النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

[ما وقع من الحوادث سنة 819]
ثم فى أوّل محرم سنة تسع عشرة وثمانمائة دفع السلطان للطّواشىّ فارس الخازندار مبلغا كبيرا وأمره أن ينزل إلى القاهرة ويفرّقه فى الجوامع والمدارس والخوانق «1» ، فتوسّع الناس بذلك، وكثر الدعاء له، ثم فرّق مبلغا كبيرا أيضا على الفقراء والمساكين فأقلّ ما ناب الواحد من المساكين خمسة مؤيدية فضة عنها خمسة وأربعون درهما، فشمل برّه عدّة طوائف من الفقراء والضّعفاء والأرامل وغيرهم، فكان جملة ما فرّقه فى هذه النوبة الأخيرة أربعة آلاف دينار «2» ، فوقع تفرقة هذا المال من الفقراء موقعا عظيما.
هذا والغلاء يتزايد بالقاهرة وضواحيها، والسلطان مجتهد فى إصلاح الأمر لا يفتر عن ذلك، وأرسل الطواشىّ مرجان الهندىّ الخازندار إلى الوجه القبلى بمال كثير ليشترى منه القمح ويرسله إلى القاهرة توسعة على الناس، ثم أخذ السلطان [فى] «3» النظر فى أحوال الرّعيّة بنفسه وماله حتى إنه لم يدع لمحتسب القاهرة فى ذلك أمرا، فمشى الحال بذلك، وردّ رمق الناس- سامحه الله تعالى وأسكنه الجنة.
ثم فى أوّل صفر من سنة تسع عشرة المذكورة أمر السلطان بعزل جميع نوّاب القضاة الأربعة، وكان عدتهم يومئذ مائة وستة وثمانين قاضيا بالقاهرة سوى من بالنواحى، وصمّم السلطان على أنّ كل قاض يكون له ثلاثة نوّاب لا غير، هؤلاء كفاية للقاهرة وزيادة «4» .
قلت: وما كان أحسن هذا لو دام أو استمرّ، وقد تضاعف هذا البلاء

(14/40)


فى زماننا حتى خرج عن الحدّ، وصار لكل قاض عدّة كبيرة من النّوّاب- انتهى.
ثم فشا الطاعون فى هذا الشهر بالقاهرة، ووقع الاهتمام فى عمارة الجامع المؤيّدىّ بالقرب من باب زويلة، وكان قبل ذلك عمله على التراخى، ثم تكلّم أرباب الدولة مع السلطان فى عود نوّاب القضاة، وأمعنوا فى ذلك، وقد وعدوا بمال كثير، فرسم السلطان بجمع القضاة الثلاثة، وكان قاضى القضاة علاء الدين بن مغلى الحنبلىّ مسافرا بحماة، وتكلّم معهم فيما رسم به، وصمّم على ذلك- رحمه الله.
وأرباب وظائفه الظّلمة البلاصيّة «1» تمعن فى الكلام معه [فى ذلك] «2» ، ولا زالوا به بعد أن خوّفوه بوقوف حال الناس من قلّة النوّاب، وأشياء غير ذلك إلى أن استقرّ الحال على أن يكون نوّاب القاضى الشافعى عشرة، ونوّاب القاضى الحنفى خمسة، ونوّاب القاضى المالكى أربعة، وانفضّ المجلس على هذا بعد أن عجز مباشر والدّولة فى أن يسمح بأكثر من ذلك، وبعد خروج القضاة من المجلس ضمن لهم بعض أعيان الدّولة من المباشرين الظّلمة العواتية- عليه من الله ما يستحقّه- بردّ جماعة أخر بعد حين. هذا والناس فى غاية السّرور [بما حصل] «3» ، من منع القضاة للحكم بين الناس.
ثم خلع السلطان على الأمير قطلوبغا باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن آقبردى المنقار بحكم عزله، وكان قطلوبغا هذا ممن أنعم عليه الأمير تمربغا الأفضلى المدعو منطاش بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية.

(14/41)


ثم أخرج الملك الظاهر برقوق إقطاعه وجعله بطّالا سنين طويلة حتى افتقر وطال خموله، واحتاج إلى السؤال، إلى أن طلبه الملك المؤيّد من داره وولّاه نيابة الإسكندرية من غير سؤال.
قلت: وهذه كانت عادة ملوك السّلف أن يقيموا من حطّه الدهر، وينتشلوا ذوى البيوتات من الرّؤساء وأرباب الكمالات.
وقد ذهب ذلك كلّه وصار لا يترقىّ فى الدّول إلا من يبذل المال، ولو كان من أوباش السّوقة لشره الملوك فى جمع الأموال- ولله درّ المتنبى حيث يقول:
[الطويل]
ومن ينفق الساعات فى جمع ماله ... مخافة فقر فالذى فعل الفقر
حدّثنى بعض من حضر قطلوبغا المذكور لمّا طلبه المؤيّد ليستقرّ به فى نيابة الإسكندرية.
فعند حضوره قال له السلطان: أولّيك نيابة الإسكندرية، فمسك قطلوبغا المذكور لحيته البيضاء وقال: يا مولانا السلطان أنا لا أصلح لذلك، وإنما أريد شبع بطنى وبطن عيالى.
يظن أن السلطان يهزأ به، فقال له السلطان: لا والله إنما قولى «1» على حقيقته، ثم طلب له التّشريف وأفاضه عليه، وأمدّه بالخيل والقماش- انتهى.
ثم فى ثانى عشر شهر ربيع الأوّل أمسك السلطان الأستادار بدر الدين حسن بن محب الدين بعد أن أوسعه سبّا، وعوّقه نهاره بقلعة الجبل حتى شفع فيه الأمير جقمق الدّوادار على أن يحمل ثلاثمائة ألف دينار، فأخذه جقمق ونزل به إلى داره

(14/42)


ثم أرسل السلطان تشريفا إلى فخر الدين عبد الغنى بن أبى الفرج وهو كاشف الوجه البحرى باستقراره أستادارا عوضا عن ابن محب الدين المقدّم ذكره، ثم تقرّر الحال على ابن محب الدين أنه يحمل مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار بعد ما عوقب وعصر فى بيت الأمير جقمق عصرا شديدا، ثم نقل من بيت جقمق إلى بيت فخر الدين بن أبى الفرج، فتسلمه فخر الدين المذكور عند ما حضر إلى القاهرة.
هذا وقد ارتفع الطاعون بالديار المصرية، وظهر بالبلاد الشاميّة.
ثم فى سابع جمادى الآخرة من سنة تسع عشرة المقدّم ذكرها أمر السلطان أن الخطباء إذا أرادوا الدّعاء للسلطان على المنبر فى يوم الجمعة [أن] «1» ينزلوا درجة ثم يدعوا للسلطان حتى لا يكون ذكر السلطان فى الموضع الذي يذكر فيه اسم الله عزّ وجلّ واسم نبيّه صلى الله عليه وسلم؛ تواضعا لله تعالى، ففعل الخطباء «2» ذلك، وحسن هذا ببال الناس إلى الغاية، وعدّت هذه الفعلة من حسناته- رحمه الله.
تم تكرّرت صدقات السلطان فى هذه السنة مرارا عديدة على نقدات متفرقة.
هذا وقد ألزم السلطان مباشرى الدّوله بالرّخام الجيّد لأجل جامعه، فطلب الرّخام من كل جهة، حتى أخذ من البيوت والقاعات والأماكن التى بالمفترجات، ومن يومئذ عزّ الرخام بالديار المصرية لكثرة ما احتاجه الجامع المذكور من الرّخام؛ لكبره وسعته، وهو أحسن جامع بنى بالقاهرة فى الزّخرفة والرّخام لا فى خشونة العمل والإمكان، وقد اشتمل ذلك جميعه فى مدرسة السلطان حسن بالرّميلة، ثم فى مدرسة الملك الظاهر برقوق ببين القصرين، ولم يعب على الملك المؤيد فى شىء من بناء هذا الجامع إلا أخذه باب مدرسة السّلطان حسن والتّنّور الذي كان به، وكان اشتراهما السلطان حسن بخمسمائة دينار، وكان يمكن الملك المؤيد أن يصنع أحسن منهما لعلوّ همّته؛ فإن فى ذلك نقص مروءة وقلة أدب من جهات عديدة.

(14/43)


وكان وعدنى بعض أعيان المماليك المؤيديّة أنه إن طالت يده فى التحكّم أن يصنع بابا وتنورا للجامع المؤيّدى المذكور أحسن منهما، ثم يردهما إلى مكانهما من مدرسة السلطان حسن، فقبضه الله قبل ذلك- رحمه الله تعالى.
وكان نقل هذا الباب والتّنور من مدرسة السلطان حسن إلى مدرسة الملك المؤيد فى يوم الخميس سابع عشرين شوال من السنة المذكورة.
[ما وقع من الحوادث سنة 820]
ثم بدا للسلطان الملك المؤيد السفر إلى البلاد الشاميّة؛ لما اقتضاه رأيه، وعلّق جاليش السّفر «1» فى يوم الاثنين خامس المحرّم من سنة عشرين وثمانمائة، وهذه سفرة الملك المؤيد شيخ الثالثة إلى البلاد الشامية من يوم تسلطن؛ فالأولى فى سنة سبع عشرة وثمائمائة لقتال الأمير نوروز الحافظىّ نائب الشام، والثانية فى سنة ثمانى عشرة [وثمانمائة] «2» لقتال الأمير قانى باى المحمدى نائب الشام، وهذه سفرته الثالثة.
وتجهّز السلطان للسفر وأمر أمراءه وعساكره بالتّجهيز، فلما كان خامس عشر المحرم جلس السلطان لتفرقة النّفقات، فحمل إلى كل من أمراء الألوف ألفى دينار، وأعطى لكلّ مملوك من المماليك السلطانية ثمانية وأربعين دينارا صرفها يوم ذاك عشرة آلاف درهم «3» .
وبينما السلطان يتهيّأ للسفر قدم عليه الخبر فى ثالث عشرين المحرّم بوصول الأمير آقباى المؤيدى نائب حلب إلى قطيا فى ثمانى هجن، فكثرت الأقوال فى مجيئه على هذه الهيئة، ورسم السلطان بتلقّيه، فسار إليه الأمراء وأرباب الدولة إلى خانقاه سرياقوس، وجهّز له السلطان فرسا بسرج ذهب وكنبوش «4» زركش،

