» وزوج أقداح قلت: ومذهبى فى أبى حيّان أنّه عالم لا شاعر.
ولم أذكر هذه الموشّحة هنا لحسنها؛ بل قصدت التعريف بنظمه بذكر هذه الموشّحة، لأنّه أفحل شعراء المغاربة فى هذا الشأن، وأما الشاعر العالم هو الأرّجانىّ «6»

(10/114)


وأبو العلاء «1» المعرّى وابن سناء «2» الملك. انتهى. وكانت وفاته بالقاهرة فى ثامن عشرين صفر.
وتوفّى الأمير صلاح الدين يوسف بن أسعد الدّوادار الناصرى بطرابلس وكان من أكابر الأمراء، ولى الدواداريّة الكبرى فى أيام الناصر محمد، ثم ولى نيابة الإسكندريّة، ثم أخرج إلى البلاد الشامية إلى أن مات بطرابلس. وكان كاتبا شاعرا.
وتوفّى الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله البشمقدار «3» المنصورىّ، كان من مماليك المنصور قلاوون.
وتوفى الأمير سيف الدين طرنطاى المنصورىّ المحمّدىّ بدمشق، وكان من جملة من وافق على قتل الأشرف خليل، فسجنه الملك الناصر سبعا وعشرين سنة، ثم أفرج عنه وأخرجه إلى طرابلس أمير عشرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان المنصورىّ الشمسىّ بمدينة حلب. وكان الناصر أيضا حبسه سنين ثم أخرجه إلى حلب.
وتوفّى سيف الدين كندغدى «4» بن عبد الله المنصورى بحلب أيضا وهو رأس الميسرة ومقدّم العساكر المجرّدة إلى سيس «5» . وكان من كبار الأمراء بالديار المصريّة.

(10/115)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا «1» .
[ما وقع من الحوادث سنة 746]
ذكر سلطنة الملك الكامل شعبان على مصر
السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان ابن السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النّجمى.
والكامل هذا هو السابع عشر من ملوك الترك بالديار المصرية والخامس من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون. جلس على تخت الملك بعد موت أخيه وشقيقه الملك الصالح إسماعيل فى يوم الخميس الرابع «2» من شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، ولقّب بالملك الكامل. وفيه يقول الأديب البارع جمال الدين «3» بن نباتة.
رحمه الله تعالى. [مخلّع البسيط]
جبين «4» سلطاننا المرجّى ... مبارك الطالع البديع

(10/116)


يا بهجة الدهر إذ تبدّى ... هلال شعبان فى ربيع
وكان سبب سلطنة الملك الكامل هذا أنه لمّا اشتدّ مرض أخيه الملك الصالح إسماعيل دخل عليه زوج أمّه ومدبّر مملكته الأمير أرغون العلائىّ فى عدّة من الأمراء ليعهد الملك الصالح إسماعيل بالملك لأحد من إخوته. وكان أرغون العلائى المذكور غرضه عند شعبان كونه أيضا ربيبه ابن زوجته، فعارضه فى شعبان الأمير آل ملك نائب السلطنة حسب ما ذكرنا طرفا من ذلك فى مرض الملك الصالح المذكور. ثم وقع ما ذكرناه إلى أن اتّفق المماليك والأمراء على توليته، وحضروا إلى باب القلّة «1» واستدعوا شعبان المذكور، وألبسوه أبّهة السلطنة وأركبوه بشعار الملك ومشت الأمراء بخدمته، والجاوشيّة تصيح بين يديه على العادة، حتى قرب من الإيوان لعب الفرس تحته وجفل من صياح الناس، فنزل عنه ومشى خطوات بسرعة إلى أن طلع إلى الإيوان «2» فتفاءل الناس بنزوله عن فرسه أنّه لا يقيم فى السلطنة إلّا يسيرا. ولمّا طلع الى الإيوان وجلس على الكرسىّ وباسوا الأمراء له الأرض وأحضروا المصحف ليحلفوا له، فحلف هو أوّلا أنّه لا يؤذيهم، ثم حلفوا له بعد ذلك على العادة. ودقّت البشائر بسلطنته بمصر والقاهرة، وخطب له من الغد على منابر مصر والقاهرة، وكتب بسلطنته إلى الأقطار.
ثم فى يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الآخر المذكور جلس الملك الكامل بدار العدل «3» ، وجدّد له العهد من الخليفة بحضرة القضاة والأمراء، وخلع على الخليفة وعلى القضاة والأمراء، وكتب بطلب الأمير آق سنقر الناصرى من طرابلس وسأل

(10/117)


الأمير قمارى الأستادار أن يستقرّ عوضه فى نيابة طرابلس، فتشفّع قمارى المذكور بأرغون العلائى وملكتمر الحجازىّ فأجيب إلى ذلك؛ ثم تغيّر ذلك وخلع عليه فى يوم الخميس حادى عشرة بنيابة طرابلس فخرج من فوره على البريد. وخلع على الأمير أرقطاى «1» واستقرّ فى نيابة حلب عوضا عن يلبغا اليحياوى، وخرج أيضا على البريد، وكتب يطلب اليحياوى، ثم طلب الأمير آل ملك نائب السلطنة الإعفاء من النيابة وقبل الأرض، وسأل فى نيابة الشام عوضا عن طقزدمر الحموىّ وأن ينتقل طقزدمر إلى مصر فاجيب إلى ذلك، وكتب بعزل طقزدمر عن نيابة الشام وإحضاره الى الديار المصريّة.
وفى يوم السبت ثالث عشرة خلع السلطان الملك الكامل على الأمير الحاج آل ملك نائب السلطنة باستقراره فى نيابة الشام عوضا عن طقزدمر، وأخرج من يومه على البريد، فلم يدخل مدينة غزّة لسرعة توجّهه، وبينما هو سائر إلى دمشق لحقه البريد بتقليده نيابة صفد، وسبب ذلك أنّ أرغون العلائى لمّا قام فى أمر الملك الكامل شعبان هذا وفى سلطنته قال له الحاج آل ملك: بشرط ألّا يلعب بالحمام، فلمّا بلغ ذلك شعبان نقم عليه، فلمّا ولى دمشق استكثرها عليه وحوّله إلى نيابة صفد. ورسم للأمير يلبغا اليحياوى نائب حلب كان، باستقراره فى نيابة الشام.
ثم أخذ السلطان الملك الكامل فى تدبير مملكته والنظر فى أمور الدولة فأنعم بإقطاع أرقطاى على الأمير أرغون «2» شاه، واستقرّ أستادارا عوضا عن قمارى المستقرّ فى نيابة طرابلس. وأخرج السلطان الأمير أحمد شادّ الشرابخاناه هو وإخوته من

(10/118)


أجل أنهم كانوا ممّن قام مع الأمير آل ملك هم وقمارى الأستادار فى منع سلطنة الملك الكامل هذا. ثم خلع السلطان على علم الدين «1» عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن زنبور باستقراره ناظر الخواصّ عوضا عن الموفّق عبد الله «2» بن إبراهيم، وعنى الأمير أرغون العلائى بالموفّق حتّى نزل إلى داره بغير مصادرة.
ثم قدم الأمير آق سنقر الناصرىّ المعزول عن نيابة طرابلس فخلع السلطان عليه، وسأله بنيابة السلطنة بالديار المصرية فامتنع أشدّ امتناع، وحلف أيمانا مغلّظة أنه لا يليها فأعفاه السلطان فى ذلك اليوم.
ثم بدا للسلطان أن يخطب بنت بكتمر الساقى فامتنعت أمّها من إجابته واحتجّت عليه بأنّ ابنتها تحته ولا يجمع بين أختين وأنّه بتقدير أن يفارق أختها، فإنّه أيضا قد شغف باتّفاق العوّادة جارية أخيه الملك الصالح شغفا زائدا، ثم قالت: ومع ذلك فقد ضعف حال المخطوبة من شدّة الحزن، فإنّه أوّل من أعرس عليها آنوك ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان لها ذلك المهمّ العظيم، ومات آنوك عنها وهى بكر فتزوّجها من بعده أخوه الملك المنصور أبو بكر، فقتل فتزوّجها بعد الملك المنصور أخوه السلطان الملك الصالح إسماعيل ومات عنها أيضا، فحصل لها حزن شديد من كونه تغيّر عليها عدّة أزواج فى هذه المدّة اليسيرة، فلم يلفت الملك الكامل إلى كلامها وطلّق أختها، وأخرج جميع قماشها من عنده فى ليلته، ثم عقد عليها ودخل بها.
ثم أنعم السلطان على ابن طشتمر حمّص أخضر بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصريّة، وعلى ابن أصلم بإمرة طبلخاناه.

(10/119)


ثم فى مستهلّ جمادى الأولى خلع السلطان الملك الكامل على جميع الأمراء المقدّمين «1» والطبلخانات، وأنعم على ستين مملوكا بستين قباء بطرز زركش وستين حياصة ذهب، وفرّق الخيول على الأمراء برسم نزول الميدان «2» .
ثم رسم السلطان ان يتوفّر إقطاع النيابة للخاصّ، وخلع على الأمير بيغرا واستقرّ حاجبا كبيرا. ثم نزل السلطان إلى الميدان على العادة، فكان لنزوله يوم مشهود.
وخلع على الشريف عجلان بن رميثة بن أبى نمىّ الحسنىّ «3» باستقراره أمير مكّة. ثم عاد السلطان إلى القلعة «4» .
وفى يوم السبت خامس عشرين جمادى الأولى قدم الأمير طقزدمر من الشام إلى القاهرة مريضا فى محفّة بعد أن خرج الأمير أرغون العلائى وصحبته الأمراء إلى لقائه، فوجدوه غير واع، ودخل عليه الأمراء وقد أشفى على الموت، ولمّا دخل طقزدمر إلى القاهرة على تلك الحالة أخذ أولاده فى تجهيز تقدمة جليلة للسلطان تشتمل على خيول، تحف وجواهر فقبلها السلطان منهم ووعدهم بكلّ خير.
وفيه أنعم السلطان على الأمير أرغون الصالحىّ بتقدمة ألف، ورسم أن يقال له: أرغون الكاملى، ووهب له فى أسبوع ثلثمائة ألف درهم وعشرة آلاف اردبّ من الأهراء؛ ورسم له بدار «5» أحمد شادّ الشّربخاناه، وأن يعمّر له

(10/120)


بجواره من مال السلطان قصر على بركة الفيل «1» ، ويطل على الشارع فعمل له ذلك.
قلت: والبيت المذكور هو الذي كان يسكنه الملك الظاهر جقمق وتسلطن منه، ثم سكنه الملك الأشرف إينال وتسلطن منه وهو تجاه الكبش «2» . انتهى.
وفى يوم الخميس مستهلّ جمادى الآخرة ركب السلطان الملك الكامل لسرحة سرياقوس «3» ومعه عساكره على العادة وأخذ حريمه صحبته، فنصب لهنّ أحسن الخيم فى البساتين.
ثم فى يوم الجمعة قدم أولاد طقزدمر على السلطان بسرياقوس بخبر وفاة أبيهم طقزدمر، فلم يمكّن السلطان الأمراء من العود إلى القاهرة للصلاة عليه، ورسم بإخراجه فأخرج ودفن بخانقاته «4» بالقرافة، وأخذت خيله وجماله وهجنه إلى الإسطبل «5» السلطانىّ.

(10/121)


ثم خلع السلطان على الأمير أرسلان بصل، واستقرّ حاجبا ثانيا مع بيغرا، ورسم له أن يحكم بين الناس، ولم تكن العادة جرت بذلك أن يحكم الحجّاب بين الناس غير حاجب الحجّاب.
قلت: كان الحجّاب يوم ذاك كهيئة رءوس النّوب الصّغار الآن. انتهى.
وخلع على الأمير ملكتمر السّرجوانىّ باستقراره فى نيابة الكرك وأنعم بتقدمته «1» على الأمير طشتمر طلليه وأنعم بطبلخانات «2» طشتمر طلليه على الأمير قبلاى.
ثم قدم على السلطان الخبر بموت أخيه الملك الأشرف كچك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون عن اثنتى عشرة سنة، واتّهم السلطان أنّه بعث من سرياقوس من قتله فى مضجعه على يد أربعة خدّام طواشيّة، فعظم ذلك على الناس قاطبة.
ثم عاد السلطان من سرياقوس إلى القلعة بعد ما تهتّكت المماليك السلطانية من شرب الخمور والإعلان بالفواحش وركبوا فى الليل وقطعوا الطريق على المسافرين واغتصبوا حريم الناس. ثم أخذ السلطان الملك الكامل فى تجديد المظالم والمصادرات.
ثم قدم البريد على السلطان بأنّ الشيخ حسنا صاحب بغداد واقع سلطان شاه وأولاد تمرداش وانتصر الشيخ حسن وحصر سلطان شاه بماردين «3» وأخذ ضياعها.
ثم إن السلطان الملك الكامل بدا له أن ينشئ مدرسته موضع خان «4» الزكاة، ونزل الأمير أرغون العلابى والوزير لنظره، وكان أبوه الملك الناصر محمد قد وقفه فلم يوافق القضاة على حلّه.

(10/122)


وفى مستهلّ شعبان عمل السلطان مهمّه على بنت الأمير طقزدمر الحموى سبعة أيام. وفى مستهلّ شوّال رسم السلطان للأمير أرغون الكامليّ بزيارة القدس وأنعم عليه بمائة ألف درهم، وكتب إلى نوّاب الشام بالركوب لخدمته، وحمل التقادم وتجهير الإقامات له فى المنازل إلى حين عوده؛ ورسم له أن ينادى بمدينة بلبيس «1» وأعمالها أنّه من قال عنه: أرغون الصغير شنق، وألّا يقال له إلّا أرغون الكاملى، فشهر النّداء بذلك فى الأعمال.
وفى هذه الأيام كثر لعب الناس بالحمام وكثر جرى السّعاة، وتزايد شلّاق «2» الزّعر وتسلّط عبيد الطواشيّة على الناس، وصاروا كلّ يوم يقفون للضراب فتسفك بينهم دماء كثيرة. ونهبت الحوانيت بالصّليبة «3» خارج القاهرة، وإذا ركب إليهم الوالى لا يعبئون به، وإن قبض على أحد منهم أخذ من يده سريعا، فاشتد قلق الناس من ذلك.
ثم اخترع السلطان شيئا لم يسبق إليه، وهو أنّه أعرس السلطان بعض الطواشيّة ببعض سراريه بعد عقده عليها، وعمل له السلطان مهمّا حضره جميع جوارى بيت السلطان، وجليت العروس على الطواشى، ونثر السلطان عليها وقت

(10/123)


الجلاء الذهب بيده، فكانت هذه الحادثة من أشنع ما يكون، وعظم ذلك على سائر أعيان الدولة.
وفى ذى الحجّة كثرت الإشاعة «1» باتفاق الأمير آل ملك نائب صفد مع الأمير يلبغا اليحياوى نائب الشام لورود بعض مماليك آل ملك هاربا منه كونه شرب الخمر وأشاع هذا الخبر فرسم السلطان بإخراج منجك «2» اليوسفى السلاح دار على البريد لكشف الخبر فلمّا توجه منجك إلى الشام حلف له نائب الشام أنه برىء ممّا قيل عنه، وأنعم على منجك بألفى دينار سوى الخيل والقماش.
ثم نودى بالقاهرة بألّا يعارض أحد من لعّاب الحمام وأرباب الملاعيب والسعاة، فتزايد الفساد وشنع الأمر، كلّ ذلك لمحبّة السلطان فى هذه الأمور.
ثم ندب السلطان الأمير طقتمر الصالحىّ للتوجّه إلى الشام على البريد ليوقّع الحوطة على جميع أرباب المعاملات، وأصحاب الرّزق «3» والرواتب بالبلاد الشامية من الفرات إلى غزّة وألّا يصرف لأحد منهم شيئا وأن يستخرج منهم ومن الأوقاف وأرباب الجوامك ألف ألف درهم برسم سفر السلطان إلى الحجاز، ويشترى بذلك الجمال ونحوها، فكثر الدعاء على السلطان من أجل ذلك، وتغيّرت الخواطر.

(10/124)


وفى هذه الأيام كتب بإحضار الأمير آل ملك نائب صفد إلى القاهرة ليستقرّ على إقطاع الأمير چنكلى بن البابا بعد موته وتوجّه لإحضاره الأمير منجك السلاح دار.
ثم فى يوم السبت تاسع عشرين ذى الحجة أمسك أينبك أخو قمارى ثم عفى عنه من يومه. ثم كتب باستقرار الأمير أراق «1» الفتّاح نائب غزّة فى نيابة صفد بعد عزل آل ملك. وأمّا الأمير منجك فإنّه وصل إلى صفد فى أوّل المحرم من سنة سبع وأربعين وسبعمائة، واستدعى آل ملك فخرج معه إلى غزّة، فقبض عليه بها فى اليوم المذكور، وقيل بل فى سادس عشرين ذى الحجة من سنة ست وأربعين. انتهى.
ثم فى أول المحرّم المذكور قدم إلى جهة القاهرة الأمير ملكتمر السّرجوانىّ من نيابة الكرك فمات بمسجد التّبن «2» خارج القاهرة ودفن بتربته «3» . ثم قدم إلى القاهرة الأمير أحمد بن آل ملك فقبض عليه وسجن من ساعته. وخلع السلطان على الأمير أسندمر العمرىّ باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير قمارى.
وفى يوم الاثنين سادس المحرّم قدم الأمير آل ملك والأمير قمارى نائب طرابلس مقيّدين إلى قليوب «4» وركبا النيل إلى الإسكندريّة فاعتقلا بها. وكان الأمير طقتمر الصّلاحىّ قبض على قمارى لمّا توجّه للحوطه على أملاك الشام، وقيّده وبعثه على البريد. ثم ندب السلطان الأمير مغلطاى الأستادار لإيقاع الحوطة على موجود آل ملك، وندب الطواشى مقبلا التّقوىّ لإيقاع الحوطة على موجود قمارى نائب طرابلس، وألزم مباشريهما بحمل جميع أموالهما، فوجد لآل ملك قريب ثلاثين

(10/125)


ألف إردب غلّة، وألزم مولده بمائة ألف درهم، وأخذ لزوجته خبيّة فيها أشياء جليلة، وأخذ أيضا لزوجة قمارى صندوقا فيه مال جليل.
ثم خلع «1» السلطان على الأمير أرسلان «2» بصل الحاجب الثانى فى نيابة حماة عوضا عن أرقّطاى وكتب بقدوم أرقطاى، فقدم أرقطاى إلى القاهرة فأنعم عليه السلطان بإقطاع چنكلى بن البابا بعد وفاته، واستقرّ رأس الميمنة مكان چنكلى. ثم خلع السلطان على زوح أمّه الأمير أرغون العلائى واستقرّ فى نظر البيمارستان «3» المنصورىّ عوضا عن الأمير چنكلى بن البابا فنزل إليه أرغون العلائى وأصلح أموره، وأنشأ بجوار باب البيمارستان المذكور سبيل «4» ماء ومكتب سبيل لقراءة الأيتام، ووقف عليه وقفا.

(10/126)


ثم خلع السلطان على الأمير نجم الدين محمود [بن علىّ «1» ] بن شروين وزير بغداد وأعيد إلى الوزارة بالديار المصريّة، وكان لها مدّة شاغرة، وخلع على علم الدين عبد الله ابن زنبور واستقرّ ناظر الدولة عوضا عن ابن مراجل «2» .
وفى هذه الأيام انتهت عمارة قصر «3» الأمير أرغون الكامليّ بالجسر الأعظم تجاه الكبش «4» ، بعد أن صرف عليه مالا عظيما، وأخذ فيه من بركة «5» الفيل نحو العشرين ذراعا، فلمّا عزم أرغون إلى النزول إليه مرض فقلق السلطان لمرضه وبعث إليه بفرس وثلاثين ألف درهم يصدّق بها عنه. وأفرج عن أهل السجون، وركب السلطان لعيادته بالميدان «6» .

(10/127)


ثم اهتمّ السلطان بسفره إلى الحجاز وأخذ فى تجهيز أحواله. وفى يوم الجمعة رابع عشر صفر ولد للسلطان ولد ذكر من بنت الأمير بكتمر الساقى.
ثم فى يوم السبت ثانى عشرين صفر أفرج السلطان عن الأمير أحمد بن آل ملك وعن أخى قمارى وأمرهما بلزوم بيتهما.
وفى أوّل شهر ربيع الأوّل توجّه السلطان إلى سرياقوس وأحضر الأوباش فلعبوا قدّامه باللّبخة «1» وهى عصىّ كبار، حدث اللعب بها فى هذه الأيام، ولمّا لعبوا بها بين يديه قتل رجل رفيقه، فخلع السلطان على بعضهم وأنعم على كبيرهم بخبز فى الحلقة، واستمرّ السلطان يلعب بالكرة فى كلّ يوم وأعرض عن تدبير الأمور، فتمرّدت المماليك وأخذوا حرم الناس وقطعوا الطريق وفسدت عدّة من الجوارى، وكثرت الفتن حتّى بلغ السلطان فلم يعبأ بما قيل له، بل قال: خلّوا كلّ أحد يعمل ما يريد. فلمّا فحش الأمر قام الأمير أرغون العلائى فيه مع السلطان حتّى عاد إلى القلعة وقد تظاهر الناس بكلّ قبيح ونصبوا أخصاصا بالجزيرة «2» الوسطانيّة وجزيرة

(10/128)


بولاق سمّوها حليمة «1» ، بلغ مصروف كلّ حصّ منها من ألفين إلى ثلاثة آلاف درهم، وكان هذا المبلغ يوم ذاك بحقّ ملك هائل. وعمل فى الأخصاص الرّخام والدّهان البديع، وزرع حوله المقاثئ والرياحين وأقام بالأخصاص المذكورة معظم الناس من الباعة والتّجّار وغيرهم، وكشفوا سترا لحياء، وما كفّوا فى التهتّك فى حليمة والطمية»
وتنافسوا فى أرضها، حتّى كان كلّ قصبة قياس تؤجّر بعشرين درهما،

(10/129)


فبلغ أجرة الفدّان الواحد ثمانية آلاف درهم، فأقاموا على ذلك ستة أشهر، حتى زاد الماء وغرقت الجزيرة، وقبل مجىء الماء بقليل قام الأمير أرعون العلائى فى هدمها قياما عظيما، وحرق الأخصاص على حين غفلة وضرب جماعة وشهّرهم فتلف بها مال عظيم جدا.
وفى هذه الأيام قلّ ماء النيل حتى صار ما بين المقياس «1» ومصر يخاض، وصار من بولاق «2» إلى منشأة «3» المهرانىّ طريقا يمشى فيه، ومن بولاق الى جزيرة «4» الفيل وإلى المنية «5» طريقا واحدا. وبعد الماء على السقّايين وصاروا يأخذون الماء من تجاه قرية منبابة «6» ، وبلغت راوية الماء إلى درهمين بعد ما كانت بنصف درهم وربع درهم. فشكا الناس ذلك إلى أرغون العلائى فبلّغ السلطان غلاء الماء بالمدينة وانكشاف ما تحت بيوت البحر، فركب السلطان ومعه الأمراء وكثير من أرباب الهندسة، حتّى كشف ذلك، فوجدوا الوقت فيه قد فات لزيادة النيل، واقتضى

(10/130)


الرأى أن ينقل التراب والشقاف من مطابخ السّكّر بمدينة مصر وترمى من برّ الجيزة إلى المقياس «1» حتى يصير جسرا «2» يعمل عليه العمل، حتى يدفع الماء إلى الجهة التى يحسر عنها، فنقلت الأتربة فى المراكب وألقيت هناك إلى أن بقى جسرا ظاهرا وتراجع الماء قليلا إلى برّ مصر، فلما قويت الزيادة علا الماء على هذا الجسر وأخذه ومحا أثره.

(10/131)


وفى هذه الأيام لعب السلطان الكرة مع الأمراء فى الميدان من القلعة فاصطدم الأمير يلبغا «1» الصالحى مع آخر سقطا معا عن فرسيهما إلى الأرض، ووقع فرس يلبغا على صدره فانقطع نخاعه ومات لوقته فأنعم السلطان بإقطاعه على قطلوبغا الكركىّ.
ثم فى هذه الأيام اشتدّت المطالبة على أهل النواحى بالجمال والشعير والأعدال والأخراج لسبب سفر السلطان إلى الحجاز وكثرت مغارمهم إلى الولاة وشكا أرباب الإقطاعات ضررهم للسلطان فلم يلتفت لهم، فقام فى ذلك الأمير أرغون شاه الأستادار مع الأمير أرغون العلائى فى التحدّث مع السلطان فى إبطال حركة السفر فلم يصغ لقولهم، وكتب باستعجال العربان بالجمال واستحثاث طقتمر الصّلاحىّ فيما هو فيه بصدد السفر.
ثم أوقع السلطان الحوطة على أموال الطّواشى عرفات وأخرج عرفات إلى الشام منفيّا. ثم قصد السلطان أخذ أموال الطواشى كافور الهندىّ، فشفعت فيه خوند طغاى زوجة الملك الناصر محمد بن قلاوون؛ وكان كافور المذكور من خواصّ خدّام الملك الناصر محمد بن قلاوون فأخرج كافور إلى القدس، وكافور المذكور هو صاحب التّربة «2» بقرافة مصر، ثم نفى السلطان أيضا ياقوتا الكبير الخادم، وكافورا المحرم «3» وسرورا الدّمامينىّ، ثم نفى دينارا الصوّاف ومختصّا الخطائى.
ثم فى أوّل شهر ربيع الآخر مات ولد السلطان من بنت «4» بكتمر الساقى وولد له من اتّفاق العوّادة حظيّة أخيه ولد سمّاه شاهنشاه وسرّ به سرورا عظيما زائدا، وعمل

(10/132)


مهمّا عظيما مدة سبعة أيام. ثم مات أخوه يوسف ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون واتّهم السلطان أيضا بقتله.
ثم قدم طقتمر الصلاحىّ من الشام بالقماش المستعمل برسم الحجاز. ثم قدم كتاب يلبغا اليحياوىّ نائب الشام يتضمّن خراب بلاد الشام مما أنفق «1» بها من أخذ الأموال وانقطاع الجالب إليها، والرأى تأخير سفر السلطان إلى الحجاز الشريف فى هذه السنة، فقام الأمير أرغون العلائى وملكتمر الحجازىّ فى تصويب رأى نائب الشام وذكرا للسلطان أيضا ما حدث ببلاد مصر من نفاق العربان وضرر الزروع وكثرة مغارم البلاد، وما زالا به حتى رجع عن سفر الحجاز فى هذه السنة، وكتب إلى نائب الشام بقبول رأيه، وكتب للأعمال باسترجاع ما قبضته العرب من كراء الأحمال وغير ذلك، فلم يوافق هذا غرض نساء السلطان ووالدته، وأخذت فى تقوية عزمه على السفر للحجاز حتى مال اليهم «2» ، وكتب لنائب الشام وحلب وغيرها أنّه لا بدّ من سفر السلطان إلى الحجاز فى هذه السنة، وأمرهم بحمل ما يحتاج اليه، ووقع الاهتمام، وتجدّد الطّلب على الناس وغلاء الأسعار، وتوقّفت الأحوال وقلّ الواصل من كل شىء. وأخذ الأمراء فى أهبة السفر صحبة السلطان إلى الحجاز، وقلقوا لذلك، وسألوا أرغون العلائى وملكتمر الحجازىّ فى الكلام مع السلطان فى إبطال السفر ومعرفته «3» رقّة حالهم من حين تجاريدهم إلى الكرك فى نوبة الملك الناصر أحمد، فكلّما السلطان فى ذلك فاشتدّ غضبه وأطلق لسانه، فما زالا به حتى سكن غضبه. ورسم من الغد لجميع الأمراء بالسفر، ومن عجز عن السفر يقيم

(10/133)


بالقاهرة، فاشتدّ الأمر على الناس بمصر والشام من كثرة السّخر، وكثر دعاؤهم على السلطان، وتنكّرت قلوب الأمراء، وكثرت الإشاعة بتنكّر السلطان على نائب الشام، وأنّه يريد مسكه حتّى بلغه ذلك، فاحترز على نفسه، وبلغه قتل يوسف ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقوّة عزم السلطان على سفر الحجاز موافقة لأغراض نسائه، فجمع أمراء دمشق، وحلّفهم على القيام معه، وبرز إلى ظاهر دمشق فى نصف جمادى الأولى وأقام هناك وحضر إليه الأمير طرنطاى البشمقدار نائب حمص والأمير أراق الفتّاح نائب صفد والأمير أسندمر نائب حماة والأمير بيدمر البدرى نائب طرابلس، فاجتمعوا جميعا بظاهر دمشق مع عسكر دمشق لخلع الملك الكامل شعبان هذا، وظاهروا بالخروج عن طاعته، وكتب الأمير يلبغا اليحياوى نائب الشام إلى السلطان: بأنى أحد الأوصياء عليك، وأنّ مما قاله السلطان السعيد الشهيد، رحمه الله تعالى، (يعنى عن الملك الناصر) لى وللأمراء فى وصيّته: إذا أقمتم أحدا من أولادى ولم ترضوا بسيرته جرّوا برجله وأخرجوه وأقيموا غيره أحدا «1» ، وأنت أفسدت المملكة وأفقرت الأمراء والأجناد، وقتلت أخاك وقبضت على أكابر أمراء السلطان واشتغلت عن الملك والتهيت بالنساء وشرب الخمر، وصرت تبيع أخباز الأجناد بالفضّة، وذكر له أمورا فاحشة عملها، فقدم كتابه إلى القاهرة فى يوم الجمعة «2» العشرين من جمادى الأولى فلما قرأه السلطان تغيّر تغيّرا كبيرا، وأوقف أرغون العلائى عليه بمفرده، فقال له أرغون العلائى: والله لقد كنت أحسب هذا! وقلت لك فلم تسمع قولى، وأشار عليه بكتمان هذا، وكتب الجواب يتضمّن التلطّف فى القول: وأخرج الأمير منجك اليوسفى على البريد

(10/134)


إليه فى ثانى عشرينه، ليرجعه عما عزم عليه، ويكشف أحوال الأمراء. وكتب السلطان إلى أعمال مصر بإبطال السلطان سفر الحجاز فكثرت القالة بين الناس بخروج نائب الشام عن الطاعة، حتى بلغ ذلك الأمراء والمماليك، فأشار أرغون العلائى على السلطان بإعلام الأمراء الخبر، فطلبوا إلى القلعة، وأخذ رأيهم فوقع الاتفاق على خروج العسكر إلى الشام مع الأمير أرقطاى، ومعه من الأمراء «1» [منكلى بغا] الفخرى أمير جاندار وآق سنقر الناصرىّ وطيبغا المجدىّ وأرغون الكاملى وأمير علىّ ابن طغريل الطّوغانىّ وابن طقزدمر وابن طشتمر وأربعون أمير طبلخاناه، وأربعون أمير عشرة وأربعون مقدّم حلقة، وحملت النفقة إليهم لكلّ مقدّم ألف ألف دينار، ما عدا ثلاثة مقدّمين، لكل مقدّم ثلاثة آلاف دينار. وكتب بإحضار الأجناد من البلاد، فقدم كتاب منجك من الغور «2» بموافقة نوّاب «3» الشام إلى نائب الشام، وأن التجريدة إليه لا تفيد، فإنّه يقول: إن أمراء مصر معه.
ثم قدم كتاب نائب الشام ثانيا، وفيه خطّ الأمير مسعود بن خطير وأمير علىّ بن قراسنقر وقلاوون وحسام الدين البشمقدار يتضمّن أنّك لا تصلح للملك، وإنما أخذته

(10/135)


بالغلبة من غير رضا الأمراء- ثم عدّد ما فعله- ونحن «1» ما بقينا نصغى لك وأنت ما تصغى لنا، والمصلحة أن تعزل نفسك من الملك ليتولّى غيرك، فلمّا سمع السلطان ذلك استدعى الأمراء وحلفهم على طاعته ثم أمرهم بالسفر فخرجوا من الغد وخرج طلب «2» منكلى بغا وبعده أرغون الكاملىّ، فعند ما وصل طلب أرغون إلى تحت القلعة خرجت ريح شديدة ألقت شاليش «3» أرغون الكاملىّ على الأرض، فصاحت العامّة: راحت عليكم يا كامليّة وتطيّروا بأنّهم غير منصورين. ثم أخذ الأمراء المجرّدون فى الخروج شيئا بعد شىء. وقدم حلاوة «4» الأوجاقى يخبر بأنّ منجك ساعة وصوله إلى دمشق قبض عليه الأمير يلبغا نائب الشام وسجنه بقلعة دمشق، فبعث السلطان بالطواشى سرور الزّبنىّ لإحضار أخوى «5» السلطان، وهما أمير حاجّ وأمير حسين فاعتذرا بوعكهما وبعثت أمهاتهما إلى العلائىّ والحجازىّ تسألانهما فى التلطّف مع السلطان فى أمرهما، وبلّغت العلائىّ بعض جوارى زوجته أمّ السلطان بأنها سمعت السلطان وقد سكر وكشف رأسه وهو يقول: «يا إلهى أعطيتنى الملك وملّكتنى آل ملك

(10/136)


وقمارى، وبقى من أعدائى أرغون العلائى وملكتمر الحجازى فمكّنّى منهما حتى أبلغ غرضى منهما» ، فأقلق أرغون العلائى هذا الكلام. ثم دخل على السلطان فى خلوة فإذا هو متغيّر الوجه مفكّر، فبدره بأن قال له: من جاءك من جهة إخوتى، أنت والحجازى؟ فعرّفه أن النساء دخلن عليهما [وطلبن «1» ] أن يكون السلطان طيّب الخاطر عليهما ويؤمّنهما، فإنّهما خائفان، فرد عليه السلطان جوابا جافيا، ووضع يده فى السيف ليضربه به، فقام أرغون عنه لينجو بنفسه، وعرّف الحجازىّ ما جرى له مع السلطان وشكا من فساد السلطنة، فتوحّش خاطرهما، وانقطع أرغون العلائى عن الخدمة وتعلّل، وأخذت الماليك أيضا فى التنكّر على السلطان، وكاتب بعضهم نائب الشام، واتّفقوا بأجمعهم، حتى اشتهر أمرهم، وتحدّث به العامّة وألحّ السلطان فى طلب أخويه «2» ، وبعث قطلوبغا الكركىّ «3» فى جماعة حتى هجموا عليهما ليلا، فقامت النساء ومنعنهم «4» منهما «5» فهمّ أن يقوم بنفسه حتى يأخذهما «6» ، فجىء بهما إليه وقت الظهر من يوم السبت تاسع عشرين جمادى الأولى فأدخلهما إلى موضع ووكّل بهما، وقام العزاء فى الدور السلطانى عليهما، واجتمعت جوارى الملك الناصر محمد بن قلاوون وأولاده، فلما سمع المماليك صياحهنّ هموا بالثورة والركوب للحرب وتعبّوا.
فلمّا كان يوم الاثنين مستهلّ جمادى الآخرة خرج طلب أرقطاى مقدّم العساكر المجرّدين إلى الشام حتّى وصل إلى باب زويلة «7» ووقف هو مع الأمراء

(10/137)


فى الموكب تحت القلعة، وإذا بالناس قد اضطربوا، ونزل الحجازى سائقا يريد إسطبله «1» ، وسبب ذلك أنّ السلطان الملك الكامل جلس بالإيوان على العادة، وقد ثبّت مع ثقاته القبض على الحجازى وأرغون شاه إذا دخلا، وكانا جالسين ينتظران الإذن على العادة، فخرج طغيتمر الدوّادار فى الإذن لهما فأشار لهما بعينه أن اذهبا، وكانا قد بلغهما أنّ السلطان قد تنكّر عليهما، فقاما من فورهما ونزلا إلى إسطبلهما ولبسا بمماليكهما وحواشيهما وركبا وتوجّها إلى قبّة النصر، وبعث لحجازىّ يستدعى آق سنقر من سرياقوس، فما تضحّى النهار حتى اجتمعت أطلاب الأمراء بقبّة النصر، فطلب السلطان عند ذلك أرغون العلائى واستشاره فيما يعمل، فأشار عليه بأن يركب بنفسه إليهم، فركب السلطان بمماليكه وخاصّكيّته ومعه زوج أمّه الأمير

(10/138)


أرغون العلانى المذكور وتمر الموساوىّ وعدّة أخر من الأمراء، والقلوب متغيّرة، ودقّت الكوسات حربيا، ودارت النقباء على أجناد الحلقة والمماليك ليركبوا فركب بعضهم وتخاذل بعضهم؛ وسار السلطان فى جمع كبير من العامّة وهو يسألهم الدعاء فأسمعوه مالا يليق، ودعوا عليه، وسار فى نحو ألف فارس لا غير حتى قابل ملكتمر الحجازىّ وأصحابه من الأمراء والمماليك، فعند المواجهة انسلّ عن السلطان أصحابه، وبقى فى أربعمائة فارس، فبرز له آق سنقر، وساق حتى قارب السلطان وتحدّث معه وأشار عليه بأن ينخلع من السلطنة فأجابه إلى ذلك وبكى، فتركه آق سنقر وعاد إلى الأمراء وعرّفهم بأنه أجاب أن يخلع نفسه، فلم يرض أرغون شاه، وبدر ومعه الأمير قرابغا والأمير صمغار والأمير بزلار والأمير غرلو فى أصحابهم حتى وصلوا إلى السلطان وسيّروا إلى «1» أرغون العلائى ليأتيهم ليأخذوه إلى عند الأمراء فلم يوافق العلائى على ذلك، فهجموا عليه ومزّقوا من كان معه من مماليكه وأصحابه. ثم ضرب واحد منهم أرغون العلائى بدبّوس حتى أرماه عن فرسه إلى الأرض، فضربه الأمير بيبغا أروس «2» بسيف قطع خدّه، فانهزم عند ذلك عسكر السلطان، وفرّ الملك الكامل شعبان إلى القلعة واختفى عند امه روجة الأمير أرغون العلائى، فسار الأمراء إلى القلعة فى جمع هائل وأخرجوا أمير حاج وأمير حسين من سجنهما، وقبّلوا يد أمير حاجّ وخاطبوه بالسلطنة. ثم طلبوا الملك الكامل شعبان من عند أمّه فلم يجدوه فحرّضوا فى طلبه حتى وجدوه مختفيا بين الأزيار، وقد اتّسخت ثيابه من وسخ الأزيار، فأخرجوه بهيئته إلى الرّحبة ثم أدخلوه إلى الدهيشة «3» فقيّدوه وسجنوه حيث كان أخواه «4» مسجونين ووكّل به قرابغا القاسمىّ والأمير صمغار.

