النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

[ما وقع من الحوادث سنة 816]
وأما قرقماس سيّدى الكبير فإنه وصل إلى غزّة وسار منها فى تاسع صفر وتوجّه

(14/6)


إلى صفد واجتمع بأخيه تغرى بردى سيّدى الصغير، وخرج فى أثرهما الأمير ألطنبغا العثمانى نائب غزّة، والجميع متوجّهون لقتال الأمير نوروز- وقد خرج نوروز إلى جهة حلب- ليأخذوا دمشق فى غيبة الأمير نوروز، فبلغهم عود نوروز من حلب إلى دمشق، فأقاموا بالرّملة «1» .
ثمّ قدم على السلطان آقبغا بجواب الأمير دمرداش المحمدى ونوّاب القلاع بطاعتهم أجمعين للسلطان الملك المؤيّد، وصحبته أيضا قاصد الأمير عثمان بن طرعلى المعروف بقرايلك، فخلع السلطان عليهما، وكتب جوابهما بالشكر والثناء.
ثم فى أوّل شهر ربيع الآخر قبض السلطان على الأمير قصروه من تمراز الظاهرىّ، وقيّده وأرسله إلى سجن الإسكندرية، وشرع الأمير نوروز كلما أرسل إلى الملك المؤيّد كتابا يخاطبه فيه بمولانا، ويفتتحه بالإمامى المستعين، فيعظم ذلك على الملك المؤيّد إلى الغاية.
ولما بلغ نوروز قدوم قرقماس بمن معه إلى الرّملة سار لحربه، وخرج من دمشق بعساكره، فلما بلغ قرقماس وأخاه ذلك عادا بمن معهما إلى جهة الدّيار المصرية عجزا عن مقاومته حتى نزلا بالصالحية «2» .
وأما الملك المؤيّد فإنه لما كان رابع جمادى الأولى أوفى النيل ستة عشر ذراعا فركب الملك المؤيّد من قلعة الجبل، ونزل فى موكب عظيم حتى عدّى النيل وخلّق المقياس على العادة، وركب الحرّاقة «3» لفتح خليج السّد، فأنشده شاعره وأحد ندمائه الشيخ تقي الدين أبو بكر بن حجّة الحموى الحنفى يخاطبه: [الطويل]

(14/7)


أيا ملكا بالله أضحى مؤيّدا ... ومنتصبا فى ملكه نصب تمييز
كسرت بمسرى سدّ مصر وتنقضى ... - وحقّك- يوم الكسر أيّام نوروز «1»
فحسن ذلك ببال السلطان الملك المؤيّد إلى الغاية، ثم ركب الملك المؤيّد وعاد إلى القلعة، وأصبح أمسك الوزير ابن البشيرى، وناظر الخاص «2» ابن أبى شاكر، وخلع على الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم باستقراره وزيرا عوضا عن [ابن] «3» البشيرى، فعاد تاج الدين إلى لبس الكتّاب، فإنه كان تزيّا بزىّ الجند لمّا استقرّ أستادارا «4» بعد مسك جمال الدين فى الدولة الناصرية، وتسلّم ابن البشيرىّ، وخلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الجيش باستقراره فى نظر الخاص عوضا عن ابن أبى شاكر، وخلع على علم الدين داود بن الكويز باستقراره ناظر الجيش «5» عوضا عن ابن نصر الله المذكور، ثم خلع السلطان على الأمير سودون الأشقر رأس نوبة النّوب باستقراره أمير مجلس، وكانت شاغرة عن الأمير يلبغا الناصرى، وخلع على الأمير جانى بك الصّوفىّ باستقراره رأس نوبة النّوب عوضا عن سودون الأشقر، وكان جانى بك الصّوفى قدم هو والأمير ألطنبغا العثمانى نائب

(14/8)


غزّة، وتغرى بردى سيّدى الصغير، وأخوه قرقماس سيدى الكبير المتولّى نيابة دمشق، فأقام الأخوان- أعنى قرقماس وتغرى بردى- على قطيا «1» ، ودخل جانى بك الصّوفى و [ألطنبغا] «2» العثمانى إلى القاهرة.
ثم فى سادس عشر جمادى الأولى المذكور أشيع «3» بالقاهرة ركوب الأمير طوغان الحسنى الدوادار على السّلطان ومعه عدّة من الأمراء والمماليك السّلطانيّة، وكان طوغان قد اتّفق مع جماعة على ذلك، ولمّا كان اللّيل انتظر طوغان أن أحدا يأتيه ممّن اتّفق معه فلم يأته أحد حتى قرب الفجر وقد لبس السّلاح وألبس مماليكه، فعند ذلك قام وتسحّب فى مملوكين واختفى، وأصبح الناس يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى والأسواق مغلقة والناس تترقّب وقوع فتنة، فنادى السلطان بالأمان، وأنّ من أحضر طوغان المذكور فله ما عليه مع خبز «4» فى الحلقة، ودام ذلك إلى ليلة الجمعة عشرينه فوجد «5» طوغان بمدينه مصر فأخذ وحمل إلى القلعة، وقيّد وأرسل إلى الإسكندرية صحبة الأمير طوغان أمير آخور الملك المؤيد.
ثم أصبح السلطان من الغد أمسك الأمير سودون الأشقر أمير مجلس والأمير كمشبغا العيساوىّ أمير شكار «6» ، وأحد مقدّمى الألوف، وقيّدا وحملا إلى

(14/9)


الإسكندرية صحبة الأمير برسباى الدّقماقى، أعنى الملك الأشرف الآتى ذكره فى محله إن شاء الله تعالى.
ثم بعد يومين وسّط «1» السلطان أربعة، أحدهم الأمير مغلباى نائب القدس من جهة الأمير نوروز، وكان قرقماس سيّدى الكبير قد قبض عليه وأرسله مع اثنين أخر إلى السلطان، فوسّط السلطان الثلاثة وآخر من جهة طوغان الدّوادار.
ثم فى يوم الاثنين ثامن عشرينه أنعم السلطان بإقطاع «2» طوغان على الأمير إينال الصّصلانى، وأنعم بإقطاع سودون الأشقر على الأمير تنبك البجاسىّ نائب الكرك «3» - كان- ثم خلع على الصّصلانى باستقراره أمير مجلس عوضا عن سودون الأشقر أيضا وخلع على الأمير قجق أيضا باستقراره حاجب الحجّاب عوضا عن الصّصلانى، وخلع على شاهين الأفرم أمير سلاح خلعة الرّضى؛ لأنه كان اتّهم بممالأة طوغان، ثم خلع السلطان على مملوكه الأمير جانى بك الدّوادار الثانى وأحد أمراء الطّبلخانات باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن طوغان الحسنى، وخلع على الأمير جرباش كبّاشة باستقراره أمير جاندار «4» .
ثم فى يوم الاثنين سلخ جمادى الأولى خلع السلطان على فخر الدين عبد الغنى ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبى الفرج كاشف «5» الشرقية والغربية باستقراره أستادارا

(14/10)


عوضا عن بدر الدين بن محب الدين، وخلع على بدر الدين المذكور باستقراره مشير الدولة «1» .
ثم فى يوم الأربعاء سادس شهر رجب قدم الأمير جار قطلو أتابك دمشق إلى الديار المصريّة»
فارّا من نوروز وداخلا فى طاعة الملك المؤيّد، فخلع عليه السلطان وأكرمه.
وفى ثامن شهر رجب كان مهمّ «3» الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان الملك المؤيد على بنت السلطان الملك الناصر فرج، وهى التى كان تزوّجها بكتمر جلّق فى حياة والدها.
ثم قدم الأمير ألطنبغا القرمشىّ الظاهرى نائب صفد إلى القاهرة فى ثامن عشر شهر رجب باستدعاء، وقد استقرّ عوضه فى نيابة صفد الأمير قرقماس «4» ابن أخى دمرداش، وعزل عن نيابة الشّام؛ كونه لم يتمكن من دحول دمشق لأجل الأمير نوروز الحافظىّ، وكان قرقماس المذكور من يوم ولى نيابة دمشق، وخرج من القاهرة ليتوجّه إلى الشام، صار يتردّد بين غزّة والرّملة، فلما طال عليه الأمر ولّاه الملك المؤيّد نيابة صفد، واستقرّ أخوه تغرى بردى سيدى الصغير فى نيابة غزّة عوضا عن ألطنبغا العثمانى، وعند ما دخل قرقماس إلى صفد قصده الأمير نوروز، فأراد قرقماس أن يطلع إلى قلعة صفد مع أخيه تغرى بردى فلم يتمكن منها هو ولا أخوه، فعاد إلى الرّملة، ولا زال قرقماس بالرّملة إلى أن طال عليه الأمر قصد القاهرة حتى دخلها فى يوم ثامن عشر شعبان، فأكرمه السلطان وأنعم عليه، وأقام أخوه