(14/44)


وكامليّة «1» مخمل بفرو سمّور بمقلب سمّور، وقدم آقباى المذكور من الغد فى يوم السبت رابع عشرين المحرم، فلامه السلطان ووبّخه وعنّفه على حضوره إلى القاهرة فى هذه المدّة اليسيرة على هذا الوجه من غير أمر يستحقّ ذلك، فإنه سار من حلب إلى مصر فى أقل من عشرة أيام، فاعتذر آقباى، إنما أحوجه لذلك ما أشيع عنه فى عزم الخروج عن الطاعة، تم استغفر ممّا وقع منه فخلع عليه السلطان باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن الأمير ألطنبغا العثمانى، ورسم السلطان للأمير آقبغا التّمرازىّ أمير آخور ثانى بالتوجّه إلى الشام ليقبض على [ألطنبغا] «2» العثمانى ويودعه بسجن قلعة دمشق، والحوطة على موجوده ثم خلع السلطان على الأمير قجقار القردامىّ أمير سلاح باستقراره فى نيابة حلب عوضا عن آقباى المذكور، وأنعم السلطان بإقطاع قجقار على الأمير بيبغا المظفرى أمير مجلس.
ثم خرجت مدوّرة «3» السلطان إلى الرّيدانية خارج القاهرة، ودخل المحمل فى ذلك اليوم إلى القاهرة صحبة أمير حاج المحمل الأمير أزدمر من على جان المعروف بأزدمر شايا.
ثم فى خامس عشرين المحرم المذكور ركب السلطان من قلعة الجبل بأمرائه وعساكره ونزل بمخيّمه بالرّيدانية «4» خارج القاهرة تجاه مسجد التّبن، وخلع على الشيخ شمس الدين محمد بن يعقوب التّبّانى باستقراره فى حسبه القاهرة «5» ، وعزل عنها منكلى بغا العجمى الحاجب ثم فى سابع عشرينه خلع السلطان على الأمير آقباى نائب الشام خلعة السفر وسافر من يومه جريدة «6» على الخيل، ثم خلع السلطان على الأمير طوغان أمير آخور السلطان

(14/45)


قديما باستقراره فى نيابة الغيبة، وعلى الأمير أزدمر من على جان المعروف شايا المقدم ذكره بنيابة قلعة الجبل، وأقرّ عدّة أمراء أخر بالديار المصرية، ثم خلع السلطان على الأمير قجقار القردمىّ نائب حلب خلعة السفر، وسار أيضا من يومه، ثم تقدّم جاليش السلطان أمامه فيه جماعة من الأمراء، ومقدّم الجميع ولده المقام الصّارمىّ إبراهيم.
ثم سار السلطان ببقية عساكره من الرّيدانيّة فى يوم الثلاثاء رابع صفر يريد البلاد الشّامية، وصحبته الخليفة والقضاة الأربعة، ومعه أيضا من ورد عليه من القصّاد فى السنة الخالية، وهم جماعة: قاصد قرا يوسف صاحب بغداد وغيرها من العراق، وقاصد سليمان ابن عثمان صاحب الرّوم، وقاصد بير عمر صاحب أرزنكان، وقاصد بن رمضان.
وتأخر بالقاهرة الأستادار فخر الدين بن أبى الفرج، والصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخواص.
ورسم طوغان نائب الغيبة بأمر السلطان بهدم البيوت التى فوق البرج المجاورة لباب الفتوح «1» من القاهرة ليعمل ذلك سجنا لأرباب الجرائم عوضا عن خزانة شمائل التى كانت موضع المدرسة المؤيّدية، وسمى هذا السجن بالمقشرة «2» .
وأما السلطان فإنه سار حتى دخل دمشق فى أوّل شهر ربيع الأول بعد أن مات الأمير آقبردى المؤيدى المنقار أحد مقدّمى الألوف بطريق دمشق، وكان خرج من القاهرة مريضا فى محفّة، وأنعم السلطان بإقطاعه على الأمير سودون القاضى بعد أن أخرجه من السجن.
ثم كتب الأمير طوغان نائب الغيبة يعرّف السلطان بموت فرج ابن الملك الناصر فرج فى يوم الجمعة سادس عشرين شهر ربيع الأول مسجونا بثغر الإسكندرية، وقد

(14/46)


ناهز الاحتلام، وبموته انكسرت حدّة المماليك الظاهرية والناصرية، وكان فى كل قليل يكثر الكلام بأن المماليك الظاهرية يثورون وينصّبونه فى السلطنة، وكانوا لا يزالون يتربّصون الدوائر لأجل ذلك، فبطل عزمهم بموته.
وأقام السلطان بدمشق أيّاما، ثم خرج منها يريد حلب، وسار حتى وصل تلّ السلطان، فتقدّم وصفّ الأطلاب بنفسه- وكان إماما فى هذا الشأن، ومعرفة التعبئة للعساكر- فرتّب أطلاب الأمراء أوّلا كل واحد فى منزلته، وليس ذلك بمنزلته فى الجلوس بين يدى السلطان، وإنما بحسب وظيفته؛ فإنّ لكل صاحب وظيفة منزلة يمشى طلبه فيها أمام طلب السلطان- أخذت أنا هذا العلم عن آقبغا التّمرازىّ وعن السّيفى طرنطاى الظاهرىّ شادّ القصر السلطانى- انتهى.
ثم سار السلطان أمام طلبه فى يوم السبت حادى عشرين شهر ربيع الأوّل عند انشقاق الفجر، ومرّ بطلبه من ظاهر حلب ومعهم جميع الأمراء بأطلابهم حتى نزل بالمسطبة الظاهرية فى المخيّم، ومرّ من داخل مدينة حلب نائب الشام ونائب طرابلس، ونائب حماة، ونائب صفد، ونائب غزّة وعدّة كبيرة من التّركمان والعربان حتى خرجوا من الباب الآخر، فهال الناس هذه الرّؤية الغريبة؛ من كثرة العساكر التى قدمت حلب من ظاهرها وباطنها، وأقام السلطان بمخيّمه بالمسطبة أيّاما ينتظر عود القصّاد الذين وجّههم للأطراف.
ثم فى يوم الاثنين ثالث عشرين شهر ربيع الأوّل جلس السلطان بالميدان وعمل به الموكب السّلطانى، وحضره نوّاب البلاد الشّاميّة والعساكر المصرية، فجلس عن يمين السلطان الأتابك ألطنبغا القرمشىّ، وتحته آقباى المؤيّدى نائب الشام، ثم بيبغا المظفرى أمير مجلس، ثم يشبك المؤيّدى نائب طرابلس، ثم جماعة كلّ واحد فى رتبته، وجلس عن يسار السلطان ولده المقام الصّارمىّ إبراهيم، ثم قجقار القردمىّ نائب حلب، ثم تنبك العلائى ميق الأمير آخور الكبير، ثم جارقطلو

(14/47)


نائب حماة، ثم بردبك قصقا رأس نوبة النّوب، ثم الأمير ططر، ثم جماعة أخر كلّ واحد فى منزلته.
ثم عيّن السلطان الأمير آقباى نائب الشام والأمير جار قطلو نائب حماة ومعهما خمسمائة ماش من التّركمان الأوشرية «1» والإيناليّة «2» وفرقة من عرب آل موسى ليتوجّه الجميع إلى جهة ملطية لإخراج حسين بن كبك منها، ثم إلى كختا «3» وكركر «4» ، ثم قدّم السلطان الجاليش بين يديه؛ وفيه الأتابك ألطنبغا القرمشى؛ ويشبك اليوسفىّ المؤيدى نائب طرابلس؛ وخليل الدّشارى التّبريزىّ نائب صفد فى عدة أخر من أمراء مصر، فصاروا إلى جهة العمق، ثم ركب السلطان ودخل مدينة حلب وأقام بها إلى أن ركب منها فى بكرة يوم الاثنين ثانى شهر ربيع الآخر وسار إلى جهة العمق على درب الأتارب «5» ، فقدم عليه بالمنزلة المذكورة قاصد الأمير ناصر الدين بك بن قرمان بهديّة وكتاب يتضمن أنه ضرب السّكّة المؤيدية ودعا للسلطان فى الخطبة بجميع معاملته، وبعث من جملة الهدية طبقا فيه جملة دراهم بالسّكة المؤيدية، فعنّف السلطان رسوله ووبّخه وعدّد له خطأ مرسله من تقصيره فى الخدمة، وذكر له ذنوبا كثيرة، فاعتذر الرسول عن ذلك كلّه، وسأل السلطان الصفح عنه، فقال السلطان: إنى ما سرت وتكلفت هذه الكلفة العظيمة إلا لأجل

(14/48)