(10/139)


ومن غريب الاتفاق أنه كان عمل طعاما لأخويه: أمير حاجّ وحسين حتى يكون غداءهما فى السجن، وعمل سماط السلطان على العادة فوقعت الضّجة، وقد مدّ السّماط، فركب السلطان من غير أكل، فلمّا انهزم وقبض عليه، وأقيم بدله أخوه أمير حاج مدّ السّماط [بعينه «1» له] فأكل منه، وأدخل بطعامه وطعام أخيه أمير حسين إلى الملك الكامل فأكله فى السجن. واستمرّ الملك الكامل المذكور فى السجن إلى يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة قتل وقت الظهر ودفن «2» عند أخيه يوسف ليلة الخميس، فكانت مدّة سلطنته على مصر سنة واحدة وثمانية وخمسين يوما؛ وقال الصّفدىّ: سنة وسبعة عشر يوما «3» .
وكان من أشرّ الملوك ظلما وعسفا وفسقا. وفى أيامه- مع قصر مدّته- خربت بلاد كثيرة لشغفه باللهو وعكوفه على معاقرة الخمور، وسمع الأغانى وبيع الإقطاعات بالبذل «4» ، وكذلك الولايات، حتى إنّ الإقطاع كان يخرج عن صاحبه وهو حىّ بمال لآخر، فإذا وقف من خرج إقطاعه قيل له نعوّض عليك قد أخرجناه لفلان الفلانى. وكان مع هذا كله سفّاكا للدماء، ولو طالت يده لأتلف خلائق كثيرة، وكان سيئ التدبير، يمكّن النساء والطواشيّة من التصرّف فى المملكة والتهتّك

(10/140)


فى النّزه والصيد ولعب الكرة بالهيئات الجميلة وركوب الخيول المسوّمة، مع عدم الاحتشام من غير حجاب من الأمير آخورية والغلمان، ويعجبه ذلك من تهتّكهنّ على الرجال، فشغف لذلك جماعة كثيرة من الجند بحرمه بما يفعلن من ركوب الخيول وغيرها. وكان حريمه إذا نزلن إلى نزهة بلغت الجرّة الخمر إلى ثلاثين «1» درهما، وهذا كلّه مع شرهه وشره حواشيه ونسائه إلى ما فى أيدى الناس من البساتين والرّزق والدواليب ونحوها، فأخذت أمّه معصرة وزير بغداد ومنظرته على بركة الفيل، وأشياء غير ذلك. وحدث فى أيامه أخذ خراج الرّزق وزيادة القانون ونقص الأجائر، وأعيدت فى أيامه ضمان أرباب الملاعيب وعدّة مكوس، وكان يحب لعب الحمام، فلما تسلطن تغالى فى ذلك وقرّب من يكون من أرباب هذا الشأن، ومع هذا الظلم والطمع لم يوجد له من المال سوى مبلغ ثمانين ألف دينار وخمسمائة ألف درهم، إلا أنه كان مهابا شجاعا سيوسا متفقّدا لأحوال مملكته، لا يشغله لهوه عن الجلوس فى المواكب والحكم بين الناس. ولما أمسك وقتل قال فيه الصفدى:
بيت قلاوون سعاداته ... فى عاجل كانت وفى آجل «2» [السريع]
حلّ على أملاكه للرّدى ... دين قد استوفاه بالكامل
*** السنة الأولى من سلطنة الملك الكامل شعبان على مصر وهى سنة ستّ وأربعين وسبعمائة، على أن أخاه الملك الصالح إسماعيل حكم منها إلى رابع

(10/141)


شهر ربيع الآخر، ثم حكم الملك الكامل هذا فى باقيها وفى أشهر من سنة سبع كما سيأتى ذكره.
فيها (أعنى سنة ست وأربعين) توفّى السلطان الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمته. وفيها أيضا توفّى السلطان الملك الأشرف كچك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد خلعه من السلطنة بسنين، وقد تقدّم ذكر سلطنته أيضا ووفاته فى ترجمته.
وتوفّى الأمير سيف الدين طقزدمر بن عبد الله الحموىّ الناصرىّ الساقى بالقاهرة فى مستهل جمادى الآخرة، وكان أصله من مماليك الملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل الأيّوبىّ صاحب حماة، ثم انتقل إلى ملك الملك الناصر محمد بن قلاوون وحظى عنده وجعله ساقيا، ثم رقّاه حتى صار أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية، ثم جعله أمير مجلس وزوّجه بإحدى بناته، وصار من عظماء أمرائه الى أن مات.
و [لمّا «1» ] تسلطن ابنه الملك المنصور أبو بكر استقرّ طقزدمر هذا نائب السلطنة بديار مصر، ووقع له أمور حكيناها فى تراجم السلاطين من بنى الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أن أخرج إلى نيابة حماة. ثم نقل إلى نيابة حلب، ثم إلى نيابة الشام، ثم طلب إلى القاهرة فى سلطنة الملك الكامل هذا فحضر اليها مريضا فى محفّة ومات بعد أيام حسب ما تقدّم. وكان من أجلّ الأمراء «2» وأحسنهم سيرة. كان عاقلا ديّنا سيوسا، عارفا، وهو صاحب الخانقاه «3» بالقرافة والقنطرة «4» خارج القاهرة على الخليج وغير ذلك مما هو مشهور به.

(10/142)


وتوفّى القاضى بدر الدين محمد ابن القاضى محيى الدين [يحيى «1» ] بن فضل الله العمرى الدّمشّقى، كاتب سرّ دمشق فى سادس عشرين شهر رجب بدمشق. وكان كاتبا فاضلا من بيت فضل ورياسة، وقد تقدّم ذكر جماعة من آبائه وأقاربه، ويأتى ذكر جماعة أخر من أقاربه فى محلهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله الأحمدىّ المنصورىّ أمير جاندار فى يوم الثلاثاء ثالث «2» عشر المحرّم، وهو فى عشر الثمانين. وكان أصله من مماليك الملك المنصور قلاوون، وأحد أعيان أمراء الديار المصرية، وهو الذي قوّى عزم قوصون على سلطنة الملك المنصور أبى بكر، وكان جار كسىّ الجنس، تنقّل إلى أن صار من أعيان الأمراء بمصر، ثم ولى نيابة صفد وطرابلس، ثم قدم القاهرة وتولّى أمير جاندار. وكان كريما شجاعا ديّنا قوىّ النفس، لم يركب قطّ إلّا فحلا، ولم يركب حجرة «3» ولا إكديشا فى عمره. وكان له ثروة كبيرة، وطالت أيّامه فى السعادة، وخلّف أملاكا كثيرة، أذهب غالبها جماعة من أوباش ذرّيته بالاستبدال والبيع إلى يومنا هذا.
وتوفّى الأمير بدر الدين چنكلى [بن محمد بن البابا بن چنكلى «4» ] بن خليل ابن عبد الله المعروف بابن البابا العجلىّ أتابك العساكر بالديار المصريّة فى عصر يوم الاثنين سابع [عشر «5» ] ذى الحجّة. وكان أصله من بلاد الروم، طلبه الملك الأشرف خليل بن قلاوون وكتب له منشورا بالإقطاع الذي عيّنه إليه فلم يتّفق حضوره إلّا فى أيّام الملك الناصر محمد بن قلاوون فى سنة أربع وسبعمائة فأمّره وأكرمه،

(10/143)


ولا زال يرقّيه حتى صار يجلس ثانى آقوش نائب الكرك. ثم بعد آقوش جلس چنكلى هذا رأس الميمنة.
قال الشيخ صلاح الدين: وهو من الحشمة والدّين والوقار وعفّة الفرج فى المحلّ الأقصى، ولم يزل معظّما من حين ورد إلى أن مات. وكان ركنا من أركان المسلمين ينفع العلماء والصلحاء والفقراء بماله وجاهه، وكان يتفقّه، ويحفظ ربع العبادات. ويقال: إنّ نسبه يتّصل بإبراهيم بن أدهم رضى الله عنه، قال: وقلت فيه ولم أكتب به إليه:
[السريع]
لا تنس لى يا قاتلى فى الهوى ... حشاشة من حرقى تنسلى
لا ترس لى ألقى به فى الهوى ... سهام عينيك متى ترسلى
لا تخت لى يشرف قدرى به ... إلّا إذا ما كنت بى تختلى
لا چنك «1» لى تضرب أوتاره ... إلّا ثنا يملى على چنكلى
وتوفّى رميثة «2» واسمه منجد بن أبى نمىّ محمد بن أبى سعد حسن بن على بن قتادة ابن أبى غرير إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علىّ ابن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله المحض بن موسى [بن عبد الله «3» ] بن الحسن «4» ابن الحسن بن علىّ بن أبى طالب الحسنىّ المكىّ أمير مكة بها فى يوم الجمعة ثامن ذى القعدة.

(10/144)


وتوفّى الشيخ الإمام فخر الدين أحمد بن الحسين الجاربردى «1» شارح «البيضاوىّ «2» » .
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة تاج الدين أبو الحسن على بن عبد الله [ابن أبى «3» الحسن] ابن أبى بكر الأردبيلىّ الشافعى، مدرّس مدرسة «4» الأمير حسام الدّين طرنطاى المنصورى بالقاهرة. كان فقيها عالما بارعا أفتى ودرّس سنين.

(10/145)


وتوفّى الشيخ المقرئ تقىّ الدين محمد «1» [بن محمد بن على] بن همام ابن راجى الشافعى إمام جامع «2» الصالح خارج باب زويلة ومصنّف «كتاب

(10/146)


سلاح المؤمن «1» » . رحمه الله.
- أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.

(10/147)


[ما وقع من الحوادث سنة 747]
ذكر سلطنة الملك المظفر حاجّى على مصر
السلطان الملك المظفّر زين الدين حاجّى المعروف بأمير حاج ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهو السلطان الثامن عشر من ملوك الترك بالديار المصريّة والسادس من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون. جلس على سرير الملك بعد خلع أخيه الملك الكامل شعبان والقبض عليه فى يوم الاثنين مستهلّ جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة. وكان سجنه أخوه الملك الكامل شعبان كما تقدّم ذكره. فلمّا انهزم الملك الكامل من الأمراء بقبّة النصر ساق فى أربعة مماليك إلى باب السرّ من القلعة، فوجده مغلقا والمماليك بأعلاه، فتلطّف بهم حتّى فتحوه له، ودخل إلى القلعة لقتل أخويه حاجّى هذا ومعه حسين، لأنهما كانا حبسا معا، فلم يفتح له الخدّام الباب فمضى إلى أمّه فاختفى عندها وصعد الأمراء فى أثره إلى القلعة بعد أن قبضوا على الأمير أرغون العلائىّ وعلى الطواشى جوهر السّحرتى اللالا وأسندمر الكاملىّ وقطلوبغا الكركىّ وجماعة أخر، ودخل بزلار وصمغار راكبين إلى باب الستارة «1» وطلبا أمير حاج المذكور، فأدخلهما الخدّام إلى الدهيشة حتى أخرجوه وأخاه من سجنهما، وخاطبا أمير حاجّ فى الوقت بالملك المظفّر. ثم دخل إليه الأمير أرغون شاه، وقبّل له الأرض وقال له: بسم الله اخرج أنت سلطاننا، وسار به وبأخيه حسين إلى الرحبة وأجلسوه على باب الستارة.

(10/148)


ثم طلب شعبان حتّى وجد بين الأزيار وحبسوه حيث كان أخواه، وطلبوا الخليفة والقضاة وفوّض عليه الخلعة الخليفتى، وركب من باب الستارة بأبّهة السلطنة وشعار الملك من باب الستارة إلى الإيوان. وجلس على تخت الملك وحمل المماليك أخاه أمير حسين على أكتافهم إلى الإيوان. ولقّب بالملك المظفّر وقبل الأمراء الأرض بين يديه وحلف لهم أنه لا يؤذى أحدا منهم، ثم حلفوا له على طاعته، وركب الأمير بيغرا البريد وخرج إلى الشام ليبشّر الأمير يلبغا اليحياوىّ نائب الشام ويحلّفه ويحلّف أيضا أمراء الشام للملك المظفّر.
ثم كتب إلى ولاة الأعمال بإعفاء النواحى من المغارم ورماية الشعير والبرسيم.
ثم حمل الأمير أرغون العلائى إلى الإسكندرية. وفى يوم الأربعاء ثالثه قتل الملك الكامل شعبان وقبض على الشيخ علىّ الدوادار، وعلى عشرة من الخدّام الكامليّة، وسلّموا إلى شادّ الدواوين، وسلّم أيضا جوهر السّحرتى وقطلوبغا الكركىّ، وألزموا بحمل الأموال التى أخذوها من الناس فعذّبوا بأنواع العذاب، ووقعت الحوطة على موجودهم. ثم قبض على الأمير تمر الموساوى، وأخرج إلى الشام.
وأمر بأمّ الملك الكامل وزوجاته فأنزلن من القلعة إلى القاهرة، وعرضت جوارى دار السلطان فبلغت عدّتهن خمسمائة جارية ففرّقن على الأمراء، وأحيط بموجود حظيّة الملك الكامل التى كانت أولا حظيّة أخيه الملك الصالح إسماعيل المدعوّة اتفاق وأنزلت من القلعة، وكانت جارية سوداء حالكة السواد، اشترتها ضامنة المغانى بدون الأربعمائة درهم من ضامنة المغانى بمدينة بلبيس، وعلّمتها الضرب بالعود على الأستاذ «1» عبد علىّ العوّاد، فمهرت فيه وكانت حسنة الصوت جيّدة الغناء فقدّمتها لبيت السلطان، فاشتهرت فيه حتى شغف بها الملك الصالح

(10/149)


إسماعيل، فإنه كان يهوى الجوارى السودان وتزوّج بها. ثم لما تسلطن أخوه الملك الكامل شعبان باتت عنده من ليلته، لما كان فى نفسه منها أيام أخيه، ونالت عندهما من الحظّ والسعادة ما لا عرف فى زمانها لامرأة، حتّى إن الكامل عمل لها دائر بيت طوله اثنتان وأربعون ذراعا وعرضه ست أذرع، دخل فيه خمسة «1» وتسعون ألف دينار مصرية، وذلك خارج عن البشخاناه «2» والمخادّ والمساند، وكان لها أربعون بذلة ثياب مرصّعة بالجواهر، وستة عشر «3» مقعد زركش، وثمانون مقنعة، فيها ما قيمته عشرون ألف درهم وأشياء غير ذلك، استولوا على الجميع.
ثم استرجع السلطان جميع الأملاك التى أخذتها حريم الكامل لأربابها. ثم نودى بالقاهرة ومصر برفع الظلامات، ومنع أرباب الملاعيب جميعهم.
وخلع السلطان على علم الدين عبد الله [بن أحمد «4» بن إبراهيم] بن زنبور بانتقاله من وظيفة نظر الدولة «5» إلى نظر الخاصّ «6» عوضا عن فخر الدين «7» بن السعيد، وقبض على

(10/150)


ابن السعيد وخلع على موفّق الدين عبد الله بن إبراهيم باستقراره ناظر الدولة عوضا عن ابن زنبور، وخلع على سعد الدين حربا، واستقر فى استيفاء الدولة عوضا عن ابن الرّيشة «1» .
ثم قدم الأمير بيغرا من دمشق بعد أن لقى الأمير يلبغا اليحياوى نائب الشام، وقد برز إلى ظاهر دمشق يريد السير إلى مصر بالعساكر لقتال الملك الكامل شعبان، فلما بلغه ما وقع سرّ سرورا عظيما زائدا بزوال دولة الملك الكامل، وإقامة أخيه المظفّر حاجّى فى الملك، وعاد يلبغا إلى دمشق وحلف للملك المظفر وحلّف الأمراء على العادة، وأقام له الخطبة بدمشق، وضرب السّكة باسمه، وسير إلى السلطان دنانير ودراهم، وكتب يهنّئ السلطان بجلوسه على تخت الملك، وشكا من نائب حلب ونائب غزة ونائب قلعة دمشق مغلطاى ومن نائب قلعة صفد قرمجى، من أجل أنهم لم يوافقوه على خروجه عن طاعة الملك الكامل شعبان، فرسم السلطان بعزل الأمير طقتمر الأحمدى نائب حلب وقدومه إلى مصر، وكتب باستقرار الأمير بيدمر «2» البدرى نائب طرابلس عوضه فى نيابة حلب، واستقرّ الأمير أسندمر العمرىّ نائب حماة فى نيابة طرابلس، وهذا أوّل نائب انتقل من حماة إلى طرابلس، وكانت قديما حماة أكبر من طرابلس، فلما اتّسع أعمالها صارت أكبر من حماة.
ثم كتب السلطان بالقبض على الأمير مغلطاى نائب قلعة دمشق وعلى قرمجى نائب قلعة صفد. ثم كتب بعزل نائب غزّة، وكان الأمير يلبغا اليحياوىّ لما عاد إلى دمشق بغير قتال عمّر- موضع «3» كانت خيمته عند مسجد القدم- قبّة سمّاها قبّة النصر

(10/151)


التى تعرف الآن بقبّة يلبغا. ثم خلع السلطان على الطواشى عنبر السّحرتى باستقراره مقدّم المماليك السلطانية، كما كان أولا فى دولة الملك الصالح عوضا عن محسن الشّهابى. وخلع على مختصّ الرسولى باستقراره زمام دار، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه.
ثم أنعم السلطان بإقطاع الأمير أرغون العلائى على الأمير أرغون شاه، وأنعم على كلّ من أصلم وأرقطاى بزيادة على إقطاعه، وأنعم على ابن تنكز بإمرة طبلخاناه، وعلى أخيه الصغير بإمرة عشرة.
ثم فى يوم الاثنين خامس [عشر «1» ] جمادى الآخرة أمّر السلطان ثمانية عشر أميرا ونزلوا إلى قبّة المنصوريّة «2» ولبسوا الخلع، وشقّوا القاهرة حتى طلعوا إلى القلعة فكان لهم بالقاهرة يوم مشهود. ثم فى يوم الخميس ثالث شهر رجب خلع السلطان على الأمير أرقطاى باستقراره نائب السلطنة بديار مصر باتفاق الأمراء على ذلك بعد ما امتنع من ذلك تمنعا زائدا، حتى قام الحجازى بنفسه وأخذ السيف، وأخذ أرغون شاه الخلعة ودارت الأمراء حوله، وألبسوه الخلعة على كره منه، فخرج فى موكب عظيم، حتى جلس فى شبّاك دار النيابة، وحكم بين الناس، وأنعم السلطان عليه- بزبادة على إقطاعه- ناحيتى المطريّة «3» والخصوص «4» ، لأجل سماط النيابة. ثم ركب السلطان بعد ذلك ونزل إلى سرياقوس على العادة كلّ سنة، وخلع على الأمير تمربغا العقيلى باستقراره فى نيابة الكرك عوضا عن الأمير قبلاى. ثم عاد السلطان

(10/152)


إلى القلعة، وبعد عوده فى أوّل شهر «1» رمضان مرض السلطان عدّة أيام. ثم فى يوم الاثنين خامس «2» عشرين شهر رمضان خرج الأمير أرغون شاه الأستادار على البريد إلى نيابة صفد، وسبب ذلك تكبّره على السلطان، وتعاظمه عليه وتحكّمه فى الدولة، ومعارضته السلطان فيما يرسم به، وفحشه فى مخاطبة السلطان والأمراء حتّى كرهته النفوس، وعزم السلطان على مسكه فتلطّف به النائب حتّى تركه، وخلع عليه باستقراره فى نيابة صفد، وأخرجه من وقته خشية من فتنة يثيرها، فإنّه كان قد اتفق مع عدّة من المماليك على المخامرة، وأنعم السلطان بإقطاعه على الأمير ملكتمر الحجازى وأعطى ناحية بوتيج «3» زيادة عليه.
ثم فى يوم الأحد أوّل شوّال تزوّج السلطان ببنت الأمير تنكز زوجة أخيه الكامل. وفى آخر شوّال طلبت اتفاق العوّادة إلى القلعة فطلعت بجواريها مع الخدّام وتزوّجها السلطان خفية، وعقد له عليها شهاب الدين أحمد بن يحيى الجوجرى «4»

(10/153)


شاهد «1» الخزانة، وبنى عليها من ليلته، بعد ما جليت عليه، وفرش تحت رجليها ستون شقّة أطلس، ونثر عليها الذهب. ثم ضربت بعودها وغنّت فأنعم السلطان عليها بأربعة فصوص وستّ لؤلؤات، ثمنها أربعة «2» آلاف دينار.
قلت: وهذا ثالث سلطان من أولاد ابن قلاوون تزوّج بهذه الجارية السوداء، وحظيت عنده، فهذا من الغرائب، على أنها كانت سوداء حالكة لا مولّدة، فإن كان من أجل ضربها بالعود وغنائها فيمكن من تكون أعلى منها رتبة فى ذلك وتكون بارعة الجمال بالنسبة إلى هذه. فسبحان المسخّر.
وفى ثانى شوّال «3» أنعم السلطان على الأمير طنيرق مملوك أخيه يوسف بتقدمة ألف بالديار المصريّة دفعة واحدة، نقله من الجنديّة إلى التقدمة لجمال صورته، وكثر كلام المماليك بسبب ذلك. ثم رسم السلطان بإعادة ما كان أخرج عن اتّفاق العوّادة من خدّامها وجواريها، وغير ذلك من الرواتب، وطلب السلطان عبد علىّ العوّاد المغنّى معلّم اتفاق إلى القلعة وغنّى السلطان فأنعم عليه بإقطاع فى الحلقة زيادة على ما كان بيده وأعطاه مائتى دينار وكامليّة حرير بفرو سمّور. وانهمك أيضا الملك المظفّر فى اللذات، وشغف باتفاق حتى شغلته عن غيرها وملكت قلبه، وأفرط فى حبّها، فشقّ ذلك على الأمراء والمماليك وأكثروا من الكلام، حتّى بلغ السلطان، وعزم على مسك جماعة منهم، فما زال به النائب حتى رجع عن ذلك.

(10/154)


ثم خلع السلطان على قطليجا الحموىّ واستقرّ فى نيابة حماة عوضا عن طيبغا المجدى وخلع أيضا على أيتمش عبد الغنى واستقرّ فى نيابة غزّة، وخرجا من وقتهما على البريد، وكتب بإحضار المجدى، فقدم بعد ذلك إلى القاهرة، وخلع عليه باستقراره «1» أستادار عوضا عن أرغون شاه المنتقل إلى نيابة صفد.
وفى يوم أوّل «2» محرم سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ركب السلطان فى أمرائه الخاصّكيّة ونزل إلى الميدان «3» ولعب بالكرة فغلب الأمير ملكتمر الحجازىّ فى الكرة، فلزم الحجازىّ عمل وليمة فعملها فى سرياقوس، ذبح فيها خمسمائة رأس من الغنم وعشرة أفراس، وعمل أحواضا مملوءة بالسكر المذاب، وجمع سائر أرباب الملاهى وحضرها السلطان والأمراء، فكان يوما مشهودا. ثم ركب السلطان وعاد، وبعد عوده قدم كتاب الأمير أسندمر نائب طرابلس يسأل الإعفاء فأعفى. وخلع على الأمير منكلى بغا أمير جاندار واستقرّ فى نيابة طرابلس.
وفى هذا الشهر شكا الناس للسلطان من بعد الماء عن برّ مصر والقاهرة، حتى غلت روايا الماء، فرسم السلطان بنزول المهندسين لكشف ذلك، فكتب تقدير ما يصرف على الجسر مبلغ مائة وعشرين ألف درهم، جبيت من أرباب الأملاك المطلّة على النيل، حسابا عن كل ذراع خمسة عشر درهما، فبلغ قياسها سبعة آلاف ذراع وستمائة ذراع، وقام باستخراج ذلك وقياسه محتسب القاهرة ضياء الدين [يوسف «4» بن أبى بكر محمد الشهيربا] بن خطيب بيت «5» الأبّار.

(10/155)


وفى هذه الأيام توقّفت أحوال الدولة من كثرة رواتب الخدّام والعجائز والجوارى، وأخذهم الرّزق بأرض بهتيم «1» من الضواحى وبأراضى الجيزة وغيرها، بحيث إنه أخذ مقبل الرومى عشرة آلاف فدان.
وفى هذه الأيام رسم السلطان للطواشى مقبل الرومى أن يخرج اتّفاق العوّادة وسلمى والكركيّة حظايا السلطان من القلعة بما عليهن من الثياب، من غير أن يحملن شيئا من الجوهر والزّركش، وأن تقلع عصبة اتفاق عن رأسها ويدعها عنده، وكانت هذه العصبة قد اشتهرت عند الأمراء، وشنعت قالتها، فإنه قام بعملها ثلاثة ملوك الإخوة من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون: الملك الصالح إسماعيل والملك الكامل شعبان والملك المظفّر حاجّى هذا، وتنافسوا فيها واعتنوا بجواهرها حتّى بلغت قيمتها زيادة على مائة ألف دينار مصريّة.
وسبب إخراج اتّفاق وهؤلاء من الدور السلطانيّة أن الأمراء الخاصّكيّة:
قرابغا وصمغار وغيرهما بلغهما إنكار الأمراء الكبار والمماليك السلطانية شدّة شغف السلطان بالنسوة الثلاث المذكورات وانهماكه على اللهو بهنّ، وانقطاعه إليهن بقاعة الدهيشة عن الأمراء وإتلافه الأموال العظيمة فى العطاء لهنّ ولأمثالهن، وإعراضه عن تدبير الملك، وخوّفوه عاقبة ذلك، فتلطّف بهم وصوّب ما أشاروا

(10/156)


به عليه من الإقلاع عن اللهو بالنساء، وأخرجهنّ السلطان وفى نفسه حزازات لفراقهنّ، تمنعه من الهدوء والصبر عنهنّ، فأحب أن يتعوض عنهن بما يلهيه ويسليه، فاختار صنف الحمام، وأنشأ حضيرا «1» على الدهيشة ركّبه على صوارى وأخشاب عالية، وملأه بأنواع الحمام، فبلغ مصروف الحضير خاصّة سبعة «2» آلاف درهم، وبينا السلطان فى ذلك قدم جماعة من أعيان الحلبيين وشكوا من الأمير بيدمر البدرى نائب حلب فعزله السلطان بأرغون شاه نائب صفد، ورسم ألّا يكون لنائب الشام عليه حكم، وأن تكون مكاتباته للسلطان، حمل إليه التقليد الأمير طنيرق.
ثم ورد الخبر باختلال مراكز البريد بطريق الشام، فأخذ من كل أمير مقدّم ألف أربعة أفراس، ومن كل طبلخاناه فرسان، ومن كلّ أمير عشرة فرس واحد، وكشف عن البلاد المرصدة للبريد فوجد ثلاث بلاد منها وقف الملك الصالح إسماعيل، وقف بعضها وأخرج باقيها إقطاعات، فأخرج السلطان عن عيسى «3» بن حسن الهجّان بلدا تعمل فى كل سنة عشرين الف درهم، وثلاثة آلاف إردب غلّة، وجعلها مرصدة لمراكز البريد.
واستمرّ خاطر السلطان موغرا على الجماعة من الأمراء بسبب اتفاق وغيرها، إلى أن كان يوم الأحد تاسع عشر شهر ربيع الأول من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، كانت الفتنة العظيمة التى قتل فيها ملكتمر الحجازىّ وآق سنقر وأمسك بزلار

(10/157)


وصمغار وأيتمش عبد الغنى؛ وسبب ذلك أن السلطان لما أخرج اتّفاق وغيرها، وتشاغل بلعب الحمام صار يحضر إلى الدهيشة الأوباش، ويلعب بالعصا لعب صباح «1» ، ويحضر الشيخ على بن الكسيح مع حظاياه يسخر له وينقل إليه أخبار الناس، فشقّ ذلك على الأمراء وحدّثوا ألجيبغا «2» وطنيرق بأن الحال قد فسد، فعرّفا السلطان ذلك، فاشتدّ حنقه، وأطلق لسانه، وقام إلى السطح وذبح الحمام بيده بحضرتهما، وقال لهما: والله لأذبحنّكم كما ذبحت هذه الطيور، وأغلق باب الدهيشة، وأقام غضبان يومه وليلته، وكان الأمير غرلو «3» قد تمكّن من السلطان فأعلمه السلطان بما وقع، فنال غرلو من الأمراء وهوّن أمرهم عليه، وجسّره على الفتك بهم والقبض على آق سنقر، فأخذ السلطان فى تدبير ما يفعله، وقرّر ذلك مع غرلو. ثم بعث طنيرق فى يوم الأربعاء خامس عشر شهر ربيع الآخر إلى النائب يعرّفه أن قرابغا القاسمىّ وصمغار وبزلار وأيتمش عبد الغنى قد اتّفقوا على عمل فتنة، وعزمى أن أقبض عليهم قبل ذلك، فوعده النائب بردّ الجواب غدا على السلطان فى الخدمة، فلمّا اجتمع النائب بالسلطان أشار عليه النائب بالتثبّت فى أمرهم حتّى يصحّ له ما قيل عنهم.
ثم أصبح فعرّفه السلطان فى يوم الجمعة بأنه صح عنده ما قيل بإخبار بيبغا أرس أنهم تحالفوا على قتله، فأشار عليه النائب أن يجمع بينهم وبين بيبغا أرس، حتى يحاققهم بحضرة

(10/158)


الأمراء يوم الأحد، وكان الأمر على خلاف هذا، فإنّ السلطان كان اتّفق مع غرلو وعنبر السّحرتى مقدّم المماليك على مسك آق سنقر وملكتمر الحجازى فى يوم الأحد.
فلمّا كان يوم الأحد تاسع عشر ربيع الآخر «1» المذكور حضر الأمراء والنائب إلى الخدمة على العادة بعد العصر ومدّ السماط؛ وإذا بالقصر قد ملئ بالسيوف المسلّلة من خلف آق سنقر والحجازى، وأحيط بهما وبقرابغا، وأخذوا إلى قاعة هناك، فضرب ملكتمر الحجازىّ بالسيوف وقطّع «2» هو وآق سنقر قطعا، وهرب صمغار وأيتمش عبد الغنى، فركب صمغار فرسه من باب القلعة، وفرّ إلى القاهرة، واختفى أيتمش عند زوجته، وخرجت الخيل وراء صمغار حتى أدركوه خارج القاهرة؛ وأخذ أيتمش من داره فارتجّت القاهرة، وغلّقت الأسواق وأبواب القلعة، وكثر «3» الإرجاف إلى أن خرج النائب والوزير قريب المغرب، وطلبا الوالى ونودى بالقاهرة، فاشتهر ما جرى بين الناس، وخاف كلّ أحد من الأمراء على نفسه.
ثمّ أمر «4» السلطان بالقبض على مرزة علىّ وعلى محمد بن بكتمر الحاجب وأخيه وعلى أولاد أيدغمش [وأولاد «5» قمارى، وأخرجوا الجميع إلى الإسكندرية هم وبزلار وأيتمش] وصمغار، لأنهم كانوا من ألزام الحجازى ومعاشريه، فسجنوا بها، وأخرج آق سنقر وملكتمر الحجازى فى ليلة الاثنين العشرين من شهر ربيع الآخر على جنويّات «6» فدفنا «7» بالقرافة. وأصبح الأمير شجاع الدين غرلو وجلس فى دست عظيم، ثم ركب

(10/159)


وأوقع الحوطة على بيوت الأمراء المقتولين والممسوكين وعلى أموالهم، وطلع بجميع خيولهم إلى الإسطبل السلطانىّ، وضرب عبد العزيز الجوهرى صاحب آق سنقر وعبد المؤمن أستاداره بالمقارع، وأخذ منهما مالا جزيلا، فخلع السلطان على الأمير غرلو قباء من ملابسه بطرز زركش عريض، وأركبه فرسا من خاصّ خيل الحجازى بسرج ذهب وكنبوش زركش.
ثم خلا به يأخذ رأيه فيما يفعل فأشار عليه بأن يكتب إلى نوّاب الشام بما جرى، ويعدّد لهم ذنوبا كثيرة، حتى قبض عليهم، فكتب إلى الأمير يلبغا اليحياوىّ نائب الشام على يد الأمير آق سنقر المظفّرى أمير جاندار، فلما بلغ يلبغا الخبر كتب الجواب يستصوب ما فعله فى الظاهر، وهو فى الباطن غير ذلك، وعظم عليه قتل الحجازى وآق سنقر إلى الغاية. ثم جمع يلبغا أمراء دمشق بعد يومين بدار السعادة «1» وأعلمهم الخبر، وكتب إلى النّوّاب بذلك، وبعث الأمير ملك آص إلى حمص وحماة وحلب، وبعث الأمير طيبغا القاسمىّ إلى طرابلس.
ثم انتقل فى يوم الجمعة «2» مستهلّ جمادى الأولى إلى القصر بالميدان فنزل به، ونزل ألزامه حوله بالميدان، وشرع فى الاستعداد للخروج عن طاعة الملك المظفّر هذا.

