النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 755]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الصالح صالح ابن الملك الناصر محمد بن
قلاوون على مصر وهى سنة خمس وخمسين وسبعمائة وفيها خلع الملك الصالح
المذكور فى ثانى شوّال.
(10/296)
وفيها توفّى العلّامة زين الدين أبو الحسن
علىّ بن الحسين بن القاسم بن منصور ابن علىّ الموصلىّ الشافعىّ الشهير
بابن شيخ العوينة بالموصل «1» عن أربع وسبعين سنة، وكان إماما فقيها
بارعا مصنّفا ناظما ناثرا، نظم كتاب «الحاوى» فى الفقه، وشرح «المختصر»
و «المفتاح» ، وقدم الى الشام متوجّها الى الحجاز الشريف وهو القائل:
[الطويل]
وما اخترت بعد الدار عمّن أحبّه ... صدودا وحاشى أن يقال صدود
ولكنّ أسباب الضرورة لم تزل ... الى غير ما تهوى النفوس تقود «2»
وتوفّى القاضى شهاب الدين أحمد ابن القاضى شمس الدين إبراهيم بن المسلم
ابن هبة الله بن حسّان بن محمد بن منصور الجهنىّ الشافعى الشهير بابن
البارزىّ، ناظر أوقاف دمشق وبها مات عن نيّف وثمانين سنة «3» .
وتوفّى الشيخ الإمام سراج الدين أبو حفص عمر ابن القدوة نجم الدّين عبد
الرحمن بن الحسين بن يحيى بن عبد المحسن القبّانى الحنبلى، كان إماما
زاهدا عابدا أفتى ودرّس وحدّث وباشر مشيخة المالكيّة بالقدس الى مات
«4» .
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة فخر الدين أبو طالب أحمد بن علىّ
بن أحمد الكوفى البغدادىّ الحنفىّ الشهير بابن الفصيح، مات بدمشق وقد
قارب الثمانين سنة.
وكان إماما عالما بارعا فى فنون، ناظما ناثرا، نظم «الكنز فى الفقه» و
«السراجية
(10/297)
فى الفرائض» وقدم إلى دمشق وتصدّى للافتاء
والتدريس والإقراء الى أن مات بها ومن «1» شعره وهو فى غاية الحسن:
[الوافر]
أمرّ سواكه من فوق درّ ... وناولنيه وهو أحبّ عندى
فذقت رضابه ما بين ندّ ... وخمر أمزجا منه بشهدى «2»
وله أيضا: [الرجز]
زار الحبيب فحيّا ... يا حسن ذاك المحبّا
من صدّه كنت ميتا ... من وصله عدت» حيّا
وتوفّى الشيخ الامام شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله
الظاهرى الدمشقى الشافعى مدرّس الفرّوخشاهيّة «4» ، كان فقيها فاضلا.
مات بدمشق عن نيّف وثمانين سنة. وكان «5» له نظم وينشئ المقامات، وله
القصيدة الحجازية التى أولها:
[الطويل]
سرت نسمة الوادى فأذكرت الصّبّا ... ليالى منى فانصبّ مدمعه صبّا
وتوفّى الشيخ الإمام جمّال الدين محمد بن علاء الدين علىّ بن الحسن
الهروى الحلبىّ الحنفىّ المعروف بالشيخ زاده. كان فقيها متصوّفا زاهدا.
قال ابن حبيب أنشدنى بيتين بالفارسى وذكر لى معناهما واقترح علىّ
نظمهما بالعربى فقلت:
[الكامل]
(10/298)
ألحاظه شهدت بأنّى مخطئ ... وأتت بخطّ
عذاره تذكارا
يا حاكم الحبّ اتّئد فى قصّتى ... فالخطّ زور والشّهود سكارى
ومن إنشاء الشيخ زاده المذكور قوله: [الطويل]
وما العيش إلّا والشّبيبة غضّة ... ولا الحبّ إلّا والمحبّون أطفال
وهم زعموا أنّ الجنون أخو الصّبا ... فليت جنونا دام والناس غفّال
وكانت وفاته بحلب عن نيّف وخمسين سنة «1» .
وتوفّى الشريف علاء الدين أبو الحسن علىّ ابن الشريف عز الدين حمزة بن
علىّ ابن حسن بن زهرة بن الحسن بن زهرة بن الحسين الحلبى نقيب الأشراف
بحلب، وبها مات عن نيّف وسبعين سنة، وكان رئيسا كاتبا مجيدا عارفا
مثريا «2» .
وتوفّى الصاحب الوزير علم الدين عبد الله بن تاج الدين أحمد بن إبراهيم
الشهير بابن زنبور المصرىّ القبطىّ المقدّم ذكره ولى الوزارة ونظر
الجيش والخاصّ ولم تجتمع لأحد قبله. ثم نكب وصودر وأخذت أمواله وذخائره
التى وصفناها فى ترجمة الملك الصالح ومات بقوص معتقلا «3» .
وتوفّى الوزير الصاحب موفّق الدين أبو الفضل هبة الله بن سعيد الدّولة
القبطىّ المصرىّ، ولى نظر الدولة ثم الخاص ثم الوزارة إلى أن مات، وكان
مشكور السّيرة حسن الأخلاق، وعنده تواضع وكرم ومعرفة وعقل «4» .
(10/299)
وتوفّى الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى
الناصرى، نائب طرابلس. مات بها وتولّى عوضه منجك اليوسفىّ الوزير أخو
بيبغا أرس، وكان أيتمش وافر الحشمة ليّن الجانب بعيد الشرّ قريب الخير،
وعنده عقل وسكون ووقار، ولى الحجوبيّة والوزارة بالديار المصرية، ثم
ولى نيابة دمشق مدّة سنين، إلى أن قبض عليه وسجن بثغر الإسكندرية، ثم
أطلق وولى نيابة طرابلس بعد بكلمش الناصرىّ فدام على نيابتها إلى أن
مات «1» .
وتوفّى السلطان أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج صاحب الأندلس وما
والاها، طعن بخنجر فى جبينه فى يوم عيد الفطر، فمات منه وتسلطن بعده
ابنه أبو عبد الله محمد بن يوسف «2» .
وتوفّى الأمير سيف الدين إياجى بن عبد الله الناصرى، نائب قلعة دمشق،
كان شجاعا مقداما أظهر فى فتنة الأمير بيبغا أرس أمرا عظيما من حفظ
قلعة دمشق وقاتل بيبغا أرس قتالا عظيما وقام فى ذلك أتمّ قيام.
وتوفّى الأمير سيف الدين مغلطاى بن عبد الله الناصرىّ، بطّالا فى عاشر
شهر رمضان، وكان من أعيان ممالك الملك الناصر محمد بن قلاوون
وخاصّكيّته وتولّى رأس نوبة ثم صار أمير شكار ثم ولى الأمير آخورية
الكبرى، ثم أمسك وحبس بعد أمور وقعت له ثم أطلق وأخرج الى الشام
بطّالا، فدام به إلى أن مات رحمه الله تعالى «3» .
(10/300)
وتوفّى تاج الدين أبو الفضائل أحمد بن
الصاحب أمين الملك عبد الله بن الغنّام القبطىّ المصرىّ فى شوّال تحت
العقوبة، وهو أحد الكتّاب المعدودة وتولّى عدّة وظائف وباشر عدّة
مباشرات، وكان مشكور السّيرة. رحمه «1» الله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة تسع عشرة ذراعا وخمس أصابع.
(10/301)
سلطنة الملك الناصر
حسن الثانية على مصر
قد تقدّم ذكره فى سلطنته الأولى من هذا الكتاب وذكرنا أيضا سبب خلعه من
السلطنة بأخيه الملك الصالح صالح ثم ذكرنا فى ترجمة أخيه الصالح سبب
خلع الصالح وإعادة الناصر هذا فلا حاجة لذكر ذلك ثانيا. والمقصود هنا
الآن ذكر عود الملك الناصر حسن الى ملكه فنقول: ولمّا قبض على أصحاب
الأمير طاز اتّفق صرغتمش مع الأمير شيخون على خلع الملك الصالح من
السلطنة وسلطنة الملك الناصر حسن ثانيا وأبرموا ذلك حتى تمّ لهم فقاموا
ودخلوا الى القلعة وأرسلوا طلبوا الملك الصالح، فلمّا توجّه اليهم أخذ
من الطريق وحبس فى بيت من قلعة الجبل وأرسلوا أشهدوا عليه بأنه خلع
نفسه من السلطنة، ثم طلبوا الملك الناصر حسنا من محبسه بالقلعة،
وكلّموه فى عوده، وأشرطوا عليه شروطا قبلها. فاخذوه إلى موضع بالقلعة،
فيه الخليفة والقضاة، وبايعوه ثانيا بالسلطنة، ولبّسوه تشريف السلطنة
وأبّهة الملك، وركب فرس النّوبة ومشت الأمراء بين يديه الى الإيوان،
فنزل وجلس على تخت الملك، وقبّلوا الأمراء الأرض بين يديه على العادة،
وكان ذلك فى يوم الاثنين ثانى شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، ولم
يغيّر لقبه بل نعت بالناصر كما كان أوّلا على لقب أبيه، ونودى باسمه
بمصر والقاهرة، ودقّت البشائر وتمّ أمره وحالما قلع الملك الناصر خلعة
السلطنة عنه، أمر فى الحال بمسك الأمير طاز، فشفع فيه الأمير شيخون
لأنه كان أمّنه وهو نزيله، فرسم له السلطان بالتوجّه إلى نيابة حلب،
فخرج من يومه وأخذ فى إصلاح أمره، إلى أن سافر يوم الجمعة سادس شوّال
وسار حتى وصل حلب، فى الخامس من ذى القعدة، وكانت ولايته لنيابة حلب
عوضا عن الأمير أرغون الكاملىّ، وطلب أرغون إلى مصر، فحضر أرغون الى
للقاهرة وأقام بها مدّة يسيرة ثم أمسك، وأقام طاز فى نياية حلب، ومعه
أخوه كلتاى وجنتمر وكلاهما مقدّمان بها.
(10/302)
ودام الملك الناصر حسن فى الملك إلى أن
دخلت سنة ست وخمسين وسبعمائة والخليفة يوم ذاك المعتضد بالله أبو بكر،
ونائب السلطنة بمصر الأمير آقتمر عبد الغنى وأتابك العساكر الأمير
شيخون العمرىّ، وهو أوّل أتابك سمى بالأمير الكبير، وصارت من بعده
الأتابكية وظيفة إلى يومنا هذا، ولبسها بخلعة وإنما كانت العادة فى تلك
الأيام من كان قديم هجرة من الأمراء سمّى بالأمير الكبير [من غير «1»
خلعة فكان فى عصر واحد جماعة كلّ واحد منهم يسمّى بالأمير الكبير] حتى
ولّى شيخون هذا أتابكيّة العساكر- وسمّى بالأمير الكبير- بطلب تلك
العادة القديمة وصارت من أجلّ وظائف الأمراء، تمّ ذلك. انتهى.
وكان نائب الشام يوم ذاك أمير علىّ الماردينى، ونائب حلب طاز، وصاحب
بغداد وما والاها الشيخ حسن ابن الشيخ حسين سبط أرغون بن أبغا بن
هولاكو.
وفى هذه السنة أيضا كملت خانقاة «2» الأمير الكبير شيخون العمرى
بالصّليبة والربع «3»
(10/303)
والحمّامان «1» وفرغت هذه العمارة ولم
يتشوّش أحد بسبيها، ورتّب فى مشيختها العلّامة أكمل الدين «2» محمد
البابرتى «3» الحنفىّ، وأشركه فى النظر.
ودام السلطان حسن فى السلطنة ولم يحرّك ساكنا إلى أن استهلّت سنة ثمان
وخمسين وسبعمائة قبض على أربعة من الأمراء وسجنوا بثغر الإسكندرية،
وهم:
الأمير قجا السلاح دار، وطقطاى الدّوادار، وقطلوبغا الذهبى، وخليل بن
قوصون وخلع على الأمير علم دار باستقراره فى الدوادارية، وخلع على
الأمير قشتمر باستقراره حاجبا ووزيرا، وكان القبض على هؤلاء الأمراء
بعد أن ضرب الأمير شيخون بالسيف، وحمل إلى داره «4» جريحا ولزم الفراش
الى أن مات، حسب ما يأتى ذكره.
(10/304)
وأمر ضرب شيخون كان فى يوم الاثنين من
شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وهو أن السلطان الملك الناصر حسنا جلس
فى اليوم المذكور على كرسى الملك بدار العدل «1» للخدمة، والأمراء جلوس
فى الخدمة والقضاة والأعيان وجميع أرباب الدولة، وبينما السلطان جالس
على كرسى الملك وثب مملوك من المماليك السلطانية يسمّى قطلو خجا السلاح
دار على الأمير الكبير شيخون، وضربه بالسيف ثلاث ضربات أصابت وجهه
ورأسه وذراعه، فوقع شيخون مغشيّا عليه، وأرجف بموته، وقام السلطان من
على الكرسى ودخل الى القصر، ووقعت الهجّة، فلمّا سمعت مماليك شيخون
بذلك، طلعوا القلعة راكبين صحبة أمير خليل بن قوصون أحد الأربعة
المقبوض عليهم بعد ذلك، فحملوا شيخون على جنويّة «2» وبه رمق، ونزلوا
به الى داره، وأحضروا الجرائحية فأصلحوا جراحاته، وبات شيخون تلك
الليلة، وأصبح السلطان الملك الناصر حسن نزل لعيادته من الغد، فدخل
عليه وحلف له أن الذي وقع لم يكن بخاطره ولا له علم به، وكان الناس
ظنوا أن السلطان هو الذي سلّطه على شيخون، فتحقّق الناس براءة السلطان،
وطلع السلطان الى القلعة وقد قبض على قطلو خجا المذكور، فرسم السلطان
بتسميره فسمّر.
ثم وسّط فى اليوم المذكور، بعد أن سأل السلطان قطلوخجا السلاح دار
المذكور عن سبب ضرب شيخون بالسيف، فقال: طلبت منه خبزا فمنعنى منه
وأعطاه لغيرى. ولزم شيخون الفراش من جراحه الى أن مات فى ذى القعدة من
السنة، وبموته خفّ عن السلطان أشياء كثيرة، فإنه كان ثقيل الوطأة على
السلطان الى الغاية، بحيث إن السلطان كان لا يفعل شيئا حتى يشاوره
حقيرها وجليلها، فلما مات التفت السلطان حسن الى إنشاء مماليكه، فأمّر
منهم جماعة كثيرة على ما سيأتى ذكره.
(10/305)
ثم أخذ السلطان حسن فى شراء دار ألطنبغا
الماردانى ويلبغا اليحياوى بالرّميلة وهدمهما وأضاف اليهما عدّة دور
وإسطبلات أخر، وشرع فى بناية مدرسته «1» المعروفة به تجاه قلعة الجبل،
التى لم يبن فى الإسلام نظيرها، ولا حكاها معمار فى حسن عملها، وذلك فى
سنة ثمان وخمسين المذكورة.
ولما شرع فى عمارتها جعل عليها مشدّين ومهندسين واجتهد فى عملها. وأما
مصروفها وما اجتمع بها من الصّنّاع والمعلّمين فكثير جدا لا يدخل تحت
حصر، وقيل: إن إيوانها يعادل إيوان كسرى فى الطول.
قلت: وفى الجملة إنها أحسن ما بنى فى الدنيا شرقا وغربا فى معناها بلا
مدافعة.
وفى هذه السنة وقع أمر عجيب، قال ابن كثير فى تاريخه: «وفى هذه السنة
«2» حملت جارية من عتقاء الأمير الهيدبانى «3» قريبا من تسعين يوما، ثم
شرعت تطرح ما فى بطنها، فوضعت قريبا من أربعين ولدا، منهم أربع عشرة
بنتا. وقد تشكل الجميع، وتميّز الذكر من الأنثى، فسبحان القادر على كل
شىء.
قلت: وابن كثير ثقة حجّة فيما يرويه وينقله. انتهى.
(10/306)
ولما مات شيخون انفرد صرغتمش بتدبير
المملكة، وعظم أمره واستطال فى الدولة، وأخذ وأعطى وزادت حرمته وأثرى
وكثرت أمواله، الى أن قبض عليه الملك الناصر حسن حسب ما يأتى ذكره فى
محلّه، إن شاء الله تعالى.
ثم إنّ السلطان قبض على الأمير طاز نائب حلب، فى أوائل سنة ثمان وخمسين
المذكورة بسفارة صرغتمش، وقيّده وحمله إلى الإسكندرية فحبسه بها، وولّى
عوضه فى نيابة حلب الأمير منجك اليوسفىّ الوزير، نقل إليها من نيابة
طرابلس.
ثم عزل السلطان عزّ الدين بن جماعة «1» عن قضاء الشافعية بديار مصر،
وولّى عوضه بهاء الدين «2» بن عقيل، فأقام ابن عقيل فى القضاء ثمانين
يوما وعزل، وأعيد ابن جماعة ثم نقل السلطان منجك اليوسفىّ المذكور من
نيابة حلب إلى الشام عوضا عن أمير على الماردينى، ونقل الماردينى إلى
نيابة حلب، كلّ ذلك فى سنة ثمان وخمسين وسبعمائة المقدّم ذكرها، وخلع
السلطان على تاج الدين بن ريشة واستقرّ فى الوزارة ثم نفى السلطان
جماعة من الأمراء، منها الأمير چرچى الإدريسىّ، وأنعم بإقطاعه وهو إمرة
مائة وتقدمة ألف بديار مصر على مملوكه يلبغا العمرى صاحب الكبش «3» وهو
الذي قتل أستاذه الملك الناصر حسنا المذكور، حسب ما يأتى ذكره فى وقته
من هذا الكتاب فى هذه الترجمة، ثم خلع عليه وجعله أمير مجلس عوضا عن
الأمير تنكز بغا الماردينى. ثم فى يوم الخميس العشرين من شهر رمضان سنة
(10/307)
تسع وخمسين وسبعمائة، أمسك السلطان الأمير
صرغتمش الناصرىّ، بعد ما أقعد له قواعد مع الأمير طيبغا الطويل ويلبغا
العمرى وغيرهما، وأمسك معه جماعة من الأمراء، وهم طشتمر القاسمى حاجب
الحجاب، وطيبغا الماجارى وأزدمر وقمارى وأرغون الطّرخانى وآقجبا
الحموىّ، وجماعة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات، وكان سبب مسكه أنّ
صرغتمش كان قد عظم أمره بعد موت شيخون، واستبدّ بأمور الدولة وتدبير
الملك، فلما تمّ له ذلك، ندب الملك الناصر حسنا لمسك طاز ووغّر خاطره
عليه، حتى كان من أمره ما كان، فلمّا صفا له الوقت بغير منازع، لم يقنع
بذلك، حتى رام الوثوب على الملك الناصر حسن ومسكه واستقلاله بالملك،
فبلغ الناصر ذلك فاتّفق مع جماعة من الأمراء على مسكه عند دخوله على
السلطان فى خلوة، فلمّا كان وقت دخوله وقفوا له فى مكان رتّبهم السلطان
فيه، فلما دخل صرغتمش احتاطوا به وقبضوا عليه، ثم خرجوا لمن عيّن لهم
من الأمراء المقدّم ذكرهم، فقبضوا عليهم أيضا فى الحال، وحبسوا الجميع
بقلعة الجبل، فلما بلغ مماليك صرغتمش وحواشيه من المماليك، ركبوا
بالسلاح وطلعوا الى الرميلة، فنزل إليهم المماليك السلطانية من القلعة،
وقاتلوهم من بكرة النهار الى العصر عدّة وجوه، إلى أن كانت الكسرة على
مماليك صرغتمش. وأخذتهم السيوف السلطانية، ونهبت دار صرغتمش عند بئر
الوطاويط «1» ، ونهبت دكاكين الصليبة، ومسك من الأعجام صوفية المدرسة
«2» الصّرغتمشية جماعة لأنهم ساعدوا الصّرغتمشية وأحموهم عند
(10/308)
كسرتهم؛ وما أذّن المغرب حتى سكن الأمر
وزالت الفتنة، ونودى بالأمان والبيع والشراء.
وأصبح الملك الناصر حسن فى بكرة يوم الثلاثاء وهو سلطان مصر بلا منازع،
وصفا له الوقت، وأخذ وأعطى، وقرّب من اختار وأبعد من أبعد، وخلع على
الأمير ألجاى اليوسفىّ واستقرّ به حاجب الحجاب عوضا عن طشتمر القاسمىّ،
وخلع على جماعة أخر بعدّة وظائف، ثم أخذ فى ترقية مماليكه والإنعام
عليهم. وأعيان مماليكه: يلبغا العمرىّ وطيبغا الطويل وجماعة من أولاد
الأمراء.
وكان يميل لإنشاء أولاد «1» الناس وترقّيهم الى الرتب السنية، لا لحبّه
لهم، بل كان يقول: هؤلاء مأمونو العاقبة، وهم فى طىّ علمى، وحيث
وجّهتهم إليه توجّهوا، ومتى
(10/309)
أحببت عزلهم أمكننى ذلك بسهولة، وفيهم أيضا
رفق بالرعية ومعرفة بالأحكام، حتى إنه كان فى أيامه منهم عدّة كثيرة،
منهم أمراء مقدّمون، يأتى ذكر أسمائهم فى آخر ترجمته، إن شاء الله
تعالى.
ثمّ أخرج السلطان صرغتمش ورفقته فى القيود الى الإسكندرية، فسجن صرغتمش
بها إلى أن مات فى ذى الحجة من السنة، على ما سيأتى ذكر صرغتمش فى
الوفيات من حوادث سنين الملك الناصر حسن.
ثم إن السلطان عزل الأمير منجك اليوسفى عن نيابة دمشق فى سنة ستين
وسبعمائة، وطلبه الى الديار المصرية، فلما وصل منجك الى غزّة بلغه أن
السلطان يريد القبض عليه، فتسحّب ولم يوقف له على خبر، وعظم ذلك على
السلطان وأكثر من الفحص عليه، وعاقب بسببه خلائق فلم يفده ذلك.
ثم خلع السلطان على الأمير علىّ الماردينىّ نائب حلب، بإعادته إلى
نيابة دمشق كما كان أوّلا، واستقرّ بكتمر المؤمنىّ فى نيابة حلب عوضا
عن علىّ الماردينى، فلم تطل مدّته بحلب وعزل عنها بعد أشهر بالأمير
أسندمر الزينى، أخى يلبغا اليحياوىّ نائب الشام كان.
ثم خلع السلطان على فخر الدين بن قروينة باستقراره فى نظر الجيش والخاص
معا، ثم ظهر الأمير منجك اليوسفىّ من اختفائه فى بيت بالشّرف الأعلى
بدمشق، فى سنة إحدى وستين وسبعمائة، بعد أن اختفى به نحو السنة، فأخذ
وأحضر الى القاهرة، فلمّا مثل بين يدى السلطان وعليه بشت عسلى «1» وعلى
رأسه مئزر صفح
(10/310)
عنه لكونه لم يخرج من بلاده، ورسم له بإمرة
طبلخاناة بدمشق، وأن يكون طرخانا «1» يقيم حيث شاء، وكتب له بذلك توقيع
شريف.
ثم فى هذه السنة وقع الوباء بالديار المصرية، الى أوائل سنة اثنتين
وستين وسبعمائة، ومات فى هذا الوباء جماعة كثيرة من الأعيان وغيرهم،
وأكثرهم كان لا يتجاوز مرضه أربعة أيام الى خمسة، ومن جاوز ذلك يطول
مرضه، وهذا الوباء يقال له: الوباء الوسطىّ (أعنى بين وباءين) .
وفى هذه الأيام عظم يلبغا العمرى فى الدولة حتى صار هو المشار اليه،
وثقلت وطأته على أستاذه الملك الناصر حسن، مع تمكّن الملك الناصر فى
ملكه، وكان يلبغا العمرى وطيبغا الطويل وتمان تمرهم أعظم أمرائه
وخاصّكيّته من مماليكه.
فلمّا أن استهلت سنة اثنتين وستين وسبعمائة بلغ الملك الناصر أنّ يلبغا
ينكر عليه من كونه يعطى الى النساء الإقطاعات الهائلة، وكونه يختص
بالطواشية ويحكّمهم فى المملكة وأشياء غير ذلك، وصارت الخاصكيّة ينقلون
للسلطان عن يلبغا أمورا قبيحة فى حقّه فى مثل هذا المعنى وأشباهه،
فتكلّم الملك الناصر حسن مع خواصّه بما معناه: إنه قبض على أكابر
أمرائه من مماليك أبيه، حتى استبدّ بالأمر من غير منازع، وأنشأ مماليكه
مثل يلبغا المذكور وغيره، حتى يسلم من معارض، فصار يلبغا يعترض عليه
فيما يفعله، فعظم عليه ذلك وندم على ترقيه، وأخذ يترقّب وقتا يمسك
يلبغا فيه.