طرسوس لا غير، ثم فرّق الدراهم على الحاضرين، وصرف الرسول إلى جهة نزل فيها.
وعمل السلطان الخدمة فى يوم السبت سابع شهر ربيع الآخر بالعمق، وحلف التّركمان على طاعته، وأنفق فيهم الأموال، وخلع عليهم نحو مائتى خلعة، وألبس إبراهيم بن رمضان الكلفتة «1» ، وخلع عليه.
ثم تقرّر الحال على أن قجقار القردمىّ نائب حلب يتوجّه بمن معه إلى مدينة طرسوس، ويسير السلطان على مدينة مرعش إلى أبلستين ويتوجّه رسول ابن قرمان بجوابه ويعود إلى السلطان فى مستهلّ جمادى الأولى بتسليم طرسوس، فإن لم يحضر مشى السلطان على بلاده، فسار الرسول صحبة نائب حلب إلى طرسوس، وسار السلطان إلى أبلستين فنزل بالنهر الأبيض فى حادى عشره، فقدم عليه كتاب قجقار القردمىّ نائب حلب بأنه لما نزل بغراس قدم عليه خليفة الأرمن وأكابر الأرمن وعلى يدهم مفاتيح قلعة سيس «2» ، وأنه جهّزهم إلى السلطان، فلما مثلوا بين يدى السلطان خلع عليهم وأعادهم إلى القلعة بعد أن ولّى نيابة سيس للشيخ أحمد أحد أمراء العشرات بحلب، ثم رحل السلطان حتى نزل بمنزلة كوخيك «3» ، فقدم عليه بها كتاب آقباى نائب الشام بأن حسين بن كبك أحرق ملطية، وأخذ أهلها وفرّ منها فى سابع عشر شهر ربيع الأوّل، وأنه نزل بملطية وشاهد ما بها من الحريق، وأنّه لم يتأخّر بها إلا الضعيف العاجز، وأن فلّاحى بلادها نزحوا بأجمعهم عنها، وأن ابن كبك نزل عند مدينة دوركى «4» ، فندبه السلطان أن يسير خلفه حيث سار، ثم أمر السلطان ولده المقام

(14/49)


الصّارمى إبراهيم ليتوجّه إلى أبلستين ومعه الأمير جقمق الأرغون شاوى الدّوادار، وجماعة من الأمراء لكبس الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر، فساروا مجدّين فصابحوا أبلستين وقد فرّ منها ابن دلغادر، وأجلى البلاد من سكانها، فجدّوا فى السّير خلفه ليلا ونهارا حتى نزلوا بمكان يقال له كل ولى «1» فى يوم خامس عشره وأوقعوا بمن فيه من التّركمان، وأخذوا بيوتهم وأحرقوها، ثم مضوا إلى خان السلطان «2» ، فأوقعوا أيضا بمن كان هناك وأحرقوا بيوتهم وأخذوا من مواشيهم شيئا كثيرا، ثم ساروا إلى مكان يقال له صاروس «3» ففعلوا بهم كذلك، وباتوا هناك، ثم توجهوا يوم سادس عشره فأدركوا ناصر الدين بك بن دلغادر وهو سائر بأثقاله وحريمه فتتبّعوه وأخذوا أثقاله وجميع ما كان معه، ونجا ابن دلغادر بنفسه على جرائد الخيل، ووقع فى قبضتهم عدة من أصحابه، ثم عادوا إلى السلطان بالغنائم، ومن جملتها مائة جمل بختىّ «4» وخمسمائة جمل نفر «5» ، ومائة فرس، هذا سوى ما نهب وأخذه العسكر من الأقمشة الحرير، والأوانى الفضية ما بين بلّور وفضّيّات وبسط وفرش، وأشياء كثيرة لا تدخل تحت حصر، فسرّ السلطان بذلك، وصار السلطان يتنقّل فى مراعى أبلستين حتى قدم عليه آقباى نائب الشام بعد أن سار فى أثر حسين ابن كبك إلى أن بلغه أنه دخل إلى بلاد الروم، وبعد أن قرّر أمر ملطية بعود أهلها إليها، وبعد أن جهّز الأمير جارقطلو نائب حماة، ومعه نائب ألبيرة «6» ، ونائب قلعة

(14/50)


الرّوم، ونائب عينتاب «1» فى عدّة من الأمراء إلى كختا وكركر، فنازلوا القلعتين، وقد أحرق نائب كختا أسواقها وتحصّن بقلعتها، فبعث السلطان إليهم نجدة فيها ألف ومائتا ماش، ثم قدم كتاب ناصر الدين بك بن دلغادر على السلطان يسأل العفو «2» عنه على أن يسلّم قلعة درندة «3» فأجيب إلى ذلك.
وأما قجقار القردمىّ نائب حلب فإنه لما توجّه إلى طرسوس قدّم بين يديه إليها الأمير شاهين الأيد كارى متولّيها من قبل السلطان، فوجد ابن قرمان قد بعث «4» نجدة إلى نائبه بها، وهو الأمير مقبل، فلما بلغ مقبلا المذكور مجىء العساكر السلطانية إليه امتنع بقلعتها، فنزل شاهين الأيدكارى وقجقار القردمىّ عليها.
وكتب قجقار إلى السلطان بذلك، فأجابهم السلطان بالاهتمام فى حصارها، وحرّضهم على ذلك، فلا زالوا على حصارها حتى أخذوها بالأمان فى يوم الجمعة ثامن عشر شهر ربيع الأوّل، وسجنوا مقبلا وأصحابه.
ثم انتقل السلطان إلى منزلة سلطان قشّى «5» ، فقدم عليه بها قاصد الأمير على بك بن دلغادر بهديّة، ثم قدم ناصر الدين بك بن دلغادر مع ولده وصحبته كواهى «6» ومفاتيح قلعة درندة، فأضاف السلطان نيابة أبلستين إلى على بك بن دلغادر مع ما بيده من نيابة مرعش، ثم ركب السلطان ليرى درندة، وسار إليها على جرائد الخيل حتى نزل عليها وبات بظاهرها فامتنعت عليه، صبح فرتّب الأمير آقباى

(14/51)


نائب الشام فى إقامته عليها، وأردفه بآلات الحصار والصّنّاع من الزّردخاناه السلطانية، وعاد السلطان إلى مخيّمه فوصل إليه فى تلك الليلة مفاتيح قلعة خندروس من مضافات درندة، ثم ركب السلطان من الغد وبات على سطح العقبة المطلّة على درندة، فلما أصبح ركب بعساكره وعليهم السلاح، ونزل بمخيّمه على قلعة درندة وهى فى شدّة من قوة الحصار، فلما رأى من بها أن السلطان نزل عليهم طلبوا الأمان فأمّنهم ونزلوا بكرة يوم الجمعة، وفيهم داود ابن الأمير محمد بن قرمان، فألبسه السلطان تشريفا، وأركبه فرسا بقماش ذهب، وخلع على جماعته، واستولى السلطان على القلعة، وخلع على الأمير ألطنبغا الجكمىّ أحد رءوس النّوب باستقراره فى نيابة درندة، وأنعم عليه بأربعة آلاف دينار غير السلاح، وخلع على الأمير منكلى بغا الأرغون شاوى أحد أمراء الطّبلخانات بالديار المصرية بنيابة ملطية ودوركى، وأنعم عليه بخمسة آلاف دينار، ثم طلع السلطان إلى قلعة درندة وأحاط بها علما، ثم أرتحل عنها بعد أن مهّد البلاد التى استولى عليها، وعمل مصالحها، وسار حتى نزل على النّهر من غربى أبلستين بنحو مرحلة، فأقام هناك أربعة أيام ليمكّن كلّ من ولى نيابة على عمله ورجوع أهل بلده إليه، ثم رحل ونزل على أبلستين يريد التوجّه إلى بهسنا وكختا وكركر، وأعاد من هناك حمزة بن على بك بن دلغادر إلى أبيه، وجهّز له راية حمراء من الكمخا «1» الإسكندرانى، ونفقة وطبلخاناه.
وكان الأمير آقباى سار إلى بهسنا فقدم الخبر على السلطان من الأمير آقباى بأنه كتب إلى الأمير طغرق بن داود بن إبراهيم بن دلغادر المقيم بقلعة بهسنا يرغّبه فى الطاعة، ويدعوه إلى الحضور إلى الحضرة الشريفة، فاعتذر من حضوره بخوفه على نفسه، فما زال به حتى سلّم القلعة وحضر إليه، فلما كان سادس عشر جمادى الآخرة

(14/52)


قدم الأمير آقباى ومعه الأمير طغرق ومن كان معه بالقلعة، وقد قارب السلطان فى مسيره حصن منصور «1» ، فخلع السلطان على طغرق ومن معه، وأنعم عليهم، وأنزل طغرق بخام ضرب له، ونزل السلطان بحصن منصور فورد عليه الخبر بنزول قجقار القردمى على كركر وكختا، وقدم أيضا قاصد قرايلك صاحب آمد «2» من ديار بكر «3» بهدية فقبلها السلطان، وخلع عليه.
ثم قدم فيه أيضا رسول الملك العادل صاحب حصن كيفا «4» بهدية فقبلها السلطان أيضا، فلما كان الغد رحل السلطان ونزل شمالى حصن منصور قريبا من كختاوكركر، وأردف نائب حلب بالأمير جارقطلو نائب حماة وبجماعة من أمراء مصر والشام.
وبعث الأمير يشبك اليوسفى نائب طرابلس لمنازلة كختا، وخلع على الأمير منكلى خجا الأرغون شاوى بنيابة قلعة الرّوم عوضا عن الأمير أبى بكر بن بهادر البابيرى الجعبرى، وخلع على الأمير كمشبغا الرّكنى بنيابة بهسنا عوضا عن الأمير طغرق بن دلغادر، ثم قدم جواب الأمير قرا يوسف، وقرا محمد صحبة القاضى حميد الدين قاضى عسكره، وكتاب شاه أحمد بن قرا يوسف صاحب بغداد من قبل أبيه، وكتاب ببر عمر صاحب أرزنكان «5» بهدية جليلة من قرا يوسف، فأنزل حميد الدين المذكور بمخيّمه، وأجرى عليه ما يليق به.
ثم رحل السلطان حتى نزل على كختا وحصر قلعتها وقد نزح أهل كختا

(14/53)