(10/160)


وأما السلطان الملك المظفّر فإنه أخذ بعد ذلك يستميل المماليك السلطانيّة بتفرقة المال فيهم، وأمّر منهم جماعة، وأنعم على غرلو بإقطاع أيتمش عبد الغنى وأصبح غرلو هو المشار إليه فى المملكة، فعظمت نفسه إلى الغاية.
ثم أخرج السلطان ابن طقزدمر على إمرة طبلخاناه بحلب وأنعم بتقدمته على الأمير طاز، وتولّى غرلو بيع قماش الأمراء وخيولهم، وصار السلطان يتخوّف من النوّاب بالبلاد الشامية إلى أن حضرت أجوبتهم بتصويب ما فعله، فلم يطمئنّ بذلك، ورسم بخروج تجريدة إلى البلاد الشامية، فرسم فى عاشر جمادى الأولى بسفر سبعة أمراء من المقدّمين بالديار المصريّة، وهم الأمير طيبغا المجدىّ وبلك الجمدار والوزير نجم الدين محمود بن شروين وطنغرا وأيتمش الناصرى الحاجب وكوكاى والزّرّاق ومعهم مضافوهم من الأجناد، وطلب الأجناد من النواحى، وكان وقت إدراك المغلّ، فصعب ذلك على الأمراء، وارتجّت القاهرة بأسرها لطلب السلاح وآلات السفر.
ثم كتب السلطان إلى أمراء دمشق ملطّفات على أيدى النّجّابة بالتيقّظ بحركات الأمير يلبغا اليحياوىّ نائب الشام. ثم أشار النائب على السلطان بطلب يلبغا ليكون بمصر نائبا أو رأس مشورة فإن أجاب وإلّا أعلم «1» بأنه قد عزل عن نيابة الشام بأرغون شاه نائب حلب، فكتب السلطان فى الحال يطلبه على يد أراى أمير آخور، وعند سفر أراى قدمت كتب نائب طرابلس ونائب حماة ونائب صفد على السلطان بأنّ يلبغا دعاهم للقيام معه على السلطان لقتل الأمراء، وبعثوا بكتبه إليه فكتب السلطان لأرغون شاه نائب حلب أن يتقدّم لعرب آل مهنّا بمنسك الطرقات على يلبغا وأعلمه أنّه ولّاه نيابة الشام عوضه، فقام أرغون شاه فى ذلك أتمّ قيام،

(10/161)


وأظهر ليلبغا أنه معه، ولما وصل إلى يلبغا أراى أمير آخور فى يوم الأربعاء سادس جمادى الأولى ودعاه إلى مصر ليكون رأس أمراء المشورة، وأن نيابة الشام أنعم بها السلطان على الأمير أرغون شاه نائب حلب، ظنّ يلبغا أن استدعاءه حقيقة، وقرأ كتاب السلطان فأجاب بالسمع والطاعة، وأنّه إذا وصل أرغون شاه إلى دمشق توجّه هو إلى مصر، وكتب الجواب بذلك، وأعاده سريعا، فتحلّلت عند ذلك عزائم أمراء دمشق وغيرها عن يلبغا، وتجهّز يلبغا وخرج إلى الكسوة «1» ظاهر دمشق فى خامس عشره، وكانت ملطّفات السلطان قد وردت إلى أمراء دمشق بإمساكه، فركبوا على حين غفلة وقصدوه ففرّ منهم بمماليكه وأهله وهم فى أثره إلى خلف ضمير «2» . ثم سار فى البرّيّة يريد أولاد تمرداش ببلاد الشرق، حتى نزل على حماة بعد أربعة أيام وخمس ليال، فركب الأمير قطيلجا نائب حماة بعسكره فتلقّاه ودخل به إلى المدينة وقبض عليه وعلى من كان معه من الأمراء، وهم الأمير قلاوون والأمير سيفة والأمير محمد بك بن جمق وأعيان مماليكه وكتب للسلطان بذلك، فقدم الخبر بذلك على السلطان فى جمادى الأولى أيضا، فسرّ سرورا زائدا، ورسم فى الوقت بإبطال التجريدة. ثم كتب بحمل يلبغا اليحياوى المذكور إلى مصر.
ثم بدا للسلطان غير ذلك وهو أنه أخرج الأمير منجك اليوسفىّ السّلاح دار بقتله، فسار منجك حتى لقى آقجبا [الحموى «3» ] ومعه يلبغا اليحياوى وأبوه «4» بقاقون فنزل منجك بقاقون، وصعد بيلبغا اليحياوى إلى قلعة قاقون وقتله بها فى يوم الجمعة

(10/162)


عشرين جمادى الأولى، وحزّ رأسه وحمله إلى السلطان. قال الشيخ صلاح الدين الصفدى: «وكان يلبغا حسن الوجه مليح الثغر «1» أبيض اللّون، طويل القامة من أحسن الأشكال، قلّ أن ترى العيون مثله، كان ساقيا، وكانت الإنعامات التى تصل إليه من السلطان لم يفرح بها أحد قبله. كان يطلق له الخيل بسروجها وعددها وآلاتها الزّركش والذهب المصوغ خمسة عشر فرسا والأكاديش ما بين مائتى رأس فينعم بها عليه، وتجهّز إليه الخلع والحوائص وغير ذلك من التشاريف التى يرسم له بها خارجة عن الحدّ. وبنى له الإسطبل الذي فى سوق الخيل تجاه القلعة» .
قلت: والإسطبل المذكور كان مكان مدرسة السلطان حسن الآن، اشتراه السلطان حسن وهدمه وبنى مكانه مدرسته المعروفة به. وقد سقنا ترجمته أى يلبغا اليحياوىّ بأوسع من هذا فى تاريخنا «المنهل الصافى» إذ هو كتاب تراجم. انتهى.
وفى يوم الأحد خامس عشرين جمادى الأولى المذكور أخرج السلطان الوزير نجم الدين محمودا والأمير بيدمر البدرى نائب حلب كان، والأمير طغيتمر النجمى الدوادار إلى الشام؛ وسببه أن الأمير شجاع الدين غرلو لمّا كان شادّ الدواوين قبل تاريخه حقد على الوزير نجم الدين المذكور وعلى طغيتمر الدوادار، فحسّن للسلطان أحذ أموالهما، فقال السلطان للنائب عنهما وعن بيدمر أنهم كانوا يكاتبون يلبغا فأشار عليه النائب بإبعادهم، وأن يكون الوزير نجم الدين نائب غزّة وبيدمر نائب حمص وطغيتمر نائب طرابلس، فأخرجهم السلطان على البريد، فلم يعجب غرلو ذلك، وأكثر عند السلطان من الوقيعة فى الأمير أرقطاى النائب حتّى غيّر السلطان عليه، وما زال به حتّى بعث السلطان بأرغون الإسماعيلى إلى نائب غزّة بقتلهم

(10/163)


فدخل أرغون معهم إلى غزّة بعد العصر وعرّف النائب ما جاء بسببه، فقبض عليهم نائب غزّة وقتلهم فى ليلته، وعاد أرغون وعرّف السلطان الخبر، فتغيّر قلب الأمراء ونفر خواطرهم فى الباطن من السلطان وميله إلى غرلو، وتمكّن غرلو من السلطان وأخذ أموال من قتل، وتزايد أمره واشتدّت وطأته، وكثر إنعام السلطان عليه حتّى إنه لم يكن يوم إلا وينعم عليه فيه بشىء. ثم أخذ غرلو فى العمل على علم الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاصّ «1» ؛ وعلى القاضى علاء الدين علىّ بن فضل الله العمرى كاتب السّر. وصار يحسّن للسلطان القبض عليهما «2» وأخذ أموالهما، فتلطّف النائب بالسلطان فى أمرهما حتى كفّ عنهما، فلم يبق بعد ذلك أحد من أهل الدولة حتّى خاف «3» من غرلو وصار يصانعه بالمال حتى يسترضيه «4» . ثم حسّن غرلو للسلطان قتل الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، فتوجّه الطواشى مقبل الرومى بقتلهم فقتل الأمير أرغون العلائى وقرابغا القاسمى وتمر الموساوىّ وصمغار وأيتمش عبد الغنى، وأفرج عن أولاد قمارى وأولاد أيدغمش وأخرجوا إلى الشام. واستمرّ السلطان على الانهماك فى لهوه، فصار يلعب فى الميدان تحت القلعة بالكرة فى يومى الأحد والثلاثاء، ويركب إلى الميدان «5» الذي على النيل فى يوم السبت.
فلمّا كان آخر ركوبه إلى الميدان رسم السلطان بركوب الأمراء المقدّمين بمضافيهم «6» ووقوفهم صفّين من الصّليبة إلى فوق القلعة «7» ليرى السلطان عسكره، فضاق الموضع، فوقف كلّ مقدّم بخمسة من مضافيه، وجمعت أرباب الملاهى، ورتّبت

(10/164)


فى عدّة أماكن من القلعة إلى الميدان. ثم ركبت أمّ السلطان فى جمعها، وأقبل الناس من كلّ جهة، فبلغ كراء كلّ طبقة مائة درهم، وكلّ بيت كبير لنساء الأمراء مائتى درهم، وكلّ حانوت خمسين درهما، وكلّ موضع إنسان بدرهمين. فكان يوم لم يعهد فى ركوب الميدان مثله.
ثم فى يوم الخميس خامس عشره «1» قبض السلطان الملك المظفّر هذا على أعظم أمرائه ومدبّر مملكته الأمير شجاع الدين غرلو وقتله، وسبب ذلك أمور: منها شدّة كراهية الأمراء له لسوء سيرته، فإنه كان يخلو بالسلطان، ويشير عليه بما يشتهيه، فما كان السلطان يخالفه فى شىء، وكان عمله أمير سلاح فخرج عن الحدّ فى التعاظم، وجسّر السلطان على قتل الأمراء، وقام فى حقّ النائب أرقطاى يريد القبض عليه وقتله، واستمال المماليك الناصريّة والصالحيّة والمظفّريّة بكمالهم، وأخذ يقرّر مع السلطان، أن يفوّض إليه أمور المملكة بأسرها ليقوم عنه بتدبيرها، ويتوفّر السلطان على لذاته.
ثم لم يكفه ذلك، حتّى أخذ يغرى السلطان بألجيبغا وطنيرق وكانا أخصّ الناس بالسلطان، ولا زال يمعن فى ذلك حتى تغيّر السلطان عليهما، وبلغ ذلك ألجيبغا، وتناقلته المماليك فتعصّبوا عليه وأرسلوا إلى الأمراء الكبار، حتى حدّثوا السلطان فى أمره، وخوّفوه عاقبته، فلم يعبأ السلطان بقولهم، فتنكّروا بأجمعهم على السلطان بسبب غرلو إلى أن بلغه ذلك عنهم من بعض ثقاته، فاستشار النائب فى أمر غرلو المذكور، فلم يشر عليه فى أمره بشىء، وقال للسلطان: لعلّ الرجل قد كثرت حسّاده على تقريب السلطان له، والمصلحة التثبّت فى أمره. وكان أرقطاى النائب عاقلا سيوسا، يخشى من معارضته غرض السلطان فيه، فاجتهد ألجيبغا وعدّة من الخاصّكيّة فى التدبير عليه وتخويف السلطان منه ومن سوء عاقبته، حتى أثّر قولهم فى نفس

(10/165)


السلطان، وأقاموا الأمير أحمد شادّ الشرابخاناه، وكان مزّاحا للوقيعة فيه، فأخذ أحمد شاق الشرابخاناه فى خلوته مع السلطان يذكر كراهية الأمراء لغرلو وموافقة المماليك له، وأنه يريد أن يدبّر المملكة ويكون نائب السلطنة ليتوثّب بذلك على المملكة «1» ويصير سلطانا، ويخرج له قوله هذا فى وجه المسخريه «2» والضحك، وصار أحمد المذكور يبالغ فى ذلك على عدة فنون من الهزل، إلى أن قال السلطان: أنا الساعة أخرجه وأعمله أمير آخور، فمضى أحمد شادّ الشربخاناه إلى النائب وعرّفه مما وقع فى السّر، وأنه جسّر السلطان على الوقيعة فى غرلو، فبعث السلطان وراء النائب أرقطاى واستشاره فى أمر غرلو ثانيا فأثنى عليه النائب وشكره، فعرف السلطان كثرة وقيعة الخاصّكيّة فيه، وأنه قصد أن يعمله أمير آخور، فقال النائب: غزلو رجل شجاع جسور «3» لا يليق أن يعمل أمير آخور، فكأنّه أيقظ السلطان من رقدته بحسن عبارة وألطف إشارة، فأخذ السلطان فى الكلام معه بعد ذلك فيما يوليه! فأشار عليه النائب بتوليته نيابة غزّة، فقبل السلطان ذلك، وقام عنه النائب، فأصبح السلطان بكرة يوم الجمعة وبعث الأمير طنيرق إلى النائب أن يخرج غرلو إلى نيابة غزّة، فلم يكن غير قليل حتى طلع غرلو على عادته إلى القلعة وجلس على باب القلّة، فبعث النائب يطلبه، فقال: مالى عند النائب شغل وما لأحد معى حديث غير أستاذى، فأرسل النائب يعرّف السلطان جواب غرلو فأمر السلطان مغلطاى أمير شكار وجماعة من الأمراء أن يعرّفوا غرلو عن السلطان أن يتوجّه إلى غزّة، وإن امتنع يمسكوه، فلما صار غرلو بداخل القصر لم يحدّثوه بشىء، وقبضوا عليه وقيّدوه وسلّموه لألجيبغا فأدخله إلى بيته

(10/166)


بالأشرفية «1» ، فلمّا خرج السلطان لصلاة الجمعة على العادة قتلوا غرلو وهو فى الصلاة، وأخذ السلطان بعد عوده من الصلاة يسأل عنه، فنقلوا عنه أنه قال: أنا ما أروح مكانا، وأراد سلّ سيفه وضرب الأمراء به فتكاثروا عليه فما سلّم نفسه حتى قتل، فعزّ قتله على السلطان، وحقد عليهم لأجل قتله، ولم يظهر لهم ذلك، ورسم بإيقاع الحوطة على حواصله. وكان لموته يوم مشهود.
ثم أخرج بغرلو المذكور ودفن بباب القرافة، فأصبح وقد خرجت يده من القبر «2» ، فأتاه الناس أفواجا ليروه ونبشوا عليه وجرّوه بحبل فى رجله إلى تحت القلعة، وأتوا بنار ليحرقوه وصار لهم ضجيج عظيم، فبعث السلطان عدّة من الأوجاقية قبضوا على كثير من العامة، فضربهم الوالى بالمقارع وأخذ منهم غرلو المذكور ودفنه. ولم يظهر لغرلو المذكور كثير مال.
قلت: ومن الناس من يسمّيه «أغزلو» بألف مهموزة وبعدها غين معجمة مكسورة وزاى ساكنة ولام مضمونة وواو ساكنة. ومعنى أغزلو باللغة التركية: «له فم» وقد ذكرناه نحن أيضا فى المنهل الصافى فى حرف الهمزة، غير أن جماعة كثيرة ذكروه «غرلو» فاقتدينا بهم هنا وخالفناهم هناك، وكلاهما اسم باللغة التركية. انتهى.
وكان غرلو هذا أصله من مماليك الحاجّ بهادر العزّى، وخدم بعده عند بكتمر السّاقى وصار أمير آخوره، ثم خدم بعد بكتمر عند بشتك، وصار أمير آخوره أيضا.
ثم ولى بعد ذلك ناحية (أشمون «3» ) ، ثم ولى نيابة الشّوبك «4» . ثم ولى القاهرة، وأظهر العفّة

(10/167)


والأمانة، وحسنت سيرته، ثم تقرّب عند الملك الكامل شعبان، وفتح له باب الأخذ فى الولايات والإقطاعات، وعمل لذلك ديوانا قائم الذات، سمّى ديوان البدل «1» ، فلما تولّى الصاحب تقىّ الدين بن مراحل الوزر شاححه فى الجلوس والعلامة، فترجّح الصاحب تقي الدين وعزل غرلو هذا عن شدّ الدواوين، ودام على ذلك إلى أن كانت نوبة السلطان الملك المظفّر كان غرلو هذا ممن قام معه، لما كان فى نفسه من الكامل من عزله عن شد الدواوين، وضرب فى الوقعة أرغون العلائى بالسيف فى وجهه، وتقرّب من يوم ذاك إلى الملك المظفّر، حتى كان من أمره ما حكيناه.
ثم خرج السلطان الملك المظفّر بعد قتله إلى سرياقوس على العادة وأقام بها أياما، ثم عاد وخلع على الأمير منجك اليوسفى السلاح دار باستقراره حاجبا بدمشق عوضا عن أمير على بن طغريل. وأنعم السلطان على اثنى عشر من المماليك السلطانية بإمريات ما بين طبلخاناه وعشرة وأنعم بتقدمة الأمير منجك السّلاح دار على بعض خواصّه.
وفى يوم مستهلّ شعبان خرج الأمير طيبغا المجدى والأمير أسندمر العمرىّ والأمير بيغرا والأمير أرغون الكاملى والأمير بيبغا أرس والأمير بيبغا ططر إلى الصيد. ثم خرج الأمير أرقطاى النائب بعدهم إلى الوجه القبلىّ بطيور السلطان، ورسم السلطان لهم ألّا يحضروا إلى العشر الأخير من شهر رمضان، فخلا الجو للسلطان، وأعاد حضير الحمام وأعاد أرباب الملاعيب من الصّراع والثقاف والشباك، وجرى السّعاة، ونطاح الكباش، ومناقرة الدّيوك، والقمار، وغير ذلك من أنواع الفساد. ونودى بإطلاق اللعب بذلك بالقاهرة [ومصر «2» ] وصار للسلطان

(10/168)


اجتماع بالأوباش وأراذل الطوائف من الفراشين والبابية «1» ومطيّرى الحمام، فكان السلطان يقف معهم ويراهن على الطير الفلانى والطيرة الفلانيّة؛ وبينما هو ذات يوم معهم عند حضير الحمام، وقد سيّبها إذ أذّن العصر بالقلعة والقرافة فجفلت الحمام عن مقاصيرها وتطايرت فغضب وبعث إلى المؤذّنين يأمرهم أنهم إذا رأوا الحمام لا يرفعون أصواتهم. ويلعب مع العوامّ بالعصىّ وكان السلطان إذا لعب مع الأوباش يتعرّى ويلبس تبّان «2» جلد ويصارع معهم ويلعب بالرّمح والكرة، فيظلّ نهاره مع الغلمان والعبيد فى الدهيشة، وصار يتجاهر بما لا يليق به أن يفعله.
ثم أخذ مع ذلك كلّه فى التدبير على قتل أخيه حسين، وأرصد له عدّة خدّام ليهجموا عليه عند إمكان الفرصة ويغتالوه، فبلغ حسينا ذلك فتمارص واحترس على نفسه فلم يجدوا منه غفلة.
ثم فى سابع عشر شعبان توفّى الخليفة أبو الربيع سليمان، وبويع بالخلافة ابنه أبو بكر ولقّب بالمعتصم بالله أبى الفتح. وفى آخر شعبان قدم الأمراء من الصيد شيئا بعد شىء وقد بلغهم ما فعله السلطان فى غيبتهم، وقدم ابن الحرّانى من دمشق بمال يلبغا اليحياوى فتسلّمه الخدّام، وأنعم السلطان من ليلته على حظيّته «كيدا» من المال بعشرين ألف دينار، سوى الجواهر واللآلئ ونثر الذهب على الخدّام والجوارى، فاختطفوه وهو يضحك، وفرّق على لعّاب الحمام والفراشين والعبيد الذهب واللؤلؤ، وهو يحذفه عليهم وهم يترامون عليه ويأخذوه بحيث إنه لم يدع من مال يلبغا سوى

(10/169)


القماش، فكان جملة التى فرّقها ثلاثين ألف دينار وثلثمائة ألف درهم، وجواهر وحليّا ولؤلؤا وزركشا ومصاغا، قيمته زيادة على ثمانين ألف دينار، فعظم ذلك على الأمراء، وأخذ ألجيبغا وطنيرق يعرّفان السلطان ما ينكره عليه الأمراء من لعب الحمام وتقريب الأوباش، وخوّفاه فساد الأمر، فغضب وأمر آقجباشاد والعمائر بخراب حضير الحمام، ثم أحضر الحمام وذبحهم واحدا بعد واحد بيده وقال لألجيبغا وطنيرق:
والله لأذبحنّكم كلّكم كما ذبحت هذا الحمام وتركهم وقام، وفرق جماعة من خشداشيّة ألجيبغا طنيرق فى البلاد الشامية، واستمرّ على إغراضه عن الجميع، ثم قال لحظاياه وعنده معهن الشيخ على بن الكسيح: والله ما بقى يهنأ لى عيش وهذان الكذّابان بالحياة (يعنى بذلك عن ألجيبغا وطنيرق) فقد فسدا علىّ جميع ما كان لى فيه سرور، واتّفقا علىّ، ولابدّ لى من ذبحهما، فنقل ذلك ابن الكسيح لألجيبغا فإن ألجيبغا هو الذي أوصله إلى السلطان، وقال: مع ذلك خذ لنفسك فو الله لا يرجع عنك وعن طنيرق، فطلب ألجيبغا طنيرق وعرّفه ذلك، فأخذا فى التدبير عليه فى الباطن [وأخذ فى التدبير عليهما «1» ] ، وخرج الأمير بيبغا أرس للصيد بالعبّاسة «2» ، فإنه كان صديقا لألجيبغا وتنمّر السلطان على طنيرق واشتدّ عليه وبالغ فى تهديده، فبعث طنيرق وألجيبغا إلى الأمير طشتمر طلليه «3» ، وما زالا به حتّى وافقهما ودارا على الأمراء، وما منهم إلا من نفرت نفسه من السلطان الملك المظفّر، وتوقّع به أنه يفتك به، فصاروا معهما يدا واحدة لما فى نفوسهم. ثم كلّموا النائب فى موافقتهم وأعلموه

(10/170)


أنه يريد القبض عليه، وكان عنده أيضا حسّ من ذلك، وأكثروا من تشجيعه.
حتى وافقهم وأجابهم، وتواعدوا جميعا فى يوم الخميس تاسع شهر رمضان على الركوب على السلطان فى يوم الأحد ثانى عشر شهر رمضان
فبعث السلطان فى يوم السبت يطلب بيبغا أرس من العبّاسة، وقد قرّر مع الطواشى عنبر مقدّم المماليك أن يعرّف المماليك السلاح دارّية أن يقفوا خلفه فإذا دخل بيبغا أرس، وقبّل الأرض ضربوه بالسيوف وقطعوه قطعا، فعلم بذلك ألجيبغا، وبعث إليه يعلمه مما دبّره السلطان عليه من قتله ويعرّفه بما وقع اتفاق الأمراء عليه، وأنه يوافيهم بكرة يوم الأحد على قبّة النصر، فاستعدوا ليلتهم ونزل ألجيبغا من القلعة، وتلاه بقيّة الأمراء، حتى كان آخرهم ركوبا الأمير أرقطاى نائب السلطنة، وتوافوا بأجمعهم عند مطعم «1» الطير، وإذا ببيبغا أرس قد وصل إليهم، فعبّوا «2» أطلابهم ومماليكهم ميمنة وميسرة، وبعثوا فى طلب بقية الأمراء، فما ارتفع النهار حتى وقفوا بأجمعهم ملبسين «3» عند قبّة النصر، وبلغ السلطان ذلك، فأمر بضرب الكوسات فدقّت، وبعث الأوجاقية فى طلب الأمراء فجاءه طنيرق وشيخون وأرغون الكاملى وطاز ونحوهم من الأمراء الخاصّكيّة. ثم بعث المقدّمين فى طلب أجناد الحلقة فحضروا.

(10/171)


ثم أرسل السلطان يعتب النائب على ركوبه فردّ جوابه بأن مملوكك الذي ربّيته ركب عليك (يعنى عن ألجيبغا) وأعلمنا فساد نيّتك لنا، وقد قتلت مماليك أبيك وأخذت أموالهم، وهتكت حريمهم بغير موجب، وعزمت على الفتك بمن بقى، وأنت أوّل من حلف أنك لا تخون الأمراء ولا تخرّب بيت أحد، فردّ الرسول إليه يستخبره عمّا يريدوه الأمراء من السلطان حتّى يفعله لهم، فعاد جوابهم أنه لا بدّ أن يسلطنوا غيره، فقال: ما أموت إلّا على ظهر فرسى، فقبضوا على رسوله وهمّوا بالزّحف عليه، فمنعهم النائب أرقطاى من ذلك حتى يكون القتال أوّلا من السلطان، فبادر السلطان بالركوب إليهم وأقام أرغون الكاملى وشيخون فى الميمنة، ثم أقام عدّة أمراء أخر فى الميسرة، وسار بمماليكه حتّى وصل إلى قريب قبّة النصر، فكان أول من تركه ومضى إلى القوم الأمير طاز ثم الأمير أرغون الكاملى ثم الأمير ملكتمر السعدى ثم الأمير شيخون وانضافوا الجميع إلى النائب أرقطاى والأمراء، وتلاهم بقيّتهم حتى جاء الأمير طنيرق والأمير لاچين أمير جاندار صهر السلطان آخرهم، وبقى السلطان فى نحو عشرين فارسا، فبرز له الأمير بيبغا أرس والأمير ألجيبغا فولّى السلطان فرسه وانهزم عنهم فتبعوه وأدركوه وأحاطوا به، فتقدّم إليه بيبغا أرس فضربه السلطان بالطّبر، فأخذ بيبغا الضربة بترسه. ثم حمل عليه بالرّمح وتكاثروا عليه حتى قلعوه من سرجه وضربه طنيرق بالسيف جرح وجهه وأصابعه. ثم ساروا به على فرس غير فرسه محتفظين به إلى تربة «1» آق سنقر الرومى تحت الجبل وذبحوه من ساعته قبيل عصر يوم الأحد ثانى عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، ودفن بتربة أمّه،

(10/172)


ولما أنزلوه وأرادوا ذبحه قال لهم: بالله لا تستعجلوا علىّ، خلونى ساعة، فقالوا:
كيف استعجلت أنت على قتل الناس! لو صبرت عليهم صبرنا عليك فذبحوه.
وقيل: إنّهم لما أنزلوه عن فرسه كتّفوه وأحضروه بين يدى النائب أرقطاى ليقتله، فلما رآه النائب نزل عن فرسه وترجّل ورمى عليه قباءه وقال: أعوذ بالله، هذا سلطان ابن سلطان ما أقتله! فأخذوه ومضوا إلى الموضع الذي ذبحوه فيه، وفيه يقول الشيخ صلاح الدين الصفدى: [الخفيف]
أيها العاقل اللبيب تفكّر ... فى المليك المظفّر الضّرغام
كم تمادى فى البغى والغىّ حتى ... كان لعب الحمام جدّ الحمام
وفيه يقول: [المجتث]
حان الرّدى للمظفّر ... وفى التراب تعفّر
كم قد أباد أميرا ... على المعالى توفّر
وقاتل النفس ظلما ... ذنوبه ما تكفّر
ثم صعد الأمراء القلعة من يومهم، ونادوا فى القاهرة بالأمان والاطمئنان وباتوا بالقلعة ليلة الاثنين، وقد اتّفقوا على مكاتبة نائب الشام والأمير أرغون شاه بما وقع، وأن يأخذوا رأيه فيمن يقيموه سلطانا فأصبحوا وقد اجتمع المماليك على إقامة حسين ابن الملك الناصر محمد عوضا عن أخيه المظفّر فى السلطنة ووقعت بين حسين وبينهم مراسلات فقام المماليك فى أمره فقبضوا الأمراء على عدّة منهم ووكّلوا الأمير طاز بباب حسين، حتّى لا يجتمع به أحد من جهة المماليك، وأغلقوا باب القلعة، واستمرّوا بآلة الحرب يومهم وليلة الثلاثاء «1» ، وقصد المماليك إقامة الفتنة، فحاف الأمراء تأخير السلطنة حتى يستشيروا نائب الشام أن يقع من المماليك مالا يدرك فارطه، فوقع اتّفاقهم عند ذلك على حسن فسلطنوه فتمّ أمره.

(10/173)


وكانت مدّة سلطنة الملك المظفّر هذا على مصر سنة واحدة وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما. وكان المظفّر أهوج سريع الحركة، عديم المداراة، سيّئ التدبير، يؤثر صحبة الأوباش على أرباب الفضائل والأعيان، وكان فيه ظلم وجبروت وسفك للدماء، قتل فى مدة سلطنته مع قصرها خلائق كثيرة من الأمراء وغيرهم وكان مسرفا على نفسه، يحبّ لعب الحمام وغيره، ويحسن فنونا كثيرة من الملاعيب، كالرمح والكرة والصّراع والثّقاف وضرب السيف، مع شجاعة وإقدام من غير تثبّت فى أموره.
قلت: وبالجملة هو أسوأ سيرة من جميع إخوته ممن تسلطن قبله من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون، على أن الجميع غير نجباء وحالهم كقول القائل:
«عجيب نجيب من نجيب» ؛ اللهم إن كان السلطان حسن الآتى ذكره، فهو لا بأس به. انتهى.
*** السنة التى حكم فى أوّلها الملك الكامل شعبان إلى سلخ جمادى الأولى، ثم حكم فى باقيها الملك المظفّر حاجى صاحب الترجمة وهى سنة سبع وأربعين وسبعمائة.
فيها توفى الأمير بهاء الدين أصلم بن عبد الله الناصرى أحد أمراء الألوف بالديار المصرية فى يوم السبت عاشر شعبان؛ وإليه ينسب جامع «1» أصلم خارج القاهرة

(10/174)


بسوق الغنم. وكان أصله من مماليك الملك المنصور قلاوون «1» وكان من خواصّ الملك الناصر محمد وقبض عليه وحبسه سنين، ثم أطلقه، وكان من أعيان الأمراء، وتولّى عدّة ولايات بالبلاد الشامية وغيرها حسب ما تقدّم ذكره فيما مضى، طالت أيامه فى السعادة والإمرة حتى صار من أمراء المشورة.
وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين الحاج آل ملك الجوكندار، ثم نائب السلطنة بالديار المصرية مقتولا بالإسكندرية فى أيام الملك الكامل شعبان، وأحضر ميتا إلى القاهرة فى يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة. وأصله من كسب الأبلستين فى الأيام الظاهريّة بيبرس فى سنة ست وسبعين وستمائة، واشتراه قلاوون وهو أمير ومعه سلّار النائب، فأنعم بسلار على ولده علىّ، وأنعم بآل ملك هذا على ولده الآخر.
وقيل قدّمه لصهره الملك السعيد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس، فأعطاه الملك السعيد لكوندك «2» وقيل غير ذلك. وترقّى آل ملك فى الخدم إلى أن صار من جملة

(10/175)


أمراء الديار المصرية. وتردّد للملك الناصر محمد بن قلاوون فى الرسليّة لمّا كان بالكرك من جهة الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير، فأعجب الملك الناصر عقله وكلامه.
فلمّا أن عاد الملك الناصر إلى ملكه رقّاه وولّاه الأعمال الجليلة إلى أن ولى نيابة السلطنة بديار مصر فى دولة الملك الصالح إسماعيل. فلمّا ولى الملك الكامل شعبان أخرجه لنيابة صفد. ثم طلبه وقبض عليه وقتله بالإسكندرية، وقد ذكرنا من أحواله نبذة كبيرة فى عدّة تراجم فلا حاجة لتكرار ذلك، إذ ليس هذا المحلّ محلّ الإطناب إلا فى تراجم ملوك مصر فقط، ومن عداهم يكون على سبيل الاختصار.
وآل ملك هذا هو صاحب الدار «1» العظيمة بالقرب من باب مشهد الحسين- رضى الله عنه- وله هناك مدرسة «2» أيضا تعرف به، وهو صاحب الجامع «3» بالحسينية. وكان

(10/176)


خيرا ديّنا عفيفا مثريا، كان يقول: كلّ أمير لا يقيم رمحه ويسكب الذهب حتى يساوى السّنان ما هو أمير.
وتوفّى الأمير سيف الدين قمارى بن عبد الله الناصرى أخو بكتمر الساقى مقتولا، وقد ولى نيابة طرابلس والأستادارية بديار مصر، وكان من أعيان الأمراء الناصرية مشهورا بالشجاعة والإقدام، وهو غير قمارى أمير شكار، وكلاهما «1» من الأمراء الناصرية.
وتوفّى الأمير سيف الدين ملكتمر بن عبد الله السّرجوانىّ نائب الكرك فى يوم الاثنين مستهلّ المحرّم خارج القاهرة، وقد قدمها من الكرك مريضا، وكان من أعيان الأمراء، وتولّى عدّة ولايات، لا سيما نيابة الكرك، فإنّه وليها غير مرّة.
قلت: وغالب هؤلاء الأمراء ذكرنا من أحوالهم فى عدّة مواطن من تراجم ملوك مصر ما يستغنى عن ذكره ثانيا هنا.
وتوفّى ملك تونس من بلاد الغرب أبو بكر «2» بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى ابن عبد الواحد فى ليلة الأربعاء ثامن شهر رجب، بعد ما ملك تونس نحوا من ثلاثين سنة، وتولّى بعده ابنه أبو حفص عمر، وكان أبو بكر هذا من أجلّ ملوك الغرب، وطالت أيامه فى السلطنة، وله مواقف فى العدوّ «3» مشهودة. رحمه الله تعالى.
وتوفّى القاضى تاج الدين «4» محمد بن الخضر بن عبد الرحمن بن سليمان المصرى كاتب سرّ دمشق فى ليلة الجمعة تاسع شهر ربيع الآخر. وكان كاتبا فاضلا باشر عدّة وظائف.

(10/177)


وتوفى الأمير سيف الدين طقتمر «1» بن عبد الله الصلاحىّ نائب حمص بها. وكان من أعيان أمراء مصر. وقد مرّ ذكره أيضا فى تراجم أولاد الملك الناصر محمد ابن قلاوون.
وتوفى الشيخ شمس الدين محمد «2» بن محمد بن محمد [بن نمير] بن السراج بن نمير بن السراج فى شعبان؛ وكان كاتبا فاضلا مقرئا، وعنده مشاركة فى فنون.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 748]
السنة الثانية من ولاية الملك المظفّر حاجّى على مصر، وهى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، على أنه قتل فى شهر رمضان منها، وحكم فى باقيها أخوه السلطان الملك الناصر حسن.
فيها توفى الأمير شمس الدين آق سنقر بن عبد الله الناصرى مقتولا بقلعة الجبل، وقد تقدّم ذكر قتله أن الملك المظفّر حاجّيّا أمر بالقبض على آق سنقر وعلى الحجازى بالقصر، ثم قتلا من ساعتهما تهبيرا بالسيوف فى يوم الأحد تاسع عشر شهر ربيع الآخر، وكان آق سنقر هذا اختصّ به أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون وزوّجه إحدى بناته وجعله أمير شكار، ثم أمير آخور، ثم نائب غزّة، وأعيد بعد موت الناصر فى أيام الملك الصالح إسماعيل ثانيا واستقرّ أمير آخور على عادته، ثم ولى نيابة طرابلس مدّة، ثم أحضر إلى مصر فى أيام الملك الكامل

(10/178)


شعبان، وعظم قدره، ودبّر الدولة فى أيام الملك المظفّر حاجىّ. ثم ثقل عليه وعلى حواشيه فوشوا به وبملكتمر حتى قبض عليهما وقتلهما فى يوم واحد.
وكان آق سنقر أميرا جليلا كريما شجاعا عارفا مدبّرا. وإليه ينسب جامع «1» آق سنقر

(10/179)


بخط التّبانة «1» خارج القاهرة بالقرب من باب الوزير «2» .
وتوفّى الأمير سيف الدين بيدمر «3» البدرى مقتولا بغزة فى أوّل جمادى الآخرة، وهو أيضا أحد المماليك الناصرية وترقى إلى أن ولى نيابة حلب. وقد تقدّم ذكر مقتله فى ترجمة الملك المظفر حاجى. وإليه تنسب المدرسة «4» البيدمرية قريبا من مشهد الحسين رضى الله عنه.

(10/180)


وتوفّى قاضى القضاة «1» عماد الدين علىّ بن محيى الدين أحمد بن عبد الواحد بن عبد المنعم بن عبد الصمد الطّرسوسىّ الحنفى الدمشقى قاضى قضاة دمشق بها، عن تسع وسبعين سنة تقريبا، بعد ما ترك القضاء لولده وانقطع بداره للعبادة، إلى أن مات فى يوم الاثنين ثامن عشرين ذى الحجة. وكان منشؤه بدمشق، وقرأ الخلاف على الشيخ بهاء الدين «2» بن النحّاس، والفرائض على أبى العلاء «3» ، وتفقّه على جماعة من علماء عصره، وبرع فى عدّة علوم وأفتى ودرّس بعدّة مدارس. وكان كثيرة التلاوة سريع القراءة، قيل إنه كان يقرأ القرآن فى التروايح كاملا فى أقلّ من ثلاث ساعات بحضور جماعة من القرّاء. وتولّى قضاء دمشق بعد قاضى القضاة صدر «4» الدين على الحنفىّ فى سنة سبع وعشرين وسبعمائة وحمدت سيرته. وكان أوّلا ينوب عنه فى الحكم. رحمه الله تعالى.

(10/181)


وتوفّى قاضى قضاة المالكية وشيخ الشيوخ بدمشق شرف الدين محمد بن أبى بكر ابن ظافر بن عبد الوهاب الهمدانىّ «1» فى ثالث المحرّم عن ثلاث وسبعين سنة. وكان فقيها عالما صوفيّا.
وتوفّى الشيخ الإمام الحافظ المؤرّخ صاحب التصانيف المفيدة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز [بن عبد الله «2» التّركمانىّ الأصل الفارقىّ] الذهبىّ الشافعىّ- رحمه الله تعالى- أحد الحفّاظ المشهورة فى ثالث ذى القعدة.
ومولده فى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وستمائه، وسمع الكثير ورحل البلاد، وكتب وألّف وصنّف وأرّخ وصحّح وبرع فى الحديث وعلومه، وحصّل الأصول وانتقى، وقرأ القراءات السبع على جماعة من مشايخ القراءات. استوعبنا مشايخه ومصنّفاته فى تاريخنا «المنهل الصافى» مستوفاة. ومن مصنفاته: «تاريخ الإسلام» وهو أجل كتاب نقلت عنه فى هذا التاريخ. وقال الشيخ صلاح الدين الصفدىّ- بعد ما أثنى عليه- قال: «وأخذت عنه وقرأت عليه كثيرا من تصانيفه، ولم أجد عنده جمودة المحدّثين، ولا كودنة «3» النّقلة، بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات، وأعجبنى منه ما يعنيه فى تصانيفه، ثم إنه لا يتعدّى حديثا يورده حتى يبيّن ما فيه من ضعف متن، أو ظلام إسناد، أو طعن فى روايته، وهذا لم أر غيره يراعى هذه الفائدة» . وأنشدنى من لفظه لنفسه مضمّنا، وهو تخيّل جيّد إلى الغاية: [وافر]

(10/182)


إذا قرأ الحديث علىّ شخص ... وأخلى موضعا لوفاة مثلى
فما جازى بإحسان لأنّى ... أريد حياته ويريد قتلى
وتوفى الأمير الوزير نجم الدين محمود [بن على «1» ] بن شروين المعروف بوزير بغداد مقتولا بغزّة مع الأمير بيدمر البدرىّ فى جمادى الآخرة. وكان قدم من بغداد إلى القاهرة فى دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون، فلمّا سلّم على السلطان وقبّل الأرض ثم قبّل يده حطّ فى يد السلطان حجر «2» بلخش، زنته أربعون درهما، قوّم بمائتى ألف درهم، فأمّره السلطان وأعطاه تقدمة ألف بديار مصر. ثم ولى الوزر غير مرّة إلى أن أخرجه الملك المظفّر حاجّىّ إلى غزّة، وقتله بها هو وبيدمر البدرىّ وطغيتمر الدوادار، وكان- رحمه الله- عاقلا سيوسا كريما محسنا مدبّرا، محمود الاسم والسيرة فى ولاياته، وهو ممّن ولى الوزر شرقا وغربا، وهو صاحب الخانقاه بالقرافة بجوار تربة كافور الهندىّ.
وتوفى الشيخ الإمام البارع المفتّن قوام الدين مسعود بن محمد «3» بن محمد بن سهل الكرمانى الحنفى بدمشق، وقد جاوز الثمانين سنة. وكان إماما بارعا فى الفقه والنحو

(10/183)


والأصلين واللغة، وله شعر وتصانيف، وسماه الحافظ عبد القادر فى الطبقات مسعود بن إبراهيم.
وتوفّى الأمير سيف الدين ملكتمر بن عبد الله الحجازىّ الناصرىّ قتيلا فى تاسع عشر شهر ربيع الآخر مع الأمير آق سنقر المقدّم ذكره. وكان أصل الحجازى من مماليك شمس الدين «1» أحمد بن يحيى بن محمد بن عمر الشّهرزورىّ البغدادى، فبذل فيه الملك الناصر محمد زيادة على مائة ألف درهم، حتى ابتاعه له منه المجد السلامىّ بمكة لمّا حجّ الشهرزورىّ، وقدم به على الناصر، فلم ير بمصر أحسن منه ولا أظرف فعرف بالحجازى، وحظى عند الملك الناصر، حتى جعله من أكابر الأمراء وزوّجه بإحدى بناته «2» . وكان فيه كلّ الخصال الحسنة، غير أنه كان مسرفا على نفسه منهمكا فى اللذّات، مدمنا على شرب الخمر، فكان مرتّبه منه فى كل يوم خمسين رطلا.
ولم يسمع منه فى سكره وصحوه كلمة فحش، ولا توسّط بسوء أبدا، هذا مع سماحة النفس والتواضع والشجاعة والكرم المفرط، والتجمّل فى ملبسه ومركبه وحواشيه.
وقد تقدّم كيفية قتله فى ترجمة الملك المظفّر هذا.
وتوفى الأمير طغيتمر بن «3» عبد الله النجمى الدوادار، صاحب الخانقاة «4» النجمية خارج باب المحروق من القاهرة مقتولا بغزّة مع بيدمر البدرىّ ووزير بغداد المقدّم

(10/184)


ذكرهما. وكان طغتمر من أجل أمراء مصر، وكان عارفا عاقلا كاتبا وعنده فضيلة ومشاركة. وكان مليح الشكل.
وتوفى الأمير سيف الدين يلبغا اليحياوىّ الناصرىّ نائب الشام مقتولا بقلعة قاقون، تقدّم ذكر قتله فى ترجمة الملك المظفّر هذا. وكان يلبغا هذا أحد من شغف به أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون، وعمّر له الدار «1» العظيمة التى موضعها الآن مدرسة «2» السلطان حسن تجاه القلعة. ثم جعله أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية. ثم ولى بعد موت الملك الناصر حماة وحلب والشام. وعمّر بالشام الجامع المعروف بجامع يلبغا بسوق الخيل، ولم يكمّله، فكمّل بعد موته. وكان حسن الشكالة، شجاعا كريما، بلغ إنعامه فى كلّ سنة على مماليكه فقط مائة وعشرين فرسا وثمانين حياصة ذهب. وعاش أبوه بعده، وكان تركىّ الجنس، وتقلب فى هذه السعادة، ومات وسنه نيّف «3» على عشرين سنة.
وتوفى الأمير أرغون بن عبد الله العلائىّ قتيلا بالإسكندرية، وكان أرغون أحد المماليك الناصرية، رقّاه الملك الناصر محمد فى خدمته، وزوّجه أمّ ولديه:
الصالح «4» إسماعيل والكامل شعبان، وعمله لا لا لأولاده، فدبّر الدولة فى أيام ربيبه

(10/185)


الملك الصالح إسماعيل أحسن تدبير. ثم قام بتدبير ربيبه أيضا الملك الكامل شعبان، حتى قتل شعبان لسوء سيرته وأرغون ملازمه، فقبض على أرغون المذكور بعد الهزيمة وسجن بالإسكندرية إلى أن قتله الملك المظفّر حاجّىّ فيمن قتل، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه مفصّلا فى وقته. وأرغون هذا هو صاحب الخانقاه بالقرافة.
وكان عاقلا عارفا مدبرا سيوسا كريما، ينعم فى كل سنة بمائتين وثلاثين فرسا، ومبلغ أربعين ألف دينار. قال الشيخ صلاح الدين الصّفدى: وعظمت حرمته لما دبّر المملكة وكثرت أرزاقه وأملاكه، وصار أكبر «1» من النوّاب بالديار المصرية، وهو باق على وظيفته رأس نوبة الجمدارية، وجنديته إلى آخر وقت.
قلت: وهذا الذي ذكره صلاح الدين من العجب، كونه يكون مدبّر مملكتى الصالح والكامل، وهو غير أمير. انتهى.
وتوفّى جماعة من الأمراء بسيف السلطان الملك المظفّر حاجّىّ، منهم: الأمير أيتمش عبد الغنىّ والأمير تمر الموساوى الساقى والأمير قرابغا والأمير صمغار، الجميع بسجن الإسكندريّة، وهم من المماليك الناصرية محمد بن قلاوون، وقتل أيضا بقلعة الجبل الأمير غرلو فى خامس «2» عشرين جمادى الاخرة، وقد تقدّم التعريف بحاله عند قتله فى ترجمة الملك المظفّر حاجّىّ. وكان جركسىّ الجنس، ولهذا كان جمع الجراكسة على الملك المظفر حاجّىّ، لأنهم من جنسه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.