(14/11)


تغرى بردى على قطيا، وهذا كان دأبهم أنهم الثلاثة لا تجتمع عند ملك: أعنى دمرداش وأولاد أخيه قرقماس وتغرى بردى، فدام قرقماس بديار مصر وهو آمن على نفسه كون عمه الأمير دمرداش المحمدى فى البلاد الحلبيّة.
وأما أمر دمرداش المذكور فإنه لما أخذ حلب قصده الأمير نوروز فى أوّل صفر وسار من دمشق بعساكره حتى نزل حماة فى تاسع صفر، فلما بلغ دمرداش ذلك خرج من حلب فى حادى عشر صفر ومعه الأمير بردبك أتابك حلب والأمير شاهين الأيد كارى حاجب حجّاب حلب، والأمير أردبغا الرشيدى، والأمير جربغا، وغيرهم من عساكر حلب، ونزل دمرداش بهم على العمق «1» ، فحضر إليه الأمير كردى بن كندر «2» وأخوه عمر وأولاد أوزر، ودخل الأمير نوروز إلى حلب فى ثالث عشر صفر بعد ما تلقّاه الأمير آقبغا چركس نائب القلعة بالمفاتيح.
فولّى نوروز الأمير طوخا نيابة حلب عوضا عن يشبك بن أزدمر برغبة يشبك عنها لأمر اقتضى ذلك، وولّى الأمير يشبك الساقى الأعرج نيابة قلعة حلب، وولّى عمر بن الهيدبانى حجوبيّة حلب، وولّى الأمير قمش «3» نيابة طرابلس.
ثم خرج نوروز من حلب فى تاسع عشر صفر عائدا إلى نحو دمشق، ومعه الأمير يشبك بن أزدمر، فقدم دمشق فى سادس عشرين صفر المذكور، وبعد خروج نوروز من حلب قصدها الأمير دمرداش المقدم ذكره حتى نزل على بانقوسا «4» فى يوم سادس عشرين صفر أيضا، فخرج إليه

(14/12)


طوخ بمن معه من أصحاب نوروز وقاتلوه قتالا شديدا إلى ليلة ثامن عشرين صفر قدم عليه الخبر بأن الأمير عجل بن نعير قد أقبل لمحاربته نصرة للأمير نوروز فلم يثبت دمرداش لعجزه عن مقاومته، ورحل بمن معه من ليلته إلى العمق، ثم سار إلى أعزاز «1» فأقام بها.
فلما كان عاشر شهر ربيع الأوّل بعث طوخ نائب حلب عسكرا إلى سرمين «2» وبها آقبلاط دوادار دمرداش المذكور فكبسوه، فثار عليهم هو وشاهين الأيد كارى ومن معهما من التّراكمين وقاتلوهم وأسروا منهم جماعة كثيرة وبعثوا بهم إلى الأمير دمرداش، فسجن دمرداش أعيانهم فى قلعة بغراس «3» وجدع أنا فى أكثرهم، وأطلقهم عراة، وقتل بعضهم.
فلما بلغ طوخ الخبر ركب من حلب ومعه الأمير قمش نائب طرابلس وسار إلى تلّ باشر «4» وقد نزل عليه العجل بن نعير «5» ، فسأله طوخ أن يسير معهما لحرب دمرداش، فأنعم «6» بذلك ثم تأخر عنهما قليلا، فبلغهما أنّه اتّفق مع دمرداش على مسكهما، فاستعدّا له وترقّباه حتى ركب إليهما فى نفر قليل ونزل عندهما ودعاهما إلى ضيافته وألحّ عليهما فى ذلك، فثارا به ومعهم جماعة من أصحابهما فقتلوه بسيوفهم فى رابع عشرين شهر ربيع الأول، ودخلا من فورهما عائدين إلى حلب، وكتبا بالخبر

(14/13)


إلى «1» نوروز وطلبا منه نجدة؛ فإن حسين بن «2» نعير قد جمع العرب ونزل على دمرداش فسار به دمرداش إلى حلب وحصرها، وصعد طوخ وقمش إلى قلعة حلب واشتدّ القتال بينهم إلى أن انهزم دمرداش وعاد إلى جهة العمق، وشاور أصحابه فيما يفعل وتحيّر فى أمره بين أن ينتمى إلى نوروز ويصير معه على رأيه- وكان قد بعث إليه بألف دينار ودعاه إليه- وبين أن يقدم على السلطان الملك المؤيّد شيخ، فأشار عليه جلّ أصحابه بالانتماء إلى نوروز إلا آق بلاط دواداره فإنه أشار عليه بالقدوم على السلطان، فسأله دمرداش عن ابن أخيه قرقماس وعن تغرى بردى فقال: قرقماس فى صفد وتغرى بردى فى غزّة، وكان ذلك بدسيسة دسّها الملك المؤيد لآق بلاط المذكور، فمال عند ذلك دمرداش إلى كلامه، وركب البحر حتى خرج من الطينة «3» وقدم إلى القاهرة «4» فى أوّل شهر رمضان، فأكرمه السلطان وخلع عليه.
ولما قدم دمرداش إلى القاهرة وجد قرقماس بها وتغرى بردى بالصّالحية، فندم على قدومه وقال لابن أخيه قرقماس: ما هذه العملة؟ أنت تقول إنك بصفد فألقاك بمصر، فقال قرقماس: ومن أيش تتخوف ياعم؟ هذا يمكنه القبض علينا ومثل نوروز يخاصمه؟! إذا أمسكنا بمن يلقى نوروز ويقاتله؟ والله ما أظنك إلّا قد كبرت ولم يبق فيك بقيّة إلّا لتعبئة العساكر لاغير، فقال له دمرداش: سوف ننظر، واستمرّ دمرداش وقرقماس بالقاهرة إلى يوم سابع شهر رمضان المذكور عيّن السلطان جماعة من الأمراء لكبس عربان الشّرقيّة، وهم: سودون القاضى، وقجقار القردمىّ، وآقبردى المنقار المؤيّدى رأس نوبة، ويشبك المؤيّدى شادّ الشّراب خاناه «5» ، وأسرّ إليهم

(14/14)


السلطان فى الباطن بالتوجّه إلى تغرى بردى المدعو سيّدى الصغير ابن أخى دمرداش، والقبض عليه، وحمله مقيّدا إلى القاهرة، وكان تغرى بردى المذكور نازلا بالصّالحية، فساروا فى ليلة السبت ثامنه، وأصبح السلطان فى آخر يوم السبت المذكور استدعى الأمراء للفطر عنده، ومدّ لهم سماطا عظيما، فأكلوا منه وتباسطوا، فلمّا رفع السّماط قام السلطان من مجلسه إلى داخل، وأمر بالقبض على دمرداش المحمدى وعلى ابن أخيه قرقماس وقيّدهما «1» وبعثهما من ليلته إلى الإسكندرية فسجنا بها، وبعد يوم حضر الأمراء ومعهم تغرى بردى سيّدى الصغير مقيّدا «2» ، وكان الملك يكرهه؛ فإنه لم يزل فى أيام عصيانه مباينا له، فحبسه بالبرج بقلعة الجبل، ثم سجد المؤيد لله شكرا الذي ظفّره بهؤلاء الثلاثة الذين كان الملك الناصر [فرج «3» ] عجز عنهم، ثم قال: الآن بقيت سلطانا.
وبقى تغرى بردى المذكور مسجونا بالبرج إلى أن قتل ذبحا فى ليلة عيد الفطر، وقطعت رأسه وعلّقت على الميدان.
ثم خلع السلطان على الأمير قانى باى المحمدى الأمير آخور باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن نوروز الحافظىّ، وخلع على الأمير ألطنبغا القرمشىّ المعزول عن نيابة صفد باستقراره أمير آخور كبيرا عوضا عن قانى باى المذكور، وخلع على الأمير إينال الصّصلانى أمير مجلس باستقراره فى نيابة حلب، وخلع على الأمير سودون قراصقل باستقراره فى نيابة غزّة عوضا عن تغرى بردى سيّدى الصغير.
ثم خلع السلطان على قاضى القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفى بعوده إلى قضاء القضاة بالديار المصريّة بعد موت قاضى القضاة صدر الدين على بن الأدمىّ الدّمشقى.