ومعامليها عنها، فنصب المدافع للرّمى على القلعة ورمى عليها، وبينهما هو فى ذلك ورد الخبر على السلطان بقرب قرا يوسف قاصدا قرايلك، فبادر قرايلك وجهّز ابنه حمزة صحبة نائبه شمس الدين أميرزة بهدية من خيل وشعير وسأل الاعتناء به، فأكرم السلطان ولده ونائبه، وقدم أيضا قاصد طرعلى نائب الرّها «1» ، وقاصد الأمير محمد بن دولت شاه صاحب آكل من ديار بكر ومعه مفاتيح قلعتها، فقبلها السلطان، ثم أعادها إليه ومعها تشريف له بنيابتها.
ولما اشتد الحصار على قلعة كختا وفرغ النقّابون من النقب ولم يبق إلا إلقاء النار فيها طلب قرقماس نائبها شمس الدين أميرزة نائب قرايلك فبعثه السلطان إليه، وتردّد المذكور بينه وبين السلطان غير مرّة إلى أن بعث قرقماس ولده رهنا على أنّه بعد رحيل السلطان عنه ينزل ويسلّمها «2» لهم، فأمره السلطان بتسليمها، ورحل السلطان إلى جهة كركر وترك الأمير جقمق الدوادار على كختا، وسارت أثقال السلطان إلى عينتاب فنازل السلطان كركر. ونصب عليها منجنيقا يرمى بحجر زنته ما بين الستين والسبعين رطلا بالدمشقى، وكان ذلك فى يوم الجمعة تاسع عشرين من جمادى الآخرة.
فلما كان أوّل شهر رجب قدم الخبر على السلطان من الأمير جقمق بنزول قرقماس من قلعة كختا ومعه حريمه وتسلّمها نوّاب السلطان، وأنه توجّه ومعه قرقماس المذكور إلى حلب، ثم قدم الخبر على السلطان من الأمير منكلى بغا نائب ملطية بأن طائفة من عسكر قرا يوسف نزلوا تحت قلعة منشار «3» ، ونهبوا بيوت «4» الأكراد، وعدّى الفرات منهم نحو ثلاثمائة فارس، وأنه ركب عليهم وقاتلهم وقتل منهم نحو العشرين

(14/54)


وغرق فى الفرات نحو ذلك، وأسر اثنى عشر نفرا، فكتب له السلطان بالشكر والثناء، ثم خلع السلطان على الأمير شاهين حاجب صفد باستقراره فى نيابة كركر، وعلى الأمير كزل بغا أحد أمراء حماة بنيابة كختا، فمضى كزل بغا المذكور إليها من يومه، ورحل السلطان من الغد وهو يوم الثلاثاء رابع شهر رجب، وقد عاوده ألم رجله الذي يعتريه فى بعض الأحيان، فركب المحفّة عجزا عن ركوب الفرس، وعاد إلى جهة البلاد الحلبيّة، إلى أن وصل إلى بلد يقال له كيلك «1» فنزل فى الفرات فى زوارق وصحبته جماعة وسار إلى أن وصل قلعة الرّوم فى عشيّة يوم الخميس سادسه، وبات بها، ونزل من الغد بعد ما رتّب أحوال القلعة، وأنعم على نائبها بخمسمائة دينار، فقدم عليه فى يوم الجمعة سابعه الخبر بأن الأمير قجقار القردمىّ نائب حلب يخبر بهزيمة قرايلك من قرا يوسف وأن الذين معه من العسكر المقيم على كركر خافوا من قرا يوسف وعزموا على الرّحيل، وبينما كتاب قجقار يقرأ قدم كتاب آقباى نائب الشام بأن الأمير قجقار نائب حلب رحل عن كركر بمن معه من غير أن يعلمه، وأنّه عزم على محاصرتها، فكتب إليه السلطان بأن يستمرّ على حصارها.
ثم فى بكرة يوم السبت ثامن شهر رجب انحدر السلطان من قلعة الرّوم، ونزل على ألبيرة فطلع من المراكب إليها وقرّر أمورها، فقدم عليه الخبر من الغد بقرب قرا يوسف، وأن الأمير آقباى نائب الشام صالح الأمير خليلا نائب كركر ورحل عنها بمن معه، فحنق السلطان من ذلك واشتدّ غضبه على الأمير قجقار القردمىّ، ثم رحل من ألبيرة يريد حلب حتى دخلها بكرة يوم الخميس ثالث عشر شهر رجب بأبهة الملك، وقد تلقّاه أهل حلب وفرحوا بقدومه، لكثرة إرجافهم بقدوم قرا يوسف إليها، فاطمأنوا، وطلع السلطان إلى قلعة حلب، ونادى بالأمان، وفرّق على الفقراء والفقهاء مالا جزيلا، وأمر ببناء القصر الذي كان الأمير جكم شرع فى عمارته.
ثم فى سابع عشره قدم الأمير آقباى والأمير قجقار القردمىّ والأمير جارقطلو،

(14/55)


فأغلظ السلطان على الأمير قجقار القردمى ووبّخه، فأجابه قجقار بدالّة ولم يراع الأدب معه، فأمر به فقبض عليه، وحبسه بقلعة حلب، ثم أفرج عنه فى يومه بشفاعة الأمراء، وبعثه إلى دمشق بطّالا، وخلع على الأمير يشبك المؤيدى اليوسفى نائب طرابلس باستقراره عوضه بنيابة حلب، وخلع على الأمير بردبك رأس نوبة النّوب باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن يشبك المذكور.
ثم فى يوم الخميس العشرين من شهر رجب خلع على الأمير ططر باستقراره رأس نوبة كبيرا عوضا عن بردبك المذكور، وخلع على الأمير نكباى باستقراره فى نيابة حماة عوضا عن جارقطلو بحكم عزله، وخلع على جارقطلو المذكور باستقراره نائب «1» صفد عوضا عن خليل التّبريزى الدّشارى، واستقرّ خليل المذكور حاجب الحجّاب بطرابلس فاستعفى خليل من حجوبية طرابلس فأعفى.
وخلع السلطان على الأمير سودون قراسقل حاجب الحجاب بالديار المصرية باستقراره فى حجوبيّة طرابلس. قلت: درجات إلى أسفل.
وخلع على الأمير شاهين الأرغون شاوى باستقراره فى نيابة قلعة دمشق عوضا عن ألطنبغا المؤيدى المرقبى بحكم انتقال المرقبى إلى تقدمة ألف بالديار المصرية.
ثم فى رابع عشرينه رسم السلطان للنوّاب بالتوجه إلى محلّ كفالتهم بعد أن خلع عليهم خلع السفر.
ثم فى سادس عشرينه استدعى السلطان مقبلا القرمانى ورفاقه فضربه ضربا مبرّحا ثم صلبه هو ومن معه.
ثم فى يوم الاثنين أول شعبان قدم قاصد كردى بك ومعه الأمير سودون اليوسفى أحد الأمراء المتسحّبين من وقعة قانى باى نائب الشام وقد قبض عليه، فسمّره الملك المؤيد من الغد تحت قلعة حلب، ثم وسّطه، فعيب ذلك على السلطان كون سودون

(14/56)


المذكور كان من جملة أمراء الألوف ثم من أعيان المماليك الظاهرية ووسّط مثل قطّاع الطريق.
ثم خلع السلطان على تمراز باستقراره فى حجوبية حلب عوضا عن آقبلاط الدّمرداشىّ، وكان السلطان خلع على الأمير يشبك الجكمى الدّوادار الثانى باستقراره أمير حاج المحمل، وسيّره إلى القاهرة، فوصلها فى شعبان المذكور فوجد القاهرة مضطربة والناس فى هرج كونهم أمسكوا بالقاهرة نصرانيا وقد خلا بامرأة مسلمة فاعترفا بالزّنا «1» فرجما خارج باب الشعرية «2» ظاهر القاهرة عند قنطرة الحاجب «3» ، وأحرق العامة النّصرانىّ، ودفنت المرأة، فكان يوما عظيما.
ثم عزل السلطان تمراز المذكور عن حجوبيّة الحجاب «4» واستقر عوضه بالأمير عمر سبط ابن شهرى.
ثم خرج السلطان فى ثامن عشر شعبان المذكور من حلب ونزل بعين مباركه «5» واستقلّ بالمسير منها فى عشرينه يريد جهة دمشق، ونزل قنّسرين «6» وأعاد منها الأمير يشبك نائب حلب إليها، وسار عشيّة يوم الجمعة سادس عشرينه حتى قدم دمشق فى بكرة يوم الخميس ثالث شهر رمضان ونزل بقلعتها، فكان لقدومه دمشق يوما مشهودا، وأخذ فى إصلاح أمر البلاد الشاميّة إلى يوم الاثنين سابع شهر رمضان فأمسك الأمير آقباى المؤيدى نائب الشام، وقيّده وسجنه بقلعة دمشق.