(10/186)


ذكر سلطنة الملك الناصر حسن الأولى على مصر
السلطان الملك الناصر بدر الدين وقيل ناصر الدين أبو المعالى حسن. واللّقب الثانى أصحّ، لأنه أخذ كنية أبيه، ولقبه وشهرته، ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، وأمّه أمّ ولد ماتت عنه وهو صغير، فتولّى تربيته خوند أردو، وكان أوّلا يدعى قمارى واستمرّ بالدور السلطانيّة إلى أن كان من أمر أخيه الملك المظفّر حاجّىّ ما كان. وطلبت المماليك أخاه حسينا للسلطنة، فقام الأمراء بسلطنة حسن هذا، وأجلسوه على تخت الملك بالإيوان فى يوم الثلاثاء، رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعماية، وركب بشعار السلطنة وأبّهة الملك. ولمّا جلس على تخت الملك لقّبوه بالملك الناصر سيف الدين قمارى، فقال السلطان حسن للنائب أرقطاى: يا أبت ما اسمى قمارى، إنما اسمى حسن، فاستلطفه الناس لصغر سنّه ولذكائه، فقال له:
النائب: يا خوند- والله- إن هذا اسم حسن، حسن على خيرة الله تعالى.
فصاحت الجاووشيّة فى الحال باسمه وشهرته وتمّ مره، وحلف له الأمراء على العادة. وعمره يوم سلطنته إحدى عشرة سنة، وهو السلطان التاسع عشر من ملوك الترك بالديار المصريّة، والسابع من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون.
وفى يوم الأربعاء خامس عشره اجتمع الأمراء بالقلعة وأخرج لهم الطواشى دينار الشّبلىّ المال من الخزانة، ثم طلب الأمراء خدّام الملك المظفّر وعبيده، ومن كان يعاشره من الفرّاشين ولعاب الحمام، وسلّموا لشادّ الدواوين على حمل ما أخذوه من الملك المظفّر من الأموال، فأظهر بعض الخدّام حاصلا تحت يده من الجوهر واللؤلؤ، ما قيمته زيادة على مائة ألف دينار، وتفاصيل حرير، وبذلات زركش بمائة ألف دينار أخرى.

(10/187)


وفى يوم الخميس قبض على الأمير أيدمر الزرّاق والأمير قطز أمير آخور والأمير بلك الجمدار، وأخرج قطز لنيابة صفد، وقطعت أخباز عشرين خادما وخبز عبد علىّ العوّاد المغنى وخبز إسكندر بن بدر الدين كتيلة الجنكىّ، ثم قبض ايضا على الطواشى عنبر السّحرتى مقدّم المماليك، وعلى الأمير آق سنقر أمير جندار، ثم عرضت المماليك أرباب الوظائف وأخرج منهم جماعة، وأحيط بمال «كيدا» حظيّة الملك المظفر التى أخذها بعد اتّفاق السوداء العوّادة وأموال بقية الحظايا وأنزلن من القلعة، وكتبت أوراق بمرتبات الخدّام والعبيد والجوارى فقطعت كلّها.
وكان أمر المشورة فى الدولة والتدبير لتسعة أمراء: بيبغا أرس القاسمىّ وألجيبغا المظفّرى وشيخون العمرىّ وطاز الناصرىّ وأحمد شادّ الشراب خاناه وأرغون الاسماعيلىّ وثلاثة أخر، فاستقر الأمير شيخون رأس نوبة كبيرا وشارك فى تدبير المملكة، واستقر الأمير مغلطاى أمير آخور عوضا عن الأمير قطز، ثم رسم بالإفراج عن الأمير بزلار من سجن الإسكندريّة، ثمّ جهّزت التشاريف لنوّاب البلاد الشامية، وكتب لهم بما وقع من أمر الملك المظفّر وقتله، وسلطنة الملك الناصر حسن وجلوسه على تخت الملك.
ثمّ اتّفقوا الأمراء على تخفيف الكلف السلطانيّة، وتقليل المصروف بسائر الجهات، وكتبت أوراق بما على الدولة من الكلف، وأخذ الأمراء فى بيع طائفة الجراكسة من المماليك السلطانية، وقد كان الملك المظفّر حاجّىّ قرّبهم إليه بواسطة غرلو وجلبهم من كلّ مكان، وأراد أنّ ينشئهم على الأتراك، وأدناهم إليه حتى عرفوا بين الأمراء بكبر عمائمهم، وقوى أمرهم وعملوا كلفتات خارجة عن الحدّ فى الكبر، فطلبوا الجميع وأخرجوهم منفيّين خروجا فاحشا وقالوا: هؤلاء جيعة النفوس كثيرو الفتن.

(10/188)


ثم قدم كتاب نائب الشام الأمير أرغون شاه يتضمن موافقته للأمراء ورضاءه بما وقع، وغضّ من الأمير فخر الدين إياس نائب حلب، وكان الأمير أرقطاى النائب قد طلب من الأمراء أن يعفوه من النيابة ويولّوه بلدا من البلاد فلم يوافقوه الأمراء على ذلك، فلمّا ورد كتاب نائب الشام يذكر فيه أنّ إياس يصغر عن نيابة حلب، فإنّه لا يصلح لها إلّا رجل شيخ كبير القدر، له ذكر بين الناس وشهرة، فعند ذلك طلب الأمير أرقطاى النائب نيابة حلب، فخلع عليه بنيابة حلب فى يوم الخميس خامس شوّال، واستقرّ عوضه فى نيابة السلطنة بالديار المصرية الأمير بيبغا أرس أمير مجلس وخلع عليهما معا، وجلس بيبغا أرس فى دست النيابة وجلس أرقطاى دونه بعد ما كان قبل ذلك أرقطاى فى دست النيابة وبيبغا دونه.
وفى يوم السبت سابعه قدم الأمير منجك اليوسفىّ السلاح دار حاجب دمشق وأخو بيبغا أرس من الشام، فرسم له بتقدّمه ألف بديار مصر وخلع عليه واستقرّ وزيرا وأستادارا، وخرج فى موكب عظيم والأمراء بين يديه، فصار حكم مصر للأخوين: بيبغا أرس ومنجك السلاح دار.
ثمّ فى يوم الثلاثاء عاشر شوّال خرج الأمير أرقطاى الى نيابة حلب، وصحبته الأمير كشلى «1» الإدريسىّ مسفّرا.
ثم إنّ الأمير منجك اشتدّ على الدواوين، وتكلّم فيهم حتى خافوه بأسرهم، وقاموا له بتقادم هائلة، فلم يمض شهر حتّى أنس بهم، واعتمد عليهم فى أموره كلّها، وتحدّث منجك فى جميع أقاليم مصر ومهدّ أمورها.
ثم قدم سيف الأمير فخر الدين إياس نائب حلب بعد القبض عليه فخرج مقيّدا وحبس بالإسكندرية «2» .

(10/189)


ثم تراسل المماليك الجراكسة مع الأمير حسين ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على أن يقيموه سلطانا فقبض على أربعين منهم، وأخرجوا على الهجن مفرّقين الى البلاد الشاميّة. ثم قبض على ستّة منهم وضربوا تجاه الإيوان من القلعة ضربا مبرّحا، وقيّدوا وحبسوا بخزانة شمائل.
ثم عملت الخدمة بالإيوان، واتفقوا على أنّ الأمراء إذا انفضّوا من خدمة الإيوان، دخل أمراء المشورة والتدبير إلى القصر دون غيرهم من بقيّة الأمراء، ونفذوا الأمور على اختيارهم من غير أن يشاركهم أحد من الأمراء فى ذلك، فكانوا إذا حضروا الخدمة بالإيوان خرج الأمير منكلى بغا الفخرىّ والأمير بيغرا والأمير بيبغا ططر والأمير طيبغا المجدىّ والأمير أرلان وسائر الأمراء فيمضوا على حالهم، إلا أمراء المشورة وهم، الأمير بيبغا أرس النائب والأمير شيخون العمرىّ رأس نوبة النّوب «1» والأمير طاز «2» والأمير الوزير منجك اليوسفىّ السلاح دار والأمير ألجيبغا المظفّرىّ والأمير طنيرق فإنهم يدخلون القصر، وينفّذون أحوال المملكة بين يدى السلطان بمقتضى علمهم وحسب اختيارهم.
وفى هذه السنة استجدّ بمدينة حلب قاض مالكىّ وقاض حنبلىّ، فولى قضاء المالكية بها شهاب الدين أحمد بن ياسين الربّاحىّ «3» ، وتولى قضاء الحنابلة بها شرف الدين أبو البركات «4» موسى بن فيّاض، ولم يكن بها قبل ذلك مالكىّ ولا حنبلىّ، وذلك فى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.

(10/190)


وفى يوم الثلاثاء أوّل المحرّم سنة تسع وأربعين وسبعمائة، قبض على الشيخ علىّ الكسيح نديم الملك المظفّر حاجّىّ، وضرب بالمقارع والكسّارات ضربا عظيما، وقلعت أسنانه وأضراسه شيئا بعد شىء فى عدّة أيام، ونوّع له العذاب أنواعا حتى هلك، وكان بشع المنظر، له حدبة فى ظهره وحدبة فى صدره، كسيحا لا يستطيع القيام، وإنما يحمل على ظهر غلامه، وكان يلوذ بألجيبغا المظفّرىّ، فعرّف به ألجيبغا الملك المظفّر حاجّيّا فصار يضحّكه، وأخرج المظفر حرمه عليه، وعاقره الشّراب، فوهبته الحظايا شيئا كثيرا. ثم زوّجه الملك المظفر بإحدى حظاياه، وصار يسأله عن الناس فنقل له أخبارهم على ما يريد، وداخله فى قضاء الأشغال، فخافه الأمراء وغيرهم خشية لسانه، وصانعوه بالمال حتى كثرت أمواله، بحيث إنه كان إذا دخل خزانة الخاصّ، لا بدّ أن يعطيه ناظر الخاصّ منها له شيئا له قدر، ويدخل عليه ناظر الخاصّ حتى يقبله منه، وإنه إذا دخل الى النائب أرقطاى استعاذ أرقطاى من شرّه، ثمّ قام له وترحّب به وسقاه مشروبا، وقضى شغله الذي جاء بسببه وأعطاه ألف درهم من يده واعتذر له، فيقول للنائب: هأنا داخل الى ابنى السلطان وأعرّفه إحسانك الىّ، فلما دالت دولة الملك المظفّر عنى به ألجيبغا، الى أن شكاه عبد العزيز العجمىّ أحد أصحاب الأمير آق سنقر على مال أخذه منه، لمّا قبض عليه غرلو بعد قتل آق سنقر حتى خلّصه منه، فتذكّره أهل الدولة وسلّموه الى الوالى، فعاقبه واشتدّ عليه الوزير منجك حتى أهلكه.
وفى المحرّم هذا وقعت الوحشة ما بين النائب بيبغا أرس وبين شيخون، ثمّ دخل بينهما منجك الوزير حتى أصلح ما بينهما.
ثمّ فى يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الأوّل عزل الأمير منجك عن الوزارة، وسببه أنّ ابن زنبور قدم من الإسكندرية بالحمل على العادة، فوقع الاتّفاق على

(10/191)


تفرقنه على الأمراء، فحمل الى النائب منه ثلاثة آلاف دينار، وإلى شيخون ثلاثة آلاف دينار، وللجماعة من الأمراء كلّ واحد ألفا دينار، وهم بقيّة أمراء المشورة، ولجماعة الأمراء المقدّمين كلّ واحد ألف دينار، فامتنع شيخون من الأخذ وقال:
أنا ما يحلّ لى أن آخذ من هذا شيئا. ثم قدم حمل قطيا وهو مبلغ سبعين ألف درهم، وكانت قطيا قد أرصدت لنفقة المماليك، فأخذ الوزير منجك منها أربعين ألف درهم، وزعم أنّها كانت له قرضا فى نفقة المماليك، فوقفت المماليك الى الأمير شيخون وشكوا الوزير بسببها، فحدّث الوزير فى ردّ ما أخذه فلم يفعل، وأخذ فى الحطّ على ابن زنبور ناظر الخواصّ، وأنه يأكل المال جميعه، وطلب إضافة نظر الخاصّ له مع الوزارة والأستادارية وألحّ فى ذلك عدّة أيّام، فمنعه شيخون من ذلك، وشدّ من ابن زنبور وقام بالمحاققة عنه، وغضب بحضرة الأمراء فى الخدمة، فمنع النائب منجك من التحدّث فى الخاصّ وانفضّ المجلس، وقد تنكّر كلّ منهما [على «1» الاخر] وكثرت القالة بالركوب على النائب ومنجك حتى بلغهما ذلك، فطلب النائب الإعفاء من النيابة وإخراج أخيه منجك من الوزارة، وأبدأ وأعاد حتى كثر الكلام ووقع الاتفاق على عزل منجك من الوزارة، واستقراره أستادارا على حاله وشادّا على عمل الجسور فى النيل. وطلب أسندمر العمرىّ المعروف برسلان بصل من كشف الجسور ليتولّى الوزارة، فحضر وخلع عليه فى يوم الاثنين رابع عشرينه.
[وفيه «2» أخرج] الأمير أحمد شادّ الشراب خاناه الى نيابة صفد؛ وسبب ذلك أنه كان كبر فى نفسه وقام مع المماليك على الملك المظفّر حاجّىّ حتى قتل، ثم أخذ

(10/192)


فى تحريك الفتنة واتفق مع ألجيبغا وطنيرق على الركوب فبلغ بيبغا أرس النائب الخبر فطلب الإعفاء، وذكر ما بلغه وقال: إنّ أحمد صاحب فتن ولا بدّ من إخراجه من بيننا فطلب أحمد وخلع عليه وأخرج من يومه.
ثمّ فى يوم الأربعاء سادس عشرين ربيع الأوّل أنعم على الأمير منجك اليوسفى بتقدمة أحمد شادّ الشراب خاناه. ثمّ فى الغد يوم الخميس امتنع النائب من الركوب فى الموكب وأجاب بأنه ترك النيابة، فطلب إلى الخدمة وسئل عن سبب ذلك فذكر أنّ الأمراء المظفّرية تريد إقامة الفتنة وتبيّت خيولهم فى كل ليلة مشدودة، وقد اتفقوا على مسكه، وأشار لألجيبغا وطنيرق فأنكرا ما ذكر النائب عنهما، فحاققهما الأمير أرغون الكاملىّ أنّ ألجيبغا واعده بالأمس على الركوب فى غد وقت الموكب ومسك النائب ومنجك، فعتب عليهما الأمراء فاعتذرا بعذر غير مقبول، وظهر صدق ما نقله النائب، فخلع على ألجيبغا بنيابة طرابلس وعلى طنيرق بإمرة فى دمشق وأخرجا من يومهما، فقام فى أمر طنيرق صهره الأمير طشتمر طلليه حتى أعفى من السفر وتوجّه ألجيبغا إلى طرابلس فى ثامن شهر ربيع الآخر من السنة بعد ما أمهل أياما، واستمرّ منجك معزولا إلى أن أعيد إلى الوزر فى يوم الاثنين خامس عشر شهر ربيع الآخر «1» باستعفاء أسندمر العمرى لتوقّف أحوال الوزارة.
وفيه أيضا أخرج من الأمراء المظفّرية لاچين العلائىّ وطيبغا المظفّرىّ ومنكلى بغا المظفّرىّ وفرّقوا ببلاد الشام.
ثم قدمت تقدمة الأمير أرغون شاه نائب الشام زيادة عما جرت به العادة، وهى مائة وأربعون فرسا بعبىّ تدمرية «2» فوقها أجلّة «3» أطلس، ومقاود سلاسلها فضة،

(10/193)


ولواوين «1» بحلق فضّة، وأربعة قطر هجن بمقاود حرير، وسلاسل فضّة وذهب، وأكوارها «2» مغشّاة بذهب، وأربعة كنابيش «3» ذهب عليها ألقاب السلطان، وتعابى قماش مبقّجة «4» من كلّ صنف؛ ولم يدع أحدا من الأمراء المقدّمين ولا من أرباب الوظائف حتى الفرّاش ومقدّم الإسطبل ومقدّم الطبلخاناة والطبّاخ، حتى بعث إليهم هديّة، فخلع على مملوكه عدّة خلع وكتب إليه بزيادة على إقطاعه، ورسم له بتفويض حكم الشام جميعه إليه، يعزل ويولّى من يختار.
وفيه أنعم على خليل بن قوصون بإمرة طبلخاناه، وأنعم أيضا على ابن المجدى بإمرة طبلخاناه، وأنعم على أحد أولاد منجك الوزير بإمرة مائة وتقدمة ألف
ثم فى ثالث ذى الحجة أخرج طشبغا الدّوادار إلى الشام، وسببه مفاوضة جرت بينه وبين القاضى علاء الدين علىّ بن فضل الله كاتب السرّ، أفضت به إلى أن أخذ طشبغا بأطواق كاتب السرّ ودخلا على الأمير شيخون كذلك، فأنكر شيخون على طشبغا، ورسم بإخراجه، وعمل مكانه قطليجا الأرغونىّ دوادارا. ثم رسم للأمير بيغرا أمير جاندار أن يجلس رأس ميسرة، واستقرّ الأمير أيتمش الناصرى حاجب الحجاب أمير جاندار عوضه، واستقرّ الأمير قبلّاى «5» حاجب الحجّاب عوضا عن أيتمش.

(10/194)


وكانت هذه السنة (أعنى سنة تسع وأربعين وسبعمائة) كثيرة الوباء والفساد بمصر والشام من كثرة قطع الطريق لولاية الأمير منجك جميع أعمال المملكة بالمال، وانفراده وأخيه بيبغا أرس بتدبير المملكة.
ومع هذا كان فيها أيضا الوباء الذي لم يقع مثله فى سالف الأعصار، فإنه كان ابتدأ بأرض مصر آخر أيام التخضير فى فصل الخريف فى أثناء سنة ثمان وأربعين، فما أهلّ المحرّم سنة تسع وأربعين حتى اشتهر واشتدّ بديار مصر فى شعبان ورمضان وشوّال، وارتفع فى نصف ذى القعدة، فكان يموت بالقاهرة ومصر ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف نفس [إلى عشرين «1» ألف نفس] فى كلّ يوم، وعملت الناس التوابيت والدّكك لتغسيل الموتى للسبيل بغير أجرة، وحمل أكثر الموتى على ألواح الخشب وعلى السلالم والأبواب، وحفرت الحفائر وألقيت فيها الموتى، فكانت الحفيرة يدفن فيها الثلاثون والأربعون وأكثر، وكان الموت بالطّاعون، يبصق الإنسان دما ثمّ يصيح ويموت؛ ومع هذا عمّ الغلاء الدنيا جميعها، ولم يكن هذا الوباء كما عهد فى إقليم دون إقليم، بل عم أقاليم الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا جميع أجناس بنى آدم وغيرهم، حتى حيتان البحر وطير السماء ووحش البرّ.
وكان أوّل ابتدائه من بلاد القان «2» الكبير حيث الإقليم الأوّل، وبعدها من تبريز «3» إلى آخرها ستّة أشهر وهى بلاد الخطا «4» والمغل وأهلها يعبدون النار والشمس

(10/195)


والقمر، وتزيد عدّتهم على ثلثمائة جنس فهلكوا بأجمهم من غير علّة، فى مشاتيهم ومصايفهم وعلى ظهور خيلهم، وماتت خيولهم وصاروا جيفة مرمية فوق الأرض؛ وكان ذلك فى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. ثم حملت الريح نتنهم إلى البلاد، فما مرّت على بلد إلّا وساعة شمّها إنسان أو حيوان مات لوقتة فهلك من أجناد القان خلائق لا يحصيها إلا الله تعالى. ثمّ هلك القان وأولاده الستّة ولم يبق بذلك الإقليم من يحكمه.
ثم اتّصل الوباء ببلاد الشرق جميعها: بلاد أزبك «1» وبلاد إسطنبول «2» وقيصرية «3» الروم، ثم دخل أنطاكية حتى أفنى من بها، وخرج جماعة من بلاد «4» أنطاكية فارّين من الموت فماتوا بأجمهم فى طريقهم، ثم عمّ جبال «5» ابن قرمان وقيصرية، ففنى أهلها ودوابّهم ومواشيهم، فرحلت الأكراد خوفا من الموت فلم يجدوا أرضا إلا وفيها الموت، فعادوا إلى أرضهم وماتوا جميعا. ثم وقع ذلك ببلاد سيس فمات لصاحبها تكفور فى يوم واحد بموضع مائة وثمانون نفسا وخلت سيس.
ثمّ وقع فى بلاد الخطا مطر عظيم لم يعهد مثله فى غير أوانه، فماتت دوابّهم ومواشيهم

(10/196)


عقيب ذلك المطر حتى فنيت. ثمّ مات الناس والوحوش والطيور حتى خلت بلاد الخطا وهلك ستّة عشر ملكا فى مدّة ثلاث أشهر، وأفنى أهل الصّين حتى لم يبق منهم إلا القليل، وكذلك بالهند.
ثمّ وقع ببغداد أيضا فكان الإنسان يصبح وقد وجد بوجهه طلوعا، فما هو إلا أن يمدّ يده على موضع الطلوع فيموت فى الوقت. وكان أولاد دمرداش قد حصروا الشيخ حسنا صاحب بغداد، ففجأهم الموت فى عسكرهم من وقت المغرب إلى باكر النهار إلى الغد، فمات منهم عدد كثير نحو الألف ومائتى رجل وستة أمراء ودوابّ كثيرة «1» ، فكتب الشيخ صاحب بغداد بذلك إلى سلطان مصر.
ثمّ فى أوّل جمادى الأولى ابتدأ الوباء بمدينة حلب ثمّ بالبلاد الشاميّة كلّها وبلاد ماردين «2» وجبالها، وجميع ديار بكر، وأفنى بلاد صفد والقدس والكرك ونابلس والسواحل وعربان البوادى حتى إنه لم يبق ببلد جينين «3» غير عجوز واحدة خرجت منها فارّة، وكذلك وقع بالرّملة «4» وغيرها، وصارت الخانات ملآنة بجيف الموتى، ولم يدخل الوباء معرّة النّعمان «5» من بلاد الشام ولا بلد شيزر «6» ولا حارما.

(10/197)


وأول ما بدأ بدمشق، كان يخرّج خلف أذن الإنسان بثرة فيخرّ صريعا، ثمّ صار يخرج للإنسان كبّة «1» فيموت أيضا سريعا، ثمّ خرجت بالناس خيارة فقتلت خلقا كثيرا، ثم صار الآدمىّ يبصق دما ويموت من وقته، فاشتدّ الهول من كثرة الموت، حتّى إنه»
أكثر من كان يعيش ممن يصيبه ذلك خمسين ساعة. وبلغ عدّة من يموت فى كلّ يوم بمدينة حلب خمسمائة إنسان، ومات بمدينة غزّة فى ثانى المحرم الى رابع صفر- على ما ورد فى كتاب نائبها- زيادة على اثنين وعشرين ألف إنسان، حتى غلقت أسواقها، وشمل الموت أهل الضّياع بها، وكان آخر زمان الحرث، فكان الرجل يوجد ميتا خلف محراثه، ويوجد آخر قد مات وفى يده ما يبذره. ثمّ ماتت أبقارهم؛ وخرج رجل بعشرين رأس بقر، لإصلاح أرضه فماتوا واحدا بعد واحد، وهو يراهم يتساقطون قدّامه، فعاد إلى غزّة.
ودخل ستّة نفر لسرقة دار بغزّة فأخذوا ما فى الدار ليخرجوا به فماتوا بأجمعهم، وفرّ نائبها الى ناحية بدّعرش «3» ، وترك غزّة خالية، ومات أهل قطيا وصارت جثثهم تحت النخل وعلى الحوانيت، حتى لم يبق بها سوى الوالى وغلامين وجارية عجوز، وبعث يستعفى، فولّى عوضه مبارك، أستادار طغجى.
ثمّ عمّ الوباء بلاد الفرنج، وابتدأ فى الدوابّ ثمّ فى الأطفال والشباب، فلمّا شنع الموت فيهم جمع أهل قبرس من فى أيديهم من أسرى المسلمين وقتلوهم جميعا من بعد العصر إلى المغرب، خوفا من أن تفرغ الفرنج فتملك المسلمون قبرس، فلما كان بعد العشاء الأخيرة هبّت ريح شديدة، وحدثت زلزلة عظيمة، وامتدّ البحر

(10/198)


فى المينة نحو مائة قصبة، فغرق كثير من مراكبهم وتكسّرت، فظنّ أهل قبرس أنّ الساعة قامت، فخرجوا حيارى لا يدرون ما يصنعون. ثمّ عادوا إلى منازلهم، فإذا أهاليهم قد ماتوا، وهلك لهم فى هذا الوباء ثلاثة ملوك، واستمرّ الوباء فيهم مدّة أسبوع، فركب منهم ملكهم الذي ملّكوه رابعا، فى جماعة فى المراكب يريدون جزيرة بالقرب منهم، فلم يمض عليهم فى البحر إلا يوم وليلة ومات أكثرهم فى المراكب، ووصل باقيهم الى الجزيرة فماتوا بها عن آخرهم، ووافى هذه الجزيرة بعد موتهم مركب فيها تجّار فماتوا كلّهم وبحّارتهم إلا ثلاثة عشر رجلا، فمرّوا إلى قبرس فوصلوها، وقد بقوا أربعة نفر فلم يجدوا بها أحدا فساروا إلى طرابلس، وحدّثوا بذلك فلم تطل مدّتهم بها وماتوا
وكانت المراكب إذا مرّت بجزائر الفرنج لا تجد ركّابها بها أحدا، وفى بعضها جماعة يدعونهم أن يأخذوا من أصناف البضائع ما أحبّوا بغير ثمن لكثرة من كان يموت عندهم، وصاروا يلقون الأموات فى البحر، وكان سبب الموت عندهم ريح تمرّ «1» على البحر فساعة يشمّها الإنسان سقط، ولا يزال يضرب برأسه إلى الأرض حتى يموت.
وقدمت مراكب الى الإسكندرية، وكان فيها اثنان وثلاثون تاجرا وثلثمائة رجل ما بين بحّار وعبيد، فماتوا كلّهم ولم يصل منهم غير أربعة من التجّار وعبد واحد، ونحو أربعين من البحّارة.
وعمّ الموت جزيرة الأندلس بكمالها إلا جزيرة غرناطة «2» ، فإنهم نجوا، ومات من عداهم حتى إنه لم يبق للفرنج من يمنع أموالهم، فأتتهم العرب من إفريقية

(10/199)


تريد أخذ الأموال إلى ان صاروا على نصف يوم منها، فمرّت بهم ريح فمات منهم على ظهور الخيل «1» جماعة كثيرة ودخلها باقيهم، فرأوا من الأموات ما هالهم، وأموالهم ليس لها من يحفظها، فأخذوا ما قدروا عليه، وهم يتساقطون موتى، فنجا من بقى منهم بنفسه، وعادوا إلى بلادهم وقد هلك أكثرهم، والموت قد فشا بأرضهم أيضا بحيث إنه مات منهم فى ليلة واحدة عدد كثير، وبقيت أموال العربان ساتبة لا تجد من يرعاها، ثمّ أصاب الغنم داء، فكانت الشاة إذا ذبحت وجد لحمها منتنا قد اسودّ وتغيّر، وماتت المواشى بأسرها.
ثم وقع الوباء بأرض برقة «2» إلى الإسكندرية، فصار يموت فى كلّ يوم مائة.
ثمّ صار يموت مائتان، وعظم عندهم حتى إنه صلّى فى اليوم الواحد بالجامع دفعة واحدة على سبعمائة جنازة، وصاروا يحملون الموتى على الجنويّات «3» والألواح، وغلّقت دار الطّراز لعدم الصّنّاع، وغلّقت دار الوكالة، وغلّقت الأسواق وأريق ما بها من الخمور. وقدمها مركب فيه إفرنج فأخبروا أنهم رأوا بجزيرة طرابلس مركبا عليه طير تحوم فى غاية الكثرة، فقصدوه فإذا جميع من فيها ميّت والطير يأكلهم، وقد مات من الطير أيضا شىء كثير، فتركوهم ومروا فما وصلوا الى الإسكندرية حتى مات منهم «4» زيادة على ثلثهم. ثمّ وصل إلى مدينة دمهور «5»

(10/200)


وتروجة «1» بالبحيرة كلها حتى عمّ أهلها، وماتت دوابهم ومواشيهم وبطل «2» من البحيرة سائر الضمانات، وشمل الموت أهل «3» البرلّس ونستراوة «4» وتعطل الصيد من البحيرة بموت الصيادين فكان يخرج فى المركب عدّة صيادين فيموت أكثرهم ويعود من

(10/201)


بقى منهم فيموت بعد عوده من يومه هو وأولاده وأهله. ووجد فى حيتان البطارخ شىء منتن، وفيه على رأس البطارخة «1» كبّه «2» منتنة قدر البندقة قد اسودّت.
ووجد فى جميع زراعات البرلّس وبلحها دود، وتلف أكثر تمر النّخل عندهم، وصارت الأموات على الأرض فى جميع الوجه البحرىّ لا يوجد من يدفنها.
ثمّ عظم الوباء بالمحلّة «3» حتى إنّ الوالى كان لا يجد من يشكو إليه؛ وكان القاضى إذا أتاه من يريد الإشهاد على شخص لا يجد من العدول أحدا إلا بعد عناء لقلّتهم.
وصارت الفنادق لا تجد من يحفظها، وماتت الفلّاحون بأسرهم إلا القليل، فلم يوجد من يضمّ الزرع، وزهد أرباب الأموال فى أموالهم وبذلوها للفقراء، فبعث الوزير منجك إلى الغربية، كريم الدين ابن الشيخ مستوفى الدولة ومحمد بن يوسف مقدّم الدولة، فدخلوا على سنباط «4» وسمنّود «5» وبوصير «6» وسنهور «7» ونحوها من البلاد، وأخذوا مالا كثيرا، لم يحضروا منه سوى ستين ألف درهم.

(10/202)


وعجز أهل بلبيس وسائر الشرقية عن ضمّ الزرع لكثرة موت الفلّاحين. وكان ابتداء الوباء عندهم من أوّل فصل الصيف الموافق لأثناء شهر ربيع الآخر من سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ففاحت الطّرقات بالموتى، ومات سكان بيوت الشّعر ودوابّهم ومواشيهم، وامتلأت مساجد بلبيس وفنادقها وحوانيتها بالموتى، ولم يبق مؤذّن، وطرحت الموتى بجامعها، وصارت الكلاب فيه تأكل الموتى.
ثم قدم الخبر من دمشق أنّ الوباء كان بها آخر ما كان بطرابلس وحماة وحلب، فلمّا دخل شهر رجب والشمس فى برج الميزان أوائل فصل الخريف، هبّت فى نصف اللّيل ريح شديدة جدّا، واستمرّت حتّى مضى من النهار قدر ساعتين، فاشتدت الظّلمة حتى كان الرجل لا يرى من بجانبه. ثم انجلت وقد علت وجوه الناس صفرة ظاهرة فى وادى دمشق كلّه، وأخذ فيهم الموت مدّة شهر رجب فبلغ فى اليوم ألفا ومائتى إنسان، وبطل إطلاق الموتى من الديوان، وصارت الأموات مطروحة فى البساتين على الطّرقات، فقدم على قاضى القضاة تقىّ الدين السّبكىّ «1» قاضى دمشق رجل من جبال الرّوم، وأخبر أنّه لمّا وقع الوباء ببلاد الروم رأى فى نومه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشكا إليه ما نزل بالناس من الفناء فأمره صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: «اقرءوا سورة نوح ثلاثة آلاف وثلثمائة وستين مرّة، واسألوا الله فى رفع ما أنتم فيه» فعرّفهم ذلك فاجتمع الناس فى المساجد، وفعلوا ما ذكر لهم، وتضرّعوا إلى الله تعالى وتابوا إليه من ذنوبهم، وذبحوا أبقارا وأغناما كثيرة للفقراء مدّة سبعة أيام، والفناء يتناقص كلّ يوم حتى زال. فلمّا سمع القاضى والنائب ذلك نودى بدمشق باجتماع الناس بالجامع لأموىّ، فصاروا به جمعا كبيرا وقرءوا «صحيح البخارىّ» فى ثلاثة أيام وثلاث

(10/203)


ليال. ثم خرج الناس كافّة بصبيانهم إلى المصلّى وكشفوا رءوسهم وضجّوا بالدعاء، وما زالوا على ذلك ثلاثة أيام فتناقص الوباء حتّى ذهب بالجملة.
وكان ابتداؤه بالقاهرة ومصر فى النساء والأطفال ثم بالباعة حتى كثر عدد الأموات، فركب السلطان إلى سرياقوس، وأقام بها من أوّل شهر رجب إلى العشرين منه، وقصد العود إلى القلعة فأشير عليه بالإقامة فى سرياقوس وصوم رمضان بها.
ثم قدم كتاب نائب حلب بأنّ بعض أكابر الصلحاء رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فى نومه فشكا إليه ما نزل بالناس من الوباء، فأمره صلى الله عليه وسلم بالتّوبة، والدعاء بهذا الدعاء المبارك وهو: «اللهمّ سكن «1» هيبة صدمة «2» قهرمان الجبروت بألطافك النازلة الواردة من فيضان الملكوت، حتى نتشبّث بأذيال لطفك، ونعتصم بك عن إنزال قهرك، يا ذا القوّة والعظمة الشاملة، والقدرة الكاملة، ياذا الجلال والإكرام «3» » . وأنه كتب بها عدّة نسخ بعث بها إلى حماة وطرابلس ودمشق.
وفى شعبان تزايد الوباء بديار مصر، وعظم فى شهر رمضان وقد دخل فصل الشتاء فرسم بالاجتماع فى الجوامع للدعاء، فى يوم الجمعة سادس شهر رمضان، فنودى أن يجتمع الناس بالصّناجق الخليفتية والمصاحف، إلى قبّة النصر خارج القاهرة، فاجتمع الناس بعامّة جوامع مصر والقاهرة، وخرج المصريّون إلى مصلّى

(10/204)


خولان بالقرافة «1» ، واستمرّت قراءة البخارىّ بالجامع الأزهر وغيره عدّة أيام، والناس يدعون إلى الله تعالى ويقنتون فى صلواتهم. ثم خرجوا إلى قبة النصر وفيهم الأمير شيخون والوزير منجك اليوسفىّ والأمراء بملابسهم الفاخرة من الذهب وغيره، فى يوم الأحد «2» ثامن شهر رمضان.
ومات فى ذلك اليوم الرجل الصالح سيّدى عبد الله «3» المنوفىّ، تغمده الله برحمتة، وأعاد علينا من بركاته، فصلّى عليه ذلك الجمع العظيم، وعاد الأمراء إلى سرياقوس وانفضّ الجمع، واشتد الوباء بعد ذلك حتى عجز الناس عن حصر «4» الموتى.
فلما انقضى شهر رمضان حضر السلطان من سرياقوس، وحدث فى الناس فى شوّال نفث الدّم، فكان الإنسان يحسّ فى نفسه بحرارة ويجد غثيانا فيبصق دما ويموت عقيبه، ويتبعه أهل داره واحدا بعد واحد حتى يفنوا جميعا بعد ليلة

(10/205)


أو ليلتين، فلم يبق أحد إلا وغلب على ظنه أنه يموت بهذا الداء، واستعدّ الناس جميعا وأكثروا من الصّدقات، وتحاللوا وأقبلوا على العبادة، ولم يحتج أحد فى هذا الوباء إلى أشربة ولا أدوية ولا أطبّاء لسرعة الموت، فما انتصف شوّال إلا والطرقات والأسواق قد امتلأت بالأموات، فانتدب جماعة لمواراتهم وانقطع جماعة للصلاة عليهم، وخرج الأمر عن الحدّ، ووقع العجز عن العدد، وهلك أكثر أجناد الحلقة وخلت الطّباق بالقلعة من المماليك السلطانية لموتهم.
فما أهلّ ذو القعدة إلا والقاهرة خالية مقفرة، لا يوجد بشوارعها مارّ، بحيث إنه يمرّ الإنسان من باب زويلة إلى باب النصر «1» فلا يرى من يزاحمه، لاشتغال الناس بالموتى، وعلت الأتربة على الطّرقات، وتنكّرت وجوه الناس، وامتلأت الأماكن بالصّياح، فلا تجد بيتا إلا وفيه صيحة، ولا تمرّ بشارع إلا وترى فيه عدّة أموات.
وصلّى فى يوم الجمعة بعد الصلاة على الأموات بالجامع «2» الحاكمىّ فصفّت التوابيت اثنين اثنين من باب مقصورة الخطابة إلى باب الجامع، ووقف الإمام على العتبة والناس خلفه خارج الجامع. وخلت أزقّة كثيرة وحارات عديدة من الناس، وصار بحارة برجوان»
اثنتان وأربعون دارا خالية، وبقيت الأزّتمة والدّروب المتعدّدة

(10/206)


جالية، وصار أمتعة أهلها لا تجد من يأخذها، وإذا ورث إنسان شيئا انتقل فى يوم واحد [عنه «1» ] لرابع وخامس.
وحصرت عدّة من صلّى عليه بالمصلّيات التى خارج باب النصر وباب زويلة وباب المحروق وتحت القلعة، ومصلّى قتّال «2» السبع تجاه باب جامع قوصون «3» فى يومين فبلغت ثلاث عشرة ألفا وثمانمائة، سوى من مات فى الأسواق والأحكار، وخارج باب البحر «4» وعلى الدكاكين وفى الحسينية «5» وجامع ابن طولون «6» ، ومن يتأخر دفنه فى البيوت.
ويقال: بلغت عدّة الأموات فى يوم واحد عشرين ألفا، وحصرت الجنائز بالقاهرة فقط فى مدّة شعبان ورمضان فكانت تسعمائة «7» ألف، سوى من مات

(10/207)


بالأحكار والحسينية والصّليبة وباقى الخطط خارج القاهرة وهم أضعاف ذلك، وعدّت النّعوش وكانت عدّتها ألفا وأربعمائة نعش، فحملت الأموات على الأقفاص ودراريب «1» الحوانيت، وصار يحمل الاثنان والثلاثة فى نعش واحد وعلى لوح واحد، وطلبت القرّاء على الأموات فأبطل كثير من الناس صناعاتهم «2» ، وانتدبوا للقراءة على «3» الجنائز، وعمل جماعة مدراء «4» وجماعة غسّالا وجماعة تصدّوا لحمل الأموات، فنالوا بذلك جملا مستكثرة، وصار المقرئ يأخذ عشرة دراهم، وإذا وصل إلى المصلّاة تركه وانصرف لآخر، ويأخذ الحمّال ستّة دراهم بعد الدّخلة [عليه «5» ] ، وصار الحفّار يأخذ أجرة حفر كلّ قبر خمسين درهما، فلم يمتّع اكثرهم بذلك وماتوا.
ودخلت امرأة غاسلة لتغسّل امرأة فلمّا جرّدتها من ثيابها، ومرّت بيدها على موصع الكبّة صاحت الغاسلة وسقطت ميّتة، فوجدوا فى بعض أصابعها التى لمست بها الكبّة كبّة قدر الفولة، وصار الناس يبيتون بموتاهم فى التّرب لعجزهم عن تواريهم، وكان أهل البيت يموتون جميعا وهم عشرات، فلا يوجد لهم سوى نعش واحد ينقلون فيه شيئا بعد شىء، وأخذ كثير من الناس دورا وأموالا بغير استحقاق لموت مستحقيها فلم يتمّل «6» أكثرهم بما أخذ حتى مات بعدهم بسرعة، ومن عاش منهم استغنى [به «7» ] ، وأخذ كثير من العامة «8» إقطاعات حلقة.