(10/311)
واتّفق بعد ذلك أن السلطان حسنا خرج الى
الصيد ببرّ الجيزة بالقرب من الهرمين «1» ، وخرجت معه غالب أمرائه
يلبغا وغيره على العادة، فلمّا كان يوم الثلاثاء ثامن «2» جمادى الأولى
من سنة اثنتين وستين المذكورة، أراد السلطان القبض على يلبغا لما بلغه
عن يلبغا أنه يريد الركوب عليه هناك، فصبر السلطان حسن حتى دخل الليل،
فركب ببعض خاصّكيّته من غير استعداد ولا اكتراث بيلبغا، وسار يريد يكبس
على يلبغا بمخيّمه فنمّ بعض خاصّكيّة السلطان بذلك الى يلبغا، فاستعدّ
يلبغا بمماليكه وحاشيته لقتاله، وطلب خشداشيته وواعدهم بالإمريات
والإقطاعات، وخوّفهم عاقبة أستاذهم الملك الناصر حسن المذكور، حتى
وافقه كثير منهم، كلّ ذلك والملك الناصر فى غفلة استخفافا بمملوكه
يلبغا المذكور، حتى قارب السلطان خيمة يلبغا، خرج اليه يلبغا بمن معه
وقاتله، فلم يثبت السلطان لقلّة من كان معه من مماليكه، وانكسر وهرب
وعدّى النيل وطلع الى قلعة الجبل فى الليل، هى ليلة الأربعاء «3»
التاسع من جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين المذكورة، وتبعه يلبغا ومن
معه يريد القلعة، فاعترضه ابن المحسنى أحد أمراء الألوف بمماليكه، ومعه
الأمير قشتمر المنصورى، وواقعا يلبغا ببولاق وقعة هائلة، انكسر فيها
يلبغا مرتين، وابن المحسنىّ يتقدّم عليه، كلّ ذلك وابن المحسنىّ ليس له
علم من السلطان أين ذهب، بل بلغه أنه توجه إلى جهة القلعة، فأخذ فى
قتال يلبغا وتعويقه عن المسير إلى جهة القلعة، واشتدّ القتال بين يلبغا
وابن المحسنىّ حتى أردف يلبغا الأمير ألجاى اليوسفىّ حاجب الحجّاب
وغيره، فانكسر عند ذلك ابن المحسنى وقشتمر،
(10/312)
وقيل: إنّ يلبغا لمّا رأى شدّة ابن المحسنى
فى القتال دسّ عليه من رجّعه عن قتاله وأوعده بأوعاد كثيرة، منها أنه
لا يغير عليه ما هو فيه فى شىء من الأشياء خوفا «1» من طلوع النهار قبل
أن يدرك القلعة، وأخذ السلطان الملك الناصر حسن، لأنّ الناصر كان طلع
إلى قلعة الجبل فى الليل، ولم يشعر به أحد من أمرائه ومماليكه وخواصّه،
وصاروا فى حيرة من عدم معرفتهم أين توجّه السلطان، حتى يكونوا معه على
قتال يلبغا، وعلم يلبغا أنه متى تعوّق فى قتال ابن المحسنى إلى أن يطلع
النهار، أتت العساكر الملك الناصر من كل فجّ، وذهبت روحه، فلما ولّى
ابن المحسنى عنه انتهز يلبغا الفرصة بمن معه وحرّك فرسه وصحبته من
وافقه إلى جهة القلعة، حتى وصل إليها فى الليل. والله أعلم.
وأمّا أمر السلطان حسن، فإنه لمّا انكسر من مملوكه يلبغا وتوجّه إلى
قلعة الجبل، حتى وصل إليها فى الليل، ألبس مماليكه المقيمين بالقلعة،
فلم يجد لهم خيلا لأنّ الخيول كانت فى الربيع، وبينما هو فى ذلك طرقه
يلبغا قبل أن يطلع النهار وتجتمع العساكر عليه، فلم يجد الملك الناصر
قوّة للقائه، فلبس هو وأيدمر الدوادارى زى الأعراب ليتوجّها إلى الشام
ونزلا من القلعة وقت التسبيح، فلقيهما بعض المماليك فأنكروا عليهما
وأمسكوهما فى الحال، وأحضروهما إلى بيت الأمير شرف الدين [موسى «2» ]
بن الأزكشى أستادار العالية، فحملهما فى الوقت إلى يلبغا حال طلوع
يلبغا إلى القلعة، فقتلهما يلبغا فى الحال قبل طلوع الشمس.
وكان عمر السلطان حسن يوم قتل نيّفا على ثلاثين سنة تخمينا، وكانت مدّة
ملكه فى سلطنته هذه الثانية ستّ سنين وسبعة أشهر [وسبعة «3» أيام] وكان
قتله وذهاب
(10/313)
ملكه على يد أقرب الناس إليه من مماليكه
وخواصّه، وهم: يلبغا العمرى وطيبغا الطويل وتمان تمر وغيرهم وهم من
مشترواته، اشتراهم ورباهم وخوّلهم فى النعم ورقاهم إلى أعلى المراتب،
خوفا من أكابر الأمراء من مماليك أبيه، فكان ذهاب روحه على أيديهم،
وكانوا عليه أشدّ من تلك الأمراء، فإنّ أولئك لما خلعوه من السلطنة
بأخيه الملك الصالح، حبسوه بالدور من القلعة مكرما مبجّلا، وأجروا عليه
الرواتب السنيّة، إلى أن أعادوه إلى ملكه ثانيا، وهم مثل شيخون وصرغتمش
وقبلاى النائب وغيرهم، فصار يتذكّر ما قاساه منهم فى خلعه من السلطنة
وتحكّمهم عليه، فأخذ فى التدبير عليهم حتى قبض على جماعة كثيرة منهم
وأبادهم. ثم رأى أنه ينشئ مماليكه ليكونوا له حزبا وعضدا، فكانوا بعكس
ما أمّله منهم، ووثبوا عليه، وكبيرهم يلبغا المقدّم ذكره، وعندما قبضوا
عليه لم يمهلوه ساعة واحدة، وعندما وقع نظرهم عليه قتلوه من غير مشاورة
بعضهم لبعض، موافاة لحقوق تربيته لهم وإحسانه إليهم، فكان بين فعل
مماليك أبيه به وبين فعل مماليكه له فرق كبير، ولله در القائل:
معاداة العاقل، ولا مصاحبة الجاهل.
قلت: لا جرم أنّ الله تعالى عزّ وجلّ عامل يلبغا المذكور من مماليكه
بجنس ما فعله مع أستاذه، ووثبوا عليه وقتلوه أشرّ قتلة، على ما سيأتى
ذكره إن شاء الله تعالى.
واستولى يلبغا العمرى الخاصكىّ على القلعة والخزائن والسلاح والخيول
والجمال، وعلى جميع ما خلفه أستاذه الملك الناصر حسن، وأقام فى المملكة
بعده ابن أخيه الملك المنصور محمد ابن الملك المظفّر حاجّى ابن الملك
الناصر محمد بن قلاوون كما سيأتى ذكره بعد حوادث سنين الملك الناصر
حسن، كما هى عادة هذا الكتاب.
(10/314)
وكان الملك الناصر حسن سلطانا شجاعا مقداما
كريما عاقلا حازما مدبّرا سيوسا، ذا شهامة وصرامة وهيبة ووقار، عالى
الهمة كثير الصدقات والبرّ، ومما يدلّ على علوّ همته مدرسته «1» التى
أنشأها بالرميلة تجاه قلعة الجبل فى مدّة يسيرة، مع قصر مدّته فى
السلطنة والحجر عليه فى تصرفه فى سنين من سلطنته الثانية أيضا، وكان
صفته للطول أقرب، أشقر وبوجهه نمش، مع كيس وحلاوة، وكان متجملا فى
ملبسه ومركبه ومماليكه وبركه، اصطنع مرّة خيمة عظيمة، فلمّا نجّزت ضربت
له بالحوش السلطانى من قلعة الجبل، فلم ير مثلها فى الكبر والحسن،
وفيها يقول الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبى حجلة التّلمسانىّ المغربى.
رحمه الله تعالى:
[الطويل]
حوت خيمة السلطان كلّ عجيبة ... فأمسيت منها باهتا أتعجّب
لسانى بالتقصير فيها مقصّر ... وإن كان فى أطنابها بات يطنب
وكان السلطان الملك الناصر حسن مغرما بالنساء والخدّام، واقتنى فى
سلطنته من الخدّام ما لم يقتنه غيره من ملوك التّرك قبله، وكان إذا
سافر يستصحب النساء معه فى سفره لكونه ما كان له ميل للشّباب كعادة
الملوك من قبله، كان يعفّ عن ذلك، وفى محبته إلى النساء وواقعته مع
يلبغا يقول «2» بعض أصحاب يلبغا فيه شعرا:
[الكامل]
(10/315)
لمّا أتى للعاديات وزلزلت ... حفظ النساء
وما قرا للواقعه
فلأجل ذاك الملك أضحى لم يكن ... وأتى القتال وفصّلت بالقارعه
لو عامل الرحمن فاز بكهفه ... وبنصره فى عصره فى السابعه
من كانت القينات من أحزابه ... عطعط به الدّخان «1» نار لامعه
تبت يدا من لا يخاف من الدعا ... فى الليل إذ يغشى يقع فى النازعه
وخلّف السلطان الملك الناصر حسن، تغمّده الله برحمته، من الأولاد
الذكور عشرة: وهم أحمد وقاسم وعلىّ وإسكندر وشعبان وإسماعيل ويحيى
وموسى ويوسف ومحمد، وستّا من البنات، وخلّف من الأموال والقماش والذهب
العين والسلاح والخيول وغيرها شيئا كثيرا. استولى يلبغا على الجميع،
وتصرّف فيه حسب ما أراده.
وكان السلطان حسن محبا للرعية، وفيه لين جانب، حمدت سائر خصاله، لم يعب
عليه فى ملكه سوى ترقّيه لمماليكه فى أسرع وقت، فإنه كان كريما بارّا
بإخوته وأهله، يميل الى فعل الخير والصدقات، وله مآثر بمكة المشرّفة،
واسمه مكتوب فى الجانب الشرقىّ من الحرم، وعمل فى زمنه باب الكعبة الذي
هو بابها الآن «2» ، وكسا الكعبة الكسوة التى هى الى الآن فى باطن
البيت العتيق، وكان كثير البرّ لأهل مكة والمدينة، الى أن كانت الواقعة
لعسكره بمكة فى أواخر سنة إحدى وستين وسبعمائة التى كان مقدّم عسكرها
«3» الأمير قندس وابن قراسنقر وحصل لهم الكسرة والنهب والقتل من أهل
مكة واخراجهما من مكة على أقبح وجه،
(10/316)
غضب بعد ذلك على أهل مكة وأمر بتجهيز عسكر
كبير الى الحجاز للانتقام من أهل مكة، وعزم على أنه ينزعها من أيدى
الأشراف الى الأبد، وكاد «1» يتمّ له ذلك بسهولة وسرعة، وبينما هو فى
ذلك وقع بينه وبين مملوكه يلبغا وكان من أمره ما كان.
وكان السلطان حسن يميل الى تقدمة أولاد الناس الى «2» المناصب
والولايات حتى إنه كان غالب نوّاب القلاع بالبلاد الشامية فى زمانه
أولاد ناس، ولهذا لم يخرج عليه منذ سلطنته بالبلاد الشامية خارجىّ،
وكان فى أيامه من أولاد الناس ثمانية من مقدّمى الألوف بالديار
المصرية. ثم أنعم على ولديه بتقدمتى ألف فصارت الجملة عشرة، فأما
الثمانية فهم: الأمير عمر بن أرغون النائب وأسنبغا بن الأبى بكرى ومحمد
ابن طوغاى ومحمد بن بهادر رأس نوبة ومحمد بن المحسنىّ الذي قاتل يلبغا
وموسى بن أرقطاى وأحمد بن آل ملك وشرف الدين موسى بن الأزكشى
الأستادار، فهؤلاء من مقدّمى الألوف. وأما الطبلخانات والعشرات فكثير،
وكان بالبلاد الشامية جماعة أخر فكان ابن القشتمرى نائب حلب وأمير علىّ
الماردينىّ نائب الشام وابن صبيح «3» نائب صفد وأمّا من كان منهم من
المقدّمين. والطبلخانات نوّاب القلاع فكثير. وقيل:
إن سبب تغيير خاطر يلبغا من أستاذه الملك الناصر حسن- على ما قيل- إنه
لما عمل ابن مولاهم «4» البليقة «5» التى أوّلها:
(10/317)
من قال أنا: جندى خلق، لقد صدق. عندى قبا،
من عهد نوح، على الفتوح لو صادفوا شمس السطوح، كان احترق
ورقصوا بها بين يدى السلطان حسن، أشاروا «بالجندى خلق» إلى يلبغا وهو
واقف بين يدى السلطان حسن والسلطان حسن يضحك ويستعيدها منهم فغضب من
ذلك يلبغا وحقد على أستاذه السلطان وهذا يبعد وقوعه لكنّه قد قيل.
قلت: وقد أثبتنا هذه البلّيقة- والتى عملها الشيخ زين الدين عبد الرحمن
ابن الخرّاط فى الفقيه التى أوّلها:
من قال أنا ... فقيه بشر
لقد فشر
- فى تاريخنا المنهل الصافى فى ترجمة ابن الخرّاط المذكور بتمامها
وكمالها وهما من أظرف البلاليق فى معناهما. والله أعلم. انتهى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 756]
السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر وهى سنة ست
وخمسين وسبعمائة على أنه حكم- فى السنة الخالية بعد خلع أخيه الملك
الصالح صالح- من شوّال إلى آخرها.
وفيها (أعنى سنة ست وخمسين) توفّى قاضى القضاة شيخ الإسلام «1» تقىّ
الدين أبو الحسن على بن زين الدين عبد الكافى بن علىّ بن تمّام بن يوسف
بن موسى ابن تمّام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن علىّ بن سوار بن
سليم الأنصارى
(10/318)
السّبكى الشافعى- رحمه الله تعالى- بشاطئ
النيل فى ليلة «1» الاثنين رابع جمادى الآخرة، ومولده فى [أول يوم من
«2» ] شهر صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة بسبك الثلاث «3» وهى قرية
بالمنوفية من أعمال الديار المصرية بالوجه البحرى، وكان- رحمه الله-
إماما عالما بالفقه والأصلين والحديث والتفسير والنحو والأدب وفى شهرته
ما يغنى عن الإطناب فى ذكره. وقد استوعبنا ترجمته فى تاريخنا «المنهل
الصافى» بأوسع من هذا فلينظر هناك لمن أراد ذلك. ومن شعره: [الكامل]
إنّ الولاية ليس فيها راحة ... إلّا ثلاث يتّبعها «4» العاقل
حكم بحقّ أو إزالة باطل ... أو نفع محتاج سواها باطل
وتوفّى قاضى القضاة نور الدين أبو الحسن على بن عبد النصير «5» بن على
السّخاوىّ «6»
(10/319)
المصرى المالكى قاضى قصاة الديار المصرية
بها وقد قارب الثمانين سنة فى ليلة الاثنين ثانى «1» جمادى الأولى ودفن
بالقرافة.
وتوفّى الشيخ الأديب «2» شمس الدين محمد بن يوسف بن عبد الله الدّمشقى
الشاعر المشهور المعروف بالخيّاط بطريق الحجاز. ومن شعره قوله.
[السريع]
خلّفت بالشام حبيبى وقد ... يمّمت مصرا لغنى طارق
والأرض قد طالت فلا تبعدى ... بالله يا مصر على عاشق
وتوفّى القاضى تاج الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد المنعم بن
عبد «3» الرحمن ابن عبد الحق السّعدىّ البارنبارى «4» المصرىّ كاتب سرّ
طرابلس وكان فاضلا كاتبا
(10/320)
خدم الملوك وباشر كتابة سر طرابلس. وكان له
شعر جيّد وكتابة حسنة. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن يوسف [بن
عبد «1» الدائم] بن محمد الحلبى النحوى المقرئ الفقيه الشافعى المعروف
بابن السّمين- رحمه الله- فى جمادى»
الآخرة، وكان إماما عالما أفتى ودرّس وأقرأ عدّة سنين.
وتوفّى الأمير سيف الدين قبلاى بن عبد الله الناصرى فى يوم الأربعاء
ثالث شهر ربيع الأول، وكان أصله من مماليك الناصر محمد بن قلاوون، وولى
نيابة الكرك ثم الحجوبية الثانية بمصر، ثم نقل الى الحجوبية الكبرى
بها، ثم ولى نيابة السلطنة بالديار المصرية. وقد تقدّم من ذكره نبذة
جيدة فى عدّة تراجم.
وتوفّى القاضى زين الدين خضر ابن القاضى تاج الدين محمد بن زين الدين
خضر بن جمال الدين عبد الرحمن بن علم الدين سليمان بن نور الدين علىّ
كاتب الإنشاء بالديار المصرية. ومولده ليلة الأحد رابع ذى الحجة سنة
عشر وسبعمائة.
كان فاضلا قادرا على الكتابة سريعها، يكتب من رأس القلم التواقيع
والمناشير واعتمد القاضى علاء الدين على بن فضل الله عليه. وكان له نظم
ونثر. رحمه الله تعالى. ومن شعره فى مقصّ قوله: [الطويل]
يحرّكنى مولاى فى طوع أمره ... ويسكننى [شانيه «3» ] وسط فؤاده
ويقطع بى إن رام قطعا وإن يصل ... يشقّ بحدّى الوصل عند اعتماده
(10/321)
وتوفّى الأمير سيف الدين آص ملك بن عبد
الله بطالا «1» بدمشق فى شهر رمضان.
وكان من أعيان الأمراء، وتنقّل فى عدّة وظائف وأعمال، وكان مشهورا
بالشجاعة.
رحمه الله.
وتوفّى الأمير سيف الدين قردم بن عبد الله الناصرى الأمير آخور بطّالا
بدمشق فى يوم الأحد تاسع عشر شهر رمضان، وقد تقدّم ذكره فى عدّة أماكن.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا. والله سبحانه
وتعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 757]
السنة الثانية من سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر وهى سنة سبع
وخمسين وسبعمائة.
فيها توفّى السيد الشريف شرف الدين أبو الحسن على بن الحسين بن محمد
الحسينى نقيب الأشراف بالديار المصرية، وفيها توفّى عن سبعين سنة- وكان
رحمه الله- إماما عالما فاضلا، درّس بالقاهرة بمشهد «2» الحسين
والفخرية «3» ، وولى حسبة القاهرة ووكالة بيت المال، وكان معدودا من
الرؤساء العلماء.
وتوفّى قاضى القضاة نجم الدين أبو عبد الله محمد ابن القاضى فخر الدين
عثمان ابن أحمد بن عمرو بن محمد الزّرعىّ الشافعىّ قاضى قضاة حلب فى
صفر، وكان- رحمه الله- إماما عالما فاضلا وافتى ودرّس وولى الحكم بعدّة
بلاد.
(10/322)
وتوفّى صاحب بغداد وما والاها الشيخ حسن
«1» بن الحسين بن آقبغا بن أيلكان «2» ببغداد، وملك بعده بغداد ابنه
الشيخ أويس. والشيخ حسن هذا هو سبط الملك أرغون بن أبغا بن هولاكو بن
طولون بن چنكزخان ملك التتار صاحب «اليسق «3» » والاحكام التركية. وكان
فى أيام الشيخ حسن الغلاء العظيم ببغداد حتى أبيع بها الخبز بسنج «4»
الدراهم وبرح الناس عنها، وكان مشكور السّيرة. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الإمام شرف الدين إبراهيم «5» بن إسحاق بن إبراهيم
المناوى الشافعى فى يوم الثلاثاء خامس شهر «6» رجب، وكان- رحمه الله-
فقيها عالما، ناب فى الحكم بالقاهرة، وأفتى ودرّس وشرح الفرائض «من
الوسيط» وغيره.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم كمال الدين أحمد بن [عمر «7» بن أحمد بن]
مهدى النّشائى «8» الشافعى فى يوم الأحد «9» حادى عشر صفر ومولده فى
أوائل ذى القعدة سنة إحدى
(10/323)
وتسعين وستمائة. وكان- رحمه الله- إماما
عالما خطيبا فصيحا مصنّفا ولى خطابة جامع «1» الأمير أيدمر الخطيرى
ببولاق وإمامته ودرّس به وهو أوّل من ولى خطابته وإمامته. ومن
مصنّفاته: كتاب «جامع المختصرات «2» » وكتاب «المنتقى «3» » وعلّق على
«التنبيه «4» » استدراكات، وله غير ذلك. والله أعلم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع. مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 758]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر وهى سنة ثمان
وخمسين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير الكبير أتابك العساكر شيخون بن عبد الله العمرى
الناصرى اللالا مدبّر الممالك الإسلامية بالديار المصرية فى السابع من
ذى الحجة بالقاهرة من جرح أصابه لمّا ضربه قطلوخجا السلاح دار فى موكب
السلطان حسن حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمة السلطان حسن هذه الثانية.
وقيل: كانت وفاته فى أواخر ذى القعدة «5» وسنّه نيّف على خمسين سنة.
وكان أصله من كتابية الملك الناصر محمد ابن قلاوون وكان تركىّ الجنس،
جلبه خواجا «6» عمر من بلاده وباعه للملك الناصر
(10/324)
وترقّى بعد موت الملك الناصر حتى صار أتابك
العساكر بالديار المصرية، وهو أوّل من سمّى بالأمير الكبير، وليها
بخلعة، وصارت من بعده وظيفة. وهو صاحب الجامع «1» والخانقاه «2» بخطّ
صليبة أحمد بن طولون. وقد تقدّم من ذكره فى ترجمة الملك الناصر حسن
والملك الصالح صالح وغيرهما ما يستغنى عن ذكره هنا ثانيا. ودفن
بخانقاته المذكورة. وفى شيخون يقول بعض شعراء عصره مضمّنا: [البسيط]
شيخو الأمير المفدّى كلّه حسن ... حوى المحاسن والحسنى ولا عجب
دع الذين يلومونى عليه سدى ... ليذهبوا فى ملامى أيّة ذهبوا
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة قوام الدين أبو حنيفة أمير كاتب
بن أمير عمر ابن أمير غازى «3» الفارابى الإتقانى الحنفى بالقاهرة،
ودفن بالصحراء خارج القاهرة- وكان رحمه الله- إماما عالما مفتنّا بارعا
فى الفقه واللغة العربية والحديث وأسماء الرجال وغير ذلك من العلوم،
وله تصانيف كثيرة منها: «شرح الهداية «4» » فى عشرين مجلّدا «وشرح «5»
الأخسيكتي» «وشرح «6» البزدوى» ولم يكمّله، وولى التدريس بمشهد أبى
حنيفة ببغداد. ثم قدم دمشق فأفتى بها ودرّس واشتغل وصنّف بدمشق كتابا
فى منع رفع اليدين فى الصلاة فاضلا عن تكبيرة الافتتاح. ثم طلب الى
القاهرة
(10/325)
مكرّما معظّما حتى حضرها وصار بها من أعيان
العلماء لا سيّما عند الأمير صرغتمش الناصرى، فإنه لأجله بنى مدرسته
«1» بالصليبة حتى ولّاه تدريسها. ولما مات- رحمه الله تعالى- ولى تدريس
الصّرغتمشية العلّامة أرشد الدين السرائى الحنفى.
وتوفّى قاضى القضاة نجم الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن القاضى عماد الدين
أبى الحسن على بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المنعم بن عبد الصمد
الطّرسوسى ثم الدمشقى الحنفى قاضى قضاة الحنفية بدمشق بها عن نحو
أربعين سنة وكان- رحمه الله- إماما عالما علّامة أفتى ودرّس وناب فى
الحكم عن والده بدمشق ثم استقل بالوظيفة من بعده عدّة سنين وحمدت
سيرته. وله مصنّفات كثيرة منها: كتاب «رفع الكلفة عن الإخوان فى ذكر ما
قدّم القياس على الاستحسان» وكتاب «مناسك الحج» مطوّل وكتاب
«الاختلافات الواقعة فى المصنّفات» وكتاب «محظورات الإحرام» وكتاب
«الإرشادات فى ضبط المشكلات» عدّة مجلدات وكتاب «الفتاوى فى الفقه»
وكتاب «الإعلام فى مصطلح الشهود والأحكام «2» » وكتاب «الفوائد «3»
المنظومة فى الفقه» .
وتوفّى الأمير سيف «4» الدين أرغون بن عبد الله الكاملى المعروف بأرغون
الصّغير بالقدس بطّالا قبل أن يبلغ الثلاثين سنة من العمر وكان أرغون
خصيصا عند الملك الكامل ثم عند أخيه الملك الصالح إسماعيل وترقّى حتى
صار أمير مائة ومقدّم ألف بديار مصر. ثم ولى نيابة حلب ثم نيابة الشام
ثم أعيد الى نيابة حلب ثانيا الى أن طلب الى القاهرة وقبض عليه واعتقل
بالإسكندرية مدّة ثم أخرج الى القدس
(10/326)
بطّالا، فمات به. وكان أميرا جليلا عارفا
شجاعا كريما وفيه بر ومعروف وله مآثر، من ذلك بيمارستان «1» بحلب
وغيره. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن
إبراهيم ابن عبد المحسن العسجدىّ الشافعىّ. كان معدودا من فقهاء
الشافعية. رحمه الله.
وتوفّى القاضى علاء الدين أبو الحسن على بن محمد بن الأطروش الحنفىّ
محتسب القاهرة وقاضى العسكر بها كان من بياض الناس وله وجاهة. رحمه
الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة محبّ الدين أبو عبد الله محمود ابن الشيخ
الإمام علاء الدين أبى الحسن على بن إسماعيل بن يوسف القونوىّ الشافعىّ
فى يوم الأربعاء ثامن عشرين شهر ربيع الآخر وكان فقيها مصنّفا ومن
مصنّفاته: «شرح ابن الحاجب فى الأصول» وكتاب «اعتراضات على شرح الحاوى»
فى الفقه لأبيه.
وله غير ذلك.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وإصبع. مبلغ الزيادة
ثمانى عشرة ذراعا وست أصابع. والله أعلم.
(10/327)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 759]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر وهى سنة تسع
وخمسين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير سيف الدين صرغتمش بن عبد الله الناصرىّ فى سجنه بثغر
الإسكندرية فى ذى الحجّة. وكان أصله من مماليك الناصر محمد بن قلاوون
وترقّى حتى صار من أكابر الأمراء ومدبّرى الديار المصرية مع الأمير
شيخون وبعده وقد تقدّم من ذكره فى ترجمة الملك الصالح والملك الناصر
حسن ما يكتفى بذكره هناك: ولمّا حبسه الملك الناصر حسن بثغر الإسكندرية
كتب إليه صرغتمش كتابا يتخضّع إليه فيه وفى أوّله: [الكامل]
قلبى يحدّثنى بأنّك متلفى ... روحى فداك عرفت ألم تعرف «1»
فلم يلتفت الملك الناصر لكتابه وفعل به ما قدّر عليه وكان صرغتمش عظيما
فى الدولة فاضلا مشاركا فى فنون يذاكر بالفقه والعربيه ويحبّ العلماء
وأرباب الفضائل ويكثر من الجلوس معهم وهو صاحب المدرسة «2» بخطّ
الصليبة وله برّ وصدقات، إلا أنه كان فيه ظلم وعسف مع جبروت.