(14/15)


ثم فى ثامن شوال خلع السلطان على بدر الدين بن محب الدين المشير باستقراره فى نيابة الإسكندرية بعد عزل خليل التّبريزىّ «1» الدّشارىّ.
ثم عدّى السلطان- فى يوم الخميس ثالث ذى القعدة- إلى برّ الجيزة إلى وسيم «2» حيث مربط خيوله، وأقام به إلى يوم الاثنين حادى عشرينه، وطلع إلى القلعة ونصب جاليش «3» السفر «4» على الطّبلخاناه السلطانية؛ ليتوجّه السلطان لقتال نوروز، وأخذ السلطان فى الاستعداد هو وأمراؤه وعساكره حتى خرج فى آخر ذى القعدة الأمير إينال الصّصلانى نائب حلب وسودون قراصقل «5» نائب غزّة إلى الرّيدانيّة «6» خارج القاهرة، ثم خرج الأمير قانى باى المحمدى نائب الشام فى يوم الخميس سادس عشر ذى الحجّة ونزل أيضا بالرّيدانيّة.
وفى يوم الخميس المذكور خلع المستعين بالله العباس من الخلافة واستقرّ فيها أخوه المعتضد داود، وقد تقدّم ذكر ذلك فى ترجمة المستعين المذكور «7» .
ثم شرع السلطان فى النّفقة على المماليك السلطانية لكل واحد مائة دينار ناصرية «8» ، ثم رحل قانى باى نائب الشام من الرّيدانيّة.

(14/16)


وفى ثامن عشرينه غضب السلطان على الوزير تاج الدين عبد الرّزّاق بن الهيصم، وضربه وبالغ فى إهانته، ثم رضى عنه وخلع عليه خلعة الرّضى. ثم فى سابع عشرينه نصب خام «1» السلطان بالرّيدانية.
قال المقريزى رحمه الله: وفى هذا الشهر قدم الأمير فخر الدين بن أبى الفرج من بلاد الصعيد فى ثالث عشرينه، بخيل وجمال وأبقار وأغنام كثيرة جدا، وقد جمع المال من الذّهب وحلىّ النّساء وغير ذلك من العبيد والإماء والحرائر اللاتى استرقّهن، ثم وهب منهنّ وباع باقيهنّ؛ وذلك أنه عمل فى بلاد الصعيد كما يعمل رءوس المناسر «2» إذا هم هجموا ليلا على القرية؛ فإنه كان ينزل ليلا بالبلد فينهب جميع ما فيها من غلال وحيوان، وسلب النساء حليّهن وكسوتهن بحيث لا يسير عنها لغيرها حتى يتركها عريانة، فخربت- بهذا الفعل- بلاد الصّعيد تخريبا يخشى من سوء عاقبته، فلمّا قدم إلى القاهرة شرع فى رمى «3» الأصناف المذكورة على الناس من أهل المدينة وسكّان الرّيف وذلك بأغلى الأثمان، ويحتاج من ابتلى بشىء من ذلك أن يتكلف لأعوانه من الرّسل ونحوهم شيئا كثيرا- انتهى كلام المقريزى.
[ما وقع من الحوادث سنة 817]
ثم إن السلطان الملك للؤيّد لما كان يوم الاثنين رابع محرم سنة سبع عشرة وثمانمائة ركب من قلعة الجبل بأمرائه وعساكره بعد طلوع الفجر، وسار حتى نزل بمخيّمه من الرّيدانيّة خارج القاهرة من غير تطليب «4» . ثم خرجت الأطلاب والعساكر فى أثناء النهار بعد أن خلع على الأمير ألطنبغا العثمانى بنيابة الغيبة «5» ، وأنزله بباب

(14/17)


السّلسلة، وجعل بقلعة الجبل بردبك قصقا، وجعل بباب السّتارة «1» من قلعة الجبل الأمير صوماى الحسنىّ، وجعل الحكم بين الناس للأمير قجق الشّعبانىّ حاجب الحجّاب. ثم رحل الأمير يلبغا النّاصرىّ أتابك العساكر جاليشا «2» بمن معه من الأمراء فى يوم الجمعة ثامنه، ثم استقلّ السلطان ببقيّة عساكره من الرّيدانيّة فى يوم السبت تاسعه، وسار حتى نزل بغزّة فى يوم الثلاثاء تاسع عشر المحرّم، وأقام بها أيّاما إلى أن رحل منها فى تاسع عشرينه، وسار على هينته «3» حتى نزل على قبّة يلبغا «4» خارج دمشق فى يوم الأحد ثامن صفر من سنة سبع عشرة المذكورة، ولم يخرج نوروز لقتاله، فحمد الله- المؤيد- على ذلك، وعلم ضعف أمره؛ فإنّه لو كان فيه قوة كان التقاه من أثناء طريقه.
وكان سير الملك المؤيّد على هينته حتى يبلغ نوروز خبره ويطلع إليه فيلقاه فى الفلا، فلما تأخر نوروز عن الطلوع اطمأنّ الملك المؤيد لذلك وقوى بأسه، غير أن نوروز حصّن مدينة دمشق وقلعتها وتهيّأ لقتاله، فأقام السلطان بقبّة يلبغا أيّاما، ثم رحل منها ونزل بطرف القبيبات «5» ، وكان السلطان فى طول طريقه إلى دمشق يطلب موقّعى «6» أكابر أمرائه خفية ويأمرهم أن يكتبوا على لسان مخاديمهم إلى نوروز أنّنا بأجمعنا معك، وغرضنا كلّه عندك، ويكثر من الوقيعة فى الملك المؤيد ثم يقول فى الكتاب وإنّك لا تخرج من دمشق وأقم مكانك فإننا جميعا نفرّ من المؤيد ونأتيك

(14/18)


ثم يضع من نفسه ويرفع أمر نوروز ويعد محاسنه ويذكر مساوئ نفسه، فمشى ذلك على نوروز وانخدع له، مع ما كان حسّن له أيضا بعض أصحابه فى عدم الخروج والقتال، أرادوا بذلك ضجر الملك المؤيد وعوده إلى الديار المصرية بغير طائل حتى يستفحل أمرهم بعوده، فكان مراد الله غير ما أرادوا.
ثم أرسل السلطان الملك المؤيد قاضى القضاة مجد الدين سالم الحنبلى إلى الأمير نوروز فى طلب الصّلح فامتنع نوروز من ذلك وأبى إلّا الحرب والقتال، وكان ذلك أيضا خديعة من الملك المؤيد، وعندما نزل الملك المؤيّد بطرف القبيبات خرج إليه عساكر نوروز فندب إليهم السلطان جماعة كبيرة من عسكره فخرجوا إليهم وقاتلوهم قتالا شديدا، فانكسر عسكر نوروز وعاد إلى دمشق، فركب نوروز فى الحال وطلع «1» إلى قلعة دمشق وامتنع بها، فركب الملك المؤيد فى سادس عشرينه ونزّل بالميدان يحاصر قلعة دمشق.
ولما قيل للمؤيد إن نوروز طلع إلى قلعة دمشق لم يحمل الناقل له على الصّدق، وأرسل من يثق به فعاد عليه الخبر بطلوعه إليها، فعند ذلك تعجّب غاية العجب، فسأله بعض خواصّه عن ذلك فقال: ما كنت أظن أن نوروز يطلع القلعة وينحصر فيها أبدا؛ لما سمعته منه لمّا دخل الملك الناصر إلى قلعة دمشق، وهو أنه لمّا بلغنا أن الناصر دخل إلى قلعة دمشق قال نوروز: ظفرنا به وعزّة الله، فقلت: وكيف ذلك؟
فقال: الشخص لا يدخل القلعة ويمتنع بها إلا إذا كان خلفه نجدة، أو أخصامه لا يمكنهم محاصرته إلا مدّة يسيرة ثم يرحلون عنه، وهذا ليس له نجدة، ونحن لو أقمنا على حصاره سنين لا نذهب إلا به فهو مأخوذ لا محالة، فبقى هذا الكلام فى ذهنى، وتحققت أنه متى حصل له خلل توجّه إلى بلاد التّركمان ويتعبنى أمره لعلمى به أنه لا يدخل إلى القلعة- بعد ما سمعت منه ذلك- أبدا، فأتاه ما قاله فى حقّ الناصر، وحسن بباله الامتناع بالقلعة حتى طلعها، فلهذا تعجّبت.