(10/208)


وقام الأمير شيخون العمرىّ والأمير مغلطاى أمير آخور بتغسيل الأموات وتكفينهم ودفنهم. وبطل الأذان من عدّة مواضع، وبقى فى المواضع المشهورة يؤذّن مؤذّن واحد، وبطلت أكثر طبلخاناة الأمراء،؟؟؟ ار فى طبلخانة الأمير شيخون ثلاثة نفر بعد خمسة عشر نفرا. وغلّقت أكثر المساجد والزوايا. وقيل إنه ما ولد لأحد فى هذا الوباء إلا ومات الولد «1» بعد يوم أو يومين ولحقته أمّه.
ثمّ شمل فى آخر السنة الوباء بلاد الصعيد بأسرها ولم يدخل الوباء أرض أسوان «2» ، ولم يمت به سوى أحد عشر إنسانا. ووجدت طيور كثيرة ميّتة فى الزروع ما بين غربان وحدأة وغيرها من سائر أصناف الطيور، فكانت إذا أنتفت وجد فيها أثر الكبة.
وتواترت الأخبار من الغور «3» وبيسان وغير ذلك أنهم كانوا يجدون الأسود والذئاب وحمر الوحش، وغيرها من الوحوش ميّتة وفيها أثر الكبّة.
وكان ابتداء الوباء أوّل «4» أيام التّخضير، فما جاء أوان الحصاد حتى فنوا الفلّاحون ولم يبق منهم إلا القليل، فخرج الأجناد بغلمانهم للحصاد ونادوا: من يحصد يأخذ نصف ما حصد، فلم يجدوا واحدا، ودرسوا غلالهم على خيولهم وذرّوها بأيديهم، وعجزوا عن غالب الزرع فتركوه، وكان الإقطاع الواحد يصير من واحد إلى واحد حتى إلى السابع والثامن، فأخذ إقطاعات الأجناد أرباب الصنائع من الخياطين والأساكفة، وركبوا الخيول ولبسوا الكلفتاه والقباء. وكثير من الناس لم يتناول فى هذه السنة من إقطاعه شيئا، فلمّا جاء النيل ووقع أوان التخضير

(10/209)


تعذر وجود الرجال فلم يخضّر إلا نصف الأراضى، ولم يوجد أحد ليشترى القرط «1» الأخضر ولا من يربط عليه خيوله، وترك ألف وخمسمائة فدان بناحية ناى «2» وطنان «3» ، وانكسرت البلاد التى بالضواحى وخربت. وخلت بلاد الصعيد مع اتساع أرضها، بحيث كانت مكلفة مساحة أرض أسيوط تشتمل على ستة آلاف نفر يؤخذ منها الخراج، فصارت فى سنة الوباء هذه تشتمل على مائة وستة عشر نفرا.
ومع ذلك كان الرّخاء موجودا وانحطّ سعر القماش حتى أبيع بخمس ثمنه وأقلّ، ولم يوجد من يشتريه، وصارت كتب العلم ينادى عليها بالأحمال، فيباع الحمل منها بأرخص ثمن. وانحطّ قدر الذهب والفضة حتى صار الدينار بخمسة عشر درهما، بعد ما كان بعشرين. وعدمت جميع الصّناع «4» ، فلم يوجد سقاء ولا بابا «5» ولا غلام.
وبلغت جامكيّة الغلام ثمانين درهما، عنها خمس «6» دنانير وثلث دينار، فنودى بالقاهرة: من كانت له صنعة فليرجع إلى صنعته، وضرب جماعة منهم، وبلغ ثمن راوية الماء ثمانية دراهم لقلّة الرجال والحمال، وبلغت أجرة طحن الإردب القمح دينارا «7» .

(10/210)


ويقال: إنّ هذا الوباء أقام يدور على أهل الأرض مدّة خمسة عشرة سنة.
قلت: ورأيت أنا من رأى هذا الوباء، فكان يسمّونه الفصل الكبير، ويسمّونه أيضا بسنة الفناء، ويتحاكون عنه أضعاف ما حكيناه، يطول الشرح فى ذكره.
وقد أكثر الناس من ذكر هذا الوباء فى أشعارهم فممّا قاله شاعر ذلك العصر الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة: [الخفيف]
سر بنا عن دمشق يا طالب العي ... ش فما فى المقام للمرء رغبه
رخصت أنفس الخلائق بالطّا ... عون فيها فكلّ نفس بحبّه
وقال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ وأكثر فى هذا المعنى على عادة إكثاره، فممّا قاله فى ذلك: [الوافر]
رعى الرحمن دهرا قد تولّى ... يجازى بالسّلامة كلّ شرط
وكان الناس فى غفلات أمر ... فجاطاعونهم من تحت إبط
وقال أيضا: [الكامل]
قد قلت للطّاعون وهو بغزّة ... قد جال «1» من قطيا إلى بيروت
أخليت أرض الشام من سكّانها ... وأتيت «2» يا طاعون بالطاغوت
وقال الشيخ بدر الدين حسن [بن عمر بن الحسن «3» ] بن حبيب فى المعنى من قصيدة أوّلها: [الخفيف]

(10/211)


إنّ هذا الطاعون يفتك فى العا ... لم فتك امرئ ظلوم حسود»
ويطوف البلاد شرقا وغربا ... ويسوق الخلوق «2» نحو اللّحود
ولابن الوردىّ «3» فى المعنى: [البسيط]
قالوا فساد الهواء يردى ... فقلت يردى هوى الفساد
كم سيّئات وكم خطايا ... نادى عليكم بها المنادى
وقال أيضا: [الرّمل]
حلب- والله يكفى ... شرّها- أرض مشقّه
أصبحت حيّة سوء ... تقتل الناس ببزقه
ولابن الوردىّ أيضا: [الرجز]
إنّ الوبا قد غلبا ... وقد بدا فى حلبا
قالوا له على الورى ... كاف ورا قلت وبا
وقال أيضا: [الكامل]
سكّان سيس يسرّهم ما ساءنا ... وكذا العوائد من عدوّ الدّين
الله ينفذه إليهم عاجلا ... ليمزّق الطاغوت بالطاعون
وقال الأديب جمال الدين «4» إبراهيم المعمار فى المعنى: [الرمل]
قبح الطاعون داء ... فقدت فيه الأحبّه
بيعت الأنفس فيه ... كلّ إنسان بحبّه

(10/212)


وله أيضا فى المعنى: [السريع]
يا طالب الموت أفق وانتبه ... هذا أوان الموت ما فاتا
قد رخص الموت على أهله ... ومات من لا عمره ماتا
ثم أخذ الوباء يتناقص فى أوّل المحرّم من سنة خمسين وسبعمائة.
ثم فى يوم الأربعاء تاسع «1» عشر من ربيع الأوّل، ورد الخبر بقتل الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب الشام، وأمره غريب، وهو أنه لما كان نصف ليلة الخميس ثالث عشرينه وهو بالقصر «2» الأبلق بالميدان خارج مدينة دمشق ومعه عياله، وإذا بصوت قد وقع فى الناس بدخول العسكر، فثاروا بأجمعهم ودارت النّقباء على الأمراء بالركوب ليقفوا على مرسوم السلطان، فركبوا جميعا إلى سوق «3» الخيل تحت القلعة، فوجدوا الأمير ألجيبغا المظفّرى نائب طرابلس وإذا بالأمير أرغون شاه نائب الشام مكتّف بين مماليك الأمير إياس؛ وخبر ذلك أن ألجيبغا لما ركب من طرابلس سار حتى طرق دمشق على حين غفلة، وركب معه الأمير فخر الدين إياس السّلاح دار، وأحاط إياس بالقصر الأبلق وطرق بابه، وعلم الخدّام بأنه قد حدث أمر مهم فأيقظوا الأمير أرغون شاه، فقام من فرشه وخرج إليهم فقبضوا عليه، وقالوا له: حضر مرسوم السلطان بالقبض عليك، والعسكر واقف، فلم يجسر أحد أن يدفع عنه، وأخذه الأمير إياس وأتى به ألجيبغا فسلّم أمراء دمشق على ألجيبغا، وسألوه الخبر، فذكر لهم أن مرسوم السلطان ورد عليه بركوبه إلى دمشق بعسكر طرابلس، والقبض على أرغون شاه المذكور وقتله، والحوطة على

(10/213)


ماله وموجوده، وأخرج لهم كتاب السلطان بذلك، فأجابوا بالسمع والطاعة، وعادوا الى منازلهم ونزل ألجيبغا إلى الميدان، وأصبح يوم الخميس فأوقع الحوطة على موجود أرغون شاه وأصبح يوم الجمعة رابع عشرين ربيع «1» الأوّل أرغون شاه المذكور مذبوحا، فكتب ألجيبغا محضرا أنه وجده مذبوحا والسّكين فى يده، (يعنى أنه ذبح نفسه) فأنكر عليه كونه لمّا قبض أموال أرغون شاه، لم يرفعها إلى قلعة دمشق على العادة، واتّهموه فيما فعل، وركبوا جميعا لقتاله فى يوم الثلاثاء ثامن عشرينه فقاتلهم ألجيبغا المذكور وجرح الأمير مسعود بن خطير، وقطعت يد الأمير ألجيبغا العادلى أحد أمراء دمشق، وقد جاوز تسعين سنة، فعند ذلك ولّى ألجيبغا المظفّرى نائب طرابلس، ومعه خيول أرغون شاه وأمواله، وتوجّه إلى نحو المزّة «2» ومعه الأمير إياس نائب حلب كان، ومضى إلى طرابلس.
وسبب هذه الواقعة أنّ إياسا لما عزل عن نيابة حلب وأخذت أمواله وسجن، ثم أفرج عنه واستقرّ فى جملة أمراء دمشق، وعدّوه أرغون شاه الذي كان سعى فى عزله عن نيابة حلب نائبها، فصار أرغون شاه يهينه ويخرق به، واتفق أيضا إخراج ألجيبغا من الديار المصرية إلى دمشق أميرا بها، فترفّع عليه أيضا أرغون شاه المذكور وأذلّه، فاتّفق ألجيبغا وإياس على مكيدة، فأخذ ألجيبغا فى السعى على خروجه من دمشق عند أمراء مصر، وبعث إلى الأمير بيبغا أرس نائب السلطنة بالديار المصرية، وإلى أخيه الأمير منجك الوزير هديّة سنيّة فولّاه نيابة طرابلس، وأقام بها الى أن كتب يعرّف السلطان والأمراء أنّ أكثر عسكر طرابلس مقيم بدمشق.
وطلب أنّ نائب الشام يردّهم إلى طرابلس، فكتب له بذلك فشقّ على أرغون شاه

(10/214)


نائب الشام كون ألجيبغا لم يكتب إليه، وأرسل كاتب السلطان فى ذلك فكتب إلى ألجيبغا بالإنكار عليه فيما فعل، وأغلظ له فى القول، وحمل البريدىّ إليه مشافهة شنيعة، فقامت قيامة ألجيبغا لمّا سمعها، وفعل ما فعل، بعد أن أوسع الحيلة فى ذلك، فاتفق مع إياس فوافقه إياس أيضا، لما كان فى نفسه من أرغون شاه حتى وقع ما ذكرناه.
وأما أمراء الديار المصرية فإنهم لما سمعوا بقتل الأمير أرغون شاه ارتاعوا، واتّهم بعضهم بعضا، فحلف كلّ من شيخون والنائب بيبغا أرس على البراءة من قتله، وكتبوا إلى ألجيبغا بأنّه قتل أرغون شاه بمرسوم من! وإعلامهم بمستنده فى ذلك، وكتب إلى أمراء دمشق بالفحص عن هذه الواقعة، وكان ألجيبغا وإياس قد وصلا إلى طرابلس، وخيّما بظاهرها، فقدم فى غد وصولهما كتب أمراء دمشق إلى أمراء طرابلس بالاحتراس على ألجيبغا حتى يرد مرسوم السلطان، فإنه فعل فعلته بغير مرسوم السلطان، ومشت حيلته علينا. ثم كتبوا إلى نائب حماة ونائب حلب وإلى العربان بمسك الطّرقات عليه، فركب عسكر طرابلس بالسلاح وأحاطوا به، ثم وافاهم كتاب السلطان بمسكه، وقد سار عن طرابلس وساروا خلفه إلى نهر الكلب «1» عند بيروت فوقف قدّامهم نهاره، ثم كر راجعا عليهم، فقاتله عسكر

(10/215)


طرابلس، حتى قبضوا عليه، وفرّ إياس، ووقعت الحوطة على مماليك ألجيبغا وأمواله، ومسك الذي كتب الكتاب بقتل أرغون شاه، فاعتذر أنه مكره، وأنه غيّر ألقاب أرغون شاه، وكتب أوصال الكتب مقلوبة حتى يعرف أنه زوّر، وحمل ألجيبغا المذكور مقيّدا إلى دمشق. ثم قبض نائب بعلبكّ على الأمير إياس، وقد حلق لحيته ورأسه، واختفى عند بعض النصارى، وبعث به إلى دمشق، فحبسا معا بقلعتها، وكتب بذلك إلى السلطان والأمراء، فندب الأمير قجا الساقى على البريد إلى دمشق بقتل ألجيبغا وإياس، فأخرجهما من حبس قلعة دمشق ووسّطهما بسوق الخيل بدمشق، وعلّق إياس على خشب وقدّامه ألجيبغا على خشبة أخرى، وذلك فى يوم الخميس حادى عشرين شهر ربيع الآخر. وكان عمر ألجيبغا المذكور يوم قتل نحو تسع عشرة سنة وهو ما طرّ شاربه.
ثمّ كتب السلطان باستقرار الأمير أرقطاى نائب حلب، فى نيابة الشام عوضا عن أرغون شاه المذكور، واستقرّ الأمير قطليجا الحموىّ نائب حماة فى نيابة حلب عوضا عن أرقطاى، واستقرّ أمير مسعود بن خطير فى نيابة طرابلس عوضا عن ألجيبغا المظفّرى المقدّم ذكره. ثمّ قدم إلى مصر طلب أرغون شاه ومماليكه وأمواله وموجود ألجيبغا أيضا، فتصرّف الوزير منجك فى الجميع.
وبعد مدّة يسيرة ورد الخبر أيضا بموت الأمير أرقطاى نائب دمشق، فكتب باستقرار قطليجا الحموىّ نائب حلب فى نيابة دمشق، وتوجّه الأمير ملكتمر «1» المحمدى بتقليده بنيابة الشام، وسار حتى وصل إليه فوجده قد أخرج طلبه إلى جهة دمشق وهو ملازم الفراش، فمات قطليجا أيضا بعد أسبوع، ولما وصل الخبر إلى مصر بموت قطليجا، أراد النائب بيبغا ارس والوزير منجك إحراج طاز لنيابة الشام،

(10/216)


والأمير مغلطاى أمير آخور إلى نيابة حلب، فلم يوافقاهما «1» على ذلك، وكادت الفتنة أن تقع، فخلع على الأمير أيتمش الناصرىّ بنيابة الشام، واستقرّ بعد مدّة الأمير أرغون الكاملىّ فى نيابة حلب.
وفى محرّم سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، ابتدأت الوحشة بين الأمير مغلطاى أمير آخور وبين الوزير منجك اليوسفى، بسبب الفار الضامن، وقد شكا منه، فطلبه مغلطاى من الوزير وقد احتمى به، فلم يمكّنه منه. وكان منجك لما فرغ صهريجه «2» الذي عمّره تجاه القلعة عند باب الوزير، اشترى له من بيت المال ناحية بلقينة «3» بالغربية بخمسة وعشرين ألف دينار، وأنعم عليه بها، فوقفها منجك على صهريجه المذكور، فأخذ مغلطاى يعدّد لمنجك تصرّفه فى المملكة، وسكن الأمر فيما بينهما.
ثم توجه السلطان إلى سرحة سرياقوس على العادة فى كل سنة وأنعم على الأمير قطلوبغا «4» الذهبىّ بإقطاع الأمير لاچين أمير آخور بعد موته، وأنعم بإمرته وتقدمته على الأمير عمر بن أرغون النائب. ثمّ استقرّ بكلمش أمير شكار فى نيابة طرابلس،

(10/217)


عوضا عن أمير مسعود بن خطير، وكتب بإحضار أمير مسعود إلى القاهرة. ثم عاد السلطان من سرحة سرياقوس، وكتب بعود أمير مسعود إلى دمشق بطّالا، حتى ينحلّ له ما يليق به، وخلع على الأمير فارس الدين ألبكى باستقراره فى نيابة غزّة بعد موت الأمير دلنجى، ودلنجى باللغة التركية هو المكدّى (وهو بكسر الدال المهملة وفتح اللام وسكون النون وكسر الجيم) .
وفى هذه الأيام توجّه الأمير طاز إلى سرحة البحيرة، وأنعم السلطان عليه بعشرة آلاف اردبّ شعير وخمسين ألف درهم وناحية طمّوه «1» زيادة على إقطاعة.
وفى خامس عشر شوّال خرج أمير حاجّ المحمل الأمير بزلار أمير سلاح.
ثم خرج بعده طلب الأمير بيبغا أرس النائب بتجمّل زائد، وفيه مائة وخمسون مملوكا معدّة بالسلاح «2» . ثم خرج طلب الأمير طاز وفيه ستون فارسا، فرحل بيبغا أرس قبل طاز بيومين. ثمّ رحل طاز بعده. ثمّ رحل بزلار بالحاجّ ركبا ثالثا فى عشرين شوّال من بركة «3» الحاجّ.
وفى يوم السبت رابع عشرينه عزل الأمير منجك اليوسفىّ عن الوزر، وقبض عليه، وكان الأمير شيخون خرج إلى العبّاسة؛ وسبب عزله أن السلطان بعد توجّه شيخون طلب القضاة والأمراء، فلما اجتمعوا بالخدمة، قال لهم: يا أمراء

(10/218)


هل لأحد علىّ ولاية حجر، أو أنا حاكم نفسى! فقال الجميع يا خوند: ما ثمّ أحد يحكم على «1» مولانا السلطان، وهو مالك رقابنا، فقال: إذا قلت لكم شيئا ترجعوا إليه؛ قالوا جميعهم: نحن تحت طاعة السلطان «2» وممتثلون ما يرسم به، فالتفت إلى الحاجب وقال له: خذ سيف هذا، وأشار إلى منجك الوزير، فأخذ سيفه وأخرج وقيّد، ونزلت الحوطة على أمواله مع الأمير كشلى «3» السلاح دار، فوجد له خمسون حمل زردخاناه، ولم يوجد له كبير مال، فرسم بعقوبته، ثمّ أخرج إلى الإسكندرية فسجن بها، وساعة القبض عليه رسم بإحضار الأمير شيخون من العباسة وإعلامه بمسك منجك الوزير، فقام الأمير مغلطاى أمير آخور والأمير منكلى بغا فى منعه من الحضور، وما زالا يخيّلان السلطان منه حتى كتب له مرسوم بنيابة طرابلس، على يد طينال الجاشنكير، فتوجّه إليه فلقبه قريب بلبيس، وقد عاد صحبة الجمدار الذي توجه بإحضاره من عند السلطان، وأوقفه على المرسوم فأجاب بالسمع والطاعة، وبعث يسأل فى الإقامة بدمشق، فكتب له بخبز الأمير تلك بدمشق، وحضور تلك إلى مصر فتوجّه شيخون إليها.
ثمّ قبض السلطان على الأمير عمر شاه «4» الحاجب واخرج إلى الإسكندرية، واستقرّ الأمير طنيرق رأس نوبة كبيرا عوضا عن شيخون. ثمّ قبض على حواشى منجك وعلى عبده عنبر البابا وصودر، وكان عنبر قد أفحش فى سيرته مع الناس، فى قطع المصانعات، وترفّع على الناس ترفّعا زائدا، فضرب ضربا مبرحا: ثمّ

(10/219)


ضرب بكتمر شادّ الأهراء فاعترف للوزير منجك باثنى عشر ألف اردبّ غلّة، اشتراها من أرباب الرواتب.
وفى مستهلّ ذى القعدة قبض على ناظر الدولة والمستوفين، وألزموا بخمسمائة ألف دينار، فترفّق فى أمرهم الأمير طنيرق، حتى استقرّت خمسمائة ألف درهم «1» ، ووزّعها الموفّق ناظر الدولة على جميع الكتّاب، والتزم علم الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاصّ والجيش بتكفية جميع الأمراء المقدّمين بالخلع من ماله، وقيمتها خمسمائة ألف درهم، وفصّلها وعرضها على السلطان، فركبوا الأمراء بها الموكب، وقبّلوا الأرض وكان موكبا جليلا.
وفى يوم السبت ثامن ذى القعدة خلع السلطان على الأمير بيبغا ططر حارس طير، واستقرّ فى السلطنة بالديار المصرية عوضا عن بيبغا أرس المتوجّه إلى الحجاز، بعد أن عرضت النيابة على أكابر الأمراء فلم يقبلها أحد، وتمنّع بيبغا ططر أيضا منها تمنّعا كبيرا، ثم قبلها. واستقرّ الأمير مغلطاى أمير آخور رأس نوبة كبيرا، عوضا عن طنيرق، الذي كان وليها عن شيخون، وأطلق له التحدّث فى أمر الدولة كلّها عوضا عن الأمير شيخون، مضافا لما بيده من الأميرا خورية «2» . واستقرّ الأمير منكلى بغا الفخرى رأس مشورة وأتابك العساكر، وأنعم على ولده بإمرة، ودقّت الكوسات وطبلخانات الأمراء بأجمعها، وزيّنت القاهرة ومصر، فى يوم الأحد تاسع ذى القعدة واستمرّت ثمانية أيام.

(10/220)


وأما شيخون فإنه لما وصل إلى دمشق، قدم بعده الأمير أرغون التاجى بإمساكه، فقبض عليه وقيّد وأخرج من دمشق فى البحر وتوجه إلى الطّينة «1» ، ثم أوصله إلى الإسكندرية فسجن بها.
وخلع على طشبغا الدّوادار على عادته دوادارا، وتصالح هو والقاضى علاء الدين ابن فضل الله كاتب السرّ، فإنه كان نفى بسببه حسب ما تقدّم ذكره، وأرسل كلّ منهما إلى صاحبه هديّة.
وكان السلطان لمّا أمسك منجك، كتب إلى الأمير طاز وإلى الأمير بزلار على يد قردم، وأخبرهما بما وقع، وأنهما يحترسان على النائب بيبغا أرس، وقد نزل سطح العقبة «2» ، فلمّا قرأ بيبغا الكتاب وجم وقال: كلّنا مماليك السلطان. وخلع عليه، وكتب أنه ماض لقضاء الحج.
ثم إنّ السلطان عزل الأمير صرغتمش والأمير عليّا من وظيفتى الجمدارية، وكانا من جملة حاشية شيخون، ورسم لصرغتمش أن يدخل الخدمة مع الأمراء، ثم أخرج أمير على إلى الشام، وأخرج صرغتمش لكشف الجسور بالوجه القبلى، وألزم أستادار بيبغا أرس بكتب حواصل بيبغا، وندب السلطان الأمير آقجبا الحموى لبيع حواصل منجك، وأخذت جوارى بيبغا أرس ومماليكه وجوارى منجك

(10/221)


ومماليكه، الى القلعة، فطلع لمنجك خمسة وسبعون مملوكا صغارا، وطلع لبيبغا أرس خمس وأربعون جارية، فلما وصلن تجاه دار النيابة، صحن صيحة واحدة وبكين، فأبكين من كان هناك.
ثم قدم الخبر على السلطان بأنّ الأمير أحمد الساقى نائب صفد، خرج عن طاعة السلطان، وسببه أنه لما قبض على منجك، خرج الأمير قمارى الحموىّ وعلى يده ملطّفات لأمراء صفد بالقبض عليه، فبلغه ذلك من هجّان جهزه له أخوه، فندب طائفة من مماليكه لتلقّى قمارى، وطلب نائب قلعة صفد وديوانه، وأمره أن يقرأ عليه: كم له بالقلعة من الغلة، فأمر لمماليكه منها بشىء فرّقه عليهم إعانة لهم على ما حصل من المحل فى البلاد، وبعثهم ليأخذوا ذلك، فعند ما طلعوا القلعة شهروا سيوفهم وملكوها من نائب قلعة صفد، وقبضوا على عدّة من الأمراء، وطلع بحريمه الى القلعة وحصّنها، وأخذ مماليكه قمارى وأتوا به، فأخذ ما معه من الملطّفات وحبسه. فلما بلغ السلطان ذلك كتب إلى نائب غزّة ونائب الشام بتجريد العسكر إليه.
هذا والأراجيف كثيرة، بأنّ طاز تحالف هو وبيبغا أرس بعقبة أيلة فخرج الأمير فيّاض «1» والأمير عيسى بن حسن أمير العائذ، فتفرّقا على عقبة أيلة بسبب بيبغا أرس، وكتب لعرب شطّى «2» وبنى عقبة وبنى «3» مهدى، بالقيام مع الأمير فضل «4» ، وكتب لنائب غزّة فأرسل السوقة الى العقبة.
ثم خلع «5» السلطان على الأمير شهاب الدين أحمد بن قزمان «6» بنيابة الإسكندرية عوضا عن بكتمر المؤمنى.

(10/222)


ثم فى يوم الأربعاء سادس عشرين ذى القعدة قدم سيف الأمير بيبغا أرس، وقد قبض عليه، وسبب ذلك، أنه لمّا ورد عليه كتاب السلطان بمسك أخيه منجك، اشتدّ خوفه وطلع الى العقبة ونزل الى المنزلة «1» ، فبلغه أنّ الأمير طاز والأمير بزلار ركبا للقبض عليه، فركب بيبغا أرس بمن معه من الأمراء والمماليك بآلة الحرب، فقام الأمير عز الدين أزدمر الكاشف بملاطفته، وأشار عليه ألا يعجّل ويكشف الخبر،

(10/223)


فبعث نجّابا فى الليل لذلك، فعاد وأخبر أنّ الأمير طاز مقيم بركبه، وأنه سار بهم وليس فيهم أحد ملبس «1» ، فقلع بيبغا السلاح هو ومن معه، وتلقّى طاز وسأله عما تخوّف منه، فأوقفه على كتاب السلطان إليه، فلم ير فيه ما يكره. ثم رحل كلّ منهما بركبه من العقبة، وأنت الأخبار للأمراء بمصر باتفاق طاز وبيبغا أرس فكتب السلطان للأمير طاز وللأمير بزلار عند ذلك القبض على بيبغا أرس قبل دخوله مكة، وتوجه إليهما بذلك طيلان «2» الجاشنكير، وقد رسم [له «3» ] أن يتوجه بيبغا الى الكرك، فلما قدم طيلان على طاز وبزلار، ركبا الى أزدمر الكاشف فأعلماه بما رسم به إليهما من مسك بيبغا أرس ووكّدا عليه فى استمالة الأمير فاضل «4» ، والأمير محمد بن بكتمر الحاجب، وبقية من مع بيبغا أرس، فأخذ أزدمر فى ذلك. ثم كتب لبيبغا أرس أن يتأخر حتى يسمع مرسوم السلطان، [و «5» ] حتى يكون دخولهم لمكة جميعا، فأحسّ بيبغا بالشرّ، وهمّ أن يتوجه إلى الشام، فما زال أزدمر الكاشف به حتى رجّعه عن ذلك. وعند نزول بيبغا أرس إلى منزلة المويلحة «6» ، قدم طاز وبزلار فتلقاهما «7» ، وأسلم نفسه من غير ممانعة فأخذا سيفه، وأرادا تسليمه لطينال حتى يحمله إلى الكرك، فرغب إلى طاز أن يحج معه، فأخذه طاز محتفظا به، وكتب طاز بذلك إلى السلطان، فتوهّم مغلطاى والسلطان أنّ طاز وبزلار قد مالا إلى بيبغا أرس وتشوّشا تشويشا زائدا، ثم أكّد ذلك ورود الخبر بعصيان أحمد

(10/224)


الساقى نائب صفد، وظنّوا أنه مباطن لبيبغا أرس، وأخرج طينال ليقيم بالصفراء «1» حتى يرد الحاجّ إليها، فيمضى بيبغا أرس إلى الكرك.
ثم فى يوم الخميس سابع عشرين ذى القعدة خلع على الأمير علم الدين عبد الله ابن زنبور خلعة الوزارة، مضافا لما بيده من نظر الخاصّ ونظر الجيش بعد ما امتنع وشرط شروطا كثيرة.
وفيه أيضا خلع السلطان على الأمير طنيرق باستقراره فى نيابة حماة، عوضا عن أسندمر العمرىّ. ثمّ كتب القاضى علاء الدين بن فضل الله كاتب السرّ تقليد ابن زنبور الوزير، ونعته فيه بالجناب العالى. وكان جمال الكفاة سعى أن يكتب له ذلك، فلم يرض كاتب السرّ، وشحّ عليه بذلك، فخرج الوزير وتلقّى كاتب السرّ، وبالغ فى إكرامه، وبعث إليه بتقدمة سنية.
ثمّ قدّم الخبر على السلطان بنزول عسكر الشام على محاصرة أحمد نائب صفد، وزحفهم على قلعة صفد عدّة أيام، جرح فيها كثير من الناس والأجناد، ولم ينالوا من القلعة غرضا، إلى أن بلغهم القبض على بيبغا أرس، وعلم أحمد بذلك وانحلّ عزمه، فبعث إليه الأمير بكلمش نائب طرابلس يرغّبه فى الطاعة، ودسّ على من معه بالقلعة، حتى خامروا عليه وهمّوا بمسكه، فوافق على الطاعة، وحلف له نائب طرابلس، فنزل إليه بمن معه، فسرّ السلطان بذلك، وكتب بإهانته وحمله إلى السجن.

(10/225)


وفى عاشر ذى الحجة كانت الواقعة بمنى، وقبض على الملك المجاهد صاحب اليمن، واسمه علىّ بن داود ابن المظفر يوسف ابن المنصور عمر بن علىّ بن رسول، وكان من خبره أنّ ثقبة لمّا بلغه استقرار أخيه عجلان عوضه فى إمرة مكة، توجه إلى اليمن، وأغرى صاحب اليمن بأخذ مكة وكسوة الكعبة، فتجهّز الملك المجاهد صاحب اليمن، وسار يريد الحج فى حفل كبير بأولاده وأمّه، حتى قرب من مكة وقد سبقه حاجّ مصر، فلبس عجلان آلة الحرب، وعرّف أمراء مصر ما عزم عليه صاحب اليمن، وحذّرهم غائلته، فبعثوا إليه بأنّ من يريد الحج إنما يدخل مكة بذلّة ومسكنة، وقد ابتدعت من ركوبك بالسلاح بدعة، لا تمكّنك أن تدخل بها، وابعث إلينا ثقبة ليكون عندنا، حتى تنقضى أيام الحج فنرسله إليك، فأجاب لذلك، وبعث ثقبة رهينة، فأكرمه الأمراء. وركبوا الأمراء «1» فى جماعة إلى لقاء الملك المجاهد، فتوجهوا إليه ومنعوا سلاح داريّته بالمشى معه بالسلاح، ولم يمكّنوه من حمل الغاشية، ودخلوا به مكة فطاف وسعى، وسلّم على الأمراء واعتذر إليهم، ومضى إلى منزله، وصار كلّ منهم على حذر حتى وقفوا بعرفة، وعادوا إلى الخيف من منى، وقد تقرّر الحال بين الأمير ثقبة وبين الملك المجاهد على أنّ الأمير طاز إذا سار من مكة أوقعا بأمير الحاج ومن معه، وقبضا على عجلان، وتسلّم ثقبة مكة.
فاتفق أن الأمير بزلار رأى وقد عاد من مكة إلى منى خادم الملك المجاهد سائرا، فبعث يستدعيه فلم يأته، وضرب مملوكه، بعد مفاوضة جرت بينهما وجرحه فى كتفه، فماج الحاجّ، وركب الأمير بزلار وقت الظهر إلى الأمير طاز، فلم يصل إليه حتى أقبلت الناس جافلة، تخبر بركوب الملك المجاهد بعسكره للحرب،

(10/226)


وظهرت لوامع أسلحتهم، فركب طاز وبزلار وأكثر العسكر المصرى بمكة، فكان أوّل من صدم أهل اليمن بزلار وهو فى ثلاثين فارسا، فأخذوه فى صدرهم إلى أن أرموه قريب خيمته، ومضت فرقة إلى جهة طاز فأوسع لهم طاز، ثمّ عاد عليهم. وركب الشريف عجلان والناس، فبعث الأمير طاز لعجلان: أن احفظ الحاجّ ولا تدخل بيننا فى حرب، ودعنا مع غريمنا. واستمرّ القتال بينهم إلى بعد العصر، فركب أهل اليمن مع كثرة عددهم واستعدادهم الذّلّة، والتجأ الملك المجاهد إلى دهليزه، وقد أحاط به العسكر وقطعوا أطنابه وألقوه إلى الأرض، فمرّ الملك المجاهد على وجهه منهزما، ومعه أولاده، فلم يجد طريقا، فسلّم المجاهد ولديه لبعض الأعراب، وعاد بمن معه من عسكره، وهم فى أقبح حال، يصيحون الأمان يا مسلمون! فأخذوا وزيره، وتمزّقت عساكره فى تلك الجبال، وقتل منهم خلق كثير، ونهبت أموالهم وخيولهم عن آخرها، وانفصل الحال عند غروب الشمس، وفرّ ثقبة بعبيده وعربه، فأخذ عبيد عجلان جماعة من الحاج فيما بين مكّة ومنى، وقتلوا جماعة.
قلت: هذا شأن عرب مكة وعبيدها، وهذه فروسيتّهم لا فى لقاء العدوّ، وكان حقّهم يوم ذاك خفر الحاجّ، كون التّرك قاموا عنهم بدفع عدوّهم، وإلا كان المجاهد يستولى عليهم، وعلى أموالهم وذراريهم فى أسرع وقت. انتهى.
ولما أراد طاز الرحيل من منى، سلّم أمراء «1» المجاهد وحريمه إلى الشريف عجلان، وأوصاه بهم، وركب الأمير طاز ومعه المجاهد محتفظا به، وبالغ فى إكرامه يريد الديار المصرية، وصحب معه أيضا الأمير بيبغا أرس مقيّدا، وبعث

(10/227)


بالأمير طقطاى إلى السلطان يبشّره بما وقع، ولمّا قدم الأمير طاز إلى المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والرحمة، قبض بها على الشريف طفيل.
وأما الديار المصرية، فإنه فى يوم الجمعة خامس المحرّم من سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، قدم الأمير أرغون الكاملىّ نائب حلب إلى الديار المصرية بغير إذن، فخلع عليه وأنزل بالقلعة؛ وسبب حضوره أنه أشيع عنه بحلب القبض عليه، ثمّ أشيع فى مصر أنه خامر، فكره تمكّن موسى حاجب حلب منه، لما كان بينهما من العداوة. ورأى وقوع المكروه به فى غير حلب أخفّ عليه، فلما قدم مصر فرح السلطان به، لما كان عنده من إشاعة عصيانه.
ثم قدم الخبر على السلطان، بأنّ طيلان تسلّم بيبغا أرس من الأمير طاز، وتوجّه به إلى الكرك من بدر، فسرّ السلطان أيضا بذلك.
ثمّ فى يوم السبت عشرين المحرّم قدم الأمير طاز بمن معه من الحجاز، وصحبته الملك المجاهد، والشريف طفيل «1» أمير المدينة، فخرج الأمير مغلطاى إلى لقائه إلى البركة، ومعه الأمراء، ومدّ له سماطا جليلا، وقبض على من كان معه من الأمراء من أصحاب بيبغا أرس وقيّدهم وهم: الأمير فاصل أخو بيبغا أرس، وناصر الدين محمد بن بكتمر الحاجب.
وأما الأمير أزدمر الكاشف فإنه أخرج السلطان إقطاعه ولزم داره.
ثمّ فى يوم الاثنين ثانى عشرينه طلع الأمير طاز بالملك المجاهد إلى نحو القلعة، حتى وصل إلى باب القلّة قيّده، ومشى الملك المجاهد بقيده حتى وقف- عند العمود بالدّركاه تجاه الإيوان، والأمراء جلوس- وقوفا طويلا. إلى أن خرج أمير جاندار

(10/228)


يطلب الأمراء على العادة، فدخل المجاهد على تلك الهيئة معهم، وخلع السلطان على الأمير طاز، ثمّ تقدّم الملك المجاهد وقبّل الأرض ثلاث مرات، وطلب السلطان الأمير طاز وسأل عنه، فما زال طاز يشفع فى المجاهد، إلى أن أمر السلطان بقيده ففكّ عنه، وأنزل بالأشرفية من القلعة عند الأمير مغلطاى، وأجرى له الرواتب السنية، واقيم له من يخدمه، ثم أنعم السلطان على الأمير طاز بمائتى ألف درهم.
ثم خلع السلطان أيضا على الأمير أرغون الكاملىّ باستمراره على نيابة حلب، ورسم أن يكون موسى حاجب حلب فى نيابة قلعة الروم.
وفى يوم تاسع عشرين المحرّم حضر الملك المجاهد الخدمة، وأجلس تحت الأمراء، بعد أن ألزم بحمل أربعمائة ألف دينار يقترضه من تجّار الكارم، حتى ينعم له السلطان بالسفر إلى بلاده.
ثم أحضر الأمير أحمد الساقى نائب صفد مقيّدا إلى بين يدى السلطان، فأرسل إلى سجن الاسكندرية.
ثمّ فى آخر المحرّم خلع السلطان على الأمراء المقدّمين، وعلى الملك المجاهد صاحب اليمن بالإيوان، وقبّل المجاهد الأرض غير مرة، وكان الأمير طاز والأمير مغلطاى تلطّفا فى أمره، حتى أعفى من أجل المال، وقرّبه السلطان، ووعده بالسفر إلى بلاده مكرّما، فقبّل الأرض وسرّ بذلك، وأذن له أن ينزل من القلعة إلى إسطبل الأمير مغلطاى ويتجهز للسّفر، وأفرج عن وزيره وخادمه وحواشيه، وأنعم عليه بمال، وبعث له الأمراء مالا جزيلا، وشرع فى القرض من [تجار «1» ] الكارم اليمن ومصر، فبعثوا له عدّة هدايا، وصار يركب حيث يشاء.