وتوفّى القاضى «3» شرف الدين أبو البقاء خالد بن عماد الدين إسماعيل بن
محمد ابن عبد الله بن محمد بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر المخزومى
الشافعىّ المعروف بابن القيسرانىّ الحلبى ثم الدّمشقى بدمشق عن نيّف
وخمسين سنة وكان كاتبا فاضلا مصنفا باشر كتابة الإنشاء بدمشق ووكالة
بيت المال وسمع الكثير.
(10/328)
وتوفّى قاضى الإسكندرية فخر الدين «1» أبو
العبّاس محمد بن أحمد بن عبد الله الشهير بابن المخلّطة فى يوم الجمعة
سابع شهر رجب، ولى قضاء الإسكندرية أشهرا، بعد أن كان درّس بالقاهره
بمدرسة الصّرغتمشية: درس الحديث. وكان فاضلا عارفا بالأصول وله سماع
وتولى بعده قضاء الإسكندرية ابن التّنسىّ «2» .
وتوفّى ملك الغرب أبو عنان «3» فارس ابن السلطان أبى الحسن علىّ ابن
السلطان أبى يوسف يعقوب بن عبد الحق بن محيوبن حمامة المرينىّ المغربى
بمدينة فاس «4» بعد أن حكم خمس سنين وكان مشكور السّيرة. رحمه الله.
(10/329)
وتوفّى الشريف مانع بن على بن مسعود بن
جمّاز بن شيحة الحسينى أمير المدينة بها وتولّى المدينة الشريفة بعده
ابن عمّه فضل «1» بن القاسم فى ذى القعدة.
وتوفّى الأمير سيف بن فضل بن مهنّا بن عيسى بن مهنّا بن مانع بن حديثة
ابن غضيّة فى ذى القعدة وكان جوادا شجاعا، ولى إمرة آل فضل غير مرة.
وقيل إنه قتل سنة ستين وهو الأصحّ
وتوفّى الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن عيسى بن حسن بن كر «2» الحنبلى
إمام أهل الموسيقى، وله فيها تآليف حسنة ويتصل نسبه إلى الخليفة مروان
بن محمد الحمار. وكان صوفيّا فقيها وله زاوية «3» عند مشهد الحسين
بالقاهرة. ومولده فى شهر
(10/330)
ربيع «1» الأوّل سنة إحدى وثمانين وستمائة
بالقاهرة، وكان فاضلا قرأ القرآن على الشّطنوفى «2» وحفظ الأحكام «3»
لعبد الغنى [بن «4» عبد الواحد] «والعمدة فى الفقه» للشيخ موفّق «5»
الدين والملّحة للحريرى وسمع على أشياخ عصره مثل الدّمياطىّ «6»
والأبرقوهىّ «7» وغيرهما وصنف كتابا فى الموسيقى سماه: «غاية المطلوب،
فى الأنغام والضروب» وقد أوضحنا أمره وما يتعلّق بفنّه الموسيقى فى
المنهل الصافى إذ هو محلّ الاستيعاب.
وتوفّى الأمير الطّواشى صفى الدين جوهر بن عبد الله الجناحى البتخاصى
مقدّم المماليك السلطانية، وقد قارب المائة سنة من العمر. وكان من
أعيان الخدّام وأمائلهم.
وتوفّى الأمير سيف الدين ننكزبغا بن عبد الله الماردين أمير مجلس وزوج
أخت السلطان حسن، كان من أكابر الأمراء بالديار المصرية، لا سيما فى
دولة الناصر حسن. وكان عاقلا مدبّرا سيوسا.
وتوفّى الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن داود بن
الهكّارى الكردى الشافعى بدمشق فى ذى القعدة. ومولده سنة خمس وثمانين
وستمائة وكان فقيها فاضلا.
(10/331)
وتوفّى الأمير سيف الدين ملكتمر بن عبد
الله السّعدى «1» فى ذى القعدة «2» بحماة بطّالا بعد أن ولى عدّة وظائف
وتنقّل فى عدّة ولايات. رحمه الله تعالى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 760]
السنة الخامسة من سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر وهى سنة ستين
وسبعمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة تقىّ الدين أبو عبد الله محمد بن شهاب الدين
أحمد ابن شأس المالكىّ قاضى قضاة الديار المصرية فى يوم الأربعاء رابع
شوّال ودفن بالقرافة. وكان إماما بارعا فى مذهبه أفتى ودرس وناب فى
الحكم، ثم استقل بالقضاء، وكان مشكور السّيرة، من علم وفضل. رحمه الله.
وتوفّى قاض قضاة حماة تقىّ الدين أبو المظفّر محمود بن بدر الدين محمد
بن عبد السلام بن عثمان القيسى الحنفىّ الحموى الشهير بابن الحكيم «3»
، باشر قضاء حماة تسع عشرة سنة، وحمدت سيرته ومات بمنزلة ذات الحج «4»
من الحجاز، وقد جاوز ستين سنة وكان عالما زاهدا ورعا.
(10/332)
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة شيخ
الإسلام وقطب الوجود أبو البقاء وقيل أبو الوفاء خليل بن عبد الرحمن بن
محمد بن عمر المالكى المالقى «1» ثم المكىّ العالم المشهور، صاحب
التصانيف فى مذهبه بمكة المشرفة بعد أن انتهت إليه رياسة مذهبه ولم
يخلّف بعده مثله.
وتوفّى القاضى جمال الدين إبراهيم ابن العلّامة شهاب الدين محمود بن
سليمان ابن فهد الحلبى الحنبلى بحلب عن أربع وثمانين سنة وكان فاضلا
كاتبا ماهرا فى صناعته، كتب فى ديوان الإنشاء بمصر وولى كتابة سرّ حلب
ثلاث مرات نيّفا وعشرين سنة وحدّث عن جماعة من حفّاظ الديار المصرية
والإسكندرية. وكان عارفا بالاصطلاح والكتابة، وله نظم ونثر. ومن شعره
ما كتبه لوالده متشوّقا بقوله: [السريع] .
هل زمن ولّى بكم عائد ... أم هل ترى يرجع عيش مضى
فارقتكم بالرغم منى ولم ... أختره لكنّى أطلعت القضا
قلت: لو كانت وظيفته قضاء حلب كان فى قوله: «أطعت القضا» تورية.
وكان جوادا ممدّحا وفيه يقول البارع جمال الدين محمد بن نباتة المصرى
قصيدته المشهورة التى أوّلها: [الطويل]
أجيراننا حيّا الربيع دياركم ... [وإن لم يكن فيها لطرفى مربع «2» ] .
انتهى
وتوفّى القاضى تاج الدين أحمد بن يحيى بن محمد بن على بن أبى القاسم بن
على ابن أبى الفضل العذرى الدمشقى الحنفى المعروف بابن السّكاكرى. كان
«3» عارفا بعلل
(10/333)
المكاتيب الحكيمة خبيرا بسلوك طرائقها
العلمية والعملية وكتب الحكم والإنشاء بحلب ومات عن خمس وستين سنة.
رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير عز «1» الدين طقطاى بن عبد الله الصالحىّ الدّوادار
بطرابلس عن بضع وأربعين سنة معتقلا. وكان أميرا فاضلا جليلا رئيسا وفيه
يقول الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفذىّ تغمّده الله برحمته:
[الكامل]
هذا الدّوادار الذي أقلامه ... تذر المهارق مثل روض نافح «2»
تجرى بأرزاق الورى فمدادها ... وبل تحدّر من غمام سافح «3»
أستغفر الله العظيم غلطت بل ... نهر جرى من لجّ بحر طافح
وإذا تكون كريهة فيمينه ... تسطو بحدّ أسنّة وصفائح
يا فخر دهر قد حواه [فإنّه «4» ] ... عزّ لمولانا المليك الصالح
وتوفّى الخان جانبك خان بن أزبك خان صاحب كرسىّ سراى «5» وبلاد
(10/334)
الدّشت «1» بها، بعد أن حكم ثمانى عشرة
سنة. ونسبه يتّصل لجنكزخان وتولى بعده الملك ابنه بردبك. خان والله
أعلم بالصواب.
أمر النيل فى هذه السنة- المياء القديم خمس أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة تسع عشرة ذراعا وثلاث أصابع. وقيل أربعة أصابع من غير
زيادة والله سبحانه أعلم بالصواب.
(10/335)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 761]
السنة السادسة من سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر وهى سنة إحدى
وستين وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة جمال الدين أبو محمد عبد الله
بن يوسف بن أحمد بن هشام الأنصارى الحنبلى النحوى فى ليلة الجمعة
الخامس من ذى القعدة ودفن بعد صلاة الجمعة بمقابر «1» الصوفيّة خارج
باب النصر من القاهرة. وكان بارعا فى عدّة علوم، لا سيما العربية فإنه
كان فارسها ومالك زمامها وهو صاحب الشرح على ألفية ابن مالك فى النحو
المسمّى «بالتوضيح» «وشرح أيضا البردة» [وشرح «2» ] «بانت سعاد» وكتاب
«المغنى» وغير ذلك ومات عن بضع وخمسين سنة وكان أوّلا حنفيّا ثم استقرّ
حنبليّا وتنزّل فى دروس الحنابلة «3» .
وتوفّى قاضى القضاة صدر الدين أبو الربيع سليمان بن داود بن سليمان [بن
داود] ابن محمد بن عبد الحق الدمشقى الحنفى باليمن «4» عن ثلاث وستين
سنة. وكان إماما بارعا مفتنا، أفتى ودرّس بدمشق وباشر بها عدّة وظائف،
منها: كتابة الإنشاء والنظر فى الأحكام ورحل إلى العراق وخراسان ومصر
والحجاز واليمن. وكان له شعر جيّد من ذلك قوله: [السريع]
(10/336)
لما بدا فى خدّه عارض ... وشاق قلبى نبته
الأخضر
أمطر أجفانى مستمطر ... فقلت هذا عارض ممطر
وتوفّى الشيخ الإمام الحافظ صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدى
العلائى الدمشقى الشافعى، كان إماما حافظا رحّالا عارفا بمذهبه، سمع
بالشام ومصر والحجاز وتقدّم فى علم الحديث وجمع وألّف وصنّف ودرّس
بالصلاحيّة «1» والتّنكزية «2» بالقدس، [وبها توفى «3» ] وكانت وفاته
فى المحرّم من هذه السنة. وقال الإسنوىّ: سنة ستين.
ومولده بدمشق فى سنة أربع وتسعين وستمائة.
وتوفّى القاضى ضياء الدين أبو المحاسن يوسف بن أبى بكر بن محمد الشهير
بابن خطيب بيت الآبار الدّمشقى. مات بالقاهرة عن نيف وسبعين سنة. وكان
مقدّما فى الدولة الناصرية وباشر الحسبة ونظر الأوقاف وغيرهما، [وكان
لأهل الشام نعم الذخيرة «4» ] .
(10/337)
وتوفّى الشيخ تقىّ الدين إبراهيم ابن الشيخ
بدر الدين محمد بن ناهض بن سالم ابن نصر الله الحلبى الشهير بابن
الضّرير بحلب عن بضع وستين سنة. وكان فقيها بارعا سمع الحديث وجمع
وحصّل وكتب كثيرا من الإنشاء والعلم والأدب.
وتوفّى الشريف زين الدين أبو الحسن على بن محمد بن أحمد بن على محمد بن
على الحسينى الحلبى نقيب الأشراف بحلب. كان رئيسا نبيلا من بيت رياسة
وشرف. رحمه الله تعالى «1» .
وتوفّى الشيخ شرف الدين موسى بن كجك الإسرائيلى الطبيب فى شوّال. وكان
بارعا فى الطب مشاركا فى غيره.
وتوفّى الشيخ الإمام الخطيب شهاب الدين أبو العباس أحمد [بن «2» ]
القسطلانى خطيب جامع عمرو- رحمه الله- بمصر القديمة فى ذى الحجة، وكان
ديّنا خيّرا من بيت فضل وخطابة، وقد تقدّم ذكر جماعة من آبائه وأقاربه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم اثنتا عشرة ذراعا سواء. مبلغ
الزيادة أربع وعشرون ذراعا، قاله غير واحد، وخربت أماكن كثيرة من عظم
زيادة النيل. والله أعلم.
*** انتهى الجزء العاشر من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الحادى عشر
وأوّله: ذكر سلطنة الملك المنصور محمد على مصر
(10/338)
*** تنبيه: التعليقات الخاصة بالأماكن
الأثرية والمدن والقرى المصرية القديمة وغيرها مع تحديد أماكنها من وضع
العلامة المحقق المرحوم محمد رمزى بك الذي كان مفتشا بوزارة المالية
وعضوا فى المجلس الأعلى لإدارة حفظ الآثار العربية، كالتعليقات السابقة
فى الأجزاء الماضية ابتداء من الجزء الرابع. ولا يسعنا إلا أن نسأل
الله جلت قدرته أن ينزل على قبره شآبيب رحمته، وأن يجزيه الجزاء الأوفى
على خدمته للعلم وأهله. وكانت وفاته- رحمه الله- يوم الاثنين 13 ربيع
الأول سنة 1364 هـ (26 فبراير سنة 1945 م) .
(10/339)
استدراكات
كان العلامة المحقق المرحوم محمد رمزى بك قد وصّى أحد أفراد الأسرة قبل
وفاته بهذه الاستدراكات ليرسلها إلى دار الكتب المصرية فجاءتنا بطريق
البريد بعد وفاته.
باب الصفا
ورد فى الحاشية رقم 3 صفحة 91 من الجزء الرابع من هذه الطبعة أن باب
الصفا كان واقعا تقريبا فى النقطة التى يتقابل فيها شارع سوق المواشى
بشارع الفسطاط بمصر القديمة.
وبإعادة البحث تبيّن لى أن هذا الوصف خطأ. والصواب أن هذا الباب كان
واقعا فى السور البحرى لمدينة الفسطاط على رأس الطريق التى كانت تمر فى
المنطقة التى بها اليوم جبانة السيدة نفيسة الجديدة فيما بين باب الصفا
المذكور وامتداد شوارع الأشرف والخليفة والركبية حيث كانت تسير الطريق
قديما بين الفسطاط والقاهرة. وقد بيّنا هذا الوصف فيما كتبناه عن هذا
الباب فى صفحة 654 بالعدد الخامس من مجلة العلوم الصادرة فى سنة 1942
وعلى الخريطة المرفقة بالعدد المذكور.
شارع نجم الدين
ورد فى الحاشية رقم 1 ص 67 بالجزء السادس من هذه الطبعة ما يفيد أن
شارع نجم الدين الممتدّ من جبانة باب النصر من الجنوب إلى الشمال منسوب
إلى الأمير نجم الدين أيوب بن شادى الذي أنشأ مسجدا ظاهر باب النصر سنة
566 هـ على ما جاء فى المقريزى ص 412 ج 2 ثم جدّدت هذه التسمية نسبة
إلى الشيخ صالح المحدّث نجم الدين أبى الغنائم محمد بن أبى بكر الشافعى
المشهور بغنائم السعودى صاحب الزاوية التى فى نهاية هذا الشارع من
الجهة البحرية.
(10/340)
العش
ورد بالحاشية رقم 3 ص 261 بالجزء السابع من هذه الطبعة أن ناحية العش
التى ولد بها الملك السعيد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس البندقدارى
بضواحى القاهرة هى الناحية التى تعرف اليوم باسم منية شبين إحدى قرى
مركز شبين القناطر بمديرية القليوبية بمصر.
وبإعادة البحث تبين لى أن هذا الإرجاع خطأ، والصواب أنه من الاطلاع على
كتاب الانتصار لابن دقماق ظهر لى أن ناحية العش هى ناحية أخرى كانت
واقعة غربى البركة المعروفة بالعكرشة، وبما أن حوض العكرشة لا يزال
موجودا ومعروفا تحت رقم 47 بأراضى ناحية أبى زعبل وشرقى سكنها تبين لى
من ذلك أن ناحية العش التى ولد بها الملك السعيد بركة خان بضواحى
القاهرة هى التى تسمى اليوم كفر الشيخ سعيد بجوار سكن ناحية أبى زعبل
بمركز شبين القناطر ومن توابعها.
حلوان
ورد فى الحاشية رقم 2 صفحة 90 بالجزء التاسع من هذه الطبعة ما يفيد أن
حلوان البلد أنشأها عبد العزيز بن مروان على النيل فى سنة 67 هجرية
والصواب أنه أنشأها فى سنة 70 هجرية بعد أن اشترى أرضها من أهلها فى
تلك السنة.
وورد فى الحاشية المذكورة أن مدينة حلوان الحمامات أنشأها الخديوى
إسماعيل فى سنة 1282 هجرية- 1871 ميلادية. والصواب أن هذا التاريخ هو
تاريخ إنشاء الحمامات لأنها كانت أنشئت هى والفندق ونقطة البوليس فى
السنة المذكورة فى الخلاء، قبل أن تبنى مدينة حلوان الحمامات التى فى
الجبل بمدة أربع سنوات.
وأما مدينة حلوان الحمامات ذاتها فقد أنشأها الخديوى إسماعيل فى سنة
1285 هجرية- 1874 ميلادية وقد تكلمنا على ذلك فى الرسالة التى طبعناها
عن مدينة حلوان فى مجلة العلوم سنة 1944.
(10/341)
فهرس الولاة «1» الذين تولوا مصر من سنة
690 هـ- إلى سنة 709 هـ
(ا) الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين
قلاوون الألفى الصالحى النجمىّ 3- 40 من سنة 690- 692 هـ
(خ) خليل- الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون.
(ع) العادل زين الدين كتبغا بن عبد الله المنصورى التركى المغلى سلطان
الديار المصرية 55- 84 من سنة 694- 695 هـ
(م) المظفر ركن الدين بيبرس بن عبد الله المنصورى الجاشنكير 232- 282
سنة 709 هـ
المنصور حسام الدين لاچين بن عبد الله المنصورى سلطان الديار المصرية
85- 114 من سنة 696- 697 هـ
(ن) الناصر أبو الفتوح وأبو المعالى ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك
المنصور سيف الدين قلاوون الصالحى النجمى الألفى- ولايته الأولى 41- 54
سنة 693 هـ ولايته الثانية 115- 231 من سنة 698- 708 هـ
(10/343)
[الجزء الحادى
عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته
والمسلمين.
[ما وقع من الحوادث سنة 762]
ذكر سلطنة الملك المنصور محمد على مصر
«1» السلطان الملك المنصور أبو المعالى ناصر الدين محمد ابن السلطان
الملك المظفّر حاجىّ ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك
المنصور قلاوون المنصورى الحادى والعشرون من ملوك الترك بالديار
المصرية. جلس على تخت الملك صبيحة قبض على عمّه الملك الناصر حسن وهو
يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وسبعمائة وكان عمره
يومئذ نحوا من أربع عشرة سنة، بعد أن اجتمع الخليفة المعتضد بالله
والقضاة والأعيان. ثم فوّض عليه خلعة السلطنة وهو التشريف الخليفتى في
يوم الخميس عاشر الشهر المذكور، ولقّبوه الملك المنصور وحلفت له
الأمراء على العادة، وركب من باب الستارة «2» من قلعة الجبل إلى
الإيوان «3» وعمره ستّ عشرة سنة. قاله العينى. «4» والأصحّ ما قلناه.
(11/3)
ثم خلع على الأمير يلبغا العمرىّ الناصرىّ
الخاصّكى وصار مدبر مملكة، ويشاركه فى ذلك خشداشه الأمير طيبغا الطويل،
على أن كلّا منهما لا يخالف الآخر في أمر من الأمور؛ ثم خلع على الأمير
قطلوبغا الأحمدى واستقر رأس نوبة النّوب، وخلع على قشتمر المنصورى
بنيابة السلطنة بالديار المصرية وناظر البيمارستان المنصورىّ عوضا عن
الأمير آقتمر عبد الغنى، وخلع على الشريف عز الدين عجلان بإمرة مكة على
عادته. ثم كتب بالإفراج عن جماعة من الأمراء من الحبوس «1» وهم الأمير
حركتمر الماردينىّ وطشتمر القاسمى وقطلوبغا المنصورى وخلع على طشتمر
القاسمى بنيابة الكرك من يومه وعلى ملكتمرا المحمدى بنيابة صفد، ونفى
اطقتمر المؤمنى إلى أسوان وخلع على الأمير ألجاى اليوسفى حاجب الحجّاب
واستقرّ أمير جاندار، وأفرج عن الأمير طاز اليوسفى الناصرى من اعتقاله
بثغر الإسكندرية بعد أن حبس بها ثلاث سنين وزيادة، وكان السلطان الملك
الناصر حسن قد أكحله وأفرج أيضا عن أخوىّ طاز: الأمير جنتمر وكلتاى؛
وقرابغا وحضروا الجمع إلى بين يدى السلطان، وحضر طاز وعلى عينيه شعرية
«2» فأخلع عليه وسأل أن يقيم بالقدس فأجيب وسافر إلى القدس وأقام به
إلى أن مات على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
ولمّا بلغ خبر قتل الملك الناصر حسن إلى الشأم عظم ذلك على بيدمر نائب
الشأم وخرج عن الطاعة في شعبان من سنة اثنتين وستين وسبعمائة وعصى معه
أسند مر الزينىّ ومنجك اليوسفى وحصّنوا قلعة دمشق، فلمّا بلغ ذلك يلبغا
العمرى استشار الأمراء في أمرهم فاتّفقوا على خروج السلطان إلى البلاد
الشامية وتجهّز يلبغا وجهّز
(11/4)
السلطان الملك المنصور إلى السفر وأنفق فى
الأمراء والعساكر وخرج السلطان ويلبغا بالعساكر المصرية إلى الرّيدانية
«1» فى أواخر شعبان.
ثم رحّل الأمير يلبغا جاليش العسكر في يوم الاثنين مستهلّ شهر رمضان
ورحّل السلطان الملك المنصور في يوم الثلاثاء الثانى منه ببقية العساكر
وساروا حتى وصلوا دمشق في السابع والعشرين من شهر رمضان المذكور،
فتحصّن الأمراء المذكورون بمن معهم في قلعة دمشق، فلم يقاتلهم يلبغا
وسيّر إليهم في الصلح وتردّدت الرسل إليهم، وكان الرسل قضاة الشام، حتى
حلف لهم يلبغا أنه لا يؤذيهم وأمّنهم فنزلوا حينئذ إليه، فحال وقع بصره
عليهم أمر بهم فقبضوا وقيّدوا وحملهم «2» إلى الإسكندرية الى الاعتقال
بها وخلع يلبغا على أمير علىّ الماردينى بنيابة دمشق على عادته أوّلا،
وهذه ولاية أمير علىّ الثالثة على دمشق وتولّى الأمير قطلوبغا الأحمدى
رأس نوبة نيابة جلب عوضا عن الأمير شهاب الدين أحمد بن القشتمرى.
وأقام السلطان ويلبغا مدّة أيام، ومهّد يلبغا أمور البلاد الشامية حتى
استوثق له الأمر. ثم عاد إلى جهة الديار المصرية وصحبته الملك المنصور
والعساكر حتى وصل إليها في ذى القعدة من سنة اثنتين وستين وسبعمائة.
وصار الأمر جميعه ليلبغا وأخذ يلبغا في عزل من اختار عزله وتولية من
اختاره، فأخلع على الطواشى سابق الدين مثقال الآنوكى زمام الدار
واستقرّ في تقدمة المماليك السلطانية عوضا عن الطواشى شرف الدين مخلص
الموفّقى.
ثم في شهر رجب استقرّ الأمير طغيتمر النّظامى حاجب الحجاب بالديار
المصرية، وكانت شاغرة منذ ولّى ألجاى اليوسفى الأمير جاندار، ثم في
شعبان استقرّ الأمير قطلقتمر العلائى الجاشنكير أمير مائة ومقدّم ألف
بديار مصر.
(11/5)
ثم في شوّال أخلع على الأمير إشقتمر «1»
الماردينى أمير مجلس بنيابة طرابلس واستقر طغيتمر النظامى عوضه
أمير مجلس، واستقر الأمير اسنبغا الأبوبكريّ حاجب الحجّاب عوضا عن
طغيتمر النظامى. ثم أخلع على الأمير عزّ الدين أيدمر الشيخى بنيابة
حماة. ثم استقرّ الأمير منكلى بغا الشمسى فى نيابة حلب عوضا عن
قطلوبغا الأحمدى بحكم وفاته. ثم أمسك الأمير شرف الدين موسى بن
الأزكشى الأستادار ونفى الى حماة واستقرّ عوضه في الأستادارية أروس
المحمودى.
ثم تزوّج الأمير الكبير يلبغا بطولوبيه «2» زوجة أستاذه الملك
الناصر حسن.
وفي هذه السنة بويع المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد بالخلافة
بعد وفاة أبيه المعتضد بالله أبى بكر بعهد من أبيه في يوم الأربعاء
ثامن عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة.
ثم أشيع في هذه السنة عن السلطان الملك المنصور محمد أمور شنعة
نفّرت قلوب الأمراء منه واتّفقوا على خلعه من السلطنة، فخلع في يوم
الثلاثاء خامس عشر شعبان سنة أربع وستين وسبعمائة وتسلطن بعده ابن
عمه الملك الأشرف شعبان بن حسين، وحسين المذكور لم يتسلطن غير أنه
كان لقّب بالأمجد من غير سلطنة، وأخذوا الملك المنصور محمدا وحبسوه
داخل الدور السلطانية بقلعة الجبل. وكانت مدّة سلطنته سنتين وثلاثة
أشهر وستة «3» أيام، وليس له فيها من السلطنة إلا مجرّد الاسم فقط.
والأتابك يلبغا هو المتصرف في سائر أمور المملكة.
(11/6)
وسبب خلعه- والذي أشيع عنه- أنه بلغ
الأتابك يلبغا أنه كان يدخل بين نساء الأمراء ويمزح معهن، وأنه كان
يعمل مكاريّا للجوارى ويركبهنّ ويجرى هو وراء الحمار بالحوش
السلطانى وأنه كان يأخذ زنبيلا فيه كعك ويدخل بين النساء ويبيع ذلك
الكعك عليهن على سبيل المماجنة. وأنه يفسق في حريم الناس ويخلّ
بالصلوات وأنه يجلس على كرسى الملك جنبا وأشياء غير ذلك، فاتّفق
الأمراء عند ذلك على خلعه فخلعوه وهم يلبغا العمرى الخاصّكى وطيبغا
الطويل وأرغون الإسعردى وأرغون الأشرفى وطيبغا العلائى وألجاى
اليوسفى وأروس المحمودى وطيدمر البالسى وقطلوبغا المنصورى وغيرهم
من المقدّمين والطبلخانات والعشروات.