(14/19)


وأخذ المؤيد فى محاصرته، واستدام الحرب بينهم أيّاما كثيرة فى كل يوم حتى قتل من الطائفتين خلائق، فلمّا طال الأمر فى القتال أخذ أمر الأمير نوروز فى إدبار، وصار أمر الملك المؤيد فى استظهار.
فلمّا وقع ذلك وطال القتال على النّوروزيّة سئموا من القتال وشرعوا يسمعون نوروز الكلام الخشن، وهدمت المؤيديّة طارمة «1» دمشق، كلّ ذلك والقتال عمّال فى كل يوم ليلا ونهارا والرّمى مستدام من القلعة بالمناجيق ومكاحل النّفط، وطال الأمر على الأمير نوروز حتى أرسل الأمير قمش إلى الملك المؤيد فى طلب الصّلح، وتردّدت الرسل بينهم غير مرّة حتى أنبرم الصّلح بينهم بعد أن حلف الملك المؤيّد لنوروز بالأيمان المغلّظة، وكان الذي تولى تحليف الملك المؤيد كاتب سرّه القاضى ناصر الدين محمد بن البارزىّ.
حكى لى القاضى كمال الدين ابن القاضى ناصر الدين محمد بن البارزىّ كاتب السّرّ الشّريف من لفظه- رحمه الله- قال: قال الوالد لمّا أخذت فى تحليف الملك المؤيد بحضرة رسل الأمير نوروز والقضاة قد حضروا أيضا، فشرعت ألحن فى اليمين عامدا فى عدّة كلمات حتى خرج معنى اليمين عن مقصود نوروز فالتفت القاضى ناصر الدين محمد بن العديم الحنفىّ- وكان فيه خفّة- وقال للقاضى الشافعى: كأنّ القاضى ناصر الدين بن البارزىّ ليس له ممارسة بالعربية والنّحو فإنّه يلحن لحنّا فاحشا، فسكّته البلقينىّ لوقته.
قلت: وكان هذا اليمين بحضرة جماعة من فقهاء التّرك من أصحاب نوروز فلم يفطن أحد منهم لذلك لعدم ممارستهم لهذه العلوم، وإنّما جلّ مقصود الواحد منهم [أن] «2» يقرأ مقدمة فى الفقه ويحلّها على شيخ من الفقهاء أهل الفروع، فعند ذلك يقول: أنا

(14/20)


صرت فقيها، وليته يسكت بعد ذلك، ولكنه يعيب أيضا على ما عدا الفقه من العلوم، فهذا هو الجهل بعينه- انتهى.
ثم عادت رسل نوروز إليه بصورة الحلف، فقرأه عليه بعض من عنده من الفقهاء من تلك المقولة، وعرّفه أن هذا اليمين ما بعده شىء، فاطمأنّ لذلك، ونزل من قلعة دمشق بمن معه من الأمراء والأعيان فى يوم حادى عشرين ربيع الآخر بعد ما قاتل الملك المؤيّد نحوا من خمسة وعشرين يوما أو أزيد، ومشى حتّى دخل على الملك المؤيد، فلما رآه المؤيد قام له، فعند ذلك قبّل نوروز الأرض وأراد أن يقبّل يده فمنعه الملك المؤيد من ذلك، وقعد الأمير نوروز بإزائه، وتحته أصحابه من الأمراء، وهم: الأمير يشبك بن أزدمر، وطوخ، وقمش، وبرسبغا، وإينال الرّجبىّ وغيرهم، والمجلس مشحون بالقضاة «1» والفقهاء والعساكر السلطانية، فقال القضاة: والله هذا يوم مبارك بالصّلح وبحقن الدّماء بين المسلمين، فقال القاضى ناصر الدين بن البارزىّ كاتب السّرّ:
نهار مبارك لو تمّ ذلك، فقال الملك المؤيّد: وكيف «2» لا يتمّ وقد حلفنا له وحلف لنا؟
فقال القاضى ناصر الدين للقضاة: يا قضاة، هل صحّ يمين السلطان؟ فقال قاضى القضاة جلال الدين البلقينى: لا والله لم يصادف غرض المحلف، فعند ذلك أمر الملك المؤيد بالقبض على الأمير نوروز ورفقته، فقبض فى الحال على الجميع، وقيّدوا وسجنوا بمكان من الإسطبل إلى أن قتل الأمير نوروز من ليلته، وحملت رأسه إلى الديار المصرية على يد الأمير جرباش، فوصلت القاهرة فى يوم الخميس مستهلّ جمادى الأولى، وعلّقت على باب زويلة، ودقّت البشائر، وزيّنت القاهرة لذلك.
ثم أخذ الملك المؤيّد فى إصلاح أمر مدينة دمشق، ومهدّ أحوالها، ثم خرج منها فى ثامن جمادى الأولى يريد حلب حتى قدمها بعساكره، وأقام بها إلى آخر الشهر

(14/21)


المذكور، ثم سار منها فى أول جمادى الآخرة إلى أبلستين «1» ، ودخل إلى ملطية «2» واستناب بها الأمير كزل، ثم عاد إلى حلب، وخلع على نائبها الأمير إينال الصّصلانى باستمراره، ثم خلع على الأمير تنبك البجاسىّ باستقراره فى نيابة حماة، وعلى الأمير سودون من عبد الرحمن باستقراره فى نيابة طرابلس، وعلى الأمير جانى بك الحمزاوى بنيابة قلعة الرّوم «3» بعد ما قتل نائبها الأمير طوغان.
ثم خرج السلطان من حلب، وعاد إلى دمشق، فقدمها فى ثالث شهر رجب، وخلع على نائبها الأمير قانى باى المحمدى باستمراره، ثم خرج السلطان من دمشق بأمرائه وعساكره فى أول شعبان بعد ما مهدّ أمور البلاد الشاميّة، ووطّن «4» التّركمان والعربان وخلع عليهم، وسار حتى دخل القدس فى ثانى عشر شعبان فزاره، ثم خرج منه وتوجّه إلى غزّة حتى قدمها، وخلع على الأمير طرباى الظّاهرى بنيابة غزّة، ثم خرج منها عائدا إلى الدّيار المصرية حتى نزل على خانقاه سرياقوس «5» يوم الخميس رابع عشرين شعبان، فأقام هناك بقيّة الشهر، وعمل بها أوقاتا طيّبة، وأنعم فيها على الفقهاء والصّوفية بمال جزيل، وكان يحضر السّماع بنفسه، وتقوم الصّوفيّة تتراقص وتتواجد بين يديه، والقوّال يقول وهو يسمعه ويكرّر منه ما يعجبه من الأشعار الرقيقة، ودخل حمّام الخانقاه المذكورة غير مرّة، وخرج الناس لتلقّيه إلى خانقاه سرياقوس المذكورة حتى صار طريقها فى تلك الأيام كالشّارع الأعظم «6» ؛ لممرّ الناس فيه ليلا ونهارا.

(14/22)


ودام السلطان هناك إلى يوم سلخ شعبان ركب من الخانقاه بخواصّه، وسار حتى نزل بالرّيدانية تجاه مسجد التّبن «1» ، وبات حتى أصبح فى يوم الخميس أول شهر رمضان ركب وسار إلى القلعة حتى طلع إليها، فكان لقدومه القاهرة يوما مشهودا، ودقت البشائر لوصوله.
وعندما استقرّ به الجلوس انتقض عليه ألم رجليه من ضربان المفاصل، ولزم الفراش وانقطع بداخل الدّور السلطانية من القلعة، ثم أخرج السلطان فى ثامن شهر رمضان الأمير جرباش كبّشة بطّالا إلى القدس الشريف، ورسم أيضا بإخراج الأمير أرغون من بشبغا أمير آخور- كان- فى الدولة الناصرية إلى القدس بطالا، ثم خلع السلطان على الأمير ألطنبغا العثمانى باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية بعد موت الأمير يلبغا الناصرى.
ثم نصل السلطان من مرضه، وركب من قلعة الجبل يوم عاشر شهر رمضان، وشقّ القاهرة، ثم عاد إلى القلعة، ورسم بهدم الزّينة- وكان ركوبه لرؤيتها- فهدمت.
ثم فى ثانى عشرة أمسك الأمير قجق الشّعبانى حاجب الحجاب، والأمير بيبغا المظفّرى، والأمير تمان تمر أرق، وقيّدوا وحملوا إلى ثغر الإسكندرية فحبسوا بها، والثلاثة جنسهم تتر، ومسفّرهم الأمير صوماى الحسنىّ، وبعد أن توجّه بهم صوماى المذكور إلى الإسكندرية كتب باستقراره فى نيابتها، وعزل بدر الدين بن محب الدين عنها.
ثم خلع السلطان على سودون القاضى باستقراره حاجب الحجّاب بديار مصر عوضا