(10/229)


ثمّ فى يوم الخميس ثانى صفر، ركب الملك المجاهد فى الموكب بسوق الخيل تحت القلعة، وطلع مع النائب بيبغا ططر إلى القلعة، ودخل الى الخدمة السلطانية بالإيوان مع الأمراء والنائب، وكان موكبا عظيما، ركب فيه جماعة من أجناد الحلقة مع مقدّميهم، وخلع على المقدّمين وطلعوا إلى القلعة، واستمرّ المجاهد يركب فى الخدم مع النائب بسوق الخيل، ويطلع إلى القلعة ويحضر الخدمة.
ثمّ خلع السلطان على الأمير صرغتمش، واستقرّ رأس نوبة على ما كان عليه أوّلا، بعناية الأمير طاز والأمير مغلطاى.
وفى يوم السبت ثامن عشر من صفر برز المجاهد صاحب اليمن بثقله من القاهرة إلى الرّيدانية متوجّها إلى بلاده، وصحبته الأمير قشتمر شادّ الدواوين، وكتب للشريف عجّلان أمير مكة بتجهيزه إلى بلاده، وكتب لبنى شعبة وغيرهم من العربان بالقيام فى خدمته، وخلع عليه، وقرّر المجاهد على نفسه مالا «1» يحمله فى كلّ سنة، وأسرّ السلطان إلى قشتمر، إن رأى منه ما يريبه يمنعه من السفر، ويطالع السلطان فى أمره، فرحل المجاهد من الريدانية فى يوم الخميس ثالث عشرينه، ومعه عدّة مماليك اشتراها وكثير من الخيل والجمال.
ثمّ فى أوائل جمادى الآخرة توعّك السلطان ولزم الفراش أياما، فبلغ طاز ومنكلى بغا ومغلطاى أنه أراد بإظهار توعّكه القبض عليهم إذا دخلوا عليه، وكان قد اتفق مع قشتمر وألطنبغا الزامر وملكتمر الماردينى وتنكزبغا على ذلك، وأنه ينعم عليهم بإقطاعاتهم وإمرياتهم، فواعدوا الأمراء أصحابهم، واتفقوا مع الأمير بيبغا ططر النائب والأمير طيبغا المجدىّ والأمير رسلان بصل، وركبوا يوم الأحد

(10/230)


سابع عشرين جمادى الآخرة بأطلابهم، ووقفوا عند قبّة النصر خارج القاهرة، فخرج السلطان إلى القصر، وبعث يسألهم عن سبب ركوبهم، فقالوا: أنت اتّفقت مع مماليكك على مسكنا، ولا بدّ من إرسالهم إلينا، فبعث تنكزبغا وقشتمر «1» وألطنبغا الزامر وملكتمر، فعندما وصلوا إليهم قيّدوهم وبعثوهم إلى خزانة شمائل، فسجنوا بها، فشقّ ذلك على السلطان، وبكى وقال: قد نزلت عن السلطنة، وسيّر إليهم النّمجاة «2» ؛ فسلموها للأمير طيبغا المجدىّ. وقام السلطان حسن إلى حريمه، فبعثوا الأمراء الأمير صرغتمش ومعه الأمير قطلوبغا الذّهبىّ، ومعهم جماعة ليأخذوه ويحبسوه، فطلعوا إلى القلعة راكبين إلى باب القصر «3» الأبلق، ودخلوا إلى الملك الناصر حسن، وأخذوه من بين حرمه، فصرخ النساء صراخا عظيما، وصاحت الستّ حدق «4» على صرغتمش صياحا منكرا، وقالت له: هذا جزاؤه منك. وسبّته سبّا فاحشا، فلم يلتفت صرغتمش إلى كلامها، وأخرجه وقد غطّى وجهه إلى الرّحبة، فلما رآه لخدّام والمماليك تباكوا عليه بكاء كثيرا، وطلع به إلى رواق فوق الإيوان، ووكّل به من يحفظه، وعاد إلى الأمراء، فاتّفق الأمراء على خلعه من السلطنة، وسلطنة أخيه الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاوون وتسلطن حسب ما يأتى ذكره.
ولمّا تسلطن الملك الصالح صالح، نقل أخاه الملك الناصر حسنا هذا إلى حيث كان هو ساكنا، ورتّب فى خدمته جماعة، وأجرى عليه من الرواتب ما يكفيه. ثم طلب الملك الصالح أخاه حسنا، ووعده أيضا بزيادة على إقطاعه، وزاد راتبه. وزالت دولة الملك الناصر حسن.

(10/231)


فكانت مدّة سلطنته هذه الأولى ثلاث سنين وتسعة أشهر وأربعة عشر يوما، منها مدّة الحجر عليه ثلاث سنين، ومدّة استبداده بالأمر نحو تسعة أشهر وأربعة عشر يوما، وكان القائم بدولته فى أيام الحجر عليه الأمير شيخون العمرىّ رأس نوبة النّوب، وإليه كان أمر خزانة الخاصّ، ومرجعه لعلم الدين ابن زنبور ناظر الخاصّ. وكان الأمير منجك اليوسفىّ الوزير والأستادار ومقدّم المماليك، إليه التصرّف فى [أموال «1» ] الدولة. والأمير بيبغا أرس نائب السلطنة وإليه حكم العسكر وتدبيره، والحكم بين الناس. وكان المتولّى لتربية السلطان حسن خوند طغاى زوجة أبيه، ربّته وتبنّت به. وكانت الستّ حدق الناصريّة دادته.
وكان الأمراء المذكورون رتّبوا له فى أيام سلطنته، فى كلّ يوم مائة درهم، يأخذها خادمه من خزانة الخاصّ، وليس ينوبه سواها، وذلك خارج عن سماطه وكلفة حريمه، فكان ما ينعم به السلطان حسن فى أيام سلطنته ويتصدّق به من هذه المائة درهما لا غير، إلى أن ضجر من الحجر، وسافر النائب بيبغا أرس والأمير طاز إلى الحجاز، وخرج شيخون، إلى العبّاسة «2» للصيد، واتفق السلطان حسن مع مغلطاى الأمير آخور وغيره على ترشيده، فترشّد حسب ما ذكرناه. واستبدّ بالدار المصرية. ثم قبض على منجك وشيخون وبيبعا أرس، إلى أن كان من أمره ما كان، على أنه سار فى سلطنته بعد استبداده بالأمور مع الأمراء أحسن سيرة، فإنه اختصّ بالأمير طاز بعد حضوره من الحجاز، وبالغ فى الإنعام عليه.
وكانت أيّامه شديدة، كثرت فيها المغارم، بما أحدثه الوزير «3» منجك بالنواحى، وخربت عدّة أملاك على النيل، واحترقت مواضع كثيرة بالقاهرة ومصر، وخرجت

(10/232)


عربان العائذ وثعلبة وعرب الشام «1» وعرب الصعيد عن الطاعة، واشتدّ فسادهم لاختلاف كلمة مدبّرى المملكة.
وكان فى أيامه الفناء العظيم المقدّم ذكره، الذي لم يعهد فى الإسلام مثله. وتوالى فى أيامه شراقى البلاد وتلاف «2» الجسور، وقيام ابن واصل الأحدب ببلاد الصعيد، فاختلّت أرض مصر وبلاد الشام بسبب ذلك خللا فاحشا، كل ذلك من اضطراب المملكة واختلاف الكلمة، وظلم الأمير منجك وعسفه.
وأمّا الملك الناصر حسن المذكور كان فى نفسه مفرط الذكاء عاقلا، وفيه رفق بالرعيّة، ضابطا لما يدخل إليه وما يصرّفه كلّ يوم، متديّنا شهما، لو وجد ناصرا أو معينا، لكان أجلّ الملوك، يأتى بيان ذلك فى سلطنته الثانية، إن شاء الله تعالى.
وأما سلطنته هذه المرّة فلم يكن له من السلطنة إلا مجرّد الاسم فقط، وذلك لصغر سنه وعدم من يؤيّده. انتهى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 749]
السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد ابن قلاوون الأولى على مصر وهى سنة تسع وأربعين وسبعمائة، على أنه حكم من الخالية من رابع عشر شهر رمضان.
فيها أعنى (سنة تسع وأربعين) كان الوباء العظيم المقدّم ذكره فى هذه الترجمه، وعمّ الدنيا حتى دخل إلى مكّة المشرّفة، ثم عمّ شرق الأرض وغربها، فمات بهذا الطاعون بمصر والشام وغيرهما خلائق لا تحصى.

(10/233)


فممّن مات فيه من الأعيان الشيخ المحدّث برهان الدين إبراهيم بن لاچين بن عبد الله الرشيدىّ الشافعىّ فى يوم الثلاثاء تاسع «1» عشرين شوّال. ومولده فى سنة ثلاث وسبعين وستمائة. وكان أخذ القراءات عن التقىّ الصائغ «2» ، وسمع من الأبرقوهىّ «3» وأخذ الفقه عن العلم «4» العراقىّ، وبرع فى الفقه والأصول والنحو وغيره، ودرّس وأقرأ وخطب بجامع «5» أمير حسين خارج القاهرة سنين.
وتوفّى الشيخ الأديب شهاب الدين أبو العباس أحمد بن مسعد بن أحمد بن ممدود السّنهورىّ المادح الضرير. وكانت له قدرة زائدة على النظم؛ ومدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعدّة قصائد. وشعره كثير إلى الغاية، لا سيما قصائده النبوية وهى مشهورة فى حفظ المدّاح «6» .
وتوفّى القاضى الإمام البارع الكاتب المؤرّخ المفتنّ شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن القاضى محيى الدين يحيى بن فضل الله بن المجلّى بن دعجان القرشىّ العدوىّ العمرىّ الدّمشقى الشافعىّ فى تاسع ذى الحجة بدمشق. ومولده فى ثالث شوّال سنة سبعمائة «7» . وكان إماما بارعا وكاتبا فقيها نظم كثيرا من القصائد والأراجيز

(10/234)


والمقطّعات، ودو بيت. وأنشأ كثيرا من التقاليد والمناشير والتواقيع، وكتب فى الإنشاء لمّا ولى والده كتابة سرّ دمشق، ثمّ لمّا ولى والده كتابة السرّ بمصر أيضا، صار ولده أحمد هذا هو الذي يقرأ البريد على الملك الناصر محمد بن قلاوون، وينفّذ المهمّات واستمرّ كذلك فى ولاية والده الأولى والثانية، حتى تغيّر السلطان عليه وصرفه فى سنة ثمان وثلاثين، وأقام أخاه علاء الدين عليّا، وكلاهما كانا يكتبان بحضرة والدهما ووجوده، نيابة عنه لكبر سنّه؛ وتوجه شهاب الدين إلى دمشق، حتى مات بها فى التاريخ المذكور. وكان بارعا فى فنون، وله مصنّفات كثيرة، منها تاريخه:
«مسالك الأبصار «1» ، فى ممالك الأمصار» فى أكثر من عشرين مجلدا. وكتاب «فواصل «2» السّمر، فى فضائل آل عمر» فى أربع مجلدات. «والدعوة المستجابة» ، «وصبابة المشتاق» فى مجلّد، فى مدح النّبىّ صلّى الله وسلم و [دمعة «3» الباكى] «ويقظة السّاهى «4» » و «نفحة الرّوض» .
قال الشيخ صلاح الدين خليل الصّفدىّ: وأنشدنى القاضى شهاب الدين ابن فضل الله لنفسه، ونحن على العاصى هذين البيتين: [البسيط]
لقد نزلنا على العاصى بمنزلة ... زانت محاسن شطّيه حدائقها
تبكى نواعيرها العبرى بأدمعها ... لكونه بعد لقياها يفارقها
قال: فأنشدته لنفسى: [الطويل]
وناعورة فى جانب النّهر قد غدت ... تعبّر عن شوق الشّجىّ وتعرب
فيرقص عطف الغصن تيها لأنّها ... تغنّى «5» له طول الزمان ويشرب

(10/235)


وتوفّى الأمير سيف الدين أطلمش «1» الجمدار؛ كان أوّلا من أمراء مصر، ثم حجوبية دمشق إلى أن مات، وكان مشكور السّيرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلك بن عبد الله المظفّرىّ الجمدار، أحد أمراء الألوف بالديار المصرية فى يوم الخميس رابع عشرين شوّال. وكان من أعيان الأمراء، وقد تقدّم ذكره فيما مرّ.
وتوفّى الأمير سيف الدين برلغى بن عبد الله الصغير، قريب السلطان الملك الناصر «2» محمد بن قلاوون، قدم إلى القاهرة صحبة القازانيّة سنة أربع وسبعمائة، فأنعم عليه الملك الناصر بإمرة بديار مصر، وتزوّج بابنة الأمير بيبرس الجاشنكير قبل سلطنته، وعمل له مهمّا عظيما، أشعل فيه ثلاثة آلاف شمعة، ثم قبض عليه الملك الناصر بعد زوال دولة الملك المظفّر، وامتحن بسبب صهره، وحبسه الملك الناصر عشرين «3» سنة، ثمّ أفرج عنه وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة الف، فدام على ذلك إلى أن مات. وبرلغى هذا يلتبس ببرلغى الأشرفى، كلاهما كان عضدا للملك المظفّر بيبرس الجاشنكير وكانا فى عصر واحد.

(10/236)


وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان بن عبد الله الحسينىّ «1» المنصورىّ أمير جاندار، وقد أناف على ثمانين سنة، فإنه كان من مماليك الملك المنصور قلاوون.
وتوفى الأمير سيف الدين بكتوت بن عبد الله القرمانىّ المنصورىّ، أحد المماليك المنصوريّة قلاوون أيضا، وكان أحد البرجيّة. ثمّ ولى شدّ الدواوين بدمشق وحبسه الملك الناصر محمد بن قلاوون مدّة، لأنه كان من أصحاب المظفّر بيبرس، ثمّ أطلقه وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بمصر. وكانت به حدبة فاحشة وولع، ويتتبّع المطالب والكيمياء، وضاع عمره فى البطّال.
وتوفّى الأمير سيف الدين تمربغا بن عبد الله العقيلىّ نائب الكرك فى جمادى الآخرة، وكان عاقلا شجاعا مشكور السيرة.
وتوفّى الشيخ الإمام «2» كمال الدين جعفر [بن ثعلب «3» بن جعفر] بن علىّ الأدفوىّ الفقيه الأديب الشافعىّ. كان فقيها بارعا أديبا مصنفا؛ ومن مصنفاته تاريخ الصعيد المسمّى «بالطالع السعيد فى تاريخ الصعيد «4» » وله مصنّفات أخر وشعر كثير.
وتوفى الأمير سيف الدين طشتمر بن عبد الله الناصرىّ، أحد أمراء الألوف بالديار المصرية، المعروف بطلليه فى شوّال بالقاهرة، وقيل له: طلليه، لأنه كان إذا تكلّم قال فى آخر كلامه: طلليه. وهو من مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون وخاصّكيته، وصار من بعده من أعيان الأمراء بالديار المصرية، وله تربة «5» بالصحراء معروفة به، وكان شجاعا مقداما.

(10/237)


وتوفّيت خوند طغاى أمّ آنوك زوجة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وتركت مالا كثيرا جدّا، من ذلك ألف جارية، وثمانون طواشيا أعتقت الجميع وهى صاحبة التّربة «1» بالصحراء معروفة بها. وهى التى تولّت تربية السلطان الملك الناصر حسن بعد موت أمّه من أيام الملك الناصر محمد. وكانت من أعظم نساء وقتها وأحشمهنّ «2» وأسعدهنّ.
وتوفّى الشيخ الإمام الأديب البارع صفىّ الدين عبد العزيز بن سرايا بن على بن [أبى «3» ] القاسم بن أحمد بن نصر بن أبى العزّ بن سرايا بن باقى «4» بن عبد الله السّنبسىّ «5» الحلّىّ الشاعر المشهور فى سلخ «6» ذى الحجة. ومولده فى خامس شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وستمائة، وقدم القاهرة مرتين، ومدح الملك المؤيّد صاحب حماة، ومدح ملوك ماردين بنى أرتق، وله فيهم غرر القصائد، وتقدّم فى نظم الشعر.
ومدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالقصيدة المعروفة. ب «البديعيّة» وله «ديوان شعر كبير» ، وشعره سار شرقا وغربا. وهو أحد فحول الشعراء. وفيه يقول الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة: [الكامل]
يا سائلى عن رتبة الحلّىّ فى ... نظم القريض راضيا بى أحكم
للشعر حلّيان ذلك راجح ... ذهب الزمان به وهذا قيّم
ومن شعر الصفىّ الحلّىّ: [السريع]
أستطلع الأخبار من نحوكم ... وأسأل الأرواح حمل السّلام
وكلّما جاء غلام لكم ... أقول يا بشراى هذا غلام

(10/238)


ومن شعره قصيدته «1» التى أوّلها: [الكامل]
كيف الضلال وصبح وجهك مشرق ... وشذاك فى الأكوان مسك يعبق
يا من إذا سفرت محاسن وجهه ... ظلّت به حدق الخلائق تحدق
أوضحت عذرى فى هواك بواصح ... ماء الحيا بأديمه يترقرق
فإذا العذول رأى جمالك قال لى ... عجبا لقلبك كيف لا يتمزّق
يا آسرا قلب المحبّ فدمعه ... والنوم منه مطلق ومطلّق
أغنيتنى بالفكر فيك عن الكرى ... يا آسرى فأنا الغنىّ المملق
ومنها أيضا:
لم أنس ليلة زارنى ورقيبه ... يبدى الرّضا وهو المغيظ المحنق
حتى إذا عبث الكرى بجفونه ... كان الوسادة ساعدى والمرفق
عاتقته وضممته فكأنه ... من ساعدىّ ممنطق «2» ومطوّق
حتى «3» بدا فلق الصباح فراعه ... إنّ الصّباح هو العدو الأزرق
وقد استوعبنا من شعره وأحواله قطعة جيّدة فى تاريخنا «المنهل الصافى» .
رحمه الله تعالى إن كان مسيئا.
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد عبد الله المنوفىّ الفقيه المالكىّ، فى يوم الأحد ثامن شهر رمضان ودفن بالصحراء، وقبره «4» بها معروف يقصد للزيارة والتبرّك.

(10/239)


وتوفّى الإمام العلّامة شيخ الشيوخ بدمشق علاء الدين علىّ بن محمود بن حميد القونوىّ الحنفىّ فى رابع شهر رمضان، وكان إماما فقيها بارعا صوفيا صالحا.
رحمه الله.
وتوفّى الشيخ الإمام البارع المفتنّ الأديب الفقيه، زين الدين عمر بن المظفّر بن عمر بن محمد بن أبى الفوارس بن علىّ المعرّىّ الحلبىّ الشافعىّ المعروف بابن الوردىّ «1» ناظم «الحاوى فى الفقه» رحمه الله؛ وقد جاوز الستين سنة بحلب، فى سابع عشرين ذى الحجّة. وقد استوعبنا من شعره ومشايخه نبذة كبيرة فى «المنهل الصافى» إذ هو كتاب تراجم، محلّه الإطناب فى مثل هؤلاء. ومن شعره ما قاله فى مقرئ «2» . [الكامل] :

(10/240)


ووعدت أمس بأن تزور فلم تزر ... فغدوت «1» مسلوب «2» الفؤاد مشتتا
لى مهجة «3» فى النازعات وعبرة ... فى المرسلات وفكرة فى هل اتى
وله عفا الله عنه: [الوافر]
تجادلنا: أماء الزّهر أذكى ... ام الخلّاف أم ورد القطاف
وعقبى ذلك الجدل اصطلحنا ... وقد حصل الوفاق على الخلاف
وتوفّى الأمير الطّواشى عنبر السّحرتىّ لالاة السلطان الملك الكامل شعبان، ومقدّم المماليك السلطانيّة منفيّا فى القدس، بعد أن امتحن وصودر. وكان رأى من العزّ والجاه والحرمة، فى أيام الكامل شعبان ما لا مزيد عليه، حسب ما ذكرنا منه نبذة فى ترجمة الملك الكامل المذكور.
وتوفّى الأمير سيف الدين كوكاى بن عبد الله المنصور السّلاح دار، أحد أعيان الأمراء الألوف بالديار المصريّة، وكان من أجلّ الأمراء وأسعدهم، خلّف أكثر من أربعمائة ألف دينار عينا. وهو صاحب التّربة «4» والمئذنة التى بالصحراء، على رأس الهدفة، تجاه تربة «5» الملك الظاهر برقوق. وكان شجاعا مقداما. طالت ايامه فى السعادة.
وتوفى الأمير سيف الدين قطز بن عبد الله الأمير آخور، ثم نائب صفد بدمشق، وهو أحد أمرائها، فى يوم الثلاثاء رابع ذى القعدة. وكان من أعيان أمراء مصر، ولى عدّة ولايات جليلة.

(10/241)


وتوفّى الأمير سيف الدّين نكباى بن عبد الله البريدىّ المنصورىّ. كان أحد مماليك الملك المنصور قلاوون، ولى قطيا والاسكندرية، ثم أنعم عليه بإمرة طبلخاناه، واستقرّ مهمندارا. وإليه تنسب دار «1» نكباى خارج مدينة مصر على النيل، وعنى بعمارتها فلم يتمتع بها.
وتوفّى الأمير شرف الدين محمود [بن أوحد «2» ] بن خطير أخو الأمير مسعود.
وأظنه صاحب الجامع «3» بالحسينية خارج القاهرة.
وتوفّى الشيخ المحدّث الواعظ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن ميلق الشاذلىّ.
كان يجلس ويذكّر الناس ويعظ، وكان لوعظه تأثير فى النفوس.
وتوفّى الشيخ المعتقد زين الدين أبو بكر بن النّشاشيبى «4» . كان له قدم وللناس فيه محبّة واعتقاد. رحمه الله.
وتوفّى الرئيس شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عمر الأسيوطىّ ناظر بيت المال، كان مغدودا من أعيان الديار المصرية، وله ثروة. وإليه ينسب جامع «5» الأسيوطىّ بخطّ جزيرة الفيل.

(10/242)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا. وحوّلت هذه السنة إلى سنة خمسين. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 750]
السنة الثانية من ولاية السلطان الملك الناصر حسن الأولى على مصر وهى سنة خمسين وسبعمائة.
فيها توفّى مكين الدين إبراهيم بن قروينة بطالا، بعد ما ولى استيفاء الصّحبة، ونظر البيوت، ثم نظر الجيش مرتين ثمّ تعطّل إلى أن مات. وكان من أعيان الكتّاب ورؤسائهم.
وتوفّى الأمير سيف الدين أرغون شاه بن عبد الله الناصرىّ، نائب الشام مذبوحا فى ليلة الجمعة رابع عشرين شهر ربيع الأوّل، وكان من أعيان مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون وخواصّه، ربّاه وجعله أمير طبلخاناه رأس نوبة الجمدارية.
ثم استقرّ بعد وفاته أستادارا أمير مائة ومقدّم ألف بديار مصر، فتحكّم على الملك الكامل شعبان، حتى أخرجه لنيابة صفد، وولى بعدها نيابة حلب. ثمّ نيابة الشام.
وكان خفيفا قوىّ النفس شرس الأخلاق، مهابا جبّارا فى أحكامه، سفّاكا للدماء غليظا فاحشا، كثير المال والحشم.

(10/243)


وكان أصله من بلاد الصّين حمل إلى بو سعيد بن خربندا ملك التّتار، فأخذه دمشق خجا بن جوبان. ثم ارتجعه بو سعيد بعد قتل «1» [دمشق خجا بن] جوبان، وبعث به إلى الناصر هديّة ومعه ملكتمر السّعيدىّ «2» . وقد تقدّم من ذكر أرغون شاه هذا نبذة كبيرة فى عدّة تراجم من هذا الكتاب، من أوّل ابتداء أمره حتى كيفية قتله، فى ترجمة الملك الناصر حسن هذا، فلينظر هناك.
وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين أرقطاى بن عبد الله المنصورى، نائب السلطنة بالديار المصرية، ثم نائب حلب ثم ولى نيابة دمشق، فلما خرج منها متوجّها إلى دمشق، مات بظاهرها عن نحو ثمانين سنة، فى يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى.
وأصله من مماليك الملك المنصور قلاوون، ربّاه الطواشى فاخر «3» أحسن تربية إلى أن توجّه الملك الناصر إلى الكرك توجه معه، فلما عاد الملك الناصر إلى ملكه جعله من جملة الأمراء. ثم سيّره صحبة الأمير تنكز إلى الشام، وأوصى تنكز ألا يخرج عن رأيه، فأقام عنده مدّة، ثم ولّاه نيابة حمص سنتين ونصفا. ثم نقله إلى نيابة صفد، فأقام بها ثمانى عشرة سنة. ثم قدم مصر، فأقام بها خمس «4» سنين وجرّد إلى آياس «5» . ثم ولى نيابة طرابلس، ومات الملك الناصر محمد، فقدم مصر بعد موته

(10/244)


فقبض عليه. ثمّ أفرج عنه، وبعد مدّة ولى نيابة حلب. ثمّ عزل وطلب الى مصر فصار يجلس رأس المبمنة. ثمّ ولى نيابة السلطنة بالديار المصرية نحو سنتين.
ثم أخرج لنيابة حلب ثانيا، بحسب سؤاله فى ذلك، فأقام بها مدّة. ثم نقل إلى نيابة الشام بعد قتل أرغون شاه، فمات خارج حلب قبل أن يباشر دمشق، ودفن بحلب. وكان أميرا جليلا عظيما مهابا عاقلا سيوسا، مشكور السّيرة محبّبا للرعية.
وقد تقدّم من أخباره ما يغنى عن الاعادة هنا.
وتوفّى الأمير سيف الدين ألجيبغا بن عبد الله المظفّرى نائب طرابلس، موسّطا بسوق خيل دمشق، فى يوم الاثنين ثانى «1» شهر ربيع الآخر، بمقتضى قتله الأمير أرغون شاه نائب الشام، وقد تقدّم كيفيّة قتله أرغون شاه فى ترجمة السلطان حسنى هذا، وأيضا واقعة توسيطه مفصّلا هناك. وكان ألجيبغا من مماليك المظفّر حاجّى ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون ومن خواصّه. وقتل ألجيبغا وسنّه دون العشرين سنة، بعد أن صار أمير مائة ومقدّم ألف بمصر والشام ونائب طرابلس، ووسّط معه إياس الآتى ذكره.
وتوفّى الأمير فخر الدين إياس «2» بن عبد الله الناصرى، موسّطا أيضا بسوق خيل دمشق لموافقته ألجيبغا المقدّم ذكره على قتل أرغون شاه فى التاريخ المذكور أعلاه.
وكان أصل إياس هذا من الأرمن، وأسلم على يد الملك الناصر محمد بن قلاوون، فرقّاه حتّى عمله شادّ العمائر. ثم أخرجه الى الشام شادّ الدواوين. ثم صار حاجبا بدمشق. ثم نائبا بصفد. ثم نائبا بحلب. ثم عزل بسعى أرغون شاه به، وقدم

(10/245)


دمشق أميرا فى نيابة أرغون شاه لدمشق، فصار أرغون شاه يهينه، وإياس يومئذ تحت حكمه، فحقد عليه، واتّفق مع ألجيبغا نائب طرابلس حتّى قتلاه ذبحا، حسب ما ذكرناه مفصلا، فى ترجمة السلطان الملك الناصر حسن.
وتوفّى الإمام العلّامة قاضى القضاة علاء الدين علىّ ابن القاضى فخر الدين عثمان ابن إبراهيم بن مصطفى الماردينىّ الحنفىّ المعروف بالتّركمانى- رحمه الله تعالى- فى يوم الثلاثاء عاشر المحرّم بالقاهرة. ومولده فى سنة ثلاث وثمانين وستّمائة، وهو أخو العلّامة تاج الدين أحمد «1» ، ووالد الإمامين العالمين: عزّ «2» الدين عبد العزيز وجمال «3» الدين عبد الله، وعمّ العلّامة محمد بن أحمد، يأتى ذكر كلّ واحد من هؤلاء فى محلّه إن شاء الله تعالى. وكان قاضى القضاة علاء الدين إماما فقيها بارعا نحويّا أصوليّا لغويّا، أفتى ودرّس وأشغل وألّف وصنّف، وكان له معرفة تامّة بالأدب وأنواعه، وله نظم ونثر: كان إمام عصره بلا مدافعة، لا سيّما فى العلوم العقلية والفقه أيضا والحديث، وتصدّى للإقرار عدّة سنين. وتولّى قضاء الحنفية بالديار المصرية فى شوّال سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، عوضا عن قاضى القضاة زين الدين البسطامىّ «4» ، وحسنت سيرته، ودام قاضيا إلى أن مات. وتولّى عوضه ولده جمال الدين عبد الله.

(10/246)


ومن مصنّفاته- رحمه الله- كتاب «بهجة «1» الأريب فى بيان ما فى كتاب الله العزيز من الغريب» و «المنتخب فى علوم الحديث» و «المؤتلف والمختلف» و «الضعفاء «2» والمتروكون» و «الدرّ النّقىّ فى الردّ على البيهقىّ» وهو جليل فى معناه، يدلّ على علم غزير، واطّلاع كثير، و «مختصر المحصّل فى الكلام» و «مقدّمة فى أصول الفقه» و «الكفاية «3» فى مختصر الهداية» و «مختصر رسالة القشيرىّ» وغير ذلك.
وتوفّى قاضى القضاة تقىّ الدين محمد بن أبى بكر بن عيسى بن بدران السّعدىّ الإخنائىّ المالكىّ «4» ، فى ليلة الثالث من صفر. ومولده فى شهر رجب سنة أربع وستّين وستّمائة، وكان فقيها فاضلا محدّثا بارعا. ولى شهادة الخزانة. ثم تولّى قضاء الإسكندرية. ثم نقل لقضاء دمشق بعد علاء الدين «5» القونوىّ. وحسنت سيرته.
وتولى بعده جمال الدّين يوسف [بن «6» إبراهيم] بن جملة.
وتوفّيت خوند بنت الملك الناصر محمد بن قلاوون زوجة الأمير طاز، وخلّفت أموالا كثيرة، أبيع موجودها بباب القلّة من القلعة بخمسمائة ألف درهم، من جملة ذلك قبقاب مرصّع بأربعين ألف درهم، عنها يوم داك ألفا دينار مصريّة.

(10/247)


وتوفّى شيخ القرّاء شهاب الدين أحمد بن أحمد بن الحسين المعروف بالهكّارى، بالقاهرة فى جمادى الأولى. وكان إماما فى القراءات، تصدّى للإقرار عدّة سنين وانتفع به الناس.
وتوفّى الأمير طقتمر بن عبد الله الشّريفىّ، بعد ما عمى ولزم داره «1» وكان من أعيان الأمراء.
وتوفّى الشيخ الإمام نجم الدين عبد الرحمن «2» بن يوسف بن إبراهيم بن محمد ابن إبراهيم بن علىّ القرشىّ الأصفونىّ «3» الشافعى، بمنى، فى ثالث عشر ذى الحجّة.
وكان فقيها عالما مصنّفا، ومن مصنّفاته: «مختصر «4» الرّوضة فى الفقه» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 751]
السنة الثالثة من سلطنة الناصر حسن الأولى على مصر وهى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.

(10/248)


فيها توفّى الأمير سيف الدين دلنجى «1» بن عبد الله (ودلنجى هو المكدى باللّغة التركيّة) . كان أصله من الأتراك وقدم إلى الديار المصريّة سنة ثلاثين وسبعمائة، فأنعم عليه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بإمرة عشرة. ثمّ إمرة طبلخاناة.
ثمّ ولى نيابة غزّة بعد الأمير تلجك، فأوقع بالمفسدين ببلاد غزّة وأبادهم، وقويت حرمته. وكان شجاعا مهابا
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة شمس الدين محمد بن أبى بكر بن أيوب الزّرعىّ الدّمشقىّ الحنبلى، المعروف بابن قيّم الجوزيّة بدمشق، فى ثالث عشر شهر رجب.
ومولده سنة إحدى وتسعين وستّمائة. وكان بارعا فى عدّة علوم، ما بين تفسير وفقه وعربيّة ونحو وحديث وأصول وفروع، ولزم شيخ الإسلام تقىّ «2» الدين بن تيميّة بعد عوده من القاهرة فى سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، وأخذ منه علما كثيرا، حتّى صار أحد أفراد زمانه، وتصدّى للإقراء والإفتاء سنين، وانتفع به الناس قاطبة، وصنّف وألّف وكتب. وقد استوعبنا أحواله ومصنّفاته وبعض مشايخه فى ترجمته فى «المنهل الصافى» كما ذكرنا أمثاله.
وتوفّى الأمير حسام الدين لاچين بن عبد الله العلائىّ الناصرىّ. أصله من مماليك الناصر محمد. ثم صار أمير جاندار فى ولة الملك المظفّر حاجّىّ، فإنه كان روج أمّه. ثمّ ولى أمير آخور، فلمّا قتل الملك المظفر فى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، عزل وأخرج إلى حلب، على إقطاع الأمير حسام الدين محمود بن داود الشّيبانىّ، فدام بحلب إلى أن مات بها، وقيل بغيرها.

(10/249)


وتوفّى الشيخ فخر الدين أبو عبد الله محمد بن علىّ بن إبراهيم بن عبد الكريم المصرى، الفقيه الشافعىّ بدمشق، فى سادس «1» عشرين ذى القعدة، ومولده سنة إحدى وتسعين وستّمائة. وكان فقيها عالما فاضلا بارعا فى فنون.
وتوفّى ابن قرمان صاحب جبال الروم بعد مرض طويل.
قلت: وبنو قرمان «2» هؤلاء هم من ذريّة السلطان علاء الدين كيقباد السّلجوقىّ، وهم ملوك تلك البلاد إلى يومنا هذا، وقد تقدّم من ذكرهم جماعة كثيرة فى هذا الكتاب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع ونصف، وقيل خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة دراعا. ونزل فى خامس توت وشرقت البلاد.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 752]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الناصر حسن الأولى على مصر وهى سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، وهى التى خلع فيها السلطان حسن المذكور فى سابع وعشرين جمادى الآخرة، وحكم فى باقيها أخوه الملك الصالح صالح ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون.
فيها توفّى السيّد الشريف أدّى «3» أمير المدينة النبويّة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فى السجن.

(10/250)


وتوفّى الأمير سيف الدين طشبغا «1» بن عبد الله الناصرىّ الدّوادار. كان من جملة الأمراء فى الديار المصريّة، فلمّا أخرج الأمير جرجى الدوادار من القاهرة، فى أوّل دولة الملك الناصر حسن، استقرّ طشبغا هذا دوادارا عوضه، فى شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، واستمرّ على ذلك إلى أن توفّى. وكان خيّرا ديّنا فاضلا عاقلا.
وتوفّى قاضى القضاة الحنفيّة بحلب ناصر الدين محمد بن عمر بن عبد العزيز ابن محمد بن أبى الحسن «2» بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله [بن أحمد «3» ] بن يحيى بن أبى جرادة، المعروف بابن العديم الحلبى بحلب، عن ثلاث وستّين سنة.
وقد تقدّم ذكر جماعة من آبائه وأقاربه فى هذا الكتاب، وسيأتى ذكر جماعة أخر من أقاربه، كلّ واحد فى محلّه. إن شاء الله تعالى.
وتوفّى ملك الغرب أبو الحسن علىّ بن ابى سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحقّ ابن محيو بن أبى بكر بن حمامة «4» فى ليلة «5» الثلاثاء السابع والعشرين من شهر ربيع الأوّل، وقام فى الملك من بعده ابنه أبو عنان فارس. وكانت مدّة ملكه إحدى وعشرين سنة.

(10/251)


وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الرحيم بن عبد الله بن محمد ابن محمد بن خالد بن محمد بن نصر المعروف بابن القيسرانىّ، موقّع الدّست وصاحب المدرسة «1» بسويقة الصاحب داخل القاهرة وبها دفن، وكان معدودا من الرؤساء الأماثل.