واستمر الملك المنصور محبوسا بالدور السلطانية من القلعه إلى أن
مات بها فى ليلة السبت تاسع المحرّم من سنة إحدى وثمانمائة. وزوّج
الملك الظاهر برقوق الوالد «1» بابنته خوند فاطمة في حياة والدها
الملك المنصور المذكور واستولدها الوالد عدّة أولاد وماتت تحته في
سنة أربع وثمانمائة، ولما مات الملك المنصور صلّى عليه الملك
الظاهر برقوق بالحوش «2» السلطانى من القلعة ودفن بتربة «3» جدّته
أمّ أبيه بالروضة «4» خارج
(11/7)
باب «1» المحروق بالقرب من الصحراء، وكان
محبّا للهو والطرب راضيا بما هو فيه من العيش الطيب، وكان له مغان
عدّة، جوقة كاملة زيادة على عشر جوار يعرفن بمغانى المنصور
استخدمهنّ الوالد بعد موته، وكانت العادة تلك الأيام، أنّ لكل
سلطان أو ملك يكون له جوقة من المغانى عنده فى داره، ولم يخلّف
الملك المنصور مالا له صورة وخلّف عدّة أولاد ذكور وإناث. رأيت أنا
جماعة منهم. انتهى والله أعلم.
السنة الأولى وهي سنة اثنتين وستين وسبعمائة ومدبّر الممالك يلبغا
العمرىّ على أن الملك الناصر حسنا حكم منها إلى تاسع جمادى الأولى
ثم حكم في باقيها الملك المنصور هذا.
فيها كان خلع الملك الناصر حسن وقتله حسب ما تقدّم وسلطنة الملك
المنصور هذا.
(11/8)
وفيها توفّى الأديب شمس الدين أبو عبد الله
محمد بن علىّ بن محمد المعروف بابن أبى طرطور الشاعر المشهور
وبحماة عن بضع وسبعين سنة. وكان رحمه الله شاعرا ماهرا حسن العشرة،
مدح الأكابر والأعيان ورحل إلى الشام ثم استوطن حماة إلى أن مات.
رحمه الله. ومن شعره في مليح اسمه يعقوب، وهو هذا. [الرمل]
يا مليحا حاز وجها حسنا ... أورث الصّبّ البكا والحزنا
غلطوا في اسمك إذ نادوا به ... يوسف أنت ويعقوب أنا
وتوفّى الحافظ المفتّن علاء الدين أبو عبد الله مغلطاى بن قليح «1»
بن عبد الله البكجرىّ الحنفىّ الحافظ المصنف المحدّث المشهور في
شعبان ومولده سنة تسعين وستمائة قاله ابن «2» رافع، وغيره في سنة
تسع وثمانين وسمع من التاج أحمد «3» ابن دقيق العيد وابن الطبّاخ
والحسن بن عمر الكردىّ وأكثر عن شيوخ عصره وتخرّج بالحافظ فتح
الدين ابن سيد «4» الناس وغيره ورحل وكتب وصنّف «وشرح صحيح
البخارىّ» ورتب «صحيح ابن حبّان» «وشرح [سنن] «5» أبى داود» ولم
يكمّله وذيّل على «المشتبه لابن نقطة» وذيّل على «كتاب الضعفاء
لابن الجوزىّ» وله عدّة مصنّفات أخر، وكان له اطلاع كبير وباع واسع
في الحديث وعلومه وله مشاركة فى فنون عديدة. تغمّده الله برحمته.
(11/9)
وتوفّى الشيخ الإمام البارع المحدّث
العلامة جمال الدين عبد الله بن يوسف [ابن محمد «1» ] الزّيلعىّ
الحنفىّ في الحادى والعشرين من المحرّم. وكان- رحمه الله- فاضلا
بارعا في الفقه والأصول والحديث والنحو والعربية وغير ذلك، وصنّف
وكتب وأفتى ودرّس وخرّج أحاديث الكشّاف في جزء وأحاديث الهداية [فى
الفقه «2» على مذهب أبى حنيفة] فى أجزاء وأجاد، أظهر فيه على اطلاع
كبير وباع واسع.
رحمه الله تعالى.
وتوفّى السيّد الشريف «3» شهاب الدين حسين بن محمد بن الحسين بن
محمد بن الحسين بن زيد الحسينىّ المصرىّ الشافعىّ الشهير بابن قاضى
العسكر نقيب الأشراف بالديار المصرية عن أربع وستين سنة وكان كاتبا
بارعا أديبا بليغا كتب الإنشاء بمصر وباشر كتابة السّر بحلب وله
ديوان خطب وتعاليق ونظم ونثر، ومن شعره قوله.
[المتقارب]
تلقّ الأمور بصبر جميل ... وصدر رحيب وخل الجرج
وسلّم إلى الله في حكمه ... فإمّا الممات وإمّا الفرج
وتوفّى القاضى شهاب «4» الدين أبو العباس أحمد بن عبد الوهاب بن
خلف [ابن محمود بن على «5» ] بن بدر المعروف بابن بنت الأعز
العلامىّ الفقيه الشافعى
(11/10)
فى يوم الخميس ثامن عشر شهر ربيع الآخر
وكان فقيها بارعا فاضلا ولى نظر الأحباس بالقاهرة ووكالة بيت المال
وعدّة وظائف دينيّة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان بن عبد الله السّنانى الناصرى
الأستادار وأحد أمراء المقدّمين بالقاهرة، وكان من أعيان أمراء
الديار المصرية وفيه شجاعة ومروءة وكرم. تغمّده الله برحمته.
وتوفّى القاضى شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عيسى [بن عيسى «1» ]
بن محمد ابن عبد الوهاب بن ذؤيب الآمدى الدمشقىّ الشافعىّ المعروف
بابن قاضى شهبة- رحمه الله- كان إماما بارعا أديبا ماهرا باشر
الخطابة بمدينة غزّة سنين، ثم كتب الإنشاء بدمشق وكان له نظم ونثر
وخطب.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن مجد الدين عيسى بن محمود [بن عبد
«2» اللطيف البعلبكى] المعروف بابن المجد الموسوى في سلخ صغر، وكان
فقيها فاضلا إلا أنه كان غلب عليه الوسواس، حتى إنه كان في بعض
الأحيان يتوضّأ من فسقية الصالحية «3» بين القصرين فلا يزال به
وسواسه حتى يلقى نفسه في الماء بثيابه.
وتوفّى الفقيه الكاتب المنشئ كمال الدين أبو عبد الله محمد بن شرف
الدين أحمد ابن يعقوب بن فضل بن طرخان الزينبىّ الجعفرىّ العباسىّ
الدمشقىّ الشافعىّ بضواحى القاهرة. كان معدودا من الرؤساء الفضلاء
الأدباء.
(11/11)
وتوفّى الشيخ المعمّر المعتقد أبو العباس
أحمد بن موسى الزرعىّ الحنبلىّ أحد الآمرين بالمعروف والناهين عن
المنكر في المحرّم بمدينة حبراص «1» من الشأم وكان قويا فى ذات
الله جريئا على الملوك والسلاطين. أبطل عدّة مكوس ومظالم كثيرة
وقدم إلى القاهرة أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون وله معه أمور
يطول شرحها وكان يخاطب الملوك كما يخاطب بعض الحرافيش وله على ذلك
قوّة وشدّة بأس. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين برناق بن عبد الله نائب قلعة دمشق بها في
شعبان وكان مشكور السّيرة في ولايته.
وتوفّى قاضى الكرك «2» محيى الدين أبو زكريّا يحيى بن عمر بن
الزكىّ الشافعى- رحمه الله- فى أوائل ذى القعدة وهو معزول.
وتوفّى قتيلا صاحب فاس «3» من بلاد المغرب السلطان أبو سالم
إبراهيم ابن السلطان أبى الحسن على بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق
المرينىّ في ليلة الأربعاء ثامن عشر ذى القعدة- رحمه الله تعالى-
وكان من أجلّ ملوك الغرب «4» .
وتوفّى الخواجا عزّ الدين حسين بن داود بن عبد السيّد بن علوان
السّلامى التاجر فى شهر رجب بدمشق وقد حدّث وكان مثريا وخلّف مالا
كبيرا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وعشر أصابع. والله أعلم.
(11/12)
[ما وقع من
الحوادث سنة 763]
السنة الثانية من سلطنة الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر حاجّى
على مصر وهي سنة ثلاث وستين وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ الإمام العالم الخطيب شمس الدين أبو أمامة محمد
بن على بن عبد الواحد بن يحيى بن عبد الرحيم الدّكّالى المصرى
الشافعى الشهير بابن النقاش- رحمه الله تعالى- فى يوم الثلاثاء
ثالث عشر شهر ربيع الأوّل ودفن آخر النهار بالقرب من باب البرقية
«1» خارج القاهرة عن ثلاث وأربعين سنة.
وكان إماما بارعا فصيحا مفوّها وله نظم ونثر ومواعيد. وخطب بجامع
أصلم «2» ودرّس به وبالآنوكيّة «3» وعمل عدّة مواعيد بالقاهرة
والقدس والشأم واتّصل بالملك الناصر حسن وحظى عنده وهو الذي كان
سببا لخراب بيت «4» الهرماس الذي
(11/13)
كان عمّره في زيادة جامع الحاكم «1» وساعده
في ذلك العلّامة قاضى القضاة سراج «2» الدين الهندىّ الحنفى وكان
له نظم ونثر وخطب ومن شعره قصيدته التي أوّلها:
[الكامل]
طرقت وقد نامت عيون الحسّد ... وتوارت الرقباء غير الفرقد
وتوفّى قاضى القضاة تاج الدين أبو عبد الله محمد ابن القاضى علم
الدين محمد بن أبى بكر بن عيسى بن بدران «3» السّعدى الإخنائى «4»
المالكىّ- رحمه الله- بالقاهرة، وكان فقيها فاضلا رئيسا ولى نظر
الخزانة السلطانية ثم باشر الأحكام الشرعية إلى أن مات.
وتوفّى الخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح ثم أبو بكر
ابن الخليفة المستكفى بالله أبى الربيع سليمان ابن الخليفة الحاكم
بأمر الله أبى العباس أحمد بن الحسن بن
(11/14)
أبى بكر بن على بن حسن ابن الخليفة الراشد
بالله منصور ابن الخليفة المسترشد بالله الفضل ابن الخليفة
المستظهر بالله أحمد ابن الخليفة المقتدى بالله عبيد الله ابن
الأمير ذخيرة الدين محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله
ابن الخليفة القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة
المقتدر بالله جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد ابن الأمير
الموفّق طلحة ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة
المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة
المهدى محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن على
بن عبد الله بن عباس العباسى الهاشمى المصرى- رحمه الله- بالقاهرة
فى ليلة الأربعاء «1» ثامن عشر شهر جمادى الأولى وعهد بالخلافة
لولده من بعده المتوكّل محمد.
وتوفّى الأمير سيف الدين طاز بن عبد الله الناصرىّ المقدّم ذكره في
عدّة أماكن من تراجم أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون وهو بطّال
«2» بالقدس وكان من خواصّ الملك الناصر محمد ثم ترقّى بعد موته إلى
أن صار مدبّر الديار المصرية.
ثم ولى نيابة حلب بعد أمور وقعت له ثم قبض عليه وحبس وسمل إلى أن
أطلقه يلبغا في أوائل سلطنة الملك المنصور محمد هذا وأرسله إلى
القدس بطّالا فمات به وكان من الشجعان.
وتوفّى القاضى أمين الدين محمد بن جمال الدين أحمد بن محمد بن محمد
بن نصر الله المعروف بابن القلانسىّ التميمى الدّمشقى بها. كان أحد
أعيان دمشق معدودا من الرؤساء، باشربها عدّة وظائف ثم ولى كتابة
سرّ دمشق أخيرا، وكان فاضلا كاتبا.
(11/15)
وتوفّى القاضى «1» ناصر الدين محمد ابن
الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الكريم الحلبى الشافعى كاتب سرّ حلب
ثم دمشق. ولد سنة سبع وسبعمائة بحلب ونشأ بها، وبرع في عدّة علوم
وأذن له بالإفتاء والتدريس وولى كتابة السّرّ والإنشاء بحلب عوضا
عن القاضى شهاب الدين ابن القطب وأضيف إليه قضاء العسكر بها. ثم
نقل الى كتابة سرّ دمشق بعد وفاة تاج «2» الدين بن الزين خضر، وكان
ساكنا محتملا مداريا كثير الإحسان إلى الفقراء. وكان يكتب خطّا
حسنا، وله نظم ونثر جيّد إلى الغاية وكان مستحضرا للفقه وأصوله
وقواعد أصول الدين والمعانى والبيان والهيئة والطب ومن شعره رحمه
الله: [الرمل]
وكأنّ القطر في ساجى الدّجى ... لؤلؤ رصّع ثوبا أسودا
فإذا جادت «3» على الأرض غدا ... فضّة تشرق مع بعد المدى
وتوفّى الأمير سيف الدين أينبك بن عبد الله أخو الأمير بكتمر
الساقى وكان من جملة أمراء الطبلخانات.
وتوفّى الأمير الطواشى صفىّ الدين جوهر الزّمرّدى بقوص في شعبان
وكان من أعيان الخدّام وله رياسة ضخمة.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم شمس الدين محمد بن مفلح بن محمد بن
مفرّج الدمشقى الحنبلى بدمشق في شهر رجب. وكان فقيها بارعا مصنّفا
صنّف «كتاب الفروع «4» » وهو مفيد جدّا وغيره.
(11/16)
وتوفّى الشيخ المعتقد فتح الدين يحيى بن
عبد الله بن مروان [بن عبد «1» الله بن قمر] الفارقىّ الأصل
الدمشقى الشافعى في شهر ربيع الأوّل بدمشق ومولده بالقاهرة فى سنة
اثنتين وسبعين وستمائة- رحمه الله تعالى- وكان صالحا عالما صوفيّا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ست أذرع سواء. مبلغ الزيادة
سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
[ما وقع من الحوادث سنة 764]
السنة الثالثة من سلطنة الملك المنصور محمد على مصر وهي سنة أربع
وستين وسبعمائة وهي التي خلع فيها الملك المنصور المذكور بابن عمه
الأشرف شعبان بن حسين في شعبان منها.
فيها كان الطاعون بالديار المصرية والبلاد الشامية ومات فيه خلق
كثير، لكنه كان على كلّ حال أخفّ من الطاعون الأوّل «2» الذي كان
في سنة تسع وأربعين وسبعمائة المقدّم ذكره.
وفيها توفّى الشيخ عماد الدين أبو عبد الله محمد بن الحسن «3» بن
على بن عمر القرشى الإسنائى الشافعى في ثامن عشرين جمادى الآخرة
ودفن خارج باب النصر من القاهرة. كان إماما عالما مفتيا مدرّسا.
وتوفّى الشيخ سراج الدين أبو حفص عمر بن شرف الدين عيسى «4» بن عمر
البارينىّ الشافعى الحلبى بحلب عن ثلاث وستين سنة وكان من الفقهاء
الأفاضل- رحمه الله.
(11/17)
وتوفّى القاضى كمال الدين أبو العباس أحمد
ابن القاضى تاج الدين محمد بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر «1» بن
هبة الله بن عبد القاهر «2» بن عبد الواحد بن هبة الله ابن طاهر بن
يوسف الحلبى الشهير بابن النصيبى بحلب عن تسع وستين سنة.
كان كاتبا بارعا سمع الحديث وحدث وعلّق بخطه كثيرا، وباشر كتابة
الإنشاء بحلب ثم ترك ذلك كلّه ولزم العزلة إلى أن مات.
وتوفّى الصاحب تقىّ الدين سليمان بن علاء الدين علىّ بن عبد الرحيم
«3» بن أبى سالم بن مراجل «4» الدّمشقى بدمشق وهو من أبناء
الثمانين، وكان كاتبا رئيسا، ولى نظر الدولة بمصر، ثم ولى وزارة
دمشق ونظر قلعتها وغير ذلك من الوظائف، ونقل في عدّة خدم؛ ومن
إنشاده لوالده: [الطويل]
أأحبابنا شوقى إليكم مضاعف ... وذكركم عندى مع البعد وافر
وقلبى لمّا غبتم طار نحوكم ... وأعجب شىء واقع وهو طائر
وتوفّى القاضى شمس الدين عبد الله بن شرف الدين يوسف بن عبد الله
بن يوسف بن أبى السفّاح «5» الحلبى بالقاهرة عن نيّف وخمسين سنة-
رحمه الله- كان جليلا باشر كتابة الإنشاء بحلب وعدّة من الوظائف
الديوانية وتنقّل في الخدم وقال في مرض موته: [الخفيف]
إن قضى الله موتتى ... وفراقى أحبّتى
فعليهم تأسّفى ... وإليهم تلفّتى
أو يكن حان مصرعى ... وتدانت منيّتى
رحم الله مسلّما ... زار قبرى وحفرتى
(11/18)
وتوفّى الشيخ «1» الإمام البارع الأديب
المفتن صلاح الدين أبو الصفاء خليل ابن الأمير عز الدين أيبك بن
عبد الله الألبكى الصّفدى الشاعر المشهور بدمشق فى ليلة الأحد عاشر
شوّال. ومولده سنة ستّ وتسعين وستمائة وكان إماما بارعا كاتبا
ناظما ناثرا شاعرا. وديوان شعره مشهور بأيدى الناس وهو من
المكثرين.
وله مصنّفات كثيرة في التاريخ والأدب والبديع وغير ذلك وتاريخه
المسمّى:
«الوافى «2» بالوفيات» فى غاية الحسن وقفت عليه وانتقيته ونقلت منه
أشياء كثيرة فى هذا المؤلّف وفي غيره، وله تاريخ آخر أصغر من هذا
سمّاه «أعوان النصر «3» فى أعيان العصر» فى عدّة مجلدات.
وقد استوعبنا من أحواله وشعره ومكاتباته نبذة كبيرة في ترجمته في
تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» وتسميتى للتاريخ
المذكور «والمستوفى بعد الوافى» إشارة لتاريخ الشيخ صلاح الدين
هذا، لأنه سمّى تاريخه: «الوافى بالوفيات» إشارة على تاريخ ابن
خلّكان أنه يوفّى بما أخلّ به ابن خلّكان، فلم يحصل له ذلك وسكت هو
أيضا: عن خلائق فخشيت أنا أيضا أن أقول:
«والمستوفى على الوافى» فيقع لى كما وقع له؛ فقلت: «والمستوفى بعد
الوافى» انتهى.
(11/19)
قلت: وقد خرجنا عن المقصود ولنعود لترجمة
الشيخ صلاح الدين ونذكر من مقطّعاته ما تعرف به طبقته بين الشعراء
على سبيل الاختصار، فمن شعره بسندنا إليه: أنشدنا مسند عصره ابن
«1» الفرات الحنفىّ إجازة، أنشدنا الشيخ صلاح الدين خليل الصّفدىّ
إجازة. [السريع]
المقلة «2» السوداء أجفانها ... ترشق في وسط فؤادى نبال
وتقطع الطّرق على سلوتى ... حتى حسبنا في السّويدا رجال
قال- وله أيضا- رحمه الله تعالى: [الوافر]
محيّاه «3» له حسن بديع ... غدا روض الخدود به مزهّر
وعارضه رأى تلك الحواشى ... مذهّبة فزمّكها وشعّر
وله- عفا الله عنه-: [البسيط]
بسهم ألحاظه رمانى ... فذبت من هجره وبينه
إن متّ مالى سواه خصم ... فإنه قاتلى بعينه
وقال: [المتقارب]
كئوس المدام تحبّ الصّفا ... فكن لتصاويرها مبطلا
ودعها سواذج من نقشها ... فأحسن ما ذهّبت بالطّلا
وله: [الطويل]
أقول له ما كان خدّك هكذا ... ولا الصّدغ حتى سال في الشّفق الدّجى
فمن أين هذا الحسن والظّرف قال لى ... تفتّح وردى والعذار تخرّجا
(11/20)
وله: [الكامل]
أنفقت كنز مدائحى في ثغره ... وجمعت فيه كلّ معنى شارد
وطلبت منه جزاء ذلك قبلة ... فأبى وراح تغزّلى في البارد
وله: [المنسرح]
أفديه ساجى الجفون حين رنا ... أصاب منّى الحشا بسهمين
أعدمنى الرشد في هواه ولا ... أفلح شئ يصاب بالعين
وله: [البسيط]
سألتم عن منام عينى ... وقد براه جفا وبين
والنوم قد غاب حين غبتم ... ولم تقع لى عليه عين
وتوفّى الأمير بدر الدين حسين المنعوت بالملك الأمجد ابن السلطان
الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون بالقلعة في
ليلة السبت رابع شهر ربيع الآخر وهو آخر من بقى من أولاد الملك
الناصر محمد بن قلاوون من الذكور، وهو والد السلطان الملك الأشرف
شعبان بن حسين. وموته قبل سلطنة ولده الأشرف بنحو خمسة شهور وأيام
ولو عاش لما كان يعدل عنه يلبغا إلى غيره. وكان حسين هذا حريصا على
السلطنة فلم ينلها دون إخوته على أنه كان أمثل إخوته.
وتوفّى الأمير سيف الدين بزدار الخليلىّ أمير شكار أحد مقدّمى
الألوف بالديار المصرية بها، وكان من أعيان الأمراء؛ عرف بالشجاعة
والإقدام.
وتوفّى شيخ القراءات مجد الدين أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن يوسف
بن محمد الكفتى في نصف شعبان- رحمه الله- وكان إماما في القراءات،
تصدّى للإقراء سنين وانتفع الناس به.
(11/21)
وتوفّى السيد الشريف غياث الدين أبو إسحاق
إبراهيم ابن الشريف صدر الدين حمزة العراقىّ والد الشريف مرتضى-
تغمده الله تعالى- وكان رئيسا فاضلا نبيلا.
وتوفّى الأمير سيف الدين جركس بن عبد الله النّوروزىّ أحد أمراء
الطبلخانات بالقاهرة وكان من أعيان المماليك الناصرية.
وتوفّى الشيخ المعتقد مسلم السلمى «1» المقيم بجامع الفيلة «2» -
رحمه الله- كان صالحا مجاهدا عابدا قائما في ذات الله تعالى وكان
يجاهد بطرابلس الغرب ويقيم حاله وفقراءه من الغنائم. وله كرامات
ومناقب، فمن ذلك كان عنده سبع ربّاه حتى صار بين فقرائه كالهرّ «3»
يدور البيوت: فلما مات الشيخ- رحمه الله- أخذه السّبّاعون فتوحّش
عندهم إلى الغاية، حتى أبادهم وعجزوا عنه.
(11/22)
وتوفّى الأمير «1» سيف الدين قطلوبغا بن
عبد الله الأحمدى الناصرىّ نائب حلب بها، وكان من خواصّ الملك
الناصر محمد بن قلاوون وترقّى من بعده حتى صار أمير مائة ومقدّم
ألف بديار مصر. ثم ولى حجوبية الحجّاب بها ثم أمير مجلس ثم ولى
نيابة حلب في أوائل سلطنة الملك المنصور محمد بن المظفّر حاجىّ
صاحب الترجمة، فلم تطل مدّته بحلب ومات بها، وكان من الأماثل. رحمه
الله تعالى.
وتوفّى الطواشى صفىّ الدين جوهر بن عبد الله اللّالا. وكان من
أعيان الخدّام، وله عزّ ووجاهة.
وتوفّى خطيب دمشق جمال الدين أبو الثناء محمود بن محمد بن إبراهيم
بن جملة فى يوم الاثنين العشرين من شهر رمضان، وكان فصيحا، مفوّها
ولى خطابة دمشق سنين.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم لم يحرّر. مبلغ الزيادة سبع
عشرة ذراعا وأربع أصابع. والله أعلم بالصواب.
(11/23)
ذكر سلطنة الملك
الأشرف شعبان بن حسين على مصر.
السلطان الملك الأشرف أبو المفاخر «1» زين الدين شعبان ابن الملك
الأمجد حسين ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك
المنصور قلاوون. تسلطن باتفاق الأمير يلبغا العمرى وطيبغا الطويل
مع الأمراء على سلطنته بعد خلع ابن عمه الملك المنصور محمد ابن
الملك المظفّر حاجّى وهو السلطان الثانى والعشرون من ملوك الترك
بالديار المصرية.
ولمّا اتفق الأمراء على سلطنته أحضر الخليفة المتوكّل على الله أبو
عبد الله محمد والقضاة الأربعة وأفيض عليه الخلعة الخليفتيّة
السوداء بالسلطنة وجلس على تخت الملك وعمره عشر سنين في يوم
الثلاثاء خامس عشر شعبان سنة أربع وستين وسبعمائة من غير هرج في
المملكة ولا اضطراب في الرعية، بل في أقلّ من قليل وقع خلع المنصور
وسلطنة الأشرف هذا وانتهى أمرهما ونزل الخليفة إلى داره وعليه
التشريف ولم يعرف الناس ما وقع إلا بدقّ البشائر والمناداة باسمه
وزيّنت القاهرة وتمّ أمره على أحسن الأحوال.
ومولد الأشرف هذا في سنة أربع وخمسين وسبعمائة بقلعة الجبل.