(14/57)


وسبب القبض على آقباى المذكور أنّ السلطان الملك المؤيّد كان اشتراه فى أيام إمرته صغيرا بألفى درهم من دراهم لعب الكنجفة «1» ، وهو أنّ الملك المؤيّد كان قاعدا يلاعب بعض أصحابه بالكنجفة وقد قمر ذلك الرجل بدراهم كبيرة، فأدخل عليه آقباى المذكور مع تاجره فأعجبه واشتراه، وطلب خازنداره ليقبض التّاجر ثمن آقباى المذكور فلم يجده، فوزن له المؤيد ثمنه من تلك الدّراهم التى قمرها، ثم رباه وأعتقه وجعله خازنداره، ثم رقّاه أيام سلطنته إلى أن جعله من جملة أمراء الألوف، ثم دوادارا كبيرا بعد موت جانى بك المؤيدى، ثم ولّاه نيابة حلب.
وكان آقباى شجاعا مقداما مجبولا على طبيعة الكبر، تحدّثه نفسه كلّما انتهى إلى منزلة عليّة إلى أعلى منها، فلمّا ولى نيابة حلب استخدم جماعة من مماليك قانى باى المحمدى نائب الشّام بعد قتله، وأنعم عليهم بالعطاياهم وغيرهم، وبلغ ذلك المؤيد فلم يحرّك ساكنا حتى أشيع عنه الخروج عن الطاعة، وتواترت على المؤيد الأخبار بذلك لاسيّما الأمير ألطنبغا المرقبىّ نائب قلعة حلب فإنه بالغ إلى الغاية، فلما تحقّق الملك المؤيد أمره بادر إلى السّفر إلى جهة بلاد الشام، واحتج بأمر من الأمور، وبلغ آقباى أنّ السلطان بلغه أمره وعزم على السّفر إلى البلاد الشّاميّة لأجله، ورأى أنّ أمره لم يستقم إلى الآن مع معرفته بصولة أستاذه الملك المؤيد فخاف أن يقع له كما وقع لقانى باى ونوروز وغيرهم، وهم هم، فركب من حلب على حين غفلة فى ثمانى هجن كما تقدّم ذكره، وقدم القاهرة بغتة يخادع بذلك السلطان، فانخدع له الملك المؤيد فى الظاهر، وفى الباطن غير ذلك، وقد تجهّز للسفر فلم يمكنه الرّجوع عن السّفر لما أشيع بسفره فى الأقطار، ويقال فى الأمثال: الشّروع ملزم. فخلغ عليه بنيابة الشّام عوضا عن ألطنبغا العثمانى وفى النفس ما فيها، ووقع ما حكيناه من أمر سفر السّلطان ورجوعه إلى دمشق، فلما قدم إلى دمشق وشى بآقباى إلى السلطان دواداره الأمير شاهين الأرغون شاوىّ فى جماعة من أمراء دمشق أن آقباى المذكور يترقّب مرض

(14/58)


السلطان إذا عاوده ألم رجله، وأنه استخدم جماعة من أعداء السلطان، وأنّ حركاته كلّها تدل على الوثوب، فعند ذلك تحرّك ما عند السلطان من الكوامن وقبض عليه، وولى مكانه نائب دمشق الأمير تنبك العلائى ميق «1» الأمير آخور الكبير بعد تمنّع كبير من تنبك إلى أن أذعن ولبس التّشريف «2» ، فطلب السلطان الأمير قجقار القردمى نائب حلب- كان- وهو بطّال بدمشق، وأنعم عليه بإقطاع الأمير تنبك ميق المذكور، ثم أفرج السلطان عن الأمير ألطنبغا العثمانى نائب الشّام- كان- ورسم له بالتوجه إلى القدس بطّالا، وأقام السلطان بدمشق إلى يوم الاثنين رابع عشر شهر رمضان من سنة عشرين وثمانمائة فخرج من دمشق يريد الدّيار المصرية، ونزل بقبّة يلبغا، ثم سار من قبّة يلبغا وأعاد الأمير تنبك ميق إلى محل كفالته بدمشق [وسار] «3» إلى أن قدم القدس فى بكرة يوم الجمعة خامس عشرينه فزاره وفرّق به أموالا جزيلة وصلى الجمعة، وجلس بالمسجد الأقصى وقرىء صحيح البخارى من ربعة فرّقت بين يديه على الفقهاء القادمين إلى لقائه من القاهرة، ومن كان بالقدس من أهله، ثم قام المدّاح بعد فراغهم، وخلع السلطان عليهم، فكان يوما مشهودا.
ثم سار السلطان من الغد إلى الخليل- عليه السلام- فزاره وتصدق فيه أيضا بجملة، وخرج منه وسار يريد غزّة، فلقيه أستاداره فخر الدين عبد الغنى بن أبى الفرج فى قرية السّكرية «4» ، وقبّل الأرض بين يديه، وناوله قائمة فيها ما أعده له من الخيول والأموال وغيرها، فسّر السلطان بذلك على ما سنذكره فيما بعد.
وسار حتى نزل مدينة غزّة فى يوم الاثنين ثامن عشرين شهر رمضان، وأقام بها

(14/59)


إلى أن خرج منها فى آخر يوم السبت أول شوال بعد ما صلى صلاة العيد على المصطبة المستجدة ظاهر غزّة، وصلى به وخطب شيخ الإسلام قاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقينى.
وسار السلطان حتى نزل بخانقاه سرياقوس فى يوم الجمعة تاسع شوال، فأقام بالخانقاه المذكورة من يوم الجمعة إلى يوم الأربعاء رابع عشره، وركب منها بعد أن عمل بها أوقاتا طيّبه ودخل حمّامها غير مرة، وسار حتى نزل خارج القاهرة عند مسجد التّبن، وبات هناك، ثم ركب من الغد فى يوم الخميس خامس عشر شوال من الريدانية بأبهة السلطنة وشعار الملك، وعساكره وأمراؤه بين يديه، ودخل القاهرة من باب النصر «1» وولده المقام الصارمى إبراهيم يحمل القبة والطير على رأسه، وترجّل المماليك من داخل باب النّصر ومشوا بين يديه، وسارت الأمراء على بعد ركّابا وعليهم وعلى القضاة والخليفة التشاريف، وكذلك سائر أرباب الدّولة، ومرّ السلطان على ذلك إلى أن نزل بجامعه الذي أنشأه بالقرب من باب زويله، وقد زيّنت القاهرة لقدومه، وأشعلت حوانيتها الشّموع والقناديل، وقعدت المغانى صفوفا على الدكاكين تدق «2» بالدفوف، ولما نزل بالجامع المذكور مدّله الأستادار سماطا عظيما به، فأكل السلطان هو وعساكره، ثم ركب من باب المؤيدية، وخرج من باب زويلة بتلك الهيئة المذكورة، وسار إلى أن طلع إلى قلعة الجبل من باب السّرّ «3» راكبا بشعار الملك حتى دخل من باب السّتارة وهو على فرسه إلى قاعة العواميد «4» من الدور السّلطانية، فنزل عن فرسه بحافة «5»

(14/60)


الإيوان، وقد تلقاه حرمه بالتهانى والزّعفران، فكان لقدومه يوما مشهودا لم يسمع بمثله إلا نادرا.
ثم فى يوم الاثنين تاسع عشر شوال خلع السلطان على الأمير قجقار القردمىّ المعزول عن نيابة حلب باستقراره أمير سلاح على عادته قبل نيابة حلب، وخلع على الأمير طوغان أمير آخور باستقراره أمير آخور كبيرا عوضا عن تنبك ميق بحكم توليته نيابة دمشق، وخلع على الأمير ألطنبغا المرقبىّ المعزول عن نيابة قلعة حلب باستقراره حاجب الحجّاب بالديار المصرية عوضا عن سودون قراسقل بحكم استقرار سودون المذكور فى حجوبيّة طرابلس، وخلع على فخر الدين بن أبى الفرج خلعة الاستمرار على وظيفة الأستادارية.
ثم فى يوم الثلاثاء عشرينه خرج محمل الحاج إلى الرّيدانية خارج القاهرة وأمير حاج المحمل الأمير يشبك الجكمىّ المقدّم ذكره.
ثم فى يوم الخميس ثانى عشرينه ركب السلطان ونزل من القلعة بأمرائه وخاصّكيّته وسرح إلى برّ الجيزة لصيد الكراكى «1» وغيرها، وعاد فى آخره من باب القنطرة «2» ومرّ من بين السّورين «3» ، ونزل فى بيت فخر الدين بن أبى الفرج الأستادار فقدّم له فخر الدين المذكور عشرة آلاف دينار، ثم ركب السلطان من بيت فخر الدين وسار حتى شاهد الميضأة التى بنيت للجامع المؤيدى، ثم صعد إلى القلعة، ثم ركب من الغد وسرح أيضا وعاد فى يوم الأحد خامس عشرينه.

(14/61)


وفى يوم الاثنين سادس عشرينه خلع على أرغون شاه النّوروزىّ الأعور باستقراره وزيرا عوضا عن فخر الدين بن أبى الفرج، وخلع على فخر الدين المذكور خلعة الاستمرار على وظيفة الأستادارية فقط، وأن يكون مشير الدّولة.
وأما هدية «1» فخر الدين بن أبى الفرج المذكور التى وعدنا بذكرها «2» عندما قدم السلطان إلى الديار المصرية بلغت أربعمائة ألف دينار عينا، وثمانية عشر ألف أردب غلّة وما وفّره من ديوان المفرد ثمانين ألف دينار، وما جباه من النواحى- قبليا وبحريا- مائتى ألف دينار، ومن إقطاعه ثلاثين ألف دينار، وذلك سوى مائتى ألف دينار حملها إلى السلطان وهو بالبلاد الشّاميّة.
ولما كان يوم الأربعاء سادس ذى القعدة قدم على السلطان الخبر من الأمير تنبك العلائى ميق نائب الشام بأنه فى ليلة السبت رابع عشرين شوّال خرج الأمير آقباى نائب الشام- كان- من سجنه بقلعة دمشق وأفرج عمن كان بها من المسجونين، وهجم بهم آقباى على نائب قلعة دمشق فهرب نائب القلعة، ونزل إلى المدينة، وخرج آقباى فى أثره إلى باب الجديد بمن معه فسمع الأمير تنبك الضّجّة فركب بمماليكه، وأدرك نائب القلعة، وركبت عساكر دمشق فى الحال، فأغلق آقباى باب قلعة دمشق، وامتنع بها بمن معه، وأن تنبك مقيم على حصار القلعة، فتشوّش السلطان لذلك، وكتب إلى تنبك المذكور بالجدّ فى أخذه، فقدم من الغد أيضا كتاب الأمير تنبك ميق بأن آقباى استمرّ بالقلعة إلى ليلة الاثنين سادس عشرين شوّال، ثم نزل منها بقرب باب الجديد ومشى فى نهر بردى «3» إلى طاحون بباب الفرج فاختفى به، فقبض عليه «4» هناك وعلى طائفة معه، وتسحّب طائفة، فكتب جواب تنبك بأن يعاقب