(14/23)


عن قجق الشعبانى، وعلى الأمير قجقار القردمىّ باستقراره أمير مجلس عوضا عن بيبغا المظفّرى، وعلى الأمير جانى بك الصّوفى رأس نوبة النّوب باستقراره أمير سلاح بعد موت شاهين الأفرم، وخلع على الأمير كزل العجمى حاجب الحجاب- كان- فى دولة الملك الناصر باستقراره أمير جاندار عوضا عن الأمير جرباش كبّاشة، ثم خلع على الأمير تنبك العلائى الظاهرى المعروف ميق باستقراره رأس نوبة النّوب عوضا عن جانى بك الصوفى، وخلع على الأمير آقباى المؤيدى الخازندار باستقراره دوادارا كبيرا بعد موت الأمير جانى بك المؤيدى.
ثم أعيد ابن محب الدين المعزول عن نيابة الإسكندرية إلى وظيفة الأستادارية فى يوم الاثنين سادس عشرين شهر رمضان بعد فرار فخر الدين عبد الغنى بن أبى الفرج إلى بغداد.
وخبر فخر الدين المذكور أنه لما خرج من الديار المصرية إلى البلاد الشامية صحبة السّلطان، ووصل إلى حماة داخله الخوف من السلطان فهرب فى أوائل شهر رجب إلى جهة بغداد، فسدّ ناظر ديوان المفرد «1» تقىّ الدين عبد الوهاب بن أبى شاكر الأستادارية فى هذه المدّة إلى أن ولى ابن محبّ الدين.
وفى شهر رمضان المذكور أفرج السلطان عن الأمير كمشبغا العيساوىّ من سجن الإسكندرية، وقدم القاهرة، ونقل الأمير سودون الأسندمرىّ والأمير قصروه من تمزاز، والأمير شاهين الزّرد كاش والأمير كمشبغا الفيسىّ إلى ثغر دمياط.
وفى أواخر ذى الحجّة قدم مبشّر الحاج وأخبر بأن الأمير جقمق «2» الأرغون شاوىّ الدّوادار الثانى أمير الحاج وقع بينه وبين أشراف مكّة وقعة فى خامس ذى الحجة، وخبر ذلك أن جقمق المذكور ضرب أحد عبيد مكة وحبسه؛ لكون أنه حمل السلاح

(14/24)


فى الحرم الشريف، وكان قد منع من ذلك، فثارت بسبب ذلك فتنة انتهك فيها حرمة المسجد الحرام، ودخلت الخيل إليه عليها المقاتلة من قوّاد مكة لحرب الأمير جقمق، وأدخل جقمق أيضا خيله إلى المسجد [الحرام] «1» فباتت به وأوقدت مشاعله بالحرم، وأمر بتسمير أبواب الحرم فسمّرت كلّها إلا ثلاثة أبواب ليمتنع من يأتيه، فمشت الناس بينهم فى الصّلح، وأطلق جقمق المضروب فسكتت الفتنة من الغد بعد ما قتل جماعة، ولم يحج أكثر أهل مكة فى هذه السنة من الخوف.
ثم قدم الخبر أيضا على الملك المؤيد فى هذا الشهر بأن الأمير يغمور بن بهادر الدكرىّ مات هو وولده فى يوم واحد بالطاعون فى أول ذى القعدة، وأن قرا يوسف ابن قرا محمد صاحب العراق انعقد بينه وبين القان شاه رخّ بن تمرلنك «2» صلح، وتصاهرا، فشقّ ذلك على الملك المؤيد.
[ما وقع من الحوادث سنة 818]
وفى أثناء ذلك قدم عليه الخبر بأن الأمير محمد بن عثمان صاحب الرّوم كانت بينه وبين محمد بك بن قرمان وقعة عظيمة انهزم فيها ابن قرمان ونجا بنفسه، كل ذلك والسلطان فى سرحة البحيرة بترّوجة «3» إلى أن قدم إلى الديار المصرية فى يوم الخميس ثانى المحرم من سنة ثمانى عشرة وثمانمائة بعد ما قرّر على من قابله من مشايخ البحيرة أربعين ألف دينار، وكانت مدّة غيبة السلطان بالبحيرة ستّين يوما.
ثم فى عاشر المحرم أفرج السلطان عن الأمير بيبغا المظفرى أمير مجلس، وتمان تمر أرق اليوسفى من سجن الإسكندرية.
ثم قدم كتاب فخر الدين بن أبى الفرج من بغداد أن يقيم بالمدرسة المستنصرية، وسأل

(14/25)


العفو عنه فأجيب إلى ذلك، وكتب له أمان، ثم أمر السلطان بقتل الأمراء الذين بسجن الإسكندرية، فقتلوا بأجمعهم فى يوم السبت ثامن عشر المحرم، وهم: الأتابك دمرداش المحمدى بعد أن قتل ابن أخيه قرقماس بمدّة، والأمير طوغان الحسنى الدّوادار، والأمير سودون تلّى المحمدى، والأمير أسنبغا الزّردكاش والجميع معدودة من الملوك، وأقيم عزاؤهم بالقاهرة فى يوم خامس عشرين، فكان ذلك اليوم من الأيام المهولة من مرور الجوارى المسبيّات الحاسرات بشوارع القاهرة، ومعهم الملاهى والدّفوف.
هذا وقد ابتدأ الطاعون بالقاهرة.
ثم فى ثامن صفر ركب السلطان من قلعة الجبل وسار إلى نحو منية مطر المعروفة الآن بالمطرية خارج القاهرة، وعاد إلى القاهرة من باب النّصر، ونزل بالمدرسة الناصرية المعروفة الآن بالجمالية «1» برحبة باب العيد «2» ، ثم ركب منها وعبر إلى بيت الأستادار بدر الدين بن محب الدين فأكل عنده السّماط، ومضى إلى قلعة الجبل.
وفى ثامن عشر «3» صفر خلع على القاضى علاء الدين على بن محمود بن أبى بكر بن مغلى الحنبلى الحموىّ باستقراره قاضى قضاة الحنابلة بالديار المصرية، بعد عزل قاضى القضاة مجد الدين سالم.
وفى يوم السبت عاشر صفر المذكور ابتدأ السلطان بعمل السد بين الجامع الجديد «4»

(14/26)


الناصرى وبين جزيرة الرّوضة، وندب لحفره الأمير كزل العجمى الأجرود أمير جاندار، فنزل كزل المذكور وعلّق مائة وخمسين رأسا من البقر لتجرف الرمال وعملت أيّاما، ثم ندب السلطان الأمير سودون القاضى حاجب الحجاب لهذا العمل، فنزل هو أيضا واهتم غاية الاهتمام، ودام العمل بقيّة صفر وشهر ربيع الأول.
وفيه أمر السلطان بمسك شاهين الأيد كارىّ حاجب حلب، فأمسك وسجن بقلعة حلب، وفيه خلع السلطان على الأمير طوغان أمير آخور الملك المؤيد أيّام إمرته باستقراره فى نيابة صفد، وحمل له التشريف بنيابة صفد يشبك الخاصّكىّ.
وفيه قدم كتاب الأمير إينال الصّصلانى نائب حلب يخبر أن أحمد بن رمضان أخذ مدينة طرسوس «1» غنوة فى ثالث عشر المحرم من هذه السنة بعد أن حاصرها سبعة أشهر، وأنّه سلّمها إلى ابنه إبراهيم بعد ما نهبها وسبى أهلها، وقد كانت طرسوس من نحو اثنتى عشرة سنة يخطب بها لتيمور، فأعاد ابن رمضان الخطبة بها باسم السلطان.
وأما الحفير فإنّه مستمرّ، وسودون القاضى يستحثّ العمال فيه إلى أن كان أوّل شهر ربيع الآخر فركب السلطان الملك المؤيّد من قلعة الجبل فى أمرائه وسائر خواصّه، وسار إلى حيث العمل، فنزل هناك فى خيمة نصبت له بين الرّوضة ومصر، ونودى بخروج النّاس للعمل فى الحفير المذكور، وكتبت حوانيت الأسواق، فخرج الناس طوائف طوائف مع كل طائفة الطبول والزّمور، وأقبلوا إلى العمل، ونقلوا التّراب والرّمل من غير أن يكلّف أحد منهم فوق طاقته، ثم رسم السلطان لجميع العساكر من الأمراء والخاصّكيّة ولجميع أرباب الدولة وأتباعهم [أن] «2» يعملوا، ثم ركب السلطان بعد عصر اليوم المذكور ووقف حتى فرض على كلّ من الأمراء حفر قطعة