واستقرّ الأتابك يلبغا العمرى الخاصّكى مدبّر الممالك ومعه خجداشه
الأمير طيبغا الطويل أمير سلاح على عادتهما وعند ما ثبّت قواعد
الملك الأشرف أرسل يلبغا بطلب الأمير على الماردينى نائب الشام إلى
مصر فلمّا حضر أخلع عليه بنيابة السلطنة بديار مصر وتولّى عوضه «2»
نيابة دمشق الأمير منكلى بغا الشمسى نائب حلب وتولى نيابة حلب
(11/24)
عوضا عن الشمسىّ الأمير اشقتمر الماردينى
وتولّى نيابة طرابلس عوضّا عن اشقتمر الأمير أزدمر الخازن نائب صفد
وتولّى نيابة صفد عوضا عن أزدمر الخازن الأمير قشتمر المنصورى الذي
كان نائبا بالديار المصرية لأمر وقع منه في حقّ يلبغا العمرى
الأتابكى واستقرّ الأمير أرغون الأحمدى الخازندار لا لا الملك
الأشرف شعبان واستقرّ الأمير يعقوب شاه السّيفى [تابع «1» ] يلبغا
اليحياوى خازندارا عوضا عن أرغون الأحمدى ثم استقرّ الأمير أرنبغا
الخاصّكى في نيابة غزّة عوضا عن تمان تمر العمرى بحكم وفاته. ثم
ولى الأمير عمر شاه حاجب الحجاب نيابة حماة عوضا عن أيدمر الشيخى
واستقر الشريف بكتمر في ولاية القاهرة عوضا عن علاء الدين علىّ بن
الكورانىّ بحكم استعفائه عنها. ثم استقرّ الأمير أحمد بن القشتمرى
في نيابة الكرك. ثم ورد الخبر بوقوع الوباء بمدينة حلب وأعمالها
وأنه مات بها خلق كثير، والأكثر في الأطفال والشبان.
ثم نزل السلطان الملك الأشرف شعبان إلى سرياقوس «2» بعساكره على
عادة الملوك.
ثم سمّر الأتابك يلبغا خادمين من خدّام السلطان الملك المنصور
لكلام بلغه عنهما فشفع فيهما فخلّيا ونفيا إلى قوص «3» .
ثم في سنة خمس وسبعين «4» أنعم على الأمير طيدمر البالسىّ بإمرة
مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية.
(11/25)
ثم أخلع على الأمير أسن قجا بنيابة ملظية
«1» فى ثالث صفر واستقرّ الأمير عمر بن أرغون النائب في نيابة صفد
عوضا عن قشتمر المنصورى وحضر قشتمر المذكور الى مصر على إقطاع عمر
بن أرغون المذكور واستقر الأمير طينال الماردينىّ «2» نائب فلعة
الجبل عوضا عن ألطنبغا الشمسى بحكم استعفائه. ثم أنعم على جماعة
بإمرة طبلخاناه وهم تمربغا العمرىّ ومحمد بن قمارى أمير شكار
وألطنبغا الأحمدىّ وآقبغا الصّفوىّ وأنعم أيضا على جماعة بإمرة
عشرات وهم: إبراهيم «3» بن صرغتمش وأرزمك من مصطفى ومحمد بن قشتمر
وآقبغا الجوهرى وطشتمر العلائىّ خازندار طيبغا الطويل وطاجار من
عوض وآروس بغا الخليلىّ ورجب بن كلبك التركمانىّ.
ثم وقع الفناء في هذه السنة في البقر حتى هلك منها شئ كثير وأضرّ
ذلك بحال الزرّاع.
ثم في هذه السنة فتح الأمير منكلى بغا الشمسىّ نائب الشام باب
كيسان «4» ، أحد أبواب دمشق بحضور أمراء الدوله وأعيان أهل دمشق،
وذلك بعد بروز المرسوم الشريف إليه بذلك وعقد عليه قنطرة كبيرة
ومدّ له الى الطريق جسرا وعمّر هناك جامعا وكان هذا مغلقا من مدّة
تزيد على مائتى سنة، كان سدّه الملك العادل نور الدين محمود الشهيد
لأمر اقتضى ذلك، فيه مصلحة للإسلام.
(11/26)
ثم رسم في هذه السنة بإبطال الوكلاء
المتصرفين في أبواب القضاة. وفي هذا المعنى يقول الشيخ بدر الدين
حسن بن حبيب، رحمه الله تعالى: [السريع]
يقول ذو الحقّ الذي عاله ... خصم ألدّ ولسان كليل
إن صيّروا أمر وكيلى سدّى ... فحسبى الله ونعم الوكيل
ثم استقرّ الأمير يعقوب شاه أمير آخور عوضا عن الأمير جرجى
الإدريسىّ بحكم انتقال جرجى إلى نيابة حلب عوضا عن إشقتمر «1»
الماردينى.
ثم في سنة ست وستين وسبعمائة استقرّ الأمير قطلقتمر العلائىّ أمير
جاندار فى نيابة صفد عوضا عن الأمير عمر بن أرغون النائب وحضر عمر
بن أرغون إلى مصر على إقطاع قطلقتمر المذكور في سابع شهر رجب. ثم
استقرّ الأمير عبد الله ابن بكتمر الحاجب أمير شكار عوضا عن الأمير
ناصر الدين محمد بن ألجيبغا، واستقرّ أسندمر العلائى الحرفوش حاجبا
عوضا عن عبد الله بن بكتمر المذكور.
ثم أنعم السلطان على الأمير أسندمر المظفّرى بإمرة مائة وتقدمة ألف
بالديار المصرية في سلخ شهر رمضان. ثم أنعم على الأمير شعبان ابن
الأتابك يلبغا العمرى بإمرة مائة وتقدمة ألف.
ثم استقرّ الأمير قشتمر المنصورىّ في نيابة طرابلس، واستقرّ الأمير
أزدمر الخازن في نيابة صفد عوضا عن الأمير قطلقتمر العلائىّ.
ثم استقرّ الأمير ألطنبغا البشتكى في نيابة غزة عوضا «2» عن أرنبغا
الكاملى بحكم وفاته.
(11/27)
ثم أخلع على الأمير منجك اليوسفى باستقراره
في نيابة طرسوس بعد تلك الرتّب العالية من تحكمه لمّا ولى الوزر
«1» [بالديار «2» المصرية] ونيابة طرابلس والشام وقد تقدّم ذكر ذلك
كلّه في عدة أماكن، وإنما أردنا التعريف به هنا لما تقدّم له ولما
هو آت. وكانت ولاية منجك اليوسفى لنيابة طرسوس عوضا عن قمارى أمير
شكار بحكم وفاته في سلخ ذى القعدة.
ثم أنعم السلطان على جماعة بإمرة طبلخاناه وهم: قطلوبغا البلبانىّ
وكمشبغا «3» الحموى أحد مماليك الأتابك يلبغا العمرىّ وآقبغا «4»
الجوهرى أحد اليلبغاويّة أيضا وعلى جماعة بإمرة عشرات وهم: سلجوق
الرومى وأروس السّيفى بشتاك وسنقر السيفى أرقطاى ثم أنعم «5»
السلطان على الأمير ألجاى اليوسفى في حادى عشرين شهر رجب بإمرة
جاندار.
وفي هذه السنة وهي سنة ست وستين وسبعمائة عزل قاضى «6» القضاة عزّ
الدّين «7» عبد العزيز بن محمد بن جماعة نفسه من قضاء الديار
المصرية في سادس عشر جمادى الأولى ونزل إليه الأتابك يلبغا بنفسه
الى بيته وسأله بعوده إلى المنصب فلم يقبل ذلك وأشار على يلبغا
بتولية نائبه بهاء الدين «8» أبى البقاء السّبكىّ فولى بهاء الدين
قضاة الشافعية عوضه. ثم استقرّ قاضى القضاة جمال الدين محمود بن
أحمد بن مسعود القونوىّ الحنفى قاضى قضاة دمشق بعد موت قاضى القضاة
جمال الدين يوسف ابن أحمد الكفرىّ (بفتح الكاف) .
(11/28)
وفي هذه السنة أسلم الصاحب شمس الدين
المقسى وكان نصرانيا يباشر في دواوين الأمراء، فلما أسلم استقرّ
مستوفى المماليك السلطانية.
وفي سنة سبع وستين وسبعمائة أخذت الفرنج مدينة إسكندرية في يوم
الجمعة ثالث «1» عشرين المحرّم، وخبر ذلك أنه لمّا كان يوم الجمعة
المذكور طرق الفرنج مدينة الاسكندرية على حين غفلة في سبعين قطعة
ومعهم صاحب قبرس وعدّة الفرنج تزيد على ثلاثين ألفا وخرجوا من
البحر المالح إلى برّ الإسكندرية فخرج أهلها إليهم فتقاتلوا فقتل
من المسلمين نحو أربعة آلاف نفس واقتحمت الفرنج الإسكندرية وأخذوها
بالسيف واستمروا بها أربعة أيام وهم يقتلون وينهبون ويأسرون وجاء
الخبر بذلك إلى الأتابك يلبغا وكان السلطان بسرياقوس «2» ، فقام من
وقته ورجع إلى القلعة ورسم للعساكر بالسفر إلى الإسكندرية، وصلّى
السلطان الظّهر وركب من يومه ومعه الأتابك يلبغا والعساكر
الإسلامية في الحال وعدّوا النيل وجدّوا فى السّير من غير ترتيب
ولا تعبية حتى وصلوا إلى الطّرّانة «3» والعساكر يتبع بعضها بعضا،
فلمّا وصل السلطان إلى الطرّانة أرسل جاليشا «4» من الأمراء أمامه
في خفية وهم قطلوبغا المنصورى وكوندك وخليل بن قوصون وجماعة من
الطبلخانات والعشرات وغيرهم وجدّوا في السير، وبينماهم في ذلك جاء
الخبر بأن العدوّ المخذول لمّا سمعوا بقدوم
(11/29)
السلطان تركوا الإسكندرية وهربوا، ففرح
الناس بذلك، ورسم السلطان بعمارة ما تهدّم من الإسكندرية «1»
وإصلاح أسوارها وأخلع السلطان على الشريف بكتمر بنيابة الإسكندرية
وأعطاه إمرة مائة وتقدمة ألف وبكتمر هذا هو أوّل نائب ولى نيابة
الإسكندرية من النوّاب، وما كانت أوّلا إلا ولاية، فمن يومئذ عظم
قدر نوّابها وصار نائبها يسمى ملك الأمراء ثمّ أمر يلبغا فنودى
بمصر والقاهرة بأن البحّارة والنّفاطة كلّهم يحضرون إلى بيت
الأتابك يلبغا للعرض والنّفقة ليسافروا فى المراكب التي تنشأ، وبدأ
يلبغا في عمارة المراكب وبعث مراسيم إلى سائر البلاد الشامية
والحلبية بإخراج جميع النجّار بن وكلّ من يعرف يمسك منشارا بيده،
ولا يترك واحد منهم، وكلّهم يخرجون إلى جبل شغلان وهو جبل عظيم فيه
أشجار كثيرة من الصّنوبر والقرو ونحو ذلك، وهذا الجبل بالقرب من
مدينة أنطاكية «2» ، وأنهم يقطعون الألواح وينشرون الأخشاب للمراكب
ويحملونها إلى الديار المصرية، فامتثل نائب حلب ذلك وفعل ما أمر به
ووقع الشروع في عمل المراكب.
هذا، وقد ثقل على يلبغا وطاة خشداشه طيبغا الطويل فأراد أن يستبدّ
بالأمر وحده وأخذ يلبغا يدبّر عليه في الباطن. ولقد حكى لى بعض من
رآهما قال:
كانا ينزلان من الخدمة السلطانية معا، فتقول العامّة: يا طويل حسّك
من هذا القصير! فكان طيبغا يلتفت إلى يلبغا ويقول له وهو يضحك: ما
يقولون هؤلاء! فيقول يلبغا: هذا شأن العامة يثيرون الفتن. انتهى.
(11/30)
واستمرّ يلبغا على ذلك إلى أن خرج طيبغا
الطويل إلى الصيد بالعبّاسة «1» أرسل إليه يلبغا جماعة من مقدّمى
الألوف وهم: أرغون الإسعردى الدّوادار والأمير آروس المحمودى
الأستادار وأرغون الأزقى وطيبغا العلائى حاجب الحجّاب ومعهم «2»
تشريف له بنيابة دمشق فساروا حتى قدموا على طيبغا الطويل وأخبروه
بما وقع فلما سمع طيبغا ذلك غضب وأبى قبول الخلعة. وخامر واتّفق
معه أرغون الإسعردى الدوادار وآروس المحمودىّ وهرب طيبغا العلائى
وأرغون الأزقى ولحقا بالأتابك يلبغا وأعلماه بالخبر فركب يلبغا في
الحال ومعه السلطان الملك الأشرف شعبان بالعساكر في صبيحة اليوم
المذكور وقد ساق طيبغا الطويل من العبّاسة حتى نزل بقبّة «3» النصر
خارج القاهرة ليأتيه من له عنده غرض، فوافاه يلبغا في حال وصوله
بالعساكر وقاتله فاقتتلا ساعة وانكسر طيبغا الطويل بمن معه وأمسك
هو وأصحابه من الأمراء وهم أرغون الإسعردى وآروس المحمودى وكوندك
«4» أخو طيبغا الطويل وجركتمر السّيفى منجك وأرغون من عبد «5» الله
وجمق الشّيخونى وكليم أخو طيبغا الطويل وتلك أخو بيبغا الصالحى
وآقبغا العمرى البالسى وجرجى ابن كوندك «6» وأرزمك من مصطفى وطشتمر
العلائى، وأرسلوا الجمع إلى سجن الإسكندرية، وأخذ يلبغا إقطاع ولدى
طيبغا الطويل وهما: على وحمزة وكانا أميرى طبلخاناه.
(11/31)
ثم في يوم الاثنين خامس عشرين شعبان من سنة
سبع وستين وسبعمائة، باست الأمراء الأرض للسلطان ويلبغا الأتابك
معهم وطلبوا من السلطان الإفراج عن الأمراء المسجونين بثغر
الإسكندرية المقدّم ذكرهم، فقبل السلطان شفاعتهم، ورسم بالإفراج عن
طيبغا الطويل خاصة فأفرج عنه ورسم بسفره إلى القدس بطّالا، فسافر
إلى القدس وأقام به إلى ما يأتى ذكره.
ثم بعد ذلك في يوم عيد الفطر رسم السلطان بالإفراج عمن بقى في
الإسكندرية من أصحاب طيبغا الطويل، فأفرج عنهم وحضروا فأخرجوا إلى
الشام متفرّقين بطّالين وصفا الوقت ليلبغا العمرىّ وصار هو
المتكلّم في الأمور من غير مشارك والسلطان الملك الأشرف شعبان معه
آلة في السلطنة، وأنعم يلبغا بإقطاعات أصحاب طيبغا الطويل على
جماعة من أصحابه، فأنعم على الأمير أرغون بن بلبك الأزقىّ بتقدمة
ألف، عوضا عن قطلوبغا المنصورىّ وأنعم على طيبغا العلائى السيفىّ
بزلار بتقدمة ألف، عوضا عن ملكتمر الماردينىّ بحكم وفاته، وأنعم
على أينبك البدرىّ أمير آخور يلبغا العمرىّ بإمرة طبلخاناه واستقرّ
أستادار أستاذه يلبغا.
ثم استقرّ الأمير إشقتمر الماردينىّ المعزول عن نيابة حلب قبل
تاريخه فى نيابة طرابلس، عوضا عن قشتمر المنصورىّ، وطلب قشتمر
المذكور إلى مصر.
ثم استقرّ الأمير طيدمر البالسى أمير سلاح عوضا عن طيبغا الطويل في
سابع جمادى الأولى. ثم استقرّ طيبغا الأبوبكريّ دوادارا كبيرا
بإمرة طبلخاناه عوضا عن الإسعردى، فأقام دوادارا إلى حادى عشرين
شعبان عزل بأمير بيبغا دوادار أمير على الماردينى بإمرة طبلخاناه
أيضا.
(11/32)
ثم استقرّ الأمير أرغون ططر رأس نوبة
النّوب عوضا عن ملكتمر العمرى الماردينى في آخر جمادى الآخرة،
واستقرّ أرغون الأزقى أستادارا عوضا عن آروس المحمودى واستقرّ
يعقوب «1» شاه أمير آخور مقدّم ألف وحاجبا ثانيا عوضا عن قطلوبغا
المنصورى واستقرّ طقتمر الحسنى أمير آخور كبيرا عوضا عن يعقوب شاه
المنتقل إلى الحجوبية الثانية واستقرّ قطلو شاه الشّعبانى أمير
طبلخاناه وشادّ الشراب خاناه عوضا عن أرغون بن عبد الملك واستقرّ
تمرقبا العمرى جوكندارا عوضا عن جركتمر السّيفى منجك وأنعم على
آقبغا الأحمدى المعروف بالجلب بتقدمة ألف وعلى أسندمر الناصرى
بتقدمة ألف أيضا، وكلاهما بالديار المصرية واستقرّ حسين [ابن على
«2» ] بن الكورانى في ولاية القاهرة وهذه أوّل ولايته.
ثم فرّق على جماعة كبيرة بإمرة طبلخانات وهم: طغيتمر العثمانى
وآقبغا الجوهرى وفجماس السيفى طاز وألطنبغا العزى وأرغون «3» كتك
العزى وقراتمر المحمدى، الشهابى هذا قراتمر، رأيته وقد شاخ وكان
بطّالا يسكن بالقرب «4» من الكبش «5» بعد سنة عشرين وثمانمائة.
انتهى. وآروس بغا الكاملى «6» وطاجار من عوض وآقبغا اليوسفى
وألطنبغا الماردينى. وهو غير صاحب «7» الجامع، ذاك متقدّم على هذا
ورسلان الشيخونى «8» واستقرّ حاجبا بإسكندرية على إمرة
(11/33)
طبلخاناه وعلىّ بن قشتمر المنصورى وسودون
القطلقتمرى وقطلوبغا الشعبانى «1» ومحمّد المهندس التّركمانى «2»
وعلى جماعة بعشرات، وهم: تنبك الأزقى وأرغون الأحمدى وطيبغا «3»
السيفى يلبغا وأرغون الأرغونى وسودون الشيخونى، وهو الذي صار نائب
السلطنة في دولة الملك الظاهر برقوق كما سيأتى ذكره.
وأزدمر العزى أبو ذقن ويونس العمرى ودرت بغا البالسى وقرابغا
الصّرغتمشى وطاز «4» الحسينى وقرقماس «5» الصرغتمشى وطيبغا العلائى
وقمارى الجمالى.
ثم في هذه السنة أبطل يلبغا المكوس من مكة والمدينة ورتّب عوض ذلك
من بيت المال مائتى ألف وستين ألفا.
ثم في سنة ثمان وستين طلب السلطان الأمير منكلى بغا الشمسى نائب
الشام إلى الديار المصرية فلما حضره أكرمه وأخلع عليه بنيابة حلب
عوضا عن جرجى الإدريسى لعجزه عن القيام بمصالح حلب مع التّركمان،
فامتنع منكلى بغا من نيابة حلب كونه نائب دمشق، ثم ينتقل منها إلى
نيابة حلب، فأضيف اليه أربعة آلاف نفر «6» من عسكر دمشق لتكون
منزلته أكبر من منزلة نائب دمشق؛ فأذعن عند ذلك ولبس الخلعة وتوجه
إلى حلب وتولّى نيابة دمشق عوضه الأمير آقتمر عبد الغنى حاجب
الحجّاب بالديار المصرية وتولّى عوضه حجوبيّة الحجّاب طيبغا
العلائى. وأما جرجى الإدريسى المعزول عن نيابة حلب فإنه ولى نيابة
طرابلس بعد عزل منجك اليوسفى عنها.
(11/34)
وفي ثامن عشر شهر ربيع الأوّل من سنة ثمان
وستين المذكورة استقرّ أرغون الأزقى الأستادار في نيابة غزّة عوضا
عن ألطنبغا البشتكى. وفي الشهر أيضا استقرّ آقبغا الأحمدى المعروف
بالجلب لالا السلطان الملك الأشرف عوضا عن أرغون الأحمدى بحكم نفيه
إلى الشام لأمر اقتضى ذلك ونفى معه تمربغا العمرى.
ثم في آخر الشهر المذكور أمسك الأتابك يلبغا الأمير الطواشى سابق
الدين مثقالا الآنوكى مقدّم المماليك السلطانية وضربه داخل القصر
بقلعة «1» الجبل ستمائة عصاة ونفاه إلى «2» أسوان، وسببه ظهور كذبه
له وولّى مكانه مختار الدّمنهورى المعروف بشاذروان، وكان مقدّم
الأوجاقية بباب «3» السّلسلة، كلّ ذلك والعمل في المراكب مستمرّ
إلى أن كملت عمارة المراكب من الغربان «4» والطّرائد لحمل الغزاة
والخيول وكانوا نحو مائة غراب وطريدة، عمّرت في أقلّ من سنة مع عدم
الأخشاب والأصناف يوم ذاك.
وبينما الناس في ذلك قتل يلبغا العمرى بيد مماليكه في واقعة كانت
بينهم؛ وخبر ذلك أنه لمّا كان في مستهل شهر ربيع الآخر نزل السلطان
من قلعة الجبل وعدّى إلى برّ الجيزة ليتوجه إلى الصّيد بالبحيرة
بعد أن ألزم الأمراء أن يجعلوا- فى الشّهوانى التي نجز عملها برسم
الغزاة- العدد والسلاح والرجال على هيئة القتال
(11/35)
لينظر السلطان والناس ذلك، فامتثلوا
الأمراء المرسوم الشريف وأشحنوا المراكب بالعدد والسلاح والرجال
الملبسة وضربوا الطّبلخاناه بها وصارت في أبهى زىّ ولعبوا بها في
البحر قدّام السلطان والأتابك يلبغا وخرج الناس للتفرّج من كلّ
فجّ، وكان يوم من الأيام المشهودة الذي لم ير مثله في سالف
الأعصار.
ثم سار السلطان والأتابك ويلبغا بالعساكر من برّ الجيزة يريدون
البحيرة «1» حتى نزلوا في ليلة الأربعاء سادس شهر ربيع الآخر من
سنة ثمان وستين وسبعمائة بالطرّانة «2» وباتوا بها وكانت مماليك
يلبغا قد نفرت قلوبهم منه لكثرة ظلمه وعسفه وتنوعه في العذاب لهم
على أدنى جرم، حتى إنه كان إذا غضب على مملوك ربما قطع لسانه
فاتّفق جماعة من مماليك يلبغا تلك الليلة على قتله من غير أن
يعلموا الملك الأشرف هذا بشىء من ذلك، وركبوا عليه نصف الليل،
ورءوسهم من الأمراء: آقبغا الأحمدى الجلب وأسندمر الناصرى وقجماس
الطازى وتغرى برمش العلائى وآقبغا جاركس أمير سلاح وقرابغا
الصّرغتمشى في جماعة من أعيان اليلبغاويّة ولبسوا آلة الحرب وكبسوا
في الليل على يلبغا بخيمته بغتة وأرادوا قتله، فأحسّ بهم قبل
وصولهم إليه، فركب فرس النّوبة بخواصّه من مماليكه وهرب تحت الليل
وعدّى النيل إلى القاهرة ومنع سائر المراكب أن يعدّوا بأحد واجتمع
عنده من الأمراء طيبغا حاجب الحجاب وأينبك البدرى أمير آخور وجماعة
الأمراء المقيمين بالقاهرة، وأمّا مماليك يلبغا فإنهم لمّا علموا
بأن أستاذهم نجا بنفسه وهرب، اشتدّ تخوّفهم من أنه إذا ظفر بهم بعد
ذلك لا يبقى منهم أحدا، فاجتمعوا الجميع بمن انضاف إليهم من
الأمراء وغيرهم وجاءوا إلى الملك الأشرف
(11/36)
شعبان- تغمّده الله برحمته- وهو بمخيّمه
أيضا بمنزله بالطّرّانة وكلّموه في موافقنهم على قتال يلبغا فامتنع
قليلا ثم أجاب لما في نفسه من الحزازة من حجر يلبغا عليه، وعدم
تصرّفه في المملكة، وركب بمماليكه وخاصّكيته، فأخذوه وعادوا به إلى
جهة القاهرة، وقد اجتمع عليه خلائق من مماليك يلبغا وعساكر مصر
وساروا حتى وصلوا إلى ساحل النيل ببولاق التّكرورى تجاه بولاق
والجزيرة الوسطى «1» ، فأقام الملك الأشرف ببولاق التّكرورى «2»
يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة فلم يجدوا مراكب يعدّون
فيها.
وأما يلبغا فإنه لمّا علم أنّ الملك الأشرف طاوع مماليكه وقرّبهم
أنزل من قلعة الجبل سيّدى آنوك ابن الملك الأمجد حسين أخى الملك
الأشرف شعبان وسلطنه ولقّبه بالملك المنصور وذلك بمخيّمه بجزيرة
أروى المعروفة بالجزيرة «3» الوسطانية، تجاه بولاق التّكرورى حيث
الملك الأشرف نازل بمماليك يلبغا بالبرّ الشرقىّ؛ والأشرف بالبر
الغربى، فسمّته العوامّ سلطان الجزيرة.
ثم في يوم الجمعة حضر عند الأتابك يلبغا الأمير طغيتمر النظامىّ
والأمير أرغون ططر، فإنهما كانا يتصيّدان بالعباسة «4» وانضافا بمن
معهما إلى يلبغا فقوى أمره بهما وعدّى إليه أيضا جماعة من عند
الملك الأشرف وهم الأمير قرابغا البدرى والأمير يعقوب شاه والأمير
بيبغا العلائى الدّوادار والأمير خليل بن قوصون وجماعة من
(11/37)
مماليك يلبغا الذين أمّرهم: مثل آقبغا
الجوهرى وكمشبغا الحموى ويلبغا شقير فى آخرين واسمرّ الأتابك يلبغا
وآنوك بجزيرة الوسطى والملك الأشرف ومماليك يلبغا ببولاق
التّكرورى، إلى أن حضر إلى الأشرف شخص يعرف [بمحمد] ابن «1» بنت
لبطة رئيس [شوانى] السلطان وجهّز للسلطان من الغربان «2» التى
عمزها برسم الغزاة نحو ثلاثين غرابا برجالها وكسّر بروقها، وجعلها
مثل الفلاة لأجل التّعدية، قنزل فيها جماعة من الأمراء ومن مماليك
يلبغا ليعدوا فيها إلى الجزيرة فرمى عليهم يلبغا بمكاحل النّفط
وصار هؤلاء يرمون على يلبغا بالسّهام فيردّونهم على أعقابهم وأخذ
يلبغا ومن معه يرمون أيضا النفط والنّشّاب، والأشرفية لا يلتفتون
الى ذلك، بل يزيدون فى سبّ يلبغا ولعنه وقتاله، وأقاموا على ذلك
الى عصر يوم السبت وقد قوى أمر الملك الأشرف وضعف أمر يلبغا.