(14/62)


آقباى حتى يقرّ على الأموال ثم يقتل، ورسم بأن يستقرّ الأمير شاهين مقدّم التركمان والحاجب الثانى بدمشق فى نيابة قلعة دمشق ويستقرّ عوضه حاجبا ثانيا كمشبغا طولو، وفى تقدمة التركمان الأمير شعبان بن اليغمورى أستادار السلطان بدمشق.
ثم فى يوم الجمعة ثامن ذى القعدة خرج المقام الصارمىّ إبراهيم بن السلطان فى عدة من الأمراء إلى الوجه القبلى لأخذ تقادم العربان وولاة الأعمال.
وفى يوم الاثنين حادى عشر ذى القعدة عدّى السلطان النيل إلى البرّ الغربى، وسرح إلى الطّرّانة «1» بالبحيرة، وعاد فى يوم الاثنين حادى عشر منه بعد أن وصل إلى العطايا «2» ولم يعدّ النيل بل نزل بالقصر الذي أنشأه القاضى ناصر الدين بن البارزى كاتب السرّ ببرّ منبابة»
تجاه بولاق، وكان قد شرع فى أساسه قبل سرحه السلطان، ففرغ منه بعد أربعة أيام، واستمرّ به السلطان ثلاثة أيام، ثم ركب البحر وتصيّد بناحية سرياقوس وركب وعاد إلى القلعة.
ثم فى سادس عشر ذى الحجة ركب السلطان من القلعة ونزل بالجامع المؤيدى ومعه خواصّه لا غير، ثم توجّه منه إلى بيت ناصر الدين بن البارزى كاتب السرّ بسويقة «4» المسعودى، فقدّم له كاتب السرّ تقدمة فأخذها، ثم ركب إلى القلعة.
ثم فى يوم السبت عشرين ذى الحجة قدم الصارمى إبراهيم من سفره بعد أن وصل إلى جرجا «5» .

(14/63)


[ما وقع من الحوادث سنة 821]
ثم فى سادس عشر المحرم من سنة إحدى وعشرين وثمانمائة ورد الخبر على السلطان من الحجاز بأن الأمير يشبك الجكمى الدّوادار الثانى أمير حاج المحمل لمّا قدم المدينة النبوية بعد انقضاء الحج أظهر أنه يسير إلى الركب العراقى يبتاع منه جمالا، ومضى فى نفر يسير وتسحّب صحبة الركب العراقى خوفا أن يصيبه من السلطان ما أصاب الأمير آقباى نائب الشام، وكان يشبك المذكور صديقا لآقباى، وأشيع أنه كان اتّفق معه فى الباطن فى الوثوب على السلطان، وسار يشبك المذكور حتى دخل العراق، وقدم على الأمير قرا يوسف فأكرمه قرا يوسف وأجرى عليه الرّواتب، ودام عنده إلى أن مات قرا يوسف، ثم مات الملك المؤيد، وقدم على الأمير ططر بدمشق فولّاه الأمير آخوريّة الكبرى حسبما يأتى ذكر ذلك كله فى محله.
وفى ليلة الخميس رابع عشرين المحرم كان الوقيد ببرّ منبابة بين يدى السلطان بعد أن عاد السلطان من وسيم حيث مربط خيوله على الربيع «1» ، ونزل بالقصر المذكور بحرى منبابة.
وألزم السلطان الأمراء بحمل الزّيت والنّفط، فجمع من ذلك شىء كثير، وأخذ من قشر البيض وقشر النارنج ومن المسارج الفخار وجعل فيها الفتايل والزّيت، ثم أرسلت فى النيل بعد غروب الشمس بنحو ساعة، وأطلقت النّفوط وقد امتلأ البرّان بالخلائق للفرجة على ذلك، فكان لهذا الوقيد منظر بهج، وانحدر فى النيل إلى أن فرغ زيت بعضها وأطفأ الهوى البعض.
ثم فى يوم السبت سادس عشرين المحرّم أمسك السلطان الأمير بيبغا المظفّرى «2» الظاهرى أمير مجلس، وحمل مقيّدا إلى الإسكندرية، ثم نودى بالقاهرة وظواهرها أن كل غريب يخرج من القاهرة ويعود إلى وطنه.

(14/64)


ثم فى يوم السبت رابع صفر وسّط السلطان قرقماس الذي كان متولى كختا، ووسّط معه أيضا خمسة عشر رجلا من أصحابه خارج باب النصر، وكانوا فيمن أحضرهم السلطان معه من البلاد الشامية- لما قدم من السّفر- فى الحديد.
ثم فى سادس صفر المذكور ركب السلطان متخفّفا ومعه ولده الصّارمى إبراهيم فى نفر يسير ونزل بجامعه عند باب زويلة، ثم توجّه منه إلى بيت فخر الدين بن أبى الفرج الأستادار فأكل عنده السّماط، ثم قدّم له فخر الدين خمسة آلاف دينار، ثم ركب من بيت فخر الدين المذكور وتوجه إلى بيت الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص ونزل عنده، فقدّم له ثلاثة آلاف دينار، وعرض عليه خزانة الخاصّ، فأنعم منها السلطان على ولده إبراهيم وعلى من معه من الأمراء بعدّة ثياب حرير وفرو سمّور، ثم ركب السلطان وعاد إلى القلعة.
ثم فى ثانى عشرينة ركب السلطان ونزل من القلعة لعيادة الأمير الكبير ألطنبغا القرمشىّ من وعك كان حصل له، ثم ركب من عنده وتوجّه إلى بيت الأمير جقمق الدّوادار، فنزل عنده «1» وأقام يومه كله، وعاد من آخر النهار إلى القلعة على حالة «2» غير مرضية من شدّة السّكر.
ثم فى ثامن عشرين شهر ربيع الأول قدم الأمير بردبك الخليلى نائب طرابلس إلى القاهرة بطلب لشكوى أهل طرابلس عليه لسوء سيرته.
وعاود السلطان ألم رجله، وانقطع عن الخدمة ولزم الفراش، وقبض على الأمير الوزير أرغون شاه النّوروزىّ الأعور، وعلى الأمير آقبغا شيطان والى القاهرة وسلّمها إلى فخر الدين بن أبى الفرج ليصادرهما، ثم خلع السلطان على الأمير بردبك نائب طرابلس باستقراره فى نيابة صفد، واستقر عوضه فى نيابة طرابلس الأمير

(14/65)


برسباى الدّقماقّى «1» أحد أمراء الألوف بالديار المصرية بعد أن طلب من الغربية، وكان توجّه برسباى لعمل جسورها كاشف الوجه الغربى، وبرسباى هذا هو الملك الأشرف الآتى ذكره فى محله، ثم خلع السلطان على الوزير أرغون شاه باستقراره أمير التّركمان بثلاثين ألف دينار، ونقل الأمير سنقر نائب المرقب «2» إلى نيابة قلعة دمشق عوضا عن شاهين، واستقر ألطنبغا الجاموس فى نيابة المرقب، واستقر سودون الأسندمرى الأمير آخور الثانى- كان- فى دولة الملك الناصر فرج فى أتابكيّة طرابلس، وكان الملك المؤيد أفرج عنه من سجن الإسكندرية قبل ذلك بمدة يسيرة، وأنعم السلطان بإقطاع الأمير برسباى الدّقماقى المنتقل إلى نيابة طرابلس على [الأمير] «3» فخر الدين [بن أبى الفرج] «4» الأستادار، وبإقطاع فخر الدين على بدر الدين بن محبّ الدين، وقد استقرّ وزيرا عوضا عن أرغون شاه.
ثم فى أول جمادى الأولى تحرك عزم السلطان إلى سفر الحجاز «5» ، وكتب إلى أمراء الحجاز بذلك، وعرض السلطان المماليك وعيّن عدة منهم للسّفر معه إلى الحجاز، وأخرج الهجن وجهّز الغلال فى البحر، ثم رسم السلطان باستقرار شاهين الزّردكاش «6» حاجب حجّاب دمشق فى نيابة حماة عوضا عن الأمير نكباى، وأن يستقرّ نكباى فى حجوبيّة دمشق.
ثم فى ثامن جمادى الأولى عزل السلطان جلال الدين البلقينى عن القضاء، وخلع على شمس الدين محمد الهروى باستقراره قاضى قضاة الشافعيّة بالديار المصرية عوضا عن البلقينى.
ثم فى ثامن عشر شهر رجب خلع السلطان على الأمير قرامراد خجا أحد مقدمى

(14/66)


الألاف بالديار المصرية باستقراره فى نيابة صفد، وأنعم بإقطاعه على الأمير جلبّان رأس نوبة ابن السلطان.
ثم فى يوم الاثنين خامس عشرين رجب «1» المذكور ركب السلطان من قلعة الجبل إلى ظاهر القاهرة وعبر من باب النّصر ومرّ فى شوارع المدينة إلى القلعة وبين يديه الهجن التى عيّنت للسّفر معه إلى الحجاز وعليها الأكواز الذهب والفضة والكنابيش الزّركش، فكان يوما عظيما، فتحقّق كلّ أحد سفر السلطان إلى الحج، وسار السلطان حتى طلع إلى القلعة، فما هو أن استقرّ به الجلوس إلا ووصل الأمير بردبك الحمزاوىّ «2» أحد أمراء الألوف بحلب ومعه نائب كختا الأمير منكلى بغا بكتاب نائب حلب وكتاب الأمير عثمان بن طر على المدعو قرايلك بأن قرايلك صاحب العراق قصده ليكبس عليه، وقبل أن يركب قرايلك هجمت عليه فرقة من عسكر قرا يوسف فركب وسار منهزما إلى أن وصل إلى مرج دابق «3» ، ثم دخل حلب فى نحو ألف فارس بإذن الأمير يشبك اليوسفىّ نائب حلب له، فجفل من كان خارج مدينة حلب بأجمعهم، واضطرب من بداخل سور حلب وألقوا أنفسهم من السّور، ورحل أجناد الحلقة ومماليك النائب المستخدمين بحريمهم وأولادهم حتى ركب نائب حلب وسكّن روع الناس، وعرّفهم أن قرايلك لم يقدم إلى حلب إلا بإذنه، وأنه مستجير بالسلطان.
وبينما هو فى ذلك رحل قرايلك من ليلته وعاد إلى جهة الشرق خوفا من يشبك نائب حلب أن يقبض عليه.
فلما بلغ السلطان قرب قرا يوسف من بلاده انثنى عزمه عن السفر للحجاز فى