(14/27)


عيّنها له، ثم عاد إلى القلعة بعد أن مدّ هناك أسمطة جليلة وحلوات وفواكه كثيرة، واستمرّ العمل والنداء فى كل يوم لأهل الأسواق وغيرهم للعمل فى الحفر، ثم ركب الأمير ألطنبغا القرمشى الأمير آخور الكبير ومعه جميع مماليكه وعامّة أهل الإسطبل السّلطانىّ وصوفية المدرسة الظاهرية البرقوقيّة «1» وأرباب وظائفها؛ لكونهم تجت نظره، ومضوا بأجمعهم إلى العمل فى الحفر المذكور فعملوا فيه، وقد اجتمع هناك خلائق لا تحصى- للفرجة «2» - من الرجال والنساء والصبيان، وتولىّ ألطنبغا القرمشىّ القيام بما فرض عليه حفره بنفسه، فدام فى العمل طول نهاره.
ثم فى عاشره جمع الأمير الكبير ألطنبغا العثمانى جميع مماليكه ومن يلوذ به وألزم كلّ من هو ساكن فى البيوت والد كاكين الجارية فى وقف البيمارستان «3» المنصورى بأن يخرجوا معه؛ من أنهم تحت نظره، وأخرج معه أيضا جميع أرباب وظائف البيمارستان المذكور، ثم أخرج سكان جزيرة الفيل «4» ؛ فإنها فى وقف البيمارستان، وتوجّه بهم الجميع إلى العمل فى الحفير، وعمل نهاره فيما فرض عليه حفره، ثم وقع ذلك لجميع الأمراء واحدا بعد واحد، وتتابعوا فى العمل وكل أمير يأخذ معه جميع جيرانه ومن يقرب سكنه من داره، فلم يبق أحد من العوامّ إلّا وخرج لهذا العمل.
ثم خرج علم الدين داود بن الكويز ناظر الجيش، والصاحب بدر الدين حسن بن

(14/28)


نصر الله ناظر الخاص، وبدر الدين حسن بن محبّ الدين الأستادار، ومع كل منهم طائفة من أهل القاهرة وجميع غلمانه وأتباعه ومن يلوذ به وينتسب إليه، ثم أخرج والى القاهرة جميع اليهود والنصارى، وكثر النداء فى كل يوم بالقاهرة على أصناف الناس بخروجهم للعمل، ثم خرج القاضى ناصر الدين محمد بن البارزىّ كاتب السّرّ الشريف ومعه جميع مماليكه وحواشيه وغلمانه، وأخرج معه البريديّة والموقّعين بأتباعهم، فعملوا نهارهم، هذا والمنادى فى كل يوم [ينادى] «1» على العامة بالعمل، فخرجوا وخلت أسواق القاهرة وظواهرها من الباعة، وغلّقت القياسر، والمنادى فى كل يوم [ينادى] «2» بالتهديد لمن تأخّر عن الحفر حتى إنه نودى فى بعض الأيام: من فتح دكّانا شنق، فتوقّفت أحوال الناس.
وفى هذه الأيّام خلع السلطان على الأمير بيبغا المظفرى باستقراره أتابك دمشق، وخلع على جرباش كبّاشة باستقراره حاجب حجّاب حلب، وكلاهما كان قدم من سجن الإسكندرية قبل تاريخه.
وفيه أيضا نقل الأمير طوغان أمير آخور [المؤيد] «3» من نيابة صفد إلى حجوبية دمشق عوضا عن الأمير خليل التّبريزىّ الدّشارى، ونقل خليل المذكور إلى نيابة صفد عوضا عن طوغان المذكور، وحمل له التقليد والتّشريف الأمير إينال الشّيخى الأرغزى «4» .
واستهلّ جمادى الأولى والناس فى جهد وبلاء من العمل فى الحفر حتى إنّ المقام الصّارمىّ إبراهيم ابن السلطان الملك المؤيّد نزل من القلعة فى يوم سابعه ومعه جميع

(14/29)


مماليكه وحواشيه وأتباعه، وتوجّه حتى عمل فى الحفر بنفسه، وصنّفت العامة فى هذا الحفير غناء كثيرا وعدّة بلاليق «1» .
وبينما الناس فى العمل أدركتهم زيادة النّيل، وكان هذا الحفير وعمل الجسر ليمنع الماء من المرور تحت الجزيرة الوسطى «2» ، ويجرى من تحت المنشية من على موردة الجبس «3» بحرىّ جزيرة الوسطى كما كان قديما فى الزّمان الماضى، فأبى الله سبحانه وتعالى إلا ما أراده على ما سنذكره فى محلّه.
ثم فى اليوم المذكور أعنى سابع جمادى الأولى خلع السلطان على الأمير الكبير ألطنبغا العثمانى باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن قانى باى المحمدى، وكان بلغ السلطان عن جميع النّوّاب بالبلاد الشاميّة أنهم فى عزم الخروج عن الطاعة، فلم يظهر ذلك «4» ، وأرسل الأمير جلبّان أمير آخور بطلب قانى باى المذكور من دمشق ليستقرّ أتابكا بالدّيار المصرية عوضا عن ألطنبغا العثمانى، وانتظر السلطان ما يأتى به الجواب.
ثم خلع السلطان على الأمير آقبردى المؤيّدى المنقار باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن صوماى الحسنى.
ثم فى جمادى الآخرة من هذه السنة حفر أساس الجامع المؤيّدى داخل باب زويلة، وكان أصل موضع الجامع المذكور- أعنى موضع باب الجامع والشبّابيك وموضع

(14/30)


المحراب- قيسارية الأمير سنقر الأشقر «1» المقدم ذكره فى ترجمة الملك المنصور قلاوون، وكانت مقابلة لقيسارية الفاضل «2» وحمّامه، فاستبدلها الملك الملك المؤيّد وأخذها، ثم أخذ خزانة شمائل «3» ودورا وحارات وقاعات كثيرة تخرج عن الحدّ، حتى أضرّ ذلك بحال جماعة كثيرة، وشرع فى هدم الجميع من شهر ربيع الأوّل إلى يوم تاريخه حتى رمى الأساس، وشرعوا فى بنائها.
وتهيّأ الأمير ألطنبغا العثمانى للسّفر حتى خرج من القاهرة قاصدا محلّ كفالته بدمشق فى سادس جمادى الآخرة، ونزل بالرّيدانيّة خارج القاهرة، فقدم الخبر على السلطان بخروج قانى باى «4» نائب الشّام عن الطاعة، وأنه سوّف برسول السلطان من يوم إلى يوم إلى أن تهيّا وركب وقاتل أمراء دمشق وهزمهم إلى صفد، وملك دمشق حسبما نذكره بعد ذكر عصيان النّوّاب، فعظم ذلك على الملك المؤيّد.
ثم فى أثناء ذلك ورد الخبر بخروج الأمير طرباى نائب غزّة عن الطّاعة وتوجّهه إلى الأمير قانى باى المحمدى نائب دمشق، فعند ذلك ندب السلطان الأمير يشبك المؤيدىّ المشدّ «5» ومعه مائة مملوك من المماليك السلطانيّة، وبعثه نجدة للأمير ألطنبغا العثمانى، ثم ورد الخبر ثالثا بعصيان الأمير تنبك البجاسىّ نائب حماة وموافقته لقانى باى المذكور، وكذلك الأمير إينال الصّصلانى نائب حلب ومعه جماعة من أعيان

(14/31)