ثم اتّفق رأى عساكر الملك الأشرف على تعدية الملك الأشرف من
الورّاق «3» ، فعدّى وقت العصر من الورّاق الى جزيرة «4» الفيل
وتتابعته عساكره، فلما صاروا
(11/38)
الجميع في برّ القاهرة وبلغ ذلك يلبغا هرب
الأمراء الذين كانوا مع يلبغا بأجمعهم وجاءوا إلى الملك الأشرف
وقبّلوا الأرض بين يديه، فلمّا رأى يلبغا ذلك رجع إلى جهة القاهرة،
ووقف بسوق الخيل من تحت قلعة الجبل، ولم يبق معه غير طيبغا حاجب
الحجاب الذي كان أوّلا أستاداره فوقف يلبغا ساعة ورأى أمره في
إدبار، فنزل عن فرسه بسوق «1» الخيل تجاه باب الميدان وصلّى العصر
وحلّ سيفه وأعطاه للأمير طيبغا الحاجب، ثم نزل وقصد بيته بالكبش
«2» فرجمته العوامّ من رأس سويقة «3» منعم الى أن وصل حيث اتّجه
وسار الملك الأشرف شعبان بعساكره، حتى طلع إلى قلعة الجبل في آخر
نهار السبت المذكور، وأرسل جماعة من الأمراء إلى يلبغا فأخذوه من
بيته ومعه طيبغا الحاجب وطلعوا به إلى القلعة، بعد المغرب فسجن بها
إلى بعد عشاء الآخرة من اليوم المذكور فلمّا أذّن للعشاء جاء جماعة
من مماليك يلبغا مع بعض الأمراء وأخذوا يلبغا من سجنه وأنزلوه من
القلعة فلما صار بحدرة القلعة أحضروا له فرسا ليركبه، فلما أراد
الركوب ضربه مملوك من مماليكه يسمّى
(11/39)
قراتمر فأرمى رأسه ثم نزلوا عليه بالسيوف
حتى هبّروه تهبيرا وأخذوا رأسه وجعلوها فى مشعل [النار «1» ] إلى
أن انقطع الدم فلمّا رآه بعضهم أنكره وقال: أخفيتموه وهذه رأس غيره
فرفعوه من المشعل ومسحوه ليعرفوه أنه رأس يلبغا بسلعة كانت خلف
أذنه فعند ذلك تحقّق كلّ أحد بقتله، وأخذوا جثته فغيبوها بين
العروستين «2» ، فجاء الأمير ظشتمر الدوادار فأخذ الرأس منهم في
الليل واستقصى على الجثّة حتى أخذها وحطّ الرأس على الجثّة وغسّلها
وكفّنها وصلّى عليه في الليل ودفنه بتربته «3» التى أنشأها
بالصحراء بالقرب من تربة «4» خوند طغاى أمّ آنوك زوجة الناصر محمد
ابن قلاوون. وفيه يقول بعض الشعراء [مخلع البسيط] :
بدا شقا يلبغا وعدّت ... عداه في سفنه إليه
والكبش لم يفده وأضحت ... تنوح غربانه عليه
قلت: لا جرم أنّ الله سبحابه وتعالى عامل يلبغا هذا من جنس فعله
بأستاذه الملك الناصر حسن فسلّط عليه مماليكه فقتلوه كما قتل هو
أستاذه الناصر حسنا، فالقصاص قريب والجزاء من جنس العمل.
ولما أصبح نهار الأحد عاشر شهر ربيع الآخر وهو صبيحة ليلة قتل فيها
يلبغا العمرىّ الخاصّكى المقدّم ذكره طلع جميع الأمراء إلى القلعة
واستقرّ الأمير طغيتمر النّظامىّ هو المتحدّث في حلّ المملكة
وعقدها ومعه آقبغا جلب الأحمدىّ وأسندمر
(11/40)
الناصرىّ وقجماس الطازىّ وقبضوا من الأمراء
على تمربغا «1» البدرىّ ويعقوب شاه وبيبغا العلائىّ الدوادار
وقيّدوا وأرسلوا عشيّة النهار إلى الإسكندرية ورسم للامير خليل بن
قوصون أن يلزم بيته بطالا.
وفي يوم الاثنين حادى عشرة استقرّ قشتمر المنصورىّ حاجب الحجاب
عوضا عن طيبغا العلائىّ واستقرّ أيدمر الشامىّ دودارا بإمرة مائة
وتقدمة ألف وناظر الأحباس ولم يعلم قبله دوادار أمير مائة ومقدّم
ألف. ثم قبض على جماعة من الأمراء وهم: أزدمر العزّىّ وآقبغا
الجوهرىّ وأرغون كتك العزّىّ أيضا وأرغون الأرغونىّ ويونس الرمّاح
العمرىّ وكمشبغا الحموىّ وأرسلوا الجميع في القيود إلى ثغر
الإسكندرية فحبسوا «2» بها. ثم استقرّ طيدمر البالسىّ أستادار
العالية ثم أخلع على قجماس الطازىّ واستقرّ أمير سلاح عوضا عن
طيدمر البالسىّ المنتقل إلى الأستادارية وأنعم على قرابغا
الصّرغتمشىّ بتقدمة ألف دفعة واحدة من إمرة عشرة.
ثم في العشرين من الشهر استقرّ أسنبغا القوصونىّ لالا السلطان،
عوضا عن آقبغا جلب «3» واستقرّ قراتمر المحمدىّ خازندارا، عوضا عن
تلكتمر المحمدىّ وحضر سابق الدين مثقال [الآنوكى «4» ] من قوص بطلب
من السلطان وقبل الأرض ونزل إلى داره. وفى [يوم الخميس «5» ] ثانى
[عشر «6» ] جمادى الأولى قبض على فخر الدين ماجد بن قروينة وسلّم
لقرابغا [الصّرغتمشى «7» ] ليستخلص منه الأموال، واستقرّ عوضه في
الوزارة الصاحب جمال الدين عبد الله بن تاج الدين موسى بن أبى شاكر
وأضيف إليه نظر الخاصّ أيضا وكان أوّلا صاحب ديوان يلبغا.
(11/41)
وفي سادس عشر جمادى الأولى أعيد [الطواشى
«1» ] سابق الدين مثقال إلى تقدمة المماليك السلطانية وصرف
الدّمنهورىّ المعروف بشاذروان.
فى يوم الخميس سادس عشر شهر رجب قبض على قرابغا الصرغتمشىّ وعند ما
قبض على قرابغا المذكور ركب الأمير تغرى برمش بالسلاح ومعه عدّة من
الأمراء والخاصّكية فرسم السلطان بركوب الأمراء والخاصّكية فركبوا
في الحال وقبضوا عليه وأمسكوا معه الأمير أينبك البدرىّ وإسحاق
الرّجبىّ وقرابغا العزّى، ومقبل الرومىّ وأرسلوا إلى الإسكندرية.
ثمّ أنعم السلطان على كلّ من قطلوبغا جركس وأقطاى بتقدمة ألف.
ومن هذا الوقت أخذ أسندمر الناصرىّ في التعاظم وانضمام الناس عليه
فاتّفق جماعة من الأمراء العزّية مع طغيتمر النظامىّ وآقبغا جلب
على قبض أسندمر ودبّروا عليه إلى أن كانت ليلة الأحد سابع شهر
شوّال من سنة ثمان وستين المذكورة ركبوا نصف الليل وضربوا الكوسات
وأنزلوا الملك الأشرف إلى الإصطبل السلطانىّ وقصدوا مسك أسندمر
الناصرىّ وبعض مماليك يلبغا العمرىّ الأشرار وبلغ ذلك أسندمر، فمكث
في بيته إلى طلوع الشمس. ثمّ ركب من بيته بالكبش «2» فإنّه كان سكن
فيه بعد قتل بلبغا وتوجّه بمن معه إلى قبّة «3» النّصر ومنها إلى
(11/42)
القرافة إلى باب الدّرفيل «1» من وراء
القلعة، فلم يفطن به الأمراء إلّا وهو تحت الطبلخاناه السلطانية من
القلعة وكبس عليهم من الصّوة «2» فهرب أكثر الأمراء وكان غالبهم قد
استخدم عنده جماعة من مماليك يلبغا فلما رأى مماليك يلبغا أسندمر
ومن
(11/43)
معه من خشداشيتهم توجّهوا إليهم وتركوا
أمراءهم. ثمّ خرج إلى أسندمر آقبغا جلب وطردوا الحاجب ابن أخى آل
ملك فقوى أسندمر بهم على الأمراء وصدمهم صدمة هائلة كسرهم فيها
كسرة شنيعة وهربوا الجميع إلّا ألجاى اليوسفىّ وأرغون ططر فإنهما
ثبتا وقاتلا أسندمر وليس معهما غير سبعين فارسا، فقاتلوا أسندمر
وجماعته إلى قريب الظهر، فلم يرجع إليهما أحد من أصحابهما فانكسرا
وانتصر أسندمر الناصرىّ عليهم وطلع إلى القلعة وقبّل الأرض بين يدى
الملك الأشرف شعبان فأخلع عليه الأشرف باستقراره أتابكا ومدبّر
المماليك كما كان يلبغا العمرىّ الخاصّكى.
ثم قبض أسندمر على جماعة من الأمراء وقيّدهم وأرسلوا إلى ثغر
الإسكندرية فحبسوا بها وهم: ألجاى اليوسفىّ وطغيتمر النظامىّ
وأيدمر الشامى وآقبغا جلب وقطلوبغا جركس وأقطاى وأرغون ططر وقجماس
الطازىّ وجميع هؤلاء مقدّمو ألوف.
ثم قبض على جماعة من الأمراء الطبلخانات وهم: طاجار من عوض ويلبغا
شقير وقرابغا شادّ الأحواش وقرابغا الأحمدىّ وقطلوبغا الشعبانىّ
وأيدمر الخطائىّ وتمراز الطازىّ وآسن الناصرىّ وقراتمر المحمدىّ.
ثم أصبح أسندمر في يوم حادى عشر شوّال أنعم على جماعة من الأمراء
واستقرّوا مقدّمى ألوف بالديار المصرية وأصحاب وظائف، فأخلع على
أزدمر العزّىّ واستقرّ أمير مائة ومقدم ألف وأمير سلاح واستقرّ
جركتمر السيفىّ منجك أمير مائة ومقدّم ألف وأمير مجلس واستقرّ
ألطنبغا اليلبغاوىّ رأس نوبة النّوب من امرأة عشرة دفعة واحدة
واستقرّ قطلقتمر العلائى أمير جاندار واستقرّ سلطان شاه أمير مائة
ومقدّم ألف وحاجبا ثانيا واستقرّ بيرم العزّىّ دوادارا بتقدمة ألف
وكان جنديّا قبل ذلك، فانعم عليه بإقطاع طغيتمر النظامىّ ووظيفته
وجميع
(11/44)
موجوده ومماليكه وحواصله وأنعم على خليل بن
قوصون بتقدمة ألف وعلى قبق العزّىّ بتقدمة ألف وعلى أرغون القشتمرى
بتقدمة ألف وعلى محمد بن طيطق «1» العلائىّ بتقدمة ألف.
ثم أنعم على جماعة بإمرة طبلخاناه وهم: بزلار العمرىّ وأرغون
المحمدىّ الآنوكىّ الخازن وأرغون الأرغونىّ ومحمد بن طقبغا
الماجارى وباكيش السيفىّ يلبغا وآقبغا آص الشّيخونىّ وسودون
الشيخونىّ وجلبان السّعدىّ وكبك الصّرغتمشى وإينال اليوسفىّ
وكمشبغا الطازىّ وبكتمر العلمىّ وقمارى الجمالى وأرسلان خحا ومبارك
الطازىّ وتلكتمر «2» الكشلاوىّ وأسنبغا العزىّ وقطلوبغا الحموى «3»
ومأمور القلمطاوىّ.
ثم أنعم على جماعة بإمرة عشرات وهم: كزك «4» الأرغونى وألطنبغا
المحمودى وقرأبغا الأحمدى، وهذا غير قرابغا الأحمدى الجلب وحاجىّ
ملك بن شادى وعلى بن باكيش «5» ورجب بن خضر وطيطق الرمّاح. ثم خلع
على جماعة واستقرّت جوكندارية وهم: مبارك الطازى المقدّم ذكره
وقرمش الصرغتمشى وإينال اليوسفى وأخلع على ملكتمر «6» المحمدى
واستقرّ خازندارا على عادته وبهادر الجمالى شادّ الدواوين، عوضا عن
خليل بن عرّام بحكم انتقال ابن عرام إلى نيابة الإسكندرية واستقرّ
أسندمر الزين في نيابة طرابلس، عوضا عن اشقتمر الماردينى وأمسك
اشقتمر وحبس
(11/45)
بالإسكندرية واستقر طيبغا الطويل الناصرى
رفيق يلبغا العمرى الخاصكى المقدّم ذكره فى نيابة حماة وكان بطّالا
بالقدس في تاسع صفر، فلم تطل مدّته وقبض عليه منها في ذى القعدة
واعتقل بالإسكندرية ثانيا، وتولّى نيابة حماة عمر شاه على عادته
واستقرّ بيبغا القوصونى أمير آخور كبيرا، عوضا عن آقبغا الصّفوى
بحكم وفاته، وأرسل الى الأمير منكلى بغا الشمسى نائب حلب خلعة
الاستمرار.
وقد كمل جامع «1» منكلى بغا الذي أنشاه بحلب في هذه السنة بقنسرين.
واستهلت سنة تسع وستين والملك الأشرف شعبان كالمحجور عليه مع
أسندمر، غير أن اسمه السلطان، وخليفة الوقت المتوكّل على الله
وأسندمر الناصرى أمير كبير أتابك العساكر ومدبّر المملكة ونائب
السلطنة مع أمير علىّ الماردينى آلة يتعاطى الأحكام لا غير، ونائب
دمشق آقتمر عبد الغنىّ ونائب حلب منكلى بغا الشمسىّ وهو يومئذ يخشى
شرّه ونائب طرابلس منجك اليوسفىّ ونائب حماة عمر
(11/46)
شاه صاحب القنطرة «1» على الخليج خارج
القاهرة ونائب صفد أرغون الأزقى واستمرّ الأتابك أسندمر على ما هو
عليه الى يوم الجمعة سادس صفر اتّفقت عليه مماليك يلبغا الأجلاب
وركبوا معهم الأمراء وقت صلاة الجمعة ودخلوا على أسندمر الناصرىّ
وسألوه أن يمسك جماعة من الأمراء، فمسك أزدمر العزّىّ أمير سلاح
وحركتمر المنجكىّ أمير مجلس وبيرم العزّىّ الدوادار الكبير وبيبغا
القوصونىّ والأمير آخور كبك الصرغتمشى الجوكندار واستمرّت المماليك
لابسين السلاح، وأصبحوا يوم السبت ومسكوا خليل بن قوصون ثم أطلقوه
وانكسرت الفتنة الى عشيّة النهار وهي ليلة الأحد وقالوا لأسندمر:
نريد عزل الملك الأشرف، وكان أسندمر مفهورا معهم وبلغ الخبر الملك
الأشرف، فأرسل في الحال إلى [خليل «2» ] ابن قوصون فحضر وركب الملك
الأشرف وركب ابن قوصون ومماليك الأشرف الجميع مع أستاذهم، وكانوا
نحو المائتين لا غير، وكان الذين اجتمعوا من مماليك يلبغا فوق
الألف وخمسمائة وركب مع الملك الأشرف جماعة «3» من الأمراء الكبار
مثل أسنبغا ابن الأبوبكريّ وقشتمر المنصورى في آخرين وضربت الكوسات
واجتمع على السلطان خلق كثير من العوامّ، ولمّا بلغ أسندمر
الناصرىّ ركوب الملك الأشرف أخذ جماعة من مماليك يلبغا وطلع من خلف
القلعة كما فعل أوّلا في واقعة آقبغا الجلب وتقدّمت مماليك يلبغا
وصدموا المماليك الأشرفية وتقاتلوا، وبينما هم في ذلك جاء أسندمر
بمن معه من تحت الطبلخاناه كما فعل تلك المرة، فعلم به الأشرفية
والأمراء فمالوا عليه فكسروه أقبح كسرة وهرب أسندمر، ثم أمسك
وتمزقت المماليك اليلبغاوية، فلما جىء للأشرف بأسندمر وحضر بين
يديه شفعت فيه الأمراء
(11/47)
الكبار، فأطلقه السلطان ورسم له أن يكون
أتابكا على عادته ورسم له بالنزول الى بيته بالكبش «1» ورسم للأمير
خليل بن قوصون أن يكون شريكه في الأتابكيّة، فنزل أسندمر الى بيته
ليلة الاثنين وأرسل السلطان معه الأمير خليل بن قوصون صفة الترسيم
وهو شريكه في وظيفة الأتابكيّة ليحضره في بكرة نهار الاثنين، فلمّا
نزلا الى الكبش تحالفا وخامرا ثانيا على السلطان واجتمع عند أسندمر
وخليل بن قوصون في تلك الليلة جماعة كبيرة من مماليك يلبغا وصاروا
مع أسندمر كما كانوا أوّلا وأصبحا يوم الاثنين وركبا الى سوق الخيل
«2» ، فركب السلطان بمن معه من الأمراء.
والمماليك الأشرفية وغيرهم فالتقوا معهم وقاتلوهم وكسروهم وقتلوا
جماعة كبيرة من مماليك يلبغا وهرب أسندمر وابن قوصون واشتغل مماليك
السلطان والعوامّ بمسك مماليك يلبغا، يمسكونهم ويحضرونهم عرايا
مكشّفى الرءوس وتوجّه فرقة من السلطانية الى أسندمر وابن قوصون
فقبضوا عليهما وعلى ألطنبغا اليلبغاوىّ وجماعة أخر من الأمراء
اليلبغاوية فقيّدوا وأرسلوا إلى سجن الإسكندرية.
وفي هذه الواقعة يقول الشيخ شهاب الدين أحمد بن العطّار: [البسيط]
هلال شعبان جهرا لاح في صفر ... بالنصر حتى أرى عيدا بشعبان
وأهل كبش كأهل الفيل قد أخذوا ... رغما وما انتطحت في الكبش شاتان
ثم جلس الملك الأشرف شعبان في الإيوان وبين يديه أكابر الأمراء،
ورسم بتسمير جماعة من مماليك يلبغا نحو المائة وتوسيطهم، ونفى
جماعة منهم الى الشام وأخذ مال أسندمر وأنفق على مماليكه لكل واحد
مائة دينار، ولكل واحد من غير مماليكه خمسون دينارا، ورسم للامير
يلبغا المنصورى باستقراره أتابك العساكر هو
(11/48)
والأمير ملكتمر الخازندار، وأنعم على كل
منهما بتقدمة ألف وأنعم على تلكتمر بن بركة بتقدمة ألف عوضا عن
خليل بن قوصون، وكان ذلك في سادس عشر صفر.
ثم أصبح السلطان من الغد في يوم الثلاثاء «1» سابع عشر صفر قبض على
يلبغا المنصورىّ المذكور ورفيقه تلكتمر المحمدىّ لأنهما أرادا
الإفراج عن مماليك يلبغا وقصد يلبغا المنصورىّ أن يسكن بالكبش
فمسكهما الملك الأشرف وأرسلهما إلى الإسكندرية. ثم أرسل السلطان
بطلب الأمير منكلى بغا الشمسىّ نائب حلب إلى الديار المصرية،
فحضرها بعد مدّة وأخلع عليه السلطان خلعة النيابة بديار مصر، فأبى
أن يكون نائبا، فأنعم عليه بتقدمة ألف وجعله أتابك العساكر وتولى
نيابة حلب عوضه طيبغا الطويل، وكان أخرجه من سجن الإسكندرية قبل
ذلك.
ثم زوّج السلطان أخته «2» للأمير منكلى بغا الشمسى المذكور فتزوجها
وأولدها بنتا «3» تزوّجها الملك الظاهر برقوق وعاشت بعد الملك
الظاهر الى أن ماتت في سنة ثلاث وثلاثين بقاعتها بخطّ «4» الكعكيين
من القاهرة، ثم رسم الملك الأشرف أن يفرج عن طغيتمر النظامى وأيدمر
الخطائى وألجاى اليوسفى وكانوا محبوسين بالإسكندرية فحضروا إلى بين
يدى السلطان وقبّلوا الأرض بين يديه وخلع على
(11/49)
بكتمر المؤمنى واستقرّ أمير آخور كبيرا
بتقدمة ألف وهو صاحب المصلّاة «1» والسبيل بالرّميلة ثم رسم
السلطان بإحضار الأمير آقتمر عبد الغنى. فلما وصل آقتمر إلى مصر
أخلع عليه السلطان باستقراره حاجب الحجّاب بالديار المصرية، وكان
آقتمر هذا قد ولى نيابة السلطنة بالديار المصرية، قبل نيابة الشام
وتولى نيابة دمشق بعده بيدمر الخوارزمىّ قليلا، ثم عزل واستقرّ
عوضه في نيابة دمشق منجك اليوسفى نائب طرابلس واستقرّ في نيابة
طرابلس بعد منجك أيدمر الآنوكى.
(11/50)
ثم أخلع السلطان على الأمير الأكز
الكشلاوىّ باستقراره شادّ الدواوين، عوضا عن بهادر الجمالى. ثم
أفرج عن الأمير أرغون ططر وأخلع عليه واستقرّ أمير شكار بتقدمة
ألف. ثم رسم باحضار قطلوبغا الشعبانى من الشام فحضر بعد مدّة.
[ثم في ثامن «1» عشر جمادى الآخرة استقرّ الأمير آقتمر الصاحبى
دوادارا عوضا عن آقبغا بن عبد الله بإمرة طبلخاناة واستقرّ طغيتمر
العثمانى شادّ الشراب خاناه واستقرّ بشتك العمرى رأس نوبة ثانيا] .
ثم أخلع الملك الأشرف في تاسع عشرين شهر رمضان على الأمير أرغون
الأزقى باستقراره رأس نوبة كبيرا عوضا عن تلكتمر بن بركة واستقرّ
تلكتمر المذكور أمير مجلس عوضا عن طغيتمر النظامى.
ثم استقرّ الأمير ألجاى اليوسفى أمير سلاح برانيّا عوضا عن أزدمر
العزّى.
واستقرّ آقبغا بن عبد الله دوادارا كبيرا بإمرة طبلخاناه. ثم
استقرّ الأكز أستادارا عوضا عن ألطنبغا بحكم وفاته.
وفي سابع شوّال استقرّ الأمير عمر بن أرغون النائب في نيابة الكرك،
عوضا عن ابن القشمرى واستقرّ طيدمر البالسىّ في نيابة الإسكندرية،
عوضا عن صلاح الدين خليل بن غرّام واستقرّ خليل بن عرّام حاجبا
بثغر الإسكندرية. ثم استقرّ أيدمر الشيخى في نيابة حماة عوضا عن
عمر شاه، وأخلع على شمس الدين ابن المقسىّ باستقراره ناظر الخواص
الشريفة بالقاهرة عوضا عن ابن أبى شاكر
(11/51)
فى ثالث عشر ذى القعدة. واستقرّ العلامة
سراج «1» الدين عمر بن إسحاق الغزنوىّ الهندىّ الحنفىّ قاضى قضاة
الحنفية بالديار المصرية، بعد موت قاضى القضاة جمال «2» الدين
التّركمانى واستقرّ الشيخ سراج عمر بن رسلان بن نصير بن صالح
الكنانى «3» البلقينى الشافعى في قضاء دمشق عوضا عن قاضى القضاة
تاج الدين عبد الوهاب السّبكىّ، فلم تطل مدّة البلقينى في قضاء
دمشق وعزل وأعيد تاج الدين السّبكى واستقرّ القاضى بدر الدين محمد
ابن القاضى علاء الدين على ابن القاضى محيى الدين يحيى بن فضل الله
العمرى في كتابة السر بالديار المصرية بعد وفاة والده واستقرّ فتح
«4» الدين محمد بن الشهيد في كتابة سرّ دمشق عوضا عن جمال الدين
«5» بن الأثير.
ثم وقع الوباء بالديار المصرية حتى بلغت عدّة الموتى في اليوم أكثر
من ألف نفس وأقام نحو الأربعة أشهر وارتفع.
وفي هذه السنة أيضا وهي سنة تسع وستين وسبعمائة قصدت الفرنج مدينة
طرابلس الشام في مائة وثلاثين مركبا من الشوانى والقراقير «6»
والغربان والطرائد وصحبتهم صاحب قبرس وهو المقدّم ذكره عليهم وكان
نائبها وأكثر عسكرها غائبين
(11/52)
عنها، فاغتنمت الفرنج الفرصة وخرجوا من
مراكبهم إلى الساحل فخرج لهم من طرابلس بقية عسكرها بجماعة من
المسلمين فتراموا بالنّبال ثم اقتتلوا أشدّ قتال وتقهقر المسلمون
ودخل المدينة طائفة من الفرنج فنهبوا بعض الأسواق. ثم إن المسلمين
تلاحقوا وحصل بينهم وبين الفرنج، وقائع عديدة استشهد فيها من
المسلمين نحو أربعين نفرا وقتل من الفرنج نحو الألف وألقى الله
تعالى الرّعب في قلوب الفرنج فرجعوا خائبين.
وفي هذه السنة قوى أمر الملك الأشرف في السلطنة وصار تدبير ملكه
إليه يعزل ويولّى من غير مشورة الأمراء وصار في الملك من غير منازع
ولا معاند وحسنت سيرته وحبّته الرعية إلى الغاية وصار يقصد المقاصد
الجميلة مما سيأتى ذكره.
ثم في أوّل جمادى الآخرة عزل الأشرف أسنبغا بن الأبوبكريّ عن نيابة
حلب بالأمير قشتمر المنصورىّ. ثم قبض السلطان على أرغون العجمىّ
الساقى أحد المماليك السلطانية بسبب أنه سرق أحجارا مثمّنة من
الخزانة السلطانية وباعها على الفرنج، وفيها حجر يعرف بوجه الفرس
فجاء به الفرنج الى منجك اليوسفى نائب الشام فعرفه وأرسله الى
السلطان وأخبره بخبر أرغون العجمىّ وكيف باعه للفرنج فصفح السلطان
عنه ونفاه الى الشام.