(10/252)


وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدىّ، أحد أمراء الطبلخاناة بالديار المصرية، وهو مجرّد ببلاد الصعيد، فحمل إلى القاهرة ميّتا فى يوم الأحد ثانى عشرين شهر رمضان.
وتوفّى الشيخ الإمام تاج الدين أبو الفضل «1» محمد بن إبراهيم بن يوسف المرّاكشىّ الأصل الشافعىّ بدمشق فى جمادى الآخرة. وكان فقيها فاضلا بارعا معدودا من فقهاء الشافعية.
وتوفّى القاضى علاء الدين علىّ بن محمد بن مقاتل الحرّانىّ ثم الدّمشقىّ ناظر دمشق بالقدس الشريف، فى عاشر شهر رمضان.
قلت: لعلّ علاء الدين هذا غير الأديب علاء الدين بن مقاتل الزّجّال الحموىّ.
لأنى أحفظ وفاة هاذاك، فى سنة إحدى وستين وسبعمائة، وهكذا أرّخناه فى «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» .
أمر النيل فى هذه السنة. المآن القديم ستّ أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة. والله أعلم.

(10/253)


ذكر سلطنة الملك الصالح صالح ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون
هو العشرون من ملوك التّرك بديار مصر، والثامن من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون. وأمّه خوند قطلو ملك بنت الأمير تنكز الناصرىّ نائب الشام، تسلطن بعد خلع أخيه الملك الناصر حسن فى يوم الاثنين ثامن «1» عشرين جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، باتفاق الأمراء على ذلك، وأمره أنّ الأمراء لما حملت لهم نمجاة الملك، وأخبروا بأن الناصر حسنا خلع نفسه، وهم وقوف بقبّة النصر خارج القاهرة، توجّهوا الى بيوتهم، وباتوا تلك الليلة وهى ليلة الاثنين بإسطبلاتهم، وأصبحوا بكرة يوم الاثنين طلعوا إلى القلعة، واجتمعوا بالرّحبة داخل باب النحاس «2» ، وطلبوا الخليفة والقضاة وسائر الأمراء وأرباب الدولة، واستدعوا بالصالح هذا من الدور السلطانية؛ فأخرج لهم فقاموا له وأجلسوه وبايعوه بالسلطنة، وألبسوه شعار الملك وأبّهة السلطنة، وأركبوه فرس النّوبة من داخل باب السّتارة، ورفعت الغاشية بين يديه ومشت الأمراء والأعيان بين يديه والأمير طاز والأمير منكلى بغا آخذان بشكيمة فرسه، وسار على ذلك حتى نزل وجلس على تخت الملك بالقصر، وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه، وحلفوا له [وحلّفوه «3» ] على العادة، ولقّبوه بالملك الصالح، ونودى بسلطنته بمصر

(10/254)


والقاهرة ودقّت الكوسات وزيّنت القاهرة وسائر بيوت الأمراء. وقبل سلطنته كان النيل نقص عند ما كسر عليه، فردّ نقصه ونودى عليه بزيادة ثلاث أصابع من سبع عشرة ذراعا، فتباشر الناس بسلطنته.
ثم توجّه الأمير بزلار أمير سلاح إلى الشام، ومعه التشاريف والبشارة بولاية السلطان الملك الصالح، وتحليف العساكر الشامية له على العادة. ثم طلب الأمير طاز والأمير مغلطاى مفاتيح الذخيرة ليعتبرا «1» ما فيها فوجدا شيئا يسيرا. ثم رسم للصاحب علم الدين عبد الله بن زنبور، بتجهيز تشاريف الأمراء وأرباب الوظائف على العادة، فجهّزها فى أسرع وقت، ووقف الأمير طاز سأل السلطان والأمراء الإفراج عن الأمير شيخون العمرى، فرسم بذلك، وكتب كلّ من مغلطاى وطاز كتابا، وبعث مغلطاى أخاه قطليجا «2» رأس نوبة، وبعث طاز الأمير طقطاى صهره، وجهزت له الحرّاقة «3» لإحضاره من الإسكندرية فى يوم الثلاثاء تاسع «4» عشرين جمادى الآخرة من سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة المذكورة، وكان ذلك بغير اختيار الأمير مغلطاى، إلّا أنّ الأمير طاز دخل عليه وألحّ عليه فى ذلك، حتى وافقه على مجيئه، بعد أن قال «5» له: أخشى على نفسى من مجىء شيخون إلى مصر، فحلف له طاز أيمانا مغلّظة أنه معه على كلّ ما يريد، ولا يصيبه من شيخون ما يكره، وأنّ شيخون إذا حضر لا يعارضه فى شىء من أمر المملكة، وإنى ضامن له فى هذا، وما زال به حتى أذعن، وكتب له مع أخيه، فشقّ ذلك على الأمير منكلى بغا الفخرىّ، وعتب مغلطاى على موافقة طاز، وعرّفه أنّ بحضور شيخون إلى مصر يزول عنهم

(10/255)


ما هم فيه، فتقرّر فى ذهن مغلطاى ذلك، وندم على ما كان منه، إلى أن كان يوم الخميس أوّل شهر رجب، وركب الأمراء فى الموكب على العادة، أخذ منكلى بغا يعرّف النائب والأمراء بإنكار «1» ما دار بينه وبين مغلطاى، وحذّرهم من حضور شيخون إلى أن وافقوه، وطلعوا إلى القلعة ودخلوا إلى الخدمة، فابتدأ النائب بحضور «2» شيخون وقال: إنه رجل كبير ويحتاج إلى إقطاع كبير وكلف كثيرة، فتكلّم مغلطاى ومنكلى بغا والأمراء وطاز ساكت، قد اختبط لتغيّر مغلطاى ورجوعه على ما وافقه عليه، وأخذ طاز يتلطّف بهم، فصمّم مغلطاى على ما هو عليه وقال: مالى وجه أنظر به شيخون، وقد أخذت منصبه ووظيفته وسكنت فى بيته، فوافقه النائب، وقال لناظر الجيش: اكتب له مثالا «3» بنيابة حماة، فكتب ناظر الجيش ذلك فى الوقت، وتوجه به أيدمر الدوادار فى الحال فى حرّاقة، وعيّن لسفر شيخون عشرون هجينا ليركبها ويسير عليها إلى حماة.
وانفضّوا وفى نفس طاز ما لا يعبّر عنه من القهر، ونزل واتّفق هو والأمير صرغتمش وملكتمر وجماعة، واتفقوا جميعا، وبعثوا إلى مغلطاى، بأنّ منكلى بغا رجل فتنىّ، وما دام بيننا لا نتّفق أبدا، فلم يصغ مغلطاى إلى قولهم، واحتجّ بأنه إن وافقهم لا يأمن على نفسه، فدخل عليه طاز ليلا بالأشرفية «4» من قلعة الجبل، حيث هى مسكن مغلطاى وخادعه، حتى أجابه إلى إخراج منكلى بغا وتحالفا على ذلك؛ فما هو إلا أن خرج عنه طاز، أخذ دوادار مغلطاى يقبّح على مغلطاى

(10/256)


ما صدر منه، ويهوّل عليه الأمر، بأنه متى ابعد منكلى بغا وحضر شيخون أخذ لا محالة، فمال إليه، وبلغ الخبر منكلى بغا بكرة يوم الجمعة ثانيه. فواعد النائب والأمراء على الاجتماع فى صلاة الجمعة، ليقع الاتفاق على ما يكون، فلم يخف عن طاز وصرغتمش رجوع مغلطاى عما تقرّر بينه وبين طاز ليلا، فاستعدّا للحرب، وواعدا الأمير ملكتمر «1» المحمدىّ، والأمير قردم «2» الحموىّ، ومن يهوى هواهم، واستمالوا مماليك بيبغا أرس ومماليك منجك حتى صاروا معهم رجاء لخلاص أستاذيهم، وشدّ الجميع خيولهم، فلمّا دخل الأمراء لصلاة الجمعة، اجتمع منكلى بغا بالنائب وجماعته، وقرّر معهم أن يطلبوا طاز وصرغتمش الى عندهم فى دار النيابة، ويقبضوا عليهما، فلمّا أتاهما الرسول من النائب يطلبهما، أحسّا بالشرّ وقاما ليتهيأ للحضور، وصرفا الرسول على أنهما يكونان فى أثره، وبادرا الى باب الدوّر ونحوه من الأبواب فأغلقاها، واستدعوا من معهم من المماليك السلطانية وغيرها، ولبسوا السلاح، ونزل صرغتمش بمن معه من باب السرّ، ليمنع من يخرج من اسطبلات الأمراء، ودخل طاز على السلطان الملك الصالح، حتى يركب به للحرب، فلقى الأمير صرغتمش فى نزوله الأمير أيدغدى أمير آخور، فلم يطق منعه، وأخذ بعض الخيول من الاسطبل وخرج منه، فوجد خيله وخيل من معه فى انتظارهم، فركبوا الى الطبلخاناه، فاذا طلب منكلى بغا مع ولده ومماليكه يريدون قبّة النصر، فألقوا ابن منكلى بغا عن فرسه، وجرحوه فى وجهه، وقتلوا حامل الصّنجق وشتّتوا شمل الجميع، فما استتم هذا، حتى ظهر طلب مغلطاى مع مماليكه، ولم يكن لهم علم بما وقع على طلب منكلى بغا، فصدمهم صرغتمش أيضا بمن معه صدمة بدّدتهم،

(10/257)


وجرح جماعة منهم وهزم بقيّتهم. ثم عاد صرغتمش ليدرك الأمراء قبل نزولهم من القلعة، وكانت خيولهم واقفة على باب السّلسلة تنتظرهم، فمال عليها صرغتمش ليأخذها، وامتدّت أيدى أصحابه إليها وقتلوا الغلمان، فعظم الصّياح وانعقد الغبار، واذا بالنائب ومنكلى بغا ومغلطاى وبيغرا ومن معهم قد نزلوا وركبوا خيولهم، وكانوا لمّا أبطأ عليهم حضور طاز وصرغتمش بعثوا فى استحثاثهم، فاذا الأبواب مغلقة، والضجّة داخل باب القلعة، فقاموا من دار النيابة يريدون الركوب فلمّا توسّطوا بالقلعة حتى سمعوا ضجّة الغلمان وصياحهم، فأسرعوا إليهم وركبوا، فشهر مغلطاى سيفه وهجم بمن معه على صرغتمش، ومرّ النائب وبيغرا ورسلان بصل، يريد كلّ منهم إسطبله، فلم يكن غير ساعة حتى انكسر مغلطاى من صرغتمش كسرة قبيحة، وجرح كثير من أصحابه، وفرّ الى جهة قبّة النصر وهم فى أثره، وانهزم منكلى بغا أيضا.
وكان طاز لمّا دخل على السلطان عرّفه، أن النائب والأمراء اتّفقوا على إعادة الملك الناصر حسن الى السلطنة، فمال السلطان الملك الصالح الى كلامه، فقام معه فى مماليكه، ونزل الى الإسطبل واستدعى بالخيول ليركب، فقعد «1» به أيدغدى أمير آخور واحتجّ بقلّة «2» السّروج، فانه كان من حزب مغلطاى، فأخذوا المماليك ما وجدوه من الخيول وركبوا بالسلطان، ودقت الكوسات فاجتمع إليه الأمراء والمماليك والأجناد من كلّ جهة، حتى عظم جمعه، فلم تغرب الشمس إلا والمدينة قد أغلقت، وامتلأت الرّميلة بالعامة، وسار طاز بالسلطان يريد قبّة النصر، حتى يعرف خبر صرغتمش، فوافى قبّة النصر بعد المغرب، فوجد صرغتمش

(10/258)


قد تمادى فى طلب مغلطاى ومنكلى بغا حتى أظلم الليل، فلم يشعر إلا بمملوك النائب قد أتاه برسالة النائب أن مغلطاى عنده فى بيت «1» آل ملك بالحسينيّة، فبعث صرغتمش جماعة لأخذه، ومرّ فى طلب منكلى بغا، فلقيه الأمير محمد بن بكتمر «2» الحاجب وعرّفه أن منكلى بغا نزل قريبا من قناطر «3» الأميرية، ووقف يصلّى، وأنّ طلب الأمير مجد الدين موسى بن الهذبانىّ، قد جاء من جهة كوم الرّيش «4» ، ولحقه الأمير أرغون ألبكى فى جماعة، فقبض عليه وهو قائم يصلّى، وكتّفوه بعمامته، وأركبوه بعد ما نكلّوا به، فلم يكن غير قليل حتى أتوا بهما فقيّدا وحبسا بخزانة شمائل، ثم أخرجا إلى الإسكندرية، ومعهما ابنا منكلى بغا فسجنوا بها.
وأمّا صرغتمش فإنه لمّا فرغ من أمر مغلطاى ومنكلى بغا وقبض عليهما، أقبل على السلطان بمن معه بقبة النصر، وعرّفه بمسك الأميرين، فسرّ السلطان سرورا كبيرا، ونزل هو والأمراء وباتوا بقبّة النصر، وركب السلطان بكرة يوم السبت ثالث شهر رجب إلى قلعة الجبل، وجلس بالإيوان وهنّئوه بالسلامة والظفر، وفى الحال كتب بإحضار الأمير شيخون، وخرج جماعة من الأمراء بمماليكهم «5» إلى لقائه، ونزلت البشائر إلى بيت شيخون، وبيت بيبغا أرس وبيت منجك اليوسفىّ الوزير، فكان يوما عظيما، وبات الأمراء تلك الليلة على تخوّف.
وأمّا شيخون لمّا ورد عليه الرسول بإطلاقه أوّلا، خرج من الإسكندريّة وهو ضعيف، وركب الحرّاقة، وفرح أهل الإسكندرية لخلاصه، وسافر فوافاه كتاب

(10/259)


الأمير صرغتمش بأنه إذا أتاك أيدمر بنيابة حماة، لا ترجع وأقبل إلى القاهرة فأنا وطاز معك؛ فلمّا قرأ شيخون الكتاب تغير وجهه، وعلم أنه قد حدث فى أمره شىء، فلم يكن غير ساعة «1» ، حتى لاحت له حرّاقة أيدمر، فمرّ شيخون وهو مقلع وأيدمر منحدر إلى أن تجاوزه، وأيدمر يصيح ويشير بمنديله إليه فلا يلتفتون إليه، فأمر أيدمر بأن تجهّز مركبه بالقلع، وترجع خلف شيخون، فما تجهّز قلع مركب أيدمر حتى قطع شيخون بلادا كثيرة، وصارت حرّاقته تسير وأيدمر فى أثرهم فلم يدركوه إلا بكرة يوم السبت، فعند ما طلع إليه أيدمر وعرّفه ما رسم به، من عوده إلى حماة، وقرأ المرسوم الذي على يد أيدمر برجوعه إلى نيابة حماة، وإذا بالخيل يتبع بعضها بعضا، والمراكب قد ملأت وجه الماء تبادر لبشارته وإعلامه بما وقع من الركوب ومسك مغلطاى ومنكلى بغا، فسرّ شيخون بذلك سرورا عظيما «2» ، وسار إلى أن أرسى بساحل «3» بولاق فى يوم الأحد رابع شهر رجب، بعد أن مشت له الناس إلى منية الشيرج، فلما رأوه صاحوا ودعوا له وتلقّته المراكب، وخرج الناس إلى الفرجة عليه، حتى بلغ كراء المركب إلى مائة درهم، وما وصلت الحرّاقة إلا وحولها فوق ألف مركب، وركبت الأمراء إلى لقائة وزيّنت الصليبة وأشعلت الشموع، وخرجت مشايخ الصوفية بصوفيّتهم إلى لقائه، فسار فى موكب لم ير مثله لأمير قبله، وسار حتى طلع القلعة وقبّل الأرض بين يدى السلطان الملك الصالح، فأقبل عليه السلطان وخلع»
عليه تشريفا جليلا، وقلع عنه ثياب السجن، وهى

(10/260)


ملّوطة «1» طرح محرّر. ثم نزل إلى منزله والتهانى تتلقاه. ودام الأمر على ذلك إلى يوم الأربعاء سابع شهر رجب رسم، بإخراج الأمير بيبغا أرس حارس طير نائب السلطنة بالديار المصرية فالأمير بيغرا، فنزل الحاجب إلى بيت آل ملك بالحسينية وبه كان سكن بيبغا المذكور، وأخرج منه ليسير من مصر إلى نيابة غزّة، وأخرج

(10/261)


بيغرا من الحمّام إخراجا عنيفا ليتوجّه إلى حلب، فركبا من فورهما وسارا. ثم رسم بإخراج الأمير أيدغدى الأمير آخور إلى طرابلس بطّالا، وكتب بالإفراج عن المسجونين بالإسكندرية والكرك.
وفى يوم السبت عاشره ركب السلطان والأمراء إلى الميدان على العادة، ولعب فيه بالكرة، فكان يوما مشهودا.
ووقف الناس للسلطان، فى الفار الضامن، ورفعوا فيه مائة قصّة فقبض عليه، وضربه الوزير بالمقارع ضربا مبرّحا وصادره، وأخذ منه مالا كثيرا.
وفيه قبض على الأمير بيبغا «1» ططر المعروف بحارس طير نائب السلطنة المتوجّه إلى نيابة غزّة فى طريقه، وسجن بالإسكندرية.
وفى يوم الأحد حادى عشره وصل الأمراء من سجن الإسكندرية وهم سبعة نفر: منجك اليوسفىّ الوزير وفاضل أخو بيبغا أرس وأحمد الساقى نائب صفد وعمر شاه الحاجب وأمير حسين التّترىّ وولده، والأمير محمد بن بكتمر الحاجب. فركب الأمراء ومقدّمهم الأمير طاز، ومعه الخيول المجهّزة لركوبهم، حتى لقيهم وطلع بهم إلى القلعة، فقبّلوا الأرض وخلع السلطان عليهم، ونزلوا إلى بيوتهم فامتلأت الزاهرة بالأفراح والتهانى، ونزل الأمير شيخون والأمير طاز والأمير صرغمتش إلى الطبلاتهم، وبعثوا إلى الأمراء القادمين من السّجن التقادم السّنية من الخيول والتّعابى القماش والبسط وغيرها، فكان الذي بعثه شيخون لمنجك خمسة أفراس ومبلغ ألفى دينار، وقس على هذا.
ثمّ فى يوم الاثنين ثانى عشر شهر رجب خلع على الأمير قبلاى الحاجب واستقرّ فى نيابة السلطنة بالديار المصريّة، عوضا عن بيبغا ططر حارس طير.

(10/262)


وفى يوم الخميس خامس عشر شهر رجب قدم الأمير بيبغا أرس من سجن الكرك، فركب الأمراء إلى لقائه، وطلع إلى السلطان وقبّل الأرض وخلع عليه ونزل إلى ببته، فلم يبق أحد من الأمراء حتّى قدّم له تقدمة تليق به.
ثم فى يوم الاثنين تاسع عشره خلع على الأمير بيبغا أرس واستقرّ فى نيابة حلب عوضا عن أرغون الكاملى واستقرّ أرغون الكاملى فى نيابة الشام، عوضا عن أيتمش الناصرىّ، وخلع على أحمد الساقى شادّ الشراب خاناه كان، بنيابة حماة عوضا عن طنيرق، ورسم لطنيرق أن يتوجّه إلى حلب أمير طبلخاناة بها. ثم رسم بأن يكون بطّالا بدمشق، وسافر بيبغا أرس وأحمد الساقى بعد أيام إلى محلّ «1» كفالتهما ثم سأل الأمير منجك الإعفاء عن أخذ الإمرة، وأن يقعد بطّالا بجامعه «2» ، فأجيب إلى ذلك

(10/263)


بسفارة الأمير شيخون، واستردّ أملاكه التى كان أنعم بها السلطان على المماليك والخدّام والجوارى، ورمّم ما تشعّث من صهريجه واستجدّ به خطبة. ثم خلع السلطان على عمر شاه واستقر حاجب الحجاب عوضا عن قبلاى المنتقل إلى نيابة السلطنة بديار مصر، وأنعم على طشتمر القاسمىّ بتقدمة ألف، واستقر حاجبا ثانيا وهى تقدمة بيغرا.
وفيها أخرج جماعة من الأمراء وفرّقوا بالبلاد الشامية، وهم: الأمير طينال الجاشنكير وآقجبا الحموىّ الحاجب وملكتمر السعدى «1» وقطلوبغا أخو مغلطاى وطشبغا الدوادار.
وفى يوم السبت تاسع شعبان وصل الملك المجاهد «2» صاحب اليمن من سجن الكرك، فخلع عليه من الغد ورسم له بالعود الى بلاده من جهة عيذاب «3» ، وبعث إليه الأمراء بتقادم كثيرة وتوجّه الى بلاده. وكانت أمّه قد رجعت من مكة الى اليمن بعد مسكه وأقامت فى مملكة اليمن الصالح وكتبت الى تجّار الكارم توصّيهم بابنها المجاهد وأن يقرضوه ما يحتاج إليه، وختمت على أموالهم من صنف المتجر بعدن وتعزّ وزبيد «4» ، فقدم قاصدها، بعد أن قبض على المجاهد ثانيا وسجن بالكرك، بعد أن كان رسم له الملك الناصر حسن بالتوجّه إلى بلاده، لأمر بدا منه فى حقّ السلطان فى الطريق، فكتب مسفّره يعرّف السلطان بذلك. انتهى.
ثم فى يوم الاثنين ثانى عشر شعبان، وصل إلى القاهرة الأمير أيتمش الناصرىّ المعزول عن نيابة الشام، فقبض عليه من الغد.
ثم قدم الشريف ثقبة صاحب مكّة فى مستهلّ شهر رمضان بعد ما قدم قوده وقود أخيه عجلان، فخلع السلطان عليه بإمرة مكّة بمفرده، واقترض من الأمير

(10/264)


طاز ألف دينار، ومن الأمير شيخون عشرة آلاف درهم، واقترض من التجار مالا كثيرا، واشترى الخيل والمماليك والسلاح واستخدم عدّة أجناد، ورسم بسفر الأمير حسام الدين لاجين العلائىّ مملوك آقبغا الجاشنكير صحبته ليقلّده إمرة مكّة. ثم سافر الأمير طيبغا المجدىّ فى خامس شوّال بالحج والمحمل على العادة، وسار الجميع إلى مكّة، ولم يعلم أحد خبر المجاهد صاحب اليمن حتّى قدم مبشّرا الحاجّ فى مستهلّ المحرّم سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وأخبر بوصول الملك المجاهد إلى ممالك اليمن فى ثامن عشر ذى الحجة من السنة الماضية، وأنه استولى على ممالكه.
وفى شهر ربيع الأوّل من سنة ثلاث وخمسين، وسبعمائة شرع الأمير طاز فى عمارة قصره «1»

(10/265)


وإصطبله، تجاه حمّام الفارقانىّ «1» بجوار المدرسة البندقدارية «2» على الشارع. وأدخل فيه عدّة أملاك، وتولّى عمارته الأمير منجك، وحمل إليه الأمراء وغيرهم من

(10/266)


الرّخام وآلات العمارة شيئا كثيرا، وشرع الأمير صرغتمش أيضا فى عمارة إسطبل «1» الأمير بدرجك، بجوار بئر «2» الوطاويط قريبا من الجامع

(10/267)


الطّولونى «1» وحمل إليه الناس أيضا شيئا كثيرا من آلات العمارة. ثم خلع السلطان على الأمير صرغتمش المذكور، واستقرّ رأس نوبة كبيرا، فى رتبة الأمير شيخون باختيار شيخون، وجعل إليه التصرّف فى أمور الدولة كلّها من الولاية والعزل والحكم، ما عدا مال الخاصّ، فإن الأمير شيخون يتحدّث فيه، فقصد الناس صرغتمش لفضاء أشغالهم، وكثرت مهابته، وعارض الأمراء فى جميع أفعالهم، وأراد ألا يعمل شىء إلّا من بابه وبإشارته، فإن تحدّث غيره غضب وأبطل ما تحدّث فيه وأخرق بصاحبه، فأجمع الأمراء باستبداد السلطان بالتصرّف، وأن يكون ما يرسم به على لسان الأمير صرغتمش رأس نوبة، فطال صرغتمش واستطال وعظم ترفّعه على الناس، فتنكّرت له الأمراء وكثرت الأراجيف بوقوع فتنة، وإعادة الملك الناصر حسن ومسك شيخون، وصاروا الأمراء على تحرّز واستعداد، فأخذ صرغتمش فى التبرؤ مما رمى به، وحلف للأمير شيخون وللأمير طاز، فلم يصدّقه طاز وهمّ به، فقام شيخون بينهما قياما كبيرا، حتى أصلح بينهما، وأشار على طاز بالركوب إلى عمارة صرغتمش فركب إليه وتصافيا.

(10/268)


وفى هذه الأيام من سنة ثلاث وخمسين رتّب الأمير شيخون فى الجامع «1» الذي أنشأه العلامة أكمل الدين محمد الرومىّ الحنفىّ مدرّسا، وجعل خطيبه جمال الدين خليل بن عثمان الرومىّ الحنفىّ، وجعل به درسا للمالكيّة أيضا وولّى تدريسه نور الدين السّخاوىّ المالكىّ، وقرّر له ثلثمائة درهم كلّ شهر ورتّب به قرّاء ومؤذنين وغير ذلك من أرباب الوظائف، وقرّر لهم معاليم بلغت فى الشهر ثلاثة آلاف درهم.
قلت: ذلك قبل أن تبنى الخانقاه تجاه الجامع المذكور.
وفى عاشر جمادى الآخرة خلع السلطان على الأمير شيخون العمرىّ واستقرّ رأس نوبة كبيرا عوضا عن صرغتمش لأمر اقتضى ذلك، وعند لبس شيخون الخلعة قدم عليه الخبر بولادة بعض سراريه ولدا ذكرا، فسرّ به سرورا زائدا، فإنه لم يكن له ولد ذكر.
وفى هذه الأيام ادّعى رجل النبوّة، وأنّ معجزته أن ينكح امرأة فتلد من وقتها ولدا ذكرا يخبر بصحّة نبوّته، فقال بعض من حضر: إنك لبئس النّبيّ، فقال:

(10/269)


لكونكم بئس الأمة، فضحك الناس من قوله، فحبس وكشف عن أمره، فوجدوا له نحو اثنى عشر يوما من حين خرج من عند المجانين.
وفى يوم الأربعاء عاشر شهر رجب قدم كتاب الأمير أرغون الكاملىّ نائب الشام يتضمن أنه قبض على قاصد الأمير منجك الوزير بكتابه إلى أخيه ببيغا أرس نائب حلب يحسّن، له الحركة والعصيان، وأرسل الكتاب وإذا فيه أنه اتفق مع سائر الأمراء، وما بقى إلا أن يركب ويتحرّك، فاقتضى الرأى التأنّى حتى يحضر الأمراء والنائب إلى الخدمة من الغد ويقرأ الكتاب عليهم ليدبّروا الأمر على ما يقع عليه الاتفاق، فلمّا طلع الجماعة من الغد، إلى الخدمة لم يحضر منجك، فطلب فلم يوجد، وذكر حواشيه أنهم من عشاء الآخرة لم يعرفوا «1» خبره، فركب الأمير صرغتمش فى عدّة من الأمراء وكبس بيوت جماعته فلم يقع له على خبر، وتفقدوا مماليكه ففقد منهم اثنان، فنودى عليه من القاهرة، وهدّد من أخفاه وأخرج عيسى ابن حسن الهجان فى جماعة من عرب العائذ على النّجب لأخذ الطرقات عليه، وكتب إلى العربان ونوّاب الشام وولاة الأعمال على أجنحة الطيور بتحصيله فلم يقدروا عليه، وكبست بيوت كثيرة.
ثمّ فى يوم الأربعاء رابع عشرين شهر رجب قدم الخبر بعصيان الأمير أحمد الساقى نائب حماة وبعصيان الأمير بكلمش نائب طرابلس.
وفى يوم السبت سابع عشرينه، كتب بإحضار الأمير بيبغا أرس نائب حلب الى الديار المصرية، وكتب ملطّفات لأمراء حلب تتضمّن أنّه: إن امتنع من الحضور فهو معزول، ورسم لحامل الكتاب أن يعلم بيبغا أرس بذلك مشافهة بحضرة أمراء حلب.

(10/270)


فقدم البريد من الشام بموافقة ابن دلغادر الى بيبغا أرس وأنّه تسلطن بحلب، وتلقّب بالملك العادل وأنه يريد مصر لأخذ غرمائه، وهم طاز وشيخون وصرغتمش وبزلار وأرغون الكاملىّ نائب الشام، فلمّا بلغ ذلك السلطان والأمراء رسم للنائب بعرض أجناد الحلقة، وتعيين مضافيهم من عبرة أربعمائة دينار الإقطاع فما فوقها ليسافروا.
ثم قدم البريد بأنّ قراجا بن دلغادر، قدم حلب فى جمع كبير من التّركمان، فركب بيبغا أرس وتلقّاه، وقد واعد نائب حماة وطرابلس على مسيره أوّل شعبان الى نحو الديار المصرية، وأنهم يلقوه على الرّستن «1» ، فأمر السلطان الأمير طقطاى الدّوادار بالخروج الى الشام على البريد وعلى يده ملطّفات لجميع أمراء حلب وحماة وطرابلس، فسار طقطاى حتّى وصل دمشق وبعث بالملطّفات الى أصحابها، فوجد أمر بيبغا أرس قد قوى، ووافقه النوّاب والعساكر وابن دلغارر بتركمانه، وحيّار «2» بن مهنّا بعربانه، فكتب نائب الشام بأن سفر السلطان لا بد منه، وإلا خرج عنكم الشام جميعه، فاتّفق رأى أمراء مصر على ذلك، وطلب الوزير ورسم له بتهيئة بيوت السلطان، وتجهيز الإقامات فى المنازل، فذكر أنّه ما عنده مال لذلك، فرسم له بقرض ما يحتاج إليه من التجّار، فطلب تجّار الكارم وباعهم غلالا من الأهراء بالسعر الحاضر، وعدّة أصناف أخر، وكتب لمغلطاى بالإسكندريّة، وأخذ منه أربعمائة

(10/271)


ألف درهم، وأخذ من النائب مائة ألف درهم قرضا، ومن الأمير بلبان الأستادار مائة ألف درهم، فلم يمض أسبوع حتّى جهّز الوزير جميع ما يحتاج إليه السلطان.
وخرج الأمير طاز فى يوم الخميس ثالث شعبان، ومعه الأمير بزلار والأمير كلتا والأمير فارس الدين ألبكى. ثم خرج الأمير طيبغا المجدىّ وابن أرغون النائب وكلاهما مقدّم ألف فى يوم السبت خامس شعبان وخرج الأمير شيخون العمرى فى يوم الأحد سادسه بتجمّل عظيم، فبينما الناس فى التفرّج على طلبه إذ قيل قبض على منجك اليوسفى، وهو «1» أن الأمير طاز لمّا رحل ووصل الى بلبيس قيل له: إنّ بعض أصحاب منجك صحبة شاورشى مملوك قوصون، فطلبهما الأمير طاز وفحص عن أمرهما فرابه أمرهما، فأمر بالرجل ففتّش فإذا معه كتاب منجك لأخيه بيبغا أرس، يتضمّن أنه قد فعل كلّ ما يختاره، وجهّز أمره مع الأمراء كلّهم، وأنه أخفى نفسه وأقام عند شاورشى أيّاما ثم خرج من عنده الى بيت الحسام الصّقرى أستاداره وهو مقيم حتّى يعرف خبره، وهو يستحثه على الخروج من حلب، فبعث به طاز الى الأمير شيخون، فوافى الاطلاب خارجة، فطلب شيخون الحسام الصّقرى وسأله فأنكر، فأخذه الأمير صرغتمش وعاقبه. ثمّ ركب الى بيته بجوار الجامع الأزهر وهجمه فاذا منجك ومملوكه، فأخذه صرغتمش وأركبه مكتوف اليدين الى القلعة، فسيّر من وقته الى الاسكندرية فحبس بها.
ثمّ ركب السلطان الملك الصالح من قلعة الجبل فى يوم الاثنين سابع شعبان فى بقية الأمراء والخاصكية ونزل الى الرّيدانية «2» خارج القاهرة وخلع على الأمير قبلاى نائب الغيبنة باستقراره نائب الغيبة ورتّب أمير على الماردينى أن يقيم

(10/272)


بالقلعة ومعه الأمير كشلى السّلاح دار ليقيما داخل باب القلّة، ويكون على باب القلعة الأمير أرنان والأمير قطلوبغا الذهبى ورتّب الأمير مجد الدين موسى الهذبانى مع والى مصر لحفظ مصر. ثم استقلّ السلطان بالمسير من الريدانية فى يوم الثلاثاء بعد الظهر.
فقدم البريد بأنّ الأمير مغلطاى الدوادار خرج من دمشق يريد مصر وأنّ الأمير أرغون الكاملىّ نائب الشام لمّا بلغه خروج بيبغا أرس بمن اجتمع معه من العساكر، عزم على لقائه فبلغه مخامرة أكثر أمراء دمشق فاحترس على نفسه وصار يجلس بالميدان وهو لابس آلة الحرب. ثم اقتضى رأى الأمير مسعود بن خطير أنّ النائب لا يلقى القوم، وأنه ينادى بالعرض للنفقة بالكسوة فاذا خرج العسكر إليه بمنزلة الكسوة، منعهم من عبورهم الى دمشق وسار بهم الى الرّملة «1» فى انتظار قدوم السلطان، وأنه استصوب ذلك وفعله، وأنه مقيم بعسكر دمشق على الرملة، وأن الأمير ألطنبغا برناق نائب صفد سار الى بيبغا أرس وأن بيبغا أرس سار من حلب الى حماة واجتمع مع نائبها أحمد الساقى وبكلمش نائب طرابلس، وسار بهم الى حمص، وعند نزوله على حمص وصل إليه مملوكا «2» الأمير أرقطاى بكتاب السلطان ليحضر فقبض عليهما وقيّدهما وسار يريد دمشق فبلغه مسير السلطان واشتهر ذلك فى عسكره وأنه عزل عن نيابة حلب فانحلت عزائم كثير ممن معه من المقاتلة، وأخذ بيبغا أرس فى الاحتفاظ بهم والتحرز منهم الى أن قدم دمشق يوم الخميس «3» خامس عشرين شهر رجب، فاذا أبواب المدينة مغلّقة والقلعة محصّنة، فبعث الى

(10/273)


الأمير إياجى نائب قلعتها يأمره بالإفراج عن قردم وأن بفتح أبواب المدينة، ففتح أبواب المدينة ولم يفرج عن قردم فركب الأمير أحمد الساقى نائب حماة وبكلمش نائب طرابلس من الغد ليغيرا على الضّياع فوافى بعض عسكر بيبغا أرس نجّابا يخبر بمسك منجك ومسير السلطان من خارج القاهرة، وعاد أحمد وبكلمش فى يوم الاثنين رابع عشر شعبان وقد نزل طاز بمن معه المزيرب فارتجّ عسكر بيبغا أرس وتواعد قراجا بن دلغادر وحيّار بن مهنا على الرحيل، فما غربت الشمس إلا وقد خرجا بأثقالهما وأصحابهما وسارا، فخرج بيبغا أرس فى أثرهما فلم يدركهما، وعاد بكرة يوم الثلاثاء فلم يستقرّ قراره، حتى دقّت البشائر بقلعة دمشق، بأن الأمير طاز والأمير أرغون الكاملىّ نائب الشام وافيا دمشق وأن الأمير شيخون والسلطان ساقة؛ فبهت بيبغا أرس وتفرّق عنه من كان معه، فركب عائدا إلى حلب فى تاسع عشر شعبان، فكانت إقامته بدمشق أربعة وعشرين يوما، أفسد أصحابه بدمشق فيها مفاسد وقبائح من النهب والسّبى والحريق والغارات على الضّياع من حلب إلى دمشق وفعلوا كما فعل التتار أصحاب قازان وغيره، فبعث السلطان الأمير أسندمر العلائى إلى القاهرة بالبشارة فقدمها يوم الجمعة خامس عشرين شعبان، ودقّت البشائر لذلك وزيّنت القاهرة
وأمّا السلطان الملك الصالح فإنه التقى مع الأمير أرغون شاه الكاملىّ نائب الشام على بدّعرش من عمل غزّة، وقد تأخّر معه الأمير طاز بمن معه فدخلوا غزّة، وخلع السلطان على أرغون المذكور باستمراره فى نيابة دمشق، وأنعم عليه بأربعمائة ألف درهم وأنعم على أمير مسعود بن خطير بألف دينار، وعلى كل أمراء دمشق كل واحد قدر رتبته، فكان جملة ما أنفق السلطان فيهم ستمائة ألف درهم، وتقدّم الأمير شيخون والأمير طاز والأمير أرغون نائب الشام إلى دمشق وتأخر الأمير صرغتمش

(10/274)


صحبة السلطان ليدبّر العسكر، ثم تبعهم السلطان إلى دمشق فدخلها فى يوم الخميس مستهلّ شهر رمضان، وخرج الناس إلى لقائه وزيّنت مدينة دمشق، فكان لدخوله يوم مشهود، ونزل السلطان بقلعة دمشق، ثم ركب منها فى الغد يوم الجمعة ثانية إلى الجامع الأموى فى موكب جليل حتى صلى به الجمعة وكان الأمراء قد مضوا فى طلب بيبغا أرس.
وأما بيبغا أرس فانه قدم إلى حلب فى تاسع عشرين شعبان، وقد حفرت خنادق تجاه أبواب حلب وغلّقت وامتنعت القلعة عليه ورمته بالحجارة والمجانيق، وتبعهم الرجال من فوق الأسوار بالرّمى عليه، وصاحوا عليه فبات تلك الليلة بمن معه وركب فى يوم الخميس مستهل شهر رمضان للزحف على مدينة حلب، وإذا بصياح عظيم والبشائر تدقّ فى القلعة وهم يصيحون: يا منافقون، العسكر وصل، فالتفت بمن معه فاذا صناجق على جبل جوشن «1» فانهزموا عند ذلك بأجمعهم إلى نحو البرية، ولم يكن ما رأوه على جبل جوشن عسكر السلطان، ولكنه جماعة من جند حلب وعسكر طرابلس كانوا مختفين من عسكر بيبغا أرس عند خروجه من دمشق فساروا فى أعقابه يريدون الكبسة على بيبغا أرس وتعبّوا على جبل جوشن فعند ما رآهم بيبغا لم يشكّ أنهم عسكر السلطان فانهزم. وكان أهل بانقوسا «2» قد وافقوهم

(10/275)


وتقدّموا عنهم فمسكوا المضايق على بيبغا وأدركهم العسكر المذكور من خلفهم فتمزق عسكر بيبغا أرس وقد انعقد عليهم الغبار، حتى لم يمكن أحد أن ينظر رفيقه فأخذهم العرب وأهل حلب قبضا باليد، ونهبوا الخزائن والأثقال وسلبوهم ما عليهم من آلة الحرب وغيره ونجا بيبغا أرس بنفسه بعد أن امتلأت الأيدى بنهب ما كان معه وهو شىء يجلّ عن الوصف، وتتبّع أهل حلب أمراءه ومماليكه وأخرجوهم من عدّة مواضع فظفروا بكثير منهم، فيهم أخوه الأمير فاضل والأمير ألطنبغا العلائىّ شادّ الشراب خاناه وألطنبغا برناق نائب صفد وملكتمر السعيدى وشادى أخو نائب حماة وطيبغا حلاوة الأوجاقىّ وابن أيدغدى الزرّاق ومهدى شاد الدواوين بحلب وأسنباى قريب ابن دلغادر وبهادر الحاموس وقليج أرسلان أستادار بيبغا أرس ومائة مملوك من مماليك الأمراء، فقيّدو الجميع وسجنوا، وتوجّه مع الأمير بيبغا أرس أحمد الساقى نائب حماة وبكلمش نائب طرابلس وطشتمر القاسمىّ نائب الرّحبة وآقبغا البالسىّ وطيدمر وجماعة أخر، تبلغ عدّتهم نحو مائة وستة عشر نفرا.
ثم دخل الأمراء حلب وأخذوا أموال بيبغا أرس، وكتبوا إلى قراجا بن دلغادر بالعفو عنه والقبض على بيبغا أرس ومن معه، فأجاب بأنّه ينتظر فى القبض عليه مرسوم السلطان، وقد نزل بيبغا أرس عنده، وسأل إرسال أمان لبيبغا أرس وأنّه مستمرّ على إمرته، فجهّز له ذلك فامتنع من تسليمه، فطلب الأمراء رمضان من أمراء التّركمان، وخلع عليه بإمرة قراجا بن دلغادر وإقطاعه، وعاد الأمراء من حلب واستقرّ بها الأمير أرغون الكاملىّ نائب الشام، وعاد الجميع إلى دمشق ومعهم الأمراء المقبوض عليهم فى يوم الجمعة سلخ شهر رمضان، وصلّوا العيد بدمشق مع السلطان الملك الصالح صالح، وأقاموا إلى يوم الاثنين ثالث شوّال، جلس السلطان بطارمة قلعة دمشق وأخرجوا الأمراء فى الحديد ونودى عليهم: هذا جزاء من يجامر على

(10/276)


السلطان ويخون الأيمان. ووسّطوهم واحدا بعد واحد، وقد تقدّم ذكر أسمائهم عند القبض عليهم فوسّط الجميع، ما خلا ملكتمر السّعيدى «1» فإنه أعيد إلى السجن، وخلع السلطان على أيتمش الناصرىّ واستقرّ فى نيابة طرابلس «2» عوضا عن بكلمش السّلاح دار، وخلع على طنيرق بنيابة حماة عوضا عن أحمد الساقى، وعلى الأمير شهاب الدين أحمد بن صبيح «3» بنيابة صفد عوضا عن ألطنبغا برناق.
ثم صلّى السلطان صلاة الجمعة بالجامع الأموىّ وهو سابع شوّال وخرج من دمشق يريد الديار المصريّة بأمرائه وعساكره، فكانت مدّة إقامته بدمشق سبعة وثلاثين يوما وسار حتّى وصل القاهرة فى يوم الثلاثاء خامس عشرين شوّال من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، ومشى بفرسه على الشّقق الحرير التى فرشت له بعد أن خرج الناس إلى لقائه والتفرّج عليه، فكان لدخوله القاهرة أمر عظيم لم يتّفق ذلك لأحد من إخوته، وعند ما طلع إلى القلعة تلقّته أمّه وجواريه ونثروا على رأسه الذهب والفضّة، بعد أن فرشت له طريقه أيضا بالشّقاق الأطلس الملوّنة، والتهانى تزفّه، ولم يبق بيت من بيوت الأمراء إلا وفيه الأفراح والتهانى.
وفى قدوم السلطان الملك الصالح يقول العلّامة شهاب الدين أحمد بن أبى حجلة التّلمسانى الحنفىّ تغمده الله برحمته: [الكامل]
الصالح الملك المعظّم قدره ... تطوى له أرض البعيد النازح
لا تعجبوا من طيّها فى سيره ... فالأرض تطوى دائما للصالح
ثم عمل السلطان عدّة مهمّات بالقلعة والقصر السلطانىّ، وخلع على جميع الأمراء وأرباب الوظائف.