أمراء حلب، والأمير جانى بك الحمزاوىّ نائب قلعة الرّوم، ثم ورد الخبر أيضا بعصيان الأمير سودون من عبد الرحمن نائب طرابلس.
ولما بلغ الملك المؤيّد هذا الخبر استعدّ للخروج إلى قتالهم بنفسه.
وأما أمر الحفر والجسر الذي عمل [فإنه] «1» لمّا قوى زيادة النيل وتراكمت عليه الأمواج خرق منه جانبا ثم أتى على جميعه وأخذه كأنه لم يكن، وراح تعب النّاس، وما فعلوه من غير طائل «2» .
وأما ما وعدنا بذكره من أمر قانى باى المحمدى نائب دمشق: فإنه لما توجّه إليه الأمير جلبّان أمير آخور بطلبه أظهر الامتثال وأخذ ينقل حريمه إلى بيت أستاداره غرس الدين خليل، ثم طلع بنفسه إلى البيت المذكور وهو بطرف القبيبات على أنه متوجّه إلى مصر.
فلما كان فى سادس جمادى الآخرة ركب الأمير بيبغا المظفرى أتابك دمشق، وناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك، وجلبّان الأمير آخور المقدّم ذكره وأرغون شاه، ويشبك الأيتمشىّ فى جماعة أخر من أمراء دمشق «3» يسيرون بسوق خيل دمشق، فبلغهم أن يلبغا كماج كاشف القبلية حضر فى عسكر إلى قريب داريّا «4» ، وأن خلفه من جماعته طائفة كبيرة، وأن قانى باى خرج إليه وتحالفا على العصيان، ثم عاد قانى باى إلى بيت غرس الدين المذكور، فاستعد المذكورون ولبسوا آلة الحرب، ونادوا لأجناد دمشق وأمرائها بالحضور، وزحفوا إلى نحو قانى باى، فخرج إليهم قانى باى بمماليكه وبمن انضمّ معه من أصاغر الأمراء وقاتلهم من بكرة النهار إلى العصر حتى هزمهم، ومرّوا على وجوههم إلى جهة صفد، ودخل قانى باى

(14/32)


وملك مدينة دمشق، ونزل بدار العدل من باب الجابية «1» ، ورمى على القلعة بالمدافع، وأحرق جملون دار السعادة، فرماه أيضا من بالقلعة بالمناجيق والمدافع، فانتقل إلى خان السلطان وبات بمخيّمه وهو يحاصر القلعة، ثم أتاه النواب المقدم ذكرهم، فنزل تنبك البجاسىّ نائب حماة على باب الفرج «2» ، ونزل طرباى نائب غزّة على باب آخر، ونزل على باب الجديد «3» تنبك دوادار قانى باى، وداموا على ذلك مدّة، وهو يستعد وقد ترك أمر القلعة إلى أن بلغه وصول العسكر سار هو والأمراء من دمشق، وكان الأمير ألطنبغا العثمانى بمن معه من أمراء دمشق والعشير «4» والعربان ونائب صفد قد توجّه من بلاد المرج إلى جرود «5» ، فجدّ العسكر فى السير حتى وافوا الأمير قانى باى قد رحل من برزة «6» ، فنزلوا هم برزة، فتقدّم منهم طائفة فأخذوا من ساقته أغناما وغيرها، وتقاتلوا مع أطراف قانى باى، فجرح الأمير أحمد ابن تنم [صهر الملك المؤيد] «7» فى يده بنشّابة أصابته، وجرح معه جماعة أخر، ثم عادوا إلى ألطنبغا العثمانى، وسار قانى باى حتى نزل بسلمية «8» فى سلخه، ثم رحل إلى حماة، ثم رحل منها واجتمع بالأمير إينال الصّصلانى نائب حلب، واتّفقوا جميعا على التوجّه إلى جهة العمق لما بلغهم قدوم السلطان الملك المؤيّد لقتالهم،

(14/33)


وسيّروا أثقالهم، فنادى نائب قلعة حلب بالنّفير العام، فأتاه جلّ أهل حلب، ونزل هو بمن عنده من العسكر الحلبى وقاتل إينال وعساكره فلم يثبتوا، وخرج قانى باى وإينال إلى خان طومان «1» ، وتخطّف العامّة بعض أثقالهم، وأقاموا هناك إلى أن قاتلوا الملك المؤيّد حسبما يأتى ذكره.
وأما السلطان الملك المؤيّد فإنه لمّا كان ثانى عشرين جمادى الآخرة خلع على الأمير مشترك القاسمىّ الظاهرىّ باستقراره فى نيابة غزّة عوضا عن طرباى، ثم فى سابع عشرين خلع على الأمير ألطنبغا القرمشىّ الأمير آخور باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن ألطنبغا العثمانى نائب دمشق.
ثم فى سلخه خلع على الأمير تنبك العلائىّ الظاهرى المعروف بميق رأس نوبة النّوب باستقراره أمير آخور عوضا عن ألطنبغا القرمشى.
ثم فى رابع شهر رجب خلع السلطان على سودون القاضى حاجب الحجّاب باستقراره رأس نوبة النّوب عوضا عن تنبك ميق، وخلع على سودون قراصقل واستقرّ حاجب الحجاب عوضا عن سودون القاضى.
وفى حادى عشره سار الأمير آقباى المؤيّدى الدّوادار على مائتى مملوك نجدة ثانية لنائب الشّام ألطنبغا العثمانى.
وفى ذلك اليوم دار المحمل على العادة فى كل سنة.
ثم فى يوم ثالث عشر شهر رجب المذكور قدم الأمير ناصر الدين محمد بن إبراهيم ابن منجك من دمشق فارّا من قانى باى نائب الشام، فارتجت القاهرة بسفر السّلطان إلى البلاد الشّاميّة، وعظم الاهتمام للسفر.
ثم فى رابع عشره أمسك السلطان الأمير جانى بك الصّوفى «2» أمير سلاح وقيّده

(14/34)


وسجنه بالبرج بقلعة الجبل، ثم رسم السلطان للأمراء بالتأهّب للسفر، وأخذ فى عرض المماليك السلطانية وتعيين من يختاره للسّفر، فعيّن من المماليك السلطانية مقدار النّصف منهم فإنه أراد السفر مخفّا، لأن الوقت كان فصل الشتاء والديار المصرية مغلية الأسعار إلى الغاية.
ثم فى ثامن عشره أنفق السلطان نفقات السفر، وأعطى كلّ مملوك ثلاثين دينارا إفرنتيّة «1» ، وتسعين نصفا فضة مؤيّدية، وفرّق عليهم الجمال.
ثم فى تاسع عشره أمسك الوزير تاج الدين عبد الرّزّاق بن الهيصم وضربه بالمقارع، وأحيط بحاشيته وأتباعه وألزمه بحمل مال كثير.
ثم فى حادى عشرينه خلع السلطان على علم الدين أبى كم باستقراره فى وظيفة نظر الدّولة ليسد مهمّات الدّولة مدّة غيبة السلطان.
ثم فى يوم الجمعة ثانى عشرين شهر رجب المذكور ركب السلطان بعد صلاة الجمعة [من قلعة الجبل] »
بأمرائه وعساكره المعيّنين صحبته للسفر حتى نزل بمخيّمه بالرّيدانية خارج القاهرة، وخلع على الأمير ططر واستقرّ به نائب الغيبة بديار مصر وأنزله بباب السّلسلة، وخلع على الأمير سودون قراصقل حاجب الحجاب وجعله مقيما بالقاهرة للحكم بين الناس، وخلع على الأمير قطلو بغا التّنمىّ وأنزله بقلعة الجبل، وبات السلطان تلك الليلة بالرّيدانية، وسافر من الغد يريد البلاد الشاميّة، ومعه الخليفة وقاضى القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفى لاغير.
وسار السلطان حتى وصل إلى غزة فى تاسع عشرين شهر رجب المذكور، وسار منها فى نهاره، وكان قد خرج الأمير قانى باى من دمشق فى سابع عشرينه حسبما ذكرناه، ودخل الأمير ألطنبغا العثمانى إلى دمشق فى ثانى شعبان، وقرىء تقليده،

(14/35)