ثم في يوم السبت العشرين من شهر رمضان نفى السلطان الأمير آقتمر
الصاحبىّ الدوادار الكبير إلى الشام لأمر وقع بينه وبين الأمير
ألجاى اليوسفىّ.
وفي تاسع عشر ذى القعدة أحضر الأمير بيدمر الخوارزمى المعزول عن
نيابة الشام قبل تاريخه وأدخل الى قاعة الصاحب «1» بقلعة الجبل
وطلب منه ثلاثمائة ألف
(11/53)
دينار وكان متولّى أمره علىّ بن محمد بن
كلبك التّركمانى فعصر يوم الثلاثاء حادى عشرين ذى القعدة، ثم أفرج
عنه ونفى الى طرابلس بعد أن اخذ منه مائة ألف دينار.
ثم قدم الخبر على السلطان بقتل الأمير قشتمر المنصورىّ نائب حلب،
وخبره أنه لما ولى نيابة حلب في جمادى الآخرة من هذه السنة وتوجّه
إلى حلب فلم يقم بها إلا يسيرا وخرج منها وكبس أمير آل فضل بعربه
مثل السلطان فركب العرب وقاتلته فقتل في المعركة هو وولده محمد بن
قشتمر وكان الذي قتله حيّار أمير آل فضل وولده نعير بن حيّار وكان
ذلك يوم الجمعة خامس عشر ذى الحجة ولما بلغ الملك الأشرف عظم عليه
وأرسل تقليدا للامير اشقتمر الماردينى بنيابة حلب على يد الأمير
قطلوبغا الشعبانى وعزل حيّارا عن إمرة العرب وولّاها لزامل «1» .
ثم أنعم الملك الأشرف في هذه السنة على ألوف بتقادم وطبلخانات
وعشرات، فممن أنعم عليهم بتقدمة ألف الأمير بهادر الجمالى وبشتك
العمرى وممن أنعم عليه بإمرة طبلخاناه صراى الإدريسى وبيبغا
القوصونى وأحمد بن آقتمر عبد الغنى وأحمد بن قنغلى وخليل بن قمارى
الحموى وطغيتمر الحسينى وحسين بن الكورانى وأرغون شاه الأشرفى.
وكان أمير الحاج في هذه السنة بهادر الجمالى، وحجّت في هذه السنة
أيضا خوند بركة والدة السلطان الملك الأشرف صاحب الترجمة بتجمّل
زائد ورخت «2» عظيم وبرك هائل وفى خدمتها من الأمراء الألوف بشتك
العمرى وبهادر الجمالى
(11/54)
أمير الحاج ومائة مملوك من المماليك
السلطانية الخاصّكية وكان من جملة ما معها بدرب الحجاز كوسات
وعصائب سلطانية وعدّة محفّات بأغطية زركش وعدّة محاير «1» كثيرة
بأفخر زينة وحمل معها أشياء كثيرة يطول الشرح في ذكرها من ذلك: قطر
جمال عليها مزروع خضر وغير ذلك وحجّت وعادت إلى الديار المصرية،
بعد أن احتفل جميع أمراء الدولة إلى ملاقاتها، ولما وصلت إلى
الفلعة أثلت على بهادر الجمالى فأخلع السلطان عليه.
ثم بعد مدّة في يوم حادى عشرين المحرّم من سنة إحدى وسبعين
وسبعمائة استقرّ به «2» أمير آخور كبيرا عوضا عن الأمير بكتمر
المؤمنى بعد موته واستقرّ الأمير تلكتمر [من بركة «3» ] أستادارا
عوضا عن بهادر [الجمالى «4» ] المذكور واستقرّ أرغون شاه الأشرفى
أمير مجلس عوضا عن تلكتمر المنتقل الى الأستادارية ثم نقل أرغون
شاه المذكور بعد مدّة يسيرة من وظيفة أمير مجلس إلى وظيفة رأس نوبة
النّوب، بعد موت بشتك العمرى واستقرّ أرغون [الأحمدى «5» ] اللّالا
أمير مجلس عوضا عن أرغون شاه المذكور.
ثم أنعم السلطان على الأمير طينال الماردينى بتقدمة ألف وعلى علم
دار أيضا بتقدمة ألف واستقرّ أستادار العالية عوضا عن تلكتمر.
ثم في سنة اثنتين وسبعين استقرّ الأمير طشتمر العلائى دوادارا
كبيرا بإمرة طبلخاناه، انتقل إليها من الجندية عوضا عن منكوتمر من
عبد الغنى واستقرّ يلبغا الناصرى اليلبغاوىّ خازندارا كبيرا، عوضا
عن يعقوب شاه.
(11/55)
قلت: والناصرى هذا هو صاحب الوقعة مع الملك
الظاهر برقوق الآتى ذكرها في ترجمة الظاهر المذكور.
ثم في سنة ثلاث وسبعين عزل السلطان الأمير اشقتمر الماردينى عن
نيابة حلب بالأمير عز الدين أيدمر الدوادار.
قلت: وإشقتمر الماردينى هذا ومنجك اليوسفى نائب الشام وبيدمر
الخوارزمى هؤلاء الثلاثة لا أعلم أحدا في الدولة التركيّة ولى
ولايتهم من الأعمال والوظائف ولا طال مكثه في السعادة مثلهم على ما
ذكرناه فيما مضى وما سنذكره فيما يأتى إن شاء الله تعالى على أن
اشقتمر هذا طال عمره في السعادة حتى ولى نيابة الشام عن الملك
الظاهر برقوق، وبرقوق يومئذ في خدمة منجك اليوسفى نائب الشام، وإلى
الآن لم يتصل بخدمة السلطان ولا صار من جملة المماليك السلطانية
وقد تقدّم أنّ اشقتمر ولى الأعمال الجليلة من سلطنة الملك الناصر
حسن الأولى وكان يلبغا العمرى أستاذ برقوق يوم ذاك خاصّكيّا، فانظر
إلى تقلّبات هذا الدهر ونيل كلّ موعود بما وعد. انتهى.
وفى سنة ثلاث وسبعين المذكورة رسم السلطان الملك الأشرف أنّ
الأشراف بالديار المصرية والبلاد الشامية كلّهم يسمون عمائمهم
بعلامة خضراء بارزة للخاصّة والعامّة إجلالا لحقّهم وتعظيما لقدرهم
ليقابلوا بالقبول والإقبال ويمتازوا عن غيرهم من المسلمين، فوقع
ذلك ولبسوا الأشراف العلائم الخضر، التى هي الآن مستمرّة على
رعوسهم، فقال الأديب شمس الدين محمد بن إبراهيم الشهير بالمزيّن في
هذا المعنى: [الكامل]
أطراف تيجان أتت من سندس ... خضر كأعلام على الأشراف
والأشرف السلطان خصّصهم بها ... شرفا لنعرفهم من الأطراف
وقال أيضا في المعنى الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن جابر
الأندلسى: [الكامل]
(11/56)
جعلوا لأبناء الرّسول علامة ... إنّ
العلامة شأن من لم يشهر
نور النّبوّة في كريم وجوههم ... يغنى الشّريف عن الطّراز الأخضر
وقال أيضا في المعنى الشيخ بدر الدين حسن بن حبيب الحلبى: [الرجز]
عمائم الأشراف قد تميّزت ... بخضرة رقّت وراقت منظرا
وهذه إشارة أنّ لهم ... فى جنّة الخلد لباسا أخضرا
وقال ولده أبو العزّ طاهر بن حسن بن حبيب في المعنى أيضا: [الطويل]
ألا قل لمن يبغى ظهور سيادة ... تملّكها الزّهر الكرام بنو الزّهرا
لئن نصبوا للفخر أعلام خضرة ... فكم رفعوا للمجد ألوية حمرا
وقال الشيخ شهاب الدين بن أبى حجلة التّلمسانىّ الخنفى- تغمده الله
تعالى- فى المعنى أيضا. [الطويل]
لآل رسول الله جاه ورفعة ... بها رفعت عنّا جميع النّوائب
وقد أصبحوا مثل الملوك برنكهم «1» ... إذا ما بدوا للناس تحت
العصائب
قلت: وبهذه الفعلة يدلّ على حسن اعتقاد الملك الأشرف المذكور في آل
بيت النبوّة وتعظيمه لهم؛ ولقد أحدث شيئا كان الدهر محتاجا إليه
ولا ألهم الله تعالى الملوك ذلك من قبله؛ ولله درّ القائل: «كم ترك
الأوّل للآخر» .
وفي أوّل سنة أربع وسبعين وسبعمائة استقرّ الأمير ألجاى اليوسفى
أمير سلاح أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن منكلى بغا الشمشى
بحكم وفاته- إلى رحمة الله تعالى- وأخلع عليه أيضا بنظر
البيمارستان «2» المنصورىّ فعند ذلك عظم قدر
(11/57)
ألجاى المذكور من كونه زوج أمّ السلطان
وصار أتابك العساكر، وبهذا استطال الجاى في المملكة.
فإنّه قبل زواجه بأمّ السلطان خوند بركة كان من جملة الأمراء
المقدّمين لا غير انتهى.
ثم أخلع السلطان على الأمير كجك من أرطق شاه باستقراره أمير سلّاح
برانيّا عوضا عن ألجاى اليوسفى المذكور واستقرّ يلبغا الناصرىّ
شادّ الشراب خاناه عوضا عن كجك واستقرّ تلكتمر الجمالى خازندارا
عوضا عن يلبغا الناصرى.
ثم توجّه السلطان الى سرحة الأهرام بالجيزة وعاد بعد أيام وعند
عوده الى قلعة الجبل أخلع على الطّواشى سابق الدين مثقال مقدّم
المماليك السلطانية قباء حرير أزرق صاف بطرز زركش عريض أسوة
بالأمراء الخاصّكيّة وهذا شىء لم يلبسه مقدّم قبله، وكان السلطان
الملك الأشرف قبل ذلك قد استجدّ في كلّ سنة عند طلوعه من هذه
السّرحة وهي توجّه السلطان إلى ربيع الخيل أن يلبس الأمراء
الخاصّكية مقدّمى الألوف أقبية حرير بفرو سمّور بأطواق سمّور بطرز
زركش والطّبلخانات والعشرات أقبية حرير بطرز زركش منها ما هو بفرو
قاقم ومنها ما هو بفرو سنجاب.
ثم بعد ذلك نزل السلطان في يوم الثلاثاء سادس عشر ذى القعدة سنة
أربع وسبعين ووالدته معه وهي متمرّضة إلى الرّوضة «1» تجاه مصر
القديمة بمنظرة الأمير طشتمر الدّوادار، فاقام فيها يوم الثلاثاء
والأربعاء وصحبته جميع الأمراء وطلع يوم الخميس إلى القلعة
واستمرّت أمّ السلطان متمرّضة الى أن ماتت في ذى الحجّة وهي في
عصمة
(11/58)
الجامى اليوسفى وصلّى عليها ابنها السلطان
الملك الأشرف ودفنت بمدرستها «1» التى عمّرتها بخطّ التّبانة خارج
القاهرة بالقرب من باب الوزير ووجد عليها ولدها الملك الأشرف وجدا
عظيما، لأنها كانت من خيار نساء عصرها دينا وخيرّا وصدقة ومعروفا.
ومن الاتفاق العجيب بعد موتها البيتان اللذان عملهما الأديب شهاب
الدين السعدىّ الأعرج وتفاعل بهما على ألجاى اليوسفىّ وهما:
[الكامل]
(11/59)
فى مستهلّ العشر من ذى الحجة ... كانت
صبيحة موت أمّ الأشرف
فالله يرحمها ويعظم أجره ... ويكون في عاشور موت اليوسفى
فكان الأمر على ما ذكر، وهذا من الاتفاق الغريب وهو أنه لمّا ماتت
خوند بركة المذكورة، واستهلت سنة خمس وسبعين وقع بين الملك الأشرف
وبين زوج أمّه ألجاى اليوسفى كلام من أجل التّركة المتعلقة بخوند
بركة المذكورة وكان ذلك يوم الثلاثاء سادس المحرّم من السنة
المذكورة، وكثر الكلام بين السلطان وبين ألجاى اليوسفى حتى غضب
ألجاى وخرج عن طاعة المك الأشرف ولبس هو ومماليكه آلة الحرب ولبست
مماليلك السلطان أيضا وركب السلطان بمن معه من أمرائه وخاصّكيّته.
وباتوا الليلة لابسين السّلاح إلى الصّباح، فلما كان نهار الأربعاء
سابع المحرّم كان الوقعة بين الملك الأشرف شعبان وبين زوج أمّة
الأتابك ألجاى اليوسفى فتواقعوا إحدى عشرة مرة وعظم القتال بينهما
حتى كانت الوقعة الحادية عشرة انكسر فيها ألجاى اليوسفى وانهزم إلى
بركة الحبش «1» .
ثم تراجع أمره وعاد بمن معه من على الجبل الأحمر إلى قبّة النّصر،
فطلبه السلطان الملك الأشرف فأبى فأرسل إليه خلعة بنيابة حماة
فقال: أنا أروح بشرط أن يكون كلّ ما أملكه وجميع مماليكى معى، فأبى
السلطان ذلك وباتوا تلك الليلة فهرب جماعة من مماليك ألجاى في
الليل وجاءوا إلى الملك الأشرف.
فلما كان صباح يوم الخميس ثامن المحرّم أرسل السلطان الأمراء
والخاصّكية ومماليك أولاده وبعض المماليك السلطانية إلى قبّة النصر
إلى حيث ألجاى، فلمّا
(11/60)
رآهم ألجاى هرب فساقوا خلفه إلى الخرقانية
«1» ، فلما رأى ألجاى أنه مدرك رمى بنفسه وفرسه إلى البحر؛ ظنّا
أنه يعدّى به إلى ذلك البرّ؛ وكان ألجاى عوّاما فثقل عليه لبسه
وقماشه فغرق في البحر وخرج فرسه وبلغ الخبر السلطان الملك الأشرف
فشقّ عليه موته وتأسّف عليه. ثم أمر بإخراجه من النيل فنزل
الغوّاصون وطلعوا به وأحضروه إلى القلعة في يوم الجمعة تاسع
المحرّم في تابوت وتحته لبّاد أحمر فغسّل وكفّن وصلّى عليه الشيخ
جلال الدين التّبانى ودفن في القبّة التي أنشأها بمدرسته «2» برأس
سويقة «3» العزّى خارج القاهرة والمدرسة معروفة وبها خطبة. وكان
الجاى من أجلّ الأمراء وأحسنها سيرة.
ثم قبض السلطان على مماليك ألجاى ونودى بالمدينة أنّ كل من لقى
أحدا منهم يحضره إلى السلطان ويأخذ له خلعة. ثم أخذ السلطان أولاد
ألجاى وهم إخوته
(11/61)
لأمّه ورتب لهم ما يكفيهم واحتاط على سائر
موجود ألجاى وأخذ جميع مماليكه وصفح عنهم وجعلهم في خدمة ولديه:
أمير علىّ وأمير حاج.
ثم قبض السلطان على جماعة من الأمراء ممن كان يلوذ بالأمير ألجاى
وهم صراى العلائىّ وسلطان شاه بن قراجا وطقتمر الحسنى وعلىّ بن
كلبك «1» وصادره.
ثم أمسك بيبغا القوصونى وخليل بن قمارى الحموى فشفع فيهما الأمير
طشتمر الدوادار.
ثم في آخر صفر رسم السلطان بنفى جماعة إلى البلاد الشامية، وهم
محمد شاه دوادار ألجاى وخليل بن عرّام المعزول عن نيابة الإسكندرية
وعلىّ بن كلبك وآقبغا البشمقدار خازندار ألجاى وكان السلطان في
تاسع الحرّم رسم لبورى الحلبى الخازندار أن يتوجّه الى طرابلس
لإحضار نائبها الأمير عزّ الدين أيدمر الدوادار الناصرى الى مصر،
فتوجّه بورى اليه وأحضره، فلّما مثل بين يدى السلطان أخلع عليه
باستقراره بأتابك العساكر بالديار المصرية، عوضا عن ألجاى اليوسفى
وتولّى عوضه نائب طرابلس الأمير يعقوب شاه، وبعد موت ألجاى أنعم
السلطان على جماعة من الأمراء بإقطاعات ووظائف فأخلع على الأمير
صرغتمش الأشرفى باستقراره أمير سلاح خاصّكيا يجلس بالإيوان فى دار
العدل «2» واستقرّ ارغون الأحمدى الّالا أمير كبير برانيّا وأجلس
بالإيوان، قاله العينى في تاريخه ووافقه غيره.
قلت: فيكون على هذا الحكم تلك الأيام أمير كبير خاصّ وأمير كبير
برّانى وأمير سلاح خاص وأمير سلاح برّانى وهذا شىء لم يسمع بمثله.
انتهى
(11/62)
ثم أنعم السلطان على قطلوبغا الشعبانى
بتقدمة ألف واستقرّ رأس نوبة ثانيا.
قلت: وهذه الوظيفة الآن هي وظيفة رأس نوبة النّوب ورأس نوبة نوب
تلك الأيام قد بطلت من الدولة الناصرية فرج بن برقوق. وكانت تسمى
رأس نوبة الأمراء وآخر من وليها آقباى الطّرنطاوى الحاجب.
ثم أخلع على جماعة وأنعم عليهم بإمرة طبلخانات وهم: أحمد بن يلبغا
العمرى الخاصّكى وآقتمر الصاحبى وتمرباى الحسنى وإينال اليوسفى
وعلى بن بهادر الجمالى وبلّوط الصّرغتمشى ومختار الطواشى الحسامى
مقدّم الرّفرف «1» .
قلت: وأيضا هذا شىء لم يسمع بمثله من أن يكون بعض خدّام الأطباق
أمير طبلخاناه، وأغرب من ذلك أنّ مقدّم المماليك في زماننا هذا
إقطاعه إمرة عشرة ضعيفة. انتهى. وعلى ألجيبغا المحمدى وحاجى بك بن
شادى. وأنعم على اثنين بعشرات وهم ألطنبغا من عبد الملك وطشتمر
الصالحىّ.
ثم في عاشر شهر ربيع الآخر استقرّ أحمد بن آل ملك في نيابة غزة
عوضا عن طشبغا المظفّرى وأنعم على مبارك الطّازى بتقدمة ألف وعلى
سودون جركس المنجكى بتقدمة ألف وارتجع السلطان من طينال الماردينى
تقدمته وأنعم عليه بإمرة طبلخاناة. ثم استقر منكلى بغا البلدى
الأحمدى في نيابة الكرك واستقر ناصر الدين محمّد بن آقبغا آص
أستادارا بتقدمة ألف. ثم أنعم السلطان على ألطنبغا ططق العثمانى
بتقدمة ألف واستقر أمير سلاح برانيا عوضا عن طيدمر البالسى وأنعم
على
(11/63)
طغيتمر اليلبغاوى الدوادار الثانى بإمرة
طبلخاناه وهو أوّل من لبس «1» الدوادارية الثانية. ثم نقل منكلى
بغا البلدى من نيابة الكرك الى نيابة صفد واستقرّ آقتمر عبد الغنى
النائب بديار مصر في نيابة طرابلس وقد تقدّم أن آقتمر هذا كان ولى
نيابة الشام سنين.
وفي رابع عشرين ذى القعدة استقرّ يلبغا الناصرى اليلبغاوى صاحب
الوقعة مع برقوق الآنى ذكرها حاجبا ثانيا بإمرة مائة وتقدمة ألف.
ثم عزل السلطان سابق الدين مثقالا الآنوكى مقدّم المماليك وأمره أن
يلزم بيته واستقرّ عوضه في تقدمة المماليك الطواشى مختار الحسامى
مقدّم الرّفرف «2» المقدّم ذكره.
ثم ندب السلطان الأمير يلبغا الناصرى للسفر الى دمشق لإحضار نائبها
الأمير منجك اليوسفى فسار من وقته الى أن وصل الى دمشق وأحضر
الأمير منجك المذكور، ووصل منجك الى الديار المصرية وصحبته أولاده
ومملوكه جركتمر وصهره آروس المحمودى بعد أن احتفل أهل الدولة
لملاقاته وخرجت اليه الأمراء الى بين الحوضين «3» خارج قبّة النصر
وطلع الى القلعة من باب السرّ «4» وسائر الأمراء والخاصّكيّة مشاة
بين يديه في ركابه، مثل أيدمر الدوادار ومن دونه بإشارة السلطان،
فلما
(11/64)
دخل منجك على السلطان وقبّل الأرض أقبل
عليه السلطان إقبالا كليّا وخلع عليه باستقراره نائب السلطنة
بالديار المصرية خاصّكيّا عوضا عن آقتمر عبد الغنى المنتقل الى
نيابة طرابلس وفوّض اليه السلطان النظر في الأحباس والأوقاف والنظر
في الوزارة، فإنه كان وليها بعد موت أستاذه الملك الناصر محمد بن
قلاوون كما تقدّم ذكره والنظر على ناظر الخاص وقرئ تقليده بالإيوان
«1» ، وأن السلطان أقامه مقام نفسه فى كل شىء وفوّض إليه سائر أمور
المملكة، وأنه يخرج الإقطاعات التي عبرتها «2» سبعمائة دينار إلى
ما دونها، وأنه يعزل من شاء من أرباب الدولة، وأنه يخرج الطبلخانات
والعشرات بسائر المماليك الشامية، ورسم للوزير أن يجلس قدّامه فى
الدركاه مع الموقّعين.
ثم بدأ الغلاء بالديار المصرية في هذه السنة وتزايد سعر القمح إلى
أن أبيع بتسعين درهما الإردب، وزاد النيل بعد أن نقص في شهرها تور،
وهذا أيضا من الغرائب، وهذه السنة تسمى سنة الشراقىّ كما سنبينه في
حوادث السنين من سلطنة الملك الأشرف هذا.
ثم في أوّل سنة ست وسبعين عزل السلطان الأمير آقتمر عبد الغنى عن
نيابة طرابلس بالأمير منكلى بغا البلدى نائب صفد وولّاه نيابة صفد.
قلت: درجة إلى أسفل.
ثم مرض الأمير منجك اليوسفىّ النائب فنزل السلطان لعيادته، ففرش
منجك تحت رجلى فرسه الشّقق الحرير وقدّم له عشرة مماليك وعشرة بقج
وعدّة خيول فقبلها السلطان ثم أنعم بها عليه، وكان ذلك في يوم
الثلاثاء سابع عشرين ذى الحجة ومات منجك بعد يومين.
(11/65)
ثم ورد الخبر على السلطان بأن القان حسين
ابن الشيخ أويس ابن الشيخ حسن بن حسين بن آقبغا «1» بن أيلكان،
تولى مملكة «2» تبريز وبغداد بعد وفاة «3» أبيه.
وفي هذه السنة فتحت سيس «4» - وهي كرسى الأرمن- على يد الأمير
اشقتمر الماردينى نائب حلب، بعد أن نازلها مدّة ثلاثة شهور حتى
فتحها وانقرضت منها دولة الأرمن- ولله الحمد- فدقّت البشائر لذلك
وفرح الملك الأشرف فرحا عظيما بهذا الفتح العظيم.
وفي هذه السنة- أيضا وهي سنة ست وسبعين المذكورة- وقع الفناء
بالديار المصرية من نصف جمادى الآخرة وتزايد في شعبان، ثم في شهر
رمضان حتّى صار يموت في كلّ يوم من الحشريّة «5» نحو خمسمائة نفس
ومن الطّرحى»
نحو الألف، فأبيع كلّ فرّوج بخمسة وأربعين درهما، وكل سفرجلة
بخمسين درهما، وكل رمّانة بعشرة دراهم، والعشرة دراهم يوم ذاك كانت
أزيد من نصف دينار، وكل رمّانة حلوة بستة عشر درهما، وكلّ بطيخة
صيفية بسبعين درهما.
ولما توفّى منجك شغرت نيابة السلطنة بديار مصر الى العشرين من شهر
ربيع الأوّل استقرّ فيها الأمير آقتمر الصاحبى الحنبلى.
(11/66)
وفي محرّم سنة سبع وسبعين ختن السلطان
أولاده وعمل المهمّ سبعة أيام.
وفي العشر الأوسط من صفر هذه السنة ابتدأ الملك الأشرف بعمارة
مدرسته «1» التى أنشأها بالصوه تجاه الطبلخاناة «2» السلطانية التي
موضعها الآن بيمارستان «3» الملك المؤيد شيخ وهو كلا شىء، فاشترى
الملك الأشرف بيت الأمير شمس الدين سنقر الجمالى وشرع في هدمه.
(11/67)
وفي هذه السنة تزايد الغلاء بالبلاد
الشامية، حتى جاوز الحدّ وجعل الغنى فقيرا، وأبيع فيه الرطل الخبز
بدرهمين، وفي هذا المعنى يقول بدر الدين بن حبيب: [الخفيف]
لا تقيمن بى على حلب الشّه ... باء وارحل فأخضر العيش أدهم
كيف لى بالمقام والخبز فيها ... كلّ رطل بدرهمين ودرهم
وفي سنة ثمان وسبعين عزل السلطان الملك الأشرف آقتمر الصاحبىّ
الحنبلىّ عن نيابة السلطنة بالديار المصرية واستقرّ به أتابك
العساكر وعزل الأمير آقتمر عبد الغنىّ عن نيابة صفد واستقرّ به
أمير «1» مائة ومقدّم ألف بالقاهرة.
(11/68)
ثم في العشرين من شهر ربيع الآخر غرقت
الحسينية «1» خارج القاهرة وخرب فيها أزيد من ألف بيت، وكان سبب
هذا الغرق أنّ أحمد بن قايماز أستادار محمد ابن آقبغا آص استأجر
مكانا خارج القاهرة بالقرب من آخر الحسينية وجعله بركة وفتح له
مجرى «2» من الخليج فتزايد الماء وغفلوا عنه فطفح على الحسينية
فغرّقها فقبض السلطان بعد ذلك بمدّة على محمد بن آقبغا آص وصادره
وعزله عن الأستادارية؛ هذا والسلطان في تأهّب سفر الحجاز.