(14/67)


هذه «1» السنة، وكتب فى الحال إلى العساكر الشاميّة بالمسير إلى حلب والأخذ فى تهيئة الإقامات السلطانية.
وأصبح السلطان فى يوم الثلاثاء سادس عشرين شعبان جمع القضاة والخليفة وطلب شيخ الإسلام جلال الدين البلقينى، وقصّ عليهم خبر قرا يوسف وما حصل لأهل حلب من الخوف والفزع وجفلتهم هم وأهل حماة، وأن الحمار بلغ ثمنه عندهم خمسمائة درهم فضّة، والإكديش «2» إلى خمسين دينارا، وأن قرا يوسف فى عصمته أربعون امرأة، وأنه لا يدين بدين الإسلام، وكتبت صورة فتوى فى المجلس فيها كثير من قبائحه، وأنه قد هجم على ثغور المسلمين، ونحو هذا من الكلام، فكتب البلقينى والقضاة بجواز قتاله «3» ، وكتب الخليفة خطّه بها أيضا وانصرفوا ومعهم الأمير مقبل الدّوادار، فنادوا فى الناس بالقاهرة بين يدى الخليفة والقضاة بأن قرا يوسف يستحلّ الدماء ويسبى الحريم، فعليكم بجهاده كلكم بأموالكم وأنفسكم، فدهى الناس عند سماعهم ذلك واشتد قلقهم.
ثم كتب إلى ممالك الشام أن ينادى بمثل ذلك فى كل مدينة، وأنّ السلطان واصل إليهم بنفسه.
ثم فى يوم الأربعاء سابع عشرين شعبان المذكور نودى بالقاهرة فى أجناد «4» الحلقة بتجهيز أمرهم بالسّفر إلى الشام، ومن تأخّر منهم حلّ به كذا وكذا من الوعيد.
ثم فى أوّل شهر رمضان قدم الخبر من حلب برحيل قرايلك منها كما تقدّم

(14/68)


ذكره، وأن يشبك نائب حلب مقيم بالميدان وعنده نحو مائة وأربعين فارسا، وقد خلت حلب من أهلها إلا من التجأ لقلعتها، وأن يشبك بينما هو فى الميدان جاءه الخبر أن عسكر قرا يوسف قد أدركه فركب قبيل الفجر من الميدان وإذا بمقدّمتهم على وطاة بابلّة «1» فواقعهم يشبك بمن معه حتى هزمهم وقتل وأسر جماعة، فأخبروه أنهم جاءوا للكشف لخبر قرايلك، وأن قرا يوسف بعين تاب، فعاد يشبك وتوجّه إلى سرمين، فلمّا بلغ قرا يوسف هزيمة عسكره كتب إلى يشبك نائب حلب يعتذر عن نزوله بعين تاب، وأنّه ما قصد إلا قرايلك، فبعث إليه يشبك صاروخان مهمندار «2» حلب، فلقيه على جانب الفرات وقد جازت عساكره الفرات، وهو على نيّة الجواز، فأكرمه قرا يوسف واعتذر إليه ثانيا عن وصوله إلى عين تاب، وحلف له أنه لم يقصد دخول الشّام، وأعاده بهدية للنائب، فهدأ ما بالناس بحلب، وسرّ السلطان أيضا بهذا الخبر.
وكان سبب حركة قرا يوسف أن قرا يلك المذكور فى أوائل شعبان هذا نزل على مدينة ماردين «3» - وهى داخلة فى حكم قرا يوسف- فأوقع بأهلها وأسرف فى قتلهم وسبى أولادهم ونسائهم، وباع الأولاد كلّ صغير بدرهمين، وحرق المدينة ونهبها، ثم رجع إلى آمد، فلما بلغ قرا يوسف الخبر غضب من ذلك وسار ومعه الأمراء الذين تسحّبوا من واقعة قانى باى مثل الأمير سودون من عبد الرحمن، وطرباى، وتنبك البجاسىّ، ويشبك الجكمى وغيرهم، يريدون أخذ الثأر من قرايلك حتى نزل آمد ثم رحل عنها يريد قرايلك، فسار قرايلك إلى جهة البلاد الحلبيّة، فسار خلفه قرا يوسف حتى قطع الفرات ووقع ما حكيناه.
ثم فى خامس شهر رمضان المذكور نودى فى أجناد الحلقة بالعرض على السلطان

(14/69)


فعرضوا عليه فى يوم الجمعة سادسه، وابتدأ بعرض من هو فى خدمة الأمراء، فخيّرهم بين الاستمرار فى جملة أجناد الحلقة وترك خدمة الأمراء أو الإقامة فى خدمة الأمراء وترك أخباز الحلقة، فاختار بعضهم خدمة الأمراء وترك خبزه الذي بالحلقة، واختار بعضهم ضدّ ذلك، فأخرج السلطان إقطاع من اختار خدمة الأمراء، وصرف من خدمة الأمراء من أراد الإقامة على إقطاعه بالحلقة، وشكا إليه بعضهم قلّة متحصّل إقطاعه فزاده، وعدّ هذا من جودة تدبير الملك المؤيّد وسيره على القاعدة القديمة؛ فإن العادة كانت فى هذه الدّولة التركيّة أن يكون عسكر مصر على ثلاثة أقسام:
قسم يقال لهم أجناد الحلقة، وموضوعهم أن يكونوا فى خدمة السلطان، ولكل منهم إقطاع فى أعمال مصر، وكل ألف منهم مضافة إلى أمير «1» مائة ومقدّم ألف «2» ، ولهذا المعنى سمّى الأمير بمصر أمير مائة، أعنى صاحب مائة مملوك فى خدمته ومقدم ألف من هؤلاء أجناد الحلقة، ويضاف أيضا لكل مقدّم ألف أمير طبلخاناه وأمير عشرين وأمير عشرة ومقدّم الحلقة، فإذا عيّن السلطان أميرا إلى جهة من الجهات نزل ذلك الأمير فى الوقت وتهيّأ بعد أن أعلم مضافيه، فيخرج الجميع فى الحال- انتهى.
وكان نظير هؤلاء أيام الخلفاء أهل العطاء وأهل الدّيوان.
والقسم الثانى [يقال لهم] «3» مماليك السلطان، ولهم جوامك «4» ورواتب مقرّرة على ديوان السلطان فى كل شهر وكسوة فى السنة.
والقسم الثالث يقال لهم مماليك الأمراء يخدمون الأمراء، وكل من هؤلاء لا يدخل مع آخر فيما هو فيه، فلذلك كانت عدّة عساكر مصر أضعاف ما هى الآن، وهؤلاء غير

(14/70)


الأمراء، ثم تغيّر ذلك كلّه فى أيام الملك الظاهر برقوق لمّا وثب على الملك، فصارت الأمراء يشترون إقطاعات الحلقة أو يأخذونها من السلطان باسم مماليكهم أو طواشيتهم ثم لا يكفهم ذلك حتى ينزلونهم أيضا فى بيت السلطان بجامكيّة، فيصير الواحد من مماليك الأمراء جندىّ حلقة ومملوك سلطان وفى خدمة أمير، فيصير رزق ثلاثة أنفس إلى رجل واحد، فكثر متحصّل قوم وقلّ متحصّل آخرين، فضعف عسكر مصر لذلك، فعلى هذا الحساب يكون العسكر الآن بثلث ما كان أوّلا، هذا غير ما خرج من الإقطاعات فى وجه الرّزق والأملاك وغير ذلك، وهو شىء كثير جدا يخرج عن الحدّ، فمن تأمّل ما ذكرناه علم ما كان عدّة عسكر مصر أوّلا، وما عدته الآن.
هذا مع ما خرّب من النواحى من كثرة المغارم والظّلم المترادف، وقلّة نظر الحكّام فى أحوال البلاد، ولولا ذلك لكان عسكر مصر لا يقاومه عدوّ ولا يدانيه عسكر- انتهى.
ثم فى سابع شهر رمضان هذا أفرج السلطان عن الأمير كمشبغا الفيسىّ أمير آخور- كان- فى الدولة الناصرية، وعن الأمير قصروه من تمراز وكانا بسجن الإسكندرية، وعن الأمير كزل العجمى الأجرود حاجب الحجاب- كان- فى الدولة الناصرية من حبس صفد، وعن الأمير شاهين نائب الكرك، وكان بقلعة دمشق.
ثم فى تاسعه ورد الخبر من حلب بأن قرا يوسف أحرق أسواق عين تاب ونهبها فصالحه أهلها على مائة ألف درهم وأربعين فرسا، فرحل عنها بعد أربعة أيام إلى جهة ألبيرة، وعدّى معظم جيشه إلى البرّ الشرقى فى يوم الاثنين سابع عشر شعبان، وعدّى قرا يوسف من الغد ونزل ببساتين ألبيرة وحصرها، فقاتله أهلها يومين وقتلوا منه جماعة فدخل البلد ونهبها وأحرق أسواقها، وقد امتنع الناس منها ومعهم حريمهم بالقلعة، ثم رحل فى تاسع عشر شعبان إلى بلاده بعد ما أحرق ونهب جميع نواحى ألبيرة ومعاملتها.
ولما بلغ السلطان رجوع قرا يوسف إلى بلاده فرح بذلك وسكت عن السّفر إلى