(10/277)


ثم قبض على الوزير علم الدين عبد الله بن أحمد بن زنبور وهو بخلعته قريب المغرب، وسبب ذلك أنّه لمّا فرّقت التشاريف على الأمراء، غلط الذي أخذ تشريف الأمير صرغتمش، ودخل إليه بتشريف الأمير بلبان السّنانىّ الأستادار، فلمّا رآه صرغتمش تحرّك ما عنده من الأحقاد على ابن زنبور المذكور، وتنمّر «1» غضبا، وقام من فوره ودخل إلى الأمير شيخون وألقى البقجة قدّامه وقال: انظر فعل الوزير معى، وحلّ الشاش وكشف التشريف. فقال شيخون: هذا وقع فيه الغلط فقام صرغتمش وقد أخذه من الغضب شبه الجنون وقال: أنا ما أرضى بالهوان، ولا بدّ من القبض عليه، ومهما شئت فأفعل، وخرج فصادف ابن زنبور داخلا إلى شيخون وعليه الخلعة، فصاح فى مماليكه خذوه. ففى الحال نزعوا عنه الخلعة، وجرّوه إلى بيت صرغتمش، فسجنه فى موضع مظلم من داره، وعزل عنه ابنه رزق الله فى موضع آخر. وكان قبل دخوله إلى شيخون رتّب عدّة مماليك على باب خزانة الخاص، وباب النجاس «2» وباب القلعة وباب «3» القرافة وغيره من المواضع وأوصاهم بالقبض على حاشية ابن زنبور وجميع الكتّاب، بحيث لا يدعو أحدا منهم يخرج من القلعة، فعند ما قبض على ابن زنبور ارتجّت القلعة وخرجت الكتّاب، فقبضت مماليك صرغتمش عليهم كلّهم، حتى على شهود الخزانة وكتّابها، وكتّاب الأمراء الذين بالقلعة، واختلطت الطمّاعة بمماليك صرغتمش وصاروا يقبضون على الكاتب، ويمضون به إلى مكان ليعرّوه ثيابه، فإن احترموه أخذوا مهمازه من رجله، وخاتمه

(10/278)


من إصبعه، أو يفتدى نفسه منهم بمال يدفعه لهم، حتى يطلقوه، وفيهم من اختفى عند الغلمان، فقرّروا عليه مالا، واسترهنوا دواته، بحيث إنّ بعض غلمان أمير حسين أخى السلطان، جمع ستّ عشرة دواة من ستة عشر كاتبا، وأصبح يجبيهم ويدفع لهم أدويتهم. وذهب من الفرجيات والعمائم والمناديل شىء كثير. وساعة القبص على ابن زنبور، بعث الأمير صرغتمش الأمير جرچى والأمير قشتمر فى عدّة من المماليك إلى دور ابن زنبور بالصناعة «1» بمدينة مصر. وأوقعوا الحوطة على حريمه، وختموا بيوته وبيوت أصهاره وكانت حرمهم فى الفرح وعليهنّ الحلىّ والحلل، وعندهنّ معارفهنّ، فسلب المماليك كثيرا من النساء اللّاتى كنّ فى الفرح، حتّى مكّنوهنّ من الخروج إلى دورهنّ، فخرج عامّة نساء ابن زنبور وبناته ولم تبق إلّا زوجته فوكّل بها؛ وكتب إلى ولاة الأعمال بالوجه القبلىّ والوجه البحرىّ بالحوطة على ماله وزراعته، وماله من القنود والدّواليب وغيرها، وخرج لذلك عدّة من مقدّمى الحلقة، وتوجّه الحسام العلائىّ إلى بلاد الشام ليوقّع الحوطة على أمواله، وأصبح الأمير صرغتمش يوم السبت ثامن عشرين شوّال، فأخرج ابن الوزير ابن زنبور رزق الله بكرة، وهدّده ونزل به من داره من القلعة إلى بيته، وأخذ زوجة ابن زنبور أيضا وهدّدها، وألقى ابنها رزق الله إلى الأرض ليضربه فلم تصبر، ودلته على موضع المال فأخذ منه خمسه عشر ألف دينار وخمسين ألف درهم.
وأخرج من بئر صندوقا فيه ستّة آلاف دينار ومصاغ. ووجد له عند الصارم مشدّ العمائر ستّة آلاف دينار ومائة وخمسين ألف درهم، سوى التّحف والتفاصيل

(10/279)


وثياب الصوف وغير ذلك. وألزم محمد [بن «1» ] الكورانىّ والى مصر بتحصيل بنات ابن زنبور، فنودى عليهنّ؛ ونقل ما فى دور صهرى ابن زنبور وسلّما لشادّ الدواوين، وعاد صرغتمش إلى القلعة، فطلب السلطان جميع الكتّاب وعرضهم، فعيّن موفّق الدين هبة الله [بن إبراهيم «2» ] للوزارة وبدر الدين [كاتب يلبغا «3» لنظر الخاصّ] و [تاج الدين «4» أحمد بن الصاحب] أمين الملك عبد الله بن الغنّام لنظر الجيش، وأخاه كريم الدين لنظر البيوت [وابن السعيد لنظر «5» الدولة] وقشتمر مملوك طقزدمر لشدّ الدواوين.
وفى يوم الأحد تاسع عشرين شوّال خلع على الجميع، وأقبل الناس إلى باب صرغتمش للسعى فى الوظائف فولّى الأسعد حربة استيفاء الدولة، وولّى كريم الدين أكرم ابن شيخ ديوان الجيش. وسلم المقبوض عليهم لشادّ الدواوين وهم: الفخر [ابن «6» ] قروينة ناظر البيوت، والفخر بن مليحة ناظر الجيزة والفخر مستوفى الصّحبة، والفخر بن الرضىّ كاتب الإسطبل، وابن معتوق كاتب الجهات، وطلب التاج بن لفيتة ناظر المتجر وناظر المطبخ وهو خال ابن زنبور فلم يوجد، وكبست بسببه عدّة بيوت، حتى أخذ وصار الأمير صرغتمش ينزل ومعه ناظر الخاصّ وشهود الخزانة وينقل حواصل ابن زنبور من مصر «7» إلى حارة زويلة فأعياهم كثرة ما وجدوه له، وتتبّعت حواشى ابن زنبور، وهجمت دور كثيرة بسببهم.

(10/280)


ثم فى مستهلّ ذى القعدة نزل الأمير صرغتمش إلى بيت «1» ابن زنبور بالصناعة، وهدم منه ركنا فوجد فيه خمسة وستّين ألف دينار، حملها إلى القلعة، وطلب ابن زنبور وضربه عريانا فلم يعترف بشىء، فنزل إلى بيته وضرب ابنه الصغير وأمّه تراه فى عدّة أيام حتى أسمعته كلاما جافيا فأمر بها فعصرت، وأخذ ناظر الخاصّ فى كشف حواصل ابن زنبور بمصر، فوجد له من الزيت والشّيرج والنّحاس والرّصاص والكبريت والعكر «2» والبقّم «3» والقند «4» والعسل وسائر أصناف المتجر ما أذهله، فشرع فى بيع ذلك كلّه.
هذا والأمير صرغتمش ينزل بنفسه وينقل قماش ابن زنبور وأثاثه إلى حارة زويلة ليكون ذخيرة للسلطان، فبلغت عدة الحمّالين الذين حملوا النّصافى والأوانى الذهب والفضّة والبلّور والصّينىّ والكتب والملابس الرجالية والنسائية والزراكش واللآلئ والبسط الحرير والمقاعد ثمانمائة حمّال، سوى ما حمل على البغال. وكان ما وجد له من أوانى الذهب والفضّة ستّين قنطارا، ومن الجواهر ستين رطلا، ومن اللؤلؤ الكبار إردبين، ومن الذهب الهرجة «5» مائتى ألف دينار وأربعة آلاف دينار وقيل ألف ألف

(10/281)


دينار، ومن الحوائص الذهب ستة آلاف حياصة، ومن الكلفتاة الزّركش ستة آلاف كلفتاه، ومن ملابسه عدّة ألفين وستمائة فرجية، ومن البسط ستة آلاف بساط، ومن الشاشات ثلثمائة شاش، ووجد له من الخيل والبغال ألف رأس، ودواب حلّابة ستة آلاف رأس، ومن معاصر السكر خمس وعشرون معصرة، ومن الإقطاعات سبعمائة إقطاع، كلّ إقطاع متحصله خمسة وعشرون ألف درهم فى السنة. ووجد له مائة عبد وستون طواشيّا وسبعمائة جارية، وسبعمائة مركب فى النيل، وأملاك قوّمت بثلاثمائة ألف دينار، ورخام بمائتى ألف درهم، ونحاس بأربعة آلاف دينار، وسروج وبدلات عدّة خمسمائة، ووجد له اثنان وثلاثون مخزنا، فيها من أصناف المتجر ما قيمته أربعمائة ألف دينار؛ ووجد له سعة «1» آلاف نطع وخمسمائة حمار ومائتا بستان وألف وأربعمائة ساقية، وذلك سوى ما نهب وما اختلس، على أنّ موجوده أبيع بنصف قيمته. ووجد فى حاصل بيت المال مبلغ مائة ألف وستون ألف درهم؛ وبالأهراء نحو عشرين ألف إردب: وهذا الذي ذكرناه محرّر عن الثقات.
وأما غيرنا فذكر له أشياء كثيرة حدا، أضربنا عن ذكرها خوف المجازفة.
وكان ابتداء ابن زنبورانه ناشر فى استيفاء الوجه القبلى، فنهض فيه وشكرت سيرته إلى أن عرض الملك الناصر محمد بن قلاوون الكتّاب ليختار منهم من يولّيه كاتب الإسطبل، وكان ابن زنبور هذا من جملتهم وهو شاب فأثنى عليه الفخر ناظر الجيش وساعده الأكوز والنّشو، فولّى كاتب الإسطبل عوضا عن ابن الجيعان فنالته فيها السعادة، وأعجب به السلطان لفطنتة فدام على ذلك حتى مات الناصر فاستقرّ مستوفى الصّحبة ثم انتقل عنها إلى نظر الدولة ثم ولى نظر الخاصّ بعناية الأمير أرغون العلائى ثم أضيف إليه نظر الجيش، وجمع بعد مدّة إليهما الوزارة ولم تتفق لأحد قبله هذه الوظائف.

(10/282)


قلت: ولا بعده إلى يومنا هذا، (أعنى لواحد فى وقت واحد) .
وعظم فى الدولة ونالته السعادة، حتى إنه كان يخلع عليه فى ساعة واحدة ثلاث خلع ويخرج له ثلاث أفراس، ونفذت كلمته وقويت مهابته، واتّجر فى جميع الأصناف حتى فى الملح والكبريت، ولمّا صار فى هذه الرتبة كثرت حسّاده وسعوا فيه عند صرغتمش وأغروه به، حتى كان من أمره ما كان. وكان يقوم بكلف شيخون جميعها من ماله وصار صرغتمش يسمع شيخون بسببه الكلام، ويقول: لو مكنتنى منه أخذت منه للسلطان ما هو كيت وكيت، وشيخون يعتذر له ويقول:
لا يوجد من يسدّ مسدّه، وإن كان ولا بدّ يقرّر عليه مال ويستمرّ على وظائفه، وبينما هم فى ذلك قدم الخبر بعصيان بيبغا أرس، فاشتغل صرغتمش عنه حتى سافروا وعادوا إلى القاهرة، ووقع من أمر الخلعة ما حكيناه
ثم انتدب جماعة بعد مسكه للسعى فى هلاكه وأشاعوا أنه باق على دين النّصرانية، أثبتوا فى ذهن صرغتمش ذلك، وأنه لمّا دخل إلى القدس فى سفرته هذه بدأ فى زيارته بالقمامة «1» فقبّل عتبتها وتعبّد فيها ثم خرج إلى المسجد الأقصى فأراق الماء فى بابه ولم يصلّ فيه وتصدّق على النصارى ولم يتصدّق على غيرهم، ورتّبوا فتاوى أنه ارتدّ عن دين الإسلام.
وكان أجلّ من قام عليه الشريف شرف الدين نقيب الأشراف والشريف أبو العباس الصّفراوىّ وبدر الدين ناظر الخاصّ والصوّاف تاجر الأمير صرغتمش، وأشهد «2» عليه أنّ جميع ما يملكه للسلطان من مال بيت المال دون ماله. ثم

(10/283)


حسّنوا لصرغتمش ضربه، فأمر به فأخرج وفى عنقه باشة وجنزير وضرب عريانا قدّام باب قاعة الصاحب من القلعة. ثم أعيد إلى موضعه وعصر وسقى الماء والملح.
ثم سلّم لشدّ الدواوين وأمر بقتله، فنوّع عليه أنواع العذاب فتكلّم الأمير شيخون فى عدم قتله فأمسك عنه ورتّب له الأكل والشرب وغيّرت عنه ثيابه ونقل من قاعة الصاحب إلى بيت صرغتمش واستمرّ على ذلك إلى أن أخرج إلى قوص منفيا، ومات بها بعد أن أخذ سائر موجوده وأخذ منه ومن حواشيه فوق الألفى ألف دينار. انتهى.
وأما أمر الديار المصرية فإنه لمّا كان يوم الاثنين ثامن عشرين ذى الحجّة قدم البريد من حلب بأخذ أحمد الساقى نائب حماة، وبكلمش نائب طرابلس من عند بن دلغادر وسجنا بقلعة حلب فأمر السلطان إلى نائب حلب بخلعه.
وفى هذه الأيام توفّى الخليفة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بعد أن عهد لأخيه أبى بكر، فطلب أبو بكر وخلع عليه خلعة الخلافة بحضرة السلطان والأمير شيخون ولقّب بالمعتضد بالله أبى بكر. يأتى ذكره فى الوفيات على عادة هذا الكتاب. وقد ذكرناه فى المنهل الصافى بأوسع مما يأتى ذكره فيه. وأيضا فى مختصرنا المنعوت: «بمورد اللّطافة فى ذكر من ولى السلطنة والخلافة» .
وأما أمر بيبغا أرس فانه لمّا أرسل قراجا بن دلغادر أحمد الساقى نائب حماة وبكلمش نائب طرابلس إلى حلب فى القيود واعتقلا بقلعة حلب حسب ما ذكرناه، فكان ذلك آخر العهد بهما. ثم أرسل قراجا المذكور بيبغا أرس بعد أيام فى محرّم سنة أربع وخمسين وسبعمائة فاعتقل بقلعة حلب، وكان ذلك آخر العهد به أيضا. رحمه الله. وقيل: إنه ما حضر إلى حلب إلا رءوسهم. والله أعلم.
وفى بيبغا أرس يقول الأديب زين الدين عبد الرحمن بن الخضر السنجارىّ الحلبىّ- رحمه الله- أبيانا منها: [الطويل]

(10/284)


بغى بيبغا بغى الممالك عنوة ... وما كان فى الأمر المراد موفّقا
أغار على الشقراء فى قيد جهله ... لكى يركب الشهباء فى الملك مطلقا
فلمّا علا فى ظهرها كان راكبا ... على أدهم لكنّه كان موثقا
ثم رسم السلطان الملك الصالح صالح أن يقرّ أهل الذمّة على ما أقرهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- عليه من ترك تشبّههم بالمسلمين فى أمر من الأمور، وترك ركوب الخيل وحمل السلاح، ورفع أصواتهم على أصوات المسلمين وأشباه ذلك.
ثم رسم بنفى الأمير منجك اليوسفى الوزير كان إلى صفد بطّالا. وفى هذه السنة (أعنى سنة أربع وخمسين وسبعمائة) انتهت عمارة الأمير سيف الدين طاز التى تجاه حمّام الفارقانى، فعمل طاز وليمة وعزم على السلطان والأمراء، ومدّ سماطا عظيما.
ولمّا انتهى السّماط وعزم السلطان على الركوب، قدّم له أربعة أرؤس من الخيل بسروج ذهب وكنابيش زركش، وقدّم للامير سيف الدين شيخون فرسين، ولصرغتمش فرسين ولسائر الأمراء المقدّمين كل واحد فرسا، ولم يعهد قبل ذلك أن سلطانا نزل إلى بيت بعض الأمراء، بعد الملك الناصر محمد بن قلاوون إلا هذا.
وحجّ بالناس فى هذه السنة الأمير ركن الدين عمر شاه الحاجب، صاحب القنطرة «1» خارج القاهرة.

(10/285)


ثم استهلّت سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فكان فيها الواقعة والفتنة بين حاشية طاز وبين صرعتمش، والسبب لهذه الحركة أن الأمير صرغتمش كان يخاف من طاز ويغضّ منه وكذلك كان طاز يغضّ من صرغتمش، وكان طاز يدخل على شيخون مرارا عديدة بمسك صرغتمش، وكان شيخون يكره الفتن والفساد، وقصده الصلاح للأمور بكلّ ما يمكن فكان شيخون يعده ويصبّره، وكان صرغتمش أيضا يخاف شرّ طاز ويقول لشيخون: هذا ما يريد الّا هلاكى، فكان شيخون يطمّنه على نفسه ويعده بكلّ خير، وكان إخوة طاز وحواشيه تحرّضه على صرغتمش وعلى إثارة الفتنة وقوى أمر طاز وإخوته وخرج عن الحدّ، وهم الأمير جنتمر وكلناى وصهره طقطاى، فهؤلاء الذين كانوا يحرّكون طاز على قيام الفتنة، ومسك صرغتمش ليستبدّ طاز بالأمر وحده، ويكونوا هم عظماء الدولة، وشيخون يعلم بذلك ويسكّنهم ويرجعهم عن قصدهم، وطاز يستحى من شيخون، وطال الأمر إلى أن اتفق طاز مع إخوته المذكورين وغيرهم من مماليكه وأصحابه أنه يخرج هو إلى الصيد، فاذا غاب عن المدينة يركب هؤلاء على صرغتمش ومن يلوذ به ويمسكونه فى غيبته، فيكون بغيبة طاز له عذر عند شيخون من حيائه منه، فلمّا خرج طاز الى الصيد بالبحيرة بإذن الأمير شيخون له وما عند شيخون علم من هذا الاتّفاق، رتّب حاشية طاز وإخوته ومن يلوذ به أمرهم واجتمعوا ولبسوا السلاح وركبوا على صرغتمش فلمّا سمع شيخون بذلك أمر مماليكه أن يركبوا بالسلاح وكانوا مقدار سبعمائة مملوك فركبوا. وركب الأمير صرغتمش ومن يلوذ به، ووقع الحرب بينهم وبين إخوة طاز، وتقاتلا فانكسر إخوة طاز وقبض عليهم، وعلى أكابر مماليك طاز وحواشيه، فهربت البقية، فدخل صرغتمش هو ومن بقى من أكابر الأمراء إلى شيخون وقالوا: لا بدّ من خلع الملك الصالح صالح وإعادة الملك الناصر حسن إلى السلطنة،

(10/286)


لكون الصالح كان يميل إلى طاز، فاعتذر شيخون بأعذار غير مقبولة، وأراد إبقاء الصالح. فلم يوافقوه وما زالوا به حتى أذعن واتفقوا على خلعه فخلع، وأعيد الملك الناصر حسب ما يأتى ذكره فى ترجمته.
وكان خلع الملك الصالح صالح فى يوم الاثنين ثانى شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فكانت مدّة سلطنته بالديار المصرية ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما، وحبس بالقلعة فى بعض دورها إلى أن توفّى بها فى ذى الحجة سنة إحدى وستين وسبعمائة، وله نحو سبع وعشرين سنة. ودفن بتربة «1» عمّه الملك الصالح علىّ بن قلاوون [الخاتونية] بالقرب من المشهد النفيسى خارج القاهرة.
وكان- رحمه الله- ملكا جليلا مليح الشكل عاقلا لم تشكر سيرته ولم تذم، لأنه لم يكن له فى سلطنته إلا مجرّد الاسم فقط، لغلبة شيخون وطاز وصرغتمش على الأمر، لأنهم كانوا هم حلّ المملكة وعقدها واليهم أمورها لا لغيرهم.
وأمّا أمر طاز فانه يأتى- إن شاء الله تعالى- فى أوّل سلطنة الملك الناصر حسن، بعد ذكر حوادث سنى الملك الصالح هذا، كما هى عادة هذا الكتاب انتهى والله سبحانه أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 753]
السنة الأولى من سلطنة الملك الصالح صالح ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر وهى سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، على أنه حكم من السنة الماضية من سابع عشر جمادى الآخرة إلى آخرها.

(10/287)


وفيها (أعنى سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة) : توفّى قاضى القضاة نجم الدين محمد الأذرعى الشافعى بدمشق على قضائها، وتولى بعده قضاء دمشق قاضى القضاة كمال الدين المعرّى قاضى قضاة حلب.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة فريد دهره ووحيد عصره، زين الدين المعروف بالعضد العجمى «1» الحنفى رحمه الله تعالى، كان إما بارعا مفتنّا فقيها مصنّفا، وله اليد الطّولى فى علم المعقول والمنقول، وتولى قضاء القضاة بممالك القان بو سعيد ملك التتار بل كان هو المشار اليه بتلك الممالك، والمعوّل على فتواه وحكمه، وتصدّى للإقراء والإفتاء والتصنيف عدّة سنين. ومن مصنفاته «شرح المختصر لابن الحاجب» و «المواقف» و «الجواهر» وغير ذلك فى عدّة فنون «2» ، وكان رحمه الله كريما عفيفا جواد احسن السّيرة مشكور الطريقة.
وتوفّى الأديب الفاضل الشاعر بدر الدين أبو على الحسن بن على المغربى المعروف بالزّغارى الشاعر المشهور، مات عن نيف وخمسين سنة. ومن شعره قوله: [الرجز]
أعجب ما فى مجلس اللهو جرى ... من أدمع الرّاووق لما انسكبت
لم تزل البطّة فى قهقهة ... ما بيننا تضحك حتى انقلبت
قال وله أيضا: [البسيط]
قالت وقد أنكرت سقامى ... لم أر ذا «3» السّقم يوم بينك
لئن أصابتك عين غيرى ... فقلت لا عين بعد عينك

(10/288)


قال وله أيضا: [المتقارب]
فتنت بأسمر جلو اللّمى ... لسلوانه الصّبّ لم يستطع
تقطّع قلبى وما رقّ لى ... ودمعى يرقّ ولا ينقطع
وتوفّى النّوين أرتنا «1» ، وقيل: أرطنا سلطان بلاد الروم، كان نائبا عن السلطان بو سعيد بن خربندا ملك التتار بجميع ممالك الروم، ودام على ذلك سنين، فلمّا مات بو سعيد كاتب أرتنا هذا السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وقال له: أريد أن أكون نائبك بممالك الروم، فأجابه الملك الناصر محمد وكتب له بذلك، وأرسل اليه الخلع السنيّة وكتب له: «نائب السلطنة الشريفة بالبلاد الرومية «2» » ولم تزل رسله تتردّد إلى الديار المصرية إلى أن مات فى أوائل المحرّم من هذه السنة، رحمه الله تعالى.
وكان ملكا عارفا عاقلا سيوسا مدبّرا، طالت أيامه فى السعادة.
وتوفّى الأمير سيف الدين تلك «3» بن عبد الله الناصرى الأمير آخور بغزّة فى عوده إلى الديار المصرية، وقد تقدّم ذكره فى عدّة أماكن من هذا الكتاب.

(10/289)


وتوفّى الشيخ بهاء الدين محمد بن على بن سعيد الفقيه الشافعى بدمشق فى شهر رمضان وكان فقيها فاضلا يعرف بابن إمام المشهد» .
وتوفّى القاضى شهاب الدين يحيى بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر الشافعى الدّمشقى المعروف بابن القيسرانى كاتب سرّ دمشق بطّالا كانت لديه فضيلة وهو من بيت كتابة وفضل «2» .
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد بن بيليك «3» المحسنىّ، كان أميرا فقيها شافعيا أديبا نظم كتاب «التنبيه فى الفقه» وكتب عدّة مصنفات، وكان معدودا من الفضلاء العلماء.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 754]
السنة الثانية من سلطنة الملك الصالح صالح ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر وهى سنة أربع وخمسين وسبعمائة.
فيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين، الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن المستكفى بالله أبى الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد الهاشمى العباسى، كان بويع بالخلافة بعد وفاة والده بقوص فى العشرين من شعبان سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، فلم يمض له ما عهده أبوه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون لما كان

(10/290)


فى نفسه من والده المستكفى بالله من ميله للملك المظفر بيبرس الجاشنكير، وأراد أن يولّى الخلافة لبعض أقاربه بل أحضره وخلع عليه ثم مات الملك الناصر بعد ذلك بمدّة يسيرة، فتمّت بموته خلافة الحاكم هذا الى أن مات فى هذه السنة «1» . والمتولّى يومئذ لأمور الديار المصرية الأمير شيخون والأمير طازو والأمير صرغتمش ونائب السلطنة الأمير قبلاى، والسلطان الملك الصالح صالح وكان الحاكم مات ولم يعهد بالخلافة لأحد، فجمع الأمراء القضاة، وطلب جماعة من بنى العباس، حتى وقع الاختيار على أبى بكر بن المستكفى بالله أبى الربيع سليمان فبايعوه ولقّبوه بالمعتضد «2» .
وتوفّى قاضى القضاة علاء الدين أبو الحسن على ابن الشيخ جمال الدين [يحيى «3» ] الحنفى المعروف بابن الفويرة فى العشر الأوسط من شوّال. كان فقيها بارعا باشر توقيع الدّست الشريف وكتب وصنّف وولى القضاء سنين.
وتوفّى الشيخ المسند المعمّر صدر الدين محمد بن شرف الدين محمد بن إبراهيم الميدومى المصرى «4» فى شهر رمضان ودفن بالقرافة عن تسعين سنة. وكان مولده سنة أربع وستين وستمائة وهو آخر من حدّث عن النّجيب عبد اللطيف وابن علّان وسمع منه السّراجان: البلقينى وابن الملقّن.

(10/291)


وتوفّى القاضى الرئيس زين الدين أبو حفص عمر بن شرف الدين يوسف ابن عبد الله بن يوسف بن أبى السفاح الحلبى الشافعى الكاتب، كاتب الإنشاء بحلب، ثم ولى صحابة «1» الإنشاء بها ووكالة بيت المال الى أن مات بحلب عن نيّف وستين سنة.
وتوفّى الأمير سيف الدين ألجيبغا بن عبد الله العادلى، كان من أكابر الأمراء أقام أميرا نحو ستين سنة، وكان قد أصابته ضربة سيف فى وقعة أرغون شاه بدمشق بانت منها يده اليمنى، واستمرّ على إمرته وتقدمته الى أن مات فى السابع من شهر ربيع الآخر، ودفن بتربته بدمشق خارج باب الجابية وقد أناف على تسعين سنة «2» .
وتوفّى الأمير الجليل بدر الدين مسعود بن أوحد بن مسعود بن الخطير بدمشق فى سابع شوّال، بعد ما تنقّل فى عدّة ولايات وأعمال: مثل حجوبية الحجّاب بديار مصر ونيابة غزّة وغير ذلك. وكان مولده سنة ثلاث وثمانين وستمائة بدمشق ونشأ بها وولى الحجوبية بها، وأرسله تنكز الى مصر صحبة أسندمر رسول جوبان، فلمّا رآه الملك الناصر أعجبه شكله فرسم له بإمرة طبلخاناه بمصر وجعله من جملة الحجّاب، فأقام على ذلك الى أن قبض السلطان على مملوكه ألماس الحاجب ولّاه عوضه حاجب الحجّاب، ولم يكن بمصر يوم ذلك نائب سلطنة، فعظم أمره إلى أن مسك تنكز رسم له بنيابة غزّة، ثم بعد موت الملك الناصر أعطى إمرة بدمشق، ثم طلب إلى مصر وأعيد إلى حجوبيّة الحجّاب ثانيا، فلم تطل مدّته لاختلاف الكلمة

(10/292)


وأخرج إلى نيابة غزّة ثانيا، ثم عزل ونقل إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، ثم ولى نيابة غزّة ثالث مرّة وأقام بها سنين، ثم عزل وتوجّه إلى دمشق أميرا بها.
ثم ولى نيابة طرابلس فلم تطل مدّته بها وعزل، وتوجّه أيضا إلى دمشق فأقام بها إلى أن مات. رحمه الله «1» .
وتوفّى فى هذه السنة جماعة ممن تقدّم ذكرهم من الأمراء قتلوا بقلعة حلب وهم:
الأمير أحمد الساقى نائب حماة «2» وبكلمش نائب طرابلس «3» وبيبغا أرس نائب حلب وغيرهم.
فأما الأمير بيبغا أرس القاسمىّ، فإن أصله من مماليك الملك الناصر محمد ابن قلاوون ومن أعيان خاصكيّته، ثم ولى بعد موته نيابة السلطنة بالديار المصرية فى أوّل سلطنة الملك الناصر حسن، ثم قبض عليه بطريق الحجاز وحبس ثم أطلق فى أوّل دولة الملك الصالح صالح، وتولّى نيابة حلب بعد أرغون الكاملى، ولمّا ولى نيابة حلب شدّد على من يشرب الخمر بها إلى الغاية، وظلم وحكم فى ذلك بغير أحكام الله تعالى، حتى إنه سمّر من سكر وطيف به بشوارع حلب، وفى هذا المعنى يقول ابن حبيب: [الرجز]
أهل الطّلا توبوا وكلّ منكم ... يعود عن ساق التّقى مشمّرا
فمن يبت راووقه معلّقا ... أصبح ما بين الورى مسمّرا
وفيه أيضا يقول القاضى شرف الدين حسين بن ريان «4» : [الخفيف]
تب عن الخمر فى حلب ... والزم العقل والأدب
حدّها عند بيبغا ... بالمسامير والخشب

(10/293)


ثم خرج بيبغا عن طاعة السلطان، ووقع له ما حكينا فى ترجمة الملك الصالح إلى أن ظفر به وقتل فى قلعة حلب، وفيه يقول بعض الأدباء: [البسيط]
لمّا اعتدى بيبغا العادى ومن معه ... على الورى فارقوا كرها مواطنهم
خوف الهلاك سروا ليلا على عجل ... فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم «1»
وتوفّى الرئيس أمين الدين إبراهيم بن يوسف المعروف بكاتب طشتمر، كان من أعيان الكتّاب وتولّى نظر الجيش بالديار المصرية مدّة، ثم عزل وأخرج الى القدس فأقام به مدّة، ثم أعيد الى القاهرة فأقام بها الى أن مات «2» .
وتوفّى الأمير سيف الدين بيغرا بن عبد الله الناصرى ثم المنصورى، أحد أمراء الألوف بالديار المصرية وهو بطّال بحلب، وكان شجاعا مقداما من أعيان أمراء مصر وقد تقدّم ذكره فى عدّة أماكن «3» .
وتوفّى الأمير زين الدين قراجا بن دلغادر صاحب أبلستين فى رابع عشر ذى القعدة، وقد تقدّم ذكره فى واقعة الأمير بيبغا أرس «4» .
وتوفّى مستوفى الصحبة أسعد حربة أحد الكتّاب المسالمة فى ذى القعدة من السنة.
وتوفى الشيخ جمال الدين أبو الحجاج يوسف ابن الإمام شمس الدين أبى محمد عبد الله بن العفيف محمد بن يوسف بن عبد المنعم المقدسى النابلسى ثم الدمشقى الحنبلى فى شهر رجب ومولده سنة إحدى وتسعين وستمائة «5» .

(10/294)


وتوفّى الشيخ إمام الدين محمد بن زين الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد ابن على بن محمد بن الحسن القيسى القسطلانيّ الشافعى بالقاهرة فى عشرين المحرّم، ومولده بمكّة المشرّفة فى سنة إحدى وسبعين وستمائة «1» .
وتوفّى حاكم الموصل وسنجار الأمير بدر الدين حسن بن هندوا. كان من أعيان الملوك وكان بينه وبين صاحب ماردين عداوة، ووقع بينهما حروب قتل فى بعضها حسن هذا بعد القبض عليه «2» .
وتوفّى القاضى شرف الدين أبو محمد عبد الوهاب [بن الشهاب «3» أحمد بن محيى الدين يحيى] بن فضل الله بن المجلّى بن دعجان بن خلف القرشىّ العمرى، نسبته الى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه. [مات فى شوّال «4» من هذه السنة] .
[مولده «5» فى ثالث ذى الحجّة سنة ثلاث وعشرين وستمائة بدمشق، ومات بها فى شهر رمضان وكان إماما بارعا كاتبا بليغا أديبا مترسّلا، كتب المنسوب الفائق وتنقّل فى الخدم حتى ولى ناظر ديوان الإنشاء بالديار المصرية مدّة طويلة، وهو أوّل كاتب سرّ ولى بمصر من بنى فضل الله، ولّاه الأشرف خليل بن قلاوون بعد عزل عماد الدين إسماعيل بن أحمد بن الأثير، فدام فى كتابة السرّ سنين، الى أن نقله الملك الناصر محمد بن قلاوون الى كتابة سرّ دمشق، عوضا عن أخيه محيى الدين

(10/295)


يحيى بن فضل الله، وولى عوضه القاضى علاء الدين بن الأثير، ولمّا مات رثاه الشعراء والعلماء ورثاه العلّامة شهاب الدين محمود بقصيدته التى أوّلها: [الطويل]
لتبك المعالى والنّهى الشرف الأعلى ... وتبك الورى الإحسان والحلم والفضلا «1»
ومن شعر القاضى شرف الدين المذكور يمدح الملك المنصور قلاوون الألفى الصالحى: [الكامل]
تهب الألوف ولا تهاب لهم ... ألفا إذا لاقيت فى الصّفّ
ألف وألف فى ندى ووغى ... فلاجل ذا سمّوك بالألفى «2»
وله أيضا لمّا ختن الملك الناصر محمد بن قلاوون. [الخفيف]
لم يروّع له الختان جنانا ... قد أصاب الحديد منه حديدا «3»
مثلما تنقص المصابيح بالقطّ ... فتزداد فى الضياء وقودا
أمر النيل فى هذه، السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا. والله سبحانه أعلم.