وكان لدخوله دمشق يوما مشهودا، وسار السلطان مجدّا من غزّة حتى دخل دمشق فى يوم الجمعة سادس شعبان، ثم خرج من دمشق بعد يومين فى أثر القوم، وقدّم بين يديه الأمير آقباى الدّوادار فى عسكر من الأمراء وغيرهم كالجاليش، فسار آقباى المذكور أمام السلطان والسلطان خلفه إلى أن وصل آقباى قريبا من تلّ السلطان «1» ، ونزل السلطان على سرمين وقد أجهدهم التّعب من قوّة السّير، وشدّة البرد، فلما بلغ قانى باى وإينال الصصلانى وغيرهما من الأمراء مجىء آقباى خرجوا إليه بمن معهم من العساكر ولقوا آقباى بمن معه من الأمراء والعساكر وقاتلوه فثبت لهم ساعة ثم انهزم أقبح هزيمة، وقبضوا عليه وعلى الأمير برسباى الدّقماقى «2» : أعنى الملك الأشرف الآتى ذكره، وعلى الأمير طوغان دوادار الوالد، وهو أحد مقدّمى الألوف بدمشق، وعلى جماعة كبيرة، وتمزقت عساكرهم وانتهبت، وأتى خبر كسرة الأمير آقباى للسلطان فتخوّف وهمّ بالرّجوع إلى دمشق وجبن عن ملاقاتهم؛ لقلّة عساكره حتى شجّعه بعض الأمراء وأرباب الدولة، وهوّنوا عليه أمر القوم، فركب بعساكره من سرمين وأدركهم وقد استفحل أمرهم، فعند ما سمعوا بمجيء السلطان أنهزموا «3» ولم يثبتوا وولّوا الأدبار من غير قنال خذلانا من الله تعالى لأمر سبق، فعند ذلك اقتحم السلطانيّة عساكر قانى باى وقبض على الأمير إينال الصّصلانى نائب حلب وعلى الأمير تمان تمر اليوسفى المعروف بأرق أتابك حلب، وعلى الأمير جرباش كبّاشة حاجب حجّاب حلب، وفرّقانى باى واختفى.
أما سودون من عبد الرحمن نائب طرابلس، وتنبك البجاسىّ نائب حماة، وطرباى نائب غزّة، وجانى بك الحمزاوىّ نائب قلعة الرّوم، والأمير موسى

(14/36)


الكركرىّ أتابك طرابلس وغيرهم [فقد] «1» ساروا على حميّة إلى جهة الشّرق قاصدين قرا يوسف صاحب بغداد وتبريز «2» .
ثم ركب الملك المؤيّد ودخل إلى حلب فى يوم الخميس رابع عشر شهر رجب وظفر بقانى باى «3» فى اليوم الثالث من الوقعة، فقيّده ثم طلبهم الجميع، فلما مثلوا بين يدى السلطان قال لهم السلطان: قد وقع ما وقع فالآن أصدقونى، من كان اتّفق معكم من الأمراء؟ فشرع قانى باى يعدّ جماعة، قهره إينال الصّصلانى وقال: يكذب يا مولانا السلطان، أنا أكبر أصحابه فلم يذكر لى واحدا من هؤلاء فى مدّة هذه الأيّام، وكان يمكنه أنّه يكذب علىّ وعلى غيرى بأن معه جماعة من المصريّين ليقوّى بذلك قلوب أصحابه فلم يذكر لنا شيئا من ذلك، فكل ما قاله فى حقّ الأمراء زور وبهتان، ثم التفت إينال إلى قانى باى وقال له: بتنميق كذبك تريد تخلص من السيف، هيهات ليس هذا ممّن يعفو عن الذّنب، ثم تكلّم إينال المذكور بكلام طويل مع السّلطان معناه أننا خرجنا عليك نريد قتلك فافعل الآن ما بدا لك، فعند ذلك أمر بهم الملك المؤيّد فردّوا إلى أماكنهم وقتلوا- من يومهم- الأربعة: قانى باى، وإينال وتمان تمر أرق، وجرباش كبّاشه، وحملت رءوسهم إلى الديار المصرية على يد الأمير يشبك «4» شاد الشّرابخاناه، فرفعوا على الرّماح ونودى عليهم بالقاهرة: هذا جزاء من خامر على السلطان، وأطاع الشيطان وعصى الرحمن، ثم علّقوا على باب زويلة أيّاما ثم حملوا إلى الإسكندرية فطيف بهم أيضا هناك، ثم أعيدت الرّءوس إلى القاهرة وسلّمت إلى أهاليها.
ثم خلع السلطان على الأمير آقباى المؤيّدى «5» الدّوادار بنيابة حلب عوضا عن

(14/37)


إينال الصّصلانى، وعلى الأمير يشبك شادّ الشّرابخاناه بنيابة طرابلس عوضا عن سودون من عبد الرحمن، وعلى الأمير جارقطلو بنيابة حماة عوضا عن إنّيّه «1» تنبك البجاسى.
وأخذ السلطان فى تمهيد أمور حلب مدّة، ثم خرج منها عائدا إلى جهة الشام حتى نزل بحماة، وعزم على الإقامة بها حتى ينفصل فصل الشتاء، فأقام بها أيّاما حتى بلغه عن القاهرة غلوّ الأسعار واضطراب الناس بالديار المصرية لغيبة السلطان، وفتنة العربان، فخرج من حماة وعاد حتى قدم إلى دمشق وأمسك بها سودون القاضى رأس نوبة النّوب، وخلع على الأمير بردبك قصقا واستقرّ به عوضه رأس نوبة النّوب، وسجن سودون القاضى بدمشق.
ثم خرج السلطان منها يريد الديار المصرية إلى أن قاربها فنزل المقام الصارمى إبراهيم ابن السلطان من قلعة الجبل، وسار إلى لقاء والده ومعه الأمير كزل العجمى أمير جاندار «2» ، وسودون قراصقل حاجب الحجاب فى عدّة من المماليك السلطانية حتى التقاه، وعاد صحبته حتى نزل السلطان على السّماسم «3» شمالى خانقاه سرياقوس فى يوم الخميس رابع عشر ذى الحجة من سنة ثمانى عشرة وثمانمائة.
وركب فى الليلة المذكورة إلى أن نزل بخانقاه سرياقوس، وعمل بها مجتمعا بالقراء والصّوفية، وجمع فيه نحو عشر جوق من أعيان القرّاء، وعدّة من المنشدين أصحاب الأصوات الطيّبة، ومدّ لهم أسمطة جليلة ثم بعد فراغ القرّاء والمنشدين أقيم السماع فى طول الليل، ورقصت أكابر الفقراء الظّرفاء وجماعة من أعيان ندمائه بين يديه الليل كله نوبة، وهو جالس معهم كأحدهم، هذا وأنواع الأطعمة والحلاوات تمدّ شيئا

(14/38)


بعد شىء بكثرة، والسّقاة تطوف على الحاضرين بالمشروب من السّكّر المذاب، فكانت ليلة تعدّ من الليالى الملوكية لم يعمل بعدها مثلها.
ثم أنعم على القرّاء والمنشدين بمائة ألف درهم، وركب بكرة يوم السبت سادس عشر ذى الحجة المذكورة من الخانقاه حتى نزل بطرف الرّيدانيّة، فأقام بها ساعة ثم ركب وشقّ القاهرة حتى طلع إلى القلعة من يومه، وقد زيّنت له القاهرة أحسن زينة، فكان لقدومه إلى الديار المصرية يوما من الأيّام المشهودة.
وبعد طلوعه إلى القلعة أصبح من الغد نادى بالقاهرة بالأمان، وأن الأسعار بيد الله تعالى، فلا يتزاحم أحد على الأفران، ثم تصدّى السلطان بنفسه للنظر فى الأسعار. وعمل معدّل القمح، وقد بلغ سعر الإردب منه أزيد من ستمائة درهم إن وجد، والإردب الشعير إلى أربعمائة درهم، فانحطّ السّعر لذلك قليلا، وسكن روع الناس؛ لكون السلطان ينظر فى مصالحهم، فلهذا وأبيك العمل «1» ، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يغفر للمؤيّد ذنوبه بهذه الفعلة؛ فإن ذلك هو المطلوب من الملوك، وهو حسن النظر فى أحوال رعيتهم- انتهى.
ثم فى يوم الاثنين خامس عشرينه خلع السلطان على الأمير جقمق الأرغون شاوىّ الدّوادار الثانى باستقراره دوادارا كبيرا «2» عوضا عن الأمير آقباى المؤيّدى المنقول إلى نيابة حلب، وخلع على الأمير يشبك الجكمىّ باستقرارة دوادارا ثانيا عوضا عن جقمق.
قلت: وكان الدّوادار الثانى يوم ذاك لا يحكم بين الناس «3» ، وليس على بابه نقباء، وكذلك الرّأس نوبة الثانى، وأوّل من حكم ممن ولى هذه الوظيفة قرقماس الشّعبانى، وممن ولى رأس نوبة ثانى آقبردى المنقار- انتهى.

(14/39)


ثم أمر السلطان الملك المؤيد بالنداء بمنع المعاملة بالدنانير الناصرية، وقد تزايد سعر الذّهب حتى بلغ المثقال الذهب إلى مائتين وستين درهما والناصرى إلى مائتين وعشرة، فرسم السلطان بأن يكون سعر المثقال الذهب بمائتين وخمسين والإفرنتى بمائتين وثلاثين، وأن تنقص الناصرية ويدفع فيها من حساب مائة وثمانين درهما الدينار.