(14/71)


البلاد الشاميّة، وبينما السلطان فى ذلك قدم عليه الخبر أن ابن قرمان مشى على طرسوس «1» وحارب أهلها فقتل من الفريقين خلق كثير، ودام القتال بينهم إلى أن رحل عنها فى سابع شعبان من ألم اشتدّ بباطنه، فجلس السلطان فى ثالث عشر شهر رمضان لعرض أجناد الحلقة، فعرض عليه منهم زيادة على أربعمائة نفس ما بين كبير وصغير وسعيد وفقير، فمن كان إقطاعه قليل المتحصّل أشرك معه غيره، ومثال ذلك أن جنديّا يكون متحصل إقطاعه فى السنة سبعة آلاف درهم فلوسا وآخر متحصله ثلاثة آلاف، فألزم الذي إقطاعه يعمل ثلاثة آلاف أن يعطى الذي إقطاعه يعمل سبعة آلاف مبلغ ثلاثة آلاف ليسافر صاحب السبعة آلاف، ويقيم صاحب الثلاثة آلاف، فهذا نوع.
ثم أفرد السلطان جماعة ممّن متحصل إقطاعاتهم قليلة، وجعل كل أربعة منهم مقام رجل واحد يختارون منهم واحدا يسافر ويقوم الثلاثة الأخر بكلفه.
ورسم السلطان أنّ المال المجتمع من أجناد الحلقة يكون تحت يد قاضى القضاة شمس الدين الهروىّ الشافعى، واستمر العرض بعد ذلك فى كل يوم سبت وثلاثاء إلى ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
وفى الغد وهو يوم رابع عشر شهر رمضان ورد الخبر على السلطان من طرابلس بنزول التّركمان الإيناليّة والأوشريّة على صافيتا «2» من عمل طرابلس جافلين من قرا يوسف، وأنهم نهبوا بلادها وأحرقوا منها جانبا، وأن الأمير برسباى الدّقماقى «3» نائب طرابلس رجّعهم عن ذلك فلم يرجعوا وأمرهم بالعود إلى بلادهم بعد رجوع قرا يوسف فأجابوا بالسّمع والطّاعة، وقبل رحيلهم ركب عليهم الأمير برسباى الدّقماقى المذكور بعسكر طرابلس وقاتلهم فى يوم الثلاثاء سادس عشرين شعبان، فقتل بين

(14/72)


الطائفتين خلق كثير منهم الأمير سودون الأسندمرىّ أتابك طرابلس وثلاثة عشرة نفسا من عسكر طرابلس، ثم انهزم الأمير برسباى المذكور بمن بقى معه من عسكر طرابلس عراة على أقبح وجه إلى طرابلس وحصل عليهم من الخوف مالا مزيد عليه.
فلما بلغ الملك المؤيد هذا الخبر غضب غضبا شديدا ورسم فى الحال بعزل برسباى المذكور عن نيابة طرابلس واعتقاله بقلعة المرقب، وكتب بإحضار الأمير سودون القاضى نائب الوجه القبلى من أعمال مصر ليستقرّ فى نيابة طرابلس عوضا عن برسباى هذا، وبرسباى المذكور هو الملك الأشرف الآتى ذكره فى محله، وخلع على الملطىّ واستقرّ فى نيابة الوجه القبلى عوضا عن سودون القاضى، وقدم سودون القاضى من الوجه القبلى فى يوم الاثنين ثامن شوال وقبّل الأرض بين يدى السلطان وهو بمخيّمه بسرحة سرياقوس، وبعد عوده من سرحة سرياقوس وغيرها خلع على سودون القاضى بنيابة طرابلس فى خامس عشر شوال، وخلع على الأمير كمشبغا الفيسى أحد الأمراء البطّالين بالقاهرة باستقراره أتابك طرابلس بعد قتل سودون الأسندمرىّ.
ثم ركب السلطان أيضا إلى الصّيد وعاد وقد عاوده ألم رجله ولزم الفراش.
وخلع فى سادس عشره على سيف الدين أبى بكر بن قطلوبك المعروف بابن المزوّق دوادار ابن أبى الفرج باستقراره أستادارا عوضا عن فخر الدين بن أبى الفرج بعد موته، ورسم السلطان بالحوطة على موجود «1» ابن أبى الفرج وضبطها، فاشتملت تركته على ثلاثمائة ألف دينار، وثلاث مساطير «2» بسبعين ألف دينار، وغلال وفرو وقماش بنحو مائة ألف دينار، وأخذ السلطان جميع ذلك.
ثم فى حادى عشرينه خرج محمل الحاج صحبة أمير الحاج الأمير جلبّان أمير آخور

(14/73)


ثان، وقد صار أمير مائة ومقدّم ألف، ورحل من البركة «1» فى يوم رابع عشرينه.
ثم فى يوم الخميس ثالث ذى القعدة أمسك السلطان الوزير بدر الدين بن محبّ الدين الطرابلسى وسلّمه إلى الأمير أبى بكر الأستادار بعد إخراق السلطان به ومبالغته فى سبّه لسوء سيرته، وتتبّعت حواشيه.
وخلع السلطان على بدر الدين حسن بن نصر الله الفوّى ناظر الخاص باستقراره وزيرا مضافا إلى نظر الخاص، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف. ثم كتب السلطان بالقبض على قرمش الأعور أتابك حلب وحبسه بقلعتها.
وفى خامس ذى القعدة ركب السلطان من قلعة الجبل فى محفّة من ألم رجله ونزل إلى السّرحة وعاد فى يومه. ثم فى عاشره ركب السلطان أيضا ونزل إلى بيت كاتب السرّ ناصر الدين بن البارزىّ ببولاق المطل على النيل، وعدّت العساكر إلى برّ الجيزة، وبات السلطان هناك ليلته، ثم ركب من الغد فى يوم الجمعة إلى سرحة بركة الحاج، وعاد من يومه وغالب عساكره بالجيزة.
ثم ركب من الغد فى النيل يريد سرحة البحيرة، ونزل بالبر الغربى، ثم سار إلى أن انتهى إلى مريوط «2» فأقام بها أربعة أيام، ورسم بعمارة بستان السلطان بها، وكان تهدّم، ثم استأجر السلطان مريوط من مباشرى وقف الملك المظفر بيبرس الجاشنكير على الجامع الحاكمى، ورسم بعمارة سواقيه، ومعاهد «3» الملك الظاهر بيبرس البندقدارى به، وعاد ولم يدخل إلى الإسكندرية إلى أن نزل وردان «4» فى يوم عيد الأضحى وصلّى

(14/74)


به صلاة العيد، وخطب القاضى ناصر الدين بن البارزىّ كاتب السرّ، ثم ركب من الغد وسار حتى قدم برّ منبابة وعدّى النيل، ونزل فى بيت كاتب السرّ ببولاق، وأقام به إلى الغد وهو يوم الثلاثاء ثالث عشر ذى الحجة، وركب وطلع إلى القامة، كل ذلك وألم رجله يلازمه. وبعد طلوعه إلى القلعة رسم للأمراء بالتجهيز إلى سفر الشّام صحبة ولده المقام الصّارمى إبراهيم «1» ، كل ذلك والعرض لأجناد الحلقة مستمر، وعيّن منهم للسفر جماعة كبيرة، وألزم من يقيم منهم بالمال.
ثم قدمت إلى الديار المصرية الخاتون أم إبراهيم بن رمضان التّركمانى من بلاد الشرق، وقبّلت الأرض بين يدى السلطان فرسم بتعويقها فعوّقت.
ثم تكرر من الملك المؤيد التوجّه إلى الصّيد فى هذا الشهر غير مرة.
وفى هذه السنة هدمت المئذنة المؤيدية، وغلق باب زويلة ثلاثين يوما، وعظم ذلك على السلطان إلى الغاية، وكانت المئذنة المذكورة عمّرت على أساس البرج الذي كان على باب زويلة، وعملت الشعراء فى ذلك أبياتا كثيرة، وكان القاضى بهاء الدين [محمد بن] «2» البرجى محتسب القاهرة متولى نظر عمارة الجامع المذكور، فقال بعض الشعراء فى ذلك:-[الطويل]
عتبنا على ميل المنار زويلة ... وقلنا تركت الناس بالميل فى هرج
فقالت قرينى برج نحس أمالها ... فلا بارك الرحمن فى ذلك البرج
قلت صح للشاعر ما قصده من التّورية فى البرج الذي عمّرت عليه، وفى بهاء الدين البرجى.
وقال الحافظ شهاب الدين بن حجر وقصد بالتّورية بدر الدين العينى.
[الطويل]

(14/75)


لجامع مولانا المؤيد رونق ... منارته بالحسن تزهو والزّين «1»
تقول وقد مالت عن الوضع امهلوا «2» ... فليس على حسنى أضر من العينى
فأجاب العينى:-[البسيط]
منارة كعروس الحسن قد جليت ... وهدمها بقضاء الله والقدر
قالوا أصيبت بعين قلت ذا خطأ ... ما أوجب الهدم إلا خسّة الحجر «3»
قلت: ساعده قوله خسّة الحجر ما كان وقع بسبب هدم المنارة المذكورة فإنه كان بنى أساسها بحجر صغير، ثم عمّروا أعلاها بالحجر الكبير فأوجب ذلك ميلها وهدمها بعد فراغها.
وقال الشيخ تقي الدين أبو بكر بن حجة فى المعنى:-[الطويل]
على البرج من بابى زويلة أنشئت ... منارة بيت الله والمنهل المزجى
فأخنى بها البرج اللعين أمالها ... ألا صرّحوا يا قوم باللعن للبرجى
وقيل إن ذلك كان فى السنة الماضية- انتهى.