فلما كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان «3» سفّر السلطان إخوته
وأولاد أعمامه إلى الكرك صحبة الأمير سودون الفخرى الشيخونى ليقيم
عندهم بالكرك مدّة غيبة السلطان في الحجاز، كلّ ذلك والسلطان
متضعّف وحركة الحجاز عمّالة وحواشيه وخواصّه ينهونه عن السفر في
هذه السنة وهو لا يلتفت إلى كلامهم.
ثم توجه السلطان الى سرياقوس «4» على عادته في كل سنة وعاد وقد نصل
عن ضعفه إلى يوم السبت الثانى عشر من شوّال خرجت أطلاب «5» الأمراء
المتوجّهين صحبة السلطان إلى الحجاز.
وفي الأحد ثالث عشر خرج السلطان بتجمّل زائد وطلب عظيم إلى الغاية
جرّ فيه عشرون قطارا من الهجن الخاص بقماش ذهب وخمسة عشر قطارا
بقماش حرير وقطار واحد بلبس خليفتىّ وقطار آخر بلبس أبيض برسم
الإحرام ومائة فرس ملبسة
(11/69)
وكجاوتان «1» بأغشية زركش وتسع محفّات،
غشاء خمس منهن زركش وستة وأربعون زوجا من المحاير وخزانة عشرون
جملا وقطاران من الجمال محمّلة خضر مزروعة كالبقل والشّمار
والنّعناع والسلق والكسبرة وغير ذلك. وأما أحمال المطاعم والمشارب
والمآكل فلا تدخل تحت حصر كثرة: منها ثلاثون ألف علبة حلاوة في كل
علبة خمسة أرطال كلّها معمولة من السكر المكرر المصرىّ وطيّبت
بمائة مثقال مسك، سوى الصّندل والعود؛ هذا خلاف ما كان للأمراء
والخاصّكية وإنما كان هذا للسلطان خاصّة نفسه وأشياء من هذا
النّموذج كثيرة ومع هذا كلّه لم يتغيّر سعر السكّر بمصر.
وسار السلطان بأمرائه في أبّهة عظيمة حتى نزل سرياقوس فاقام بها
يوما، وفي هذا اليوم أخلع السلطان على الشيخ ضياء الدين القرمى
الحنفىّ باستقراره شيخ شيوخ المدرسة التي أنشأها بالصّوّة وقد
أشرفت على الفراغ وجاءت من أحسن البناء.
ثم رحل السلطان من سرياقوس حتى نزل بالبركة «2» على عادة الحجّاج
فأقام بها إلى يوم الثلاثاء ثانى عشرين شوّال ورحل بعساكره وأمرائه
إلى جهة الحجاز وكان الذي صحبه من أمراء الألوف تسعة وهم: الأمير
صرغتمش الأشرفى وأرغون شاه الأشرفى ويلبغا الشامىّ وهؤلاء الثلاثة
أشرفيّة مماليكه والأمير بهادر الجمالىّ وصراى تمر المحمدىّ وطشتمر
العلائى الدّوادار ومبارك الطازى وقطلقتمر العلائى الطويل وبشتك من
عبد الكريم الأشرفىّ أيضا. ومن أمراء الطبلخانات خمسة وعشرون أميرا
وهم: بورى الأحمدىّ وأيدمر الخطائىّ من صديق وعبد الله بن
(11/70)
بكتمر الحاجب وبلوط الصرغتمشى وآروس
المحمودى ويلبغا المحمدى ويلبغا الناصرىّ، على أنه كان أنعم عليه
بتقدمة ألف، غير أنه أضيف إلى الطبلخانات كونه كان حاجبا ثانيا
وأرغون العزّى الأفرم وطغيتمر الأشرفى ويلبغا المنجكىّ وكزل
الأرغونى وقطلوبغا الشعبانىّ وأمير حاج بن مغلطاى وعلىّ بن منجك
اليوسفى ومحمد ابن تنكزبغا وتمرباى الحسنى الأشرفىّ وأسندمر
العثمانى وقرابغا الأحمدىّ وإينال اليوسفى وأحمد بن يلبغا العمرى
وموسى بن دندار بن قرمان ومغلظاى البدرى وبكتمر العلمى وآخر. ومن
العشرات خمسة عشر أميرا وهم: آقبغا بوز الشيخونى وأبو بكر بن سنقر
الجمالى وأحمد بن محمد بن بيبرس الأحمدى وأسنبغا التّلكىّ وشيخون
ومحمد بن بكتمر الشمسى و [محمد «1» بن] قطلوبغا المحمدى وخضر بن
عمر ابن أحمد بن بكتمر الساقى وجوبان الطّيدمرى وألطنبغا من عبد
الملك وقطلوبغا البزلارى وطوغان العمرى الظهيرى وتلكتمر العيسوىّ
ومحمد بن سنقر المحمدىّ.
وعيّن الملك الأشرف جماعة من الأمراء ليقيموا بالديار المصرية،
عيّن الأمير:
أيدمر الشمسىّ نائب الغيبة بالقلعة وأميرين أخر تسكن بالقلعة أيضا
وعيّن الأمير آقتمر عبد الغنى نائب الغيبة وأن يسكن بالقاهرة للحكم
بين الناس وعيّن أيضا للاقامة بالديار المصرية من الأكابر: الأمير
طشتمر اللّفّاف وقرطاى الطازى وأسندمر الصرغتمشى وأينبك البدرى.
وسافر السلطان وهو متوعّك في بدنه، بعد أن أشار عليه جماعة من
الصّلحاء والأعيان بتأخير الحج في هذه السنة فأبى إلا السفر لأمر
يريده الله تعالى، وأمر السلطان لنائب الغيبة وغيره أن يطلعوا
القلعة في كل يوم موكب ويدخلوا إلى باب «2»
(11/71)
السّتارة ويخرج الأسياد أولاد السلطان
الملك الأشرف ساعة ثم يعود كلّ واحد إلى محلّه فامتثلوا ذلك،
فكانوا لما يطلعون إلى القلعة ويخرج عليهم الأسياد وأكبرهم أمير
علىّ يقوم الأمراء ويبوسون أيديهم ويقعدون ساعة لطيفة فيقوم أمير
علىّ ويشير بيده أمرا باسم الله فيقوم الأمراء وينصرفون بعد أن
يسقون مشروبا ووقع ذلك في غيبة السلطان مدّة يسيرة.
فلما كان يوم السبت ثالث ذى القعدة اتفق طشتمر اللفّاف وقرطاى
الطازى وأسندمر الصرغتمشى وأينبك البدرى وجماعة من المماليك
السلطانية وجماعة من مماليك الأسياد أولاد السلطان الملك الأشرف
وجماعة من مماليك الأمراء المسافرين صحبة السلطان الملك الأشرف
ولبسوا السلاح واتفق معهم من بالأطباق من المماليك السلطانية
وهجموا الجميع القلعة وقصدوا باب السّتارة فغلق سابق الدين مثقال
الزّمام باب الساعات ووقف داخل الباب ومعه الأمير جلبان اللّالا،
لالا أولاد السلطان وآقبغا جركس اللّالا أيضا، فدقّت المماليك
الباب وقالوا: أعطونا سيّدى أمير علىّ، فقال لهم اللّالا: من هو
كبيركم حتى نسلم لهم سيّدى عليّا! وأبى أن يسلمهم سيدى عليّا، وكثر
الكلام بينهم ومتقال الزّمام يصمّم على منع أمير علىّ فقالوا له:
السلطان الملك الأشرف مات: ونريد أن نسلطن ولده أمير علىّ، فلم
يلتفت مثقال الى كلامهم، فلما علموا المماليك ذلك، طلعوا جميعا
وكسروا شبّاك الزّمام المطلّ على باب الساعات، ودخلوا منه ونهبوا
بيت الزمام وقماشه، ثم نزلوا إلى رحبة باب السّتارة ومسكوا مثقالا
الزّمام وجلبان اللّالا وفتحوا الباب، فدخلت بقيّتهم وقالوا:
أخرجوا أمير علىّ، حتى نسلطنه فانّ أباه توفّى إلى رحمة الله
تعالى، فدخل الزمام على رغم أنفه وأخرج لهم أمير علىّ فأقعد في باب
الستارة، ثم أحضر الأمير أيدمر الشمسى فبوّسوه الأرض لأمير علىّ،
ثم أركبوا أمير علىّ على بعض خيولهم
(11/72)
وتوجّهوا به إلى الإيوان الكبير وأرسلوا
خلف الأمراء الذين بالقاهرة، فركبوا إلى سوق الخيل وأبوا أن يطلعوا
إلى القلعة فأنزلوا أمير علىّ إلى الإسطبل السلطان، حتى رأوه
الأمراء فلما رأوه طلعوا وقبّلوا له الأرض وحلفوا له، غير أنّ
الأمير طشتمر الصالحى وبلاط السّيفى ألجاى «1» الكبير وحطط رأس
نوبة النّوب لم يوافقوا ولا طلعوا، فنزلوا اليهم المماليك ومسكوهم
وحبسوهم بالقصر وعقدوا لأمير علىّ بالسلطنة ولقّبوه با «لملك
المنصور» على ما يأتى ذكره فى محله، ونسوق الواقعة على جليّتها.
ثم نادوا بالديار المصرية بالأمان والبيع والشراء، بعد أن أخذوا
خطوط سائر الأمراء المقيمين بمصر فأقاموا ذلك النهار وأصبحوا يوم
الأحد رابع ذى القعدة من سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وهم لابسون آلة
الحرب واقفون بسوق الخيل يتكلمون في إتمام أمرهم، وبينما هم في ذلك
جاءهم الخبر أنّ شخصا يسمّى قازان اليرقشىّ كان مسافرا صحبة
السلطان الملك الأشرف إلى الحجاز الشريف وجدوه متنكّرا فمسكوه
وأتوا به إلى الأمراء فسألوه عن خبر قدومه وعن أخبار السلطان، فأبى
أن يخبرهم بشيء وأنكر أنه لم يتوجّه إلى الحجاز، فأوهموه بالتوسيط
فأقرّ وأعلمهم الخبر بقدوم السلطان الملك الأشرف شعبان وكسرته من
مماليكه بالعقبة فقالوا له:
وما سبب هزيمة السلطان من عقبة أيلا «2» ؟ قال: لما نزل السلطان
الملك الأشرف بمن معه من أمرائه وعساكره إلى العقبة وأقام بها يوم
الثلاثاء ويوم الأربعاء سلخ
(11/73)
شوّال فطلب المماليك السلطانية العليق،
فقيل لهم اصبروا إلى منزلة الأزلم «1» : فغضبوا وامتنعوا من أكل
السّماط عصر يوم الأربعاء واتفقوا على الركوب، فلما كانت ليلة
الخميس المذكورة ركبوا على السلطان ورءوسهم الأمير طشتمر العلائىّ
ومبارك الطازىّ وصراى تمر المحمدىّ وقطلقتمر العلائىّ الطويل وسائر
مماليك الأسياد وأكثر المماليك السلطانية، فلما بلغ السلطان أمرهم
ركب بأمرائه وخاصّكيته وتواقعوا فانكسر السلطان وهرب هو ومن كان
معه من الأمراء وهم: صرغتمش الأشرفىّ وأرغون شاه الأشرفىّ وبيبغا
الأشرفىّ وبشتك الأشرفىّ وأرغون كتك ويلبغا الناصرىّ وصار السلطان
بهؤلاء إلى بركة عجرود «2» ، فنزل بها وهو مقيم به،
(11/74)
فقالوا له: كذبت قل لنا حقيقة أمره، فامتنع
وحلف، فأرادوا توسيطه حقيقة، فقال: أطلقونى أنا أدلّكم عليهم،
فأطلقوه فأخذهم وتوجّه بهم إلى قبّة النصر خارج القاهرة إلى محل
كان الأشرف نزل فيه بجماعته فوجدوا بالمكان أرغون شاه وصرغتمش
وبيبغا وبشتك وأرغون كتك وكان الذي توجّه مع قازان اليرقشىّ من
القوم أسندمر الصرغتمشىّ وطولو الصرغتمشىّ ومعهما جماعة كبيرة من
المماليك الذين ثاروا بالقاهرة، فقبضوا على الأمراء المذكورين
وسألوهم عن الملك الأشرف، فقالوا: فارقنا وتوجّه هو ويلبغا
الناصرىّ إلى القاهرة ليختفى بها، فقتلوا الأمراء المذكورين في
الحال وحزوا رءوسهم وأتوا بها إلى سوق الخيل ففرح بذلك بقيّة
الأمراء الذين هم أصل الفتنة وعلموا أنّ الأشرف قد زال ملكه.
وأمّا الملك الأشرف فإنه لما وصل إلى قبّة النصر توجّه منها نحو
القاهرة ومعه يلبغا الناصرىّ واختفى عند أستادار يلبغا الناصرىّ،
فلم يأمن على نفسه فتوجّه تلك الليلة من عند أستادار يلبغا
الناصرىّ الى بيت آمنة زوجة المشتولىّ «1» فاختفى عندها، فقلق عند
ذلك الأمراء الذين أثاروا الفتنة وخافوا عاقبة ظهور الأشرف وهم:
قرطاى الطازىّ وطشتمر اللفّاف وأسندمر الصرغتمشىّ وقطلوبغا البدرىّ
وألطنبغا السلطانىّ وبلاط الصغير ودمراش اليوسفىّ وأينبك البدرىّ
ويلبغا النظامىّ وطولو الصرغتمشىّ وهؤلاء الأمراء، وأمّا الأجناد
فكثير فاشتد قلقهم.
وبينماهم في ذلك في آخر نهار الأحد يوم قتلوا الأمراء المذكورين
بقبّة النصر، وقبل أن يمضى النهار جاءت امرأة إلى الأمراء وذكرت
لهم أنّ السلطان مختف عند آمنة
(11/75)
زوجة المشتولىّ في الجودرية «1» ، فقام
ألطنبغا من فوره ومعه جماعة وكبسوا بيت آمنة المذكورة فهرب السلطان
واختفى في بادهنج «2» البيت فطلعوا فوجدوه في البادهنج وعليه قماش
النساء، فمسكوه وألبسوه عدّة الحرب وأحضروه الى قلعة الجبل فتسلّمه
الأمير أينبك البدرىّ وخلا به وأخذ يقرّره على الذخائر فأخبره
الملك الأشرف بها وقيل. إنّ أينبك المذكور ضربه تحت رجليه عدّة
عصىّ. ثم أصبحوا في يوم الاثنين خنقوه وتولّى خنقه جاركس شادّ
عمائر ألجاى اليوسفىّ فأعطى جاركس المذكور إمرة عشرة واستقرّ شادّ
عمائر السلطان.
ثم بعد خنق الملك الأشرف لم يدفنوه، بل أخذوه ووضعوه في قفّة
وخيّطوا عليها ورموه في بئر، فأقام بها أياما إلى أن ظهرت رائحته،
فاطّلع عليه بعض خدّامه من الطواشيّة، ثم أخرجوه ودفنوه عند كيمان
«3» السيدة نفيسة وذلك الخادم يتبعهم من بعد حتى عرف المكان، فلما
دخل الليل أخذ جماعة من إخوته وخدمه ونقلوه فى تلك الليلة من موضع
دفنوه المماليك ودفنوه بتربة والدته خوند بركة بمدرستها التى بخطّ
التّبّانة في قبّة وحده، بعد أن غسّلوه وكفّنوه وصلّوا عليه وقيل:
غير ذلك وهو أنهم لمّا وجدوه في البيت المذكور وعليه قماش النّسوة
أركبوه على هيئة بازار خلف مملوك ومشوا خلفه وطلعوا به من على
قنطرة باب «4» الخلق وطلعوا به على
(11/76)
معديّة «1» فريج وطلعوا به من على الصّليبة
وقت الظهر، وكان من رآه
(11/77)
ظنه «1» أميرا من الأمراء وفعلوا ذلك خوفا
من العامّة فإنهم لو علموا أنه السلطان خلّصوه منهم ولو ذهبت
أرواحهم الجميع لمحبة الرعية في الأشرف المذكور.
ثم دخلوا بالأشرف إلى إسطبل بالقرب من الصليبة «2» ، مخافة من
العامّة لا يعرفون به لمّا تكاثروا للفرجة عليه، فأقام بالإسطبل
ونزل إليه قرطاى وقرّره على الذخائر، فقرّ له. ثم قتله ودفنه
بمصطبة بالإسطبل المذكور، فهذه رواية أخرى غير ما ذكرنا أوّلا
والأوّل أشهر وأظنه الأصحّ والأقوى.
وأمّا الذين تخلّفوا بالعقبة من الذين وثبوا على الملك الأشرف
وكسروه وهرب الأشرف إلى جهة الديار المصرية ولم يدركوه، فإنهم
اتّفقوا الجميع الأمراء وغيرهم وتوجّهوا إلى الخليفة المتوكّل على
الله وكان أيضا في صحبة السلطان الملك الأشرف وقالوا له: يا أمير
المؤمنين تسلطن ونحن بين يديك. وكانت العصائب السلطانية حاضرة
فامتنع الخليفة من ذلك.
هذا وهم لا يعلمون بما وقع بالديار المصرية من ركوب هؤلاء وسلطنة
أمير علىّ فإنّ كلّ طائفة وثبت على السلطان. وليس للأخرى بها علم
ولا كان بينهم
(11/78)
اتّفاقيّة على ذلك، وهذا من غريب الاتفاق،
كون الواقعة تكون في العقبة وينكسر السلطان.
ثم بعد ثلاثة أيام أو أقلّ تكون بمصر أيضا ويخلع الملك الأشرف
ويتسلطن ولده وكلاهما من غير مواعدة الأخرى، فنعوذ بالله من زوال
النعم.
ثم إنّ الأمراء والمماليك أقاموا بالعقبة بعد هروب السلطان يومين
وقد جهزوا للخليفة قماش السلطنة وآلة الموكب وألحّوا عليه بالسلطنة
وهو يمتنع وتوجّهت القضاة الى القدس للزيارة وردّ الحاجّ بأسره إلى
أبيار «1» العلائىّ وقد قصدوا العود إلى القاهرة وإبطال الحاج في
تلك السنة، فنهض الأمير بهادر الجمالىّ أمير الحاجّ وردّهم وحجّ
بهم. ولما تحقّقت الأمراء والمماليك أنّ الخليفة امتنع من السلطنة
رجعوا نحو الديار المصرية حتى وصلوا إلى عجرود، أتاهم الخبر بما
جرى من مسك السلطان الملك الأشرف وقتله فاطمأنوا فإنهم كانوا على
وجل ومنهم من ندم على ما فعل فإنه كان سببا لزوال دولة الملك
الأشرف ولم ينله ما آمل وخرج الأمر لغيره. ثم ساروا الجميع من
عجرود إلى أن وصلوا إلى بركة الحاجّ، فسار إليهم جماعة من القائمين
بمصر بآلة الحرب فتعبّوا لقتالهم، فأرسل طشتمر العلائىّ الدوادار
طليعة عليها قطلقتمر الطويل، فقاتلوه المصريون فكسرهم قطلقتمر وسار
خلفهم إلى قلعة الجبل، فلما قرب إلى القلعة تكاثروا عليه ومسكوه،
وفي ذلك الوقت حضر
(11/79)
إلى الديار المصرية الأمير آقتمر الصاحبى
نائب السلطنة بالديار المصرية وكان قد توجّه إلى بلاد الصعيد قبل
توجّه السلطان الملك الأشرف إلى الحجاز، فتلقاه أمراء مصر وعظّموه
وقالوا له: أنت نائب السلطنة على عادتك وأنت المتحدّث وكلّنا
مماليكك، فلم يسعه إلا مطاوعتهم على ما أرادوا وكان كلام الأمراء
لآقتمر الصاحبى بهذا القول، خوفا ممّن أتى من الأمراء والخاصكيّة
من العقبة.
ثم اتفق المصريون على قتال طشتمر الدوادار ومن أتى معه من العقبة
من المماليك الأشرفية وغيرها، فنزلوا اليهم من القلعة بعد المغرب
في جمع كبير والتقوا معهم على الصوّة «1» من تحت القلعة، تجاه
الطبلخاناة السلطانية وتقاتلوا، فانكسر طشتمر ومن معه من الأمراء
والمماليك الأشرقية وانهزموا بعد المغرب إلى ناحية الكيمان، فلما
كان الليل أرسل طشتمر طلب الأمان لنفسه، فأرسلوا له الأمان، فلما
حضر مسكوه وقيّدوه هو وجماعته وحبسوهم بالقلعة، وفيه يقول الأديب
شهاب الدين أحمد بن العطار. [الكامل]
إن كان طشتمر طغى ... وأتى بحرب مسرع
وبغى سيؤخذ عاجلا ... ولكلّ باغ مصرع
قلت: ما أشقى هؤلاء القوّم العصاة بالعقبة فإنهم كانوا سببا لزوال
ملك أستاذهم الملك الأشرف وذهاب مهجته من غير أن يحصل أحدهم على
طائل، بل ذهبت عنهم الدنيا والآخرة، فإنهم عصوا على أستاذهم وخلعوا
طاعته من غير موجب وشمل ضررهم على الحجاج وغيرهم وارتكبوا أمورا
قبيحة، فهذا ما حصلوه من الإثم.
وأما أمر الدنيا فإنها زالت عنهم بالكلية وخرج عنهم إقطاعاتهم
ووظائفهم وأرزاقهم ومنهم من قتل أشرّ قتلة ولم يقرّبهم ملك من
الملوك بعد ذلك، بل
(11/80)
صاروا مبعودين في الدّول وماتوا قهرا مما
قاسوه من الذل والهوان، حتى إننى رأيت منهم من كان عمّر واحتاج إلى
السؤال، وما ربك بظلّام للعبيد.
وكان السلطان الملك الأشرف- رحمه الله تعالى- من أجلّ الملوك سماحة
وشهامة وتجملا وسؤددا.
قال قاضى القضاة بدر الدين محمود العينى- رحمه الله- فى تاريخه:
كان ملكا جليلا لم ير مثله فى الحلم، كان هينا ليّنا محبّا لأهل
الخير والعلماء والفقراء مقتديا بالأمور الشّرعية واقفا عندها
محسنا لإخوته وأقار به وبنى أعمامه، أنعم عليهم وأعطاهم الإمريات
والإقطاعات وهذا لم يعهد من ملك قبله في ملوك الترك ولا غيرهم ولم
يكن فيه ما يعاب، سوى كونه كان محبّا لجمع المال. وكان كريما يفرّق
في كل سنة على الأمراء أقبية بطرز زركش والخيول المسوّمة بالكنابيش
الزركش والسلاسل الذّهب والسروج الذّهب وكذلك على جميع أرباب
الوظائف وهذا لم يفعله ملك قبله. انتهى كلام العينى باختصار- رحمه
الله تعالى-.
وقال غيره- رحمه الله- وكان ملكا جليلا شجاعا مهابا كريما هيّنا
ليّنا محبّا للرعية، قيل إنه لم يل الملك في الدولة التركية أحلم
منه ولا أحسن خلقا وخلقا وأبطل عدّه مكوس في سلطنته. والله أعلم.
قلت: حدّثنى العلامة علاء «1» الدّين على القلقشندى- تغمده الله
تعالى- الشافعى، قال حدّثنى العلّامة قاضى القضاة شمس الدين محمد
البساطىّ «2» المالكىّ
(11/81)
أنّ الملك الأشرف شعبان هذا كان من فطنته
وذكائه يعرف غالب أحوال القلاع الشامية وغيرها ويعرف كيف تؤخذ ومن
أين تحاصر معرفة جيّدة.
قلت: هذا دليل على الذّكاء المفرط والتيقّظ في أحوال مملكته.
انتهى.
ورأيت أنا كثيرا من المماليك الأشرفيّة وبهم رمق وقوّة في أوائل
الدولة الأشرفية برسباى منهم الأمير آق سنقر الأشرفىّ الحاجب وغيره
وكانت أيام الملك الأشرف شعبان المذكور بهجة وأحوال الناس في أيامه
هادئة مطمئنّة والخيرات كثيرة، على غلاء وقع في أيامه بالديار
المصرية والبلاد الشامية ومع هذا لم يختلّ من أحوال مصر شىء لحسن
تدبيره ومشى سوق أرباب الكمالات في زمانه من كل علم وفن؛ ونفقت في
أيامه البضائع الكاسدة من الفنون والملح وقصدته أربابها من الأقطار
وهو لا يكلّ من الاحسان إليهم في شىء يريده وشىء لا يريده، حتى
كلّمه بعض خواصّه في ذلك، فقال- رحمه الله-. أفعل هذا لئلا تموت
الفنون في دولتى وأيامى.
قلت. لعمرى إنه كان يحشى موت الفنون والفضائل؛ ولقد جاء من بعده من
قتلها صبرا، قبل أوان موتها ودفنها في القبور وعفّى أثرها، وما
أحسن قول أبى الطيب أحمد بن الحسين حيت يقول:
على قدر أهل العزم تأتى العزائم ... [وتأتى «1» على قدر الكرام
المكارم]
[الطويل] وخلّف الملك الأشرف [رحمه الله] من الأولاد ستّة بنين،
وهم الملك المنصور علىّ الذي تسلطن من بعده على ما يأتى ذكره وذكر
من قام بسلطنته مفصّلا- والملك الصالح أمير حاج وقاسم ومحمد
وإسماعيل وأبو بكر وولدت بعده خوند سمراء جاريته ولدا سمّوه أحمد
فصاروا سبعة.
(11/82)
وخلّف سبع بنات رأيت إحداهنّ بعد سنة عشرين وثمانمائة.
وكانت مدّة سلطنة الملك الأشرف أربع عشرة سنة وشهرين وعشرين يوما،
ومات وعمره أربع وعشرون سنة. وقد تقدّم مولده في أوّل ترجمته،
ورثاه الشعراء بعد موته بعدّة قصائد وحزن الناس عليه حزنا عظيما
وكثر تأسّفهم عليه. وعمل عزاؤه بالقاهرة عدّة أيام. وفيه يقول
الشيخ شهاب الدين أحمد بن العطار: [البسيط]
للملك الأشرف المنصور سيّدنا ... مناقب بعضها يبدو به العجب
له خلائق بيض لا يغيّرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذهب
وقال غيره: [الزجل]
كوكب السعد غاب من القلعه ... وهلا لو قد انطفا بأمان
وزحل قد قارن المرّيخ ... لكسوف شمس الضّحى شعبان
|